الصارم المسلول على شاتم الرسول ابن تيمية
[[::تصنيف:الصارم المسلول على شاتم الرسول:مطبوع| ]]
نزل نسخة مطبوعة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى اله وصحبه وسلم
قال شيخنا وسيدنا الإمام العلامة القدوة الزاهد العابد الورع الكامل شيخ الإسلام مفتي الفرق ناصر السنة قامع البدعة سيد الفقهاء والحفاظ تقي الدين أبو العباس احمد بن شيخنا الإمام العلامة مفتي المسلمين شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني جزاه الله عن نصر دينه ونصر سنة نبيه عليه السلام خيرا # الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهاد الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين امنو لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد والذي ينصر رسله والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لايخلف الميعاد
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفة وتبرئه من الإلحاد # واشهد ان محمدا عبده ورسوله أفضل المرسلين واكرم العباد ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره اهل الشرك والعناد ورفع له ذكره فلا يذكره الا ذكر معه كما في الاذان والتشهد والخطب والمجامع والاعياد # وكبت محاده واهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الاحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والاخرة وجعل هوانه بالمرصاد واختصه على اخوانه المرسلين بخصائص تفوق
التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى اله أفضل الصلوات واعلاها واكملها وانماها كما يحب سبحانه ان يصلى عليه وكما امر وكما ينبغي ان يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته أفضل تحية واحسنها واولاها وابركها واطيبها وازكاها صلاة وسلاما دائمين إلى يوم التناد باقيين بعد ذلك ابدا رزقا من الله ما له من نفاد # اما بعد فان الله تعالى هدانا بنبيه محمد واخرجنا به من
الظلمات إلى النور واتانا ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والاخرة وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والالسنة عن معرفتها ونعتها وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع إلى عيها وصمتها فاقتضاني لحادث حدث ادنى ماله من الحق علينا بله ما اوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وايثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل موذ وان كان الله قد اغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الاعمال كما سبق في أم الكتاب ان اذكر ما شرع من العقوبة
لمن سب النبي من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكرا يتضمن الحكم والدليل ونقل ما حضرني في ذلك من الاقاويل وارداف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب ان يكون عليه التعويل فاما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وانما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الائمة والامة القيام بما امكن منه والله هو الهادي إلى سواء السبيل وقد رتبته على اربع مسائل # المسالة الاولى في ان الساب يقتل سواء كان مسلما او كافرا # المسالة الثانية انه يتعين قتله وان كان ذميا فلا يجوز المن عليه ولا مفاداته # المسالة الثالثة في حكمه اذا تاب # المسالة الرابعة في بيان السب وما ليس بسب والفرق بينه وبين الكفر
المسألة الاولى # ان من سب النبي من مسلم او كافر فانه يجب قتله # هذا مذهب عامة اهل العلم قال ابن المنذر اجمع عوام اهل العلم على ان حد من سب النبي القتل وممن قاله مالك والليث واحمد واسحاق وهو مذهب الشافعي قال وحكي عن النعمان لا يقتل يعني الذمي ما هم عليه من الشرك اعظم
وقد حكى أبو بكر الفارسي من اصحاب الشافعي إجماع المسلمين على ان حد من يسب النبي القتل كما ان حد من سب غيره الجلد وهذا الاجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الاول من الصحابة والتابعين او انه اراد به اجماعهم على ان ساب النبي يجب قتله اذا كان مسلما وكذلك قيده القاضي عياض فقال اجمعت الامة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه وكذلك حكي عن غير واحد
الاجماع على قتله وتكفيره وقال الإمام اسحاق بن راهويه أحد الائمة الاعلام اجمع المسلمون على ان من سب الله او سب رسوله او دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل او قتل نبيا من انبياء الله عز وجل انه كافر بذلك وان كان مقرا بكل ما انزل الله # وقال الخطابي لا اعلم احدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله وقال محمد بن سحنون اجمع العلماء على ان شاتم النبي المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله
له وحكمه عند الامة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر # وتحرير القول فيها ان الساب ان كان مسلما فانه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب الائمة الاربعة وغيرهم وقد تقدم ممن حكى الاجماع على ذلك من الائمة مثل اسحاق بن راهوية وغيره وان كان ذميا فانه يقتل ايضا في مذهب مالك واهل المدينة وسيأتي حكاية الفاظهم وهو مذهب احمد وفقهاء الحديث وقد نص احمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول # كل من شتم النبي او تنقصه مسلما كان او كافرا فعليه القتل وارى ان يقتل ولا يستتاب قال وسمعت أبا عبد الله يقول كل من نقض العهد واحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه
القتل ليس على هذا اعطوه العهده والذمة وكذلك قال أبو الصقر سألت أبا عبدالله عن رجل من اهل الذمة شتم النبي ماذا عليه قال إذا قامت عليه البينة يقتل من شتم النبي مسلما كان او كافرا رواهما الخلال # وقال في رواية عبد الله وابي طالب وقد سئل عمن شتم النبي
قال يقتل قيل له فيه احاديث قال نعم احاديث منها حديث الاعمى الذي قتل المرأة قال سمعتها تشتم النبي وحديث حصين ان ابن عمر قال من شتم النبي قتل وعمر ابن عبد العزيز يقول يقتل وذلك انه من شتم النبي فهو مرتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي # زاد عبد الله سألت أبي عمن شتم النبي يستتاب قال قد وجب عليه القتل ولا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ولم يستتبه رواهما أبو بكر في
الشافي وفي رواية أبي طالب سئل احمد عمن شتم النبي قال يقتل قد نقض العهد وقال حرب سألت احمد عن رجل من اهل الذمة شتم النبي قال يقتل اذا شتم النبي رواهما الخلال وقد نص على هذا في غير هذه الجوابات # فأقواله كلها نص في وجوب قتله وفي انه قد نقض العهد وليس عنه في هذا اختلاف # وكذلك ذكر عامة اصحابه متقدمهم ومتأخرهم لم يختلفوا في ذلك
الا ان القاضي في المجرد ذكر الاشياء التي يجب على اهل الذمة تركها وفيها ضرر على المسلمين وآحداهم في نفس او مال وهي الاعانة على قتال المسلمين وقتل المسلم او المسلمة وقطع الطريق عليهم وان يؤوي للمشركين جاسوسا وان يعين عليهم بدلالة مثل ان يكاتب المشركين باخبار المسلمين وان يزني بمسلمة او يصيبها باسم نكاح وان يفتن مسلما عن دينه قال فعليه الكف عن هذا شرط او لم يشرط فان خالف انتقض عهده وذكر نصوص احمد في بعضها مثل نصه في الزنى بالمسلمة وفي التجسس للمشركين وقتل المسلم وان كان عبدا كما ذكره الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على
انه لاينتقض عهده بل يحد حد القذف قال فتخرج المسألة على روايتين ثم قال وفي معنى هذه الاشياء ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي فهذه أربعة اشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فان اتوا واحدة منها نقضوا الامان سواء كان مشروطا في العهد او لم يكن وكذلك قال في الخلاف بعد ان ذكر ان المنصوص انتقاض العهد بهذه الافعال والاقوال # قال وفيه رواية اخرى لاينتقض عهده الا بالامتناع من بذل الجزية وجرى احكامنا عليهم # ثم ذكر نصه على ان الذمي اذا قذف المسلم يضرب قال فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه وتبع القاضي جماعة من اصحابه ومن بعدهم مثل الشريف أبي جعفر
وابن عقيل وابن الخطاب والحلواني فذكروا انه لاخلاف انهم اذا امتنعوا من اداء الجزية او التزام احكام الملة انتقض عهدهم وذكروا في جميع هذه الافعال والاقوال التي فيها ضرر على المسلمين واحادهم في نفس اومال او فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب الرسول وما معه روايتين
احداهما ينتقض العهد بذلك # والاخرى لا ينتقض عهده ويقام فيه حدود ذلك # مع انهم كلهم متفقون على ان المذهب انتقاض العهد بذلك ثم ان القاضي والاكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الامور المضرة الناقضة مع ان الرواية المخرجة انما خرجت من نصه في القذف واما أبو الخطاب ومن تبعه فنقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف اليها حتى حكوا في انتقاض العهد بالقذف روايتين # ثم ان هؤلاء كلهم وسائر الاصحاب ذكروا مسألة سب النبي في موضع اخر وذكروا ان سابه يقتل وان كان ذميا وان عهده ينتقض وذكروا نصوص احمد من غير خلاف في المذهب الا ان الحلواني قال ويحتمل ان لايقتل من سب الله ورسوله اذا كان ذميا وسلك القاضي أبو الحسين في نواقض العهد طريقة ثانية
توافق قولهم هذا فقال أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين واحادهم في مال او في نفس فانها تنقض العهد في اصح الروايتين واما ما فيه ادخال غضاضة ونقص على الإسلام وهي ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي فانه ينقض العهد نص عليه ولم يخرج في هذا رواية اخرى كما ذكر اولئك في أحد الموضعين وهذا اقرب من تلك الطريقة وعلى الرواية التي تقول لا ينتقض العهد بذلك فانما ذلك اذا لم يكن مشروطا عليهم في العقد # فاما ان كان مشروطا ففيه وجهان # احدهما ينتقض قاله الخرقي قال أبو الحسن الآمدي وهو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه صحح قول الخرقي بانتقاض العهد اذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم # والثاني لا ينتقض قاله القاضي وغيره صرح أبو الحسين بذلك هنا كما ذكره الجماعة فيما اذا اظهروا دينهم وخالفوا هيئتهم من غير اضرار كا ظهار الاصوات بكتابهم والتشبه بالمسلمين مع ان هذه الاشياء كلها يجب عليهم تركها سواء شرطت في العقد او لم تشرط
ومعنى اشتراطها في العقد اشتراط تركها بخصوصها # وهاتان الطريقتان ضعيفتان والذي عليه عامة المتقدمين من اصحابنا ومن تبعهم من المتأخرين اقرار نصوص احمد على حالها وهو قد نص في مسائل سب الله ورسوله على انتقاض العهد في غير موضع وعلى انه يقتل وكذلك فيمن جسس على المسلمين او زنى بمسلمة على انتقاض عهده وقتله في غير موضع وكذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما وقطع الطريق اولى # وقد نص احمد على ان قذف المسلم وسحره لا يكون نقضا للعهد في غير موضع وهذا هو الواجب لان تخريج احدى المسألتين إلى الاخرى وجعل المسالتين على روايتين مع وجود الفرق بينهما نصا واستدلالا اومع وجود معنى يجوز ان يكون مستندا للفرق غير جائز وهذا كذلك وكذلك قد وافقنا على انتقاض العهد بسب النبي جماعة لم يوافقوا على الانتقاض ببعض هذه الامور
واما الشافعي فالمنصوص عنه نفسه ان عهده ينتقض بسب النبي وانه يقتل هكذا حكاه ابن المنذر والخطابي وغيرهما والمنصوص عنه في الام انه قال اذا اراد الإمام ان يكتب كتاب صلح على الجزية كتب وذكر الشروط إلى ان قال وعلى ان احدا منكم ان ذكر محمدا او كتاب الله او دينه بما لا ينبغي ان يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة امير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما اعطي من الامان وحل لامير المؤمنين ماله ودمه كما تحل اموال اهل الحرب ودماؤهم وعلى ان احدا من رجالهم ان اصاب مسلمة بزنى او اسم نكاح او قطع الطريق على مسلم او فتن مسلما عن دينه او اعان المحاربين على المسلمين بقتال او دلالة على عورات المسلمين او ايواء لعيونهم فقد نقض عهده واحل دمه وماله وان نال مسلما بما دون هذا في ماله او عرضه لزمه فيه الحكم
ثم قال فهذه الشروط اللازمة ان رضي بها فان لم يرضها فلا عقد له ولا جزية # ثم قال وايهم قال او فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد واسلم لم يقتل اذا كان ذلك قولا وكذلك اذا كان فعلا لم يقتل الا ان يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا او قصاصا فيقتل بحد او قصاص لا نقض عهد # وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال اتوب واعطى الجزية كما كنت اعطيها او على صلح اجدده عوقب ولم يقتل الا ان يكون فعل فعلا يوجب القصاص او الحد فاما ما دون هذا من الفعل او القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل
قال فان فعل اوقال ما وصفنا وشرط انه يحل دمه فظفر به فامتنع من ان يقول اسلم او اعطي الجزية قتل واخذ ماله فيئا # ونص في الام ايضا ان العهد لا ينتقض بقطع الطريق ولا بقتل المسلم ولا بالزنى بالمسلمة ولا بالتجسس بل يحد فيما فيه الحد ويعاقب عقوبة منكلة فيما فيه العقوبة ولا يقتل الا بان يجب عليه القتل # قال ولايكون النقض للعهد الا بمنع الجزية او الحكم بعد الاقرار والامتناع بذلك قال ولو قال اودي الجزية ولا اقر بالحكم نبذ اليه ولم يقاتل على ذلك مكانه وقيل قد تقدم لك امان فامانك كان للجزية واقرارك بها وقد اجللناك في ان تخرج
من بلاد الإسلام ثم اذا خرج فبلغ مأمنه قتل ان قدر عليه # فعلى كلامه المأثور عنه يفرق بين ما فيه غضاضة على الإسلام وبين الضرر بالفعل او يقال يقتل الذمي لبسه وان لم ينتقض عهده كما سياتي ان شاء الله # واما اصحابه فذكروا فيما اذا ذكر الله او كتابه او رسوله بسوء وجهين # احدهما ينتقض عهده بذلك سواء شرط عليه تركه او لم يشرط بمنزلة ما لو قاتلوا المسلمين وامتنعوا من التزام الحكم كطريقة أبي الحسين من اصحابنا وهذه طريقة أبي اسحاق المرزوي ومنهم من خص سب رسول الله وحده بانه يوجب القتل # والثاني ان السب كالافعال التي على المسلمين فيها ضرر من قتل المسلم والزنى بالمسلمة والجس وما ذكر معه
وذكروا في تلك الامور وجهين # احدهما انه ان لم يشرط عليهم تركها باعيانها لم ينتقض العهد بفعلها وان شرط عليهم تركها باعيانها ففي انتقاض العهد بفعلها وجهان # والثاني لم ينتقض العهد بفعلها مطلقا # ومنهم من حكى هذه الوجوه اقوالا وهي اقوال مشار اليها فيجوز ان تسمى اقوالا ووجوها هذه طريقة العراقيين وقد صرحوا بان المراد شرط تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها كما ذكره اصحابنا # واما الخراسانيون فقالوا المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها قالوا لان الترك موجب نفس العقد ولذلك ذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة اوجه # احدها ينتقض العهد بفعلها # والثاني لاينتقض # والثالث ان شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض والا فلا # ومنهم من قال ان شرط نقض وجها واحدا وان لم يشرط فوجهان وحسبوا ان مراد العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكاية عنهم ان لم يجر شرط لم ينتقض العهد وان جرى فوجهان ويلزم من هذا ان
يكون العراقيون قائلين بانه ان لم يجر شرط الانتقاض بهذه الاشياء لم ينتقض بها قولا واحدا وان صرح بشرط تركها وهذا غلط عليهم والذي نصروه في كتب الخلاف ان سب النبي ينقض العهد ويوجب القتل كما ذكرنا عن الشافعي نفسه # واما أبو حنيفة واصحابه فقالوا لا ينتقض العهد بالسب ولايقتل الذمي بذلك لكن يعزر على اظهار ذلك كما يعزر على اظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها من اظهار اصواتهم بكتابهم ونحو ذلك وحكاه الطحاوي عن الثوري ومن اصولهم ان ما لاقتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل والجماع في غير القبل اذا تكرر فللإمام ان يقتل فاعله وكذلك له ان يزيد على الحد المقدر اذا رأى المصلحة في ذلك ويحملون ما جاء عن الرسول واصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على انه رأي المصلحة في ذلك ويسمونه القتل سياسة وكان حاصله ان له ان يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلظت بالتكرار وشرع القتل في جنسها
ولهذا افتى اكثرهم بقتل من أكثر من سب النبي من اهل الذمة وان اسلم بعد اخذه وقالوا يقتل سياسة وهذا متوجه على اصولهم # والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله او كتابه او دينه او رسوله ووجوب قتله وقتل المسلم اذا اتى ذلك الكتاب والسنة واجماع الصحابة والتابعين والاعتبار # اما الكتاب فيستنبط ذلك منه من مواضع # احدها قوله تعالى ^ قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ^ إلى قوله تعالى ^ من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطلوا الجزية عن يد وهم صاغرون ^ فامرنا بقتالهم إلى ان يعطوا الجزية وهم صاغرون فلا يجوز الامساك عن قتالهم الا اذا كانوا صاغرين حال اعطائهم الجزية ومعلوم ان اعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها واقباضها فانهم اذا بذلوا الجزية شرعوا في الاعطاء ووجب الكف عنهم إلى ان يقبضوناها فيتم الاعطاء فمتى لم يلتزموها او التزموها اولا وامتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لان حقيقة الاعطاء لم توجد واذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم ان من اظهر سب نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملا منا وطعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لان الصاغر الذليل
الحقير وهذا فعل متعزز مراغم بل هذا غاية ما يكون من الاذلال لنا والاهانة # قال اهل اللغة الصغار الذل والضيم يقال صغر الرجل بالكسر يصغر بالفتح صغرا وصغرا والصاغر الراضي بالضيم # ولايخفى على المتأمل ان اظهار السب والشتم لدين الامة الذي به اكتسب شرف الدنيا والاخرة ليس فعل راض بالذل والهوان وهذا ظاهر لا خفاء به # واذا كان قتالهم واجبا علينا الا ان يكونوا صاغرين وليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به وكل من امرنا بقتاله من الكفار فانه يقتل اذا قدرنا عليه # وايضا فانا اذا كنا مامورين ان نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز ان نعقد لهم عهد الذمة بدونها ولو عقد لهم كان عقدا فاسدا فيبقون على الاباحة # ولا يقال فيهم فهم يحسبون انهم معاهدون فتصير لهم شهبة امان وشهبة الإمام كحقيقة فان من تكلم بكلام يحسبه الكافر امانا كان في حقه امانا وإن لم يقصده المسلم لأنا نقول لا يخفى عليهم
انا لم نرض بان يكونوا تحت ايدينا مع اظهار شتم ديننا وسب نبينا وهم يدرون انا لانعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم انهم اعتقدوا انا عاهدناهم على مثل مع اشتراطنا عليهم ان يكونوا صاغرين تجري عليهم احكام الملة دعوى كاذبة فلا يلتفت اليها # وايضا فان الذين عاهدوهم أول مرة هم اصحاب رسول الله مثل عمر وقد علمنا انه يمتنع ان نعاهدهم عهدا خلاف ما امر الله به في كتابه # وايضا فانا سنذكر شروط عمر رضي الله عنه وانها تضمنت ان من اظهر الطعن في ديننا حل دمه وماله # الموضوع الثاني قوله تعالى ^ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام ^ إلى قوله ^ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ^ نفى سبحانه ان يكون لمشرك عهد ممن كان النبي قد عاهدهم الا قوما ذكرهم فانه جعل لهم عهدا ما داموا مستقمين لنا فعلم ان العهد لايبقى للمشرك الا ما دام مستقيما ومعلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة والوقيعة في ربنا ونبينا وديننا وكتابنا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك اشد علينا ان كنا مؤمنين فانه يجب
علينا ان نبذل دماءنا واموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا ولايجهر في ديارنا بشيء من اذى الله ورسوله فاذا لم يكونوا مستقمين لنا بالقدح في اهون الامرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في اعظمهما # يوضح ذلك قوله تعالى ^ كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم الا ولا ذمة ^ اي كيف يكون لهما ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم ولا العهد الذي بينكم فعلم ان من كانت حاله انه اذا ظهر لم يرقب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهد من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على انه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه فانه اذا كان مع وجود العهد والذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة والقدرة وهذا بخلاف من لم يظهر لنا مثل هذا الكلام فانه يجوز ان يفي لنا بالعهد لو ظهر # وهذه الاية وان كانت في اهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فان معناها ثابت في اهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الاولى # الموضع الثالث قوله تعالى ^ ان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر ^ وهذه الاية تدل من وجوه
احدها ان مجرد نكث الايمان مقتض للمقاتلة وانما ذكر الطعن في الدين وافرده بالذكر تخصيصا له بالذكر وبيانا لانهم من اقوى الاسباب الموجبة للقتال ولهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لايغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره انشاء الله تعالى او يكون ذكره على سبيل التوضيح وبيان سبب القتال فان الطعن في الدين هو الذي يجب ان يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا واما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لاجله شجاعة وحمية ورياء ويكون ذكر الطعن الدين لانه اوجب القتال في هذه الاية بقوله تعالى ^ فقاتلوا أئمة الكفر ^ وبقوله تعالى ^ ألا تقتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة ^ إلى قوله ^ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ^ الاية فيفيد ذلك ان من لم يصدر منه الا مجرد نكث اليمين جاز ان يؤمن ويعاهد واما من طعن في الدين فانه يتعين قتاله وهذه كانت سنة رسول الله فانه كان يندر دماء من اذى الله ورسوله وطعن في الدين وان امسك عن غيره واذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال وان تجرد عن الطعن علم ان الطعن في الدين اما سبب اخر او سبب مستلزم لنقض العهد فانه لابد ان يكون له تاثير في وجوب المقاتله والا كان ذكره ضائعا # فان قيل هذا يفيد ان من نكث عهده وطعن في الدين يجب قتاله
اما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الاية له بل مفهومها انه وحده لا يوجب هذا الحكم لان الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود احدهما # قلنا لاريب انه لابد ان يكون لكل صفة تأثير في الحكم والا فالوصف العديم التاثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال من زنى واكل جلد ثم قد تكون كل صفة مستقلة بالتاثير لو انفردت كما يقال يقتل هذا لانه مرتد زان وقد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع ولكل وصف تاثير في البعض كما قال ^ والذين لايدعون مع الله اله اخر ^ الاية وقد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال او الاشتراك فيذكر ايضاحا وبيانا للموجب كما يقال كفروا بالله وبرسوله وعصى الله ورسوله وقد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال ^ ان الذين يكفرون بايات الله ويقتلون النبيين بغير حق ^ الاية وهذه الاية من اي الاقسام فرضت كان فيها دلالة لان اقصى ما يقال ان نقض العهد هو المبيح للقتال والطعن في الدين مؤكد له وموجب له
فنقول اذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه فان يوجب القتال من بيننا وبينه ذمة وهو ملتزم للصغار اولى وسياتي تقرير ذلك # على ان المعاهد له ان يظهر في داره ما شاء من امر دينه الذي لا يؤذينا والذمي ليس له ان يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل وان لم يؤذنا فحاله اشد واهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الاية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض ان مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك # الوجه الثاني ان الذمي اذا سب الرسول او سب الله اوعاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا لأنه لاخلاف بين المسلمين وانه يعاقب على ذلك ويؤدب عليه فعلم انه لم يعاهد عليه لانا لو عاهدنه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه وإذا كنا قد عاهدناه على ان لا يطعن في ديننا ثم طعن في ديننا فقد نكث في يمينه ومن بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الاية وهذه دلالة قوية حسنة لان المنازع يسلم لنا انه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه لكن
يقول ليس كل ما منع منه نقض عهده كاظهار الخمر والخنزير ونحو ذلك فنقول قد وجد منه شيئان فعل ما منع منه العهد وطعن في الدين بخلاف اولئك فانه لم يوجد منهم الا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط والقران يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده وطعن في الدين ولا يمكن ان يقال لم ينكث لان النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث ماخوذ من نكث الحبل وهو نقض قواه ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى ولكن قد يبقى من قواه ما يستمسك الحبل به وقد يهن بالكلية وهذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا وقد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما ان نقض بعض الشروط في البيع والنكاح ونحوهما قد تبطل البيع بالكلية كما لو وصفه بانه فرس فظهر بعيرا وقد يبيح
الفسخ كالاخلال بالرهن والضمين هذا عند من يفرق في المخالفة واما من قال ينتقض العهد بجميع المخالفات فالامر ظاهر على قوله وعلى التقديرين قد اقتضى العقد أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا وانهم متى اظهروا فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الاية لفظا ومعنى ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص # الوجه الثالث انه سماهم ائمة الكفر لطعنهم في الدين وأوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله ^ أئمة الكفر ^ إما أن يعني به الذين نكثوا وطعنوا او بعضهم والثاني لايجوز لان الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء اذا العلة يجب طردها الا لمانع ولا مانع ولانه علل ذلك ثانيا بأنهم لا ايمان لهم وذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين ولان النكث والطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال وقد رتب عليه بحرف الفاء ترتيبب الجزاء على شرطه وذلك نص في ان ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت انه عنى الجميع فيلزم ان الجميع ائمة كفر وإمام الكفر هو الداعي اليه المتبع فيه وانما صار إماما في الكفر لاجل
الطعن فان مجرد النكث لا يوجب ذللك وهو مناسب لان الطاعن في الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه وهذا شأن الإمام فثبت ان كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر فاذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتله لقوله تعالى ^ فقاتلوا أئمة الكفر ^ ولا يمين له لانه عاهدنا على ان لايظهر عيب الدين هنا وخالف واليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون وهو كذلك فان النبي لم يقاسمهم بالله عام الحديبية وانما عاقدهم عقدا ونسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم وهذا لان اليمين يقال انما سميت بذلك لان المعاهدين يمد كل منهما يمينه إلى الاخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا ويقال سميت يمينا لان اليمين هي القوة والشدة كما قال الله تعالى ^ لاخذنا منه باليمين ^ فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه وان كان نذرا ومنه قول النبي
النذر حلفه وقوله كفارة النذر كفارة اليمين وقول جماعة من الصحابة للذي نذر نذر اللجاج والغضب كفر يمينك وللعهد الذي بين المخلوقين ومنه قوله تعالى ^ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ^ والنهي عن نقض العهود وان لم يكن فيها قسم وقال تعالى ^ ومن أوفى بما عاهد عليه الله ^ وانما لفظ العهد بايعناك على ان لانفر ليس فيه قسم وقد سماهم معاهدين لله وقال تعالى ^ واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ^ قالوا معناه يتعاهدون
ويتعاقدون لان كل واحد من المعاهدين انما عاهده بامانة الله وكفالته وشهادته فثبت ان كل من طعن في ديننا بعد ان عاهدناه عهدا يقتضي ان لايفعل ذلك فهو إمام في الكفر لايمين له فيجب قتله بنص الاية وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بإمام وهو من خالف بفعل شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين # الوجه الرابع انه قال تعالى ^ الاتقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة ^ فجعل همهم باخراج الرسول من المحضضات على قتالهم وما ذاك الا لما فيه من الاذى وسبه اغلظ من الهم باخراجه بدليل انه عفا عام الفتح عن الذين هموا باخراجه ولم يعف عمن سبه فالذمي اذا اظهر سبه فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم باخراج الرسول وبدأ بالاذى فيجب قتاله
الوجه الخامس قوله تعالى ^ قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ^ امر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين وضمن لنا ان فعلنا ذلك ان يعذبهم بايدينا ويخزيهم وينصرنا عليهم ويشف صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم وطعنهم وان يذهب غيظ قلوبهم لانه رتب ذلك على قتالهم ترتيب الجزاء على الشرط والتقدير ان تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على ان الناكث الطاعن مستحق هذا كله والا فالكفار يدالون علينا المرة وندال عليهم الاخرى وان كانت العاقبة للمتقين وهذا تصديق ما جاء في الحديث ما نقض قوم العهد الا أديل عليهم العدو والتعذيب بايدينا هو القتل فيكون
الناكث الطاعن مستحقا للقتل والساب لرسول الله ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل وانما ذكر سبحانه النصر عليهم وانه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لان الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فاما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى يقال فيه يعذبه الله ويتوب الله من بعد ذلك على من يشاء على ان قوله ^ من يشاء ^ يجوز ان يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه وانما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك وعند التمييز فبعضهم ردء وبعضهم مباشر ولا يلزم من التوبة على الردء التوبة على المباشر الا ترى ان النبي اهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء ولم يهدر دم الذين سمعوه واهدر دم بني بكر ولم يهدر دم الذين اعاروهم السلاح # السادس ان قوله تعالى ^ ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ^ دليل على ان شفاء الصدور من الم النكث
والطعن وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك امر مقصود للشارع مطلوب الحصول وان ذلك يحصل اذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع عليكم بالجهاد فانه باب من ابواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم والغم ولا ريب ان من اظهر سب الرسول من اهل الذمة وشتمه فانه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم واخذ اموالهم فان هذا يثيرالغضب لله والحمية له ولرسول وهذا القدر لايهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل
المؤمن المسدد لايغضب هذا الغضب الا لله والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم وهذا انما يحصل بقتل الساب لاوجه # احدها ان تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم اذا شتم واحدا من المسلمين او فعل نحو ذلك فلو اذهب غيظ قلوبهم اذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل # الثاني ان شتمه أعظم عندهم من ان يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم الا قتله فان لا تشفى صدورهم الا بقتل الساب اولى واحرى # الثالث ان الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء والاصل عدم سبب اخر يحصله فيجب ان يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا # الرابع ان النبي لما فتحت مكة واراد ان يشفي صدور خزاعة وهم القوم المؤمنين من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار او أكثر مع امانه لسائر الناس فلو كان شفاء صدورهم
وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع امانه للناس # الموضوع الرابع قوله سبحانه ^ الم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ^ فانه يدل على ان اذى رسول الله محادة لله ولرسوله لانه قال هذه الاية عقب قوله تعالى ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن ^ ثم قال ^ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله احق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين الم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله ^ فلو لم يكونوا بهذا الاذى محادين لم يحسن ان يوعدوا بان للمحاد نار جهنم لانه يمكن حينئذ ان يقال قد علموا ان للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا وانما اذوا فلا يكون في الاية وعيد لهم فعلم ان هذا الفعل لابد ان يندرج في عموم المحادة ليكون وعيد المحاد وعيدا له ويلتئم الكلام # ويدل على ذلك ايضا ما روى الحاكم في صحيحه باسناد صحيح عن ابن عباس ان رسول الله كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال انه سيأتيكم انسان ينظر اليكم بعين شيطان فاذا اتاكم فلا تكلموه فجاء رجل ازرق
فدعاه رسول الله فقال علام تشتمني انت وفلان وفلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا اليه فانزل الله تعالى ^ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون انهم على شيء الا انهم هم الكاذبون ^ ثم قال بعد ذلك ^ ان الذين يحادون الله ورسوله ^ فعلم ان هذا داخل في المحادة # وفي رواية اخرى صحيحة انه نزل قوله ^ يحلفون لكم لترضوا عنهم ^ وقد قال ^ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ^ ثم قال عقبه ^ الم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله ^ فثبت ان هؤلاء الشاتمين محادون وسيأتي ان شاء الله زيادة ذلك # واذا كان الاذى محادة لله ورسوله فقد قال الله تعالى ^ إن
الذين يحادون الله ورسوله اولئك في الاذلين كتب الله لاغلبن انا ورسلي ان الله قوي عزيز ^ والاذل ابلغ من الذليل ولا يكون اذل حتى يخاف على نفسه وماله ان اظهر المحادة لانه ان كان دمه وماله معصوما لايستباح فليس باذل يدل عليه قوله تعالى ^ ضربت عليهم الذلة اين ما ثقفوا الا بحبل من الله وحبل من الناس ^ فبين سبحانه انهم اينما ثقفوا فعليهم الذلة الا مع العهد فعلم ان من له عهد وحبل لا ذلة عليه وان كانت عليه المسكنة فان المسكنة قد تكون مع عدم الذلة وقد جعل المحادين في الاذلين فلا يكون لهم عهد اذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الاية وهذا ظاهر فان الاذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن ارداه بسوء فاذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس باذل فثبت ان المحاد لله ولرسوله لايكون له عهد يعصمه والمؤذي للنبي محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه وهو المقصود # وايضا فانه قد قال تعالى ^ ان الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ^ والكبت الاذلال والخزي والصرع قال الخليل الكبت هو الصرع على الوجه
وقال النضر بن شميل وابن قتيبة هو الغيظ والحزن وهو في الاشتقاق الاكبر من كبده كأن الغيظ والحزن اصاب كبده كما يقال احرق الحزن والعداوة كبده وقال اهل التفسير كبتوا
اهلكوا واخزوا فثبت ان المحاد مكبوت مخزي ممتل غيظا وحزنا هالك وهذا انما يتم اذا خاف ان اظهر المحادة ان يقتل والا فمن امكنه اظهار المحادة وهو امن على دمه وماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان ولانه قال ^ كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ^ والذين من قبلهم ممن حاد الرسل وحاد رسول الله انما كبته الله بان اهلكه بعذاب من عنده او بايدي المؤمنين والكبت وان كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه ^ ليقطع طرفا من الذين كفروا او يكبتهم ^ لكن قوله تعالى ^ كما كبت الذين من قبلهم ^ يعني محادي الرسل دليل على الهلاك او كتم الاذى يبين ذلك ان المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم انهم ان اظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب ان يكون كل محاد كذلك # وايضا فقوله تعالى ^ كتب الله لاغلبن انا ورسلي ^ عقب قوله ^ ان الذين يحادون الله ورسوله اولئك في الاذلين ^ دليل على ان المحادة مغالبة ومعاداة حتى يكون أحد المتحادين غالبا والاخر
مغلوبا وهذا انما يكون بين اهل الحرب لا اهل السلم فعلم ان المحاد وليس بمسالم والغلبة للرسل بالحجة والقهر فمن امر منهم بالحرب نصر على عدوه ومن لم يؤمر بالحرب اهلك عدوه وهذا احسن من قول من قال ان الغلبة للمحارب بالنصر ولغير المحارب بالحجة فعلم ان هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون # ايضا فان المحادة من المشاقة لان المحادة من الحد والفصل والبينونة وكذلك المشاقة من الشق وهو بهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة والمفاصلة ولهذا يقال انما سميت بذلك لان كل واحد من المتحادين والمتشاقين في حد وشق من الاخر وذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين اهل العهد اذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله ورسوله # وايضا فانها اذا كانت بمعنى المشاقة فان الله سبحانه قال ^ فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فان الله شديد العقاب ^ فامر بقتلهم لاجل مشاقتهم ومحادتهم فكل من حاد وشاق يجب ان يفعل به ذلك لوجود العلة # وايضا فانه تعالى قال ^ ولولا ان كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ^ والتعذيب هنا والله اعلم القتل لانهم قد عذبوا
بما دون ذلك من الاجلاء واخذ الاموال فيجب تعذيب من شاق الله ورسوله ومن اظهر المحادة فقد شاق الله ورسوله بخلاف من كتمها فانه ليس بمحاد ولا مشاق # وهذه الطريقة اقوى في الدلالة يقال هو محاد وان لم يكن مشاقا ولهذا جعل جزاء المحاد مطلقا ان يكون مكبوتا كما كبت من قبله وان يكون في الاذلين وجعل جزاء المشاق القتل والتعذيب في الدنيا ولن يكون مكبوتا كما كبت من قبله في الاذلين الا اذا لم يمكنه اظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة اعم ولهذا ذكر اهل التفسير في قوله تعالى ^ لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ^ الاية انها نزلت فيمن قتل من المسلمين اقاربه في الجهاد وفيمن اراد ان يقتل لمن تعرض لرسول الله بالاذى من كافر ومنافق قريب له فعلم ان المحاد يعم المشاق وغيره # ويدل على ذلك انه قال سبحانه ^ الم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ^ الايات إلى قوله ^ لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ^ وانما نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود المغضوب عليهم وكان اولئك اليهود اهل عهد من النبي ثم ان الله سبحانه بين ان
المؤمين لا يوادون من حاد الله ورسوله فلابد ان يدخل في ذلك عدم المودة لليهود وان كانوا اهل الذمة لانه سبب النزول وذلك يقتضي ان اهل الكتاب محادون لله ورسوله وان كانوا معاهدين # ويدل على ذلك ان الله قطع الموالاة بين المسلم والكافر وان كان له عهد وذمة وعلى هذا التقدير فيقال عوهدوا على ان لا يظهروا المحادة ولا يعلنوا بها بالاجماع كما تقدم وكما سيأتي فاذا اظهروا صاروا محادين لا عهد لهم مظهرين للمحادة وهؤلاء مشاقون فيستحقون خزي الدنيا من القتل ونحوه وعذاب الاخرة # فان قيل اذا كان كل يهودي محادا لله ورسوله فمن المعلوم ان العهد يثبت لهم مع التهود وذلك ينقض ما قدمتم من ان المحاد لا عهد له # قيل من سلك هذه الطريقة قال المحاد لا عهد له على اظهار المحادة فاما اذا لم يظهر لنا المحادة فقد اعطيناه العهد وقوله تعالى ^ ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا الا بحبل من الله وحبل من الناس ^ يقتضي ان الذلة تلزمه فلا تزول الا بحبل من الله وحبل من الناس وحبل المسلمين معه على ان لا يظهر المحادة بالاتفاق فليس معه حبل مطلق بل حبل مقيد فهذا الحبل لا يمنعه ان يكون اذل اذا فعل ما لم يعاهد عليه او يقول صاحب هذا المسلك الذلة لازمة لهم بكل
حال كما اطلقت في سورة البقرة وقوله ^ ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا الا بحبل من الله ^ يجوز ان يكون تفسيرا للذلة اي ضربت عليهم انهم اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا الا بحبل من الله وحبل من الناس فالحبل لا يرفع الذلة وانما يرفع بعض موجباتها وهو القتل فان من كان لا يعصم دمه الا بعهد فهو ذليل وان عصم دمه بالعهد لكن على هذا التقدير تضعف الدلالة الاولى من المحادة والطريقة الاولى اجود كما تقدم وفي زيادة تقريرها طول # الموضع الخامس قوله سبحانه ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة ^ وهذه توجب قتل من اذى الله ورسوله كما سيأتي ان شاء الله تقرير والعهد لا يعصم من ذلك لأنا لم نعاهدهم على ان يؤذوا الله ورسوله # ويوضح ذلك قول النبي من لكعب بن الاشرف فانه قد اذى الله ورسوله فندب المسلمين إلى يهودي كان معاهدا لاجل انه اذى الله
ورسوله فدل ذلك على انه لايوصف كل ذمي بانه يؤذي الله ورسوله والا لم يكن فرق بينه وبين غيره ولا يصح ان يقال اليهود ملعونون في الدنيا والاخرة مع اقرارهم على ما يوجب ذلك لانا لم نقرهم على اظهار اذى الله ورسوله وانما اقررناهم على ان يفعلوا بينهم ما هو من دينهم
فصل # واما الايات الدالة على كفر الشاتم وقتله او على احدهما اذا لم يكن معاهدا وان كان مظهرا للإسلام فكثيرة مع ان هذا مجمع عليه كما تقدم حكاية الاجماع عن غير واحد # منها قوله تعالى ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم ^ إلى قوله ^ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم ^ إلى قوله ^ الم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله ^ فعلم ان ايذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لان ذكر الايذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب ان يكون داخلا فيه ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفا اذا امكن ان يقال انه ليس بمحاد ودل ذلك على ان الايذاء والمحادة كفر لانه اخبر ان له نار جهنم خالدا فيها ولم يقل هي جزاؤه وبين الكلامين فرق بل المحادة هي المعاداة والمشاقة وذلك كفر ومحاربة فهو اغلظ من مجرد الكفر فيكون المؤذي لرسول الله كافرا عدوا لله ورسوله محاربا لله ورسوله لان المحادة اشتقاقها من المبيانة بان يصير كل واحد منهما في حد كما قيل المشاقة ان يصير كل منهما في شق والمعاداة ان يصير كل منهما في عدوة
وفي الحديث ان رجلا كان يسب النبي فقال من يكفيني عدوي وهذا ظاهر قد تقدم تقريره وحينئذ فيكون كافرا حلال الدم لقوله تعالى ^ ان الذين يحادون الله ورسوله اولئك في الاذلين ^ ولو كان مؤمنا معصوما لم يكن اذل لقوله تعالى ^ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ^ وقوله ^ كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ^ والمؤمن لا يكبت كما كبت مكذبوا الرسل قط ولانه قد قال تعالى ^ لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ^ الاية فاذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد
نفسه وقد قيل ان من سبب نزولها ان أبا قحافة شتم النبي فاراد الصديق قتله وان ابن أبي تنقص النبي فاستأذن ابنه النبي في قتله لذلك فثبت ان المحاد كافر حلال الدم وايضا فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله فقال تعالى ^ لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا اباءهم ^ الاية وقال ^ يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم اولياء تلقون اليهم بالمودة ^ فعلم انهم ليسوا من المؤمنين # وايضا فانه قال سبحانه ^ ولولا ان كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فان الله شديد العقاب ^
فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا ولعذاب النار في الاخرة هو مشاقة الله ورسوله والمؤذي لرسول الله مشاق لله ورسوله كما تقدم والعذاب هنا هو الاهلاك بعذاب من عنده او بايدينا والا فقد اصابهم ما دون ذلك من ذهاب الاموال وفراق الاوطان # وقال سبحانه ^ اذ يوحي ربك إلى الملائكة اني معكم ^ إلى قوله ^ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ^ فجعل القاء الرعب في قلوبهم والامر بقتلهم لاجل مشاقتهم لله ورسوله فكل من شاق الله ورسوله يستوجب ذلك # والمؤذي للنبي مشاق لله ورسوله كما تقدم فيستحق ذلك # وقولهم ^ هو اذن ^ قال مجاهد هو اذن يقولون سنقول
ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا # وقال الوالبي عن ابن عباس يعني انه يسمع من كل أحد # قال بعض اهل التفسير كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فانا نخاف ان يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا فانما محمد اذن سامعة فانزل الله هذه الاية # وقال ابن اسحاق كان نبتل بن الحارث الذي قال النبي
فيه من اراد ان ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ينم حديث النبي إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال انما محمد اذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا عليه فانزل الله هذه الاية # وقولهم اذن قالوه ليبينوا ان كلامهم مقبول عنده فاخبرالله انه لا يصدق الا المؤمنين وانما يسمع الخبر فاذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لانه اذن خير لا لانه صدقهم قال سفيان ين عيينة اذن خير يقبل منكم ما اظهرتم من الخير ومن القول ولا يؤاخذكم بما في قلوبكم ويدع سرائركم إلى الله وربما تضمنت هذه الكلمة نوع استهزاء واستخفاف
فان قيل فقد روى نعيم بن حماد ثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله اللهم لاتجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فاني وجدت فيما اوحيته ^ لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ^ قال سفيان يرون انها انزلت فيمن يخالط السلطان رواه أبو احمد
العسكري وظاهر هذا ان كل فاسق لا تبتغي مودته فهو محاد لله ورسوله مع ان هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدم # قيل المؤمن الذي يحب الله ورسوله ليس على الاطلاق بمحاد لله ورسوله كما انه ليس على الاطلاق بكافر ولا منافق وان كانت له ذنوب كثيرة الا ترى ان النبي قال لنعيمان وقد جلد في الخمر غير
مرة انه يحب الله ورسوله لان مطلق المحادة يقتضي مطلق المقاطعة والمصارمة والمعاداة والمؤمن ليس كذلك لكن قد يقع اسم النفاق على من اتى بشعبة من شعبه ولهذا قالوا كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق
وقال النبي كفر بالله تبرؤ من نسب وان دق ومن حلف بغير الله فقد اشرك واية المنافق ثلاث اذا حدث كذب واذا وعد اخلف واذا ائتمن خان
وقال ابن أبي مليكة ادركت ثلاثين من اصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه # فوجه هذا الحديث ان يكون النبي عنى بالفاجر المنافق فلا ينقض الاستدلال او يكون عنى كل فاجر لان الفجور مظنة النفاق فما من فاجر الا يخاف ان يكون فجوره صادرا عن مرض في القلب او موجب له فان المعاصي بريد الكفر فاذا أحب الفاسق فقد يكون محبا للمنافق فحقيقة الايمان بالله واليوم الاخر ان لايواد من اظهر من الافعال ما يخاف معها ان يكون محادا لله ورسوله فلا ينقض الاستدلال ايضا او ان تكون الكبائر من شعب المحادة لله ورسوله فيكون مرتكبها محادا من وجه وان كان موالايا لله ورسوله من وجه اخر
ويناله من الذلة والكبت بقدر قسطه من المحادة كما قال الحسن وان طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ان ذل المعصية لفي رقابهم أبا الله الا ان يذل من عصاه فالعاصي يناله من الذلة والكبت بحسب معصيته وان كان له من عزة الايمان بحسب ايمانه كما يناله من الذم والعقوبة وحقيقة الايمان ان لايواد المؤمن من حاد الله بوجه من وجوه المودة المطلقة وقد جبلت القلوب على حب من احسن اليها وبغض من اساء اليها فاذ اصطنع الفاجر اليه يدا احبه المحبة التي جبلت القلوب عليها فيسير موادا له مع ان حقيقة الايمان توجب عدم مودته من ذلك الوجه وان كان معه من اصل الايمان ما يستوجب به اصل المودة التي تستوجب ان يخص بها دون الكافر
والمنافق وعلى هذا فلا ينقض الاستدلال ايضا لان من اذى النبي فانه اظهر حقيقة المحادة وراسها الذي يوجب جميع انواع المحادة فاستوجب الجزاء المطلق وهو جزاء الكافرين كما ان من اظهر حقيقة النفاق ورأسه استوجب ذلك وان لم يستوجبه من اظهر شعبة من شعبه والله سبحانه اعلم # الدليل الثاني على ذلك قوله سبحانه ^ يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا ان الله مخرجا ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله واياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بانهم كانوا مجرمين ^ وهذا نص في ان الاستهزاء بالله وباياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الاولى وقد دلت هذه الاية على ان كل من تنقص رسول الله جادا او هازلا فقد كفر
وقد روى عن رجال من اهل العلم منهم ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن اسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض انه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ارغب بطوننا ولا اكذب السنا ولااجبن عن اللقاء يعني رسول الله
واصحابه القراء فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق لاخبرن رسول فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره فوجد القران قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله انما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق # قال ابن عمر كاني انظر اليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله وان الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول انما نخوض ونلعب فيقول له رسول الله ^ أبالله ورسوله كنتم تستهزئون ^ ما يلتفت اليه وما يزيد عليه
وقال مجاهد قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد ان ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب فانزل الله عز وجل هذه الاية # وقال معمر عن قتادة بينا رسول الله في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا ايظن هذا ان يفتح قصور الروم وحصونها فاطلع الله نبيه على ما قالوا فقال النبي علي بهؤلاء النفر فدعا بهم فقال اقلتم كذا وكذا فحلفوا ما كنا الا نخوض ونلعب
قال معمر وقال الكلبي كان رجل منهم لم يمالهم في الحديث يسير مجانبا لهم فنزلت ^ ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ^ فسمي طائفة وهو واحد # فهؤلاء لما تنقصوا النبي حيث عابوه والعلماء من اصحابه واستهانوا بخبره اخبر الله انهم كفروا بذلك وان قالوا استهزاء فكيف بما هو اغلظ من ذلك وانما لم يقم الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد امر به اذ ذاك بل كان مامورا بان يدع اذاهم ولانه كان له ان يعفو عمن تنقصه واذاه
الدليل الثالث قوله سبحانه ^ ومنهم من يلمزك في الصدقات ^ واللمز العيب والطعن قال مجاهد يتهمك يسألك يزراك وقال عطاء يغتابك # وقال تعالى ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ^ الاية وذلك يدل على ان كل من لمزه او اذاه كان منهم لان ^ الذين ^ و^ من ^ اسمان موصولان وهما من صيغ العموم والاية وان كانت نزلت بسبب لمز قوم واذى اخرين فحكمها عام كسائر الايات اللواتي نزلن على اسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه انها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله ولكن اذا كان اللفظ اعم من ذلك السبب فقد قيل
انه يقتصر على سببه والذي عليه جماهير الناس انه يجب الاخذ بعموم القول ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه # وايضا فان كونه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والاذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده # وايضا فان الله سبحانه وان كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال ^ وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ^ ثم انه سبحانه ابتلى الناس بامور يميز بين المؤمنين والمنافقين كما قال تعالى ^ وليعلمن الله الذين امنوا وليعلمن المنافقين ^ وقال تعالى ^ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ^ وذلك لان الايمان والنفاق اصله في القلب وانما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه فاذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما اخبر سبحانه ان الذين يلمزون النبي والذين يؤذونه من المنافقين ثبت ان ذلك دليل على النفاق وفرع له ومعلوم انه اذا حصل فرع الشيء ودليله حصل اصله المدلول عليه فثبت انه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول او حدث له النفاق بهذا القول
فان قيل لم لا يجوز ان يكون هذا القول دليلا للنبي على نفاق اولئك الاشخاص الذين قالوه في حياته باعينهم وان لم يكن دليلا من غيرهم # قلنا اذا كان دليلا للنبي الذي يمكن ان يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فان يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن اولى واحرى # وايضا فلو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الاية زجر لغيرهم ان يقول مثل هذا القول ولا كان في الاية تعظيم لذلك القول بعينه فان الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وان كانت امرا مباحا كما لو قيل من المنافقين صاحب الجمل الاحمر وصاحب الثوب الاسود ونحو ذلك فلما دل القران على ذم عين هذا القول والوعيد لصاحبه علم انه لم يقصد به الدلالة على المنافقين باعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين # وايضا فان هذا القول مناسب للنفاق فان لمز النبي واذاه لايفعله من يعتقد انه رسول الله حقا وانه اولى به من نفسه وانه لا يقول الا الحق ولا يحكم الا بالعدل وان طاعته طاعة لله وانه يجب على جميع الخلق تعزيره وتوقيره واذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق
وايضا فان هذا القول لاريب انه محرم فاما ان يكون خطيئة دون الكفر او يكون كفرا والاول باطل لان الله سبحانه قد ذكر في القران انواع العصاة من الزاني والقاذف والسارق والمطفف والخائن ولم يجعل ذلك دليلاعلى نفاق معين ولا مطلق فلما جعل اصحاب هذه الاقوال من المنافقين علم ان ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لان تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لايكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك والا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت انه لا بد ان يختص هذه الاقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق وكلما كان كذلك فهو كفر # وايضا فان الله سبحانه لما ذكر بعض الاقوال التي جعلهم بها من المنافقين وهو قوله ^ ائذن لي ولا تفتني ^ قال في عقب ذلك ^ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر ^ إلى قوله ^ انما يستاذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ^ فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الايمان وعلى الريب مع انه رغبة عن الجهاد مع رسول الله بعد استنفاره واظهار من القاعد انه معذور بالقعود وحاصله عدم ارادة الجهاد فلمزه واذاه اولى ان يكون دليلا مطردا لان الاول خذلان له وهذا محاربة له وهذا ظاهر
واذا ثبت ان كل من لمز النبي واذاه منهم فالضمير عائد على المنافقين والكافرين لانه سبحانه لما قال ^ انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وانفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون ^ قال ^ لوكان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله ^ وهذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور وهو الذين حلفوا ^ لو استطعنا للخرجنا معكم ^ وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف ثم اعاد الضمير اليهم إلى قوله ^ قل انفقوا طوعا او كرها لن يتقبل منكم انكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله وبرسوله ^ فثبت ان هؤلاء الذين اضمروا كفروا بالله ورسوله وقد جعل منهم من يلمز ومنهم من يؤذي وكذلك قوله ^ وماهم منكم ^ اخراج لهم عن الايمان # وقد نطق القران بكفر المنافقين في غير موضع وجعلهم أسوأ حالا من الكافرين وانهم في الدرك الاسفل من النار وانهم يوم القيامة
يقولون للذين امنوا ^ انظرونا نقتبس من نوركم ^ الاية إلى قوله ^ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ^ وامر نبيه في اخر الامر بان لايصلي علي أحد منهم واخبر انه لن يغفر لهم وامره بجهادهم والاغلاظ عليهم واخبر انهم ان لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع # الدليل الرابع على ذلك ايضا قوله سبحانه وتعالى ^ فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ^ اقسم سبحانه بنفسه انهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم ضيقا من حكمه بل يسلموا لحكمه ظاهرا وباطنا
وقال قبل ذلك ^ الم تر إلى الذين يزعمون انهم امنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالا بعيدا واذا قيل لهم تعالوا إلى ما انزل الله والى الرسول رايت المنافقين يصدون عنك صدودا ^ فبين سبحانه ان من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله والى رسوله فصد عن رسوله كان منافقا وقال سبحانه ^ ويقولون امنا بالله وبالرسول واطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما اولئك بالمؤمنين واذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم معرضون وان يكن لهم الحق ياتوا اليه مذعنين افي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون ان يحيف الله عليهم ورسوله بل اولئك هم الظالمون انما كان قول المؤمنين اذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ان يقولوا سمعنا واطعنا ^ فبين سبحانه ان من تولى عن طاعة الرسول واعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن وان المؤمن هو الذي يقول سمعنا واطعنا فاذا كان النفاق يثبت ويزول الايمان بمجرد الاعراض عن حكم الرسول وارادة التحاكم إلى غيره مع ان هذا ترك محض وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالتنقص والسب ونحوه # ويؤيد ذلك ما رواه أبو اسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن
ابراهيم بن دحيم في تفسيره حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني أبي ان رجلين اختصما إلى النبي فقضى للمحق على المبطل فقال المقضي عليه لا ارضى فقال صاحبه فما تريد قال ان نذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا
اليه فقال الذي قضي له قد تخاصمنا إلى النبي فقضى لي عليه فقال أبو بكر فانتما على ما قضى به النبي فابى صاحبه ان يرضى قال ناتي عمر بن الخطاب فاتياه فقال المقضي له قد اختصمنا إلى النبي فقضى لي عليه فابى ان يرضى ثم اتينا أبا بكر الصديق فقال انتما على ما قضى به النبي فابى ان يرضى فساله عمر فقال كذلك فدخل عمر منزله فخرج والسيف بيده قد سله فضرب به راس الذي ابى ان يرضى فقتله فانزل الله تبارك وتعالى ^ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ^ الاية # وهذا المرسل له شاهد من وجه اخر يصلح للاعتبار قال ابن دحيم حدثنا الجوزجاني حدثنا أبو الاسود حدثنا
ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير قال اختصم إلى رسول الله رجلان فقضى لاحداهما فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر فقال رسول الله نعم انطلقوا إلى عمر فانطلقا فلما اتيا عمر قال الذي قضي له يا ابن الخطاب ان رسول الله قضى لي وان هذا قال ردنا إلى عمر فردنا اليك رسول الله فقال عمر اكذلك للذي قضي عليه قال نعم فقال عمر مكانك حتى اخرج فاقضي بينكما فخرج مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله وادبر الاخر إلى رسول الله فقال يارسول الله قتل عمر صاحبي ولولا ما اعجزته لقتلني فقال
رسول الله ما كنت اظن ان عمر يجتري على قتل مؤمن فانزل الله تعالى ^ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ^ فبرا الله عمر من قتله # وقد رويت هذه القصة من غير هذين الوجهين قال أبو عبد الله احمد بن حنبل ما اكتب حديث ابن لهيعة الا للاعتبار والاستدلال وقد اكتب حديث هذا الرجل على هذا المعنى كاني استدل به مع غيره يشده لا انه حجة اذا انفرد # الدليل الخامس ما استدل به العلماء على ذلك قوله سبحانه ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ^ الاية ودلالتها من وجوه
احدها انه قرن اذاه باذاه كما قرن طاعته بطاعته فمن اذاه فقد اذا الله تعالى وقد جاء ذلك منصوصا عنه ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم يبين ذلك ان الله تعالى جعل محبة الله ورسوله وارضاء الله ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئا واحدا فقال تعالى ^ قل ان كان اباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله ^ وقال ^ واطيعوا الله والرسول ^ في مواضع متعددة وقال أيضا والله ورسوله أحق أن يرضوه فوحد الضمير وقال ايضا ^ ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ^ وقال ايضا ^ يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول ^ # وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله واذى الله ورسوله ومعصية الله ورسوله شيئا واحدا فقال ^ ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله ^ وقال ^ ان الذين يحادون الله ورسوله ^ وقال تعالى ^ الم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله ^ وقال ^ ومن يعص الله ورسوله ^ الاية
وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين وان جهة حرمه الله ورسوله جهة واحدة فمن اذى الرسول فقد اذى الله ومن اطاعه فقد اطاع الله لان الامة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم الا بواسطة الرسول ليس لاحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه وقد اقامه الله مقام نفسه في امره ونهيه واخباره وبيانه فلا يجوز ان يفرق بين الله ورسوله في شئ من هذه الامور # ثانيها انه فرق بين اذى الله ورسوله وبين اذى المؤمنين والمؤمنات فجعل هذا قد احتمل بهتانا واثما مبينا وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والاخرة واعد له العذاب المهين ومعلوم ان اذى المؤمنين قد يكون من كبائر الاثم وفيه الجلد وليس فوق ذلك الا الكفر والقتل # الثالث انه ذكر انه لعنهم في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا واللعن الابعاد عن الرحمة ومن طرده عن رحمته في الدنيا والاخرة لا يكون الا كافرا فان المؤمن يقرب اليها بعض الاوقات ولا يكون مباح الدم لان حقن الدم رحمة عظيمة من الله فلا يثبت في حقه
ويؤيد ذلك قوله ^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلا ^ فان اخذهم وتقتيلهم والله اعلم بيان لصفة لعنهم وذكر لحكمة فلا موضع له من الاعراب وليس بحال ثانية لانهم اذا جاوروه ملعونين ولم يظهر اثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك وعيد لهم # بل تلك اللعنة ثابته قبل هذا الوعيد وبعده فلابد ان يكون هذا الاخذ والتقتيل من اثار اللعنة التي وعدوها فثبت في حق من لعنه الله في الدنيا والاخرة # ويؤيده قول النبي لعن المؤمن كقتله متفق عليه فاذا كان الله لعن هذا في الدنيا والاخرة فهو كقتله فعلم ان قتله مباح
قيل واللعن انما يستوجبه من هو كافر لكن ليس هذا جيدا على الاطلاق # ويؤيده ايضا قوله تعالى ^ الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين امنوا سبيلا اولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ^ ولو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نصره لكان له نصير # ويوضح ذلك انه قد نزل في شان ابن الاشرف وكان من لعنته ان قتل لانه كان يؤذي الله ورسوله # واعلم انه لايرد على هذا انه قد لعن من لايجوز قتله لوجوه # احدها ان هذا قيل فيه لعنه الله في الدنيا والاخرة فبين انه سبحانه اقصاه عن رحمته في الدارين وسائر الملعونين انما قيل فيهم لعنه الله او عليه لعنة الله وذلك يحصل باقصائه عن الرحمة في وقت من الاوقات وفرق بين من لعنه الله لعنة مؤبدة عامة ومن لعنه لعنا مطلقا
الثاني ان سائر الذين لعنهم الله في كتابه مثل الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب ومثل الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ومثل من يقتل مؤمنا متعمدا اما كافر او مباح الدم بخلاف بعض من لعن في السنة # الثالث ان هذه الصيغة خبر عن لعنة الله له ولهذا عطف عليه ^ واعد لهم عذابا مهينا ^ وعامة الملعونين الذين لايقتلون او لا يكفرون انما لعنوا بصيغة الدعاء مثل قوله لعن الله من غير منار الارض ولعن الله السارق ولعن الله اكل الربا
وموكله ونحو ذلك # لكن الذي يرد على هذا قوله تعالى ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم ^ فان في هذه الاية ذكر لعنتهم في الدنيا والاخرة مع ان مجرد القذف ليس بكفر ولا يبيح الدم # والجواب عن هذه الاية من طريقين مجمل ومفصل # اما المجمل فهو ان قذف المؤمن القذف المجرد هو نوع من اذاه واذا كان كاذبا فهو بهتان عظيم كما قال سبحانه ^ ولولا اذ
سمعتموه قلتم ما يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ^ والقران قد نص على الفرق بين اذى الله ورسوله وبين اذى المؤمنين فقال تعالى ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا ^ فلا يجوز ان يكون مجرد اذى المؤمنين بغير حق موجبا للعنة الله في الدنيا والآخرة وللعذاب المهين إذ لو كان كذلك لم يفرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين ولم يخصص مؤذي الله ورسوله باللعنة المذكورة ويجعل جزاء مؤذي المؤمنين انه احتمل بهتانا واثما مبينا كما قال في موضع اخر ^ ومن يكسب خطيئة او اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا ^ كيف والعليم الحكيم اذا توعد على الخطيئة زاجرا عنها فلابد ان يذكر اقصى ما يخاف على صاحبها فاذا ذكر خطيئتين احداهما أكبر من الاخرى متوعدا عليهما زاجرا عنهما ثم ذكر في احداهما جزاء وذكر الاخرى ما هو دون ذلك ثم ذكر هذه الخطيئه في موضع اخر متوعدا عليها بالعذاب الادنى بعينه علم ان جزاء الكبرى لايستوجب بتلك التي هي ادنى منها
فهذا دليل يبين لك ان لعنة الله في الدنيا والاخرة واعداده العذاب المهين لا يستوجب بمجرد القذف الذي ليس فيه اذى لله ورسوله وهذا كاف في اطراد الدلالة وسلامتها عن النقض واما الجواب المفصل فمن ثلاثة اوجه احداها ان هذه الاية في ازواج النبي خاصة في قول كثير من اهل العلم فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا شيخ من بني كاهل قال فسر ابن عباس سورة النور فلما اتى على هذه الاية ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ^ إلى اخر الاية قال هذه في شان
عائشة وازواج النبي خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة ومن قذف امراة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرا ^ والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا باربعة شهداء ^ إلى قوله ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا ^ فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لاولئك توبة قال فهم رجل ان يقوم فيقبل راسه من حسن ما فسر # وقال أبو سعيد الاشج ثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ^ نزلت في عائشه رضى الله عنها
خاصة واللعنة في المنافقين عامة فقد بين ابن عباس ان هذه الاية انما نزلت فيمن يقذف عائشة وامهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول وعيبه فان قذف المراة اذى للزوجها كما هو اذى لابنها لانه نسبة له إلى الدياثة واظهار لفساد فراشه فان زنى امراته يؤذي أذى عظيما ولهذا جوز له الشارع ان يقذفها اذا زنت ودرا الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره ان يقذف امراه بحال # ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف اهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف ولهذا ذهب الإمام احمد في احدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى ان من قذف امرأه غير محصنة كالامة والذمية ولها زوج او ولد محصن حد لقذفها لما الحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين
والرواية الاخرى عنه ووهي قول الاكثرين انه لاحد عليه لانه اذى لهما لاقذف لهما والحد التام انما يجب بالقذف وفي جانب النبي اذاه كقذفه ومن يقصد عيب النبي بعيب ازواجه فهو منافق وهذا معنى قول ابن عباس اللعنة في المنافقين عامة وقد وافق ابن عباس على هذا جماعة فروى الإمام احمد والاشج عن خصيف قال سالت سعيد بن جبير فقال الزنى اشد او قذف المحصنة قال لا بل الزنى قال قلت فان الله تعالى يقول ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ^ فقال انما كان هذا في عائشة خاصة
وروى احمد باسناده عن أبي الجوزاء في هذه الاية ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ^ قال هذه لامهات المؤمنين خاصة وروى الاشج باسنادة عن الضحاك في هذه الاية قال هن نساء النبي وقال معمر عن الكلبي انما عني بهذه الاية ازواج النبي فاما من رمى امراة من المسلمين فهو فاسق كما قال الله تعالى او يتوب ووجه هذا ما تقدم من ان لعنة الله في الدنيا والاخرة لاتستوجب
بمجرد القذف فتكون اللام في قوله ^ المحصنات الغافلات المؤمنات ^ للتعريف المعهود هنا ازواج النبي لان الكلام في قصة الافك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة او يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك ويؤيد هذا القول ان الله سبحانه رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات وقال في أول السورة ^ والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ^ الاية فرتب الجلد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات فلابد ان تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك والله اعلم لان ازواج النبي مشهود لهن بالايمان لانهن امهات المؤمنين وهن ازواج نبيه في الدنيا والاخرة وعوام المسلمات انما يعلم منهن في الغالب ظاهر الايمان ولان الله سبحانه قال في قصة عائشة ^ واللذين تولى كبره منهم له عذاب عظيم ^ فتخصيصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والاخرة لمسكم فيما افضتم فيه عذاب عظيم ^ فعلم ان العذاب العظيم لايمس كل من قذف وانما يمس
متولي كبره فقط وقال هنا ^ ولهم عذاب عظيم ^ فعلم انه الذي رمى امهات المؤمنين يعيب بذلك رسول الله وتولى كبر الافك وهذه صفة المنافق ابن أبي # واعلم انه على هذا القول تكون هذه الاية حجة ايضا موافقة لتلك الاية لانه لما كان رمي امهات المؤمنين اذى للنبي لعن صاحبه في الدنيا والاخرة ولهذا قال ابن عباس ليس فيها توبة لان مؤذي النبي لا تقبل توبته او يريد اذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم اذا قصد به اذى النبي او اوذين بعد العلم بانهن ازواجه في الاخرة فانه ما بغت امراة نبي قط # ومما يدل على أن قذفهن اذى للنبي ما خرجاه في الصحيحين في حديث الافك عن عائشة قالت فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت فقال رسول وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني اذاه في اهل
بيتي فوالله ما علمت على اهلي الا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خير وما كان يدخل على اهلي الا معي فقام سعد بن معاذ الانصاري فقال انا اعذرك منه يارسول الله ان كان من الاوس ضربنا عنقه وان كان من اخواننا من الخزرج امرتنا ففعلنا امرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام اسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين قالت فثار الحيان الاوس والخزرج حتى هموا ان يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت وفي رواية اخرى صحيحة قالت لما ذكر من شاني الذي ذكر وما علمت به قام رسول الله في خطيبا وما علمت به فتشهد فحمد الله واثنى عليه بما هو اهله ثم قال اما بعد اشيروا
علي في اناس ابنوا اهلي وايم الله ما علمت على اهلي سوءا قط وابنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا دخل بيتي قط الا وانا حاضر ولا كنت في سفر الا غاب معي فقام سعد بن معاذ فقال يارسول الله مرني ان تضرب اعناقهم # فقوله من يعذرني اي من ينصفني ويقيم عذري اذا انتصفت منه لما بلغني من اذاه في اهل بيتي وابنه لهم فثبت انه قد تاذى بذلك تاذيا استعذر منه وقال المؤمنون الذين لم تاخذهم حمية مرنا نضرب اعناقهم فانا نعذرك اذا امرتنا بضرب اعناقهم ولم ينكر النبي على سعد استئماره في ضرب اعناقهم وقوله انك معذور اذا فعلت ذلك # يبقى ان يقال فقد كان من اهل الافك مسطح وحسان
وحمنه ولم يرموا بنفاق ولم يقتل النبي احدا بذلك السبب بل قد اختلف في جلدهم # وجوابه ان هؤلاء لم يقصدوا اذى النبي ولم يظهر منهم دليل على اذاه بخلاف ابن أبي الذي انما كان قصده أذاه ولم يكن اذ ذاك قد ثبت عندهم ان ازواجه في الدنيا هن ازواجا له في الاخرة وكان وقوع ذلك من ازواجه ممكنا في العقل ولذلك توقف النبي في القصة حتى استشار علي وزيدا وحتى سال
بريرة فلم يحكم بنفاق من لم يقصد اذى النبي لامكان ان يطلق المراة المقذوفة فاما بعد ان ثبت انهن ازواجه في الاخرة وانهن امهات المؤمنين فقذفهن اذى له بكل حال ولا يجوز مع ذلك ان يقع منهن فاحشه لان في ذلك جواز ان يقيم الرسول مع امراة بغي وان تكون أم المؤمنين موسومه بذلك وهذا باطل ولهذا قال سبحانه ^ يعظكم الله وان تعودوا لمثله ابدا ان كنتم مؤمنين ^ وسنذكر ان شاء الله تعالى في اخر الكتاب كلام الفقهاء فيمن قذف نساءه وانه معدود من اذاه # الوجه الثاني ان الاية عامة قال الضحاك قوله تعالى ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ^ يعني به ازواج النبي خاصة ويقول اخرون يعني ازواج المؤمنين عامة
وقال أبو سلمه بن عبد الرحمن قذف المحصنات من الموجبات ثم قرا ^ ان الذين يرمون المحصنات ^ الاية وعن عمرو بن قيس قال قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة رواهما الاشج وهذا قول كثير من الناس ووجهه ظاهر الخطاب فانه عام فيجب اجراءه على عمومه اذ لا موجب لخصوصه وليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لان حكم غير عائشه من ازواج النبي داخل في العموم وليس هو من السبب ولانه لفظ جمع والسبب في واحدة ولان قصر عمومات القران على اسباب نزولها باطل فان عامة الايات نزلت باسباب اقتضت ذلك وقد علم ان شيئا منها
لم يقصر على سببه والفرق بين الايتين انه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على ايدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم # وقد روي عن النبي من غير وجهه وعن اصحابه ان قذف المحصنات من الكبائر وفي لفظ في الصحيح قذف المحصنات الغافلات المؤمنات وكان بعضهم يتاول على ذلك قوله ^ ان الذين
يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ^ ثم اختلف هؤلاء # فقال أبو حمزة الثمالي بلغنا انها نزلت في مشركي اهل مكة اذ كان بينهم وبين رسول الله عهد فكانت المراة اذا خرجت إلى رسول الله إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من اهل مكة وقالوا انما خرجت تفجر فعلى هذا تكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الايمان ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب ابن الاشرف # وعلى هذا فمن فعل ذلك فهو كافر وهو بمنزلة من سب النبي
وقوله انها نزلت زمن العهد يعني والله اعلم انه عني بها مثل اولئك المشركين المعاهدين والا فهذه الاية نزلت ليالي الافك وكان الافك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق والهدنة كانت بعد ذلك بسنتين ومنهم من اجراها على ظاهرها وعمومها لان سبب نزولها قدف عائشه وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق وسبب النزول لا بد ان يندرج في العموم ولانه لا موجب لتخصيصها # والجواب على هذا التقدير انه سبحانه قال هنا ^ لعنوا في الدنيا والاخرة ^ على بناء الفعل للمفعول ولم يسم اللاعن وقال هناك ^ لعنهم الله في الدنيا والاخرة ^ واذا لم يسم الفاعل جاز ان يلعنهم
غير الله من الملائكة والناس وجاز ان يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت وجاز ان الله تعالى يتولى لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنا في الدين ويتولى خلقه لعنة الاخرين واذا كان اللاعن مخلوقا فلعنته قد تكون بمعنى الدعاء عليهم وقد تكون بمعنى انهم يبعدونهم عن رحمة الله # ويؤيد هذا ان الرجل قذف امراته تلاعنا وقال الزوج في الخامسه ^ لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين ^ فهو يدعو على نفسه ان كان كاذبا في القذف ان يلعنه الله كما امر الله رسوله ان يباهل من حاجه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بان يبتهلوا فيجعل لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يلعن به القاذف ومما يلعن به ان يجلد وان ترد شهادته ويفسق فانه عقوبة له واقصاء له عن مواطن الامن والقبول وهي من رحمة الله وهذا بخلاف من اخبر الله انه لعنه في الدنيا والاخرة فان لعنة الله له توجب زوال النصر عنه من كل وجه وبعده عن اسباب الرحمة في الدارين
ومما يؤيدالفرق أنه قال هنا ^ واعد لهم عذابا مهينا ^ ولم يجيء اعداد العذاب المهين في القران الا في حق الكفار كقوله تعالى ^ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا ^ وقوله ^ وخذوا حذركم ان الله اعد للكافرين عذابا مهينا ^ وقوله ^ فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ^ وقوله انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين ^ وقوله ^ والذين كفروا وكذبوا باياتنا فاولئك لهم عذاب مهين ^ وقوله ^ واذا علم من اياتنا شيئا اتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين ^ وقوله ^ وقد انزلنا ايات بينات وللكافرين عذاب مهين ^ وقوله ^ اتخذو ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ^ واما قوله تعالى ^ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ^ فهي والله اعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها على انه لم يذكر ان العذاب اعد له
واما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله ^ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم ^ وقوله ^ وللولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما افضتم فيه عذاب عظيم ^ وفي المحارب ^ ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم ^ وفي القاتل ^ وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما ^ وقوله ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ^ وقد قال سبحانه ^ ومن يهن الله فما له من مكرم ^ وذللك لان الاهانة اذلال وتحقير وخزي وذلك قدر زائد على الم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان # فلما قال في هذه الاية ^ واعد لهم عذابا مهينا ^ علم انه من جنس العذاب الذي توعد فيه الكفار والمنافقين ومما قال هناك ^ ولهم عذاب عظيم ^ جاز ان يكون من جنس العذاب في قوله ^ لمسكم في ما افضتم فيه عذاب عظيم ^
ومما يبين الفرق ايضا انه سبحانه قال هنا ^ واعد لهم عذابا مهينا ^ والعذاب انما اعد للكافرين فان جهنم لهم خلقت لانهم لابد ان يدخلوها وما هم منها بمخرجين واهل الكبائر من المؤمنين يجوز ان لا يدخلوها اذا غفر الله لهم وإذا دخلوها فانهم يخرجون منها ولو بعد حين # قال سبحانه ^ واتقوا النار التي اعدت للكافرين ^ فامر سبحانه المؤمنين ان لا ياكلوا الربا وان يتقوا الله وان يتقوا النار التي اعدت للكافرين فعلم انهم يخافوا عليهم من دخول النار اذا اكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع انها معدة للكافرين لا لهم وكذلك جاء في الحديث اما اهل النار الذين هم اهلها فانهم لا يموتون فيها ولا يحيون واما اقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها وهذا كما ان الجنة اعدت للمتقين الذين ينفقون
في السراء والضراء وان كان يدخلها الابناء بعمل ابائهم ويدخلها قوم بالشفاعة وقوم بالرحمة وينشيء الله لما فضل منها خلق اخر في الدار الاخرة فيدخلهم اياها وذلك لان الشيء انما يعد لمن يستوجبه ويستحقه ولمن هو اولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع او لسبب اخر # الدليل السادس قوله سبحانه ^ لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون ^ اي حذرا ان تحبط اعمالكم
او خشية ان تحبط اعمالكم او كراهة ان تحبط او منع ان تحبط هذا تقدير البصريين وتقدير الكوفيين لئلا تحبط # فوجه الدلالة ان الله سبحانه نهاهم عن رفع اصواتهم فوق صوته وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض لان هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر فانه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط وبين ان فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب والعمل يحبط بالكفر قاله سبحانه ^ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت اعمالهم ^ وقال تعالى ^ ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله ^ وقال ^ ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ^ وقال ^ لان اشركت ليحبطن عملك ^ وقال ^ ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فاحبط اعمالهم ^ وقال ^ ذلك بانهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فاحبط اعمالهم ^ كما ان الكفر
اذا قارنه عمل لم يقبل لقوله تعالى ^ انما يتقبل الله من المتقين ^ وقوله ^ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله اضل اعمالهم ^ وقوله ^ وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله وبرسوله ^ وهذا ظاهر ولا تحبط الاعمال بغير الكفر لان من مات على الايمان فانه لابد من ان يدخل الجنة ويخرج من النار ان دخلها ولوحبط عمله كله لم يدخل الجنة قط ولان الاعمال انما يحبطها ما ينافيها ولا ينافي الاعمال مطلقا الا الكفر وهذا معروف من اصول اهل السنه # نعم قد يبطل بعض الاعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى ^ لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى ^ ولهذا لم يحبط الله الاعمال في كتابه الا بالكفر # فاذا ثبت ان رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يخاف منه ان يكفر صاحبه وهو لايشعر ويحبط عمله بذلك وانه مظنة لذلك وسبب فيه فمن المعلوم ان ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والاكرام والاجلال ولما ان رفع الصوت قد
يشتمل على اذى له او استخفاف به وان لم يقصد الرافع ذلك فاذا كان الاذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الادب من غير قصد صاحبه يكون كفرا فالاذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفرا بطريق الاولى # الدليل السابع على ذلك قوله سبحانه ^ لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم ^ امر من خالف امره ان يحذر الفتنة والفتنة الردة والكفر قال سبحانه ^ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ^ وقال ^ والفتننة أكبر من القتل ^ وقال ^ ولو دخلت عليهم من اقطارها ثم سالوا الفتنة لاتوها ^ وقال ^ ثم ان ربك
للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ^ # قال الإمام احمد في رواية الفضل بن زياد نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعا ثم جعل يتلوا ^ فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة ^ الاية وجعل يكررها ويقول وما الفتنة الشرك لعله اذى رد بعض قوله ان يقع في قلبه شئ من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلوا هذه الاية ^ فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ^ # وقال أبو طالب المشكاني وقيل له ان قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى راي سفيان وغيره فقال اعجب لقوم سمعوا
الحديث وعرفوا الاسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى راي سفيان وغيره قال الله ^ فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذب اليم ^ وتدري ما الفتنة الكفر قال الله تعالى ^ والفتنة أكبر من القتل ^ فيدعون الحديث عن رسول الله وتغلبهم اهواؤهم إلى الراي # فاذا كان المخالف عن امره قد حذر من الكفر والشرك او من العذاب الاليم دل على انه قد يكون مفضيا إلى الكفر او إلى العذاب الاليم ومعلوما ان افضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية فافضاؤه إلى الكفر انما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الامر كما فعل ابليس فكيف لما هو اغلظ من ذلك كالسب والانتقاص ونحوه # وهذا باب واسع مع انه بحمد الله مجمع عليه لكن اذا تعددت الدلالات تعاضدت على غلظ كفر الساب وعظم عقوبته وظهر ان ترك الاحترام للرسول وسوء الادب معه مما يخاف معه الكفر المحبط كان ذلك ابلغ فيما قصدنا له
ومما ينبغي ان يتفطن له ان لفظ الاذى في اللغة هو لما خف امره وضعف اثره من الشر والمكروه ذكره الخطابي وغيره وهو كمال قال واستقراء موارده يدل على ذلك مثل قوله تعالى ^ لن يضروكم الا اذى ^ وقوله ^ ويسؤلونك عن المحيض قل هو اذى فاعتزلوا النساء في المحيض ^ # وفيما يؤثر عن النبي انه قال القر بؤس والحر اذى وقيل لبعض النسوة العربيات القر اشد أم الحر فقالت من يجعل البؤس كالاذى والبؤس خلاف النعيم وهو ما يشقي البدن ويضره بخلاف الاذى فانه لا يبلغ ذلك ولهذا قال ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله ^ وقال سبحانه فيما يروي عنه رسوله يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وقال النبي من لكعب بن الاشرف
فانه قد اذى الله ورسوله وقال ما أحد اصبر على اذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم وقد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله ياعبادي انكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني وقال سبحانه في كتابه ^ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر انهم لن يضروا الله شيئا فبين ان الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم لكن يؤذونه تبارك وتعالى اذا سبوا مقلب الامور او جعلوا له سبحانه ولدا او شريكا او اذوا رسله وعباده المؤمنين ثم ان الاذى لا يضر المؤذى اذا تعلق بحق الرسول فقد رايت عظم موقعه وبيان ان صاحبه من أعظم الناس كفرا واشدهم عقوبة فتبين بذلك ان قليل ما يؤذيه يكفر به صاحبه ويحل دمه
ولا يرد على هذا قوله تعالى ^ لاتدخلوا بيوت النبي ^ إلى قوله ^ ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم ^ فان المؤذي له هنا اطالتهم الجلوس في المنزل واستئناسهم للحديث لا أنهم هم اذو النبي والفعل اذا اذى النبي من غير ان يعلم صاحبه انه يؤذيه ولم يقصد صاحبه اذاه فانه ينهى عنه ويكون معصية كرفع الصوت فوق صوته فاما اذا قصد اذاه او كان مما يؤذيه وصاحبه يعلم انه يؤذيه واقدم عليه مع استحضاره هذا العلم فهذا الذي يوجب الكفر وحبوط العمل والله سبحانه اعلم # الدليل الثامن على ذلك ان الله سبحانه قال ^ وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازوجه من بعده ابدا ان ذلكم كان عند الله عظيما ^ فحرم على الامة ان تنكح ازواجه من بعده لان ذلك يؤذيه وجعله عظيما عند الله تعظيما للحرمته وقد ذكر ان هذه الاية نزلت لما قال بعض الناس لو قد توفي رسول الله تزوجت عائشه ثم ان من نكح ازواجه او سراريه فان عقوبته القتل جزاء له بما انتهك من حرمته فالشاتم له اولى
والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن زهير عن عفان عن حماد عن ثابت عن انس ان رجلا كان يتهم بام ولد النبي فقال رسول لعلي اذهب فاضرب عنقه فاتاه علي فاذا هو ركي يتبرد فقال له علي اخرج فناوله يده فاخرجه فاذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي ثم اتى النبي فقال
يارسول الله انه لمجبوب ماله ذكر فهذا الرجل امر النبي بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته ولم يامر باقامة حد الزنى لان حد الزنى ليس هو ضرب الرقبة بل ان كان محصنا رجم وان كان غير محصن جلد ولا يقام عليه الحد الا باربعة شهداء او بالاقرار المعتبر فلما امر النبي بضرب عنقه من غير تفصيل بين ان يكون محصنا او غير محصن علم ان قتله لما انتهكه من حرمته ولعله قد شهد عنده شاهدان انهما راياه يباشر هذه المراة او شهدا بنحو ذلك فامر بقتله فلما تبين انه كان مجبوبا علم ان المفسدة مامونة منه او انه بعث عليا ليستبرى القصة فان كان ما بلغه عنه حقا قتله ولهذا قال في هذه القصة او غيرها اكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لايرى الغائب فقال بل الشاهد يرى مالا يرى الغائب
ويدل على ذلك ان النبي تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب اخت الاشعث ومات قبل ان يدخل بها وقبل ان تقدم عليه وقيل انه خيرها بين ان يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين وبين ان يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح قالوا فلما مات النبي تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت فبلغ أبا بكر فقال لقد هممت ان احرق عليهما بيتهما فقال عمر ما هي من امهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب وقيل
انها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر انها ليس من ازواج النبي بارتدادها # فوجه الدلالة ان الصديق رضى الله عنه عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها لما راى انها من ازواج النبي حتى ناظره عمر انها ليست من ازواجه فكف عنهما لذلك فعلم انهم كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله # ولا يقال ان ذلك حد الزنى لانها كانت تكون محرمة عليه ومن تزوج ذات محرمة حد حد الزنى او قتل لوجهين # احدهما ان حد الزنى الرجم # الثاني ان ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطء ببينة او اقرار فلما اراد تحريق البيت مع جواز الايكون غشيها علم ان ذلك عقوبة لما انتهكه من حرمة رسول الله
فصل # واما السنة فاحاديث # الحديث الاول ما رواه الشعبي عن علي ان يهودية كانت تشتم النبي وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فابطل رسول الله دمها هكذا رواه أبو داود في سننه وابن بطة في سننه وهو من جملة ما استدل به الإمام احمد في رواية ابنه عبد الله وقال ثنى جرير عن
مغيرة عن الشعبي قال كان رجل من المسلمين اعني اعمى يؤوي إلى امراة يهودية فكانت تطعمه وتحسن اليه فكانت لا تزال تشتم النبي وتؤذيه فلما كان ليلة من الليالي خنقها فماتت فلما اصبح ذكر ذلك للنبي فنشد الناس في امرها فقام الاعمى فذكر له امرها فابطل رسول الله دمها # وهذا الحديث جيد فان الشعبي راى علي وروى عنه حديث شراحة الهمدانية وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة وهو
كوفي فقد ثبت لقاؤه عليا فيكون الحديث متصلا ثم ان كان فيه ارسالا لان الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقا لان الشعبي عندهم صحيح المراسيل لايعرفون له مرسلا الا صحيحا ثم هو من اعلم الناس بحديث علي واعلمهم بثقات اصحابه # وله شاهد حديث ابن عباس الذي ياتي فان القصة اما ان تكون واحدة او يكون المعنى واحدا وقد عمل به عوام اهل العلم وجاء ما يوافقه عن اصحاب رسول الله ومثل هذا المرسل لم يتردد اللفقهاء في الاحتجاج به
وهذا الحديث نص في جواز قتلها لاجل شتم النبي ودليل على قتل الرجل الذمي وقتل المسلم والمسلمه اذا سبا بطريق الاولى لان هذه المراة كانت موادعة مهادنة لان النبي لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة ولم يضرب عليهم جزية وهذا مشهور عند اهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم حتى قال الشافعي لم اعلم مخالفا من اهل العلم بالسير ان رسول الله لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية # وهو كما قال الشافعي وذلك ان المدينة كان فيما حولها ثلاثة اصناف من اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وكان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج وكانت قريظة حلفاء الاوس # فلما قدم النبي هادنهم ووادعهم مع اقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم ووعهدهم الذي كانوا عليه حتى انه عاهد اليهود على ان يعينوه اذا حارب ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة
قال محمد بن اسحق يعني في أول ما قدم النبي المدينة وكتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والانصار وادع فيه يهود وعاهدهم واقرهم على دينهم واحوالهم واشترط عليهم وشرط لهم # قال ابن اسحاق حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الاخنس بن شريق قال اخذت من ال عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال # كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امة واحدة دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم
يتعاقلون بينهم معاقلهم الاولى يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنوعوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ثم ذكر لبطون الأنصار بني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني النجار وبني عمرو ابن عوف وبني الاوس وبني النبيت مثل هذا الشرط # ثم قال وان المؤمنين لا يتركون مفرحا منهم ان يعطوه بالمعروف في فداء او عقل ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه إلى ان قال وان ذمة الله واحدة يجير عليهم ادناهم فان المؤمنين
بعضهم مولى بعض دون الناس وانه من تبعنا من يهود فان له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم وان سلم المؤمنين واحدة إلى ان قال وان اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين وان ليهود بني عوف ذمة من المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وانفسهم الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه واهل بيته وان اليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني الاوس مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه واهل بيته وان لحقته بطن من ثعلبه مثله وان لبني الشطبة مثل ما ليهود بني عوف وان موالي ثعلبه كانفسهم وان بطانة يهود كانفسهم
ثم يقول فيها وان الجار كالنفس غير مضار ولا اثم # وانه ما كان بين اهل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخشى فساده فان مرده إلى الله والى محمد وان يهود الاوس ومواليهم وانفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة مع البار المحسن من اهل هذه الصحيفة # وفيها اشياء اخر وهذه الصحيفة معروفة عند اهل العلم # روى مسلم في صحيحه عن جابر قال كتب رسول الله على كل بطن عقوله ثم كتب انه لا يحل أن يتولى رجل مسلم بغير اذنه # وقد بين فيها ان كل من تبع المسلمين من اليهود فان له النصر ومعنى الاتباع مسالمته وترك محاربته لا الاتباع في الدين كما بينه في اثناء الصحيفة فكل من اقام بالمدينة ومخالفيها غير محارب من يهود دخل في هذا
ثم بين ان ليهود كل بطن من الأنصار ذمة من المؤمنين ولم يكن بالمدينة أحد من اليهود الا وله حلف اما مع الاوس او مع بعض بطون الخزرج وكان بنو قينقاع وهم المجاورون بالمدينة وهم رهط عبد الله ابن سلام حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي وهم البطن الذين بدئ بهم في هذه الصحيفة # قال ابن اسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ان بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر واحد فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه فقام عبد الله بن أبي سلول إلى رسول الله حين امكنه الله منهم
فقال يا محمد احسن في موالي فاعرض عنه فادخل يده في جيب درع الرسول فقال رسول الله ارسلني وغضب حتى ان لوجه رسول الله ظلالا وقال ويحك ارسلني فقال والله لا ارسلك حتى تحسن في موالي اربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع قد منعوني من الاحمر والاسود تحصدهم في غداة واحدة اني والله لامرؤ اخشى الدوائر فقال رسول الله هم لك # اما النضير وقريظة فكانوا خارجا من المدينة وعهدهم مع رسول الله أشهر من ان يخفى على عالم # وهذه المقتولة والله اعلم كانت منهم أو من غيرهم فإنها كانت ذمية لأن لم يكن بالمدينة من قينقاع لان ظاهر القصة انها كانت بالمدينة وسواء كانت من اليهود الا ذمي فان اليهود كانوا ثلاثة اصناف وكلهم معاهد
وقال الواقدي حدثني عبد الله بن جعفر عن الحارث بن الفضيل عن محمد بن كعب القرظي قال لما قدم رسول الله المدينة وادعته يهود كلها فكتب بينه وبينها كتابا والحق رسول الله كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم امانا وشرط عليهم شروطا فكان فيما شرط ان لا يظاهروا عليه عدوا
فلما اصاب رسول الله اصحاب بدر وقدم المدينة بغت يهود وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله من العهد فارسل رسول الله اليهم فجمعهم ثم قال يامعشر يهود اسلموا فوالله انكم لتعلمون اني رسول الله قبل ان يوقع الله بكم مثل وقعة قريش فقالوا يا محمد لا يغرنك من لقيت انك لقيت اقواما اغمارا وانا والله اصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن انك لم تقاتل مثلنا # ثم ذكر حصارهم واجلاءهم إلى اذرعات وهم بنو قينقاع الذي كانوا بالمدينة # فقد ذكر ابن كعب مثل ما في الصحيفة وبين انه عاهد جميع اليهود وهذا مما لانعلم فيه تردد بين اهل العلم بسيرة النبي ومن تامل الاحاديث الماثورة والسيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورة # وانما ذكرنا هذا لان بعض المصنفين في الخلاف قال يحتمل ان هذه المراة ما كانت ذمية وقائل هذا ممن ليس له بالسنة كثير علم وانما
يعلم منها في الغالب ما يعلمه العامة ثم انه ابطل هذا الاحتمال فقال لو لم تكن ذمية لم يكن للاهدار معنى فاذا نقل السب والاهدار تعلق به كتعلق الرجم بالزنى والقطع بالسرقة وهذا صحيح وذلك ان في نفس الحديث ما يبين انها كانت ذمية من وجهين # احدهما انه قال ان يهودية كانت تشتم النبي فخنقها رجل فابطل دمها فرتب علي رضي الله عنه ابطال الدم على الشتم بحرف الفاء فعلم انه هو الموجب لابطال دمها لان تعليق الحكم بالوصف المناسب بحرف الفاء يدل على العلية وان كان ذلك في لفظ الصحابي كما لو قال زنى ماعز فرجم ونحو ذلك اذ لافرق فيما يرويه الصحابي عن النبي من امر ونهي وحكم وتعليل في الاحتجاج به بين ان يحكي لفظ النبي او يحكي بلفظه معنى النبي فاذا قال امرنا رسول الله بكذا او نهانا عن كذا او حكم بكذا او فعل لاجل كذا كان حجة لانه لا يقدم على ذلك الا بعد ان يعلمه العلم الذي يجوز له معه ان ينقله وتطرق الخطا إلى مثل ذلك لا يلتفت اليه كتطرق النسيان والسهو في الرواية وهذا مقرر في موضعه
ومما يوضح ذلك أن النبي لما ذكر له انها قتلت نشد الناس في امرها فلما ذكر له ذنبها ابطل دمها وهو اذا حكم بامر عقب حكاية حال حكيت له دل ذلك على ان ذلك المحكي هو الموجب لذلك الحكم لانه حكم حادث فلابد له من سبب حادث ولا سبب الا ما حكي لله وهو مناسب فتجب الاضافة اليه # الوجه الثاني ان نشدان النبي الناس في امرها ثم ابطال دمها دليل على انها كانت معصومة وان دمها كان قد انعقد سبب ضمانة وكان مضمونا لو لم يبطله النبي لانها لو كانت حربية لم ينشد الناس فيها ولم يحتج ان يبطل دمها ويهدره لان الابطال والاهدار لا يكون الا لدم قد انعقد له سبب الضمان الا ترى انه لما راى امراة مقتولة في بعض مغازيه انكر قتلها ونهى عن قتل النساء ولم يبطله ولم يهدره فانه كان في نفسه باطلا هدرا والمسلمون يعلمون ان دم الحربية غير مضمون بل هو هدر لم يكن لابطاله واهداره وجه وهذا ولله الحمد ظاهر
فاذا كان النبي قد عاهد المعاهدين اليهود عهدا بغير ضرب جزية عليهم ثم انه اهدر دم يهودية منهم لاجل سب النبي فان يهدر دم يهودية من اليهود الذين ضربت عليهم الجزية والزموا احكام الملة لاجل ذلك اولى واحرى ولو لم يكن قتلها جائرا لبين للرجل قبح ما فعل فانه قد قال من قتل نفسا معاهدة بغير حقها
لم يرح رائحة الجنة ولا وجب ضمانها او الكفارة كفارة قتل المعصوم فلما اهدر دمها علم انه كان مباحا # الحديث الثاني ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن
عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما ان اعمى كانت له أم ولد تشتم النبي وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه فاخذ المغول فوضعه في بطنها واتكا عليها فقتلها فلما اصبح ذكر ذلك للنبي فجمع الناس فقال انشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق الا قام فقام الاعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي فقال يا رسول الله انا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فانهاها فلا تنتهي وازجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فاخذت المغول فوضعته في بطنها واتكات عليه حتى قتلتها فقال النبي الا اشهدوا ان دمها
هدر رواه أبو داود والنسائي # والمغول بالغين المعجمة قال الخطابي شبيه المشمل ونصله دقيق ماض وكذلك قال غيره هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسوط والمشمل السيف القصير سمي بذلك لانه يشتمل عليه الرجل اي يغطيه بثوبه واشتقاق المغول من غالة الشيء واغتاله اذا اخذه من حيث لم يدر # وهذا الحديث مما استدل به الإمام احمد في رواية عبد الله قال ثنا
روح ثنا عثمان الشحام ثنا عكرمة مولى ابن عباس ان رجلا اعمى كانت له أم ولد تشتم النبي فقتلها فساله عنها فقال يا رسول الله انها كانت تشتمك فقال رسول الله # الا ان دم فلانة هدر # فهذه القصة يمكن ان تكون هي الاولى وعليه يدل كلام الإمام احمد لانه قيل له في رواية عبد الله في قتل الذمي اذا سب احاديث قال نعم منها حديث الاعمى الذي قتل المراة قال سمعتها تشتم النبي # ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين ويكون قد خنقها وبعج بطنها بالمغول او يكون كيفيه القتل غير محفوظة في احدى الروايتين
ويؤيد ذلك ان وقوع قصتين مثل هذه لاعميين كل منهما كانت المراة تحسن اليه وتكرر الشتم وكلاهما قتلها وحده وكلاهما نشد رسول الله فيها الناس بعيد في العادة وعلى هذا التقدير فالمقتولة يهودية كما جاء مفسرا في تلك الرواية وهذا قول القاضي أبي يعلي وغيره استدلوا بهذا الحديث على قتل الذمي ونقضه العهد وجعلوا الحديثين حكاية واقعة واحدة # ويمكن ان تكون هذه القصة غير تلك قال الخطابي فيه بيان ان ساب النبي يقتل وذلك ان السب منها لرسول الله ارتداد عن الدين وهذا دليل على انه اعتقد انها كانت مسلمة وليس في الحديث دليل على ذلك بل الظاهر انها كانت كافرة وكان العهد لها بملك المسلم اياها فان رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم اهل الذمة وهم اشد في ذلك من المعاهدين او بتزوج المسلم بها فان ازواج المسلمين من اهل الكتاب لهم حكم اهل الذمة في العصمة لان مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم الا عن ردة واختيار دين غير الإسلام ولو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك اياما طويلة ولم يكتف بمجرد نهيها عن السب بل يطلب منها تجديد الإسلام لا سيما ان كان يطؤها فان وطء المرتدة لا يجوز والاصل عدم تغير حالها وانها كانت باقية على دينها يوضح ذلك ان
الرجل لم يقل كفرت ولا ارتدت وانما ذكر مجرد السب والشتم فعلم انه لم يصدر منها قدر زائد على السب والشتم من انتقال من دين إلى دين او نحو ذلك # وهذه المراة اما ان تكون كانت زوجة لهذا الرجل او مملوكه له وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزا لبين النبي له ان قتلها كان محرما وان دمها كان معصوما ولاوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم والدية ان لم تكن مملوكه له فلما قال اشهدوا ان دمها هدر والهدر الذي لا يضمن بقود ولادية ولا كفارة علم انه كان مباحا مع كونها كانت ذمية فعلم ان السب اباح دمها لا سيما والنبي انما اهدر دمها عقب اخباره بانها قتلت لاجل السب فعلم انه الموجب لذلك والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك # الحديث الثالث مااحتج به الشافعي على ان الذمي اذا سب قتل وبرئت منه الذمه وهو قصة كعب بن الاشرف اليهودي # قال الخطابي قال الشافعي يقتل الذمي اذا سب النبي وتبرامنه الذمة واحتج بذلك بخبر كعب بن الاشرف وقال
الشافعي في الام لم يكن بحضرة النبي ولا قربة مشرك من اهل الكتاب الا يهود المدينة وكانوا حلفاء الأنصار ولم تكن الأنصار اجمعت أول ماقدم رسول الله إسلاما فوادعت يهود رسول الله ولم تخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر فتكلم بعضها بعداوته والتحريض عليه فقتل رسول الله فيهم ومعلوم انه انما اراد بهذا الكلام كعب بن الاشرف والقصة مشهورة مستفيضة وقد رواها عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله من لكعب بن الاشرف فانه قد اذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمه فقال انا يارسول الله اتحب ان اقتله قال نعم قال ائذن لي ان اقول شيئا قال قل قال فاتاه وذكره ما بينهم قال ان هذا الرجل قد اراد الصدقة وعنانا
صولما سمعه قال وايضا والله لتملنه وقال انا قد اتبعناه الان ونكره ان ندعه حتى ننظر إلى اي شيء يصير امره قال وقد اردت ان تسلفني سلفا قال فما ترهنني نساءكم قال انت اجمل العرب انرهنك نساءنا قال ترهنوني اولادكم قال يسب ابن احدانا فيقال رهنت في وسقين من تمر ولكن نرهنك الأمة يعني السلاح قال نعم وواعده ان ياتيه بالحارث وابي عبس بن جبر وعباد بن بشر فجاؤوا فدعوه ليلا فنزل اليهم قال سفيان قال غير عمروقالت له امراته اني لاسمع صوتا كانه
صوت دم قال انما هذا محمد ورضيعه أبو نائله ان الكريم لو دعي إلى طعنه ليلا لاجاب قال محمد اي اذا جاء فسوف امد يدي إلى راسه فاذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح قالوا نجد منك ريح الطيب قال نعم تحتي فلانه اعطر نساء العرب قال افتاذن لي ان اشم منه قال نعم فشم ثم قال اتاذن لي ان اعود قال فاستمكن منه ثم قال دونك فاقتلوه متفق عليه # وروى ابن أبي اويس عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمه عن ابيه عن جابر بن عبد الله ان كعب بن الاشرف عاهد الرسول
الله ان لا نعين عليه ولا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنا لمعادات النبي فكان أول ما خزع عنه قوله % اذاهب انت لم تحلل بمرقبة % وتارك انت امر الفضل بالحرم %
في ابيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله إلى قتله وهذا محفوظ عن ابن أبي اويس رواه الخطابي وغيره وقال قوله خزع معناه قطع عهده وفي رواية غير الخطابي فخزع منه هجائه له فامر بقتله والخزع القطع يقال خزع فلان عن اصحابه خزعا اي انقطع وتخلف ومنه سمية خزاعة لانهم انخزعوا عن اصحابهم واقاموا بمكة فعلى الفظ الاول يكون التقدير ان قوله هذا هو أول خزعة عن النبي اي أول انقطاعه عنه بنقض العهد وعلى الثاني قيل معناه قطع هجاه للنبي منه يعني انه نقض عهده وذمته وقيل معناه خزع من النبي معناه هجاه اي نال منه وشعث منه ووضع منه
وذكر اهل المغازي والتفسير مثل محمد بن اسحاق ان كعب بن الاشرف كان موادعا للنبي في جملة من وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت امه من بني النضير قالوا فلما قتلوا اهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى انزل الله فيه ^ الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين امنوا سبيلا ^ # ثم لما رجع إلى المدينة اخذ ينشد الاشعار يهجو بها النبي وشبب بنساء المسلمين حتى اذاهم حتى قال النبي من لكعب ابن الاشرف فانه قد اذى الله ورسوله وذكروا قصة قتله مبسوطة
وقال الواقدي حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رمان ومعمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وابراهيم بن جعفر عن ابيه عن جابر وذكر القصه إلى قتله قال ففزعت يهود ومن معها من المشركين فجاوا إلى النبي حين اصبحوا فقالوا
قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه فقال رسول الله # انه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رايه ما اغتيل ولكنه نال منا الاذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف # ودعاهم رسول الله إلى ان يكتب بينهم كتابا ينتهون الي مافيه فكتبوا بينهم وبينه كتابا تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الاشرف # والاستدلال بقتل كعب بن اشرف من وجهين احداهما انه كان معاهدا مهادنا وهذا لا خلاف فيه بين اهل العلم بالمغازي والسير وهو عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة
ومما لا ريب فيه عند اهل العلم ما قدمناه من ان النبي عاهد لما قدم المدينة جميع اصناف اليهود بني قينقاع والنضير وقريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الاشرف ثم نقض عهده بنو النضير ثم بنو قريظه وكان ابن الاشرف من بني النضير وامرهم ظاهر في انهم كانوا مصالحين للنبي وانما نقضوا العهد لما خرج اليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمر بن امية الضمري وكان ذلك بعد مقتل كعب بن الاشرف وقد ذكرنا الرواية الخاصة ان كعب بن الاشرف كان معاهد للنبي ثم ان النبي جعله ناقضا للعهد بهجائه واذاه بلسانه خاصة # والدليل على انه انما نقض العهد بذلك ان النبي قال من لكعب بن الاشرف فانه قد اذى الله ورسوله فعلل ندب الناس له باذاه والاذى المطلق هو باللسان كما قال سبحانه ^ ولتسمعن من
الذين اتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا اذى كثيرا ^ وقال ^ لن يضروكم الا اذى ^ وقال ^ ومنهم اللذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن ^ وقال ^ ولا تكونوا كالذين اذوا موسى فبراه الله مما قالوا ^ الاية وقال ^ ولا مستانسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي ^ إلى قوله ^ وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابدا ^ الاية # ثم ذكر الصلاة عليه والتسليم خبرا وامرا وذلك من اعمال اللسان ثم قال ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله ^ إلى قوله ^ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ^ # وقال النبي فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وانا الدهر وهذا كثير # وقد تقدم ان الاذى اسم لقليل الشر وخفيف المكروه لخلاف الضرر فلذلك اطلق على القول لانه لايضر المؤذي في الحقيقة
وايضا فانه جعل مطلق اذى الله ورسوله موجبا لقتل رجل معاهد ومعلوم ان سب الله وسب ورسوله اذى لله ولرسوله واذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على ان ذلك الوصف علة لذلك الحكم لا سيما اذا كان مناسبا وذلك يدل على ان اذى الله ورسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده باذى الله ورسوله والسب من اذى الله ورسوله باتفاق المسلمين بل هو اخص انواع الاذى # وايضا فقد قدمنا في حديث جابر ان أول ما نقض به العهد قصيدته التي انشاها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله وان رسول الله عندما هجاه بهذه القصيدة ندب إلى قتله وهذا وحده دليل على انه انما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة # وما ذكره الواقدي عن اشياخه يوضح ذلك ويؤيده وان كان الواقدي لا يحتج به اذا انفرد لكن لا ريب في علمه في المغازي واستعلام كثير من تفاصيلها من جهته ولم نذكر عنه الا ما اسندناه عن غيره # فقوله لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رايه ما اغتيل ولكنه نال منا الاذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف نص في انه انما انتقض عهد ابن الاشرف بالهجاء
ونحوه وان من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف وحديث جابر المسند من الطريقين يوافق هذا وعليه العمدة في الاحتجاج # وايضا فانه لما ذهب إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يندب النبي المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله والحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم ان ذلك الهجاء والاذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده ولقتاله واذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن بالذمي الذي يعطي الجزية ويلزم احكام الملة # فان قيل ان ابن الاشرف كان قد اتى بغير السب والهجاء فروى الإمام احمد قال ثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال لما قدم كعب بن الاشرف مكة قالت
قريش الاترى إلى هذا الصنبر المنبتر من قومه يزعم انه خير منا ونحن اهل الحجيج واهل السدانة واهل السقاية قال فنزلت فيهم ^ ان شانئك هو الابتر ^ قال وانزلت فيه ^ الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين امنوا سبيلا ^ إلى قوله ^ نصيرا ^ # وقال ثنا عبد الرازق قال قال معمر اخبرني
ايوب عن عكرمة ان كعب بن الاشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي وامرهم ان يغزوه وقال لهم انا معكم فقالوا انكم اهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نامن ان يكون مكرا منكم فان اردت ان نخرج معك فاسجد للهذين الصنمين وامن بهما ففعل ثم قالوا له انحن اهدى أم محمد نحن نصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بالبيت وننحر الكوم ونسقي اللبن على الماء ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده قال بل انتم خير واهدى قال فنزلت فيه ^ الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين امنوا سبيلا ^
وقال ثنا عبد الرزاق ثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال ان اهل مكة قالوا لكعب بن الاشرف لما قدم عليهم ديننا خير أم دين محمد قال اعرضوا علي دينكم قالوا نعمر بيت ربنا وننحر الكوماء ونسقي الحاج الماء ونصل الرحم ونقري الضيف قال دينكم خير من دين محمد فانزل الله تعالى هذه الاية
قال موسى بن عقبة عن الزهري كان كعب بن الاشرف اليهودي وهو أحد بني النضير او هو فيهم قد اذى رسول الله بالهجاء وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان اناشدك اديننا احب إلى الله أم دين محمد واصحابه واينا اهدى في رايك واقرب إلى الحق فانا نطعم الجزور الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال قال ابن الاشرف انتم اهدى منهم سبيلال ثم خرج مقبلا حتى اجمع راي المشركين على قتال رسول الله معلنا بعداوة رسول الله وبهجائه فقال رسول الله # من لنا من ابن الاشرف فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا
قد خرج إلى قريش فاجمعهم على قتالنا وقد اخبرني الله بذلك ثم قدم على اخبث ما كان ينتظر قريشا ان تقدم فيقاتلنا معهم ثم قرا رسول الله على المسلمين ما نزل فيه ان كان كذلك والله اعلم قال الله عز وجل ^ الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب ^ إلى قوله ^ سبيلا ^ وايات معها فيه وفي قريش # وذكر لنا رسول الله قال اللهم اكفني ابن الاشرف بما شئت فقال له محمد بن مسلمة انا يا رسول الله اقتله وذكر القصة في قتله إلى اخرها ثم قال فقتل الله ابن الاشرف بعداوته لله ورسوله وهجائه اياه وتاليبه عليه قريشا واعلانه بذلك # وقال محمد بن اسحاق كان من حديث كعب بن الاشرف انه لما
اصيب اصحاب بدر وقدم زيد بن حارثه إلى اهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى اهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى عليه وقتل من قتل من المشركين كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظفري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وصالح بن أبي إمامه بن
سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا كان كعب بن الاشرف من بني طيء ثم أحد بني نبهان وكانت امه من بني النضير فقال حين بلغه الخبر احق هذا اترون ان محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان يعني زيدا وعبد الله بن رواحه فهؤلاء اشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمدا اصاب هؤلاء القوم لبطن الارض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة ونزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن اميه فانزلته واكرمته وجعل يحرض على رسول الله وينشد الاشعار ويبكي اصحاب القليب من قريش الذين اصيبوا ببدر وذكر شعرا وما رد عليه حسان بن ثابت وغيره
ثم رجع كعب بن الاشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى اذاهم فقال رسول الله كما حدثني عبد الله بن أبي المغيث من لي من ابن الاشرف فقال محمد بن مسلمة انا لك به يا رسول الله انا اقتله وذكر القصة # وقال الواقدي حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان ومعمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وابراهيم بن جعفر عن ابيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا ابن الاشرف كان شاعرا وكان يهجو النبي واصحابه ويحرض عليهم كفار قريش في شعره وكان رسول الله قدم المدينة واهلها اخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم اهل الحلقة والحصون ومنهم حلفاء للحيين جميعا الاوس والخزرج فاراد
رسول الله حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وابوه مشركا فكان المشركون واليهود من اهل المدينة يؤذون رسول الله واصحابه اذى شديدا فامر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم وفيهم انزل ^ ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور ^ وفيهم انزل الله ^ ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم ^ الاية # فلما ابى ابن الاشرف ان ينزع عن اذى رسول الله واذى المسلمين وقد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين واسر من اسر منهم فراى الاسرى مقرنين كبت وذل ثم قال لقومه ويلكم والله لبطن الارض خير لكم من ظهرها اليوم هؤلاء سراة الناس قد قتلوا واسروا فما عندكم قالوا عداوته ما حيينا قال وما انتم وقد وطيء قومه واصابهم ولكني اخرج إلى قريش فاحضها وابكي قتلاها لعلهم ينتدبون فاخرج معهم فخرج حتى
قدم مكة ووضع رحلة عند أبي وداعة بن أبي صبيرة السهمي وتحته عاتكة بنت اسيد بن أبي العيص فجعل يرثي قريشا وذكر ما رثاهم به من الشعر وما اجابه به حسان فاخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به اهل البيت الذي نزل فيهم قال فلما بلغها هجاؤه نبذت رحلة وقالت ما لنا ولهذا اليهودي الا ترى ما يصنع بنا حسان فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله حسانا فقال ابن الاشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوا حتى نبذ رحلة فلما لم يجد ماوى قدم المدينة فلما بلغ النبي قدوم ابن الاشرف قال اللهم اكفيني ابن الاشرف بما شئت في اعلانه الشر وقوله الاشعار وقال رسول الله من لي من ابن الاشرف فقد آذاي فقال محمد بن مسلمة انا يارسول الله وانا اقتله قال فافعل وذكر الحديث # فقد اجتمع لابن الاشرف ذنوب انه رثى قتلى قريش وحضهم على محاربة النبي وواطاهم على ذلك واعانهم على محاربته باخباره ان دينهم خير من دينه وهجا النبي والمؤمنين
قلنا الجواب من وجوه # احدها ان النبي لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة وقال ما قال هناك وانما ندب إلى قتله لما قدم وهجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي ثم بين ان أول ما قطع به العهد تلك الابيات التي قالها بعد الرجوع وان النبي حينئذ ندب إلى قتله وكذلك في حديث موسى بن عقبة من لنا من ابن الاشرف فانه قد استعلن بعداوتنا وهجائنا # ويؤيد ذلك شيئان # احدهما ان سفيان بن عيينه روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال جاء حيي بن اخطب وكعب بن الاشرف إلى اهل مكة فقالوا انتم اهل الكتاب واهل العلم فاخبرونا عنا وعن محمد فقالوا ما انتم وما محمد فقالوا نصل الارحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد
صنبور قطع ارحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو فقالوا بل انتم خير واهدى سبيلا فانزل الله تعالى ^ الم تر إلى الذين اتوا نصيبا من الكتاب ^ إلى قوله ^ اولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ^ # وكذلك قال قتادة ذكر لنا ان هذه الاية نزلت في كعب بن الاشرف وحيي بن اخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون نحن اهدى أم محمد واصحابه فانا اهل السدانة واهل السقاية واهل الحرم فقالا انتم اهدى من محمد واصحابه وهما يعلمان انهما كاذبان انما محلهما على ذلك حسد محمد واصحابه فانزل الله تعالى فيهم ^ اولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ^ فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما ان محمدا يزعم انه قد نزل فيكما كذا وكذا قال صدق والله ما حملنا على ذلك الا حسده وبغضه # وهذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما ان كلا الرجلين ذهبا إلى مكة وقالا ما قالا ثم انهما قدما فندب النبي إلى قتل ابن الاشرف وامسك عن ابن اخطب حتى نقض بنو النضير العهد فاجلاهم النبي
فلحق بخيبر ثم جمع عليه الاحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم ان الامر الذي اتياه بمكة لم يكن هو الموجب للندب إلى قتل ابن الاشرف وانما هو ما اختص به ابن الاشرف من الهجاء ونحوه وان كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضد لكن مجرد الاذى لله ورسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي بقوله من لكعب بن الاشرف فانه قد آذى الله ورسوله وكما بينه جابر في حديثه # الوجه الثاني ان ابن أبي اويس قال حدثني إبراهيم بن جعفر الحارثي عن ابيه عن جابر قال لما كان من امر النبي وبني قريظة كذا فيه واحسبه وبني قينقاع اعتزل كعب بن الاشرف ولحق بمكة وكان فيها وقال لا اعين عليه ولا اقاتله فقيل له بمكة اديننا خير أم دين محمد واصحابه قال دينكم خير واقدم دين محمد حديث فهذا دليل على انه لم يظهر محاربه # الجواب الثاني ان جميع ما اتاه ابن الاشرف انما هو اذى باللسان فان مرثيته لقتلى المشركين وتحضيضه وسبه وهجاءه وطعنه في دين
الإسلام وتفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان ولم يعمل عملا فيه محاربه ومن نازعنا في سب النبي ونحوه فهو في تفضيل دين الكفار وحضهم باللسان على قتل المسلمين اشد منازعه لان الذمي اذا تجسس لاهل الحرب واخبرهم بعورات المسلمين ودعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده ايضا عندنا كما ينتقض عهد الساب ومن قال ان الساب لا ينتقض عهده فانه يقول لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار ومطالعتهم باخبار المسلمين بطريق الاولى عندهم وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي ايضا على خلاف بين اصحابه وابن الاشرف لم يوجد منه الا الاذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل ونحن نقول ان ذلك كله نقض للعهد # والجواب الثالث ان تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي بلا ريب فان كون الشيء مفضولا احسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فان كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بالطريق الاولى واما مرثيته للقتلى وحضهم على اخذ ثارهم فاكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة وقريش كانوا قد اجمعوا على محاربة النبي عقب بدر
وارصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الاشرف نعم مرثيته وتفضيله ربما زادهم غيظا ومحاربة لكن سبه للنبي وهجاءه له ولدينه ايضا مما يهيجهم على المحاربة ويغريهم به فعلم ان الهجاء فيه من الفساد مافي غيره من الكلام وابلغ فاذا كان غيره من الكلام نقضا فهو ان يكون نقضا اولى ولهذا قتل النبي جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه ويهجونه مع عفوه عما كانت تعين عليه وتحض على قتاله # الجواب الرابع انما ذكره حجة لنا من وجه اخر وذلك انه قد اشتهر عند اهل العلم من وجوه كثيرة ان قوله تعالى ^ الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب ^ نزلت في كعب بن الاشرف بما قاله لقريش وقد اخبر الله سبحانه انه لعنه وان من لعنه فلن تجد له نصيرا وذلك دليل على انه لا عهد له لانه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم ان مثل هذا الكلام يوجب انتقاض عهده وعدم ناصره فكيف بما هو اغلظ منه من شتم وسب وانما لم يجعله النبي والله اعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لانه لم يعلن بهذا
الكلام ولم يجهر به وانما اعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم بالاحاديث ولم يكن النبي لياخذ احدا من المسلمين والمعاهدين الا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة واعلن الهجاء والعداوة استحق ان يقتل لظهور اذاه وثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فانه ينبذ اليه العهد اما اجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى تظهر المحاربة وتثبت عليه # فان قيل كعب بن الاشرف سب النبي بالهجاء والشعر كلام موزون يحفظ ويروى وينشد بالاصوات والالحان ويشتهر بين الناس وذلك له من التاثير في الاذى والصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور ولذلك كان النبي يامر حسان ان يهجوهم ويقول لهو انكى فيهم من النبل فيؤثر هجاءه فيهم اثرا عظيما يمتنعون به من اشياء لايمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور اضعاف الشعر # وايضا فان كعب بن الاشرف وام الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي واذاه وكثر والشيء اذا كثر واستمر صار له حال اخرى ليست له اذا انفرد وقد حكيتم ان الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل
هذه الجريمة وان لم يجيزوا قتل من لم يتكرر منه فاذن مادل عليه الحديث يمكن المخالف ان يقول به # قلنا اولا إن هذا يفيدنا ان السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده ويبقى الكلام في الناقض للعهد هل هو نوع خاص من السب وهو ما كثر او غلظ او مطلق السب هذا نظر اخر فما كان مثل هذا السب وجب ان يقال انه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لاحد ان يخالف نص السنة فلو زعم زاعم ان شيئا من كلام الذمي واذاه يبح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لاحد # وقلنا ثانيا لا ريب ان الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض انواعه صفة او قدرا او صفة وقدرا فانه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والد او ولد عالم صالح ولا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين ابوين صالحين وليست الجناية في الاوقات والاماكن الاحوال المشرفة كاحرم والاحرام والشهر الحرام كالجناية في غير ذلك وكذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات اذا تغلظ القتل باحد هذه الاسباب وقال النبي وقد قيل له اي الذنب أعظم قال ان تجعل لله ندا وهو خالقك قيل ثم اي قال ان تقتل ولدك
خشية ان يطعم معك قيل له ثم اي قال ثم ان تزاني حليلة جارك # ولا شك ان من قطع الطريق مرات متعدده وسفك دماء خلق من المسلمين وكثر منه اخذ الاموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يفعله الا مرة واحدة ولا ريب ان من أكثر من سب النبي او نظم القصائد في سبه فان جرمه اغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث يجب ان تكون اقامة الحد عليه او كد والانتصار لرسول الله اوجب وان المقل لو كان اهلا ان يعفى عنه لم يكن هذا اهلا لذلك ولكن هذا الحديث كغيره من الاحاديث يدل على أن جنس الاذى
لله ورسوله ومطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده وان كان بعض الاشخاص اغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا او قدرا وذلك من وجوه # احداها ان النبي قال من لكعب بن الاشرف فانه قد اذى الله ورسوله فجعل علة الندب إلى قتله انه اذى الله ورسوله واذى الله ورسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع ولا بقدر فيجب ان يكون مطلق اذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي وغيره وقليل السب وكثيره ومنظومه ومنثوره اذى بلا ريب فيتعلق به الحكم وهو امر الله ورسوله بقتله ولو لم يرد هذا المعنى لقال من لكعب ابن الاشرف فانه قد بالغ في اذى الله ورسوله او قد أكثر من اذى الله ورسوله او قد دام على اذى الله ورسوله وهو الذي اوتي جوامع الكلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى ولم يخرج من بين شفتيه الا حق في غضبه ورضاه # وكذلك قوله في الحديث الاخر انه نال منا الاذى وهجانا بالشعر ولا يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف ولم يقيده بالكثره
الثاني انه اذاه بهجائه المنظوم واليهودية بكلام منثور وكلاهما اهدر دمه فعلم ان النظم ليس له تاثير في اصل الحكم اذ لم يخص ذلك الناظم والوصف اذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التاثير فلا يجعل جزاء من العلة ولا يجوز ان يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لان ذلك انما يكون اذا لم تكن احداهما مندرجة في الاخرى كالقتل والزنى واما اذا اندرجت احداهما في الاخرى فالوصف الاعم هو العلة والاخص عديم التاثير # الوجه الثالث ان الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله وكثيره وغليظه وخفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا او فعلا كالردة والزنى والمحاربة ونحو ذلك وهذا هو قياس الاصول فمن زعم ان من الاقوال او الافعال ما يبيح الدم اذا كثر ولا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الاصول وليس له ذلك الا بنص يكون اصلا بنفسه ولا نص يدل على اباحة القتل في الكثير دون القليل وما ذهب اليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل والفاحشة في الدبر دون من قل انما هو حكاية مذهب والكلام في الجميع واحد # ثم انه قد صح عن النبي انه رضخ راس يهودي بين حجرين
لانه فعل ذلك بجاريه من الأنصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع انه لم يتكرر منه وقال في الذي يعمل عمل قوم لوط اقتلوا الفاعل والمفعول به ولم يعتبر التكرروكذلك اصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك اما رجما او حرقا او غير ذلك مع عدم التكرر واذا كانت الاصول المنصوصة او المجمع عليها مستوية في اباحة الدم بين المرة الواحدة والمرات المتعدده كان الفرق بينهما في اباحة الدم اثبات حكم بلا اصل ولا نضير بل على خلاف الاصول الكلية وذلك غير جائز
يوضح ذلك ان ما ينقض الايمان من الاقوال يستوي فيه واحده وكثيره وان لم يصرح بالكفر كما لو كفر باية واحدة او بفريضة ظاهرة او سب الرسول مرة واحدة فانه كما لو صرح بتكذيب الرسول وكذلك ما ينقض الايمان من الاقوال لو صرح به وقال قد نقضت العهد وبرئت من ذمتكم انتقض عهده بذلك وان لم يكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب والطعن في الدين ونحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير # الوجه الرابع انه اذا أكثر من هذه الاقوال والافعال فاما ان يقتل لان جنسها مبيح للدم او لان المبيح قدر مخصوص فان كان الاول فهو المطلوب وان كان الثاني فماحد ذلك المقدار المبيح للدم وليس لاحد ان يحد في ذلك حدا الا بنص او إجماع او قياس عند من يرى القياس في المقدرات والثلاثة منتفيه في مثل هذا فانه ليس في الاصول قول او فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص ولا يبيحه اقل منه ولا ينتقضته هذا الا بالاقرار في الزنى فانه لا يثبت الا باربع مرات عند من يقول به او القتل بالقسامة فانه لا يثبت الا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها او رجم الملاعنه فانه لا يثبت الا بعد ان يشهد الزوج اربع مرات عند من يرى انها ترجم بشهادة الزوج اذا نكلت لان المبيح للدم ليس هو الاقرار ولا الايمان وانما المبيح فعل الزنى او فعل القتل وانما الاقرار والايمان حجة ودليل على ثبوت ذلك ونحن لم ننازع في ان الحجج الشرعية لها نصب محدودة واني قلنا ان نفس القول او العمل
المبيح للدم لا نصاب له في الشرع وانما الحكم معلق بجنسه # الوجه الخامس ان القتل عند كثرة هذه الاشياء اما ان يكون حدا يجب فعله او تعزيزا يرجع إلى راي الإمام فان كان الاول لابد من تحديد موجبه ولا حد له الا تعليقه بالجنس اذ القول بما سوى ذلك تحكم وان كان الثاني فليس في الاصول تعزيز بالقتل فلا يجوز اثباته الا بدليل يخصه والعمومات الواردة في ذلك مثل قوله لا يحل دم امرء مسلم الا باحدى ثلاث يدل على ذلك ايضا # الوجه الثاني من الاستدلال به ان النفر الخمسة الذين قتلوه من المسلمين محمد بن مسلمة وابا نائله وعباد بن بشر
والحارث بن اوس وابا عبس بن جبر قد اذن لهم النبي ان يغتالوه ويخدعوه بكلام يظهرون به انهم قد امنوه ووافقوه ثم يقتلوه ومن المعلوم ان من اظهر لكافر امانا لم يجز قتله بعد ذلك لاجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي ان المسلم امنه وكلمه على ذلك صار مستامنا قال النبي فيما رواه عنه عمرو بن الحمق من امن رجل على دمه وماله ثم قتله فانا منه بريء وان كان المقتول كافرا رواه الإمام احمد وابن ماجه # وعن سليمان بن صرد عن النبي قال اذا امنك الرجل على
دمه وماله فلا تقتله رواه ابن ماجه وعن أبي هريره عن النبي قال الايمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن رواه أبو داود وغيره # وقد زعم الخطابي انهم انما فتكوابه لانه كان قد خلع الامان ونقض العهد قبل هذا وزعم ان مثل هذا جائز في هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والاغارة عليهم في اوقات الغرة لكن يقال هذا الكلام الذي كلموه به صار مستامنا وادنى احواله ان يكون له شبهة
امان مثلل ذلك لايجوز قتله بمجرد الكفر فان الامان يعصم دم الحربي ويصير مستامنا باقل من هذا كما هو معروف في مواضعه وانما قتلوه لاجل هجائه واذاه لله ورسوله ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بامان ولا بعهد كما لو امن المسلم من وجب قتله لاجل قطع الطريق ومحابرة الله ورسوله والسعي في الارض بالفساد الموجب للقتل او امن من وجب قتله لاجل زناه او امن من وجب قتله لاجل الردة او لاجل ترك اركان الإسلام ونحو ذلك ولا يجوز ان يعقد له عقد عهد سواء كان عقد امان او عقد هدنة او عقد ذمة لان قتله حد من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافرا حربيا كما سياتي واما الاغارة والبيات فليس هناك قول او فعل صاروا به امنين ولا اعتقدوا انهم قد امنوا بخلاف قصة كعب بن الاشرف فثبت ان اذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يحقن معه الدم بالامان فلأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة المؤقتة بطريق الاولى فان الامان يجوز عقده لكل كافر ويعقده كل مسلم ولا يشترط على المستامن شئ من الشروط والذمة لا يعقدها الا الإمام او نائبه ولا تعقد الا بشروط كثيرة تشترط على اهل الذمة من التزام الصغار ونحوه وقد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الاشرف فظن ان دم مثل هذا يعصم بذمه متقدمة او بظاهر امان وذلك نظير الشبهه التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن
ان العهد لا ينتقد بذلك فروى ابن وهب اخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان بنى سعيد الثوري عن ابيه عن عباية قال ذكر قتل ابن الاشرف عند معاوية فقال ابن يامين كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة يا معاوية ايغدر عندك رسول الله ثم لا تنكر والله لا يظلني وايك سقف بيت ابدا ولا يخلوا لي دم هذا الا قتلته
وقال الواقدي حدثني إبراهيم بن جعفر عن ابيه قال قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النظيري كيف كان قتل ابن الاشرف قال ابن يامين كان غدرا ومحمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال يا مروان ايغدر رسول الله عندك والله ما قتلناه الا بامر رسول الله والله لا يؤويني واياك سقف بيت الا المسجد واما انت ياابن يامين فالله علي ان افلت وقدرت عليك وفي يدي سيف الا ضربت به راسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريضه حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر والا لم ينزل فبين محمد في جنازة وابن يامين بالبقيع فراى محمد نعشا عليه جرائد رطبة لامراءة جاء فحله فقام اليه الناس فقالوا يا أبا عبد الرحمن ما تصنع نحن نكفيك فقام اليه فلم يزل بضربه بها جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه وراسه حتى لم يترك به مصحا ثم ارسله ولا طباخ به ثم قال والله لو قدرت على السيف لضربتك به
فان قيل فاذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن اسحاق قال حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن ابيها محيصة ان رسول الله قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلبسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود اذا ذاك لم يسلم وكان اسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول اي عدو الله قتلته اما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله ان كان لاول إسلام حويصة فقال محيصة فقلت له والله لقد امرني بقتله من لو امرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة والله ان ديننا بلغ منك هذا لعجب
وقال الواقدي بالاسانيد المتقدمة قالوا فلما اصبح رسول الله في الليلة التي قتل فيها ابن الاشرف قال رسول الله من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطلقوا وخافوا ان يبيتوا كما بيت ابن الاشرف وذكر قتل ابن سنينة إلى ان قال ففزعت يهود ومن معها من المشركين وساق القصة كما تقدم عنه # فان هذا يدل على انهم لم يكونوا موادعين والا لما امر بقتل من صودف منهم ويدل على ان العهد الذي كتبه النبي بينه وبين اليهود كان بعد قتل ابن الاشرف وحين اذن فلا يكون ابن الاشرف معاهدا # قلنا انما امر النبي بقتل من ظفر به منهم لان كعب بن الاشرف كان من ساداتهم وقد تقدم انه قال ما عندكم يعني في النبي قالوا عداوته ما حيينا وكانوا مقيمين خارج المدينة
فعظم عليهم قتله وكان مما يهيجهم على المحاربة واظهار نقض العهد فامر النبي بقتل من جاء منهم لان مجيئه دليل على نقض العهد وانتصاره للمقتول وذبه عنه واما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم لانه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي ولم يحاربهم حتى اظهروا عداوته بعد ذلك واما هذا الكتاب فهو شئ ذكره الواقدي وحده # وقد ذكر هو ايضا ان قتل ابن الاشرف في شهر ربيع الاول سنة ثلاث وان غزوة بني قنيقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر # وذكر ان الكتاب الذي وادع فيه النبي اليهود كان كانت لما قدم المدينة قبل بدر وعلى هذا فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لابني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم غير الكتاب الاول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود لاجل ما كانوا قد ارادوا من اظهار العداوة وقد تقدم ان ابن الاشرف كان معاهدا وتقدم ايضا ان النبي
كتب الكتاب لما قدم المدينة في اوائل الامر والقصة تدل على ذلك والا لما جاء اليهود إلى النبي وشكوا اليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله وكلهم ذكر ان قتل ابن الاشرف كان بعد بدر وان معاهدة النبي لليهود كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي # قال ابن اسحاق وكان فيما بين ذلك من غزو رسول الله امر بني قينقاع يعني فيما بين بدر وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الاولى وقد ذكر ان بني قينقاع هم أول من حارب ونقض العهد # الحديث الرابع ما روى عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال قال رسول الله من سب نبيا قتل ومن سب اصحابه جلد
رواه أبو محمد الخلال وابو القاسم الازجي ورواه أبو ذر الهروي ولفظه من سب نبيا فاقتلوه ومن سب اصحابي فاجلدوه وهذا الحديث قد رواه عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن
زباله قال ثنا عبد الله بن موسى بن جعفر عن علي بن موسى عن ابيه عن جده عن محمد بن علي بن الحسين عن ابيه عن الحسين بن
علي عن ابيه وفي القلب منه حزازه فان هذا الاسناد الشريف قد ركب عليه متون منكرة والمحدث به عن اهل البيت ضعيف فان كان محفوظا فهو دليل على وجوب قتل من سب نبيا من الانبياء وظاهره يدل على انه يقتل من غير استتابة وان القتل حد له # الحديث الخامس ما روى عبد الله بن قدامى عن أبي برزة قال اغلظ رجل لابي بكر الصديق رضى الله عنه فقلت اقتله فانتهرني وقال ليس هذا لاحد بعد رسول الله رواه النسائي من حديث شعبه عن
توبة العنبري عنه وفي رواية لابي بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه عن أبي برزة ان رجلا شتم أبا بكر فقلت يا خليفة رسول الله الا اضرب عنقه فقال ويحك او ويلك ما كانت لاحد بعد رسول الله # ورواه أبو داود في سننه باسناد صحيح عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة قال كنت عند أبي بكر رضى الله عنه فتغيض على رجل فاشتد عليه فقلت تاذن لي يا خليفة رسول الله اضرب عنقه قال فاذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فارسل الي فقال ما الذي قلت انفا قلت ائذن لي اضرب عنقه قال اكنت فاعلا لو امرتك
قلت نعم قال لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله # قال أبو داود في مسائله سمعت أبا عبد الله يسال عن حديث أبي بكر ما كانت لاحد بعد رسول الله فقال لم يكن لابي بكر ان يقتل رجلا الا باحدى ثلاث وفي رواية باحدى الثلاث التي قالها رسول الله كفر بعد ايمان وزنى بعد احصان وقتل نفس بغير نفس والنبي كان له ان يقتل # وقد استدل به على جواز قتل ساب النبي جماعات من العلماء منهم أبو داود واسماعيل بن اسحاق القاضي وابو بكر عبد العزيز والقاضي
ابو يعلى وغيرهم من العلماء وذلك لان أبا برزة لما راى الرجل قد شتم أبا بكر واغلظ له حتى تغيض أبو بكر استاذنه في ان يقتله لذلك واخبره انه لو امره لقتله فقال أبو بكر ليس هذا لاحد بعد النبي # فعلم ان النبي كان له ان يقتل من سبه ومن اغلظ له وان له ان يامر بقتل من لا يعلم الناس منه سببا يبيح دمه وعلى الناس ان يطيعوه في ذلك لانه لا يامر الا بما امر الله به ولا يامر بمعصية الله قط بل من اطاعه فقد اطاع الله # فقد تضمن الحديث خصيصتين لرسول الله # احداهما انه يطاع في كل من امر بقتله # والثاية ان له ان يقتل من شتمه واغلظ عليه # وهذا المعنى الثاني الذي كان لله باقي في حقه بعد موته فكل من شتمه او اغلظ في حقه كان قتله جائزا بل ذلك بعد موته او كد واوكد لان حرمته بعد موته اكمل والتساهل في عرضه بعد موته غير ممكن # وهذا الحديث يفيد ان سبه في الجملة يبيح القتل ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم
الحديث السادس قصة العصماء بنت مروان ما روى عن ابن عباس قال هجت امراة من خطمة النبي فقال من لي بها فقال رجل من قومها انا يارسول الله فنهض فقتلها فاخبر النبي فقال لا ينتطح فيها عنزان # وقد ذكر بعض اصحاب المغازي وغيرهم قصتها مبسوطة # قال الواقدي حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن ابيه ان عصماء بنت مروان من بني امية بنت زيد كانت تحت يزيد بن زيد ابن حصن الخطمي وكانت تؤذي النبي وتعيب الإسلام
وتحرض على النبي وقالت شعرا % فباست بني مالك والنبيت % وعوف وباست بني الخزرج % % اطعتم اتاوي من غيركم % فلا من مراد ولا مذحج % % ترجونه بعد قتل الرؤوس كما يرتجى مرق المنضج %
قال عمير بن عدي الخطمي حين بلغه قولها وتحريضها اللهم ان لك على نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لاقتلنها ورسول الله يومئذ لبدر فلما رجع النبي من بدر جائها عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها وحولها نفرا من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها فجسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنحاه عنها ثم وضع سيفه على صدرها حتى انفذه من ظهرها ثم خرج حتى صلى الصبح مع النبي فلما انصرف النبي نظر إلى عمير فقال أقتلت بنت مروان قال نعم بابي انت يا رسول الله
وخشي عمير ان يكون افتات على رسول الله بقتلها فقال هل علي في ذلك شيء يا رسول الله قال لا ينتطح فيها عنزان فان أول ما سمعت هذه الكلمة من النبي قال عمير فالتفت النبي إلى من حوله فقال اذا احببتم ان تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي فقال عمر بن الخطاب انظروا إلى هذا الاعمى الذي تسرى في طاعة الله فقال لا تقل الاعمى ولكنه البصير # فلما رجع عمير من عند رسول الله وجد بنيها في جماعة يدفنونها فاقبلوا اليه حين رواه مقبلا من المدينة فقالوا يا عمير انت قتلتها نعم فيكدوني جميعا ثم لا تنظرون فوالذي نفسي بيده لو قلتم باجمعكم ما قالت لظربتكم بسيفي هذا حتى اموت او اقتلكم فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة وكان منهم رجال يستخفون بالإسلام خوفا من قومهم فقال حسان بن ثابت يمدح عمير بن عدي # قال انشدنا عبد الله بن الحارث
% بني وائل وبني واقف % وخطمة دون بني الخزرج % متى ما دعت اختكم ويحها % % بعولتها والمنايا تجي فهزت فتى ماجدا عرقه % كريم المداخل والمخرج % % فضرجها من نجيع الدما % قبيل الصباح ولم تخرج % % فاوردك الله برد الجنا % ن جذلان في نعمة المولج %
قال عبد الله بن الحارث عن ابيه وكان قتلها لخمس ليالي بقين من رمضان مرجع النبي من بدر # وروى هذه القصة اخصر من هذا أبو احمد العسكري ثم قال كانت هذه المراة تهجو رسول الله وتؤذيه # وانما خص النبي العنز دون سائر الغنم لان العنز تشام العنز ثم تفارقها وليس كنطاح الكباش وغيرها وذكر هذه القصة
مختصرة محمد بن سعد في الطبقات # وقال أبو عبيد في الاموال وكذلك كانت قصة عصماء اليهودية انما قتلت لشتمها النبي وهذه المراة ليست هي التي قتلها سيدها الاعمى ولا اليهودية التي قتلت لان هذه المراة من بني امية بن زيد أحد بطون الأنصار ولها زوج من بني خطمة ولهذا والله اعلم نسبت في حديث ابن عباس إلى بني خطمة والقاتل لها غير زوجها وكان لها بنون كبار وصغار نعم كان القاتل من قبيلة زوجها كما في الحديث
وقال محمد بن اسحاق اقام مصعب بن عمير عند اسعد بن زرارة يدعوا الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار الا وفيها رجال ونساء مسلمون الا ما كان من دار بني امية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك اوس الله وهم من الاوس بن حارثة وذلك انه كان فيهم أبو قيس بن الاسلت كان شاعرهم يسمعون منه ويعظمونه # فهذا الذي ذكره ابن اسحاق يصدق ما رواه الواقدي من تاخر ظهور الإسلام ببنى خطمة والشعر الماثور عن حسان يوافق ذلك # وانما سقنا القصة من راوية اهل المغازي مع ما في الواقدي من الضعف للشهرة هذه القصة عندهم مع انه لا يختلف اثنان ان الواقدي من اعلم الناس بتفاصيل امور المغازي واخبر الناس باحوالها وقد كان الشافعي واحمد وغيرهما يستفيدون علم ذلك من كتبه نعم هذا الباب يدخله خلط الروايات بعضها ببعض حتى يطهر انه سمع مجموع القصة من شيوخه وانما سمع من كل واحد بعضها ولم يميزه
ويدخله اخذ ذلك من الحديث المرسل والمقطوع وربما حدس الراوي بعض الامور لقرائن استفادها من عدة جهات ويكثر من ذلك اكثارا فينسب لاجله إلى المجازفة في الرواية وعدم الضبط فلم يمكن الاحتجاج بما ينفرد به فاما الاستشهاد بحديثه والاعتضاد به فمما لايمكن المنازعة فيه لا سيما في قصة تامة يخبر فيها باسم القاتل والمقتول وصورة الحال فان الرجل وامثاله أفضل من ان يقعوا في مثل هذا في كذب ووضع على انا لم يثبت قتل الساب بمجرد هذا الحديث وانما ذكرناه للتقوية والتوكيد وهذا يحصل ممن هو دون الواقدي # ووجه الدلالة ان هذه المراة لم تقتل الا لمجرد اذى النبي وهجوه وهذا بين في قول ابن عباس هجت امراة من خطمة النبي فقال من لي بها فعلم انه انما ندب اليها لاجل هجوها وكذلك في الحديث الاخر فقال عمير حين بلغه قولها وتحريضها اللهم ان لك علي نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لاقتلنها وفي الحديث لما قال له قومه انت قتلتها فقال نعم فكيدوني جميعا ثم لاتنظروني فوالذي نفسي بيده لو قلتم جميعا ما قالت لضربتكم
بسيفي حتى اموت او اقتلكم فهذه مقدمة ومقدمة اخرى وهو ان شعرها ليس فيه تحريض على قتال النبي حتى يقال التحريض على القتال قتال وانما فيه تحريض على ترك دينه وذم له ولمن اتبعه واقصى غاية ذلك ان لا يدخل في الإسلام من لم يكن دخل او ان يخرج عنه من دخل فيه وهذا شان كل ساب # يبين ذلك انها هجته بالمدينة وقد اسلم أكثر قبائلها وصار المسلم بها اعز من الكافر ومعلوم ان الساب في مثل هذه الحال لايقصد ان يقاتل الرسول واصحابه وانما يقصد اغاطتهم وان لا يتابعوا # وايضا فانها لم تكن تطمع في التحريض على القتال فانه لاخلاف بين اهل العلم بالسيرة ان جميع قبائل الاوس والخزرج لم يكن فيهم من يقاتل النبي بيد ولا لسان ولا كان أحد بالمدينة يتمكن من اظهار ذلك وانما غاية الكافر او المنافق منهم ان يثبط الناس عن اتباعه او ان يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة ونحو ذلك مما فيه تخذيل عنه وحض على الكفر به لا على قتاله على ان الهجاء ان كان من نوع القتال فيجب انتقاض العهد به ويقتل به الذمي فانه اذا قاتل
انتقض عهده لان العهد اقتضى الكف عن القتال فاذا قاتل بيد او لسان فقد فعل ما يناقض العهد وليس بعد القتال غاية في نكث العهد # اذا تبين ذلك فمن المعلوم من سيرة النبي الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة انه لما اقام بالمدينة لم يحارب احدا من اهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الاوس والخزرج فانه كان يسالمهم ويتالفهم بكل وجه وكان الناس اذ قدمها على طبقات منهم المؤمن وهم الاكثرون ومنهم الباقي على دينه وهو متروك لا يحارب ولا يحارب وهوو المؤمنون من قبيلته وحلفائهم اهل سلم لا اهل حرب حتى حلفاء الأنصار اقرهم النببي على حلفهم # قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب قدم رسول الله المدينة وليس فيها دار من دور الأنصار الا فيها رهط من المسلمين الا بني خطمة وبني واقف وبني وائل كانوا اخر الأنصار إسلاما وحول المدينة
حلفاء الأنصار كانوا يستظهرون بهم في حربهم فامرهم رسول الله ان يخلوا حلف حلفائهم للحرب التي كانت بين رسول الله وبين من عادى الإسلام # وكذلك قال الواقدي فيما رواه عن يزيد بن رومان وابن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله في قصة ابن الاشرف قال فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا وكان رسول الله قدم المدينة واهلها اخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم اهل الحلقة والحصون ومنهم حلفاء للحيين جميعا الاوس والخزرج فاراد رسول الله حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وابوه مشركا # ومن المعلوم ان قبائل الاوس كانوا حلفاء بعضهم لبعض فاذا كان النبي قد اقرهم كانت هذه المراة من المعاهدين وكان
منهم المظهر للإسلام المبطن لخلافه يقول بلسانه ماليس في قلبه وكان الإسلام والايمان يفشوا في بطون الأنصار بطنا بعد بطن حتى لم يبق فيهم مظهر للكفر بل صاروا اما مؤمنا واما منافقا وكان من لم يسلم منهم بمنزلة اليهود موادع مهادن او هو احسن حالا من اليهود لما يرجى فيه من العصبية لقومه وان يهوى هواهم ولا يرى ان يخرج عن جماعتهم وكان النبي يعاملهم من الكف عنهم واحتمال اذاهم باكثر مما يعامل به اليهود لما كان يرجوه منهم ويخاف من تغيير قلوب من اظهر الإسلام من قتالهم لو اوقع بهم وهو في ذلك متبع قوله تعالى ^ لتبلون في اموالكم وانفسكم ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور ^ # ثم انه مع ندب الناس إلى قتل المرأة التي هجته وقال فيمن قتلها اذا احببتم ان تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا فثبت بذلك ان هجاءه وذمه موجب للقتل غير الكفر وثبت ان الساب يجب قتله وان كان من الحلفاء والمعاهدين
ويقتل في الحال التي يحقن فيها دم من ساواه في غير السب لا سيما ولو لم تكن معاهدة فقتل المراة لا يجوز الا ان تقاتل لانه راى امراة في بعض مغازيه مقتولة فقال ما كانت هذه لتقاتل ونهى عن قتل النساء والصبيان # ثم انه امر بقتل هذه المراة ولم تقاتل بيدها فلو لم يكن السب موجبا للقتل لم يجز قتلها لان قتل المراة لمجرد الكفر لا يجوز ولا نعلم قتل المراة الكافرة الممسكة عن القتال ابيح في وقت من الاوقات بل القران وترتيب نزوله دليل على انه لم يبيح قط لان أول اية نزلت في القتال ^ اذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين اخرجوا من ديارهم ^ الاية فاباح للمؤمنين القتال دفعا عن نفوسهم وعقوبة لمن اخرجهم من ديارهم ومنعهم من توحيد الله وعبادته وليس للنساء في ذلك حظ
ثم انه كتب عليهم القتال مطلقا وفسره بقوله ^ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ^ الاية فمن ليس من اهل القتال لم يؤذن في قتاله والنساء لسن من اهل القتال فاذا كان قد امر بقتل هذه المراة فاما ان يقال ان هجاءها قتال فهذا يفيدنا ان هجاء الذمي قتال فينقض العهد ويبيح الدم او يقال ليس بقتال وهو الاظهر لما قدمناه من انه لم يكن فيه تحريض على القتال ولا كان لها راي في الحرب فيكون السب جناية مضرة بالمسلمين غير القتال موجبة للقتل بمنزلة قطع الطريق عليهم ونحو ذلك وذلك يفيد ان السب موجب للقتل لوجوه # احدها انه لو لم يكن موجبا للقتل لما جاز قتل المراة وان كانت حربية لان الحربية اذا لم تقاتل بيد ولالسان لم يجز قتلها الا بجناية موجبة للقتل وهذا ما احسب فيه مخالفا لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل # الثاني ان هذه السابة كانت من المعاهدين بل ممن هو احسن حالا من المعاهدين في ذلك الوقت فلو لم يكن السب موجبا لدمها لما قتلت او لما جاز قتلها ولهذا خاف الذي قتلها ان تتولد فتنة حتى قال النبي لاينتطح فيها عنزان مع ان انتطاحهما انما هو كالتشام فبين انه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن ولا كثير رحمة من الله
بالمؤمنين ونصرا لرسوله ودينه فلو لم يكن هناك ما يحذر معه من قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا الثالث ان الحديث مصرح بانها انما قتلت لاجل ما ذكرته من الهجاء وان سائر قومها تركوا اذ لم يهجوا او انهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها فظهر بذلك ان الهجاء موجب بنفسه للقتل سواء كان الهاجي حربيا او مسلما او معاهدا حتى يجوز ان يقتل لاجله من لايقتله بدونه وان كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه اخر وذلك في المسلم ظاهر واما في المعاهد فلأن الهجاء اذا اباح دم المراة فهو كالقتال او اسوا حالا من القتال # الرابع ان المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة وفي اوائل الهجرة من الابتداء بالقتال وكان قتل الكفار حينئذ محرما وهو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى ^ الم تر إلى الذين قيل لهم كفوا ايديكم ^ إلى قوله ^ فلما كتب عليهم القتال ^ ولهذا أول ما انزل من القران فيه نزل بالاباحة بقوله ^ اذن للذين يقاتلون ^ وهذا من العلم العام بين اهل المعرفة بسيرة رسول الله لايخفى على أحد منهم انه كان قبل الهجرة وبعيدها ممنوعا عن ابتداء القتل والقتال ولهذا قال للانصار
الذين بايعوه ليلة العقبة لما استاذنوه في ان يميلوا على اهل منى انه لم يؤذن لي في القتال وكان في ذلك حينئذ بمنزلة الانبياء الذين لم يؤمروا بالقتال كنوح وهود وصالح وابراهيم وعيسى بل كاكثر الانبياء غير انبياء بني إسرائيل # ثم انه لما هاجر لم يقاتل احدا من اهل المدينة ولم يامر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر ولا من غيرهم والايات التي نزلت اذ ذاك انما تامر بقتال الذين اخرجوهم وقاتلوهم ونحو ذلك وظاهر هذا انه لم يؤذن لهم اذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من اهل المدينة فان دوام امساكهم عنهم يدل على استحباحة او وجوبه وهو في الوجوب اظهر لما ذكرنا لان الامساك كان واجبا والمغير لحاله لم يشمل اهل المدينة فبقوا على الوجوب المتقدم مع فعله قال موسى بن عقبة عن الزهري كانت سيرة رسول الله في عدوه قبل ان تنزل براءة يقاتل من قاتله ومن كف يده وعاهده كف عنه قال الله تعالى ^ فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ^ وكان القران ينسخ بعضه بعضا فاذا نزلت
اية نسخت التي قبلها وعمل بالتي انزلت وبلغت الاولى منتهى العمل بها وكان ما قد عمل بها قبل ذلك طاعة لله حتى نزلت براءة واذا امر بقتل هذه المراة التي هجته ولم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين علم ان السب موجب للقتل وان كان هناك ما يمنع القتال لولا السبب كالعهد والانوثة ومنع قتل الكافر الممسك او عدم اباحته # وهذا وجه حسن دقيق فان الاصل ان دم الادمي معصوم لا يقتل الا بالحق وليس القتل للكفر من الامر الذي اتفقت عليه الشرائع ولا اوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فانه مما لا تختلف فيه الشرائع ولا العقول وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوما بالعصمة الاصلية وبمنع الله المؤمنين من قتاله ودماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى وكدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا او احسن حالا من ذلك وقد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا والاخرة مع ان قتله كان خطا شبه عمد او خطا محضا ولم يكن عمدا محضا # فظاهر سيرة نبيا وظاهر ما اذن له فيه ان حال اهل المدينة اذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال فاذا قتل المراة التي هجته من هؤلاء وليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقا كان قتل المراة التي تهجوه
من اهل الذمة بهذه المثابة واولى لان هذه قد عاهدناها على ان لا تسب وعلى ان تكون صاغرة وتلك لم نعاهدها على شئ # الحديث السابع قصة أبي عفك اليهودي ذكره أهل المغازي والسير قال الواقدي ثنا سعيد بن محمد عن عمارة بن غزية وحدثناه أبو مصعب إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت عن اشياخه قالا ان شيخا من بني عمرو بن عوف يقال له أبو عفك وكان شيخا كبيرا قد بلغ عشرين ومئة سنة حين قدم النبي المدينة كان يحرض على عداوة النبي ولم يدخل في الإسلام فلما خرج
رسول الله إلى بدر ظفره الله بما ظفره فحسده وبغى فقال وذكر قصيدة تتضمن هجو النبي وذم من اتبعه أعظم ما فيها قوله % فيسلبهم امرهم راكب 5 حراما حلالا لشتى معا %
قال سالم بن عمير علي نذر ان اقتل أبا عفك او اموت دونه فامهل فطلب له غرة حتى كانت ليلة صائفة فنام أبو عفك بالفناء في الصيف في بني عمرو بن عوف فاقبل سالم بن عمير فوضع السيف على كبده حتى خش في الفراش وصاح عدو الله فثاب اليه اناس ممن هم على قوله فادخلوا منزله وقبره وقالوا من قتله والله لو نعلم من قتله لقتلناه به # وذكر محمد بن سعد انه كان يهوديا وقد ذكرنا ان يهود المدينة
كلهم كانوا قد عاهدوا ثم انه لما هجا واظهر الذم قتل # قال الواقدي عن ابن رقيش قتل أبو عفك في شوال على راس عشرين شهرا وهذا قديم قبل قتل ابن الاشرف وهذا فيه دلالة واضحة على ان المعاهد اذا اظهر السب ينتقض عهده ويقتل غيلة لكن هو من رواية اهل المغازي وهو يصلح ان يكون مؤيدا مؤكدا بلا تردد # الحديث الثامن حديث انس بن زنيم الديلي وهو مشهور عند اهل السير ذكره ابن اسحاق والواقدي وغيرهما # قال الواقدي حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير عن محجن بن وهب قال كان اخر ما كان بين خزاعة وبين كنانة ان انس بن زنيم الديلي
هجا رسول الله فسمعه غلام من خزاعه فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فاراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها # قال الواقدي حدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي عن ابيه قال وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في اربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله ويخبرونه بالذي اصابهم وذكر قصة فيها انشاد القصيدة التى اولها % الهم اني ناشد محمدا %
قال فلما فرغ الركب قالوا يارسول الله ان انس بن زنيم الديلي قد هجاك فندر رسول الله دمه فبلغ ذلك انس بن زنيم
فقدم معتذرا إلى رسول الله مما بلغه عنه فقال وذكر قصيدة فيها مدح الرسول الله اولها % انت الذي تهدي معد بامره % بل الله يهديها وقال لك اشهد % % فما حملت من ناقة فوق رحلها % ابر واوفى ذمه من محمد % % تعلم رسول الله انك مدركي % وان وعيدا منك كالاخذ باليد %
وفيها % تعلم رسول الله انك قادر % على كل سكن من تهام ومنجد % % ونبي رسول الله اني هجوته % فلا رفعت سوطي الي اذا يدي % % سوى انني قد قلت يا ويح فتية % اصيبوا بنحس يوم طلق واسعد %
ويقول فيها % فاني لا عرضا خرقت ولا دما % هرقت ففكر عالم الحق واقصد %
قال الواقدي انشدنيها حزام وبلغت رسول الله قصيدته هذه واعتذاره وكلمه نوفل بن معاوية الديلي فقال يا رسول الله انت اولى الناس بالعفو ومن منا من لم يعادك ويؤذيك ونحن في جاهلية لاندري ما ناخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وانقذنا بك من الهلك وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك فقال دع الركب عنك فانا لم نجد بتهامة احدا من ذي رحم ولا بعيد الرحم كان ابر من خزاعة فاسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله قد عفوت عنه قال نوفل فداك أبي وامي # وقال ابن اسحاق وقال انس بن زنيم يعتذر إلى رسول الله مما كان قد قال فيهم عمرو بن سالم حين قدم على رسول الله يستنصره ويذكر انه قد نالوا من رسول الله وانشد تلك القصيدة وفيها
% وتعلم ان الركب ركب عويمر % هم الكاذبون المخلفو كل موعد %
فوجه الدلالة ان النبي كان قد صالح قريشا وهادنهم عام الحديبية عشر سنين ودخلت خزاعة في عقده وكان اكثرهم مسلمين وكانوا عيبة نصح لرسول الله مسلمهم وكافرهم ودخلت بنو بكر في عهد قريش فصار هؤلاء كلهم معاهدين وهذا مما تواتر به النقل ولم يختلف فيه اهل العلم # ثم ان هذا الرجل المعاهد هجا النبي على ما قيل عنه فشجه بعض خزاعة ثم اخبروا النبي انه هجاه يقصدون بذلك اغراء ببني بكر فندر رسول الله دمه اي اهدره ولم يندر دم غيره فلولا انهم علموا ان هجاء النبي من المعاهدة مما يوجب الانتقام منه لم يفعلوا ذلك # ثم ان النبي ندر دمه بذلك مع ان هجاءه كان حال العهد وهذا النص في ان المعاهد الهاجي يباح دمه # ثم انه لما قدم اسلم في شعره ولهذا عدوه من اصحاب النبي وقوله تعلم رسول الله تعلم رسول الله ونبي رسول الله دليل على انه اسلم قبل ذلك او هذا وحده إسلام منه فان الوثني اذا قال محمد رسول الله حكم بإسلامه ومع هذا فقد انكر ان يكون هجا النبي
ورد شهادة اولئك بانهم اعداء له لما بين القبيلتين من الدماء والحرب فلو لم يكن ما فعله مبيحا لدمه لما احتاج إلى شئ من ذلك # ثم انه بعد إسلامه واعتذاره وتكذيب المخبرين ومدحه لرسول انما طلب العفو من النبي عن اهدار دمه والعفو انما يكون مع جواز العقوبة على الذنب فعلم ان النبي كان له ان يعاقبه بعد مجيئه مسلما معتذرا انما عفا عنه حلما وكرما # ثم ان في الحديث ان نوفل بن معاوية هو الذي شفع له إلى النبي وقد ذكر عامة اهل السير ان نوفلا هذا هو راس البكريين الذين عدوا على خزاعة وقتلوهم واعانتهم قريش على ذلك وبسبب ذلك انتقض عهد قريش وبني بكر ثم انه اسلم قبل الفتح حتى صار يشفع في الذي هجا النبي فعلم ان الهجاء اغلظ من نقض العهد بالقتال بحيث اذا نقض قوم العهد بالقتال واخرون هجوا ثم اسلموا عصم دم الذي قاتل وجاز الانتقام من الهاجي ولهذا قرن هذا الرجل خرق العرض بسفك الدم فعلم ان كليهما موجب للقتل وان خرق عرضه كان أعظم عندهم من سفك دماء المسلمين والمعاهدين # ومما يوضح هذا ان النبي لم يهدر دم أحد من بني بكر
الناقضين العهد بعينه وانما مكن منهم بني خزاعة يوم الفتح أكثر النهار واهدر دم هذا بعينه حتى اسلم واعتذر هذا مع ان العهد كان عهد هدنة وموادعه لم يكن عهد جزية وذمة والمهادن المقيم ببلده يظهر ببلده ما شاء من منكرات الاقوال والافعال المتعلقة بدينه ودنياه ولا ينتقض بذلك عهده حتى يحارب فعلم ان الهجاء من جنس الحراب واغلظ منه وان الهاجي لا ذمة له # الحديث التاسع قصة ابن أبي سرح وهي مما اتفق عليها اهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة يستغنى عن رواية الاحاد وذلك اثبت واقوى مما رواه الواحد العدل فنذكرها مسنده مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها # عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال لما كان يوم فتح مكة اختبا عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان فجاء
به حتى اوقفه على النبي فقال يارسول الله بايع عبد الله فرفع راسه فنظر اليه ثلاثا كل ذلك يابى فبايعه بعد ثلاث ثم اقبل على اصحابه فقال اما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث راني كففت يدي عن بيعه فيقتله فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك الا او مات الينا بعينك قال انه لا ينبغي لنبي ان تكون له خائنة الاعين رواه أبو داود باسناد صحيح # وراوه النسائي كذلك بابسط من هذا عن سعد قال لما كان يوم فتح مكة امن رسول الله الا اربعة نفر قال اقتلوهم وان وجدتموهم متعلقين باستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح # فاما عبد الله بن خطل فادرك وهو متعلق باستار الكعبة فاستبق اليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان اشب الرجلين فقتله واما مقيس بن صبابة فادركه الناس في السوق فقتلوه
واما عكرمة فركب البحر فاصابتهم عاصف فقال اصحاب السفينة اخلضوا فان الهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا فقال عكرمة والله لئن لم ينجني في البحر الا الاخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم ان لك علي عهدا ان انت عافيتني مما انا فيه ان اتي محمد حتى اضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء واسلم # واما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فانه اختبا عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة جاء به حتى اوقفه على النبي ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود وعن عبد الله بن عباس قال كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله فازله الشيطان فلحق بالكفار فامر به رسول الله ان يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فاجاره رسول الله رواه أبو داود
وروى محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ان رسول الله امر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح وفرتنى وابن الزبعري وابن خطل فاتاه أبو برزة وهو متعلق باستار الكعبة فبقر بطنه وكان رجل من الأنصار قد نذر ان راى ابن أبي سرح ان يقتله فجاء عثمان وكان اخاه من الرضاعة فشفع له إلى رسول الله وقد اخذ الانصاري بقائم السيف ينظر إلى النبي
متى يوميء اليه ان يقتله فشفع له عثمان حتى تركه ثم قال رسول الله للانصاري هلا وفيت بنذرك فقال يا رسول الله وضعت يدي على قائم السيف انتظر متى توميءفاقتله فقال النبي ض = الايماءخيانة ليس لنبي ان يوميء # وقال محمد بن اسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ان رسول الله حين دخل مكة وفرق جيوشه امرهم ان لا يقتلوا احدا الا من قاتلهم الا نفرا قد سماهم رسول الله وقال اقتلوهم وان وجدتموهم تحت استار الكعبة عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد ابن أبي سرح وانما امر بابن أبي سرح لانه كان قد اسلم فكان يكتب لرسول الله الوحي فرجع مشركا ولحق بمكة فكان يقول لهم
اني لاصرفه كيف شئت انه ليامرني ان اكتب له الشيء فاقول له او كذا او كذا فيقول نعم وذلك ان رسول الله كان يقول عليم حكيم فيقول او اكتب عزيز حكيم فيقول له رسول الله نعم كلاهما سواء # قال ابن اسحاق حدثني شرحبيل بن سعد ان فيه نزلت ^ ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا او قال اوحي الي ولم يوح اليه شيء ومن قال سانزل مثل ما انزل الله ^ فلما دخل رسول الله مكة فر إلى عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمان اهل مكة فاتى رسول الله فاستامن له فصمت رسول الله طويلا وهو واقف عليه ثم قال نعم فانصرف به فلما ولى قال رسول الله ما صمت الا رجاء ان يقوم اليه بعضكم فيقتله فقال رجل من الأنصار يا رسول الله الا اومات الي فاقتله
فقال رسول الله ان النبي لا يقتل بالاشارة # وقال ابن اسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه حدثني بعض علمائنا ان ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال والله لو اشاء لقلت كما يقول محمد وجئت بمثل ما ياتي به انه ليقول الشيء واصرفه إلى شيء فيقول اصبت ففيه انزل الله تعالى ^ ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا او قال اوحى الي ولم يوح اليه شيءالاية فلذلك امر رسول الله بقتله # قال ابن اسحاق عن ابن أبي نجيح قال كان رسول الله قد عهد إلى امرائه من المسلمين حين امرهم ان يدخلوا مكة ان لا يقاتلوا
الا احدا قاتلهم الا انه قد عهد في نفر سماهم امر بقتلهم وان وجدوا تحت استار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وانما امر رسول الله بقتله لانه كان اسلم وكان يكتب لرسول الله الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال والله اني لاصرفه حيث اريد انه ليملي علي فاقول اوكذا اوكذا فيقول نعم وذلك ان رسول الله كان يملي عليه فيقول عزيز حكيم أو حكيم عليم فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول كل صواب # وروينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال فدخل رسول الله فامر اصحابه بالكف وقال كفوا السلاح الاخزاعة من بكر ساعة ثم امرهم فكفوا فامن الناس كلهم الا اربعة ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس الكناني وامراة اخرى ثم قال النبي اني لم احرم مكة ولكن الله حرمها وانها لم تحل لاحد من قبلي ولا تحل لاحد بعدي إلى يوم القيامة وانما احلها الله لي ساعة من نهار قال ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال بايعه يارسول الله فاعرض عنه ثم جاءه من ناحية اخرى فقال بايعه يارسول الله فاعرض عنه ثم جاءه ايضا فقال بايعه يارسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله لقد اعرضت عنه
واني لاظن بعضكم سيقتله فقال رجل من الأنصار فهلا او مضت الي يارسول الله فقال ان النبي لا يومض فكانه راه غدرا # وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال وامرهم رسول الله ان يكفوا ايديهم فلا يقاتلوا احدا الامن قاتلهم وامرهم بقتل اربعة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحويرث بن نقيد وابن خطل ومقيس بن صبابه أحد بني ليث وامر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله ثم قال ويقال امر رسول الله في قتل النفر ان يقتل عبد الله بن أبي سرح وكان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبا حتى اطمان الناس ثم اقبل يريد ان يبايع رسول الله فاعرض عنه ليقوم رجل من اصحابه فيقتله فلم يقم اليه أحد ولم يشعروا بالذي في نفس رسول الله فقال احدهم لو اشرت الي يارسول الله ضربت عنقه فقال ان النبي لا يفعل ذلك ويقال اجاره عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة وقتلت احدى القينتين وكمنت الاخرى حتى استؤمن لها وذكر محمد بن عائد في مغازيه هذه القصة مثل ذلك
وذكر الواقدي عن اشياخه قالوا وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله فربما املي عليه رسول الله سميع عليم فيكتب عليم حكيم فيقراه لرسول الله فيقول كذاك قال الله فافتتن وقال ما يدري محمد ما يقول اني لاكتب له ما شئت هذا الذي كتبت يوحي الي كما يوحي إلى محمد وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فاهدر رسول الله دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة فقال يا أخي اني والله اخترتك فاحبسني هاهنا واذهب إلى محمد فكلمه في فان محمدا ان راني ضرب الذي فيه عيناي ان جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا فقال عثمان بل اذهب معي قال عبد الله والله لئن راني ليضربن عنقي ولا ينظرني قد اهدر دمي واصحابه يطلبوني في كل موضع فقال عثمان انطلق معي فلا يقتلك ان
شاء الله فلم يرع رسول الله الا بعثمان اخذا بيد عبد الله بن سعد ابن أبي سرح واقفين بين يديه فاقبل عثمان على رسول الله فقال يارسول الله امه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي فاعرض عنه رسول الله وجعل عثمان كلما اعرض عنه النبي بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام وانما اعرض النبي ارادة ان يقوم رجل فيضرب عنقه لانه لم يؤمنه فلما راى ان لايقوم أحد وعثمان قد اكب على رسول الله يقبل راسه وهو يقول يارسول الله بايعه فداك أبي وامي فقال النبي نعم ثم التفت إلى اصحابه فقال ما منعكم ان يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله او قال الفاسق فقال عباد بن بشر الا او مات الي يارسول الله فوالذي بعثك بالحق اني لاتبع طرفك من كل ناحية رجاء ان تشير الي فاضرب عنقه ويقال قال هذا أبو اليسر ويقال عمر بن الخطاب فقال رسول الله اني لااقتل بالاشارة
وقائل يقول ان النبي قال يومئذ ان النبي لا تكون له خائنة الاعين # فبايعه رسول الله فجعل يفر من رسول الله كلما راه فقال عثمان لرسول الله بابي وامي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما راك # فتبسم رسول الله فقال الم ابايعه واومنه قال بلى يا رسول الله ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام # فقال النبي الإسلام يجب ما كان قبله فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فاخبره فكان ياتي فيسلم على النبي مع الناس # فوجه الدلالة ان عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي انه كان يتمم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه وانه يصرفه حيث شاء ويغير ما امره به من الوحي فيقره على ذلك
وزعم انه سينزل مثل ما انزل الله اذ كان قد اوحي اليه في زعمه كما اوحي إلى رسول الله وهذا الطعن على رسول الله وعلى كتابه والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين وهو من انواع السب # وكذلك لما افترى عليه كاتب اخر مثل هذه الفرية قصمه الله وعاقبه عقوبة خارجه عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه اذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بان يقول القائل كاتبه اعلم الناس بباطنه وبحقيقة امره وقد اخبر عنه بما اخبر فمن نصر الله لرسوله ان اظهر فيه اية يبين بها انه مفتر # فروى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن انس قال كان رجلا نصرانيا فاسلم وقرا البقرة وال عمران وكان يكتب للنبي فعاد نصرانيا فكان يقول لا يدري محمد الا ما كتبت
له فاماته الله فدفنوه فاصبح وقد لفظته الارض فقالوا هذا فعل محمد واصحابه نبشوا عن صاحبنا فالقوة فحفروا له واعمقوا في الارض ما استطاعوا فاصبح وقد لفظته الارض فعلموا انه ليس من الناس فالقوه # ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن انس قال كان منا رجل من بني النجار قد قرا البقرة وال عمران وكان يكتب للنبي فالنطلق هاربا حتى لحق باهل الكتاب قال فعرفوه قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد فاعجبوا به فما لبث ان قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها
ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا # فهذا الملعون الذي افترى على النبي انه ما كان يدري الا ما كتب له قصمه الله وفضحه بان اخرجه من القبر بعد ان دفن مرارا وهذا امر خارج عن العادة يدل كل أحد على ان هذا عقوبة لما قاله وانه كان كاذبا اذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا وان هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد اذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا وان الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب اذا لم يمكن الناس ان يقيموا عليه الحد # ونظير هذا ما حدثناه اعداد من المسلمين العدول اهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الاصفر في زماننا قالوا كنا نحن نحصر الحصن او المدينة الشهر او أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى اذا تعرض اهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتسير ولم يكد يتاخر الا يوما او يومين
او نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا حتى ان كنا لنتباشر بتعجيل الفتح اذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه # وهكذا حدثني بعض اصحابنا الثقات ان المسلمين من اهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سنة الله ان يعذب اعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بايدي عباده المؤمنين # فكذلك لما تمكن النبي من ابن أبي سرح اهدر دمه لما طعن في النبوة وافترى عليه الكذب مع انه قد امن جميع اهل مكة الذين قاتلوه وحاربوه اشد المحاربة ومع ان السنة في المرتد انه لايقتل حتى يستتاب اما وجوبا او استحبابا # وسنذكر ان شاءالله ان جماعة ارتدوا على عهد النبي ثم دعوا إلى التوبة وعرضت عليهم حتى تابوا وقبلت توبتهم # وفي ذلك دليل على ان جرم الطاعن على رسول الساب له أعظم من جرم المرتد # ثم ان اباحة النبي دمه بعد مجيئه تائبا مسلما وقوله هلا قتلتموه ثم عفوه عنه بعد ذلك دليل على ان النبي كان له ان يقتله وان يعفو عنه ويعصم دمه وهو دليل على ان له ان يقتل من سبه وان تاب وعاد إلى الإسلام
يوضح ذلك اشياء # منها انه قد روي عن عكرمة ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر آخرون ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة اذ نزل النبي بها وقد تقدم عنه انه قال لعثمان قبل ان يقدم به على النبي ان جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا وتوبة المرتد إسلامه # ثم انه جاء إلى النبي بعد الفتح وهدوء الناس وبعد ما تاب فاراد النبي من المسلمين ان يقتلوه حينئذ وتربص زمانا ينتظر فيه قتله ويظن ان بعضهم سيقتله وهذا اوضح دليل على جواز قتله بعد إسلامه # وكذلك لما قال له عثمان انه يفر منك كلما راك قال الم ابايعه واومنه قال بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال الإسلام يجب ما قبله فبين النبي ان خوف القتل سقط بالبيعة والامان وان الاثم زال بالإسلام فعلم ان الساب اذاعاد إلى الإسلام جب الإسلام اثم السب وبقي قتله جائزا حتى يوجد اسقاط القتل ممن يملكه ان كان ممكنا
وسياتي ان شاء الله تعالى ذكر هذا في موضعه فان غرضنا هنا ان نبين ان مجرد الطعن على رسول الله والوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيه لمجرد الردة واذا كان ذلك موجبا للقتل استوى فيه المسلم والذمي لان كل ما يوجب القتل سوى الردة يستوي فيه المسلم والذمي # وفي كتمان الصحابة لابن أبي سرح ولاحدى القينتين دليل على النبي لم يوجب قتلهم وانما اباحه مع جواز عفوه عنهم وفي ذلك دليل على انه كان مخيرا بين القتل والعفو وهذا يؤيد ان القتل كان لحق النبي # واعلم ان افتراء ابن أبي سرح والكاتب الاخر النصراني على رسول الله بانه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر # وكذلك قوله اني لاصرفه كيف شئت انه ليامرني ان اكتب له الشيء فاقول له او كذا او كذا فيقول نعم فرية ظاهرة فان النبي كان لا يكتبه الا ما انزله الله ولا يامره ان يثبت قرانا الا ما اوحاه الله اليه ولا ينصرف له كيف شاء بل يتصرف كما يشاء الله
وكذلك قوله اني لاكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحي الي كما يوحي إلى محمد وان محمدا اذا كان يتعلم مني فاني سانزل مثل ما انزل الله فرية ظاهرة فان النبي لم يكن يكتبه ما شاء ولا كان يوحي اليه شيء # وكذلك قول النصراني ما يدري محمد الا ما كتبت له من هذا القبيل وعلى هذا الافتراء حاق به العذاب واستوجب العقاب # ثم اختلف اهل العلم هل كان النبي اقره على ان يكتب شيئا غير ما ابتداه النبي باكتابه وهل قال له شيئا على قولين احدهما ان النصراني وابن أبي سرح افتريا على رسول الله ذلك كله وانه لم يصدر منه قول فيه اقرار على كتابة غير ما قاله اصلا وانما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس ويكون قبول ذلك منهما متوجها لانهما فارقاه بعد خبرة وذلك انه لم يخبر أحد انه سمع النبي يقول له هذا الذي قلته او كتبته صواب وانما هو حال الردة اخبر انه قال له ذلك وهو اذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك
يبين ذلك ان الذي في الصحيح ان النصراني كان يقول ما يدري محمد الا ماكتبت له نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي ويغيره ويزيده وينقصه فظن ان عمدة النبي على كتابته مع ما فيها من التبديل ولم يدر ان كتاب الله ايات بينات في صدور الذين اوتوا العلم وانه لا يغسله الماء وان الله حافظ له وان الله يقريء نبيه فلا ينسى الا ما شاء الله مما يريد رفعه ونسخ تلاوته وان جبريل كان يعارضا النبي بالقران كل عام وان النبي اذا انزلت عليه الاية اقراها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الاية بهم واكثر
من ذكر هذه القصة من المفسرين ذكر انه كان يملي عليه سميعا عليما فيكتب هو عليما حكيما واذا قال عليما حكيما كتب غفورا رحيما واشباه ذلك ولم يذكر ان النبي قال له شيئا # قالوا واذا كان الرجل قد علم انه من اهل الفرية والكذب حتى اظهر الله كذبه اية بينة والروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن الا انه قال عن النبي ما قال او انه كتب ما شاء فقط علم ان النبي لم يقل له شيئا # قالوا وما روي في بعض الروايات ان النبي قال فهو منقطع او معلل ولعل قائله قاله بناء على ان الكاتب هو الذي قال ذلك ومثل هذا قد يلتبس الامر فيه حتى يشتبه ماقاله النبي وما قيل انه قاله وعلى هذا القول فلا سؤال اصلا 0
القول الثاني ان النبي قال له شيئا فروى الإمام احمد وغيره من حديث حماد بن سلمة انا ثابت عن انس ان رجلا كان يكتب لرسول الله فاذا املي عليه سميعا عليما يقول كتبت سميعا بصيرا قال دعه واذا املي عليه عليما حكيما كتب عليما حليما قال حماد نحو ذا # قال وكان قد قرا البقرة وال عمران وكان من قراهما قد قرا قرانا كثيرا فذهب فتنصر وقال لقد كنت اكتب لمحمد ما شئت فيقول دعه فمات فدفن فنبذته الارض مرتين او ثلاثا قال أبو طلحة فلقد رايته مبوذا فوق الارض
ورواه الإمام احمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن انس ان رجلا كان يكتب لرسول الله وقد قرا البقرة وال عمران وكان الرجل اذا قرا البقرة وال عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي يملي عليه غفورا رحيما فيكتب عليما حكيما فيقول له النبي اكتب كذا وكذا اكتب كيف شئت ويملي عليه عليما حكيما فيكتب سميعا بصيرا فيقول اكتب كيف شئت فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال انا اعلمكم بمحمد ان كنت لاكتب ما شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول الله ان الارض لاتقبله قال انس فحدثني أبو طلحة انه اتى الارض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة ما شان هذا
الرجل قالوا قدمناه مرارا فلم تقبله الارض فهذا اسناد صحيح # وقد قال من ذهب إلى القول الاول علل البزار حديث ثابت عن انس وقال رواه عنه ولم يتابع عليه ورواه حميد عن انس قال واظن حميدا انما سمعه من ثابت قالوا ثم ان انسا لم يذكر انه سمع النبي او شهده يقول ذلك ولعله حكى ما سمع # وفي هذا الكلام تكلف ظاهر والذي ذكرناه في حديث ابن اسحاق والواقدي وغيرهما يوافق ظاهر هذه الرواية وكذلك ذكر طائفة من اهل التفسير وقد جاءت اثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن اسحاق وذلك ان رسول الله كان يقول عليم حكيم فيقول او اكتب عزيز حكيم فيقول له رسول الله نعم كلاهما سواء وفي الرواية الاخرى وذلك ان رسول الله كان يملي
عليه فيقول عزيز حكيم او حكيم عليم فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول كل صواب # ففي هذا بيان لان كلا الحرفين كان قد نزل وان النبي كان يقراهما ويقول له اكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب وقد جاء مصرحا عن النبي انه قال انزل القران على سبعة احرف كلها شاف كاف ان قلت عزيز حكيم او غفور رحيم فهو كذلك ما لم يختم اية رحمه بعذاب او اية عذاب برحمة
وفي حرف جماعة من الصحابة ^ ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك انت الغفور الرحيم ^ والاحاديث في ذلك منتشرة تدل على ان من الحروف السبعة التي نزل عليها القران ان تختم الاية الواحدة بعدة اسماء من اسماء الله على سبيل البدل يخير القارئ في القراءة بايها شاء وكان النبي يخيره ان يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قراها النبي بحرف من الحروف فيقول او اكتب كذا وكذا لكثرة ما سمع النبي يخير بين الحرفين فيقول له النبي نعم كلاهما سواء لان الاية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قراه على النبي فاقره عليه لانه قد نزل كذلك ايضا وختم الاية بمثل ^ سميع عليم ^ و^ عليم حكيم ^ و^ غفور رحيم ^ او بمثل ^ سميع بصير ^ او ^ عليم حكيم ^ او ^ عليم حليم ^ كثير في القران وكان نزول الاية على عدة من هذه الحروف امرا معتادا ثم ان الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي بالقران في كل رمضان وكانت العرضة الاخيرة في حرف زيد بن ثابت الذي يقراء
الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان والصحابة رضي الله عنهم اجمعين عليه الناس ولهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ والمنسوخ وكذلك ذكرها الإمام احمد في كتابه الناسخ والمنسوخ لتضمنها نسخ بعض الحروف وروي فيها وجه اخر رواه الإمام احمد في الناسخ والمنسوخ حدثنا مسكين بن بكير ثنا معان قال وسمعت أبا خلف يقول كان ابن أبي سرح كتب للنبي القران فكان ربما سال النبي عن خواتم الاي ^ تعملون ^ و^ تفعلون ^ ونحو ذا فيقول له النبي اكتب اي ذلك شئت قال فيوفقه الله للصواب من ذلك فاتى اهل مكة مرتدا فقالوا يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القران قال اكتبه كيف شئت قال فانزل الله
في ذلك ^ ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا او قال اوحي الي ولم يوح اليه شيء ^ الاية كلها # قال النبي يوم فتح مكه من اخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما وجد وان كان متعلقا باستار الكعبة # ففي هذا الاثر انه كان يسال النبي عن حرفين جائزين فيقول له اكتب اي ذلك شئت فيوفقه الله للصواب فيكتب احب الحرفين إلى الله ان كان كلاهما منزلا او يكتب ما انزل الله فقط ان لم يكن الاخر منزلا وكان هذا التخيير من النبي اما توسعه ان كان الله قد انزلهما او ثقته بحفظ الله وعلما منه بانه لا يكتب الا ما انزل وليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه وضمن انه لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه # وذكر بعضهم وجها ثالثا وهو انه ربما كان يسمع النبي يمله الاية حتى لم يبق منها الا كلمة او كلمتان فيستدل على بما قراء منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقراه على النبي فيقول كذلك
انزلت كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله ^ فتبارك الله احسن الخالقين ^ # وقد روى الكلبي عن أبي صالح عنابن عباس مثل هذا في هذه القصة وان كان هذا الاسناد ليس بثقة قال عن ابن أبي سرح انه كان تكلم بالإسلام وكان يكتب لرسول الله في بعض الاحايين فاذا املي عليه ^ عزيز حكيم ^ كتب ^ غفور رحيم ^ فيقول رسول الله هذا وذاك سواء فلما نزلت ^ ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ^ املاها عليه فلما انتهى إلى قوله ^ خلقا اخر ^ عجب عبد الله بن سعد فقال ^ تبارك الله احسن الخالقين ^ فقال رسول الله
كذا انزلت علي فاكتبها فشك حينئذ وقال لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحي اليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الاية # ومما ضعفت به هذه الرواية ان المشهور ان الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه # ومن الناس من قال قولا اخر قال الذي ثبت في رواية انس انه كان يعرض على النبي ما كتبه بعدما كتبه فيملي عليه سميعا عليما فيقول كتبت سميعا بصيرا فيقول دعه او اكتب كيف شئت وكذلك في حديث الواقدي انه كان يقول كذاك الله ويقره # قالوا وكان النبي به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة وعدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة اليهم فان العرب كان الغالب عليهم الامية حتى ان كان الجو العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد فكان احدهم اذا اراد كتابة وثيقة او كتاب وجد مشقة حتى يصل له كاتب فاذا اتفق للنبي من يكتب له انتهز الفرصة في كتابتة فاذا زاد كاتب او نقص تركه لحرصه على كتابة ما يملى
ولايامره بتغيير ذلك خوفا من ضجره وان يقطع الكتابة قبل اتمامها ثقة منه بان تلك الكلمة او الكلمتين تستدرك فيما بعد بالالقاء إلى من يتلقنها منه او بكتابتها تعويلا على المحفوظ عنده وفي قلبه كما قال الله تعالى ^ سنقرئك فلا تنسى الا ما شاء الله انه يعلم الجهر وما يخفى ^ # والاشبه والله اعلم هو الوجه الاول وان هذا كان فيما انزل القران فيه على حروف عدة فان القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الأحاديث وقراءات الصحابة ان المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة وهو العرضة الاخيرة وان الحروف الستة خارجة عن هذا المصحف فان الحروف السبعة كانت مختلفة الكلم مع ان المعنى غير مختلف ولا متضاد # الحديث العاشر حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء ومولاة بني هاشم وذلك مشهور مستفيض عند اهل السير وقد تقدم في حديث سعيد بن المسيب انه امر بقتل فرتني # وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري وامرهم رسول الله
ان يكفوا ايديهم فلا يقاتلوا احدا الا من قاتلهم وامر بقتل اربعة نفر قال وامر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول ثم قال وقتلت احدى القينتين وكمنت الاخرى حتى استؤمن لها # وكذلك ذكر محمد بن عائد القرشي في مغازيه # وقال ابن اسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ان رسول الله حين دخل مكة وفرق جيوشه امرهم ان لاي يقتلوا احدا الا من قاتلهم الا نفرا قد سماهم رسول الله وقال اقتلوهم وان وجدتموهم تحت استار الكعبة عبدالله بن خطل ثم قال انما امر بقتل ابن خطل لانه كان مسلما فبعثه رسول الله مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له يخدمه وكان مسلما فنزل منزلا وامرالمولى يذبح له تيسا ويصنع له طعاما فنام واستيقض ولم يصنع له شيئا فعدى عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكانت له قينة وصاحبتها كانتا تغنيان بهجاء النبي فامر بقتلهما معه قال ومقيس بن صبابة لقتله الانصاري الذي قتل اخاه وسارت مولاة لبني عبد المطلب كانت ممن يؤذيه بمكة
وقال الاموي حدثني أبي قال وقال ابن اسحاق وكان رسول الله عهد إلى المسلمين في قتل نفر ونسوة وقال ان وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم وسماهم بأسمائهم سته ابن أبي سرح وابن خطل والحويرث بن نقيد ومقيس بن صبابه ورجل من بني تيم بن غالب قال ابن اسحاق وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر انهم كانوا ستة فكتم رجلين واخبرني بأربعه قال النسوة قنيتا ابن خطل وسارة مولاه إلى بني عبد المطلب ثم قال والقينتان كانتا تغنيان بهجائه وسارة مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها وقال الواقدي عن اشياخه ونهى رسول الله عن القتال وامر بقتل ستة نفر واربع نسوة ثم عددهم قال وابن خطل وسارة مولاة عمرو بن هشام وقينتين لابن خطل فرتني وقريبة
ويقال فرتني وارنب ثم قال وكان جرم ابن خطل انه اسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله ساعيا وبعث معه رجلا من خزاعة وكان يصنع طعامه ويخدمه فنزل في مجمع فأمره ان يصنع له طعاما ونام نصف النهار فاستيقظ والخزاعي نائم ولم يصنع له شيئا فاغتاظ عليه فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله فلما قتله قال والله ليقتلني محمد به ان جئته فارتد عن الإسلام وساق ما اخذه من الصدقة وهرب إلى مكة فقال له اهل مكة ما ردك الينا قال لم اجد دينا خيرا من دينكم فأقام على شركه فكانت له قينتان وكانتا فاسقتين وكان يقول الشعر يهجو رسول الله ويامرهما تغنيان به فيدخل عليه وعلى قينتيه المشركون فيشربون الخمر وتغني القينتان بذلك الهجاء وكانت سارة مولاة عمرو ابن هاشم مغنية نواحة بمكة يلقي عليها هجاء النبي فتغني به وكانت قد قدمت على رسول الله تطلب ان يصلها وشكت الحاجة فقال رسول الله ماكان لك
في غنائك ونياحتك ما يكفيك فقالت يا محمد ان قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله واوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وهي على دينها فأمربها رسول الله يوم الفتح ان تقتل فقتلت يومئذ واما القينتان فأمر رسول الله بقتلهما فقتلت احداهما ارنب او فريبة واما فرتني فاستؤمن لها حتى امنت وعاشت حتى كسر ضلع من اضلاعها زمن عثمان رضي الله عنه فماتت فقضي فيه عثمان رضي الله عنه ثمانية الاف درهم ديتها والفين تغليظا للجرم وحديث القينتين مما اتفق عليه علماء السير واستفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد وحديث مولاة بني هاشم ذكره عامة اهل المغازي ومن له مزيد خبرة واطلاع وبعضهم لم يذكره فوجه الدلالة ان تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالأجماع وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله
ففي الصحيحين عن ابن عمر قال وجدت امراة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان وفي حديث اخر انه مر على امراة مقتولة في بعض مغازيه فانكر قتلها وقال ما كانت هذه لتقاتل ثم قال لاحدهم ألحق خالدا 49 أ فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفا رواه أبو داود وغيره وقد روى الإمام احمد في المسند عن ابن كعب بن مالك عن
عمه ان النبي حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان وهذا مشهور عند اهل السير وفي الحديث من رواية الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك ثم صعدوا اليه في علية فقرعوا عليه الباب فخرجت اليهم امراته
فقالت من انتم فقالوا حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فقالت ذاك الرجل عندكم في البيت فغلقنا علينا وعليها باب الحجرة ونوهت بنا فصاحت وقد نهانا رسول الله حين بعثنا عن قتل النساء والولدان فجعل الرجل منا يحمل عليها السيف ثم يذكر نهي رسول الله عن قتل النساء فيمسك يده فلولا ذلك فرغنا منها بليل وذكر الحديث # وكذلك روى يونس بن بكير عن عبد الله بن كعب بن مالك قال حدثني عبد الله بن انيس قال في الحديث فقامت ففتحت فقلت لعبد الله بن عتيك دونك فهو عليها السيف فذهبت امراته فاشهر
عليها السيف واذكر قول رسول الله انه نهى عن قتل النساء والصبيان فاكف # وكذلك رواه غير واحد عن ابن انيس قال فصاحت امراته فهم بعضنا ان يخرج اليها ثم ذكرنا ان رسول الله نهانا عن قتل النساء # وهذه القصة كانت قبل فتح مكة بل قبل فتح خيبر ايضا بلا خلاف بين اهل العلم وذكر الواقدي انها كانت في ذي الحجة من السنة الرابعة من الهجرة قبل الخندق وذكر ابن اسحاق انها كانت عقب الخندق وهما جميعا يزعمان أن الخندق في شوال في سنة خمس واما موسى بن عقبة فقال في شوال سنة اربع وحديث ابن عمر يدل عليه وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان في شوال
وانما ذكرنا هذا رفعا لوهم من قد يظن ان قتل النساء كان مباحا عام الفتح ثم حرم بعد ذلك والا فلا ريب عند اهل العلم ان قتل النساء لم يكن مباحا قط فان ايات القتال وترتيب نزولها كلها دليل على ان قتل النساء لم يكن جائزا هذا مع ان اولئك النساء اللاتي كن في حصن ابن أبي الحقيق اذا ذاك لم يكن يطمع هؤلاء النفر في استرقاقهن بل هن ممتنعات عند اهل خيبر قبل فتحها بمدة مع ان المراة قد صاحت وخافوا الشر بصوتها ثم امسكوا عن قتلها لرجائهم ان ينكف شرها بالتهويل عليها # نعم المحرم انما هو قصد قتلهن فاما اذا قصدن قصد الرجل بالاغارة او برمي منجنيق او فتح شق او القاء نار فتلف بذلك نساء او صبيان لم ناثم بذلك لحديث الصعب بن جثامة انه سال النبي عن اهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب الذرية فقال هم منهم متفق
عليه ولان النبي رمى اهل الطائف بالمنجنيق مع انه قد يصيب المراة والصبي وبكل حال فالمراة الحربية غير مضمونة بقود ولا دية ولا كفارة لان النبي لم يامر من قتل المراة في مغازيه بشئ من ذلك فهذا ما تفارق به المراة الذمية واذا قاتلت المراة الحربية جاز قتلها بالاتفاق لان النبي علل المنع من قتلها بانها لم تكن تقاتل فاذا قاتلت وجد المقتضى لقتلها وانتفى المانع لكن عند الشافعي تقاتل كما يقاتل المسلم الصائل فلا يقصد قتلها بل دفعها فاذا قدر عليها
لم يجز قتلها وعند غير اذا قاتلت صارت بمنزلة الرجل المحارب # اذا تقرر هذا فنقول هؤلاء النسوة كن معصومات بالانوثة ثم ان النبي امر بقتلهن لمجرد كونهن كن يهجينه وهن في دار حرب فعلم ان من هجاه وسبه جاز قتله بكل حال # ومما يؤكد ذلك وجوه # احدها ان الهجاء والسب اما ان يكون من باب القتال باللسان فيكون كالقتال باليد وتكون كالمراالمرأة الهاجية التي يستعان برايها على حرب المسلمين كالملكة ونحوها مثل ما كانت هند بنت عتبه او يكون بنفسه موجبا للقتل لما فيه من اذى الله ورسوله والمؤمنين وان كان من جنس المحاربة اولا يكون شيء من ذلك فان كان من القسم الاول او الثاني جاز قتل المراة الذمية اذا سبت لانها حينئذ تكون قد حاربت او ارتكبت ما يوجب القتل فالذمية اذا فعلت ذلك انتقض عهدها وقتلت ولا يجوز ان تخرج عن هذين القسمين
لانه يلزم منه قتل المراة من اهل الحرب من غير ان تقاتل بيد ولا لسان ولا ان ترتكب ما هو بنفسه موجب للقتل وقتل مثل هذه المراة حرام بالسنة والاجماع # الوجه الثاني ان هؤلاء النسوة كن من اهل الحرب وقد اذين النبي في دار الحرب ثم قتلن لمجرد السب كما نطقت به الاحاديث فقتل المراة الذمية بذلك اولى واحرى كالمسلمة لان الذمية بيننا وبينها من العهد ما يكفها عن اظهار السب ويوجب عليها التزام الذل والصغار ولهذا تواخذ بما تصيبه للمسلم من دم او مال او عرض والحربية لا تواخذ بشيء من ذلك # فاذا جاز قتل المراة لانها سبت الرسول وهي حربية تستبيح ذلك من غير مانع وقتل الذمية الممنوعة عن ذلك بالعهد اولى # ولا يقال عصمة الذمي اوكد لانه مضمون والحربي غير مضمون # لانا نقول الذمي ايضا ضامن لدم المسلم والحربي غير ضامن فهو ضامن ومضمون لان العهد الذي بيننا اقتضى ذلك واما الحربية فلا عهد بيننا وبينها يقتضي ذلك فليس كون الذمي مضمونا يجب علينا حفظه بالذي يهون عليه ما ينتهكه من عرض الرسول بل ذلك اغلظ لجرمه واولى بان يؤاخذ بما يؤذينا به لانعلم شيئا تقتل به المراه الحربية قصدا الا وقتل الذمية به اولى
الوجه الثالث ان هؤلاء النسوة لم يقاتلن عام الفتح بل كن متذللات مستسلمات والهجاء ان كان من جنس القتال فقد كان موجودا قبل ذلك والمراة الحربية لا يجوز قتلها في غزوة هي فيها مستسلمة لكونها قد قاتلت قبل ذلك فعلم ان السب بنفسه هو المبيح لدمائهن لاكونهن قاتلن # الرابع ان النبي امن جميع اهل مكة الا ان يقاتلوا مع كونهم قد حاربوه وقتلوا اصحابه ونقضوا العهد الذي بينهم وبينه ثم انه اهدر دماء هؤلاء النسوة فيمن استثناه وان لم يقاتلن لكونهن كن يؤذينه فثبت ان جرم المؤذي لرسول الله بالسب ونحوه اغلظ من جرم القتال وغيره وانه يقتل في الحال التي ينهي فيها عن قتال من قتل وقاتل # الخامس ان القينتين كانتا امتين مامورتين بالهجاء وقتل الامة ابعد من قتل الحرة فان النبي نهى عن قتل العسيف وكونها مامورة بالهجاء اخف لجرمها حيث لم تقصده ابتداء ثم مع هذا امر بقتلهما فعلم ان السب من اغلظ الموجبات للقتل # السادس ان هؤلاء النسوة اما ان يكن قتلن بالهجاء لانهن فعلنه مع العهد الذي كان بين النبي وبين اهل مكة فيكون من جنس هجاء الذمي او قتلن لمجرد الهجاء مع عدم العهد فان كان الاول فهو المطلوب وان كان الثاني فاذا جاز ان تقتل السابه التي لا عهد بيننا وبينها يمنعها فقتل الممنوعة بالعهد اولى لان مجرد كفر المراة وكونها من اهل
الحرب لايبيح دمها بالاتفاق على ماتقدم لاسيما والسب لم يكن بمنزلة القتال على ما تقدم # فان قيل ما وجه الترديد واهل مكة قد نقضوا العهد وصاروا كلهم محاربين # قيل لان النبي لم يستبح اخذ الاموال وسبي الذرية والنساء بذلك النقض العام اما لانه عفا عن ذلك كما عفا عن قتل من لم يقاتل او لان النقض الذي وجد من بعض الرجال بمعاونة بني بكر ومن بعضهم باقرارهم على ذلك لم يسر حكمه إلى الذرية # # ومما يوضح ذلك ان النبي امن الناس الا بني بكر من خزاعة والا النفر المسمين اما عشرة او اقل من عشرة او أكثر لان بني بكر هم الذين باشروا نقض العهد وقتلوا خزاعة فعلم انه فرق بين من نقض العهد وفعل مايبيح الدم وبين من لم يفعل شيئا غير الموافقة على نقض العهد فبكل حال لم يقتل هؤلاء النسوة للحراب العام والنقض العام بل لخصوص جرمهن من السب الناقض لعهد فاعله سواء ضم اليه كونه من ذي عهد او لم يضم # واعلم ان ما تقدم من قتل النسوة اللاتي سبين رسول الله مثل اليهودية وام الولد وعصماء لو لم يثبت انهن كن معاهدات لكان الاستدلال به جائزا فان كل ما جاز ان تقتل به المراة التي ليست مسلمة ولا معاهدة من فعلها وقولها فان تقتل به المراة المعاهدة اولى واحرى فان
موجبات القتل في حق الذمية اوسع من موجباته في حق التي ليست ذمية # ومما يدل على مثل هذه الدلالة ما روى ان امراة كانت تسب النبي فقال من يكفيني عدوي فخرج اليها خالد بن الوليد فقتلها # الحديث الحادي عشر ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل ففي الصحيحين من حديث الزهري عن انس ان النبي دخل مكة عام الفتح وعلى راسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق باستار الكعبة فقال اقتلوه وهذا مما استفاض نقله بين اهل العلم واتفقوا عليه ان رسول الله اهدر ذم ابن خطل يوم الفتح فيمن اهدره وانه قتل
وقد تقدم عن ابن المسيب ان أبا برزة اتاه وهو متعلق باستار الكعبة فبقر بطنه # وكذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال في نزلت هذه الاية ^ لا اقسم بهذا البلد وانت حل بهذا البلد ^ اخرجت عبد الله بن خطل وهو متعلق باستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن والمقام # وذكر الواقدي ان ابن خطل اقبل من اعلى مكة مدججا في الحديد ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة فراى خيل المسلمين وراى القتال ودخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه فاتى البيت فدخل بين استاره # وقد تقدم عن اهل المغازي ان جرمه ان النبي استعمله على الصدقة واصحبه رجل يخدمه فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاما امره بصنعه فقتله فخاف ثم ان يقتل فارتد واستاق ابن الصدقة وانه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله ويامر جاريتيه ان تغنيا به فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم قتل النفس والردة والهجاء
فمن احتج بقصته يقول لم يقتل لقتل النفس لان أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد ان يقتل قودا والمقتول من خزاعة له اولياء فكان حكمه لو قتل قودا ان يسلم إلى اولياء المقتول فاما ان يقتلوا او يعفوا او ياخذوا الدية ولم يقتل لمجرد الردة لان المرتد يستتاب واذا استنظر انظر وهذا ابن خطل قد فر إلى البيت عائذا به طالبا للامان تاركا للقتال ملقيا للسلاح حتى ينظر في امره وقد امر النبي بعد علمه بذلك كله ان يقتل وليس هذا سنة من يقتل لمجرد الردة فثبت ان هذا التغليظ في قتله انما كان لاجل السب والهجاء وان الساب وان ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابه ولا يؤخر قتله وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة # وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على ان من سب النبي من المسلمين يقتل وان اسلم حدا # واعترض عليهم بان ابن خطل كان حربيا فقتل لذلك # وجوابه انه كان مرتدا بلا خلاف بين اهل العلم بالسير وحتم قتله بدون استتابه مع كونه مستسلما من قادم قد القى السلم كالاسير فعلم ان من ارتد وسب يقتل بلا استتابة بخلاف من ارتد فقط # يؤيده ان النبي امن عام الفتح جميع المحاربين الا ذوي جرائم مخصوصه وكان ممن اهدر دمه دون غيره فعلم انه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب
السنة الثانية عشرة ان النبي امر بقتل جماعة لاجل سبه وقتل جماعة لاجل ذلك مع كفه وامساكه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافرا حربيا فمن ذلك ما قدمناه عن سعيد بن المسيب ان النبي امر يوم الفتح بقتل ابن الزبعري # وسعيد بن المسيب هو الغاية في جودة المراسيل ولا يضره ان لا يذكره بعض اهل المغازي فانهم مختلفون في عدد من استثني من الامان وكل اخبر بما علم ومن اثبت الشئ وذكره حجة على من لم يثبته # وقد ذكر ابن اسحاق قال فلما قدم رسول الله إلى المدينة منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى اخيه كعب ابن زهير يخبره ان رسول الله قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وان من بقي من شعراء قريش عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه ففي هذا بيان ان النبي امر بقتل من كان يهجوه ويؤذيه بمكة من الشعراء مثل ابن الزبعري وغيره
ومما لا خفاء به ان ابن الزبعري انما ذنبه انه كان شديد العداوة لرسول الله بلسانه فانه كان من اشعر الناس وكان يهاجي شعراء الإسلام مثل حسان وكعب بن مالك فاما ما سوى ذلك من الذنوب قد شركه فيه واربى عليه عدد كثير من قريش # ثم ان ابن الزبعري فر إلى نجران ثم قدم على النبي مسلما وله اشعار حسنة في التوبة والاعتذار فاهدر دمه للسب مع امانه لجميع اهل مكة الا من كان له جرم مثل جرمه ونحو ذلك # ومن ذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قصته في هجائه للنبي وفي اعراض النبي عنه لما جاءه مسلما مشهورة ومستفيضة
وقد ذكر الواقدي قال حدثني سعيد بن مسلم بن قماذين عن عبد الرحمن بن سابط وغيرهم قال كان أبو سفيان بن الحارث أخا رسول الله من الرضاعة ارضعته حليمة اياما وكان يالف رسول الله وكان له تربا فلما بعث رسول الله عاده عداوة لم يعاد احدا قط ولم يكن دخل الشعب وهجا رسول الله وهجا اصحابه وذكر الحديث إلى ان قال ثم ان الله القى في قلبه الإسلام قال أبو سفيان فقلت من اصحب ومع من اكون قد ضرب الإسلام بجرانه فجئت زوجتي وولدي فقلت تهيؤوا للخروج قد اظل قدوم محمد قالوا قد ان لك ان تبصر ان العرب والعجم قد
تبعت محمدا وانت توضع في عداوته وكنت اولى الناس بنصرته فقلت لغلامي المذكور عجل بابعرتي وفرسي قال ثم سرنا حتى نزلنا بالابواء وقد نزلت مقدمة بالابواء فتنكرت وخفت ان اقتل وكان قد ندر دمي فخرجت واخذ ابن جعفر على قدمي نحوا من ميل في الغداة التي صبح رسول الله الابواء فاقبل الناس رسلا رسلا اي قطيعا قطيعا فتنحيت فرقا من اصحابه فلما طلع موكبه تصديت له تلقاء وجهه فلما ملا عينيه مني اعرض عني بوجهه إلى الناحية الاخرى فتحولت إلى ناحية وجهه الاخرى فاعرض عني مرارا فاخذني ما قرب وما بعد وقلت انا مقتول قبل ان اصل اليه واتذكر بره ورحمه وقرابتي فيمسك ذلك مني وقد كنت لا اشك ان رسول الله واصحابه سيفرحون بإسلامه فرحا شديدا وقرابتي برسول الله ولما راى المسلمون اعراض رسول الله عني اعرضوا عني جميعا فلقيني ابن أبي قحافة معرضا عني ونظرت إلى عمر يغري بي
رجلا من الأنصار فالز بي رجلا يقول يا عدو الله انت الذي كنت تاذي رسول الله وتؤذي اصحابه قد بلغت مشارق الارض ومغاربها في عداوته فرددت بعض الرد عن نفسي فاستطال علي ورفع صوته حتىا جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي قال فدخلت على عمي العباس فقلت ياعم قد كنت ارجوا ان سيفرح رسول الله بإسلامي لقرابن وشرفي وقد كان منه ما رايت فكلمه ليرضى عني قال لا والله لا اكلمه كلمة فيك بعد الذي رايت منه ما رايت الا ان ارى وجها اني اجل رسول الله واهابه فقلت ياعم إلى من تكلني قال هو ذاك فلقيت علي فكلمته فقال لي مثل ذلك وذكر الحديث إلى ان قال فخرجت فجلست على باب منزل رسول الله حتى راح إلى الجحفة وهو لا يكلمني ولا أحد من المسلمين وجعلت لا ينزل منزلا الا انا على بابه ومعي ابني جعفر قائم فلا يراني الا اعرض عني فخرجت على هذه
الحال حتى شهدت معه فتح مكة وانا في خيله التي تلازمه حتى هبط من اذاخر حتى نزل الابطح فنظر الي نظرا هو الين من ذلك النظر قد رجوت ان يتبسم ودخل عليه نساء بني عبد المطلب ودخلت معهن زوجتي فرققته علي وخرج إلى المسجد وانا بين يديه لا افارقه على حال حتى خرج إلى هوازن وخرجت معه وذكر قصته بهوازن وهي مشهورة # قال الواقدي وقد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث بوجه اخر قال لقيت رسول الله بنيق العقاب وذكر الحديث نحوا مما ذكره ابن اسحاق قال ابن اسحاق وكان ابو
سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي امية بن المغيرة قد لقيا رسول الله بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة فيهما فقالت يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك فقال لاحاجة لي بهما أم ابن عمي فهتك عرضي وام ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لى بمكة ما قال # قال فلما خرج الخبر اليهما بذلك ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له فقال والله لياذنن لي رسول الله او لاخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الارض حتى نموت عطشا او جوعا فلما بلغ رسول الله رق لهما فدخلا عليه فانشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه فقال % لعمرك اني يوم احمل راية % لتغلب خيل اللات خيل محمد % % لكا لمدلج الحيراني اظلم ليله % فهذا اواني حين اهدى فاهتدي % % هداني هاد غير نفسي ودلني % على الله من طردت كل مطرد %
وذكر باقي الابيات # وفي رواية الواقدي قال فطلبا الدخول على رسول الله فابى ان يدخلهما عليه فكلمته أم سلمة زوجته فقالت يا رسول الله صهرك وابن عمتك وابن عمك واخوك من الرضاعة وقد جاء الله بهما مسلمين لا يكونا اشقى الناس بك فقال رسول الله لا حاجة لي بهما اما اخوك فالقائل لي بمكة ما قال لان يؤمن لي حتى أرق في السماء فقالت يارسول الله انما هو من قومك وكل قريش قد تكلم ونزل القران فيه بعينه وقد عفوت عمن هو أعظم جرما منه وابن عمك قرابتك به قريبة وانت احق الناس عفا عنه جرمه فقال رسول الله هو الذي هتك عرضي فلا حاجة لي بهما فلما خرج اليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث ومعه ابنه والله ليقبلن مني أو لأخذن بيد ابني هذا فلاذهبن في الارض حتى اهلك عطشا وجوعا وانت احلم الناس واكرم الناس مع رحمي بك فبلغ رسول الله مقالته فرق له وقال عبد الله ابن امية انما جئت لاصدقك ولي من القرابة مالي والصهر بك
وجعلت أم سلمة تكلمه فيهما فرق رسول الله لهما فاذن لهما ودخلا فاسلما وكانا جميعا حسني الإسلام # قتل عبد الله بن أبي امية بالطائف ومات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر رضى الله عنه لم يغمص عليه بشئ ولقد كان رسول الله اهدر دمه قبل ان يلقاه # فوجه الدلالة انه ندر دم أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديد المشركين الذين كانوا اشد تاثيرا في الجهاد باليد والمال وهو قادم إلى مكة لا يريد ان يسفك دماء اهلها بل يستعطفهم على الإسلام ولم يكن لذلك سبب يختص بابي سفيان الا الهجاء ثم جاء مسلما وهو يعرض عنه هذا الاعراض وكان من شانه ان يتالف الاباعد على الإسلام فكيف بعشيرته الاقربين كل ذلك بسبب هتكه عرضه كما هو مفسر في الحديث # ومن ذلك انه امر يوم الفتح بقتل الحويرث بن نقيد وهو معروف عند اهل السير قال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري وهي من اصح المغازي كان مالك يقول من احب ان يكتب المغازي فعليه بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة قال وامرهم رسول الله
ان يكفوا ايديهم فلا يقاتلوا أحد الا من قاتلهم وامرهم بقتل اربعة نفر منهم الحويرث بن نقيد # وقال سعيد بن يحيى الاموي في مغازيه حدثني أبي قال وقال ابن اسحاق وكان رسول الله عهد إلى المسلمين في قتل نفر ونسوة وقال ان وجدتموهم تحت استار الكعبة فاقتلوهم وسماهم باسمائهم ستة وهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن خطل والحويرث بن نقيد ومقيس بن صبابه ورجل من بني تيم بن غالب # قال ابن اسحاق وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر انهم كانوا سته فكنم اسم رجلين واخبرني باربعة وزعم ان عكرمة بن أبي جهل احدهم # قال واما الحويرث بن نقيد فقتله علي بن أبي طالب وكذلك ذكر ابن اسحاق في رواية ابن بكير وغيره عنه من نفر الذين استثناهم النبي وقال اقتلوهم وان وجدتموهم تحت استار الكعبة الحويرث بن نقيد وكان ممن يؤذي رسول الله
قال الواقدي عن ااشياخه ان النبي نهى عن القتال وامر بقتل ستة نفر واربع نسوة عكرمة بن أبي جهل وهبار بن الاسود وابن أبي سرح ومقيس بن صبابه والحويرث بن نقيد وابن خطل # قال واما الحويرث بن نقيد فانه كان يؤذي النبي فاهدر دمه فبين هو في منزله يوم الفتح قد اغلق عليه واقبل علي رضي الله عنه يسال عنه فقيل هو في البادية فاخبر الحويرث انه يطلب وتنحى علي عن بابه فخرج الحويرث يريد ان يهرب من بيت إلى بيت اخر فتلقاه علي فضرب عنقه # ومثل هذا مما يشتهر عند هؤلاء مثل الزهري وابن عقبة وابن اسحاق والواقدي والاموي وغيرهم أكثر ما فيه انه مرسل والمرسل اذا روى من جهات مختلفة لا سيما ممن له عناية بهذا الامر وتتبع له كان كالمسند بل بعض ما يشتهر عند اهل المغازي ويستفيض اقوى مما يروى بالاسناد الواحد ولا يوهنه انه لم يذكر بالحديث الماثور عن سعد وعمرو بن
شعيب عن ابيه عن جده لان المثبت مقدم على النافي ومن اخبر انه امر بقتله فمعه زيادة علم ولعل النبي لم يامر بقتله ثم امر بقتله وذلك انه يمكن ان النبي نهىاصحابه ان يقتلوا الا من قاتلهم الا النفر الاربعة ثم امرهم ان يقاتلوا هذاوغيره ومجرد نهيه عن القتال لا يوجب عصمة المكفوف عنهم لكنه بعد ذلك امنهم الامان العاصم للدم وهذا الرجل قد امر النبي بقتله لمجرد اذاه له مع انه قد امن اهل البلد الذين قاتلوه واصحابه وفعلوا بهم الافاعيل # ومن ذلك انه لما قفل من بدر راجعا إلى المدينة قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ولم يقتل من اسارىبدر غيرهما وقصتهما معروفة
قال ابن اسحاق وكان في الاسرى عقبة بن أبي معيط والنضر ابن الحارث فلما كان رسول الله بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي بن أبي طالب كما خبر ثم مضى رسول الله فلما كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت # قال موسى بن عقبة عن الزهري ولم يقتل من الاسارى صبرا غير عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت ابن أبي الاقلح ولما ابصره عقبة مقبلا اليه استغاث بقريش فقال يامعشر قريش علاما اقتل من
بين هاهنا فقال رسول الله على عداوتك لله ورسوله وكذلك ذكر محمد بن عائد في مغازيه # وهذا والله اعلم لان النضر قتل بالصفراء عند بدر فلم يعد من الاسرى عند هذا القائل لقتله قريبا من مصارع قريش والا فلا خلاف علمناه ان النضر وعقبة قتلا بعد الاسر # وقد روى البزار عن ابن عباس ان عقبة بن أبي معيط نادى يامعشر قريش مالي اقتل من بينكم صبرا فقال له النبي بكفرك وافترائك على رسول الله # وقال الواقدي كان النضر بن الحارث اسره المقداد بن الاسود فلما خرج رسول الله من بدر فكان بالاثيل عرض عليه الاسرى فنظر إلى النضر بن الحارث فابده البصر فقال لرجل إلى جنبه محمد
والله قاتلي لقد نظر الي بعينن فيهما الموت فقال الذي إلى جنبه والله ما هذا منك الا رعب فقال النضر لمصعب بن عمير يامصعب انت اقرب من هاهنا بي رحما كلم صاحبك ان يجعلني كرجل من اصحابي هو والله قاتلي ان لم تفعل قال مصعب انك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا وتقول في نبيه كذا وكذا قال يامصعب يجعلني كاحد اصحابي ان قتلوا قتلت وان من عليهم من علي قال مصعب انك كنت تعذب اصحابه وذكر الحديث إلى ان قال فقتله علي بن أبي طالب صبرا بالسيف # قال الواقدي واقبل رسول الله بالاسرى حتى اذا كانوا بعرف الظبية امر عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح ان يضرب عنق عقبة ابن أبي معيط فجعل عقبة يقول ياويلي علام اقتل يا قريش من بين من هاهنا قال رسول الله لعداوتك لله ورسوله قال يامحمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي ان قتلتهم قتلتني وان مننت عليهم مننت علي وان اخذت منهم الفداء كنت كاحدهم يامحمد من للصبية قال رسول الله النار قدمه ياعاصم فاضرب عنقه فقدمه عاصم فضرب عنقه فقال رسول الله بئس الرجل
كنت والله ما علمت كافرا بالله وبكتابه وبرسوله مؤذيا لنبيه فاحمد الله الذي هو قتلك واقر عيني منك # ففي هذا بيان ان السبب الذي اوجب قتل هذين الرجلين من بين سائر الاسرى اذاهم لله ولرسوله بالقول والفعل فان الايات التي نزلت في النضر معروفة واذى ابن أبي معيط له مشهور بلسانه ويده حين خنقه بابي هو واحي بردائه خنقا شديدا يريد
قتله وحين القى السلا على ظهره وهو ساجد وغير ذلك # ومن ذلك انه امر بقتل من يهجوه بعد فتح مكة من قريش وسائر العرب مثل كعب بن زهير وغيره # ىقال الاموي حدثني أبي قال قال ابن اسحاق وذكره يونس بن بكيروالبكائي وغيرهما عن ابن اسحاق قال فلما قدم رسول الله
المدينة منصرفا من الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى اخيه كعب بن زهير يخبره ان رسول الله كتب في قتل رجال بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه # ولفظ يونس والبكائي ان رسول الله قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وان من بقي من شعراء قريش ابن الزبعري وهبيرة ابن أبي وهب وقد هربوا في كل وجه فان كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله فانه لا يقتل احدا جاءه تائبا وان انت لم تفعل فانج إلى نجاتك من الارض وكان كعب قد قال ابياتا نال فيها من رسول الله حتى رويت وعرفت وكان الذي قال % الا ابلغا بجيرا رسالة % فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا % % لتخبرني ان كنت ليس بفاعل % على اي شئ غير ذلك دلكا % % على خلق لم يلق يوما أبا له % ولا انت لم تعرف عليه أبا لكا % % فان انت لم تفعل فلست باسف % ولا قائل اما عثرت لعالكا % % سقاك بها المؤمون كاسا روية % فانهلك المؤمون منها وعلكا %
وانما قال كعب المؤمون لقول قريش لرسول الله الامين الذي كانت تقول له
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الارض واشفق على نفسه وارجف به من كان في حاضره من عدوه فقالوا هو مقتول فلما لم يجد من شئ بدا قال قصيدة يمدح فيها رسول الله ويذكر فيها خوفه وراجاف الوشاة به ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به على رسول الله حين صلى الصبح فلما صلى مع الناس اشار له إلى رسول الله فقال هذا رسول الله فقم اليه فذكر لنا انه قام إلى رسول الله فوضع يده في يده وكان رسول الله لا يعرفه فقال يا رسول الله اني كعب ابن زهير استامن منك تائبا مسلما فهل انت قابل منه ان انا جئتك به فقالل رسول الله نعم قال انا يارسول الله كعب بن زهير # قال ابن اسحاق فحدثني عاصم بن عمر انه وثب عليه رجل من الأنصار فقال يارسول الله دعني وعدو الله اضرب عنقه فقال رسول الله دعه عنك قد جاء تائبا نازعا قال فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم وذلك انه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين الا بخير فقال قصيدته التي قال حين قدم رسول الله ثم انشد ابن اسحاق قصيدته المشهورة بانت سعاد وفيها
% انبئت ان رسول الله اوعدني % والعفو عند رسول الله مامول % % مهلا هداك الله الذي اعطاك نافلة % القاران فيه مواعيظ وتفصيل % % لاتاخذني باقوال الوشاة ولم اذنب ولو كثرت في الاقاويل %
وفي حديث اخر وذلك انه بلغه رسول الله ندر دمه لقول بلغه عنه فقدم على رسول الله مسلما ودخل مسجده وانشد القصيدة فقد اخبر أن رسول الله كتب في قتل رجال بمكة لاجل هجائهم واذاهم حتى افر من فر منهم إلى نجران ثم رجع ابن الزيدي عليه تائبا مسلما واقام هبيرة بنجران حتى مات مشركا ثم انه اهدر دم كعب لما قاله مع انه ليس من بليغ الهجاء لكونه طعن في دين الإسلام وعابه وعاب ما يدعوا اليه الرسول ثم انه تاب قبل القدرة عليه وجاء مسلما وكان حربيا ومع هذا فهو يلتمس العفو ويقول لا تاخذني باقوال الوشاة ولم اذنب # من ذلك ما نقل انه كان يندب إلى قتل من يهجوه ويقول من يكفيني عدوي # قال الاموي سعيد بن يحيى بن سعيد في مغازيه ثنا أبي قال اخبرني عبد الملك بن جريج اخبرني عن رجل اخبره عن عكرمة عن عبد الله بن
عباس ان رجلا من المشركين شتم رسول الله فقال رسول الله من يكفيني عدوي فقام الزبير بن العوام فقال انا فبارزه فاعطاه رسول الله سلبه ولا احسبه الا في خيبر حين قتل ياسر ورواه عبد الرزاق ايضا # وروى ان رجلا كان يسب النبي فقال من يكفيني عدوي فقال خالد انا فبعثه النبي فقتله # ومن ذلك ان اصحابه كانوا اذا سمعوا من يسبه ويؤذيه قتلوه وان كان قريبا فيقرهم على ذلك ويرضاه وربما سمى من فعل ذلك ناصرا لله ورسوله
فروى أبو اسحاق الفزاري في كتابه المشهور في السير عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع عن مالك بن عمير قال جاء رجل إلى النبي فقال اني لقيت أبي في المشركين فسمعت منه مقاله قبيحة لك فما صبرت ان طعنته بالرمح فقتلته فما شق ذلك عليه # قال وجاءه اخر فقال اني لقيت أبي في المشركين فصفحت عنه فما شق ذلك عليه # وقد رواه الاموي وغيره من هذه الطريق
وروى أبو اسحاق الفزاري ايضا في كتابه عن الاوزاعي عن حسان بن عطية قال بعث رسول الله جيشا فيهم عبد الله بن رواحة وجابر فلما صافوا المشركين اقبل رجل منهم يسب رسول الله فقام رجل من المسلمين فقال انا فلان ابن فلان وامي فلانه فسبني وسب امي وكف عن سب رسول الله فلم يزده ذلك الا اغراء فاعاد مثل ذلك وعاد الرجل مثل ذلك فقال في الثالثة لئن عدت لارحلنك بسيفي فعاد فحمل عليه الرجل فولى
مدبرا فاتبعه الرجل حتى خرق صف المشركين فضربه بسيفه واحاط به المشركون فقتلوه فقال رسول الله اعجبتم من رجل نصر الله ورسوله ثم ان الرجل برئ من جراحه فاسلم فكان يسمى الرحيل ورواه الاموي في مغازيه من هذا الوجه # وقد تقدم حديث عمير بن عدي لما قال حين بلغه اذى بنت مروان للنبي اللهم ان علي نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لاقتلنها فقتلها بدون اذن النبي فقال النبي اذا احببتم ان تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي # وكذلك حديث اليهودية وام الولد فان النبي اهدر دمها لما قتلت لاجل سبه وقد قتلت بدون اذنه فهذا مما يدخل في انه اقر من قتل رجلا لاجل سبه # وقد تقدم ايضا حديث الرجل الذي نذر ان يقتل ابن أبي سرح لما افتراه على النبي وإن النبي امسك عن مبايعته ليقوم اليه ذلك الرجل فيقتله ويفي بنذره # وقد ذكروا ان الجن الذي امنوا به كانت تقصد من يسبه من الجن الكفار فتقتله قبل الهجرة وقبل الاذن في القتال له وللانس فيقرها
على ذلك ويشكر ذلك لها # قال سعيد بن يحيى الاموي في مغازيه حدثني محمد بن سعيد يعني عمه قال قال محمد بن المنكدر انه ذكر له عن ابن عباس انه قال هاتف من الجن على جبل أبي قبيس فقال % قبح الله رايكم آل فهر % ما ادق العقول والاحلام % % حين تغضي لمن يعيب عليها % دين ابائها الحماة الكرام % % حالف الجن جن بصرى عليكم % ورجال النخيل والاطام % % توشك الخيل ان تروها نهارا % تقتل القوم في حرام تهام %
% هل كريم منكم له نفس حر % ماجد الجدتين والاعمام % % ضاربا ضربة تكون نكالا % ورواحا من كربه واغتنام %
قال ابن عباس فاصبح هذا الشعر حديثا لاهل مكة يتناشدوه بينهم فقال رسول الله هذا شيطان يكلم الناس من الاوثان يقال له مسعر والله مخزيه فمكثوا ثلاثة ايام فاذا هاتف يهتف على الجبل يقول % نحن قتلنا في ثلاث مسعرا % اذ سفه الحق وسن المنكرا % % قنعته سيفا حساما مبترا % بشتمه نبيا المطهرا %
فقال رسول الله هذا عفريت من الجن اسمه سمحج امن بي سميته عبد الله اخبرني انه في طلبه منذ ثلاثة ايام فقال علي جزاه الله خيرا يا رسول الله # وممن ذكر انه قتل لاجل اذى النبي أبو رافع بن ابن الحقيق اليهودي وقصته معروفة مستفيضة عند العلماء فنذكر منها وضع الدلالة # عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار وامر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله ويعين عليه وكان في حصن له بارض
الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لاصحابه اجلسوا مكانكم فاني منطلق ومتلطف للبواب لعلي ان ادخل فاقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كانه يقضي حاجتة وقد دخل الناس فهتف به البواب ياعبد الله ان كنت تريد ان تدخل فادخل فاني اريد ان اغلق الباب فخلت فكمنت فلما دخل الناس اغلق الباب ثم علق الاغاليق على ود قال فقمت إلى الاقاليد فاخذتها ففتحت الابواب وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي له فلما ذهب عنه اهل سمره صعدت اليه فجعلت كلما فتحت بابا اغلقت علي من داخل قلت ان القوم نذروا بي لم يخلصوا إلى حتى اقتله فانتهيت اليه فاذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا ادري اين هو من البيت قلت أبا رافع قال من هذا فاهويت نحو الصوت
فاضربه ضربة بالسيف وانا دهش فما اغنيت شيئا وصاح فخرجت من البيت فامكث غير بعيد ثم دخلت اليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع فقال لامك الويل ان رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال فاضربه ضربة اثخنته ولم اقتله ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى اخذ في ظهره فعرفت اني قتلته فجعلت افتح الابواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درحة له فوضعت رجلي وانا ارى ان قد انتهيت إلى الارض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت لا اخرج الليلة حتى اعلم اقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال انعي أبا رافع تاجر اهل الحجاز فانطلقت إلى اصحابي فقلت النجاء قد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي فحدثته فقال ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكانما لم اشتكها قط رواه البخاري في صحيحه
وقال ابن اسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال مما صنع الرسول ان هذين الحيين من الأنصار الاوس والخزرج كانا يتصاولان معه تصاول الفحلين لايصنع احدهما شيئا الا صنع الاخر مثله يقولون لايعدون ذلك فضلا علينا في الإسلام وعند رسول الله فلما قتل الاوس كعب بن الاشرف تذكرت الخزرج رجلا هو في العداوة لرسول الله مثله فتذاكروا ابن أبي الحقيق في خيبر فاستاذنوا رسول الله في قتله فاذن لهم وذكر الحديث إلى ان قال ثم صعدو اليه في علية له فقرعوا عليه الباب فخرجت اليهم امراته فقالت من انتم فقالوا حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فقالت ذاكم الرجل عندكم في البيت وذكر تمام الحديث في قتله # فقد تبين في حديث البراء وابن كعب انما تسرى المسلمين بقتله باذن النبي لاذاه للنبي ومعاداته له # وانه كان نضير ابن الاشرف لكن ابن الاشرف كان معاهدا فاذى الله ورسوله فندب المسلمين إلى قتله وهذا لم يكن معاهدا # فهذه الاحاديث كلها تدل على ان من كان يسب النبي ويؤذيه من الكفار فانه كان يقصد قتله ويحض عليه لاجل ذلك وكذلك
اصحابه بامره يفعلون ذلك مع كفه عن غيره ممن هو على مثل حاله في انه كافر غير معاهد بل مع امانه لاولئك او احسانه اليهم من غير عهد بينه وبينهم ثم من هؤلاء من قتل ومنهم من جاء مسلما تائبا فعصم دمه لثلاثة اسباب # احدها انه جاء تائبا قبل القدرة عليه والمسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائبا قبل القدرة عليه لسقط عنه فالحربي اولى # الثاني ان رسول الله كان من خلقه ان يعفو عنه # الثالث ان الحربي اذا اسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله ولا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى ^ قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ^ ولقوله الإسلام يجب ما قبله رواه مسلم ولقوله من احسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية متفق عليه
ولهذا اسلم خلق كثير وقد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب احدا منه بقود ولا دية ولا كفارة # اسلم وحشي قاتل حمزة وابن العاص قاتل ابن قوقل وعقبة بن الحارث قاتل خبيب بن
عدي ومن لا يحصى ممن ثبت في الصحيح انه اسلم وقد علم انه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي على أحد منهم قصاصا بل قال يضحك الله إلى رجلين يقتل احدهما الاخر كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم ويقتل في سبيل الله فيدخل الجنة متفق عليه # وكذلك ايضا لم يضمن النبي احدا منهم مالا اتلفه للمسلمين ولا اقام على أحد حد زنى او سرقة او شرب او قذف سواء كان قد اسلم بعد الاسر او قبل الاسر وهذا مما لانعلم بين المسلمين فيه خلافا في روايته ولا في الفتوى به
بل لو اسلم الحربي وبيده مال مسلم قد اخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرما في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص احمد وقول جماهير اصحابه بناء على ان الإسلام او العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له لانه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله ووجب اجره على الله واخذه هذا مستحلا له وقد غفر له بإسلامه ما فعله في
دماء المسلمين واموالهم فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما اتلفه من النفوس والاموال ولا يقضي ما تركه من العبادات لان كل ذلك كان تابعا للاعتقاد فلما رجع عن الاعتقاد غفر له ما تبعه من الذنوب فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه فيه فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من ربا وغيره # ومن العلماء من قال يرده على مالكه المسلم وهو قول الشافعي وابي الخطاب من الحنبلية بناء على ان اغتنامهم فعل محرم فلا يملكون به مال المسلم كالغصب ولانه لو اخذه المسلم منهم اخذا يملك به مسلم من مسلم بان يغنمه او يسرقه فانه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي وهو مما اتفق الناس فيما نعلمه عليه ولو كانوا قد ملكوه كملكه الغانم منهم ولم يرده
والاول اصح لان المشركين كانوا يغنمون من اموال المسلمين الشئ الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك وقد اسلم عامة اولئك المشركين فلم يسترجع النبي من أحد منهم مالا مع ان بعض تلك الاموال لابد ان يكون باقيا # ويكفي في ذلك ان الله سبحانه قال ^ للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم واموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ^ وقال ^ اذن للذين يقاتلون ^ إلى قوله ^ الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق ^ وقال ^ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج اهله منه ^ وقال ^ انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ^ # فبين سبحانه ان المسلمين اخرجوا من ديارهم واموالهم بغير حق حتى صاروا فقراء بعد ان كانوا اغنياء # ثم ان المشركين استولوا على تلك الديار والاموال وكانت باقية إلى حين الفتح وقد اسلم من استولى عليها في الجاهلية ثم لم يرد النبي
على أحد منهم اخرج من داره بعد الفتح والإسلام دارا ولا مالا فان قيل للنبي يوم الفتح الا تنزل في دارك فقال وهل ترك لنا عقيل من دار # وساله المهاجرون ان يرد عليهم اموالهم التي استولى عليها اهلى مكة فابى ذلك واقرها بيد من استولى عليها بعد إسلامه # وذلك ان عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي ودور اخوته من الرجال والنساء مع ما ورثه من ابيه أبي طالب # قال أبو رافع قيل للنبي الا تنزل منزلك من الشعب قال فهل ترك لنا عقيل منزلا وكان عقيل قد باع منزل رسول الله ومنزل اخوته من الرجال والنساء بمكة
وقد ذكر اهل العلم بالسيرة منهم أبو الوليد الازرقي ان رباع عبد المطلب بمكة صارت لبني عبد المطلب فمنها الشعب شعب ابن يوسف وبعض دار ابن يوسف لابي طالب والحق الذي بينه وبعض دار ابن يوسف دار المولد مولد النبي وما حوله لأبي لنبي عبد الله بن عبد المطلب # ولا ريب ان النبي كانت له هذه الدار ورثه من ابيه وبها ولد وكان له دار ورثها هو وولده من خديجة رضى الله عنها # قال الازرقي فسكت النبي عن مسكنيه كليهما مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة بنت خويلد وولد فيه ولده جميعا
قال وكان عقيل بن أبي طالب اخذ مسكنه الذي ولد فيه واما بيت خديجة فاخذه معتب بن أبي لهب وكان اقرب الناس اليه جوارا فباعه بعد من معاوية # قد شرح اهل السيرة ما ذكرنا في دور المهاجرين # قال الازرقي دار جحش بن رئاب الاسدي التي بالمعلى لم تزل في يد وللد جحش فلما اذن الله لنبيه واصحابه في الهجرة إلى المدينة خرج ال جحش جميعا الرجال والنساء إلى المدينة مهاجرين وتركوا دارهم خالية وهم حلفاء حرب بني امية فعمد أبو سفيان إلى دارهم هذه فباعها باربع مئة دينار من عمرو بن علقمة العامري فلما بلغ ال جحش انا أبا سفيان باع دارهم انشا أبو احمد يهجوا أبو سفيان ويعيره ببيعها وذكر ابياتا
فلما كان يوم فتح مكه اتى أبو احمد بن جحش وقد ذهب بصره إلى رسول الله فكلمه فيها فقال يارسول الله ان أبا سفيان عمد إلى داري فباعها فدعاه النبي فكلمه فيها فساره بشئ فما سمع أبو احمد بعد ذلك ذكرها فقيل لابي احمد بعد ذلك ما قال لك رسول الله قال قال لي ان صبرت كان خيرا وكان لك بها دار في الجنة قال قلت فانا اصبر فتركها أبو احمد # قال وكان لعتبة بن غزوان دار تسمى ذات الوجهين فلما هاجر اخذها يعلي بن امية وكان استوصاه بها حين هاجر فلما كان عام الفتح وكلم بنو جحش رسول الله في دارهم فكره ان يرجعوا في شئ من اموالهم اخذ منهم في الله تعالى وهجروه لله # امسك عتبة بن غزوان عن كلام رسول الله في داره هذه ذات
الوجهين وسكت المهاجرون ولم يتكلم أحد منهم في دار هجرها لله ورسوله وسكت رسول الله عن مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة وهذه القصة معروفة عند اهل العلم # قال محمد بن اسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر ببن حزم والزبير ابن عكاشة بن أبي احمد قالا ابطا رسول الله يوم الفتح عليهم في دورهم فقالوا لابي احمد ياابا احمد ان رسول الله يكره لكم ان ترجعوا في شيء من اموالكم مما اصيب في الله # وقال ابن اسحاق ايضا في رواية زياد بن عبد الله البكائي عنه وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله فلم يبقى أحد منهم بمكة الا مفتون او محبوس ولم يوعب اهل هجرة من مكة باهليهم أموالهم إلى الله والى رسوله الا اهل دور مسمون بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني امية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء عدي بن كعب فان دورهم غلقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن # ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن
حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله فقال رسول الله الا ترضى ياعبد الله ان يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة فقال بلى فقال ذلك لك فلما افتتح رسول الله مكة كلمه أبو احمد في دارهم فابطا عليه رسول الله فقال الناس لابي احمد يا أبا احمد ان رسول الله يكره ان ترجعوا في شيء من اموالكم اصيب منكم في الله فامسك عن كلام رسول الله # قال الواقدي عن اشياخه قالوا وقام أبو احمد بن جحش على باب المسجد على جمل له حين فرغ النبي من خطبته يعني الخطبة التي خطبها وهوواقف بباب الكعبة حين دخل الكعبة فصلى فيها ثم خرج يوم الفتح فقال أبو احمد وهو يصيح انشد بالله يا بني عبد مناف حلفي انشد بالله يا بني عبد مناف داري قال فدعا رسول الله عثمان بن عفان فسار عثمان بشيء فذهب عثمان إلى أبي احمد فساره فنزل أبو احمد عن بعيره وجلس مع القوم فما سمع أبو احمد ذكرها حتى لقي الله
فهذا نص في ان المهاجرين طلبوا استرجاع ديارهم فمنعهم رسول الله واقرها بيد من استولى عليها ومن اشتراها منه وجعل ما اخذه منهم الكفار بمنزلة ما اصيب من دمائهم وما انفقوه من اموالهم وتلك دماء واموال اشتراها الله وسلمت اليه ووجب اجرها على الله فلا رجعة فيها وذلك لان المشركين يستحلون دماءنا واموالنا واصابوا ذلك كله استحلالا وهم اثمون في هذا الاستحلال فاذا اسلموا جب الإسلام ذلك الاثم وصاروا كانهم ما اصابوا دما ولا مالا فما بايديهم لا يجوز انتزاعه منهم # فان قيل في الصحيحين عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه انه قال يارسول الله اتنزل في دارك بمكة قال وهل ترك لنا عقيل من رباع او دور وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر
ولا علي شيئا لانهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين وفي رواية للبخاري انه قال يارسول اين تنزل غدا وذلك زمن الفتح فقال وهل ترك لنا عقيل من منزل ثم قال لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر قيل للزهري ومن ورث أبا طالب قال ورثه عقيل وطالب وفي رواية معمر عن الزهري اين تنزل غدا في حجته رواه البخاري # وظاهر هذا ان الدور انتقلت إلى عقيل بطريق الارث لا بطريق الاستيلاء ثم باعها # قلنا اما دار النبي التي ورثها من ابيه وداره التي هي له ولولده من زوجته المؤمنة خديجة فلا حق لعقيل فيها فعلم انه استولى عليها واما دور أبي طالب فان أبا طالب توفي قبل الهجرة بسنين والمواريث لم تفرض ولم يكن نزل بعد منع المسلم من ميراث الكافر بل كان من مات بمكة من المشركين اعطي اولاده المسلمون نصيبهم من الارث كغيرهم بل كان المشركون ينكحون المؤمنات الذي هو أعظم من الارث وانما قطع الله الموالاة بين المسلمين والكافرين بمنع النكاح والارث وغير ذلك بالمدينة وشرع الجهاد القاطع للعصمة
قال ابن اسحاق حدثني ابن أبي نجيح قال لما قدم رسول الله مكة نظر إلى تلك الرباع فما ادرك منها قد اقتسم على امر الجاهلية تركه لم يحركه وما وجده لم يقسم قسمة على قسمة الإسلام # وهذا الذي رواه ابن أبي نجيح يوافق الاحاديث المسندة في ذلك مثل حديث ابن عباس قال قال رسول الله كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ماقسم وكل قسم ادركه الإسلام فانه على ما قسم الإسلام رواه أبو داود وابن ماجه # وهذا ايضا يوافق ما دل عليه كتاب الله ولا نعلم فيه خلافا فان الحربي لو عقد عقدا فاسدا من ربا او بيع خمر او خنزير او نحو ذلك ثم اسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده ولم يجب عليه رده ولو لم يكن قبضة لم يجز له ان يقبض منه الا ما يجوز للمسلم كما دل عليه قوله تعالى ^ اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين ^ فامرهم بترك ما بقي في ذمم الناس ولم يامرهم برد ما قبضوه
وكذلك وضع النبي لما خطب الناس كل دم اصيب في الجاهلية وكل ربا في الجاهلية حتى ربا العباس ولم يامر برد ما كان قبض فكذلك الميراث اذا مات الميت في الجاهلية واقتسموا تركته امضيت القسمة فان اسلموا قبل الاقتسام او تحاكموا الينا قبل القسمة قسم على قسم الإسلام فلما مات أبو طالب كان الحكم بينهم ان يرثه جميع ولده فلم يقتسموا رباعة حتى هاجر جعفر وعلي إلى المدينة فاستولى عقيل عليها وباعها فقال النبي لم يترك لنا عقيل منزلا الا استولى عليه وباعه فكان معنى هذا الكلام انه استولى على دور كنا نستحقها اذ ذاك ولولا ذلك لم تضف الدور اليه والى بني عمه اذا لم يكن لهم فيها حق ثم قال بعد ذلك لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن يريد والله اعلم لو ان الرباع باقية بيده إلى الان
لم تقسم لكنا نعطي رباع أبي طالب كلها له دون اخوته لانه ميراث لم يقسم فيقسم الان على قسم الإسلام ومن قسم الإسلام ان لا يرث المسلم الكافر فكان نزول هذا الحكم بعد موت أبي طالب وقبل قسمة تركته بمنزله نزوله قبل موته فبين النبي ان عليا وجعفرا ليس لهما المطالبة بشيء من ميراث أبي طالب لو كان باقيا فكيف اذا اخذ منه في سبيل الله فاذا كان المشرك الحربي لايطالب بعد إسلامه بما كان اصابه من دماء المسلمين واموالهم وحقوق الله ولا ينتزع ما بيده من اموالهم التي غنمها منهم لم يؤاخذ ايضا بما اسلفه من سب وغيره فهذا وجه العفو عن هؤلاء # وهذا الذي ذكرناه من سنة رسول الله في تحتم قتل من كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر كان مستقرا في نفوس اصحابه على عهده وبعد عهده يقصدون قتل الساب ويحرضون عليه وان امسكوا عن غيره ويجعلون ذلك هو الموجب لقتله ويبذلون في ذلك نفوسهم كما تقدم من حديث الذي قال سبني وسب أبي وامي وكف عن رسول الله ثم حمل عليه حتى قتل وحديث الذي قتل اباه لما سمعه يسب النبي وحديث الانصاري الذي نذر ان يقتل العصماء فقتلها وحديث الذي نذر ان يقتل ابن أبي سرح وكف النبي عن مبايعته ليوفي بنذره
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال اني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فاذا انا بغلامين من الأنصار حديثة اسنانهما فتمنيت ان اكون بين اضلع منهما فغمزني احدهما فقال اي عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك اليه يا أبا ابن أخي قال اخبرت انه يسب رسول الله والذي نفسي بيده لئن رايته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الاعجل منا قال فتعجبت لذلك قال وغمزني الاخر فقال لي مثلها فلم انشب ان نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت الا تريان هذا صاحبكما الذي تسالاني عنه قال فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله فاخبراه فقال ايكما قتله فقال كل واحد سنهما انا قتلته فقال هل مسحتما سيفيكما فقال لا فنظر رسول الله إلى السيفين فقال كلاكما قتله وقضى رسول الله بسلبه لمعاذ بن عمرو الجموح والرجلان معاذ
ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء # والقصة مشهورة في فرح النبي بقتله وسجوده شكرا وقوله هذا فرعون هذه الامة هذا مع نهيه عن قتل أبي البختري ابن هشام مع كونه كافرا غير ذي عهد لكفه عنه واحسانه بالسعي في نقض صحيفة الجور ومع قوله لو كان المطعم بن
عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى يعني الاسرى لاطلقتهم له يكافيء المطعم باجارته له بمكة والمطعم كافر غير معاهد فعلم ان مؤذي الرسول يتعين اهلاكه والانتقام منه بخلاف الكاف عنه وان اشتراكا في الكفر كما كان يكافيء المحسن اليه باحسانه وان كان كافرا # يؤيد ذلك ان أبا لهب كان له من القرابة ماله فلما اذاه وتخلف عن بني هاشم في نصره نزل القران فيه بما نزل من اللعنة والوعيد باسمه خزيا لم يفعل بغيره من الكافرين كما روي عن ابن عباس انه قال ما كان أبو لهب الا من كفار قومه حتى خرج منا حين تحالفت قريش علينا فظاهرهم فسبه الله وبنو المطلب مع مساواتهم لعبد شمس ونوفل في النسب لما اعانوه ونصروه وهم كفار شكر الله ذلك لهم فجعلهم بعد الإسلام مع بني هاشم في سهم ذوي القربى وابو طالب لما اعانه
ونصره وذب عنه خفف عنه العذاب فهو من اخف اهل النار عذابا وقد روي ان أبا لهب سقي في نقرة الابهام لعتقه ثويبة اذ بشرته بولادته # ومن سنة الله ان من لم يمكن المؤمنين ان يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فان الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه اياه كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكتاب المفترى وكما قال سبحانه ^ فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين ^ والقصة في اهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين معروفة قد ذكرها اهل السير والتفسير وهم على ماقيل نفر من رؤوس قريش منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والاسودان بن المطلب وابن عبد يغوث والحارث بن قيس # وقد كتب النبي إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يسلم لكن قيصر اكرم كتاب رسول الله واكرم رسوله فثبت ملكه فيقال ان الملك باق في ذريته إلى اليوم وكسرى مزق كتاب رسول الله
واستهزا برسول الله فقتله الله بعد قليل ومزق ملكه كل ممزق ولم يبق للاكاسرة ملك وهذا والله اعلم تحقيق قوله تعالى ^ ان شانئك هو الابتر ^ فكل من شناه او ابغضه وعاداه فان الله تعالى يقطع دابره ويمحق عينه واثره وقد قيل انها نزلت في العاص بن وائل او في عقبة بن أبي معيط او في كعب بن الاشرف وقد رايت صنيع الله بهم # ومن الكلام السائر لحوم العلماء مسمومة فكيف بلحوم الانبياء عليهم السلام # وفي الصحيح عن النبي قال يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة # فكيف بمن عادى الانبياء ومن حارب الله حرب واذا استقريت قصص الانبياء المذكورة في القران تجد اممهم انما اهلكوا حين
اذوا الانبياء وقابلوهم بقبيح القول او العمل وهكذا بنو إسرائيل انما ضربت عليهم الذلة وباؤوا بغضب من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الانبياء بغير حق مضموما إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه ولعلك لاتجد احدا اذى نبيا من الانبياء ثم لم يتب الا ولا بد ان يصيبه الله بقارعة وقد ذكرنا ما جربه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار اذا تعرضوا لسب رسول الله وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة وهذا باب واسع لا يحاط به ولم نقصد قصده هنا وانما قصدنا بيان الحكم الشرعي # وكان سبحانه يحميه ويصرف عنه اذى الناس وشتمهم بكل طريق حتى في اللفظ ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله الا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وانا محمد فنزه الله اسمه ونعته عن الاذى وصرف ذلك إلى من هو مذمم وان كان المؤذي انما قصد عينه
فاذا تقرر بما ذكرناه من سنة رسول الله وسيرة اصحابه وغير ذلك ان الساب للرسول يتعين قتله فنقول اما ان يكون تعين قتله لكونه كافرا حربيا او للسبب المضموم إلى ذلك والاول باطل لان الاحاديث نص في انه لم يقتل لمجرد كونه كافرا حربيا بل عامتها قد نص فيه على ان موجب قتله انما هو السب فنقول اذا تعين قتل الحربي لاجل انه سب النبي فكذلك المسلم والذمي واولى لان الموجب للقتل هو السب لا مجرد الكفر والمحاربة كما تبين فحيثما وجد هذا الموجب وجب القتل وذلك لان الكفر مبيح للدم لا موجب لقتل الكافر بكل حال فانه يجوز امانة ومهادنته والمن عليه ومفاداته لكن اذا صار للكافر عهد عصم العهد دمه الذي اباحه الكفر فهذا هو الفرق بين الحربي والذمي فاما ما سوى ذلك من موجبات القتل فلم يدخل في حكم العهد # وقد ثبت بالسنة ان النبي كان يامر بقتل الساب لاجل السب فقط لا لمجرد الكفر الذي لا عهد معه فاذا وجد هذا السب وهوموجب للقتل والعهد لم يعصم من موجبه تعين القتل ولان أكثر مافي ذلك انه كافر حربي ساب والمسلم اذا سب يصير مرتدا سابا وقتل المرتد اوجب من قتل الكافر الاصلي والذمي اذا سب فانه يصير كافرا محاربا سابا بعد عهد متقدم وقتل مثل هذا اغلظ
وايضا فان الذمي لم يعاهد على اظهار السب بالاجماع ولهذا اذا اظهره فانه يعاقب عليه باجماع المسلمين اما بالقتل او بالتعزير وهو لايعاقب على فعل شيء مما عوهد عليه وان كان كافرا غليظا ولا يجوز ان يعاقب على فعل شيء قد عوهدعلى فعله واذا لم يكن العهد مسوغا لفعله وقد ثبت ان النبي امر بقتل لاجله فيكون قد فعل ما يقتل لاجله وهو غير مقر عليه بالعهد ومثل هذا يجب قتله بلا تردد # وهذا التوجيه يقتضي قتله سواء قدر انه نقض العهد او لم ينقضه لان موجبات القتل التي لم نقره على فعلها يقتل بها وان قيل لا ينتقض عهده كالزنى بذمية وكقطع الطريق على ذمي وكقتل ذمي وكما لو فعل هذه الاشياء مع المسلمين وقلنا ان عهده لا ينتقض فانه يقتل # وايضا فان المسلم قدامتنع من السب بما اظهره من الايمان والذمي قد امتنع منه بما اظهره من الذمة والتزام الصغار ولو لم يكن ممتنعا منه بالصغار لما جاز عقوبته بتعزيز ولا غيره اذا فعله فاذا قتل لاجل السب الكافر الذي يستحله ظاهرا وباطنا ولم يعاهدنا عهدا يقتضي تركه فلان يقتل لاجله من التزم ان لا يظهره وعاهدنا على ذلك اولى واحرى # وايضا فقد تبين بما ذكرناه من هذه الاحاديث ان الساب يجب قتله فان النبي امر بقتل الساب في مواضع والامر يقضي
الوجوب ولم يبلغه عن أحد السب الا ندر دمه وكذلك اصحابه هذا مع ما قد كان يمكنه من العفو عنه فحيث لايمكنه العفو عنه يجب ان يكون قتل الساب اوكد والحرص عليه اشد وهذا الفعل منه هو نوع من الجهاد والاغلاظ على الكافرين والمنافقين واظهار دين الله واعلاء كلمته ومعلوم ان هذا واجب فعلم ان قتل الساب واجب في الجملة وحيث جاز العفو له فانما هو فيمن كان مقدورا عليه من مظهر الإسلام مطيع له او ممن جاءه مستسلما اما الممتنعون فلم يعف عن أحد منهم ولا يرد على هذا ان بعض الصحابة امن احدى القينتين وبعضهم امن ابن أبي سرح لان هذين كانا مستسلمين مريدين للإسلام والتوبة ومن كان كذلك فقد كان النبي له ان يعفو عنه فلم يتعين قتله فاذا ثبت ان الساب كان قتله واجبا والكافر الحربي الذي لم يسب لايجب قتله بل يجوز قتله فمعلوم ان الذمة لاتعصم دم من يجب قتله وانما تعصم دم من يجوز قتله الا ترى ان المرتد لا ذمة له وان القاطع والزاني لما وجب قتلهما لم تمنع الذمة قتلهما # وايضا فلا مزية للذمي على الحربي الا بالعهد والعهد لم يبح له اظهار السب بالاجماع فيكون الذمي قد شرك الحربي في اظهار السب الموجب للقتل وما اختص به من العهد لم يبح له إظهاره السب فيكون قد اتى بما يوجب القتل وهو لم يقر عليه فيجب قتله بالضرورة
وايضا فان النبي امر بقتل من كان يسبه مع امانه لمن كان يحاربه بنفسه وماله فعلم ان السب اشد من المحاربة او مثلها والذمي اذا حارب قتل فاذا سب قتل بطريق الاولى # وايضا فان الذمي وان كان معصوما بالعهد فهو ممنوع بهذا العهد من اظهار السب والحربي ليس له عهد يعصمه ولا يمنعه فيكون الذمي من جهة كونه ممنوعا اسوا حالا من الحربي واشد عداوة واعظم جرما واولى بالنكال والعقوبة التي يعاقب بها الحربي على السب والعهد الذي عصمه لم يف بموجبه فلا ينفعه لانا انما نستقيم له ما استقام لنا وهو لم يستقم بالاتفاق وكذلك يعاقب والعهد يعصم دمه وبشره الا بحق فلما جازت عقوبته بالاتفاق علم انه قد اتى ما يوجب العقوبة # وقد ثبت بالسنة ان عقوبة هذا الذنب القتل وسر الاستدلال بهذه الاحاديث انه لا يقتل الذمي لمجرد كون عهده قد انتقض فان مجرد نقض العهد يجعله ككافر لا عهد له وقد ثبت بهذه السنن ان النبي لم يامر بقتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد وانما قتله لاجل السب مع كون السب مستلزما للكفر والعداوة والمحاربة وهذا القدر موجب للقتل حيث كان وسياتي الكلام ان شاء الله على تعين قتله
السنة الثالثة عشرة ما رويناه من حديث أبي القاسم عبد الله ابن محمد البغوي ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن
بريدة عن ابيه قال جاء رجل إلى قوم في جانب المدينة فقال ان رسول الله امرني ان احكم فيكم برايي وفي اموالكم وفي كذا وفي كذا وكان خطب امراة منهم في الجاهلية فابوا ان يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المراة فبعث القوم إلى رسول الله فقال كذب عدو الله ثم ارسل رجلا فقال ان وجدته حيا فاقتله وان انت وجدته ميتا فحرقه بالنار فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله من كذب علي متعمدا فليتبوا مقعده من النار # ورواه أبو احمد بن عدي في كتابه الكامل قال ثنا الحسن
ابن محمد بن عنبر ثنا حجاج بن يوسف الشاعر ثنا زكريا بن عدي ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن ابيه قال كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يوجوه فاتاهم وعليه حلة فقال ان رسول الله كساني هذه الحلة وامرني ان احكم في اموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المراة التي كان يحبها فارسل القوم إلى رسول الله فقال كذب عدو الله ثم ارسل رجلا فقال ان وجدته حيا وما اراك تجده حيا فاضرب عنقه وان وجدته ميتا فاحرقه بالنار قال فذلك قول رسول الله من كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار هذا اسناد صحيح على شرط الصحيح لانعلم له علة # وله شاهد من وجه اخر رواه المعافى بن زكريا الجريري في كتاب الجليس قال ثنا أبو حامد الحضرمي ثنا السري ابن
مزيد الخراساني ثنا أبو جعفر محمد بن علي الفزاري ثنا داود ابن الزبرقان قال اخبرني عطاء بن السائب عن عبد الله بن الزبير قال يوما لاصحابه اتدرون ما تاويل هذا الحديث من كذب علي متعمدا فليتبوا مقعده من النار قال كان رجل عشق امراة فاتى اهلها مساء فقال ان رسول الله بعثني اليكم ان اتضيف في اي بيوتكم شئت قال وكان ينتظر بيتوتية المساء قال فاتى رجل منهم النبي فقال ان فلانا اتانا يزعم انك امرته ان يبيت في اي بيوتنا شاء فقال كذب يا فلان انطلق معه فان امكنك الله منه فاضرب عنقه واحرقه بالنار ولا اراك الا قد كفيته فلما خرج
الرسول قال رسول الله ادعوه فلما جاء قال اني كنت امرتك ان تضرب عنقه وان تحرقه بالنار فان امكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرقه بالنار فانه لايعذب بالنار الا رب النار ولا اراك الا قد كفيته فجاءت السماء بصيب فخرج الرجل ليتوضا فلسعته افعى فلما بلغ ذلك النبي قال هو في النار # وقد روى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع عن أبي سلمة عن أسامة قال قال رسول الله من يقل علي ما لم اقل فليتبوا مقعده من النار وذلك انه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم تقبله الارض # وروي ان رجلا كذب عليه فبعث عليا والزبير اليه ليقتلاه وللناس في هذا الحديث قولان # احدهما الاخذ بظاهرة في قتل من تعمد الكذب على رسول الله
ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث اشد من الملحدين لان الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل فهم كاهل بلد سعوا في فساد احواله والملحدون كالمحاصرون من خارج فالدخلاء يفتحون الحصن فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له # ووجه هذا القول ان الكذب عليه كذب على الله ولهذا قال ان كذبا علي ليس ككذب على احدكم فان ما امر به الرسول فقد
امر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع امر الله وما اخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما اخبر الله به # ومن كذبه في خبره او امتنع من التزام امره فهو كمن كذب خبر الله وامتنع من التزام امره ومعلوم ان من كذب على الله بان زعم انه رسول الله او نبيه او اخبر عن الله خبرا كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين فانه كافر حلال الدم فكذلك من تعمد الكذب على رسول الله # يبين ذلك ان الكذب عليه بمنزلة التكذيب له ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى ^ ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا او كذب بالحق لما جاء ^ بل ربما كان الكاذب عليه أعظم اثما من المكذب له ولهذا بدا الله به كما ان الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره فاذا كان الكاذب مثل المكذب او أعظم والكاذب على الله كالمكذب له فالكاذب على الرسول كالمكذب له # يوضح ذلك ان تكذيبه نوع من الكذب فان مضمون تكذيبه الاخبار عن خبره انه ليس بصدق وذلك ابطال لدين الله ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد او في جميع الاخبار وانما صار كافرا لما تضمنه من ابطال رسالة الله ودينه والكاذب عليه يدخل في دينه ما ليس منه عمدا ويزعم انه يجب على الامة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الامر لانه دين الله مع العلم بانه ليس لله بدين
والزيادة في الدين كالنقص منه ولا فرق بين من يكذب باية من القران او يضيف كلاما يزعم انه سورة من القران عامدا لذلك # وايضا فان تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف لانه يزعم انه امر باشياء ليست مما امر به بل وقد لا يجوز الامر بها وهذه نسبة له إلى السفه او انه يخبر باشياء باطلة وهذه نسبة له إلى الكذب وهو كفر صريح # وايضا فانه لو زعم زاعم ان الله فرض صوم شهر اخر غير رمضان او صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك او انه حرم الخبز واللحم عالما بكذب نفسه كفر بالاتفاق # فمن زعم ان النبي اوجب شيئا لم يوجبه او حرم شيئا لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الاول وزاد عليه بان صرح بان الرسول قال ذلك وانه افتى القائل لم يقله اجتهادا واستنباطا # وبالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو كالمتعمد لتكذيب الله واسوا حالا ولا يخفى ان من كذب على من يجب تعظيمه فانه مستخف به مستهين بحرمته # وايضا فان الكاذب عليه لابد ان يشينه بالكذب عليه وتنقصه بذلك ومعلوم انه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله كان يتعلم مني او رماه ببعض الفواحش الموبقة او الاقوال الخبيثة كفر
بذلك فكذلك الكاذب عليه لانه اما ان ياثر عنه امرا او خبرا او فعلا فان اثر عنه امرا لم يامر به فقد زاد في شريعته وذلك الفعل لا يجوز ان يكون مما يامر به لانه لو كان كذلك لامر به لقوله ما تركت من شئ يقربكم إلى الجنة الا امرتكم به ولا من شئ يبعدكم عن النار الا نهيتكم عنه فاذا لم يامر به فالامر به غير جائز منه فمن روى عنه انه قد امر به فقد نسبه إلى الامر بما لايجوز له الامر به وذلك نسبة له إلى السفه # وكذلك ان يقل عنه خبرا فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الاخبار به لاخبر به لان الله تعالى قد اكمل الدين فاذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له ان يخبر به وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذبا فيه لو كان مما ينبغي فعله وترجع لفعله فاذا لم يفعله فتركه اولى # فحاصله ان الرسول اكمل البشر في جميع احواله فما تركه من القول والفعل فتركه اولى من فعله وما فعله ففعله اكمل من تركه فاذا
كذب الرجل عليه متعمدا او اخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي اخبر به عنه نقص بالنسبة اليه اذ لو كان كمالا لوجد منه ومن انتقص الرسول فقد كفر # واعلم ان هذا القول في غاية القوة كما تراه لكن يتوجه ان يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة وبين الذي يكذب عليه بواسطة مثل ان يقول حدثني فلان بن فلان عنه بكذا فان هذا انما كذب علي ذلك الرجل ونسب اليه ذلك الحديث فاما ان قال هذا حديث صحيح او ثبت عنه انه قال ذلك عالما بانه كذب فهذا قد كذب عليه واما اذا افتراه ورواه رواية ساذجة ففيه نظر لاسيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم # فالكذب لو وقع من أحد ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين فاراد قتل من كذب عليه وعجل عقوبته ليكون ذلك عاصما من ان يدخل في العدول من ليس منهم المنافقين ونحوهم # واما من روى حديثا يعلم انه كذب فهذا حرام كما صح عنه انه قال من روى عني حديثا يعلم انه كذب فهو احد
الكاذبين لكن لا يكفر الا ان ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر لانه صادق في ان شيخه حدثه به لكن لعلمه بان شيخه كذب فيه لم تكن تحل له الرواية فصار بمنزلة ان يشهد على اقرار او شهادة او عقد وهو يعلم ان ذلك باطل فهذه الشهادة حرام لكنه ليس بشاهد زور # وعلى هذا القول فمن سبه فهو اولى بالقتل ممن كذب عليه فان الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه وهذا قد طعن في الدين بالكلية وحينئذ فالنبي قد امر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابه فكذلك الساب له اولى # فان قيل الكذب عليه فيه مفسدة وهو ان يصدق في خبره فيزاد في الدين ما ليس منه او ينتقص منه ما هو منه والطاعن عليه قد علم بطلان كلامه بما اظهر الله من ايات النبوة
قيل والمحدث عنه لايقبل خبره ان لم يكن عدلا ضابطا فليس كل من حدث عنه قبل خبره لكن قد يظن عدلا وليس كذلك والطاعن عليه قد يؤثر طعنه في نفوس كثير من الناس ويسقط حرمته من كثير من القلوب فهو اوكد على ان الحديث عنه له دلائل يميز بها بين الكذب والصدق # القول الثاني ان الكاذب عليه تغلظ عقوبته لكن لايكفر ولايجوز قتله لان موجبات الكفر والقتل معلومة وليس هذا منها فلا يجوز ان يثبت مالا اصل له ومن قال هذا فلابد ان يقيد قوله بان لم يكن الكذب عليه متضمنا لعيب ظاهر فاما ان اخبر انه سمعه يقول كلاما يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرا مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهر ولا ريب انه كافر حلال الدم # وقد اجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بان النبي علم انه كان منافقا فقتله لذلك لا للكذب # وهذا الجواب ليس بشئ لان النبي لم يكن من سننه انه يقتل
احد من المنافقين الذين اخببر الثقة عنهم بالنفاق اوالذين نزل القران بنفاقهم فكيف يقتل رجلا بمجرد علمه بنفاقه ثم انه سمى خلقا من المنافقين لحذيفة وغيره ولم يقتل منهم احدا # وايضا فالسبب المذكور في الحديث انما هو كذبة على النبي كذبا له فيه غرض وعليه رتب القتل فلا يجوز اضافة القتل إلى سبب اخر وايضا فان الرجل انما قصد بالكذب نيل شهوته ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار # وايضا فاما ان يكون نفاقه لهذه االكذبة او لسبب ماض فان كان لهذه فقد ثبت ان الكذب عليه نفاق والمنافق كافر وان كان النفاق متقدما وهو المقتضي للقتل لا غيره فعلام تاخير الامر بقتله إلى هذا الحين وعلام لم يؤاخذه الله بذلك النفاق حتى فعل ما فعل # وايضا فان القوم اخبروا رسول الله بقوله فقال كذب عدو الله ثم امر بقتله ان وجده حيا وقال ما اراك تجده حيا لعلمه بان ذنبه يوجب تعجيل العقوبة
والنبي اذا امر بالقتل او غيره من العقوبات والكفارات عقب فعل وصف له صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء ولا غيره كما ان الاعرابي لما وصف له الجماع في رمضان امره بالكفارة ولما اقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنى امر بالرجم وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه نعم قد يختلفون في
نفس الموجب هل هو مجموع تلك الاوصاف او بعضها وهو نوع من تنقيح المناط فاما ان يجعل ذلك الفعل عديم التاثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر وهذا فاسد بالضرورة لكن يمكن ان يقال فيه ما هو اقرب من هذا وهو ان هذا الرجل كذب على النبي كذبا يتضمن انتقاصه وعيبه لانه زعم ان النبي حكمه في دمائهم واموالهم واذن له ان يبيت حيث شاء من بيوتهم ومقصوده بذلك ان يبيت عند تلك المراة ليفجر بها ولا يمكنهم الانكار عليه اذا كان محكما في الدماء والاموال # ومعلوم ان النبي لا يحلل الحرام ومن زعم انه احل المحرمات من الدماء والاموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسبه النبي إلى انه ياذن له ان يبيت عند امراة اجنبية خاليا بها او انه يحكم بما شاء في قوم مسلمين طعن على النبي وعيب له وعلى هذا التقدير فقد امر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابه وهو المقصود في هذا المكان فثبت ان الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابه على كلا القولين # ومما يؤيد القول الاول ان القوم لو ظهر لهم ان هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الانكار عليه ويمكن ان يقال رابهم امره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي لما تعارض وجوب طاعة
الرسول وعظم ما اتاهم به هذا اللعين ومن نصر القول الاول قال كل كذب عليه فانه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم ان هذا الرجل لم يذكر في الحديث انه قصد الطعن والازراء وانما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه وهذا شان كل من تعمد الكذب عليه فانه انما يقصد تحصيل غرض له ان لم يقصد الاستهزاء به والاغراض في الغالب اما مال او شرف كما ان المتنبي انما يقصد اذا لم يقصد مجرد الاضلال اما الرياسة بنفاذ الامر وحصول التعظيم او تحصيل الشهوات الظاهرة وبالجملة فمن قال او فعل ما هو كفر كفر بذلك وان لم يقصد ان يكون كافرا اذ لا يكاد يقصد الكفر أحد الا ما شاء الله # السنة الرابعة عشرة حديث الاعرابي الذي قال للنبي لما اعطاه ما احسنت ولا اجملت فاراد المسلمون قتله ثم قال النبي لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار وسياتي ذكره في ضمن الاحاديث المتضمنة لعفوه عمن اذاه فان هذا الحديث يدل على ان من اذاه اذا قتل دخل النار وذلك على كفره وجواز قتله والا كان يكون شهيدا وكان قاتله من اهل النار وانما
عفا النبي عنه ثم استرضاه بعد ذلك حتى رضي لانه كان له ان يعفو عمن اذاه كما سياتي ان شاء الله # ومن هذا الباب ان الرجل الذي قاله له لما قسم غنائم حنين ان هذه لقسمة ما اريد بها وجه الله فقال عمر دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال معاذ الله ان يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه ثم اخبر انه يخرج من ضئضئة اقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وذكر حديث الخوارج رواه مسلم فأن النبي لم يمنع عمر من قتله الا لئلا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه ولم يمنعه لكونه في نفسه معصوما كما قال في حديث حاطب بن أبي بلتعة فأنه لما قال ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا
بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله انه قد صدقكم فقال عمر دعني اضرب عنق هذا المنافق فقال انه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فبين انه باق على ايمانه وانه صدر منه ما يغفر له به الذنوب فعلم ان دمه معصوم وهنا علل بمفسدة زالت # فعلم ان قتل مثل هذا القائل اذا امنت هذه المفسدة جائز ولذلك لما امنت هذه المفسدة النزل الله قوله ^ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ بعد ان كان قد قال له ^ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم ^ قال زيد بن اسلم قوله ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ نسخت ما كان قبلها # وما يشبه هذا ان عبد الله بن أبي لما قال ^ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل وقال ^ لا تنفقوا على من
عند رسول الله حتى ينفضوا ^ استامر عمر في قتله فقال اذن ترعد له انوف كثيرة بالمدينة وقال لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه والقصة مشهورة وهي في الصحيحين وستاتي ان شاء الله تعالى # فعلم ان من آذى النبي بمثل هذا الكلام جاز قتله لذلك مع القدرة وانما ترك النبي قتله لما خيف في قتله من نفور الناس عن الإسلام لما كان ضعيفا # ومن هذا الباب ان النبي لما قال من يعذرني في رجل بلغني اذاه في اهلي قال له سعد بن معاذ انا اعذرك ان كان من الاوس ضربت عنقه والقصة مشهورة فلما لم ينكر عليه ذلك دل على ان من اذى النبي وتنقصه يجوز ضرب عنقه والفرق بين ابن
ابي وغيره ممن تكلم في شان عائشة انه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله والطعن عليه والحاق العار به ويتكلم بكلام ينتقصه به فلذلك قالوا نقتله بخلاف حسان ومسطح وحمنة فانهم لم يقصدوا ذلك ولم يتكلموا بما يدل على ذلك ولهذا انما استعذر النبي من ابن أبي دون غيره ولاجله خطب الناس حتى كاد الحيان يقتتلون # الحديث الخامس عشر قال سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي في مغازيه حدثني أبي عن المجالد بن سعيد عن الشعبي قال لما افتتح رسول الله مكة دعا بمال العزى فنثره بين يديه ثم دعا رجلا قد سماه فأعطاه منها ثم دعا أبا سفيان بن حرب فأعطاه منها ثم دعا سعيد بن الحارث فأعطاه منها ثم دعا رهطا من قريش فأعطاهم فجعل يعطي الرجل القطعه من الذهب فيها خمسون مثقالاوسبعون مثقالا
ونحو ذلك فقام رجل فقال انك لبصير حيث تضع التبر ثم قام الثانية فقال مثل ذلك فأعرض عنه النبي ثم قام الثالثة فقال انك لتحكم وما نرى عدلا قال ويحك اذا لا يعدل أحد بعدي ثم دعا نبي الله أبا بكر فقال اذهب فاقتله فذهب فلم يجده فقال لو قتلته لرجوت ان يكون اولهم واخرهم # فهذا الحديث نص في قتل مثل هذا الطاعن على رسول الله من غير استتابه وليست هي قصة قصمغنائم حنين ولا قسم التبر الذي بعث به علي من اليمن بل هذه القصة قبل ذلك في قسم مال العزى وكان هدم العزى قبل الفتح في اواخر شهر رمضان سنة ثمان وغنائم حنين قسمت بعد ذلك بالجعرانة في ذي القعدة وحديث علي في سنة عشر # وهذا الحديث مرسل ومخرجه عن مجالد وفيه لين لكن له ما يؤيد معناه فانه قد تقدم ان عمر قتل الرجل الذي لم يرض بحكم النبي ونزل القرآن باقراره على ذلك وجرعه أسهل من جرم هذا
وايضا فان في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي ارسل بها علي من اليمن وقال يا رسول الله اتق الله انه قال انه يخرج من ضئضى هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون اهل الإسلام ويدعون اهل الاوثان لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد # وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول سيخرج قوم في اخر الزمان حداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز ايمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فاينما لقيتموهم فاقتلوهم فان في قتلهم اجرا لمن قتلهم يوم القيامة
وروى النسائي عن أبي برزة قال اتي رسول الله بمال فقسمه فاعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من ورائه شيئا فقام رجل من وراءه فقال يا محمد ما عدلت في القسمة رجل اسود مطموم الشعر عليه ثوبان ابيضان فغضب رسول الله غضببا شديدا وقال والله لا تجدون بعدي رجلا هو اعدل مني ثم قال يخرج في اخر الزمان قوم كان هذا منهم يقرؤون القرن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج اخرهم مع المسيح الدجال فاذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق والخليقة # فهذه الاحاديث كلها دليل على ان النبي امر بقتل طائفة هذا الرجل العائب عليه واخبر ان في قتلهم اجرا لمن قتلهم وقال لئن ادركتم لاقتلنهم قتل عاد وذكر انهم شر الخلق والخليقة # وفيما رواه الترميذي وغيره عن أبي إمامة انه قال هم شر قتلى تحت اديم السماء خير قتلى من قتلوه وذكر انه سمع النبي يقول ذلك مرات متعددة وتلا فيهم قوله تعالى ^ يوم تبيض وجوه
وتسود وجوه فاما الذين اسودت وجوههم اكفرتم بعد ايمانكم ^ وقال هؤلاء الذين كفروا بعد ايمانهم وتلا فيهم قوله تعالى ^ فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ^ وقال زاغوا فزيغ بهم ولا يجوز ان يكون امر بقتلهم لمجرد قتالهم الناس كما يقاتل الصائل من قاطع الطريق ونحوه وكما يقاتل البغاة لان اولئك انما يشرع قتالهم حتى تنكسر شوكتهم وكفوا عن الفساد ويدخلوا في الطاعة ولا يقتلون اينما لقوا ولا يقتلون قتل عاد وليسوا شر قتلى تحت اديم السماء ولا يؤمر بقتلهم وانما يؤمر في اخر الامر بقتالهم فعلم ان هؤلاء اوجب قتلهم مروقهم من الدين لما غلوا فيه حتى مرقوا منه كما دل عليه قوله في حديث علي يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميه فاينما لقيتموهم فاقتلوهم فرتب الامر بالقتل على مروقهم فعلم انه الموجب له ولهذا وصف النبي الطائفه الخارجة
وقال ولو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم علي لسان محمد لنكلوا عن العمل واية ذلك ان فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على راس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض وقال انهم يخرجون علي خير فرقة من الناس يقتلهم ادنى الطائفتين إلى الحق وهذا كله في الصحيح فثبت ان قتلهم لخصوص صفتهم لا لعموم كونهم بغاة او محاربين وهذا القدر موجود في الواحد منهم كوجوده في العدد منهم وانما لم يقتلهم علي رضي الله عنه أول ما ظهروا لانه لم يتبين له انهم الطائفة المنعوته حتى سفكوا دم ابن خباب واغاروا على سرح الناس فظهر فيهم قوله ^ يقتلون
اهل الإسلام ويدعون اهل الاوثان فعلم انهم المارقون ولانه لو قتلهم قبل المحاربة له لربما غضبت لهم قبائلهم وتفرقوا على علي رضي الله عنه وقد كان حاله في حاجته إلى مداراة عسكره واستئلافهم كحال النبي في حاجته في أول الامر إلى استئلاف المنافقين # وايضا فان القوم لم يعترضوا لرسول الله بل كانوا يعظمونه ويعظمون أبا بكر وعمر ولكن غلوا في الدين غلوا جازوا به حده لنقص عقولهم وعملهم فصاروا كما تاوله علي فيهم من قوله عز وجل ^ قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ^ # واوجب ذلك لهم عقائد فاسدة ترتب عليها افعال منكرة كفرهم بها كثير من الامة وتوقف فيها اخرون فلما راى النبي الرجل
الطاعن عليه في القسمة الناسب له عدم العدل بجهله وغلوه وظنه ان العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس وتفضيله من مصلحة التاليف وغيرها من المصالح علم ان هذا أول اولئك فانه اذا طعن عليه في وجهه فهو على سنته بعد موته وعلى خلفائه اشد طعنا # وقد حكى ارباب المقالات عن الخوارج انهم يجوزون على الانبياء الكبائرولهذا لايلتفتون إلى السنة المخالفة في رايهم لظاهر القران وان كانت متواترة فلا يرجمون الزاني ويقطعون يد السارق فيما قل او كثر زعما منهم على ماقيل ان لاحجة الا القران وان السنة الصادرة عن الرسول ليست حجة بناء على ذلك الاصل الفاسد # قال من حكى ذلك عنهم انهم لايطعنون في النقل لتواتر ذلك وانما يبنونه على هذا الاصل ولهذا قال النبي في صفتهم انهم يقرؤون القران لا يجاوز حناجرهم يتاولونه برايهم من غير
استدلال على معانيه بالسنه وهم لا يفهمونه بقلوبهم انما يتلونه بالسنتهم والتحقيق انهم اصناف مختلفه فهذا راي طائفة منهم وطائفة قد يكذبون النقلة وطائفة لم يسمعوا ذلك ولم يطلبوا علمه وطائفة يزعمون ان ماليس له ذكر في القران بصريحه ليس حجة على الخلق اما لكونه منسوخا او مخصوصا بالرسول او غير ذلك وكذلك ما ذكر من تجويزهم الكبائر فاظنه والله اعلم قول طائفة منهم وعلى كل حال فمن كان يعتقد ان النبي جائر في قسمه يقول انه يفعلها بامر الله فهو مكذب له ومن زعم ان يجوز في حكمه او قسمه فقد زعم انه خائن وان اتباعه لايجب وهو مناقض لما تضمنه الرسالة من امانته ووجوب طاعته وزوال الحرج عن النفس من قضائه بقوله وفعله فانه قد بلغ عن الله انه اوجب طاعته والانقياد لحكمه ولانه لايحيف على أحد فم طعن في هذا فقدطعن في صحة تبليغه وذلك طعن في نفس الرسالة وبهذا يتبين صحة رواية من روى الحديث ومن يعدل اذا لم اعدل لقد خبت وخسرت ان لم اكن اعدل لان هذا الطاعن يقول انه رسول الله وانه يجب عليه تصديقه وطاعته فاذا قال انه لم يعدل فقد لزم انه
صدق غير عدل ولا امين ومن اتبع مثل ذلك فهو خائب خاسر كما وصفهم الله تعالى بانهم من الاخسرين اعمالا وان حسبوا انهم يحسنون صنعا ولانه من لم يؤتمن على المال يؤتمن على ماهو أعظم منه ولهذا قال الا تامنون وانا امين من في السماء ياتيني خبر السماء صباحا ومساء وقال لما قال له اتق الله اولست احق اهل الارض ان يتق الله وذلك لان الله قال فيما بلغه اليهم الرسول ^ وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ^ بعد قوله ^ ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ^ الاية فبين سبحانه انه ما نهى عنه من مال الفيء فعلينا ان ننتهي عنه فيجب ان يكون احق اهل الارض ان يتق الله اذ لولا ذلك لكانت الطاعة له ولغيره ان تساويا او لغيره دونه ان كان دونه وهذا كفر بما جاء به وهذا ظاهر # وقوله شر الخلق والخليقة وقوله شر قتلى تحت اديم السماء نص في انهم من المنافقين لان المنافقين اسوا حالا من الكفار
كما ذكر ان قوله تعالى ^ ومنهم من يلمزك في الصدقات ^ نزلت فيهم # وكذلك في حديث أبي إمامة ان قوله تعالى ^ اكفرتم بعد ايمانكم ^ نزلت فيهم وهذا مما لاخلاف فيه اذا صرحوا بالطعن في الرسول والعيب عليه كفعل اولئك اللامريين له # فاذا ثبت بهذه الاحاديث الصحيحة انه امر بقتل من كان من جنس ذلك الرجل الذي لمزه اينما لقوا واخبر انهم شر الخليقة وثبت انهم من المنافقين كان ذلك دليلا على صحة معنى حديث الشعبي في استحقاق اصلهم للقتل # يبقى ان يقال ففي الحديث الصحيح انه نهى عن قتل ذلك اللامز # فنقول حديث الشعبي هو أول ظهور هؤلاء كما تقدم فيشير والله اعلم ان يكون امر بقتله اولا طمعا في انقطاع امرهم وان كان قد كان يعفو عن أكثر المنافقين لانه خاف من هذا انتشار الفساد من بعده على الامة ولهذا قال لو قتلته لرجوت ان يكون اولهم واخرهم وكان ما يحصل بقتله من المصلحة العظيمة أعظم مما يخاف من
نفور بعض الناس بقتله فلما لم يوجد وتعذر قتله ومع النبي بما اوحاه الله اليه من العلم مافضله الله به فكانه علم انه لابد من خروجهم انه لامطمع في استئصالهم كما انه لما علم ان الدجال خارج لامحالة نهى عمر عن قتل ابن صياد وقال ان يكنه فلن تسلط عليه وان لا يكنه فلا خير لك في قتله فكان هذا مما اوجب نهيه بعد ذلك عن قتل ذي الخويصرة لما لمزه في غنائم حنين وكذلك لما قال عمر ائذن لي فاضرب عنقه قال دعه فان له اصحابا يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية إلى قوله يخرجون على حين فرقة من الناس فامر بتركه لاجل ان له اصحابا خارجين بعد ذلك فظهر ان
علمه بانهم لابد ان يخرجوا منعه من ان يقتل منهم احدا فيتحدث الناس بان محمدا يقتل اصحابه الذين يصلون معه وتنفر بذلك عن الإسلام قلوب كثير من غير مصلحة تغمر هذه المفسدة هذا مع انه كان له ان يعفو عمن اذاه مطلقا بابي هو وامي # وبهذا يتبين سبب كونه في بعض الحديث يعلل بانه يصلي وفي بعضه بان لا يتحدث الناس او محمدا يقتل اصحابه وفي بعضه بان له اصحابا سيخرجون وسياتي ان شاء الله ذكر بعض هذه الاحاديث وان كان هذا الموضع خليقا بها ايضا # فثبت ان كل من لمز النبي في حكمه او قسمه فانه يجب قتله كما امر به في حياته وبعد موته وانه انما عفا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم انهم خارجون في الامة لا محالة وان ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائده بل فيه من المفسدة مافي قتل سائر المنافقين واشد # ومما يشهد لمعنى هذا الحديث قول أبو بكر رضي الله عنه في الحديث المشهور لما اراد أبو برزة ان يقتل الرجل الذي اغلظ لابي بكر وتغيظ عليه أبو بكر وقال له أبو برزة اقتله فقال أبو بكر ماكانت لاحد بعد رسول الله # فان هذا كما تقدم من دليل على ان الصديق علم ان النبي يطاع امره في قتل من امر بقتله ممن اغضب النبي
فلما كان في حديث الشعبي انه امر أبا بكر بقتل ذلك الذي لمزه حتى اغضبه كانت هذه القضية بمنزلة العمدة لقول الصديق وكان قول صديق رضى الله عنه دليلا على صحة معناها # ومما يدل على انهم كانوا يرون قتل من علموا انه من اولئك الخوارج وان كان منفردا حديث صبيغ بن عسل وهو مشهور قال أبو عثمان النهدي سال رجل من بني يربوع او من بني تميم عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن الذاريات والمرسلات والنازعات او عن بعضهن فقال عمر ضع عن راسك فاذا له وفرة فقال عمر اما والله لو رايتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك ثم قال ثم كتب إلى اهل البصرة او قال الينا ان لا تجالسوه قال فلو جاء ونحن مئة
تفرقنا رواه الاموي وغيره باسناد صحيح # فهذا عمر يحالف بين المهاجرين والانصار انه لو راى العلامة التي وصف بها النبي الخوارج لضرب عنقه مع انه هو الذي نهاه النبي عن قتل ذي الخويصرة فعلم انه فهم من قول النبي اينما لقيتموهم فاقتلوهم القتل مطلقا وان العفو عن ذلك كان في حال الضعف والاستئلاف # فان قيل فما الفرق بين قول هؤلاء اللامزين في كونه نفاقا موجبا للكفر وحل الدم حتى صار جنس هذا القائل شر الخلق وبين ما ذكر من موجدة قريش والانصار
ففي حديث أبي سعيد الصحيح ان النبي لما قسم الذهيبة بين اربعة غضبت قريش والانصار وقالوا يعطيه صناديد اهل نجد ويدعنا فقال انما اتالفهم فاقبل رجل غائر العينين وذكر حديث اللامز # وفي رواية لمسلم فقال رجل من اصحابه كنا نحن احق بهذا من هؤلاء قال فبلغ ذلك النبي فقال الا تامنوني وانا امين من في السماء ياتيني خبر السماء صباحا ومساء فقام رجل غائر العينين الحديث # وكذلك موجدة الأنصار في غنائم حنين فعن انس بن مالك ان ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين افاء الله على رسوله من اموال هوازن ما افاء فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المئة من الابل فقالوا يغفر الله لرسول يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم وفي رواية لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش فقالت الأنصار ان هذا لهو العجب ان سيوفنا تقطر من دمائهم وانا غنائمنا ترد عليهم وفي رواية فقالت الأنصار اذا كانت الشدة فنحن ندعى ويعطى الغنائم غيرنا قال انس فحدثت رسول الله
ذلك من قولهم فارسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من ادم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله فقال ما حديث بلغني عنكم فقال له فقهاء الانصاراما ذوو راينا يارسول الله فلم يقولوا شيئا واما اناس منا حديثة اسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله فاني اعطي رجالا حديثي عهد بكفر اتالفهم افلا ترضون ان يذهب الناس بالاموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا بلى يارسول الله قد رضينا قال فانكم ستجدون بعدي اثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض قالوا نصبر # قيل ان احدا من المؤمنين من قريش والانصار وغيرهم لم يكن في شئ من كلامه تجوير لرسول الله ولا تجوير ذلك عليه ولا اتهام له
انه حابى في القسمة لهوى النفس وطلب الملك ولا نسبة له إلى انه لم يرد بالقسمة وجه الله ونحو ذلك مما جاء مثاله في كلام المنافقين # ثم ذوو الراي من القبيلتين وهم الجمهور لم يتكلموا بشئ اصلا بل قد رضوا ما اتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيوتينا الله من فضله ورسوله كما قالت فقهاء الأنصار اما ذوو راينا فلم يقولوا شيئا وانما الذين تكلموا من احداث الاسنان ونحوهم فراوا ان النبي انما يقسم المال لمصالح الإسلام ولا يضعه في محل الا لان وضعه فيه اولى من وضعه في غيره هذا مما لايشكون فيه # وكان العلم بجهة المصلحة قد ينال بالوحي وقد ينال بالاجتهاد ولم يكونوا علموا ان ذلك مما فعله النبي وقال انه بوحي من الله فان من كره ذلك او اعترض عليه بعد ان يقول ذلك فهو كافر مكذب # وجوزوا ان يكون قسمة اجتهادا وكانوا يراجعونه بالاجتهاد في الامور الدنيوية المتعلقة بمصالح الدين وهو باب يجوز له العمل فيه باجتهاده باتفاق الامة وربما سالوه عن الامر لا لمراجعته فيه لكن
ليتبينوا وجهه ويتفقهوا في سببه ويعلموا علته # فكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو هذين الوجهيين # اما لتكميل نظرة في ذلك ان كان من الامور السياسة التي للاجتهاد فيها مساغ # او ليتبين لهم وجه ذلك اذا ذكر ويزدادوا علما وايمانا وينفتح لهم طريق التفقه فيه # فالاول كمراجعة الحباب بن المنذر له لما نزل ببدر منزلا فقال يارسول الله ارايت هذا المنزل الذي نزلته اهو منزل انزلكه الله فليس لنا ان نتعداه أم هو الراي والحرب والمكيدة فقال بل هو الراي والحرب والمكيدة فقال ان هذا ليس بمنزل قتال فقبل رسول الله
رايه وتحول إلى غيره # وكذلك ايضا لما عزم ان يصالح غطفان عام الخندق على نصف تمر المدينة ثم جاء سعد بن معاذ في طائفة من الأنصار فقال يانبي الله بابي انت وامي هذا الذي تعطيهم اشئ من الله امرك فسمع وطاعة لله ولرسوله أم شئ من قبل رايك قال لا بل من قبل رايي اني رايت القوم اعطوا الاموال فجمعوا لكم ما رايتم من القبائل وانما انتم قبيل واحد فاردت ان ادفع بعضهم ونعطيهم شيئا وننصب لبعض اشتري بذلك ما قد نزل بكم معشر الأنصار فقال سعد
والله يارسول الله لقد كنا في الشرك وما يطمعون منا في اخذ النصف او كما قال وفي رواية ما ياكلون منها تمرة الا بشرى او قرى فكيف اليوم والله معنا وانت بين اظهرنا لانعطيهم ولا كرامة لهم ثم تناول الصحيفة فتفل فيها ثم رمى بها # وما كان من قبل الراي والظن في الدنيا فقد قال لما قال عن التلقيح ما اظن يغني ذلك شيئا انما ظننت فلا تؤاخذوني بالظن ولكن اذا حدثتكم عن الله بشئ فخذوا به فاني لن اكذب على الله رواه مسلم # وفي حديث آخر انتم اعلم بامر دنياكم فما كان من امر دينكم فالي # ومن هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص قال اعطي رسول الله رهطا وانا جالس فترك رجلا منهم هو اعجبهم الي فقمت فقلت له يا رسول الله اعطيت فلانا وفلانا وتركت فلانا وهو مؤمن
فقال او مسلم ذكر ذلك سعد له ثلاثا واجابه بمثل ذلك ثم قال اني لاعطي الرجل وغيره احب الي منه خشية ان يكب في النار على وجهه متفق عليه # فانما ساله سعد رضى الله عنه ليذكر النبي بذلك الرجل لعله يرى انه ممن ينبغي اعطاؤه او ليتبين لسعد وجه تركه مع اعطاء من هو دونه فاجابه النبي عن المقدمتين فقال ان العطاء ليس لمجرد الايمان بل اعطي وامنع والذي اتركه احب الي من الذي اعطيه لان الذي اعطيه لو لم اعطه لكفر فاعطيه لاحفظ عليه ايمانه ولا ادخله في زمرة من يعبد الله على حرف والذي امنعه معه من اليقين والايمان ما يغنيه عن الدنيا وهو احب الي وعندي أفضل وهو يعتصم بحبل الله ورسوله ويعتاض بنصيبه من الدين عن نصيبه من الدنيا كما اعتاض به أبو بكر وغيره وكما اعتاضت الأنصار حين ذهب الطلقاءواهل نجد بالشاة والبعير وانطلقوا هم برسول الله ثم لو كان العطاء لمجرد الايمان فمن اين لك ان هذا مؤمن بل يجوز ان يكون مسلما وان لم يدخل الايمان في قلبه فان النبي اعلم من سعد بتمييز المؤمن عن غيره حيث امكن التمييز
ومن ذلك ايضا ما ذكره ابن اسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ان قائلا قال يارسول الله اعطيت عيينه بن حصن والاقرع ابن حابس مئة من الابل مئة من الابل وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال رسول الله اما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الارض كلها مثل عيينه والاقرع ولكني تالفتهما على إسلامهما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه
وقد ذكر بعض اهل المغازي في حديث الأنصار وددنا ان نعلم من اين هذا ان كان من قبل الله صبرنا وان كان من راي رسول الله استعتبناه # فهذا يبين ان من وجد منهم جوز ان يكون القسم وقع باجتهاد في المصلحة فاحب ان يعلم الوجه الذي اعطي به غيره ومنع هو مع فضله على غيره في الايمان والجهاد وغير ذلك # وهذا في بادي الراي هو الموجب للعطاء وان النبي لم يعطه كما اعطى غيره وهذا معنى قولهم استعتبناه اي طلبنا منه ان يعتبنا اي يزيل عتبنا اما ببيان الوجه الذي به اعطي غيرنا او باعطائنا وقد قال ما أحد احب اليه العذر من الله من اجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين فاحب النبي ان يعذروه فيما فعل فبين لهم ذلك فلما بين لهم الامر بكوا حتى اخضلوا لحاهم ورضوا حق الرضاء والكلام المحكي عنهم يدل على انهم راوا القسمة وقعت اجتهادا وانهم احق بالمال من غيرهم فتعجبوا من اعطاء غيرهم
وارادوا ان يعلموا هل هو وحي او اجتهاد يتعين اتباعه لانه المصلحة او اجتهاد يمكن النبي ان ياخذ بغيره إلى راي انه اصلح وان كان هذا القسم انما يمكن فيما لم يستقر امره ويقره عليه ربه ولهذا قالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم وقالوا ان هذا لهو العجب ان سيوفنا لتقطر من دمائهم وان غنائمنا لترد عليهم وفي رواية اذا كانت الشدة فنحنبه ندعى ويعطي الغنائم غيرنا # واختلف الناس في العطايا هل كانت من اصل الغنيمة او من الخمس فروي عن سعد بن إبراهيم ويعقوب بن عتبه قالا كانت العطايا فارغة من الغنائم وعلىهذا فالنبي انما اخذ نصيبهم من المغنم بطيب انفسهم
وقد قيل انه اراد ان يقطعهم بدل ذلك قطائع من البحرين فقالوا لا حتى يقطع اخواننا من المهاجرين مثله ولهذا لما جاء مال البحرين وافوه صلاة الفجر وقال لجابر لو قد جاء مال البحرين اعطيتك كذا وكذا لكن لم يستاذنهم النبي قبل القسم لعلمه بانهم يرضون بما يفعل واذا علم الرجل من حال صديقه انه تطيب نفسه بما ياخذ من ماله فله ان ياخذ وان لم يستاذنه نطقا وكان هذا معروفا بين كثير من الصحابة والتابعين كالرجل الذي سال النبي كبة من شعر فقال اما ما كان لي ولبني هاشم فهو لك وعلى هذا فلا حرج عليهم اذا سالوا نصيبهم # وقال موسى بن إبراهيم بن عقبة عن ابيه كانت من الخمس # قال الواقدي وهو اثبت القولين وعلى هذا فالخمس اما ان يقسمه الإمام باجتهاده كما يقوله مالك او يقسمه خمسة اقسام كما
يقوله الشافعي واحمد واذا قسمة خمسة اقسام فاذا لم يوجد يتامى او مساكين او ابن سبيل او استغنى ردت انصباؤهم في مصارف سهم الرسول # وقد كان اليتامى والمساكين وابناء السبيل اذ ذاك مع قلتهم مستغنين بنصيبهم من الزكاة لانه لما فتحت خيبر استغنى أكثر المسلمين رد رسول الله على الأنصار منائح النخل التي كانوا قد منحوها للمهاجرين فاجتمع للانصار اموالهم التي كانت والاموال التي غنموها بخيبر وغيرها فصاروا مياسير ولهذا قال النبي في خطبته الم اجدكم عالة فاغناكم الله بي فصرف رسول الله عامة الخمس في مصارف سهم الرسول فان اولى المصالح واهم المصالح تاليف اولئك القوم ومن زعم مجرد خمس الخمس قام بجميع ما اعطي المؤلفة فانه لم يدر كيف القصة ومن له خبرة بالقصة يعلم ان المال لم يكن يحتمل هذا # وقد قيل ان الابل كانت اربعة وعشرين الف بعير والغنم اربعين الفا او اقل او أكثر والورق اربعة الاف اوقية والغنم كانت تعدل عشرة منها ببعير فهذا يكون قريبا من ثلاثين الف بعير فخمس
الخمس منه الف ومئتا بعير وقد قسم في المؤلفة اضعاف ذلك على ما لاخلاف فيه بين اهل العلم # واما قول بعض قريش والانصار في الذهيبة التي بعث بها علي من اليمن ايعطي صناديد اهل نجد ويدعنا فمن هذا الباب ايضا انما سالوا على هذا الوجه # وهنا جوابان اخران # احدهما ان بعض اولئك القائلين قد كان منافقا يجوز قتله مثل الذي سمعه ابن مسعود يقول في غنائم حنين ان هذه لقسمة ما اريد بها وجه الله وكان في ضمن قريش والانصار منافقون كثيرون فما ذكر من كلمة لا مخرج لها فانما خرجت من منافق والرجل الذي ذكر عنه أبو سعيد انه قال كنا احق بهذا من هؤلاء ولم يسمه منافقا والله اعلم # الجواب الثاني ان الاعتراض قد يكون ذنبا ومعصية يخاف على صاحبه النفاق وان لم يكن نفاقا مثل قوله تعالى ^ يجادلونك في الحق بعد ما تبين ^ ومثل مراجعتهم له في فسخ الحج إلى العمرة
وابطائهم عن الحل وكذلك كراهتهم للحل عام الحديبية وكراهتهم للصلح ومراجعة من راجع منهم فان من فعل ذلك فقد اذنب ذنبا كان عليه ان يسغفر الله منه كما ان الذين رفعوا اصواتهم فوق صوته اذنبوا ذنبا تابوا منه وقد قال تعالى ^ واعلموا ان فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثيرمن الامر لعنتم ^
وقال سهل بن حنيف اتهموا الراي على الدين فلقد رايتني يوم أبي جندل ولو استطيع ان ارد امر رسول الله لفعلت # فهذه امور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين كما صدر عن حاطب التجسس لقريش مع انها ذنوب ومعاصي يجب على صاحبها ان يتوب وهي بمنزلة عصيان امر النبي # ومما يدخل في هذا حديث أبي هريرة في فتح مكة قال فقال رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو امن ومن القى السلاح فهو امن ومن اغلق بابه فهو امن فقالت الأنصار اما الرجل فقد ادركته رغبة في قرابته ورافة في بعشيرته قال أبو هريرة وجاء
الوحي وكان اذا جاء لا يخفى علينا فاذا جاء فليس احدا منا يرفع طرفه إلى رسول الله حتى ينقضي الوحي فلما قضي الوحي قال رسول الله يا معشر الأنصار قالوا لبيك يا رسول الله قال قلتم أم الرجل فادركته رغبة في قرابته ورافة بعشيرته قالوا قد كان ذلك قال كلا اني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله واليكم المحيا محياكم والممات مماتكم فاقبلوا اليه يبكون ويقولون والله ما قلنا الذي قلنا الا الظن بالله وبرسوله فقال رسول الله ان الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم رواه مسلم # وذلك ان الأنصار لما راوا النبي قد امن اهل مكة واقرهم على اموالهم وديارهم مع دخوله عليهم عنوة وقهرا وتمكنه من قتلهم واخذ
اموالهم لو شاء خافوا ان يكون النبي يريد ان يستوطن مكة ويستبطن قريشا لان البلد بلده والعشيرة عشيرته وان يكون نزاع النفس إلى الوطن والاهل يوجب انصرافه عنهم فقال من قال منهم ذلك ولم يقله الفقهاء واولو الالباب الذين يعلمون انه لم يكن له سبيل إلى استيطان مكة فقالوا ذلك لا طعنا ولا عيبا ولكن ضنا بالله وبرسوله والله ورسوله قد صدقاهم انما حملهم على ذلك الضن بالله ورسوله وعذراهم فيما قالول لما راوا وسمعوا ولان مفارقة الرسول شديد على مثل اولئك المؤمنين الذين هم شعار وغيرهم دثار والكلمة التي تخرج عن محبة وتعظيم وتشريف وتكريم يغتفر لصاحبها بل يحمد عليها وان كان مثلها لو صدر بدون ذلك استحق صاحبها النكال # وكذلك الفعل الا ترى ان النبي لما قال لابي بكر حين اراد ان يتاخر عن موقعه في الصلاة لما احس بالنبي مكانك فتاخر أبو بكر فقال له النبي ما منعك ان تثبت مكانك وقد امرتك فقال ما كان لابن أبي قحافة ان يتقدم بين يدي النبي
وكذلك أبو أيوب الانصاري لما استأذن النبي في ان ينتقل إلى السفل وان يصعد رسول الله إلى العلو وشق عليه ان يسكن فوق النبي فامره النبي بالمكث في مكانه وذكر له ان سكناه اسفل ارفق به من اجل دخول الناس عليه فامتنع أبو أيوب من ذلك ادبا مع النبي وتوقيرا له فكلمة الأنصار رضى الله عنهم من هذا الباب # وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة اقسام # احداهن ما هو كفر مثل قوله ان هذه لقسمة ما اريد بها وجه الله # الثاني ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه ان يحبط عمله مثل رفع الصوت فوق صوته ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبين له الحق وهذا كله يدخل في المخالفه عن امره
الثالث ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه او لايحمد كقول عمر ما بالنا نقصر الصلاة وقد امنا وكقول عائشة الم يقل الله ^ فاما من اوتي كتابه بيمينه ^ وكقول حفصة الم يقل الله ^ وان منكم الا واردها ^ وكمراجعة الحباب في منزل بدر ومراجعة سعد في صلح غطفان على نصف تمر المدينة ومثل مراجعتهم له لما امرهم بكسر الانية التي فيها لحوم الحمر فقالوا او لا نغسلها
فقال اغسلوها وكذلك رد عمر لابي هريرة لما خرج مبشرا ومراجعته للنبي في ذلك وكذلك مراجعته له لما اذن له في نحر الظهر في بعض المغازي وطلبه منه ان يجمع الازواد ويدعو الله ففعل
ما اشر به عمر ونحو ذلك مما فيه سؤال عن اشكال ليتبين لهم او عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول # فهذا ما اتفق ذكره من السنن الماثورة عن النبي في قتل من سبه من معاهد وغير معاهد وبعضها نص في المسالة وبعضها ظاهر وبعضها مستنبط مستخرج استنباطا قد يقوى في راي من فهمه وقد يتوقف عنه من لم يفهمه او لم يتوجه عنده او راى ان الدلالة منه ضعيفة ولن يخفى الحق على من توخاه وقصده ورزقه الله بصيرة وعلما والله سبحانه اعلم
فصل # واما إجماع الصاحبة رضى الله عنهم فلان ذلك نقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض ولم ينكرها أحد منهم فصارت اجماعا واعلم انه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسالة فرعية بابلغ من هذا الطريق
فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب الردة والفتوح عن شيوخه قال ورفع إلى المهاجر يعني المهاجر بن أبي امية وكان اميرا على اليمامة ونواحيها امراتان مغنيتان غنت احداهما بشتم النبي فقطع يدها ونزع ثنيتها وغنت الاخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتها فكتب أبو بكر بلغني الذي سرت به في المراة التي تغنت وزمرت بشتم النبي فلولا ما قد سبقتني فيها لامرتك بقتلها لان حد الانبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد او معاهد فهو محارب غادر # وكتب اليه أبو بكر في التي تغنت في بهجاء المسلمين اما بعد فانه بلغني انك قطعت يد امراة في ان تغنت بهجاء المسلمين ونزعت ثنيتها
فان كانت ممن تدعي الإسلام فادب وتقدمة دون المثلة وان كانت ذمية فالمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم ولو كنت تقدمت اليك في مثل هذا لبلغت مكروهك فاقبل الدعة واياك والمثله فالناس فانها ماثم ومنفرة الا في قصاص # وقد ذكر هذه القصة غير سيف وهذا يوافق ماتقدم عنه ان من شتم االنبي كان له ان يقتله وليس ذلك لاحد بعده وهو صريح في وجوب قتل من سب النبي من مسلم ومعاهد وان كان امراة وانه يقتل بدون استتابه بخلاف من سب الناس وان قتله حد للانبياء كما جلد من سب غيرهم حد له وانما لم يامر أبو بكر بقتل تلك المراة لان المهاجر سبق منه فيها حد باجتهاده فكره أبو بكر ان يجمع عليها حدين مع انه لعلها اسلمت او تابت قبل المهاجر توبتها قبل كتاب أبي بكر وهو محل اجتهاد سبق منه فيه حكم فلم يغيره أبو بكر لان الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وكلامه يدل على انه انما منعه من قتلها ما سبق من المهاجر
وروى حرب في مسائله عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال اتي عمر برجل سب النبي فقتله ثم قال عمر من سب الله او سب احدا من الانبياء فاقتلوه قال ليث وحدثني مجاهد عن ابن عباس قال ايما مسلم سب الله او سب احدا من الانبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فان رجع والا قتل وايما معاهد عاند فسب الله او سب احدا من الانبياء او جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه # وعن أبي مشجعه بن ربعي قال لما قدم عمر بن الخطاب الشام قام قسطنطين بطريق الشام وذكر معاهدة عمر له وشروطه عليهم قال اكتب بذلك كتابا قال عمر نعم فبينما هو يكتب الكتاب اذ ذكر عمر فقال اني استثني عليك معرة الجيش مرتين ثانية قال لك
ثنياك وقبح الله من اقالك فلما فرغ عمر من الكتاب قال له يا امير المؤمنين قم في الناس فاخبرهم الذي جعلت لي وفرضت علي ليتناهوا عن ظلمي قال عمر نعم فقام في الناس فحمد الله واثنى عليه فقال الحمد لله احمده واستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فقال النبطي ان الله لا يضل احدا فقال عمر ما يقول قالوا لاشيء واعاد النبطي لمقالته فقال اخبرني ما يقول قال تزعم ان الله لايضل احدا قال عمر انا لم نعطك الذي اعطيناك لتدخل علينا في ديننا والذي نفسي بيده لئن عدت لاضربن الذي فيه عيناك واعاد عمر ولم يعد النبطي فلما فرغ عمر اخذ النبطي الكتاب رواه حرب # فهذا عمر رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين والانصار يقول لمن عاهده انا لم نعطك العهد على ان تدخل علينا في ديننا وحلف لئن عاد ليضربن عنقه فعلم بذلك إجماع الصحابة على ان اهل العهد ليس لهم ان يظهروا الاعتراض علينا في ديننا وان ذلك منهم مبيح لدمائهم
وان من أعظم الاعتراض سب نبينا وهذا ظاهر لاخفاء به لان اظهار التكذيب بالقدر من اظهار شتم النبي # وانما لم يقتله عمر لانه لم يكن قد تقرر عنده ان هذا الكلام طعنا في ديننا لجواز ان يكون اعتقد ان عمر قال ذلك من عنده فلما تقدم اليه عمر وبين له ان هذا ديننا قال له لان عدت لاقتلنك # ومن ذلك ما استدل به الإمام احمد ورواه عنه هشيم ثنا حصين عمن حدثه عن ابن عمر قال مر به راهب فقيل له هذا يسب النبي فقال ابن عمر لو سمعته لقتلته انا لم نعطهم الذمة على ان يسبوا نبينا # ورواه ايضا من حديث الثوري عن حصين عن الشيخ ان ابن عمر اصلت على راهب سب النبي بالسيف وقال انا لم نصالحهم على سب النبي
والجمع بين الروايتين ان يكون ابن عمر اصلت عليه السيف لعله يكون مقرا بذلك فلما انكر كف عنه وقال لو سمعته لقتلته وقد ذكر حديث ابن عمر غير واحد # وهذه الاثار كلها نص في الذمي والذمية وبعضها عام في الكافر والمسلم او نص فيهما # وقد تقدم حديث الرجل الذي قتله عمر من غير استتابة حين ابى ان يرضى بحكم النبي وحديث كشفه عن راس صبيغ بن عسل وقوله لو رايتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك من غير استتابه وانما ذنب طائفته الاعتراض على سنة الرسول # وقد تقدم عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ^ الاية هذه في شان عائشة وازواج النبي خاصة ليس فيها توبة ومن قذف امراة مؤمنة فقد جعل الله له توبة وقال نزلت في عائشة خاصة واللعنة للمنافقين عامة ومعلوم ان ذاك انما هو لان قذفها اذى للنبي ونفاق والمنافق يجب قتله اذا لم تقبل توبته
وروى الإمام احمد باسناده عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن رجل من بلقين ان امراة سبت النبي فقتلها خالد بن الوليد وهذه الراة مبهمة # وقد تقدم حديث محمد بن مسلمة في ابن يامين الذي زعم ان قتل كعب بن الاشرف كان غدرا وحلف محمد بن مسلمة لئن وجده خاليا ليقتلنه لأنه نسب النبي إلى الغدر ولم ينكر المسلمون عليه ذلك # ولا يرد على ذلك امساك الأمير اما عاوية او مروان عن قتل هذا الرجل لأن سكوته لايدل على مذهب وهو لم يخالف محمد ابن مسلمة ولعل سكوته لأنه لم ينظر في حكم هذا الرجل او نظر فلم يتبين له حكمه او لم تنبعث داعيته لاقامة الحد عليه او ظن ان الرجل قال ذلك معتقدا انه قتل بدون امر النبي او لأسباب احر
وبالجملة فمجرد كفه لايدل على انه مخالف لمحمد بن مسلمة فيما قاله وظاهر القصة ان محمد بن مسلمة رآه مخطئا بترك اقامة الحد على ذلك الرجل ولذلك هجره لكن هذا الرجل انما كان مسلما فان المدينة لم يكن بها يومئذ أحد من غير المسلمين # وذكر ابن المبارك اخبرني حرملة بن عمران حدثني كعب ابن علقمة ان غرفة بن الحارث الكندي وكانت له صحبة من النبي سمع نصرانيا شتم النبي فضربه فدق انفه فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص فقال له انا قد اعطيناهم العهد فقال له غرفة معاذ الله ان نعطيهم العهد على ان يظهروا شتم النبي وانما اعطيناهم العهد على ان نخلي بينهم وبين كنا ئسهم يعملون فيها ما بدا لهم وان لا نحملهم على ما يطيقون وان ارادهم عدو قاتلنا دونهم وعلى ان
نخلي بينهم وبين احكامهم الا ان يأتونا راضين باحكامنا فنحكم فيهم بحكم الله وحكم رسوله وان غيبوا عنا لم نعرض لهم فقال عمرو صدقت # فقد اتفق عمرو وغرفة بن الحارث على ان العهد الذي بيننا وبينهم لا يقتضي اقرارهم على اظهار شتم الرسول كما اقتضى اقرارهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب فمتى اظهروا شتمه فقد فعلوا ما يبيح الدم من غير عهد عليه فيجوز قتلهم وهذا كقول ابن عمر في الراهب الذي شتم النبي لو سمعته لقتلتة فانا لم نعطهم العهد على ان يسبوا نبينا # وانما لم يقتل هذا الرجل والله اعلم لان البينة لم تقم عليه بذلك وانما سمعه غرفة ولعل غرفة قصد قتله بتلك الضربة ولم يمكن من اتمام قتله لعدم البينة بذلك ولان فيه افتئاتا على الإمام والإمام لم يثبت عنده ذلك
وعن خليد ان رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر انه لا يقتل الامن سب رسول الله ولكن اجلده على راسه اسواطا ولولا اني اعلم ان ذلك خير له لم افعل رواه حرب وذكره الإمام احمد وهذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة راشد عالم بالسنة متبع لها # فهذا قول اصحاب رسول الله والتابعين لهم باحسان لا يعرف عن صاحب ولا تابع خلاف لذلك بل اقرار عليه واستحسان له # واسنحسان له وأما الاعتبار فمن وجوه احدها ان عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة فكان نقضا للعهد كالمجاهدة والمحاربة باليد واولى # يبين ذلك ان الله سبحانه قال في كتابه ^ وجاهدوا باموالكم وانفسكم في سبيل الله ^ الايه والجهاد بالنفس يكون كما يكون باليد بل قد يكون اقوى منه قال النبي جاهدوا المشركين بايديكم والسنتكم واموالكم رواه النسائي وغيرة
وكان يقول لحسان بن ثابت اغزهم وغازهم وكان ينصب له منبرا في المسجد ينافح عن رسول الله بشعره وهجائه للمشركين وقال النبي اللهم ايده بروح
القدس وقال ان جبريل معك ما دمت تنافح عن رسوله وقال هي انكى فيهم من النبل # وكان عدد من المشركين يكفون عن اشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان حتى ان كعب بن الاشرف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند اهل بيت هجاهم حسان بقصيدة فيخرجونه من عندهم حتى لم يبقى له بمكة من يؤويه
وفي الحديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وافضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بحق عند سلطان جائر فامر به فقتل # واذا كان شان الجهاد باللسان هذا الشان في شتم المشركين وهجائهم واظهار دين الله والدعاء اليه علم ان من شتم دين الله ورسوله واظهر ذلك وذكر كتاب الله بالسوء علانية فقد جاهد المسلمين وحاربهم وذلك نقض للعهد # الوجه الثاني انا وان اقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر والشرك فهو كاقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة وارادة السوء بنا وتمني الغوائل لنا فانا نحن نعلم انهم يعتقدون خلاف ديننا ويريدون سفك دمائنا وعلو دينهم ويسعون في ذلك لو قدروا عليه فهذا القدر اقررناهم عليه فاذا عملوا بموجب هذه الارادة بان حاربونا وقاتلونا نقضوا العهد كذلك اذا عملوا بموجب تلك العقيدة
من اظهار السب لله ولكتابه ولدينه ولرسوله نقضوا العهد اذ لا فرق بين العمل بموجب الارادة وموجب الاعتقاد # الوجه الثالث ان مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي ان يكفوا ويمسكوا عن اظهار الطعن في ديننا وشتم رسولنا كما يقتضي الامساك عن سفك دمائنا ومحاربتنا لان معنى العهد ان كل واحد من المتعاهدين يؤمن الاخر مما يحذره منه قبل العهد ومن المعلوم انا نحذر من اظهار كلمة الكفر وسب الرسول أو شتمه كما نحذر إظهار المحاربة بل اولى لأنا نسفك الدماء وبمنزل الاموال في تعزيز الرسول وتوقيره ورفع ذكره واظهار شرفه وعلو قدره وهم جميعا يعلمون هذا من ديننا فالمظهر منهم لسبه ناقض للعهد فاعل لما كنا نحذره منه ونقاتله عليه قبل العهد وهذا بين واضح # الوجه الرابع ان العهد المطلق لو لم يقتض ذلك فالعهد الذي عاهدهم عليه عمر بن الخطاب واصحاب رسول الله معه قد بين فيه ذلك وسائر اهل الذمة انما جروا على مثل ذلك العهد
فروى حرب باسناد صحيح عن عبد الرحمن بن غنم قال كتب عمر بن الخطاب حين صالح نصارى اهل الشام هذا كتاب لعبد الله عمر امير المؤمنين من مدينة كذا وكذا انكم لما قدمتم علينا سالناكم الامان لانفسنا وذرارينا واحوالنا على ان لا نحدث وذكر الشروط إلى ان قال ولا نظهر شركا ولا ندعوا اليه احدا وقال في اخره شرطنا ذلك على انفسنا واهلينا وقبلنا عليه الامان فان نحن خالفنا عن شئ شرطنا لكم وضمناه على انفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل من اهل المعاندة والشقاق # وقد تقدم قول عمر له في مجلس العقد ان لم نعطك الذي اعطيناك لتدخل علينا في ديننا والذي نفسي بيده لئن عدت لاضربن عنقك وعمر صاحب الشروط عليهم # فعلم بذلك ان شرط المسلمين عليهم ان لايظهروا كلمة الكفر وانهم متى اظهروها صاروا محاربين وهذا الوجه يوجب ان يكون السب نقضا للعهد عند من يقول لاينتقض العهد به الا اذا شرط عليهم تركه كما خرجه بعض اصحابنا وبعض الشافعية في المذهبين
وكذلك يوجب ان يكون نقضا للعهد عند من يقول اذا شرط عليهم انتقاض العهد بفعله انتقض كما ذكره بعض اصحاب الشافعي فان اهل الذمة انما هم جارون على شروط عمر لانه لم يكن بعده إمام عقد عقدا يخالف عقده بل كل الائمة جارون علي حكم عقده والذي ينبغي ان يضاف إلى من خالف في هذه السأله انه لا يخالف اذا شرط عليهم انتقاض العهد باظهار السب فان الخلاف حينئذ لا وجه له البتة مع إجماع الصحابة على صحة هذا الشرط وجريانه على وفق الاصول فاذا كان الائمة قد شرطوا عليهم ذلك وهو شرط صحيح لزم العمل به على كل قول # الوجه الخامس ان العقد مع اهل الذمة على ان تكون الدار لنا تجري فيها احكام الإسلام وعلى انهم اهل صغار وذلة على هذا عوهدوا وصولحوا فإضهار شتم الرسول او الطعن في الدين ينافي كونهم اهل صغار وذلة فان من اظهر سب الدين والطعن فيه لم يكن من الصغار في شئ فلا يكون عهده باقيا # الوجه السادس ان الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره وتعزيره نصره ومنعه وتوقيره اجلاله وتعضيمه وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق بل ذلك اولى درجات التعزير والتوقير
فلا يجوز ان نصالح اهل الذمة على ان يسمعونا شتم نبينا ويظهروا ذلك فان تمكينهم من ذلك ترك للتعزير والتوقير وهم يعلمون ان لانصالحهم على ذلك بل الواجب علينا ان نكفهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق وعلى ذلك عاهدنهم فاذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا وبينهم # الوجه السابع ان نصر رسول الله فرض علينا لانه من التعزير المفروض ولانه من أعظم الجهاد في سبيل الله ولذلك قال سبحانه ^ مالكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض ^ إلى قوله ^ الا تنصروه فقد نصره الله ^ وقال تعالى ^ يا ايها الذين امنوا كنوا انصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من انصاري إلى الله ^ الاية بل نصر احاد المسلمين واجب بقوله انصر اخاك ظالما او مظلوما وبقوله المسلم
اخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه فكيف بنصر رسول الله ومن أعظم النصر حماية عرضه ممن يؤذيه الا ترى إلى قوله من حمى مؤمنا من منافق يؤذيه حمى الله جلده من نار جهنم يوم القيامة # ولذلك سمي من قابل الشاتم بمثل شتمه منتصرا وسب رجلا أبا بكر عند النبي وهو ساكت فلما اخذ لينتصر قام فقال يارسول الله كان يسبني وانت قاعد فلما اخذت لانتصر قمت فقال كان الملك يرد عليه فلما انتصرت ذهب الملك فلم اكن لااقعد وقد ذهب الملك او كما قال
وهذا كثير معروف في كلامهم يقولون لمن كافى الساب والشاتم منتصرا كما يقلون لمن كافى الضارب والقاتل منتصرا # وقد تقدم انه قال للذي قتل بنت مروان لما شتمته اذا احببتم ان نضروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا وقال للرجل الذي خرق صف المشركين حين ضرب بالسيف ساب النبي فقال النبي اعجبتم من رجل نصر الله ورسوله # وحماية عرضه في كونه نصرا ابلغ من ذلك في حق غيره لان الوقيعة في عرض غيره قد لا تضر مقصودة بل تكتب له بها حسنات # اما نتهاك عرض رسول الله فانه مناف لدين الله بالكلية فان العرض متى انتهك سقط الاحترام والتعظيم فسقط ما جاء به من الرساله فبطل الدين فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله واذا كان كذلك وجب علينا ان ننتصر له ممن انتهك عرضه والانتصار له بالقتل لان انتهاك عرضه انتهاك لدين الله
ومن المعلوم ان من سعى في دين الله تعالى بالفساد استحق القتل بخلاف انتهاك عرض غيره معينا فانه لايبطل الدين والمعاهد لم نعاهده على ترك الانتصار لرسول الله منه ولا من غيره كما لم نعاهده على ترك استيفاء حقوق المسلمين ولا يجوز ان نعاهده على ذلك وهو يعلم انا لم نعاهده على ذلك فاذا سبه فقد وجب علينا ان ننتصر له بالقتل ولا عهد معه على ترك ذلك فيجب قتله وهذا بين واضح لمن تامله # الوجه الثامن ان الكفار قد عوهدوا على ان لايظهروا شيئا من المنكرات التي تختص في دينهم في بلاد الإسلام فمتى اظهروها استحقوا العقوبة على اظهارها وان كان اظهارها دينا لهم فمتى اظهروا سب رسول الله استحقوا عقوبة ذلك وعقوبة ذلك القتل كما تقدم # الوجه التاسع انه لاخلاف بين المسلمين علمناه انهم ممنوعون من اظهار السب وانهم يعاقبون عليه اذا فعلوه بعد النهي فعلم انهم لم يقروا عليه كما اقروا على ماهم عليه من كفر واذا فعلوا مالم يقروا عليه من الجنايات استحقوا العقوبة بالاتفاق وعقوبة السب اما ان تكون جلدا او حبسا او قطعا او قتلا والاول باطل فان مجرد سب الواحد
من المسلمين وسلطان المسلمين يوجب الجلد والحبس فلوا كان سب الرسول كذلك لسوي بين سب الرسول وسب غيره من الامة وهو باطل بالضرورة والقطع لامعنى له فتعين القتل # الوجه العاشر ان القياس الجلي يقتضي انهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب اليه طائفة من الفقهاء فان الدم مباح بدون العهد والعهد عقد من العقود واذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فاما ان ينفسخ العقد بذلك او يتمكن العاقد الاخر من فسخه هذا اصلا مقرر في عقد البيع والنكاح والهبة وغيرها من العقود والحكمة فيه ظاهرة فانه انما التزم مالتزمه بشرط ان يلتزم الاخر بما التزمه فاذا لم يلتزم له الاخر صار هذا غير ملتزم فان الحكم المعلق بشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء وانما اختلفوا في ثبوت مثله # اذا تبين هذا فان كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له ان يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط بل له ان يفسخه كما اذا شرط رهنا او كفيلا او صفة في المبيع وان كان حقا لله او لغيره ممن يتصرف له بالولاية ونحوها لم يجز له امضاء العقد بل ينفسخ العقد
بفوات الشرط او يجب عليه فسخه كما اذا شرط ان تكون الزوجة حرة فظهرت امه وهو ممن لا يحل له نكاح الاماء او شرط ان يكون الزوج مسلما فبان كافرا او شرط ان تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية وعقد الذمة ليس حقا للإمام بل هو حق لله ولعامة المسلمين فاذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل يجب على الإمام ان يفسخ العقد وفسخه ان يلحقه بمامنه ويخرجه من دار الإسلام ظنا ان العقد لاينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه وهذا ضعيف لان المشروط اذا كان حقا لله لا للعاقد انفسخ العقد بفواته من غير فسخ # وهذه الشروط على اهل الذمة حقا لله لا يجوز للسلطان ولا لغيره ان ياخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام الا اذا التزموه والا وجب عليه قتالهم بنص القران ولو فرضنا جواز اقرارهم بدون هذه الشروط فانما ذاك فيما لا ضرر على المسلمين فيه فاما ما يضر المسلمين فلا يجوز اقرارهم عليه بحال ولو فرض اقرارهم على ما يضر المسلمين في انفسهم واموالهم فلا يجوز اقرارهم على افساد دين الله والطعن على كتابه ورسوله # وبهذه المراتب قال كثير من الفقهاء ان عهدهم ينتقض بما يضر المسلمين من المخالفة دون ما لايضرهم وخص بعضهم ما يضرهم في دينهم دون ما يضرهم في دنياهم والطعن على الرسول أعظم المضرات في دينهم
اذا تبين هذا فنقول قد شرط عليهم ان لا يظهروا سب الرسول وهذا الشرط ثابت من وجهين # احدهما انه موجب عقد الذمة ومقتضاه كما ان سلامة المبيع من العيوب وحلول الثمن وسلامة المراة والزوج من موانع الوطيء وإسلام الزوج وحريته اذا كانت الزوجة حرة مسلمه هو موجب العقد المطلق ومقتضاه فان موجب العقد هو ما يظهر عرفا ان العاقد شرطه وان لم يتلفظ به كسلامة المبيع # ومعلوم ان الامساك عن الطعن في الدين وسب الرسول من ما يعلم ان المسلمين يقصدونه بعقد الذمة ويطلبونه كما يطلبون الكف عن مقاتلتهم واولى فانه من أكبر المؤذيات والكف عن الاذى العام موجب عقد الذمة واذا كان ظاهر حال المشتري انه دخل على ان السلعة سليمة من العيوب حتى يثبت له الفسخ بظهور العيب وان لم يشترطه فظاهر حال المسلمين الذين عاقدوا اهل الذمة انهم دخلوا على ان المشركين يكفون عن افساد دينهم والطعن فيه بيد او لسان وانهم لو علموا انهم يظهرون الطعن في دينهم لم يعاهدوهم على ذلك واهل الذمة يعلمون ذلك كعلم البائع ان المشتري انما دخل معه على ان المبيع سالم بل هذا اظهر واشهر ولا خفاء به
الوجه الثاني في ثبوت هذا الشرط ان الذين عاهدوهم اولا هم اصحاب رسول الله عمر ومن كان معه وقد نقلنا العهد الذي بيننا وبينهم وذكرنا اقوال الذين عاهدوهم وهو عهد متضمن انه شرط عليهم الامساك عن الطعن في دين المسلمين وانهم اذا فعلوا ذلك حلت دمائهم واموالهم ولم يبق بيننا وبينهم عهد وان ثبت ان ذلك مشروط عليهم في العقد فزواله يوجب انفساخ العقد لان الانفساخ ايضا مشروط عليهم مع العقد ولان الشرط حق الله كاشتراط إسلام الزوج والزوجة فاذا فات هذا الشرط بطل العقد كما يبطل اذا ظهر الزوج كافرا او المراة وثنية او المبيع غصبا او حرا او تجدد بين الزوجين صهر او ارضاع يحرم احدهما على الاخر او تلف المبيع بعد القبض فان هذه الاشياء لما لم يجز الاقدام على العقد مع العلم بها ابطل العقد مقارنتها له او طروؤها عليه فكذلك وجود هذه الاقوال والافعال من الكافر لما لم يجز للإمام ان يعاهده مع اقامته عليها كان وجودها موجبا لفسخ عقده من غير انشاء فسخ على انا لو قدرنا ان العقد لاينفسخ الا بفسخ الإمام فانه يجب عليه فسخه بغير تردد لانه عقده للمسلمين فانه لو اشترى الوالي سلعة لليتيم فبانت معيبة وجب عليه استدراك ما فات من مال اليتيم وفسخه يكون بقوله وبفعله وقتله له فسخ لعقده
نعم لايجوز له ان يفسخه بجرد القول فان فيه ضررا على المسلمين وليس للسلطان فعل مافيه ضرر على المسلمين مع القدرة على تركه وقولنا ان الذمي انتقض عهده اي لم يبق له عهد يعصم دمه والاول هو الوجه فان بقاء العقد مع وجود ما ينافيه محال # نعم هنا اختلف الفقهاء فيما ينافي العقد فقائل يقول جميع المخالفات تنافيه بناء على انه ليس للإمام ان يصالحهم بدون شيء من الشروط التي شرط عمر # وقائل يقول التي تنافيه هي المخالفات المضرة بالمسلمين بناء على جواز مصالحتهم على ماهو دون ذلك كما صالحهم النبي اولا حال ضعف الإسلام # وقائل يقول التي تنافيه هي ما توجب الضرر العام في الدين او الدنيا كالطعن على الرسول ونحوها # وبالجملة فكل ما لايجوز للإمام ان يعاهدهم مع كونه يفعلونه فهو مناف للعقد كما ان مالايجوز للمتبايعين والمتناكحين ان يتعاقدا مع وجوده فهو مناف للعقد # واظهار الطعن في الدين لايجوز للإمام ان يعاهدهم مع وجوده منهم اعني مع كونهم ممكنين من فعله اذا ارادوا وهذا مما اجمع المسلمون عليه ولهذا بعضهم يعاقبون على فعله بالتعزير واكثرهم يعاقبون عليه بالقتل
وهو مما لايشك فيه المسلم ومن شك فيه فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه # واذا كان العقد لايجوز عليه كان منافيا للعقد ومن خالف شرطا مخالفة تنافي ابتداء العقد فان عقده ينفسخ بذلك بلا ريب كاحد الزوجين اذا احدث دينا يمنع ابتداء العقد مثل ارتداد المسلم او إسلام المراة تحت الكافر فان العقد ينفسخ بذلك اما في الحال او عقب انقضاء العدة او بعد عرض القاضي كما هو مقرر في مواضعه # فاحداث اهل الذمة الطعن في الدين مخالفة بموجب العقد مخالفة تنافي ابتداءه فيجب انفساخ عقدهم بها وهذا بين لما تامله وهو يوجب انفساخ العقد بما ذكرناه عند جميع الفقهاء ويتبين ان ذلك هو مقتضى قياس الاصول # واعلم ان هذه الوجوه التي ذكرناها من جهة المعنى في الذمي فاما المسلم اذا سب فلم يحتج ان يذكر فيه شيء من جهة المعنى لظهور ذلك في حقه ولكون ان المحل محل وفاق ولكن سياتي ان شاء الله تعالى تحقيق الامر فيه هل سبه ردة محضة كسائر الردد الخالية عن زيادة
مغلظة او هو نوع من الردة المتغلظ بقتله على كل حال وهل يقتل السب مع الحكم بإسلامه أم لا والله سبحانه اعلم # فان قيل فقد قال تعالى ^ لتبلون في اموالكم وانفسكم ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور ^ فاخبر ان نسمع منهم الاذى الكثير ودعانا إلى الصبر على اذاهم وانما يؤذينا اذى عاما الطعن في كتاب الله ودينه ورسوله وقوله تعالى ^ لن يضروكم الا اذى ^ من هذا الباب # قلنا اولا ليس في الاية بيان ان ذلك مسموع من اهل الذمة والعهد وانما هو مسموع في الجملة من الكفار # وثانيا ان الامر بالصبر على اذاهم وبتقوى الله لايمنع قتالهم عند المكنة واقامة حد الله عليهم عند القدرة فانه لا خلاف بين المسلمين ان اذا سمعنا مشركا او كتابيا يؤذي الله ورسوله ولا عهد بيننا وبينه وجب علينا ان نقاتله ونجاهده اذا امكن ذلك # وثالثا ان هذه الاية وما شابهها منسوخ من بعض الوجوه
وذلك ان رسول الله لما قدم المدينة كان بها يهود كثير ومشركون وكان اهل الارض اذ ذاك صنفين مشركا او صاحب كتاب فهادن رسول الله من بها من اليهود وغيرهم وامرهم الله اذ ذاك بالعفو والصفح كما في قوله تعالى ^ ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره ^ فامره الله بالعفو والصفح عنهم إلى ان يظهر الله دينه ويعز جنده فكان أول العز وقعة بدر فانها اذلت رقاب أكثر الكفار الذين بالمدينة وارهبت سائر الكفار # وقد اخرجا في الصحيحين عن عروة عن أسامة بن زيد ان رسول الله ركب حمارا على اكاف على قطيفة فدكية واردف أسامة بن زيد يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر فسار حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل ان يسلم عبد الله بي أبي واذا في المجلس اخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الاوثان واليهود وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي انفه بردائه ثم قال لا تغبروا علينا
فسلم رسول الله ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرا عليهم القران فقال عبد الله بن أبي بن سلول ايها المرء انه لا احسن مما تقول ان كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فانا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له رسول الله ياسعد الم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي قال كذا وكذا قال سعد بن عبادة يارسول الله اعف عنه واصفح فوالذي نزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي انزل عليك ولقد اصطلح اهل هذه البحرة على ان يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي اعطاك شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رايت فعفا عنه رسول الله
وكان رسول الله واصحابه يعفون عن المشركين واهل الكتاب كما امرهم الله تعالى ويصبرون على الاذىقال الله تعالى ^ ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور ^ وقال الله عز وجل ^ ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين له الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره ان الله على كل شيء قدير ^ # وكان رسول الله يتاول في العفو ما امره الله عز وجل حتى اذن الله عز وجل فيهم فلما غزا رسول الله بدرا فقتل الله تعالى به من قتل من صناديد كفار قريش وقفل رسول الله واصحابه منصورين غانمين معهم اسارى من صناديد الكفار وسادة قريش فقال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين عبده الاوثان هذا امر قد
توجه فبايعوا رسول الله على الإسلام فاسلموا اللفظ للبخاري # وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى ^ واعرض عن المشركين ^ ^ لست عليهم بمسيطر ^ ^ فاعف عنهم واصفح ^ ^ وان تعفوا وتصفحوا ^ ^ فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره ^ ^ قل للذين امنوا يغفروا للذين لا يرجون ايام الله ^ ونحو هذا في القران مما امر الله به المؤمنين بالعفو والصفح عن المشركين فانه نسخ ذلك كله قوله تعالى ^ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ^ وقوله تعالى ^ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الاخر ^ إلى قوله ^ وهم صاغرون ^ فنسخ هذا عفوه عن المشركين # وكذلك روى الإمام احمد وغيره عن قتادة قال امر الله نبيه ان يعفوا عنهم ويصفح حتى ياتي الله بامره وقضائه ثم انزل الله عز وجل براءة فاتى الله بامره وقضائه فقال تعالى ^ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ^ الاية قال فنسخت هذه الاية ما كان قبلها وامر الله فيها بقتال اهل الكتاب حتى يسلموا او يقروا بالجزية صغارا ونقمة لهم # وكذلك ذكر موسى بن عقبة عن الزهري ان النبي لم يكن يقاتل من كف عن قتاله لقوله تعالى ^ فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقو اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ^ إلى ان نزلت براءة # وجملة ذلك انه لما نزلت براءة امر ان يبتدي جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا عنه او لم يكفوا وان ينبذ اليهم تلك
العهود المطلقة التي كانت بينه وبينهم وقيل له فيها ^ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ بعد ان كان قد قيل له ^ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم ^ # ولهذا قال زيد بن اسلم نسخت هذه الاية ما كان قبلها فاما قبل براءة وقبل بدر فقد كان مامورا بالصبر على اذاهم والعفو عنهم واما بعد بدر وقبل براءة فقد كان يقاتل من يؤذيه ويمسك عمن سالمه كما فعل بابن الاشرف وغيره ممن كان يؤذيه فبدر كانت اساس عز الدين وفتح مكة كانت كمال عز الدين فكانوا قبل بدر يسمعون الاذى الظاهر ويؤمرون بالصبر عليه وبعد بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين وغيرهم فيؤمرون بالصبر عليه وفي تبوك امروا بالاغلاظ للكفار والمنافقين فلم يتمكن بعدها كافر ولا منافق من اذاهم في مجلس خاص ولا عام بل مات بغيظه لعلمه بانه يقتل اذا تكلم وقد كان بعد بدر لليهود استطالة واذى للمسلمين إلى ان قتل كعب بن الاشرف
قال محمد بن اسحاق في حديثه عن محمد بن مسلمة قال فاصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي الا وهو يخاف على نفسه # وروى باسناده عن محيصة ان رسول الله قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على ابن سليمة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة ابن مسعود اذ ذاك لم يسلم وكان اسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول اي عدو الله قتلته اما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله ان كان إسلام حويصة فقال محيصة فقلت له والله لقد امرني بقتله من لو امرني بقتلك لضربت عنقك فقال لو امرك محمد بقتلي لقتلتني فقال محيصة نعم والله فقال حويصة والله ان دينا بلغ هذا منك لعجب # وذكر غير ابن اسحاق ان اليهود حذرت وذلت وخافت من يوم قتل ابن الاشرف فلما اتى الله بامره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين امر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين
كافة وبقتال اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون # فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى الذين امر الله بهما في أول الامر وكان اذ ذاك لايؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية وصارت تلك الايات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه وصارت اية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده او لسانه وبهذه الاية ونحوها كان المسلمون يعملون في اخر عمر رسول الله وعلى عهده خلفائه الراشدين وكذلك هو إلى قيام الساعة لاتزال طائفة من هذه الامة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام فمن كان من المؤمنين بارض هو فيها مستضعف او في وقت هو فيه مستضعف فليعمل باية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين اوتوا الكتاب والمشركين واما اهل القوة فانما يعملون باية قتال ائمة الكفر الذين يطعنون في الدين وباية قتال الذين اوتوا
الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون # فان قيل قد قال الله تعالى ^ الم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ^ إلى قوله ^ واذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في انفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ^ فاخبر انهم يحيون الرسول تحية منكرة واخبر ان العذاب في الاخرة يكفيهم عليها فعلم ان تعذيبهم في الدنيا ليس بواجب # وعن انس بن مالك قال مر يهودي بالرسول فقال السام عليك فقال رسول الله وعليك فقال رسول الله اتدرون ما يقول قال السام عليك قالوا يارسول الله الا نقتله قال لا اذا سلم عليكم اهل الكتاب فقولوا وعليكم رواه البخاري # وعن عائشة رضي الله عنها قال دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا السام عليك قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة قالت فقال رسول الله مهلا يا عائشة
ان الله رفيق يحب الرفق في الامر كله فقلت يارسول الله الم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم متفق عليه # وعن جابر قال سلم ناس من اليهود على رسول الله فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال وعليكم فقالت عائشة وغضبت الم تسمع ما قالوا قال بلى قد سمعت فرددت عليهم وانا نجاب عليهم ولا يجابون علينا رواه مسلم # ومثل هذا الدعاء اذى للنبي وسب له ولو قاله المسلم لصار به مرتدا لانه دعاء على النبي في حياته بان يموت وهذا فعل كافر ومع هذا فلم يقتلهم النبي بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استامره اصحابه في قتله
قلنا عن هذا اجوبه # احدها ان هذا كان في حال ضعف الإسلام الا ترى انه قال لعائشة مهلا يا عائشة فان الله يحب الرفق في الامر كله وهذا الجواب كما ذكرناه في الاذى الذي امر الله بالصبر عليه إلى ان اتى الله بامره # ذكر هذا الجواب طوائف من المالكية والشافعية والحنبلية منهم القاضي أبو يعلى وابو اسحاق الشيرازي وابو الوفاء بن عقيل وغيرهم ومن اجاب بهذا جعل الامان كالايمان في انتقاضه بالشتم ونحوه # وفي هذا الجواب نظر لما روي ابن عمر قال قال رسول الله ان اليهود اذا سلم احدهم انما يقول السام عليكم
فقولوا عليك # وعن انس قال قال رسول الله اذا سلم عليكم اهل الكتاب فقولوا وعليكم متفق عليهما # فعلم ان هذا سنة قائمة في حق اهل الكتاب مع بقائهم على الذمة وانه حال عز الإسلام لم يامر بقتلهم لاجل هذا وقد ركب إلى بني النضير فقال اذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم وكان ذلك بعد قتل ابن الاشرف فعلم انه كان بعد قوة الإسلام # نعم قد قدمنا ان النبي كان يسمع من الكفار والمنافقين في أول الإسلام اذا كثيرا وكان يصبر عليه امتثالا لقوله تعالى ^ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم ^ لان اقامة الحدود عليهم كان يفضي
الى فتنة عظيمة ومفسدة أعظم من مفسدة الصبر على كلاماتهم # فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله افواجا وانزل الله براءة قال فيها ^ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ وقال تعالى ^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ^ إلى قوله اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلا ^ # فلما راى من بقي من المنافقين ما صار الامر اليه من عز الإسلام وقيام الرسول بجهاد الكفار والمنافقين اضمروا النفاق فلم يكن يسمع من أحد من المنافقين بعد غزوة تبوك كلمة سوء وماتوا بغيظهم حتى بقي منهم اناس بعد موت النبي يعرفهم صاحب السر حذيفة فلم يكن يصلي عليهم هو ولا يصلي عليهم من عرفهم لسبب اخر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه # فهذا يفيد ان النبي كان يحتمل من الكفار والمنافقين قبل براءة ما لم يكن يحتمل فهم بعد ذلك كما قد كان يحتمل من اذى الكفار وهو بمكة ما لم يكن يحتمل بدار الهجرة والنصرة لكن هذه الكلمة ليست من هذا الباب كما قد بيناه
الجواب الثاني ان هذا ليس من السب الذي ينتقض به العهد لانهم انما اظهروا التحية الحسنة والسلام المعروف ولم يظهروا سبا ولا شتما وانما حرفوا السلام تحريفا خفيا لا يظهر ولايفطن له أكثر الناس ولهذا لما سلم اليهودي على النبي بلفظ السام لم يعلم به اصحابه حتى اعلمهم وقال ان اليهود اذا سلم احدهم فانما يقول السام عليكم وعهدهم لا ينتقض بما يقولونه سرا من كفر او تكذيب فان هذا لابد منه وكذلك لا ينتقض العهد بما يخفونه من السب وانما ينتقض بما يظهرونه # وقد ذكر غير واحد ان اليهود كانوا يدخلون على النبي فيقولون السام عليك فيرد عليهم رسول الله وعليكم ولا يدري ما يقولون فاذا خرجوا قالوا لو كان نبيا لعذبنا واستجيب فينا وعرف قولنا فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا السام عليك ففطنت عائشة إلى قولهم فقالت وعليكم السام والذام والداء واللعنة فقال رسول الله مه ياعائشة ان الله يحب الرفق في الامر كله ولا يحب الفحش ولا التفحش فقالت يارسول الله الم تسمع إلى ما قالوا فقال رسول الله الم تسمعي ما رددت عليهم فانزل الله تعالى ^ واذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ^ الاية
فقال رسول الله اذا سلم عليكم اهل الكتاب فقولوا وعليكم # فهذا دليل على ان النبي لم يكن يظهر له انه سب ولذلك نهى عائشة عن التصريح بشتمهم وامرها بالرفق بان ترد عليهم تحيتهم فان كانوا قد حيوا تحية سيئة استجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا ولو كان ذلك من باب شتم النبي والمسلمين الذي هو السب لكان فيه العقوبة ولو بالتعزير والكلام # فلما لم يشرع رسول الله في مثل هذه التحية تعزيرا ونهى من اغلظ عليهم لاجلها علم ان ذلك ليس من السب الظاهر لكونهم اخفوه كما يخفي المنافقون نفاقهم ويعرفون في لحن القول فلا يعاقبون بمثل ذلك وسياتي ان شاء الله تمام الكلام في ذلك
الجواب الثالث ان قول اصحاب النبي له الا نقتله لما اخبرهم انه قال السام عليكم دليل على انه كان مستقرا عندهم قتل الساب من اليهود لما راوه قتل ابن الاشرف والمراة وغيرهما فنهاهم النبي عن قتله واخبرهم ان مثل هذا الكلام حقه ان يقابل بمثله لانه ليس اظهارا للسب والشتم من جنس ما فعلت تلك اليهودية وابن الاشرف وغيرهما وانما هو اسرار به كاسرار المنافقين بالنفاق # الجواب الرابع ان النبي كان له ان يعفو عمن شتمه وسبه في حياته وليس للامة ان تعفو عن ذلك # يوضح ذلك انه لاخلاف ان من سب النبي او عابة بعد موته من المسلمين كان كافرا حلال الدم وكذلك من سب نبيا من الانبياء ومع هذا فقد قال الله تعالى ^ يا ايها الذين امنوا لاتكونوا كالذين اذوا موسى فبراه الله مما قالوا ^ وقال تعالى ^ واذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون انني رسول الله اليكم ^ فكان بنو إسرائيل يؤذون موسى في حياته بما لو قاله اليوم أحد من المسلمين وجب قتله ولم يقتلهم موسى وكان نبينا يقتدي به في ذلك فربما سمع اذاه او بلغه فلا يعاقب المؤذي على ذلك قال
الله تعالى ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن ^ الاية وقال ^ ومنهم من يلمزك في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون ^ # وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال بينا النبي يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول الله قال ويلك من يعدل اذا لم اعدل قال عمر بن الخطاب دعني اضرب عنقه قال دعه فان له اصحابا يحقرا احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وذكر الحديث إلى ان قال وفيه نزلت ^ ومنهم من يلمزك في الصدقات ^ # هكذا رواه البخاري وغيره من حديث معمر عن الزهري واخرجاه في الصحيحين من وجوه اخرى عن الزهري عن أبي سلمة
والضاحك الهمداني عن أبي سعيد قال بينا نحن جلوس عند النبي وهو يقسم قسما اتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بن تميم فقال يارسول الله اعدل فقال رسول الله ويلك من يعدل اذا لم اعدل قد خبت وخسرت ان لم اعدل فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ائذن لي فيه اضرب عنقه فقال رسول الله دعه فان له اصحابا يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وذكر حديث الخوارج المشهور ولم يذكر نزول الاية # وتسمينة ذو الخويصرة هو المشهور في عامة الاحاديث كما رواه عامة اصحاب الزهري عنه والاشبه ان ما انفرد به معمر وهم منه
فان له مثل ذلك وقد ذكروا ان اسمه حرقوص بن زهير # وفي الصحيحين ايضا من حديث عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد قال بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي بذهيبة في تربتها فقسمها بين اربعة نفر وفيه فغضب قريش والانصار وقالوا يعطيه صناديد اهل نجد ويدعنا فقال انما اتالفهم فاقبل رجل غائر العينين ناتيء الجبين كث اللحية مشرف الوجنتين محلوق الراس فقال يا محمد اتق الله قال فمن يطع الله اذا عصيته افيامنني على اهل الارض ولا تامنوني فسال رجل من القوم قتله اراه خالد بن الوليد فمنعه فلما ولى قال إن من ضئضى هذا قوما يقرؤون القران لا يجاوز حناجرهم وذكر الحديث في صفة الخوارج وفي آخر يقتلون اهل الإسلام ويدعون اهل الاوثان لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد # وفي رواية لمسلم الا تامنوني وانا امين من في السماء ياتيني خبر السماء صباحا ومساء وفيها فقال يارسول الله اتق الله
فقال النبي ويلك اولست احق اهل الارض ان يتقي الله قال ثم ولي الرجل فقال خالد بن الوليد يارسول الله الا اضرب عنقه فقال لا لعله ان يكون يصلي قال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله اني لم اومر ان انقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم # وفي رواية في الصحيح فقام اليه عمر بن الخطاب فقال يارسول الله الا اضرب عنقه قال لا فقام اليه خالد سيف الله فقال يارسول الله الا اضرب عنقه قال لا # فهذا الرجل قد نص القران انه من المنافقين بقوله ^ ومنهم من يلمزك في الصدقات ^ اي يعيبك ويطعن عليك وقوله للنبي اعدل واتق الله بعدما خص بالمال اولئك الاربعة نسبة للنبي إلى انه جار ولم يتق الله ولهذا قال اولست احق اهل الارض ان يتقي الله الاتامنوني وانا امين من في السماء # ومثل هذا الكلام لا ريب انه يوجب القتل لو قاله اليوم أحد وانما لم يقتله النبي لانه كان يظهر الإسلام وهو الصلاة التي يقاتل الناس حتى يفعلوها وانما كان نفاقه بما يختص النبي من الاذى وكان له ان يعفو عنه وكانوا يعفو عنهم تاليفا للقلوب لئلا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه وقد جاء ذلك مفسرا في هذه القصة او في مثلها
فروى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير عن جابر رضى الله عنه قال اتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله يقبض منها يعطي منها الناس فقال يا محمد اعدل فقال ويلك ومن يعدل اذا لم اكن اعدل لقد خبت وخسرت ان لم اكن اعدل فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه دعني يارسول فاقتل هذا المنافق فقال معاذ الله ان يتحدث الناس اني اقتل اصحابي ان هذا واصحابه يقرؤون القران لايجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية # وروى البخاري منه عن عمرو عن جابر رضى الله عنهما قال بينا رسول الله يقسم غنيمة بالجعرانة اذ قال له رجل اعدل فقال لقد شقيت ان لم اعدل
وجاء من كلامه لرسول الله ما هو اغلظ من هذا قال ابن اسحاق في رواية ابن بكير عنه حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث قال خرجت وانا وتيلد بن كلاب الليثي فلقينا عبد الله بن عمرو بن العاص يطوف بالكعبة معلقا نعليه في يديه فقلنا له هل حضرت رسول الله وعنده ذو الخويصرة التميمي يكلمه قال نعم ثم حدثنا فقال اتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله وهو يقسم المقاسم بحنين فقال يا محمد قد رايت ما صنعت قال فكيف رايت قال لم ارك عدلت فغضب رسول الله اذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون فقال عمر يارسول الله الا اقوم اليه فاضرب عنقه فقال رسول الله دعه فانه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية وذكر تمام الحديث # قال ابن اسحاق حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال اتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله وهو يقسم المقاسم بحنين وذكر مثل هذا سواء
ورواه الإمام احمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابيه عن ابن اسحاق نحو هذا # وقال الاموي عن ابن اسحاق وذكر الحديث عن أبي عبيدة وعن محمد بن علي وعن ابن أبي نجيح عن ابيه ان رجلا تكلم عند النبي قال ولم يسمه الا محمد بن علي فانه قال هو ذو الخويصرة التميمي # وكذلك ذكر غيره ان ذا الخويصرة هو الذي اعترض على النبي في قسم غنائم حنين وكذلك المنافق الذي سمعه ابن مسعود فانه في غنائم حنين ايضا
واما الذي في حديث بن أبي نعم عن أبي سعيد فانه كان بعد هذه المرة لان فيه ان عليا بعث إلى النبي وهو باليمن بذهيبة فقسمها بين اربعة من اهل نجد ولا خلاف بين اهل العلم ان عليا كان في غزوة حنين مع النبي ولم تكن اليمن فتحت يومئذ ثم انه استعمل عليا على اليمن سنة عشر بعد تبوك وبعد ان بعثه مع أبي بكر إلى الموسم ينبذ العهود ووافى النبي في حجة الوداع منصرفة من اليمن وكان النبي بالمدينة لما بعث علي بالصدقة ومما يبين ذلك ان غنائم حنين نفل النبي منها خلقا كثيرا من قريش واهل نجد وهذه الذهيبة انما قسمها بين اربعة نجديين واذا كان كذلك فاما ان يكون المعترض في هذه المرة غير ذي الخويصرة ويكون أبو سعيد قد شهد القصتين وعلى هذا فالذي في رواية معمر ان اية الصدقات نزلت في قصة ذو الخويصة ليس بجيد بل هو مدرج في الحديث من كلام الزهري او كلام معمر لان ذا الخويصرة انما انكر عليه قسم الغنائم وليست هي الصدقات التي جعلها الله لثمانية اصناف ولا الاتفات إلى ما ذكره بعض المفسرين من ان الاية نزلت في قسم غنائم حنين واما ان يكون المعترض في ذهيبة علي رضي الله عنه هو ذو الخويصرة ايضا وعلى هذا فتكون احاديث أبي سعيد كلها في هذه القصة لا في قسم الغنائم وتكون الاية قد نزلت في ذلك او يكون قد شهد القصتين معا والاية نزلت في احداهما
وقد روى عن أبي برزة الإسلامي قال اتى رسول الله بمالا فقسمه فاعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من وراءه شيئا فقام رجلا من ورائه فقال يا محمد ما عدلت في القسمة رجل اسود مطموم الشعر عليه ثوبان ابيضان فغضب رصول الله غضبا شديدا وقال والله لا تجدون بعدي رجلا هو اعدل مني ثم قال يخرج في اخر الزمان قوم كان هذا منهم يقرؤون القران لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لايزالون يخرجون حتى يخرج اخرهم مع المسيح الدجال فاذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق والخليقة رواه النسائي # ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي وائل عن عبد الله قال لما كان يوم حنين اثر رسول الله ناسا في القسمة فاعطى الاقرع بن حابس مئة من الابل واعطي عيينه بن حصن مثل ذلك واعطى ناسا من اشراف العرب واثرهم يومئذ في القسمة فقال
رجل والله ان هذه لقسمة ما عدل فيها او ما اريد بها وجه الله قال فقلت والله لاخبرن رسول الله قال فاتيته فاخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال فمن يعدل اذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال يرحم الله موسى قد اوذي باكثر من هذا فصبر قال فقلت لاجرم لا ارفع اليه بعدها حديثا # وفي رواية للبخاري قال رجل من الأنصار ما اريد بها وجه الله # وذكر الواقدي ان المتكلم بهذا كان معتب بن قشير وهو معدود من المنافقين # فهذا الكلام مما يوجب القتل بالاتفاق لانه جعل النبي ظالما مرائيا وقد صرح النبي بان هذا من اذى المرسلين ثم اقتدى في العفو عن ذلك بموسى عليه السلام ولم يستتب لان القول لم يثبت فانه لم يراجع القائل ولا تكلم في ذلك بشيء
ومن ذلك ما رواه ابن أبي عاصم وابو الشيخ في الدلائل باسناد صحيح عن قتادة عن عقبة بن وساج عن عمر قال اتي رسول الله بقليد من ذهب وفضة فقسمه بين اصحابه فقام رجل من اهل البادية فقال يا محمد والله لئن امرك الله ان تعدل فما اراك تعدل فقال ويحك من يعدل عليك بعدي فلما ولى قال ردوه علي رويدا # ومن ذلك قول الانصاري الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال أسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك فقال ان كان
ابن عمتك # وحديث الرجل الذي قضى عليه فقال لا ارضى ثم ذهب إلى أبي بكر ثم إلى عمر فقتله # ولهذا نظائر في الحديث اذا تتبعت مثل الحديث المعروف عن بهز ابن حكيم عن ابيه عن جده ان اخاه اتى النبي فقال جيراني على ماذا اخذوا فاعرض عنه النبي فقال ان الناس يزعمون انك تنهى عن الفيء وتستخلي به فقال لئن كنت افعل ذلك انه
لعلي وما هو عليهم خلوا له جيرانه رواه أبو داود باسناد صحيح # فهذا وان كان قد حكى هذا القذف عن غيره فانما قصد به انتقاصه وايذاءه بذلك ولم يحكه على وجه الرد على من قاله وهذا من انواع السب # ومثل حديث ابن اسحاق عن هشام عن ابيه عن عائشة قالت ابتاع رسول الله جزورا من اعرابي بوسق من تمر الذخيرة فجاء به إلى منزله فالتمس التمر فلم يجده في البيت قالت فخرج إلى الاعرابي فقال يا عبد الله انا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة ونحن نرى انه عندنا فلم نجده فقال الاعرابي وا غدراه وا غدراه فوكزه الناس وقالوا لرسول الله تقول هذا فقال رسول الله دعوه رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في الدلائل # فهذا الباب كله مما يوجب القتل ويكون به الرجل كافرا منافقا حلال الدم كان النبي وغيره من الانبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله امتثالا لقوله تعالى ^ خذ العفو وامر بالعرف
واعرض عن الجاهلين ^ ولقوله تعالى ^ ادفع بالتي هي احسن السيئة ^ وقوله ^ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم ^ ولقوله تعالى ^ ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر ^ ولقوله تعالى ^ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم ^ ذلك لان درجة الحلم والصبر على الاذى والعفو عن الظلم أفضل اخلاق اهل الدنيا والاخرة يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام قال تعالى ^ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ^ وقال تعالى ^ وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله ^ وقال تعالى ^ ان تبدو خيرا او تخفوه او تعفوا عن سوء فان الله كان
عفوا قديرا ^ وقال ^ وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ^ # والاحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة ثم الانبياء احق الناس بهذه الدرجة لفضلهم واحوج الناس اليها لما ابتلوا به من دعوة الناس ومعالجتهم وتغيير ما كانوا عليه من العادات هو امر لم يات به أحد الا عودي فالكلام الذي يؤذيهم يكفر به الرجل فيصير به محاربا ان كان ذا عهد ومرتدا او منافقا ان كان ممن يظهر الإسلام ولهم فيه ايضا حق الادمي فجعل الله لهم ان يعفوا عن مثل هذا النوع ووسع عليهم ذلك لما فيه من حق الادمي تغليبا لحق الادمي على حق الله كما جعل لمستحق القود وحد القذف ان يعفو عن القاتل والقاذف واولى لما في جواز عفو الانبياء ونحوهم من المصالح العظيمة المتعلقة بالنبي والامة
وبالدين وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها ما ضرب رسول الله بيده خادما له ولا امراة ولا دابه ولا شيئا قط الا ان يجاهد في سبيل الله ولا انتقم لنفسه قط وفي لفظ ما نيل منه شئ فانتقم من صاحبه الا ان تنتهك محارم الله فاذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبة شئ حتى ينتقم لله متفق عليه # ومعلوم ان النيل منه أعظم من انتهاك المحارم لكن لما دخل فيها حقه كان الامر اليه في العفو او الانتقام فكان يختار العفو وربما امر بالقتل اذا راى المصلحة في ذلك بخلاف ما لاحق له فيه من زنى او سرقة او ظلم لغيره فانه يجب عليه القيام به
وقد كان اصحابه اذا راوا من يؤذيه ارادوا قتله لعلمهم بانه يستحق القتل فيعفو هو عنه ويبين لهم ان عفوه اصلح مع اقراره لهم على جواز قتله ولو قتله قاتل قبل عفو النبي لم يعرض له النبي لعلمه بانه قد انتصر لله ورسوله بل يحمده على ذلك ويثني عليه كما قتل عمر رضي الله عنه الرجل الذي لم يرضى بحكمه وكما قتل رجل بنت مروان واخر اليهودية السابه فاذا تعذر عفوه بموته بقي حقا محضا لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقه فتجب اقامتة # ويبين ذلك ما روى إبراهيم بن الحكم بن ابان حدثني أبي عن عكرمه عن أبي هريرة رضي الله عنه ان اعرابيا جاء إلى النبي يستعينه في شئ فاعطاه شيئا ثم قال احسنت اليك قال الاعرابي لا ولا اجملت قال فغضب المسلمون وقامو اليه فأشار اليهم ان كفوا ثم قام فدخل منزله ثم ارسل إلى الاعرابي فدعاه إلى البيت يعني فاعطاه فرضي فقال انك جئتنا فسالتنا فاعطيناك فقلت ما قلت وفي
انفس المسلمين شئ من ذلك فان احببت فقل بين ايديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال نعم فلما كان الغد او العشي جاء قال رسول الله ان صاحبكم هذا جاء فسالنا فاعطيناه فقال ما قال وانا دعوناه إلى البيت فاعطيناه فزعم انه قد رضي اكذلك قال الاعرابي نعم فجزاك الله من اهل وعشيرة خيرا فقال النبي الا ان مثلي ومثل هذا الاعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها الا نفورا فناداهم صاحب الناقه خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقه بين يديها فاخذ لها من قمام الارض فجاءت فاستناحت فشد عليها رحلها واستوى عليها واني لوتركتكم حين قال ارجل ما قال فقتلتموه دخل النار # ورواه أبو احمد العسكري بهذا الاسناد قال جاء اعرابي إلى النبي فقال يا محمد اعطني فانك لا تعطي من مالك ولا من مال ابيك فاغلظ للنبي فوثب اليه اصحابه فقالوا يا عدو الله تقول هذا لرسول الله وذكره # فهذا يبين لك ان قتل ذلك الرجل لاجل قوله ما قال كان جائزا قبل الاستتابةوانه صار كافرا بتلك الكلمة ولولا ذلك لما كان يدخل النار اذا قتل على مجرد تلك الكلمة بل كان يدخل الجنة لانه
مظلوم شهيد وكان قاتله يدخل النار لانه قتل مؤمنا متعمدا ولكان النبي يبين ان قتله لم يحل لان سفك الدم بغير حق من أكبر الكبائروهذا الاعرابي كان مسلما ولهذا قال صاحبكم ولهذا جاءه الاعرابي يستعينه ولو كان كافرا محاربا له لما جاء يستعينه في شئ ولو كان النبي اعطاه ليسلم لذكر في الحديث انه اسلم فلما لم يجر للإسلام ذكر دل على انه كان ممن دخل الإسلام وفيه جفاء الاعراب وممن دخل في قوله تعالى ^ فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يستخطون ^ # ومما يوضح ذلك انه كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم حتى قال لو اعلم اني لو زدت على السبعين غفر له لزدت حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم وامره بالاغلاظ عليهم فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام وما يعاملهم من الصفح والعفو والاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له ^ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم ^ لاحتياجه اذ ذاك إلى استعطافهم وخشية نفور العرب عنه اذا قتل احدا منهم وقد صرح لما قال ابن ابي
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولما قال ذو الخويصرة اعدل فانك لم تعدل وعند غير هذه القضية انه انما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه فان الناس ينضرون إلى ظاهر الامر فيرون واحدا من الصحابة قد قتل فيظن الظان انه يقتل بعض اصحابه على غرض او حقد او نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام واذا كان من شريعته ان يتألف الناس على الإسلام بالاموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته فلان يتألفهم بالعفو اولى واحرى # فلما انزل الله براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم وامره ان يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم ولم يبقى الا اقامة الحدود واعلاء كلمة الله في حق الانسان # فان قيل فقد قال تعالى ^ الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الظلالة ^ إلى قوله ^ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين ^
وقوله ^ اسمع غير مسمع ^ مثل قولهم اسمع لا سمعت واسمع غير مقبول منك لان من لا يقصد اسماعه لايقبل كلامه # وقولهم ^ راعنا ^ قال قتادة وغيره كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين ان يقولوا مثل قولهم # وقال ايضا كانت اليهود تقول للنبي راعنا سمعك يستهزئون بذلك وكانت في اليهود قبيحة # وروى الإمام احمد عن عطية قال كان يأتي ناس من اليهود فيقولون راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود
وقال عطاء الخرساني كان الرجل يقول ارعني سمعك ويلوي بذلك لسانه ويطعن في الدين # وذكر بعض اهل التفسير ان هذه اللفظة كانت سبا قبيحا بلغة اليهود # فهؤلاء قد سبوه بهذا الكلام ولووا السنتهم به واستهزؤوا به وطعنوا في الدين ومع ذلك فلم يقتلهم النبي # قلنا عن ذلك اجوبة احداها ان ذلك كان في حال ضعف الإسلام في الحال التي اخبر الله رسوله والمؤمنين انهم يسمعون من الذين اوتوا الكتاب والمشركين اذى كثيرا وامرهم بالصبر والتقوى ثم ان ذلك نسخ عند القوة بالامر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والصاغر لا يفعل شيئا من الاذى في الوجه ومن فعله فليس بصاغر # ثم ان من الناس من يسمي ذلك نسخا لتغير الحكم ومنهم من لا يسميه نسخا لان الله تعالى امرهم بالعفو
والصفح إلى ان ياتي الله بامره وقد اتى الله بامره من عز الإسلام واظهاره والامر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون # وهذا مثل قوله تعالى ^ فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا ^ وقال النبي قد جعل الله لهن سبيلا فبعض الناس يسمي ذلك نسخا وبعضهم لا يسميه نسخا والخلاف لفظي # ومن الناس من يقول الامر بالصفح باق عند الحاجة اليه بضعف المسلم عن القتال بان يكون في وقت او مكان لا يتمكن منه وذلك لا يكون منسوخا اذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الازمنة المستقبلة # وبالجملة فلا خلاف ان النبي كان مفروضا عليه لما قوي ان يترك ما كان يعامل به اهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى قتالهم واقامة الحدود عليهم سمي نسخا او لم يسم
الجواب الثاني ان النبي قد كان له ان يعفو عمن سبه وليس للامة ان تعفو عمن سبه كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين مع انه لا خلاف بين المسلمين في وجوب قتل من سبه من المسلمين # الجواب الثالث ان هذا ليس باظهار للسب وانما هو اخفاء له بمنزلة السام عليكم وبمنزلة ظهور النفاق في لحن القول لانهم كانوا يظهرون انهم يقصدون مسألته ان يسمع كلامهم وان يراعيهم فينضرهم حتى يقضوا كلامهم وحتى يفهموا كلامه وياتونه على هذا الوجه ثم انهم يلوون السنتهم بالكلام وينوون به الاستهزاء والسب والطعن في الدين كما يلوون السنتهم بالسلام وينوون به الدعاء عليه بالموت واليهود امة معروفة بالنفاق والخبث وان تظهر خلاف ما تبطن ولكن ذلك لا يوجب اقامة حد لهم # ولو كان هذا سبا ظاهرا لما كان المسلمون يخاطبون بمثل ذلك قاصدين به الخير حتى نهوا عن التكلم بكلام يحتمل الاستهزاء ويوهمه بحيث يصير سبا بالنية ودلالة الحال
وذلك ان هذه اللفظة كانت العرب تتخاطب بها تقصد سبا قال عطا كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العاليه ان مشركي العرب كانوا اذا حدث بعضهم بعضا يقول احدهم لصاحبه ارعني سمعك فنهو عن ذلك وكذلك قال الضحاك وذلك ان العرب تقول ارعيته سمعي ارعاء اذا فرغته لكلامه لانك جعلت السمع يرعى كلامه وتقول راعيته سمعي بهذا المعنى لكن كانت اليهود تعتقدها سبا بينها اما لما فيه من الاشتراك فانها كما تستعمل في استرعاء السمع تستعمل بمعنى المفاعله كانه قيل راعني حتى اراعيك وهذا انما يكون بين الامثال والنظراء ومرتبة الرئيس اعلى من ذلك # او ان اليهود ينوون بها معنى الرعونه او فيها طلب حفظ الكلام والاهتمام به وهذا انما يكون من الاعلى للاسفل لان الرعاية هي الحفظ والكلاءه ومنه استرعاء الشهادة
او قد غلبت في عرفهم ولغتهم على معنى رديء كما قد قيل انهم ينوون بها اسمع لا سمعت وبالجملة انما يصير مثل هذا سبا بالنية ولي اللسان ونحوه فنهي المسلمون عنها حسما لمادة التشبه باليهود وتشبه اليهود بهم وجعل ذلك ذريعة إلى الاستهزاء به ولما يحتمله لفظها من قلة الادب في مخاطبة الرسول # الجواب الرابع ما ذكره بعض اهل التفسير الذي ذكر انها كانت سبا قبيحا بلغة اليهود قال كان المسلمون يقولون راعنا يارسول الله وارعنا سمعك يعنون من المراعاه وكانت هذه اللفظه سبا قبيحا بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها وقالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم وكانوا يأتونه ويقولون راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لان سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لاضربن عنقه فقالوا اولستم تقولنها فانزل الله ^ يا يها الذين امنوا لا تقولوا راعنا ^ لئلا يتخذ اليهود ذلك سبيلا الىشتم رسول الله
فهذا القول دليل على ان اللفظة مشتركه في لغة العرب ولغة العبرانيين وان المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود اذا قالوها الا معناها في لغتهم فلما فطنوا لمعناها في اللغة الاخرى نهوهم عن قولها واعلموهم ان ذلك ناقض لعهدهم ومبيح لدمائهم وهذا اوضح دليل على انهم اذا تكلموا بما يفهم منه السب حلت دماؤهم وانما لم يستحلوا دماءهم لان المسلمين لم يكونوا يفهمون السب والكلام في السب الظاهر وهو ما يفهم منه السب # فان قيل اهل الذمة قد اقررناهم على دينهم ومن دينهم استحلال سب النبي فاذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما اقررناهم عليه وهذه نكتة المخالف # قلنا ومن دينهم استحلال قتال المسلمين واخذ اموالهم ومحاربتهم بكل طريق ومع هذا فليس لهم ان يفعلوا ذلك بعد العهد ومتى فعلوه نقضوا العهد وذلك لانا وان كنا نقرهم على ان يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا ما يخفونه فلم نقرهم على ان يظهروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين ونحن لا نقول ينتقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك او يشهد به المسلمون ومتى حصل ذلك كان قد اظهره واعلنه # وتحرير الجواب ان كلتا المقدمتين باطلة # اما قوله اقررناهم على دينهم فيقال لو اقررناهم على كل
ما يدينون به لكانوا منزلة اهل ملتهم المحاربين ولو اقررناهم على كل ما يدينون به لم يعاقبوا على اظهار دينهم واظهار الطعن في ديننا ولا خلاف انهم يعاقبون على ذلك ولو اقررناهم على دينهم مطلقا لاقررناهم على هدم المساجد واحراق المصاخف وقتل العلماء والصالحين فان ما يدينون به مما يؤذي المسلمين كثيرة ثم لا خلاف انهم لا يقرون على شيء من ذلك وانما اقررناهم كما قال غرفة بن الحارث على ان نخليهم يفعلون بينهم ماشاؤوا مما لا يؤذي المسلمين ولا يضرهم ولا نعترض عليهم في امور لا تظهر فان الخطيئة اذا اخفيت لم تضر الا صاحبها ولكن اذا اعلنت فلم تنكر ضرت العامة وشرطنا عليهم ان لايفعلوا شيئا يؤذينا ولا يضرنا سواء كانوا يستحلونه او لايستحلونه فمتى اذو الله ورسوله فقد نقضوا العهد وشرطنا عليهم التزام حكم الإسلام وان كانوا يرون ان ذلك لا يلزمهم في دينهم وشرطنا عليهم اداء الجزية وان اعتقدوا ان اخذها منهم حرام وشرطنا عليهم اخفاء دينهم فلا يظهرون الاصوات بكتابهم ولا على جنائزهم ولا صوت ناقوس وشرطنا عليهم ان لا يرتفعوا على المسلمين وان يخالفوا بهيئتم هيئة المسلمين على وجهه يتميزون به ويكونون اذلاء في تميزه إلى غير ذلك من الشروط التي يعتقدون انها ذا تجب عليهم في دينهم
فعلم انا شرطنا عليهم ترك كثير مما يعتقدون دينا لهم اما مباحا او واجبا وفعل كثير مما يعتقدون ليس من دينهم فكيف يقال اقررناهم على دينهم مطلقا # واما المقدمة الثانية فنقول هب انا اقررناهم على دينهم فقوله استحلال السب من دينهم جوابه ان يقال اهو من دينهم قبل العهد او من دينهم وان عاهدوا على تركه # الاول مسلم لكن لا ينفع لان هؤلاء قد عاهدوا فان لم يكن هذا من دينهم في هذه الحال لم يكن لهم ان يفعلوه لانه من دينهم في حال اخرى وهذا كما ان المسلم من دينه استحلال ديمائهم واموالهم واذاهم بالهجاء والسب اذا لم نعاهدهم وليس من دينه استحلال ذلك اذا عاهدهم فليس لنا ان نؤذيهم ونقول قد عاهدناكم على ديننا ومن ديننا استحلال اذاكم فان المعاهدة التي بين المتحاربين تحرم على كل واحد منهما في دينه ما كان يستحله من ضرر الاخر واذاه قبل العهد # واما الثاني فمنوع فانه ليس من دينهم استحلال نقض العهد ولا مخالفة من عاهدوه في شئ مما عاهدوه بل من دين جميع اهل الارض الوفاء بالعهد وان لم يكن هذا معتقدهم فنحن انما عاهدناهم على ان يدينوا بوجوب الوفاء بالعهد فان لم يكن دينهم وجوب الوفاء به
فلم نعاهدهم على دين يستحل صاحبه نقض العهد ولو عاهدناهم على هذا الدين لكنا قد عاهدناهم على ان يدينوا بنقض العهد فينقضوه ونحن موفون بالعهد وبطلان هذا واضح واذا لم يكن فعل ما عاهدوا على تركه من دينهم فنحن قد عاهدناهم على ان يكفوا عن اذانا بالسنتهم وايديهم وان لا يظهروا شيئا من اذى الله ورسوله وان يخفوا دينهم الذي هو باطل في حكم الله ورسوله واذا عاهدوا على ترك هذا واخفاء هذا كان فعله حراما عليهم في دينهم لان ذلك غدر وخيانة وترك للوفاء بالعهد ومن دينهم ان ذلك حرام ولو ان مسلما عاهده قوما من الكفار طائعا غير مكره على ان يمسك عن ذكر صليبهم لوجب عليه في دينه ان يمسك ما دام العهد قائما # فقول القائل من دينهم استحلال سب نبيا باطل اذ ذلك مع العهد المقتضي لتركه حرام في دينهم كما يحرم عليهم في دينهم استحلال دمائنا واموالنا لاجل العهد وهم يعتقدون عند انفسهم انهم اذا اذوا الله ورسوله بالستنهم او ضروا المسلمين بعد العهد فقد فعلوا ما هو حرام في دينهم كما ان المسلم يعلم انه اذا اذاهم بعد العهد فقد فعل ما هو حرام في دينه ويعلمون ان ذلك مخالفة للعهد وان ظنوا ان لاعهد بيننا وبينهم وانما هم مغلبون تحت يد الإسلام فذلك ابعد لهم عن العصمة واولى بالانتقام فانه لا عاصم لهم منا الا العهد فان لم يعتقدوا
الوفاء بالعهد فلاعاصم اصلا وهذا كله بين لمن تامله يتبين به بعض فقه المسالة # ومن الفقهاء من اجاب عن هذا بان اقررناهم على ما يعتقدونه ونحن انما نقول بنقض العهد اذا سبوه بما لا يعتقدونه من القذف ونحوه وهذا التفصيل ليس بمرض وسياتي ان شاء الله تحقيق ذلك # فان قيل فهب انهم صولحوا على ان لا يظهروا ذلك لكن مجرد اظهار دينهم كيف ينقض العهد وهل ذلك الا بمثابة ما لو اظهروا اصواتهم بكتابهم او صليبهم او اعيادهم فان ذلك موجب لتنكيلهم وتعزيرهم دون نقض العهد # قلنا واي ناقض للعهد أعظم من ان يظهروا كلمة الكفر ويعلوها ويخرجوا عن حد الصغار ويطعنوا في ديننا ويؤذونا اذى هو ابلغ من قتل النفوس واخذ الاموال # واما اظهار تلك الاشياء بعد شرط عمر المعروف ففيها وجهان عندنا # احدهما ينتقض العهد فلا يلزمنا # والاخر لا ينتقض العهد والفرق بينهما من وجهين # احدهما ان ظهور تلك الاشياء ليس فيه ظهور كلمة الكفر وعلوها وانما فيه ظهور لدين المشركين وبين البابين فرق فان المسلم لو تكلم بكلمة الكفر كفر ولو لم يفعل الا مجرد مشاركة الكافر في هدية عوقب ولم يكفر وكان ذلك كاظهار المعاصي من المسلم يوجب عقوبته ولا يبطل ايمانه والمتكلم بكلمة الكفر يبطل ايمانه كذلك اهل العهد
اذا اظهروا الكفر ونحوه نقضوا امانهم واذا اظهروا زيهم عصوا ولم ينقضوا امانهم # وهذا جواب من يقول من اصحابنا وغيرهم انهم لو اظهروا التثليث ونحوه مما هو دينهم نقضوا العهد # الجواب الثاني ان ظهور تلك الاشياء ليس فيها ضرر عظيم على المسلمين ولا معرة في دينهم لا طعن في ملتهم وانما فيه أحد امرين اما اشتباه زيهم بزي المسلمين أو إظهار لمنكرات دينهم في دار الإسلام كاظهار الواحد من المسلمين لشرب الخمر ونحوه واما سب الرسول والطعن في الدين ونحوه ذلك فهو مما يضر المسلمين ضررا يفوق ضرر قتل النفس واخذ المال من بعض الوجوه فانه لا ابلغ في اسفال كلمة الله واذلال كتاب الله واهانة كتاب الله من ان يظهر الكافر المعاهد السب والشتم لمن جاء بالكتاب # ولاجل هذا الفرق فصل اصحابنا واصحاب الشافعي الامور المحرمة عليهم في العهد الذي بيننا وبينهم إلى ما يضر المسلمين في نفس او مالا او دين والى مالا يضر وجعلوا القسم الاول ينقض العهد حيث لاينقضه القسم الثاني لان مجرد العهد ومطلقه يوجب الامساك عما يضر
المسلمين ويؤذيهم فحصوله تفويت لمقصود العقد فيفسخه كما لو فات مقصود البيع بتلف العوض قبل القبض او ظهوره مستحقا ونحوه بخلاف غيره ولان تلك المضرات يوجب جنسها عقوبة المسلم بالقتل فلان توجب عقوبة المعاهد بالقتل اولى واحرى لان كليهما ملتزم اما بايمانه او بامانة ان لايفعلها ولان تلك المضرات من جنس المحاربة والقتال وذلك لابقاء العهد معه بخلاف المعاصي التي فيها مراغمة ومصارمة # فان قيل فقد اقروا على ما هم عليه من الشرك الذي هو أعظم من سب الرسول فيكون اقرارهم على سب الرسول اولى بل قد اقروا على سب الله تعالى وذلك لان النصارى معتقدون التثليث ونحوه وهو شتم لله تعالى لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ^ قال الله عز وجل كذبني ابن ادم ولم يكن له ذلك وشتمني والم يكن له ذلك فاما تكذيبه اياي فقوله لن يعيدني كما بداني وليس أول الخلق باهون علي من اعادته واما شتمه اياي فقوله اتخذ الله ولدا وانا الاحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لي كفوا أحد ^
وروى في صحيحه عن ابن عباس عن النبي نحوه وكان معاذ ابن جبل يقول اذا راى النصارى لا ترحموهم فلقد سب الله سبه ما سبه اياها أحد من البشر # وقد قال الله تعالى ^ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا اداه تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ان دعوا للرحمن ولدا ^ الاية # وقد اقر اليهود على مقالتهم في عيسى عليه السلام وهي من ابلغ القذف # قلنا الجواب من وجوه # احدها ان هذا السؤال فاسد الاعتبار فان كون الشئ في نفسه أعظم اثما من غيره يظهر اثره في العقوبة عليه في الاخرة لا في الاقرار عليه في الدنيا الا ترى ان اهل الذمة يقرون على الشرك ولا يقرون على الزنى ولا على السرقة ولا على قطع الطرق ولا على قذف المسلم ولا على محاربة المسلمين وهذه الاشياء دون الشرك بل سنة
الله في خلقه كذلك فانه عجل لقوم لوط العقوبة وفي الارض مدائن مملوئة بالشرك لم يعاجلهم بالعقوبة لاسيما والمحتج بهذا الكلام يراى ان قتل الكفار انما هو لمجرد المحاربة سواء كان كفره اصليا او طارئا حتى انه لا يراى قتل المرتد ويقول الدنيا ليست دار الجزاء على الكفر وانما الجزاء على الكفر في الاخرة وانما يقاتل من يقاتل فقت لدفع اذاه # ثم لا يجوز ان يقال اذا اقررناهم على الكفر فلان نقرهم على المحاربة التي هي دون الكفر بطريق الاولى وسبب ذلك ان ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا وتقديرا ولهذا قال ما من ذنب احرى ان تعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم لان تاخير عقوبته فساد لاهل الارض لخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله فانه قد توخر عقوبته وان
كان أعظم كالكفر ونحوه فاذا اقرارهم على الشرك أكثر ما فيه تاخير العقوبة عليه وذلك لا يستلزم تاخير عقوبة ما يضر بالمسلمين لانه دونه كما قدمناه # الوجه الثاني ان يقال لاخلاف انهم اذا اقروا على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لايجوز اذاهم لا في دمائهم ولا في ابشارهم ولو اظهروا السب ونحوه عوقبوا على ذلك اما في الدماء او في الابشار # ثم انه لا يقال اذا لم يعاقبوا بالعزير على الشرك لم يعاقبوا على السب الذي هو دونه واذا كان هذا السؤال معترضا على الاجماع لم يجب جوابه كيف والمنازع قد سلم انهم يعاقبون على السب فعلم انه لم يقرهم عليه فلا يقبل منه السؤال والجواب عن هذه الشبه مشترك فلا يجب علينا الانفراد به # الوجه الثالث ان الساب ينضم السب إلى شركه الذي عوهد عليه بخلاف المشرك الذي لم يسب ولا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الاقرار عليه مع ذنب اخر وان كان دونه فان اجتماع الذنبين يوجب جرما مغلظا لا يحصل حال الانفراد
الوجه الرابع قوله ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول ليس بجيد على الاطلاق وذلك لان اهل الكتاب طائفتان اما اليهود فاصل كفرهم تكذيب الرسول وسبه أعظم من تكذيبه فليس لهم كفر أعظم ةمن سب الرسول فان جميع ما يكفرون به من الكفر بدين الإسلام وبعيسى وبما اخبر الله به من امور الاخرة وغير ذلك متعلق بالرسول فسبه كفر بهذا كله لان ذلك انما علم من جهته وليس عند اهل الارض في وقتنا هذا علم موروث يشهد عليه انه من عند الله الا العلم الموروث عن محمد وما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الانبياء فقد اشتبه واختلط كثير منه او اكثره والواجب فيما لم نعلم حقيقته منه ان لا يصدق ولا يكذب # واما النصارى فسبهم للرسول طعنا فيما جاء به من التوحيد وانباء الغيب والشرائع وانما ذنبه الاعظم عندهم ان قال ان عيسى عبد الله ورسوله كما ان ذنبه الاعظم عند اليهود ان غير شريعة التوراة والا فانصارى ليس محافظين على شريعة موروثة بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الاحبار شريعة من الدين لم ياذن الله بها ثم لا يرعونه حق رعايتها فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد وللشرك وللتكذيب بالانبياء والدين ومجرد شركهم ليس متضمنا لتكذيب جميع الانبياء ورد جميع الدين فلا يقال ماهم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول بل سب الرسول فيه ماهم عليه من الشرك وزياده
وبالجملة فينبغي للعاقل ان يعلم ان قيام دين الله في الارض انما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده ولا شريك له ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الاسماء الحسنى والصفات العلى ولا كانت له شريعة في الارض # ولا تحسبن ان العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته واسمائه على وجهه اليقين فان عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فانما تكلم بعد ان بلغه ما جاءت به الرسل واستضاء بذلك واستانس به سواء اظهر الانقياد للرسل او لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم انه لاينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الامور الالهية وانما ينال به الظن والحسبان # والقدر الذي يمكن العقل اداركه بنظره فان المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا اعينا عميا واذانا صما وقلوبا غلفا # والقدر الذي تعجز العقول رعن ادراكه علموهم اياه وانباوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله واسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وانبيائه وثوابه وعقابه وعامة الاسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال انه ليس في الارض مملكة قائمة الا في بنبوة او اثر نبوة وان كل خير
في الارض فمن اثار النبواة ولا يستريبن العاقل في هذا فان الذين درست النبوة فيهم مثل البارهمة والصابئة والمجوس ونحوهم فلا سفتهم وعامتهم قد اعرضوا عن الله وتوحيده واقبلوا على عبادة الكواكب والنيران والاصنام وغير ذلك من الاوثان والطوغين فلم يبق بايديهم لا توحيد ولا غيره # وليست امة مستمسكة بالتوحيد الا أتباع الرسل قال الله سبحانه ^ شرع لكم منه الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه ^ فاخبر ان دينه الذي يدعوا اليه
المرسلون كبر على المشركين فما الناس الا تابع لهم او مشرك وهذا حق لا ريب فيه فعلم ان سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع انواع الكفر وجماع جميع الضلالات وكل كفر ففرع منه كما ان تصديق الرسل اصل جميع شعب الايمان وجماع مجموع اسباب الهدى # الوجه الخامس ان نقول قد ثبت بالسنة ثبوتا لايمكن دفعه ان النبي كان يامر بقتل من سبه وكان المسلمون يحرضون على ذلك مع الامساك عمن هو مثل هذا الساب في الشرك او هو اسوء منه من محارب او معاهد فلو كانت هذه الحجة مقبولة لتوجه ان يقال اذا امسكوا عن الشرك فالامساك عن الساب اولى وإذا عوهد الذمي على كفره فمعاهدته على السب أولى وهذا لو قبل معارضة لسنة رسول الله وكل قياس عارضه السنة فهو رد # الوجه السادس ان يقال ما هم عليه من الشرك وان كان سبا لله فهم لا يعتقدونه سبا وانما يعتقدونه تمجيدا وتقديسا فليسواقاصدين به قصد السب والاستهانة بخلاف سب الرسول فلا يلزم من إقرارهم على شئ لا يقصدون به الاستخفاف اقرارهم على ما يقصدون به الاستخفاف وهذا جواب من يقتلهم اذا اظهروا سب الرسول ولا يقتلهم اذا اظهروا ما يعتقدونه من دينهم
الوجه السابع ان اظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين واضرار بهم ومجرد التكلم بدينهم ليس فيه اضرار بالمسلمين فصار اظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها وان كانت دون الشرك وهذا ايضا جواب هذا القائل # الوجه الثامن منع الحكم في الاصل المقيس عليه فانا نقول متى اظهروا كفرهم واعلنوا به نقضوا العهد بخلاف مجرد رفع الصوت بكتابهم فانه ليس كل ما فيه كفر ولسنا نفقه ما يقولون وانما فيه اظهار شعار الكفر وفرق بين اظهار الكفر وبين اظهار شعار الكفر # او نقول متى اظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا وهذا لان العهد انما اقتضى ان يقولوا يفعلوا بينهم ما شاؤوا مما لا يضر المسلمين فاما ان يظهروا كلمة الكفر او ان يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البته وسياتي ان شاء الله الكلام على هذين القولين والذين قبلهما # قال كثير من فقهاء الحديث واهل المدينة من اصحابنا وغيرهم لم نقرهم على ان يظهروا شيئا من ذلك ومتى اظهروا شيئا من ذلك نقضوا العهد
قال أبو عبد الله في رواية حنبل كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان او كافرا وهذا مذهب اهل المدينه # وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله يسال عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له كذبت فقال يقتل لانه شتم ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وما لا يعتقدونه ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه واظهاره يضر بنا لانه قدح في ديننا وبين ما يعتقدونه واظهاره ليس بطعن في نفس ديننا وسياتي ان شاء الله ذلك فان فروع المسالة تظهر ماخذها وقد قدمنا عن عمر رضى الله عنه انه قال بمحضر من المهاجرين والانصار للنصراني الذي قال ان الله لا يضل احدا انا لم نعطك
ما اعطيناك على ان تدخل علينا في ديننا فوالذي نفسي بيده لان عدت لاخذنا الذي فيه عيناك وجميع ما ذكرناه من الايات والاعتبار يجئ ايضا في ذلك فان الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا وحتى يكونالدين كله لله وحتى يظهر دين الله على الدين كله وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون # والنهي عن اظهار المنكر واجب بحسب القدرة فاذا اظهروا كلمة الكفر واعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه والصغار الذي التزموه وجب علينا ان نجاهد الذي اظهروا كلمة الكفرر وجهادهم بالسيف لانهم كفار لا عهد لهم والله سبحانه اعلم
المسالة الثانية # انه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا فداءه # اما ان كان مسلما فبالاجماع لانه نوع من المرتد او من الزنديق والمرتد يتعين قتله وكذلك الزنديق وسواءا كان رجلا او امراة وحيث قتل يقتل مع الحكم بإسلامه فان قتله حد بالاتفاق فيجب اقامته وفيما قدمناه دلالة واضحه على قتل السابة المسلمة من السنة واقاويل الصحابة فان في بعضها تصريحا بقتل السابه المسلمة وفي بعضها تصريحا بقتل السابة الذمية واذا قتلت الذمية للسب فقتل المسلمة اولى كما لا يخفى على الفقيه # ومن قال من اهل الكوفة ان المرتدة لا تقتل فقياس مذهبة ان لا تقتل السابه لان الساب عنده مرتد وقد كان يحتمل مذهبه ان تقتل السابه حدا كقتل الساحرة عند بعضهم وقتل قاطعة الطريق ولكن اصوله تابى ذلك # والصحيح الذي عليه العامة قتل المرتدة فالسابه اولى وهو الصحيح لما تقدم وان كان الساب معاهدا فانه يتعين ايضا قتله سواء كان رجلا او امراه عند عامة الفقهاء من السلف ومن تبعهم
وقد ذكرنا قول ابن المنذر فيما يجب على من سب النبي قال اجمع عوام اهل العلم على ان من سب النبي القتل وممن قاله مالك والليث واحمد واسحاق وهو مذهب الشافعي # قال وحكي عن النعمان لا يقتل من سبه من اهل الذمة وهذا لفظ دليل على وجوب قتله عند العامة وهذا مذهب مالك واصحابه وسائر فقهاء المدينة وكلام اصحابه يقتضي ان لقتله ماخذين # احدهما انتقاض عهده # والثاني انه حد من الحدود وهو قول فقهاء الحديث قال اسحاق بن راهوية ان اظهروا سب رسول الله فسمع منهم ذلك او تحقق عليهم قتلوا واخطا هؤلاء الذين قالوا ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله قال اسحاق يقتلون لان ذلك نقض العهد وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولا شبهه في ذلك لانه يصير في ذلك ناقضا للصلح وهو كما قتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي وقال ما على هذا صالحناهم # وكذلك نص الإمام احمد على وجوب قتله وانتقاض عهده وقد تقدم بعض نصوصه في ذلك وكذلك نص عامة اصحابه على وجوب قتل هذا الساب ذكروه بخصوصه في مواضع هكذا وذكروه ايضا في جملة ناقضي العهد من اهل الذمة
ثم المتقدمون منهم وطوائف من المتاخرين قالوا ان هذا وغيره من ناقضي العهد يتعين قتلهم كما دل عليه كلام احمد # وذكر طوائف منهم ان الإمام مخير فيمن نقض العهد من اهل الذمة كما يخير في الاسير بين الاسترقاق والقتل والمن والفداء ويجب عليه فعل الاصلح للامة من هذه الاربعة بعد ان ذكروه في الناقضين للعهد فدخل هذا الساب في عموم هذا الكلام واطلاقه واوجب ان يقال فيه بالتخيير اذا قيل به في غيره من ناقضي العهد لكن قيد محققوا اصحاب هذه الطريقة ورؤوسهم مثل القاضي أبي يعلي في كتبه المتاخره وغيره هذا الكلام وقالوا التخيير هو غير ساب الرسول واما سابه فيتعين قتله وان كان غيره كالاسير وعلى هذا فاما ان لايحكى في تعين قتله خلاف لكون الذين اطلقوا التخيير في موضع قد قالوا في موضع اخر بان الساب يتعين قتله وصرح راس اصحاب هذه الطريقة بانه مستثنى من ذلك الاطلاق او يحكى فيه وجه ضعيف لان الذين قالوا به في موضع نصوا على خلافه في موضع اخر واختلف اصحاب الشافعي ايضا فيه فمنهم من قال يجب قتل الساب حتما وان خير في غيره # ومنهم من قال هو كغيره من الناقضين للعهد وفيه قولان اضعفهما انه يلحق بمامنه والصحيح منهما جواز قتله قالوا ويكون
كالاسير يجب على الإمام ان يفعل فيه الاصلح للامة من القتل والاسترقاق والمن والفداء # وكلام الشافعي في موضع يقتضي ان حكم الناقض للعهد حكم الحربي فلهذا قيل انه كالاسير وفي موضع اخر امر بقتله عينا من غير تخيير # وتحريم الكلام في ذلك يحتاج إلى ان نقدم مقدمة فيما ينتقض به العهد وفي حكم ناقض العهد على سبيل العموم ثم نتكلم في خصوص مسالة السب # اما الاول فان ناقض العهد قسمان ممتنع لا يقدر عليه الا بقتال ومن هو في ايدي المسلمين # اما الاول فان يكون لهم شوكه ومنعة فيمتنع بها على الإمام من ايداء الجزية والتزام احكام الملة الواجبه عليهم دون ما يظلمهم به الولاه او يلحقوا بدار الحرب مستوطنين بها فهؤلاء قد نقضوا العهد بالاجماع فاذا اسر الرجل منهم فحكمه عند الإمام احمد في ظاهر مذهبه حكم اهل الحرب اذا اسروا يفعل بهم الإمام ما يراه اصلح # قال في رواية أبي الحارث وقد سئل عن قوم من اهل العهد
نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال احمد اذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري علىا اهل الحرب من الاحكام اذا اسروا فامرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى واما الذرية فما ولد بعد نقضهم العهد فهو بمنزلة من نقض العهد ومن كان ممن ولد قبل نقض العهد فليس عليه شئ وذلك ان امراة علقمة بن علاثه قالت ان كان علقمة ارتد فانا لم ارتد وكذلك روى عن الحسن فيمن نقض العهد ليس على النساء شئ وقال في رواية صالح وقد سئل عن قوم من اهل العهد في حصن ومعهم مسلمون فنقضوا العهد والمسلمون معهم في الحصن ما السبيل فيهم قال ما ولد لهم من بعد نقض العهد فالذرية بمنزلة من نقض العهد يسبون ومن كان قبل ذلك لا يسبون
فقد نص على ان ناقض العهد اذا اسر بعد المحاربة بخير الإمام فيه وعلى ان الذرية الذين ولدوا بعد نقض العهد بمنزلة من نقض العهد يسبون فعلم ان ناقض العهد يجوز استرقاقه وهذا هو المشهور من مذهبه # وعنه انهم اذا قدر عليهم فانهم لا يسترقون بل يردون إلى الذمة قال في رواية أبي طالب في رجل من اهل العهد لحق بالعدوا هو واهله وولده وولد له في دار العدوا قال يسترق اولادهم الذين ولدوا في دار العدوا ويردون هم واولدهم الذين ولدو في دار الإسلام إلى الجزية قيل له لا يسترق اولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام قال لا قيل له فان كانوا ادخلوهم صغارا ثم صاروا رجلا قال لا يسترقون ادخلوهم مامنهم # وكذلك قال في رواية ابن إبراهيم وقد ساله عن رجل لحق بدار الحرب هو واهله وولد له في بلاد العدو وقد اخذه المسلمون قال ليس على ولده واهله شئ ولكن ما ولد له وهو في ايديهم يسترقون ويردون هم إلى الجزية
فقد نص على ان الرجل الذي نقض العهد يرد إلى الجزية هو وولده الذين كانوا موجدين وانهم لا يسترقون وان ولده الذين حدثوا بعد المحاربة يسترقون وذلك لان صغار ولده سبي من اولاد اهل الحرب وهم يصيرون رقيقا بنفس السبي فلا يدخلون في عقد الذمة اولا ولا اخرا واما اولاده الذين ولدوا قبل النقض فلهم حكم الذمة المتقدمة # فعلى الرواية الاولى المشهورة يخير الإمام في الرجال اذا اسروا فيعل ما هو الاصلح للمسلمين من قتل واسترقاق ومن فداء واذا جاز ان يمن عليهم جاز ان يطلقهم على قبول الجزية منهم وعقد الذمة لهم ثانيا لكن لايجب عليه ذلك كما لا يجب عليه في الاسير الحربي الاصلي اذا كان كتابيا وقد قتل رسول الله اسرى بني قريضه واسرى من اهل خيبر ولم يدعهم إلى اعطاء الجزية ولو دعاهم اليها لاجابوه # وعلى الرواية الثانية يجب دعائهم إلى العود إلى الذمة كما كانوا كما يجب دعاء المرتد إلى ان يعود إلى الإسلام او يستحب كما يستحب دعاء المرتد ومتى بذلوا العود إلى الذمة وجب قبول ذلك منهم كما يجب قبول الإسلام من المرتد وقبول الجزية من الحربي الاصلي اذا بذلها قبل
الاسر ومتى امتنعوا فقياس هذه الرواية وجوب قتلهم دون استرقاقهم جعلا لنقض الامان كنقض الايمان ولو تكرر النقض منهم فقد يقال فيهم ما يقال فيمن تكررت ردته # وبنحو من هذه الرواية قال اشهب صاحب مالك في مثل هؤلاء قال لا يعود الحر قنا ولا يسترق ابدا بحال بل يردون إلى ذمتهم بكل حال # وكذلك قال الشافعي في الام وقد ذكر نواقض العهد وغيرها قال وايهم قال او فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد واسلم لم يقتل اذا كان ذلك قولا وكذلك اذا كان ذلك فعلا لم يقتل الا ان يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا او قصاصا فيقتل بحد او قصاص لا بنقض عهد # وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال اتوب واعطي الجزية كما كنت اعطيها او على صلح اجدده عوقب ولم يقتل الا ان يكون قد فعل فعلا يوجب القصاص او الحد فان فعله
او قال مما وصفنا وشرط انه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من ان يقول اسلم او اعطي جزية قتل واخذ ماله فيئا # فقد نص على ان وجوب قبول الجزية منه اذا بذلها وهو في ايدينا وانه اذا امتنع منها ومن الإسلام قتل واخذ ماله ولم يخير فيه # ولاصحابه في وجوب قبول الجزية من اسير الحربي الاصلي وجهان # وعن الإمام احمد رواية ثالثه انهم يصرون رقيقا اذا اسروا # وقال في رواية ابن إبراهيم اذا اسر الروم من اليهود ثم ظهر المسلمون عليهم فانهم لا يتبعونهم وقد وجبت لهم الجزية الا من ارتد منهم عن جزيته فهو بمنزلة المملوك
وهذا هو المشهور من مذهب مالك قال ابن القاسم وغيره من المالكيه اذا خرجوا ناقضين للعهد ومنعوا الجزية وامتنعوا منا من غير ان يظلموا ولحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم واذا انتقض عهدهم ثم اسروا فهم فئ ولا يردون إلى ذمتنا # فاوجبوا استرقاقهم ومنعوا ان يعقد لهم الذمة ثانيا كانه جعل خروجهم من الذمة مثل ردة المرتد يمنع اقراره بالجزية لكن هؤلاء لا يسترقون لكون كفرهم اصليا # وقال اصحاب أبي حنيفة من نقض العهد فانه يصير كالمرتد الا انه يجوز استرقاقه والمرتد لا يجوز استرقاقه # فاما ان لم يقدر عليهم حتى بذلوا الجزية وطلبوا العود إلى الذمة فإنه يحوز عقدها لهم لان اصحاب رسول الله عقدوا الذمه لاهل الكتاب من اهل الشام مرة ثانية وثالثة بعد ان نقضوا العهد والقصة في ذلك مشهورة في فتوح الشام وما احسب في هذا خلافا فان مالكا
واصحابه قالوا اذا منعوا الجزية وقاتلوا المسلمين والإمام عدل فانهم يقاتلون حتىا يردوا اليه مع ان المشهور عندهم ان الاسير منهم لا يرد إلى الذمة بل يكون فيئا فاذا كان مالك لا يخالف في هذه المسالة فغيره اولى ان لا يخالف فيها لانه هو الذي اشتهر عنه القول بمنع عود الاسير منهم إلى الذمة # فان بذل هؤلاء العود إلى الذمة فهل يجب قبول ذلك منهم كما يجب قبوله من الحربي الاصلي ان قلنا انه يجب رد الاسير منهم إلى ذمته فهؤلاء اولى وان قلنا لا يجب هناك فيتوجه ان لا يجب هنا ايضا لان بني قينقاع لما نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي ارادوا قتلهم حتى الح عليه عبد الله بن أبي في الشفاعة فيهم فاجلاهم إلى اذرعات ولم يقرهم بالمدينة مع ان القوم كانوا حراصا على المقام بالمدينة بعهد يجددونه وكذلك بنو قريضة لما حاربت ارادوا الصلح والعود إلى الذمة فلم يجبهم النبي حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكذلك بنوا النضير لما نقضوا العهد فحاصرهم فانزلهم على الجلاء من المدينة مع انهم كانوا احرص شئ على المقام بدارهم بان يعودوا إلى الذمة وهؤلاء الطوائف كانوا اهل ذمة عاهدوا النبي على ان الدار دار الإسلام يجري فيها حكم الله ورسوله وانه مهما كان بين اهل العهد من المسلمين ومن هؤلاء المعاهدين من حدث فامره إلى النبي هكذا في كتاب الصلح فاذا كانوا نقدوا العهد فبعضا قتل وبعضا اجلا ولم يقبل
منهم ذمة ثانيه مع حرصهم على بذلها علم ان ذلك لا يجب ولا يجوز ان يكون ذلك لكون ارض الحجاز لا يقر فيها اهل دينين ولا يمكن الكفار من المقام بها لان هذا الحكم لم يكن شرع بعد بل قد توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي بالمدينة وبالمدينة غيره من اليهود وبخيبر خلائق منهم وهي من الحجاز ولكن عهد النبي في مرضه ان تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وان لا يبقى بها دينان فانفذ عهده في خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه
والفرق بين هؤلاء وبين المرتدين ان المرتد اذا عاد إلى الإسلام فقد اتى بالغاية التي يقاتل الناس حتى يصلوا اليها فلا يطلب منه غير ذلك وان ظننا ان باطنه خلاف ظاهره فانا لم نؤمر ان نشق عن قلوب الناس واما هؤلاء فان الكف عنهم انما كان لاجل العهد ومن خفنا منه الخيانة جاز لنا ان ننبذ اليه العهد وان لم يجز نبذ العهد إلى من خفنا منه الردة فاذا نقضوا العهد فقد يكون ذلك امارة على عدم الوفاء وان اجابتهم إلى العهد انما فعلوه خوفا وتقية ومتى قدروا غدروا فيكون هذا الخوف مجوزا لترك معاهدتهم على اخذ الجزية كما كان يجوز نبذ العهد إلى اهل الهدنة بطريق الاولى # وفي هذا دليل على انه لا يجب رد الاسير الناقض للعهد إلى الذمة بطريق الاولى فان النبي اذا لم يردهم إلى الذمة وقد طلبوها ممتنعين فان لا يردهم اليها اذا طلبوها موثقين اولى وقد اسر بني قريضة بعد نقض العهد فقتل مقاتلتهم ولم يردهم إلى العهد ولان الله تعالى قال ^ فمن نكث فانما ينكث على نفسه ^ فلو كان الناكث كلما طلب العهد منا وجب ان نجيبه لم يكن للنكث عقوبة يخافها بل ينكث اذا احب لكن يجوز ان نعيدهم إلى الذمة لان النبي وهب الزبير بن
باطا القرظي لثابت بن قيس بن شماس هو واهله وماله على ان يسكن ارض الحجاز وكان من اسرى بني قريضة الناكثين فعلم جواز اقرارهم في الدار بعد النكث واجلاء بني قينقاع بعد القدرة عليهم إلى اذرعات فعلم جواز المن عليهم بعد النكث واذا جاز المن على الاسير الناكث واقراره في دار الإسلام فالمفاداة به اولى # وسيرة النبي في هؤلاء الناقضين تدل على جواز القتل والمن على ان يقيموا بدار الإسلام وان يذهبوا إلى دار الحرب اذا كانت المصلحة في ذلك وفي ذلك حجة على من اوجب اعادتهم إلى الذمة وعلى من اوجب استرقاقهم # فان قيل انما اوجبنا اعادتهم إلى الذمة لان خروجهم عن الذمة ومفارقتهم لجماعة المسلمين كخروجهم عن الإسلام ومفارقه جماعة المسلمين اذ نقض الامان كنقض الايمان فاذا كان المرتد عن الإسلام لا يقبل منه ما يقبل من الكافر الاصلي بل اما الإسلام او السيف فكذلك المرتد عن العهد لايقبل منه ما يقبل من الحربي الاصلي بل اما
الإسلام او العهد والا فالسيف ولانه قد صارت لهم حرمة العهد المتقدم فمنعت استرقاقهم كما منع استرقاق المرتد حرمة إسلامه المتقدم # وقلنا المرتد بخروجه عن الدين الحق بعد دخوله فيه تغلظ كفره فلم يقر عليه بوجه من الوجوه فتحتم قتله ان لم يسلم عصمه للدين كما تحتم غيره من الحدود حفظا للفروج وغير ذلك ولم يجز استرقاقه لان فيه اقرارا له على الردة لا لتشرفه بدين قد بدله وناقض العهد قد نقض عهده الذي كان يرعى به فزالت حرمته وصار بايدي المسلمين من غير عقد ولا عهد فصار كحربي اسرناه واسوء حالا منه ومثل ذلك لا يجب المن عليه بجزية ولا بغيرها لان الله تعالى امرنا بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمن اخذناه قبل ان يعطي الجزية لم يدخل في الاية لانه لا قتال معه بل قد خيرنا الله اذا شددنا الوثاق بين المن والفداء ولم يوجب المن في حق ذمي ولا كتابي ولا ان الاسير قد صار للمسلمين فيه حق بامكان استبعاده والمفاده به فلا يجب عليهم بذل حقهم منه مجانا وجاز قتله لانه كافر لا عهد له وانما هو باذل للعهد في حال لايجب معاهدته وذلك لا يعصم دمه # فان قال من منع من اعادته إلى الذمة وجعله فيئا هذا من على الاسير مجانا وذلك اضاعة لحق المسلمين فلم يجز اتلاف اموالهم
قلنا هذا مبني على انه لا يجوز المن على الاسير والمرضى جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة ومدعي النسخ يفتقر إلى دليل # فان قيل خروجه عن العهد موجب للتغليظ عليه فينبغي اما ان يقتل او يسترق كما ان المرتد يغلظ حاله بتعين قتله فاذ جاز في هذا ما يجوز في الحربي الاصلي لم يبق بينهما فرق قلنا اذا جاز استرقاقه جاز اقراره والجزية بالجزية اذا لم يكن المانع حقا لله لانه ليس في ذلك الا فوات ملك رقبته وقد يرى الإمام ان في اقراره بالجزية او في المن عليه والمفادة به مصلحة أكثر من ذلك بخلاف المرتد فانه لا سبيل في استبقائة وبخلاف الوثني اذا جوزنا استرقاقه فان المانع من اقراره بالجزية حق لله وهو دينه وناقض العهد دينه قبل التقض وبعده سواء ونقضه انما يعود ضرره على من يحاربه من المسلمين فكان الراي فيه إلى الامير # فان قيل فهلا حكيتم خلافا انه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سياتي وقد قال أبو الخطاب اذا حكمنا بنقض عهد الذمي فظاهر كلام الإمام احمد انه يقتل في الحال قال وقال شيخنا يخير الإمام فيه بين اربعة اشياء فاطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقا وتبعه طائفة على الاطلاق ومن قيده قيده
بان ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين مثل قتالهم ونحوه فاما ان نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالاسير ويؤيد هذا ما رواه عبد الله ابن احمد قال سالت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد وقاتلوا المسلمين قال ارى ان لا تقتل الذرية ولا يسبون ولكن تقتل رجالهم قلت لأبي فان ولد لرجالهم اولاد في دار الحرب قال ارى ان يسبوا اولئك ويقتبوا # قلت لابي فان هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسياهم المسلمون ترى لهم ان يسترقوا قال الذرية لا يسترقون ولا يقتلون لانهم لم ينقضوا هم انما نقض العهد رجالهم وما ذنب هؤلاء # فقد امر رحمه الله بقتل المقاتله من هؤلاء لمجرد النقض او للنقض والقتال # قلنا قد ذكرنا فيما مضى نص احمد على ان من نقض العهد وقاتل المسلمين فانه يجري عليه ما يجري على اهل الحرب من الاحكام واذا اسر حكم فيه الإمام بما راى
ونص رحمه الله فيمن لحق بدار الحرب على انه يسترق في رواية وعلى ان يعاد إلي ذمته في رواية اخرى فلم يجز ان يقال ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله مع تصريحه بخلاف ذلك كيف والذين قالوا انما اخوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها على ان أبا الخطاب وغيره لم يذكروا هذه الصورة ولم تدخل في كلامهم اعني صورة اللحاق بدار الحرب وانما ذكروا من نقض العهد بان ترك ما يجب عليه في العهد او فعل ما ينتقض به عهده وهو في قبضة المسلمين # وذكروا ان ظاهر كلام الإمام احمد تعين قتله وهو صحيح ممن فهم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فهم ادنى لا من كلامهم ومن ذكر اللحاق بدار الحرب وقتال المسلمين والامتناع من اداء الجزية وغير ذلك في النواقض فانه احتا ج ان يفرق بين الحاق بدار الحرب وبين غيره كما ذكرناه من نصوص الإمام احمد وغيره من الائمة على الناقض الممتنع # والفرق بينهما من لم يوجد منه الا اللحاق بدار الحرب فانه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها وانما ترك العهد الذي بيننا وبينه فصار ككافر لا عهد له كما سياي ان شاء الله تعالى تقريره
ويجب ان يعلم ان من لحق بدار الحرب صار حربيا فما وجد منه من الجنايات بعد ذلك فهي كجنايات الحربي لا يؤخذ بها ان اسلم او عاد إلى الذمة ولذلك قال الخرقي ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا وكذلك ايضا اذا امتنعوا بدار الإسلام من الجزية او الحكم ولهم شوكة ومنعة قاتلوا بها عن انفسهم فانهم قد قاتلوا بعد ان انتقض عهدهم وصار حكمهم حكم المحاربين فلا يتعين قتل من استرق منهم بل حكمه إلى الإمام ويجوز استرقاقه كما نص الإمام احمد على هذه الصورة بعينها لان المكان الذي تحيزوا فيه وامتنعوا بمنزلة دار الحرب ولم يجنوا على المسلمين جناية ابتدؤوا بها للمسلمين وانما قاتلوا عن انفسهم بعد ان تحيزوا وامتنعوا وعلم انهم محاربون فمن قال من اصحابنا ان من قاتل المسلمين يتعين قتله ومن لحق بدار الحرب خير الإمام فيه فانما ذاك اذا قاتلهم ابتداء قبل ان يظهر نقض العهد ويظهر الامتناع بان يعين اهل الحرب على قتال المسلمين ونحو ذلك فاما ان قاتل بعد ان صار في شوكة ومنعة يمتنع بها عن اراء الجزية فانه يصير كالحربي سواء كما تقدم ولهذا قلنا على الصحيح ان المرتدين اذا اتلفوا دما او مالا بعد الامتناع لم يضمنوه وما اتلفوه قبل
الامتناع ضمنوه وسياتي ان شاء الله تعالى تمام الكلام في الفرق # واما ما ذكره الإمام احمد في رواية عبد الله فانما اراد به الفرق بين الرجال والذرية ليتبين ان الذرية لايجوز قتلهم وان الرجال يقتلون كما يقتل اهل الحرب ولهذا قال في الذرية الذين ولدوا بعد نقض العهد يسبون ويقتلون وانما اراد انهم يسبون اذا كانوا صغارا ويقتلون اذا كانوا رجالا اي يجوز قتلهم كاهل الحرب الاصليين ولم يرد ان القتل يتعين لهم فانه على خلاف الاجماع والله اعلم # القسم الثاني اذا لم يكن ممتنعا عن حكم الإمام فمذهب أبي حنيفه ان مثل هذا لا يكون ناقضا للعهد ولا ينتقض عهد اهل الذمة عنده الا ان يكونوا اهل شوكة ومنعه فيمتنعوا بذلك على الإمام ولا يمكنه اجراء احكامنا عليهم او يلحقوا بدار الحرب لانهم اذا لم يكونوا ممتنعين امكن الإمام ان يقيم عليهم الحدود ويستوفي منهم الحقوق فلا يخرجون بذلك عن العصمة الثابته كمن خرج عن طاعة الإمام من اهل البغي ولم يكن له شوكة # وقال الإمام مالك لا ينتقض عهدهم الا ان يخرجوا ناقضين للعهد ومنعا للجزية وامتنعوا منا من غير ان يظلموا او يلحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم ولكن يقتل عنده الساب والمستكره للمسلمة على الزنى وغيرهما
واما مذهب الإمام الشافعي والإمام احمد فانهم قسموا الامور المتعلقة بذلك قسمين # احدهما يجب عليهم فعله # والثاني يجب عليهم تركه # فاما الاول فانهم قالوا اذا امتنع الذمي مما يجب عليه فعله وهو اداء الجزية او جريان احكام الملة عليه اذا حكم بها حاكم المسلمين انتقض العهد بلا تردد # قال الإمام احمد في الذي يمنع الجزية ان كان واجدا اكره عليها واخذت منه وان لم يعطها ضربت عنقه وذلك لان الله امرنا بقتالهم إلى ان يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والاعطاء له مبتدا وتمام فمبتدؤه الالتزام والضمان ومنتهاه الاداء والاعطاء ومن الصغار جريان احكام المسلمين عليهم فمتى لم يتم اعطاء الجزية او اعطوها وليسوا بصاغرين فقد زالت الغاية التي امرنا بقتالهم اليها فيعود القتال ولان حقن دماؤهم انما ثبت ببذل الجزية والتزام جريان احكام الإسلام عليهم فمتى امتنعوا منه واتوا بضده صاروا كالمسلم الذي ثبت حقن دمه بالإسلام اذا امتنع منه واتى بكلمة الكفر
وعلى ماذكره الإمام احمد فلا بد ان يمتنع من ذلك على وجه لايمكن استيفاؤه منه مثل ان يمتنع من حق بدني لايمكن فعله ونيابة عنه فيه دائما او يمتنع من اداء الجزية ويعيب ماله كما قلنا في المسلم اذا امتنع من الصلاة اوالزكاة فاما ان قاتل الإمام على ذلك فذلك هو الغاية في انتقاض العهد كمن قاتل على ترك الصلاة او الزكاة # واما القسم الثاني وهو مايجب عليهم تركه فنوعان # احدهما ما فيه ضرر على المسلمين # والثاني مالا فيه ضرر عليهم والاول قسمان ايضا # احدهما مافيه ضرر على المسلمين في انفسهم واموالهم مثل ان يقتل مسلما او يقطع الطريق على المسلمين او يعين على قتال المسلمين او يتجسس للعدو بمكاتبه او كلام او ايواء عين من عيونهم او يزني بمسلمة اويصيبها باسم نكاح # والقسم الثاني مافيه اذى وغضاضة عليهم مثل ان يذكر الله او كتابه او رسوله او دينه بالسوء # والنوع الثاني مالا ضرر عليهم فيه مثل اظهار اصواتهم بشعائر دينهم من الناقوس والكتاب ونحو ذلك ومثل مشابهة المسلمين
في هياتهم ونحو ذلك قد تقدم القول في انتقاض العهد بكل واحد من هذه الاقسام # فاذا نقض الذمي العهد ببعضها وهو في قبضة الإمام مثل ان يزني بمسلمة او يتجسس للكفار فالمنصوص عن الإمام احمد انه يقتل قال في رواية حنبل كل من نقض العهد واحدث في الإسلام حدثا مثل هذا يعني مثل سب النبي رايت عليه القتل ليس على هذا اعطوا العهد والذمة # فقد نص على ان من نقض العهد واتى بمفسدة مما ينقض العهد قتل عينا وقد تقدمت نصوصه ان من لم يوجد منه الانقض العهد بالامتناع فانه كالحربي # وقال في مواضع متعدده في ذمي فجر بامراة مسلمة يقتل ليس على هذا صولحوا والمراة ان كانت طاوعته اقيم عليها الحد وان كان استكرهها فلا شئ عليها # وقال في يهودي زنى بمسلمة يقتل لان عمر رضي الله عنه اتى بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى اشد من نقض
العهد قيل فعبد نصراني زنى بسلمة قال يقتل ايضا وان كان عبدا # وقال في مجوسي فجر بمسلمة يقتل هذا نقض العهد وكذلك ان كان من اهل الكتاب يقتل ايضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد فقيل له ترى عليه الصلب مع القتل قال ان ذهب رجل إلى حديث عمر كانه لم يعب عليه # وقال مهنا سالت احمد عن يهودي او نصراني فجر بامراة مسلمة ما يصنع به قال يقتل فاعدت عليه قال يقتل قلت ان الناس يقولون غير هذا قال كيف يقولن فقلت يقولون عليه الحد قال لا ولكن يقتل قلت له في هذا شيء قال نعم عن عمر انه امر بقتله # وقال في رواية جماعة من اصحابه في ذمي فجر بمسلمة يقتل قيل فان اسلم قال يقتل هذا قد وجب عليه
فقد نص رحمه الله على وجوب قتله بكل حال سواء كان محصنا او غير محصن وان القتل واجب عليه وان اسلم وانه لا يقام عليه حد الزنى الذي يفرق فيه بين المحصن وغير المحصن واتبع ذلك ما رواه خالد الحذاء عن ابن اشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك ان رجلا نخس بامراة فتجللها فامر به عمر فقتل وصلب ورواه المروزي عن المجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة ان رجلا من
اهل الذمة نخس بامراة من المسلمين بالشام وهي على الحمار فصرعها والقى نفسه عليها فراه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فاتى عوف عمر فحدثه حديثه فارسل إلى المراة فسالها فصدقت عوفا فقال اخوتها قد شهدت اختنا فامر به عمر فصلب قال فكان أول مصلوب في الإسلام ثم قال عمر ايها الناس اتقوا الله في ذمة محمد ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له # وروى سيف في الفتوح هذه القصة عن عوف بن مالك مبسوطة وذكر فيها ان الحمار صرع المراة وان النبطي ارادها فامتنعت واستغاثت قال عوف فاخذت عصاي فمشيت في اثره فادركته فضربت راسه ضربة واعجز فرجعتالى منزلي وفيه فقال للنبطي اصدقني فاخبره # وقال الإمام احمد ايضا في الجاسوس اذا كان ذميا قد نقض العهديقتل وقال في الراهب لا يقتل ولا يؤذى ولا يسال عن شيء الا ان يعلم منه انه يدل على عورات المسلمين ويخبرعن امرهم عدوهم فيستحل حينئذ دمه # وقد نص الإمام احمد على انه من نقض العهد بسب الله أو رسوله فانه يقتل
ثم اختلف اصحابنا بعد ذلك فقال القاضي واكثر اصحابه مثل ابنه أبي الحسين والشريف أبي جعفر وابي المواهب العكبري وابن عقيل وغيره وطوائف بعدهم ان من نقض العهد بهذه الاشياء وغيرها فحكمه كحكم الاسير يخير الإمام فيه كما يخير بالاسير بين القتل والمن والاسترقاق والفداء وعليه ان يختار من الاربعة ما هو اصلح للمسلمين قال القاضي في المجرد اذا قلنا قد انتقض عهده فانا نستوفي منه الحقوق والقتل والحد والتعزي ر لان عقد الذمة على ان تجري احكامنا عليه وهذه احكامنا فاذا استوفينا منه فالإمام مخير فيه بين القتل والاسترقاق ولا يرد إلى مامنه لانه بفعل هذه الاشياء قد نقض العهد واذا نقض عاد بمعناه الاول فكأنه رجل نصراني بدار الإسلام # ثم ان القاضي في الخلاف قال حكم ناقض العهد حكم الاسير الحربي يتخير الإمام فيه بين اربعة اشياء القتل والاسترقاق والمن والفداء لان الإمام احمد قد نص في الاسير على الخيار بين اربعة اشياء وحكم هذا حكم الاسير لانه كافر حصل في ايدينا بغير امان قال
ويحمل كلام الإمام احمد على القتل اذا راه الإمام صالحا واستثنى في الخلاف وهو الذي صنفه اخرا في ساب النبي خاصة قال فانه لا تقبل توبته ويتحتم قتله ولا يخير الإمام في قتله وتركه لان قذف النبي حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الادمي # وقد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام احمد وتعليله حيث قال في قوم من اهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال اذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على اهل الحرب من الاحكام اذا اسروا فامرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يراى وعلى هذا القول فللإمام ان يعيدهم إلى الذمة اذا راى المصلحة في ذلك كما له مثل ذلك في الاسير الحربي الاصلي # وهذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي الإمام الشافعي والقول الاخر للشافعي ان من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مامنه ثم من اصحابه من استثنى سب النبي خاصة فجعله موجبا للقتل حتما دون غيره ومنهم من عمم الحكم هذا هو الذي ذكره اصحابه
واما لفظه فانه قال في الام اذا اراد الإمام ان يكتب كتاب صلح على الجزية كتب وذكر الشروط إلى ان قال وعلى ان احدا منكم ان ذكر محمدا او كتاب الله او دينه بما لا ينبغي ان يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة امير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما اعطي من الإمام وحل لامير المؤمنين ماله ودمه كما تحمل اموال اهل الحرب ودمائهم وعلى ان احدا من رجالهم ان اصاب مسلمة بزنى او اسم نكاح او قطع الطريق على مسلم او فتن مسلما عن دينه او اعان المحاربين على المسلمين بقتال او دلالة على عورات المسلمين او ايواء لعيونهم فقد نقض عهده واحل دمه وماله وان نال مسلما بما دون هذا في ماله او عرضه لزمه فيه الحكم # ثم قال فهذه الشروط اللازمه ان رضيها فان لم يرضها فلا عقد له ولا جزية # ثم قال وايهم قال او فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد واسلم لم يقتل اذا كان ذلك قولا وكذلك اذا كان فعلا لم يقتل الا ان يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا او قصاصا فيقتل بحد او قصاص لا نقد عهد وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال اتوب واعطي الجزية كما كنت اعطيها او على صلح اجدده
عوقب ولم يقتل الا ان يكون فعل فعلا يوجب القصاص او الحد اما ما دون هذا من الفعل او القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل # قال فان فعل او قال ماوصفنا وشرط انه يحل دمه فظفر به فامتنع من ان يقول اسلم او اعطي جزية قتل واخذ ماله فيئا وهذا اللفظ يعطي وجوب قتله اذا امتنع من الإسلام والعوده إلى الذمة # وسلك أبو الخطاب في الهداية والحلواني وكثير من متاخري اصحابنا مسلك المتقدمين في اقرار نصوص الإمام احمد بحالها وهو الصواب فان الإمام احمد قد نص على القتل عينا فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام وجعل هذا اشد من نقض العهد باللحاق بدار الحرب ثم انه نص هناك على ان الامر إلى الإمام كالاسير ونص هنا على ان على الإمام ان يقتل ولا يخفي لمن تامل نصوصه ان القول بالتخيير مطلقا مخالف لها # واما أبو حنيفه فلا تجئ هذه المسالة على اصوله لانه لا ينتقض عهد اهل الذمة عنده الا ان يكونوا اهل شوكة ومنعه فيمتنعون بذلك على الإمام ولا يمكنه اجراء احكامنا عليهم
ومذهب مالك لا ينتقض عهدهم الا ان يخرجوا ممتنعين منا ما نعين للجزية من غير ظلم او يلحقوا بدار الحرب لكن ماللكا يوجب قتل ساب الرسول عينا ونحوه وقال اذا استكره الذمي مسلمة على الزنى قتل ان كانت حره وان كانت امه عوقب العقوبة الشديده فمذهبه ايجاب القتل لبعض اهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين فمن قال انه يرد إلى مامنه قال لانه حصل في دار الإسلام بامان فلم يجز قتله حتى يرد إلى مامنه كما لو دخلها بامان صبي وهذا ضعيف جدا لان الله تعالى قال في كتابه ^ وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم ^ الاية فهذه الاية وان كانت نزلت في اهل الهدنه فعمومها لفظا ومعنى يتناول كل ذي عهد على ما لا يخفى وقد امر سبحانه بالمقاتلة حيث وجدناهم فعم ذلك فامنهم وغير فامنه ولئن الله امر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمتى لم يعطوا الجزية او لم يكونوا صاغرين جاز قتالهم من غير شرط على معنى الاية ولانه قد
ثبت ان النبي امر بقتل من راوه من رجال يهود صبيحة قتل ابن الاشرف وكانوا معه معاهدين ولم يامر بردهم إلى مامنهم وكذلك لما نقضت بنو قينقاع العهد قاتلهم ولم يردهم إلى مامنهم ولما نقضت بنو قريضه العهد قاتلهم واسرهم وقتلهم ولم يبلغهم مامنهم وكذلك كعب بن الاشرف نفسه امر بقتله غيلة ولم يشعره انه يريد قتله فضلا عن ان يبلغه مامنه وكذلك بنو النضير اجلاهم على ان لا ينقلوا الا ماحملته الابل الا الحلقة وليس هذا بابلاغ للمامن لان من ابلغ مامنه يؤمن على نفسه واهله وماله حتى يبلغ مامنه وكذلك سلام ابن أبي الحقيق وغيره من يهود لما نقضوا العهد قتلهم نوبة خبير ولم يبلغهم مامنهم ولانه قد ثبت ان اصحاب رسول الله عمر وابا عبيده ومعاذ ابن جبل وعوف بن مالك قتلوا النصراني الذي اراد ان يفجر بالمسلمة وصلبوه ولم ينكره منكر فصار اجماعا ولم يردوه إلى مامنه ولان في شروط عمر التي شرطها على النصارى فان نحن خالفا عن شيء شرطناه لكم وظمناه على انفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل لاهل المعاندة والشقاق رواه حرب باسناد صحيح وقد تقدم عن عمر وغيره من الصحابة مثل ابن بكر وعمر وابن عباس وخالد بن الوليد وغيرهم رضوان الله عليهم انهم قتلوا وامروا بقتل ناقض العهد ولم يبلغوه مامنه ولئن دمه كان مباحا وان عصمته الذمة فمتى ارتفعت الذمة
بقي على الاباحه ولان الكافر لو دخل دار الإسلام بغير امان وحصل في ايدينا جاز قتله فالذي نقض العهد اولى ان يجوز قتله في دارنا واما من دخل بامان صبي فانما ذاك لانه يعتقد انه مستامن فصارت له شبهة امان وذلك يمنع قتله كمن وطء فرجا يعتقد انه حلال لاحد عليه وكذلك لا ينسب في دخوله دار الإسلام إلى تفريط واما هذا فانه ليس له امان ولا شبهة امان لان مجرد حصوله في الدار ليس بشبهة امان بالاتفاق بل هو مقدم على ما ينتقض به العهد مفرط في ذلك عالم انا لم نصالحه على ذلك فاي عذر له في حقن دمه حتى يلحقه بمامنه # نعم لو فعل من نواقض العهد ما لم يعلم انه بضرنا مثل ان يذكر الله تعالى او كتابه بشئ يحسبه جائزا عندنا كان معذورا بذلك فلا ينقض عهده كما تقدم مالم يتقدم اليه كما فعل عمر بقسطنتين النصراني # واما من قال انه كالاسير الحربي اذا حصل في ايدينا فقال لانه كافر حلال الدم حصل في ايدينا وكل من كان كذلك فانه ماسور
فلنا ان نقتله كما قتل النبي عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ولنا ان نمن عليه كما من النبي على ثمامه بن اثال الحنفي وعلى أبي عزة الجمحي ولنا ان نفادي به كما فادى النبي بعقيل وغيره ولنا ان نسترقه كما استرق المسلمون خلقا من الاسرى مثل أبي لؤلؤة قاتل عمر ومماليك العباس وغيرهم اما قتل الاسير واسترقاقه فما اعلم فيه خلافا لكن قد اختلف العلماء في المن عليه والمفادة هل هو باق او منسوخ على ما هو معروف في مواضعه وهذا لانه اذا نقض العهد عاد كما كان والحربي الذي لا عهد له اذا قدر عليه جاز قتله واسترقاقه ولانه ناقض للعهد فجاز قتله واسترقاقه كاللاحق بدار الحرب والمحارب في طائفة ممتنعه اذا اسر بل هذا اولى لان نقض العهد بذلك
متفق عليه فهو اغلظ فاذا جاز ان يحكم فيه بحكم الاسير ففي هذا اولى # نعم اذا انتقض العهد بفعل له عقوبة تخصه مثل ان يقتل مسلما او يقطع الطريق عليه ونحو ذلك اقيمت عليه تلك العقوبة سواء كانت قتلا او جلدا ثم ان بقي حيا بعد اقامة حد تلك الجريمة عليه صار كالكافر الحربي الذي لاحد عليه # ومن فرق بين سب رسول الله وبين سائر النواقض قال لان هذا حق لرسول الله وهو لم يعف عنه فلا يجوز اسقاطه بالاسترقاق ولا بالتوبه كسب غير رسول اله وسياتي ان شاء الله تحرير ماخذ السب # واما من قال انه يتعين قتله اذا نقضه بما فيه مضرة على المسلمين دون ما اذا لم يوجد منه الا مجرد اللحاق بدار الحرب والامتناع عن المسلمين فلئن الله تعالى قال ^ وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلو ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدءوكم أول مره ^ إلى قوله ^ قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم
ويخزهم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم المؤمنين ^ فاوجب سبحانه قتال الذين نكثوا العهد وطعنوا في الدين ومعلوم ان مجرد نكث العهد موجب للقتال الذي كان واجبا قبل العهد واوكد فلابد ان يفيد هذا زيادة توكيد وما ذاك الا لان الكافر الذي ليس بمعاهد يجوز الكف عنى قتاله اذا اقتضت المصلحه ذلك إلى وقت فيجوز استبقائه بخلاف هذا الذي نقض وطعن فانه يجب قتاله من غير استتابه وكل طائفة وجب قتالها من غير استيناء لفعل يبيح دم احادها فانه يجب قتل الواحد منهم اذا فعله وهو في ايدينا كالردة والقتل في المحاربة والزنى ونحو ذلك بخلاف البغي فانه لايبيح دم الطائفة الا اذا كانت ممتنعة وبخلاف الكفر الذي لاعهد معه فانه يجوز الاستيناء بقتل اصحابه بالجمله وقوله سبحانه يعذبهم الله بايديكم ويخزهم دليل على ان الله تعالى يريد الانتقام منهم وذلك لايحصل من الواحد الا اذا قتل ولا يحصل ان من عليه او فودي به او استرق # نعم دلت الاية على ان الطائفة الناقضه الممتنعة يجوز ان يتوب الله على من يشاء منها بعد ان يعذبها ويخزيها بالغلبة لان ما حاق بهم من العذاب والخزي يكفي في ردعهم وردع امثالهم عما فعلوه من النقض والطعن اما الواحد فلو لم يقتل بل من عليه لم يكن هناك رادع قوي عن قوله فعله
وايضا فان النبي لما سبا بني قريضه قتل المقاتله واسترق الذرية الا امراة واحده كانت قد القت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين فقتلها لذلك وحديثها مع عائشه رضي الله عنها معروف ففرق بين من اقتصر على نقض العهد وبين من اذى المسلمين مع ذلك وكان لا يبلغه عن أحد من المعاهدين انه اذى المسلمين الا ندب إلى قتله وقد اجلى كثير ومن على كثير ممن نقض العهد فقط # وايضا فان اصحاب رسول الله عاهدوا اهل الشام من الكفار ثم نقضوا العهد فقاتلوهم ثم عاهدوهم مرتين او ثلاث وكذلك مع اهل مصر ومع هذا فلم يظفروا بمعاهد اذى المسلمين بطعن في الدين او زني بمسلمة ونحو ذلك الا قتلوه وامر بقتل هؤلاء الاجناس عينا من غير تخير فعلم انهم فرقوا بين النوعين # وايضا فان النبي امر بقتل مقيس بن صبابه وعبد الله بن خطل ونحوهما مما ارتد وجمع إلى ردته قتل مسلم ونحوه من الضرر ومع هذا فقد ارتد في عهد أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير وقتلوا من المسلمين عددا بعد الامتناع مثل ما قتل طليحه
الاسدي عكاشه بن محصن وغيره ولم يؤخذ أحد منهم بقصاص بعد ذلك فاذا كان المرتد يؤخذ بما اصابه قبل الامتناع من الجنايات ولا يؤخذ بما فعله بعد الامتناع فكذلك الناقض للعهد لان مكيهما خرج عما عصم به دمه هذا نقض ايمانه وهذا نقض امانه وان كان في هذا خلاف بين الفقهاء في المذهب وغيره فانما قسنا على اصل ثبت بالسنة واجماع الصحابه نعم المرتد اذا عاد إلى الإسلام عصم دمه الا من حد يقتل بمثله المسلم والمعاهد يقتل على ما فعله من الجنايات المضره بالمسلمين لانه يصير مباحا بالنقض ولم يعد إلى شئ يعصم دمه فيصير كحربي تغلظ قتله يبين ذلك ان الحربي على عهد رسول كان اذا اذى المسلمين وضرهم قتله عقوبه له على ذلك ولم يمن عليه بعد القدرة عليه فهذا الذي نقض عهده بضرر الممسلمين اولى بذلك الا ترى انه لما من على أبي عزه الجمحي وعاهده ان لا يعين عليه فغدر به ثم قدر
عليه بعد ذلك وطلب ان يمن عليه فقال لا تسمح سبلاتك بمكه وتقول سخرت بمحمد مرتين ثم قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين فلما نقض يمينه منعه ذلك من المن عليه لانه ضر بعد ان كان عاهده على ترك ضراره فكذلك من عاهد من اهل الذمه انه لايؤذي المسلمين ثم اذاهم لو اطلقوا للدغوا من جحر واحد مرتين ولمسح المشرك سبلاته وقال سخرت بهم مرتين
وايضا فلانه اذا لحق بدار الحرب وامتنع لم يضر المسلمين وانما ابطل العقد الذي بينهم وبينه فصار كحربي اصلي اما اذا فعل ما يضر بالمسلمين من مقاتله او زنى بمسلمه او قطع الطريق او جس او نحو ذلك فانه يتعين قتله لانه لو لم يقتل لخلن هذا المفاسد عن العقوبة عليها وتعطلت حدود هذه الجرائم ومثل هذه الجرائم لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق المسلم فلئن لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق الذمي اولى واحرى ولا يجوز ان يقام عليه حدها منذرا كما يقام على من بقيت ذمته الحد لان صاحبها صار حربيا والحربي لايقم عليه الا القتل فتعين قتله وصار هذا كالاسير اقتضت المصلحه قتله لعلمنا انه متى افلت كان فيه ضرر على المسلمين أكثر من ضرر قتله فانه لا يجوز المن عليه ولا المفاداه به اتفاقا ولئن الواجب في مثل هذا اما القتل او المن او الاسترقاق او الفداء فأما الاسترقاق فانه ابقى له على ذمته بنحو مما كان فانه كان تحت ذمتنا ناخذ منه الجزية بمنزلة العبد ولهذا قال بعض الصحابه لعمر في مسلم قتل ذميا اتقيد عبدك من اخيك بل ربما كان استبعاده انفع له من جعله ذميا واستبعاد مثل هذا لا تؤمن عاقبته وسوء مغبته واما المن عليه والمفادة به فابلغ في المفسدة واعادته إلى الذمة ترك لعقوبته بالكلية فتعين قتله
يوضح ذلك ان على هذا التقرير لا نعاقبه اذا عاد إلى الذمة الا بما يعاقب به المسلم او الباقي على ذمته وهذا في الحقيقة يؤول إلى قول من يقول ان العهد لا ينتقض بهذه الاشياء فلا معنى لجعل هذه الاشياء ناقضه للعهد وايجاب اعادة اصحابها إلى العهد وان لا يعاقبوا اذا عادوا الا بما يعاقب به المسلم # ويؤيد ذلك ان هذه الجرائم اذا رفعت العهد وفسخته فلئن تمنع ابتداء بطريق الاولى لان الدوام اقوى من الابتداء الا ترى ان العدة والردة تمنع ابتداء عقد النكاح دون دوامه فاذ كان وجود هذه المضرات يمنع دوام العقد فمنعه ابتدائه اولى واحرى واذا لم يجز ابتداء عقد الذمه فلان لايجوز المن عليه اولى ولأن الله تعالى امر بقتل جميع المشركين الا ان المشدود وثاقه من المحاربين جعل لنا ان نعامله بما نراى والخارج عن العهد وليس بمنزلة الذي لم يدخل فيها كما ان الخارج عن الدين ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه فان الذي لم يدخل فيه باق على حاله والذي خرج من الايمان والامان قد احدث فسادا فلا يلزم من
احتمال الفساد الباقي المستصحب احتمال الفساد المحدث المتجدد لان الدوام اقوى من الابتداء # يبين ذلك ان كل اسير كان يؤذي المسلمين مع كفره فان النبي قتله مثل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ومثل أبي عزة الجمحي في المرة الثانية # وايضا فانه اذا امتنع بطائفة او بدار الحرب كان ما يتوفى من ضرره متعلقا بعزة ومنعته كالحربي الاصلي فاذا زالت المنعة باسره لم يبق منه ما يبقى الا من جهة كونه كافرا فقط فلا فرق بينه وبين غيره اما اذا ضر المسلمين واذاهم بين ظهرانيهم او تمرد عليهم بالامتناع مما او جبته الذمة عليه كان ضرره بنفسه من غير طائفة تمنعه وتنصره فيجب ازهاق نفسه التي لا عصمة لها وهي منشا الضرر وينبوع الاذى للمسلمين الا ترى ان الممتنع ليس فيما فعله اغراء للاحاد غير ذوي المنعة بخلاف الواحد فان فيما يفعله فتح باب الشر فان لم يعاقب فعل ذلك غيره وغيره ولا عقوبة لمن لا عهد له من الكفار الا السيف # وايضا فان الممتنع منهم قد امرنا بقتاله إلى ان يعطي الجزية عن يد وهو صاغر وامرنا بقتاله حتى اذا اثخناه فشد الوثاق فكل اية فيها ذكر القتال دخل فيها فينتظمه حكم غيره من الكفار الممتنعين ويجوز انشاء عقد ثان لهم واسترقاقهم ونحو ذلك اما من فعل جناية انتقض بها عهده وهو في ايدينا فلم يدخل في هذه العمومات لانه لا يقاتل وانما يقتل اذ القتال للممتنع واذا كان اخذ الجزية والمن والفداء انما هو لمن
قوتل هذا لم يقاتل فيبقى داخلا في قوله ^ فاقتلوا المشركين ^ غير داخل في اية الجزية والفداء # وايضا فان الممتنع يصير بمنزلة الحربي والحربي تندرج جميع سيئاته تحت الحراب بحيث لو اسلم لم يؤخذ بضمان شئ من ذلك بخلاف الذي في ايدينا وذلك لانه ما دام تحت ايدينا في ذمتنا فانه لا تاويل له في ضرر المسلمين وايذائهم اما اللحاق بدار الحرب فقد يكون له معه شبهة في دينه يرى انه اذا تمكن من الهرب هرب لا سيما وبعض فقهائنا يبيح له ذلك فاذا فعل ذلك بتاويل كان بمنزلة ما يتلفه اهل البغي والعدل حال القتال لاضمان فيه وما اتلفوه في غير حال الحرب ضمنته كل طائفة للاخرى فليس حال من تاول فيما فعله من النقض كحال من لم يتاول # وايضا فان ما يفعله بالمسلمين من الضرر الذي ينتقض به عهده لابد له من عقوبة لانه يجوز اخلاء الجرائم التي تدعوا اليها الطباع من عقوبة زاجرة وشرع الزواج شاهد لذلك ثم لا يخلو اما ان تكون عقوبته من جنس عقوبة من يفعل ذلك من مسلم وذمي باقية ذمته او دون ذلك او فوق ذلك والاول باطل لانه يلزم ان يكون عقوبة المعصوم والمباح سواء ولان الذي نقض العهد يستحق العقوبة على كفره
وعلى ما فعله من الضرر الذي نقض به العهد وانما اخرت عقوبة الكفر لاجل العهد فاذا ارتفع العهد استحق العقوبة على الامرين وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من فعل ذلك وهو معصوم وبين مباح دمه لم يفعل ذلك لان هذه المعاصي اذا فعلها المسلم فانها منجبرة بما يلتزمه من نصر المسلمين ومنفعتهم وموالاتهم فلم يتمحض مضرا للمسلمين لان فيه منفعة ومضرة وخيرا وشرا بخلاف الذمي فانه اذا ضر المسلمين تمحض ضررا لزوال العهد الذي هو مظنة منفعته ووجود هذه الامور المضرة واذا لم يجز ان يعاقب بما يعاقب به المسلم فان لا يعاقب بما هو دونه اولى واحرى فوجب ان يعاقب بما هو فوق عقوبة المسلم ثم المسلم عقوبته تحتم قتله اذا فعل مثل هذه الاشياء فتحتم عقوبة ناقض العهد اولى لكن يختلفان في جنس العقوبة فهذا عقوبته القتل فيجب ان يتحتم وذلك عقوبته تارة القتل وتارة القطع وتارة الرجم او الجلد
فصل # اذا تلخصت هذه القاعدة فيمن نقض العهد على العموم فنقول شاتم رسول الله يتعين قتله كما ثققد نص عليه الائمة # اما على قول من يقول يتعين قتل كل من نقض العهد وهو في ايدينا او يتعين قتل كل من نقض العهد بما فيه ضرر على المسلمين واذى
لهم كما ذكرناه في مذهب الإمام احمد وكما دل عليه كلام الشافعي الذي نقلناه او نقول يتعين قتل من نقض العهد بسب الرسول وحده كما ذكره القاضي أبو يعلي وغيره من اصحابنا وكما ذكره طائفة من اصحاب الشافعي وكما نص عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد وذكروا ان الإمام يتخير فيمن نقض العهد على سبيل الاجمال فانهم ذكروا في مواضع اخر انه يقتل من غير تخيير فظاهر # واما على قول من يقول ان كل ناقض للعهد فان الإمام يتخير فيه كالاسير فقد ذكرنا انهم قالوا انه يستوفي منه الحقوق كالقتل والحد والتعزير لان عقد الذمة على ان تجري احكامنا عليه وهذه احكامنا ثم اذا استوفينا منه ذلك فالإمام مخير فيه كالاسير وعلى هذا القول فيمكنهم ان يقولوا انه يقتل لان سب رسول الله موجب للقتل حدا من الحدود كما لو نقض العهد بزنى او قطع طريق فانه يقام عليه حد ذلك فيقتل ان اوجب القتل بل قد يقتل الذمي حدا من الحدود وان لم ينتقض عهده كما لو قتل ذميا اخر او زنى بذمية فانه يستوفي منه القود وحد الزنى وعهده باق ومذهب مالك يمكن ان يوجه على هذا الماخذ ان كان فيهم من يقول لم ينتقض عهده
وبالجملة فالقول بان الإمام يتخير في هذا انما يدل عليه عموم كلام بعض الفقهاء او إطلاقه وكذلك القول بانه يلحق بمامنه واخذ مذاهب الفقهاء من الاطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتضيه اصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة فان تقرر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلا لما قدمناه وتوجيها لما سنذكره # والدليل على انه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا المفاداة به من طريقين # احدهما ما تقدم من الادلة على وجوب قتل ناقض العهد اذا نقضه بما فيه ضرر على المسلمين مطلقا # الثاني ما يخصه وهو من وجوه # احدها ما تقدم من الايات الدالة على وجوب قتل الطاعن في الدين # الثاني حديث الرجل الذي قتل المراة اليهودية على عهد رسول الله واهدر النبي دمها وقد تقدم من حديث على بن أبي طالب وابن عباس فلو كان سب النبي يرفع العهد فقط ولا يوجب القتل لكانت هذه المراة بمنزلة كافرة اسيرة وبمنزلة كافرة دخلت إلى دار الإسلام ولا عهد لها ومعلوم انه لا يجوز قتلها وانها تصير رقيقة للمسلمين
بالسبي وهذه المراة المقتولة كانت رقيقة والمسلم اذا كانت له امة كافرة حربية لم يجز له ولا لغيره قتلها لمجرد كونها حربية بل تكون ملكا لسيدها ترد عليه اذا اخذها المسلمون ولا نعلم بين المسلمين خلافا ان المراة لا يجوز قتلها لمجرد الكفر اذا لم تكن معاهدة كما يقتل الرجل لذلك ولا نعلم ايضا خلافا في ان المراة اذا ثبت في حقها حكم نقض العهد فقط مثل ان تكون من اهل الهدنة وقد نقضوا العهد فانه لا يجوز قتل نسائهم واولادهم بل تسترق النساء والاولاد وكذلك الذمي اذا نقض العهد ولحق بدار الحرب فمن ولد له بعض نقض العهد لم يجز قتل النساء منهم والاطفال بل يكونون رقيقا للمسلمين وكذلك اهل الذمة اذا امتنعوا بدار الحرب ونحوها # فمن الفقهاء من قال العهد باق في ذريتهم ونسائهم كما هو المعروف عن الإمام احمد وقال اكثرهم ينتقض العهد في الذرية والنساء ايضا ثم لايختلفون ان النساء لا يقتلن واصل ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه ^ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ^ فامر بقتال الذين يقاتلون فعلم ان شرط القتال كون المقاتل مقاتلا
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال وجدت امراة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان # وعن رباح بن ربيع انه خرج مع رسول الله في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد فمر رباح واصحاب رسول الله على امراة مقتولة مما اصابت المقدمة فوقفوا ينظرون اليها يعني ويعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله على راحلته فانفرجوا عنها فوقف عليها رسول الله فقال ما كنت هذه لتقاتل فقال لاحدهم الحق خالدا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا ولا امراة رواه الإمام احمد وابو داود وابن ماجة # وعن ابن كعب بن مالك عن عمه ان النبي حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان رواه الإمام احمد # وفي الباب احاديث مشهورة على ان هذا من العلم العام الذي تناقلته الامة خلفا عن سلف وذلك لان المقصود بالقتال ان تكون كلمة
الله هي العليا وان يكون الدين كله لله وان لا تكون فتنة اي لا يكون أحد يفتن احدا عن دين الله فانما يقاتل من كان ممانعا عن ذلك وهم اهل القتال فاما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله كالمراة والشيخ الكبير والراهب ونحو ذلك ولان المراة تصير رقيقة للمسلمين ومالا لهم ففي قتلها تفويت لذلك عليهم من غير حاجة واضاعة المال لغير حاجة لايجوز نعم لو قاتلت المراة جاز ان تقتل بالاتفاق لوجود المعنى فيها الذي جعل الله ورسوله عدمه مانعا من قتلها بقوله ما كانت هذه لتقاتل لكن هل يجوز ان تقصد بالقتل كما يقصد الرجل او يقصد كفها كما يقصد كف الصائل فيه خلاف بين الفقهاء فاذا كان الحكم في المراة كذلك وقد اهدر النبي دم امراة ذمية لاجل سبها مع ان قتلها لو كان حراما لانكره النبي كما انكر قتل المراة التي وجدها مقتولة في بعض مغازيه وان لم تكن مضمونة بدية ولا كفارة فانه لا يسكت عن انكار المنكر بل اقراره دليل على الجواز والاباحة علم ان السابة ليست بمنزلة الاسيرة الكافرة لان تلك لا يجوز قتلها وعلم ان السب اوجب قتلها بنفسه كما يجب قتلها بالاجماع اذا قطعت الطريق وقتلت فيه واذا زنت وكما يجب قتلها بالردة عند جماهير العلماء
فان قيل يجوز ان يكون سبها للنبي بمنزلة قتالها والمراة اذا قاتلت وكانت معاهدة انتقض عهدها كالرجل اذا فعل ذلك ويجوز ان تكون حينئذ بمنزلة المراة المقاتله اذا اسرت يتخير الإمام فيها بين اربعة اشياء كما يتخير في الرجل المقاتل اذا اسر # قلنا الجواب من وجوه # احدها ان هذه المراة لم يصدر عنها الا مجرد شتم النبي بحضرة سيدها المسلم ولم تحض احدا من المشركين على القتال ولا اشارت على الكفار براي تعين به على قتال المسلمين ومعلوم ان من لم يقاتل بيده ولا اعان على القتال بلسانه لم يجز ان ينسب اليه القتال بوجه من الوجوه ونحن لا ننكر ان من لا يجوز قتله كالراهب والاعمى والشيخ الفاني والمقعد ونحوهم اذا كان لهم راي في القتال وكلام يعينون به على قتال المسلمين كانوا بمنزلة المقاتلين لكن مجرد سب المراة لرسول الله عند قوم مسلمين ليس من هذا القبيل وانما هو اذى لله ولرسوله ابلغ من القتال من بعض الوجوه فلو لم يكن موجبا للقتل لكانت المراة الكافرة قد قتلت لانها مقاتلة وهي لم تقاتل وذلك غير جائز فعلم انه موجب للقتل وان لم يكن قتالا وقد يكون قتالا اذا ذكر في معرض الحض على قتال المسلمين واغراء الكفار بحربهم فاما في هذه الواقعة فلم يكن من القتال المعروف
الجواب الثاني انا نسلم ان سب النبي بمنزلة محاربة المسلمين ومقاتلهم من بعض الوجوه كما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه ان حد الانبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك يعني سب الانبياء من مسلم فهو مرتد او معاهد فهو محارب غادر بل هو من ابلغ انواع الحراب كما تقدم تقريره لكن الجواب نوعان # احدهما ما ينقطع مفسدته بالقتل تارة وبالاسترقاق اخرى وبالمن او الفداء اخرى وهو حراب الكافر بالقتال يدا ولسانا فان الحربي والحربية المقاتلة اذا اسرا فاسترقا انقطع عن المسلمين ضررهما كما قد يزول بالقتل وكذلك لو من عليهما رجاء ان يسلما اذا بدت مخائل الإسلام او رجاء ان يكفا عن المسلمين شر من خلفهما او فودي بهما فهنا مفسدة المحاربة قد تزول بهذه الامور # والثاني ما لاتزول مفسدته الا باقامة الحد فيه مثل حراب المسلم او المعاهدة في دار الإسلام بقطع الطريق ونحوه فان ذلك يتحتم اقامة الحد فيه باتفاق الفقهاء
فهذه الامة التي كانت تسب النبي قد حاربت في دار الإسلام فان قيل تعاقب بالاسترقاق فهي رقيقة فلا يتغير حالها وان قيل يمن عليها او يفادي بها لم يجز لوجهين # احدهما انها ملك مسلم ولا يجوز اخراجها عن ملكه مع حياتها # الثاني ان ذلك احسان اليها وازالة للرق عنها فلا يجوز ان يكون جزاء لسبها وحرابها فتعين قتلها # الجواب الثالث ان مفسدة السب لا تزول الا بالقتل لانها متى اسنيقبت طمعت هي وغيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الارض كقاطع الطريق سواء بخلاف المراة المقاتله اذا اسرت فان مفسدة مقاتلتها قد زالت باسرها ولا يمكنها مع استرقاقها ان تقاتل ويمكنها ان تظهر السب والشتم فصار سبها بمنزلة الجنايات التي توجب العقوبات لا تزول مفسدتها الا باقامة الحد فيها وعلم ان الذمية التي تسب ليست بمنزلة الحربية التي تقاتل اذا اسرت بل هي بمنزلة الذمية التي تقطع الطريق وتزني # الجواب الرابع ان الحديث فيه حكم وهو القتل وسبب وهو السب فيجب اضافة الحكم إلى السب والاصل اتحاد الحكم فمن زعم ان للسبب حكما اخرا احتاج إلى دليل وقياسة على الاسيرة لا يصح لما سياتي ان شاء الله تعالى
الخامس انها لو كانت بمنزلة الاسيرة لكن النظر فيها للإمام لا يجوز لاحاد الرعية تخير واحدة من الخصال الاربع فيها ومن قتلها ضمنها بقيمتها للمسلمين ان كان فيئا وللغانمين ان كانت مغنما فعلم ان القتل كان واجبا فيها عينا # يبقى ان يقال الحدود لا يقيمها الا الإمام او نائبه وجوابه من وجوه # احدها ان السيد له ان يقيم الحد على عبده بدليل قوله اقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم وقوله اذا زنت امة احدكم فليجلدها ولا اعلم خلافا بين فقهاء الحديث ان له ان يقيم
عليه الحد مثل حد الزنى والقذف والشرب ولا خلاف بين المسلمين ان له ان يعزره واختلفوا هل له ان يقيم عليه قتلا او قطعا مثل قتله لردته او لسبه النبي وقطعه للسرقة وفيه عن الإمام احمد روايتان # احداهما يجوز وهو منصوص عن الشافعي # والاخرى لا يجوز كاحد الوجهين لاصحاب الشافعي وهو قول مالك وقد صح عن ابن عمر انه قطع يد عبد له سرق وصح عن حفصة انها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر وكان ذلك براي ابن عمر
فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد ان يقيم الحد على عبده مطلقا وعلى هذا القول فالسيد له ان يقيم الحد على عبده بعلمه في المنصوص عن الإمام احمد هو احدى الروايتين عن مالك والنبي لم يطلب من سيد الامة بينة على سبه بل صدقة في قوله كانت تسبك وتشتمك ففي الحديث حجة لهذا القول ايضا # الوجه الثاني ان ذلك أكثر ما فيه انه افتئات على الإمام والإمام له ان يعفو عمن اقام حدا واجبا دونه # الوجه الثالث ان هذا وان كان حدا فهو قتل حربي ايضا فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله وهذا يجوز قتله لكل أحد وعلى هذا يحمل قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له انه يسب النبي فقال لو سمعته لقتلته # الوجه الرابع ان مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله مثل المنافق الذي قتله عمر بدون اذن النبي لما لم يرض بحكمه فنزل القران باقراره ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل حتى سماه النبي ويفسده ليس بمنزلة من قتل لاجل معصية من زنى ونحوه
3 الجواب السادس ان الفقهاء قد اختلفوا في المراة المقاتله اذا اسرت هل يجوز قتلها ومذهب الشافعي انها لا تقتل فلو كانت هذه انما قتلت لكونها قد قاتلت لم يجز ان تقتل بعد الاسر عنده فلا يصح ان يورد هذا السؤال على اصله # الدليل الثالث ان الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوما بامان يعقد له او ذمه او هدنه ومعلوم ان شبهة الامان كحقيقته في حقن الدم والنفر الذين ارسلهم النبي إلى كعب بن الاشرف جاؤوا اليه على ان يستسلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد امنهم على دمه وماله وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه ثم انهم استاذنوه في ان يشموا ريح الطيب من راسه فاذن لهم مرة بعد اخرى وهذا كله يثبت الامان فلو لم يكن في السب الا مجرد كونه كافرا حربيا لم يجز قتله بعد امانة اليهم وبعد ان اظهروا له انهم مؤمنون له واستئذانهم اياه في امساك يديه فعلم بذلك ان ايذاء الله ورسوله موجب للقتل لا يعصم منه امان ولا عهد وذلك لا يكون الا فيما اوجب القتل عينا من الحدود كحد الزنى وحد قطع الطريق وحد المرتد ونحو ذلك فان عقد الامان لهؤلاء لايصح ولا يصيرون مستامنين بل يجوز اغتيالهم والفتك بهم لتعين قتلهم فعلم ان ساب النبي كذلك # يؤيد هذا ما ذكره اهل المغازي من قول النبي انه لو قر كما قر غيره ما اغتيل ولكنه نال منا الاذى وهجانا بالشعر
ولم يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف فان ذلك دليل على ان لا جزاء له الا القتل # الدليل الرابع قوله ان كان ثابتا من سب نبيا قتل ومن سب اصحابه جلد فاوجب القتل عينا على كل ساب ولم يخير بينه وبين غيره وهذا ما يعتمد في الدلالة ان كان محفوظا # الدليل الخامس ان النبي دعا الناس إلى قتل ابن الاشرف لانه كان يؤذي الله ورسوله وكذلك كان يامر بقتل من يسبه ويهجوه الا من عفا عنه بعد القدرة وامره للايجاب فعلم وجوب قتل الساب وان لم يجب قتل غيره من المحاربين وكذلك كانت سيرته لم يعلم انه ترك قتل أحد من السابين بعد القدرة عليه الا من تاب او كان من المنافقين وهذا يصلح ان يكون امتثالا للامر بالجهاد واقامة الحدود فيكون على الايجاب يؤيد ذلك ان في ترك قتله تركا لنصر الله ورسوله وذلك غير جائز # الدليل السادس اقاويل الصحابة فانها نصوص في تعيين قتله مثل قول عمر رضى الله عنه من سب الله او سب احدا من الانبياء
فاقتلوه فامر بقتله عينا ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما ايما معاهد عاند فسب الله او سب احدا من الانبياء عليهم السلام او جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه فامر بقتل المعاهد اذا سب عينا ومثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المراة التي سبت النبي لولا ما قد سبقتني فيها لامرتك بقتلها لان حد الانبياء لا يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد او معاهد فهو محارب غادر فبين ان الواجب كان قتلها عينا لولا فوات ذلك ولم يجعل فيه خيرة إلى الإمام لا سيما والسابة امراة وذلك وحده دليل كما تقدم ومثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه انه يسب النبي لو سمعته لقتلته ولو كان كالاسير الذي يخير فيه الإمام لم يجز لابن عمر اختيار قتله وهذا الدليل واضح # الدليل السابع ان ناقض العهد بسب النبي ونحوه حاله اغلظ من حال الحربي الاصلي كما ان حال المرتد اغلظ من حال الكافر الاصلي لانه اجتمع فيه الحراب الاصلي وخروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين واذى الله ورسوله ومثل هذا يجب ان يعاقب عقوبة تزجر امثاله عن مثل حاله والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى ^ ان شر
الدواب عند الله الذين كفروا فهم لايؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لايتقون فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ^ فامر الله رسوله اذا صادف الناكثين بالعهد في الحرب ان يشرد بهم غيرهم من الكفار بان يفعل بهم ما يتفرق به اولئك وقال تعالى ^ الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة ^ فحض على قتال من نكث اليمين وهم باخراج الرسول وبدا بنقض العهد ومعلوم ان من سب الرسول فقد نقض العهد وفعل ما هو أعظم من الهم باخراج الرسول وبدئنا أول مرة ثم قال تعالى ^ قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ^ فعلم ان تعذيب هؤلاء واخزاءهم ونصر المؤمنين عليهم وشفاء صدورهم بالانتقام منهم وذهاب غيظ قلوبهم مما اذوهم به امر مقصود لشارع مطلوب في الدين ومعلوم ان هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي واذى الله ورسوله وعباده المؤمنين الا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه ولا بالمن عليه والمفادة به # وكذلك ايضا تنكيل غيره من الكفار الذين قد يردون اظهار السب
لا يحصل على سبيل التمام الا بذلك ولا يعارض هذا من نقض العهد في طائفة ممتنعة اذا اسرنا واحدا منهم لان قتال اولئك والظهور عليهم يحصل هذا المقصود بخلاف ما كان في ايدينا قبل السب وبعده فان لم نحدث فيه قتالا لم يحصل هذا المقصود # وجماع ذلك ان ناقض العهد لابد له من قتال او قتل اذ لا يحصل المقصود الا بذلك وهذا الوجه وان كان فيه عموم لكل من نقض العهد بالاذى لكن ذكرناه هنا لخصوص الدلالة ايضا فانها تدل عموما وخصوصا # الدليل الثامن ان الذمي اذا سب النبي فقد صدر منه فعل تضمن امرين احدهما انتقاض العهد الذي يننا وبينه والثاني جنايته على عرض رسول الله وانتهاكه حرمته ويذاء الله تعالى ورسوله والمؤمنين وطعنه في الدين وهذا معنى زائد على مجرد كونه كافرا قد نقض العهد # ونظير ذلك ان ينقضه بالزنى بمسلمة او بقطع الطريق على المسلمين وقتلهم واخذ اموالهم او بقتل مسلم فان فعله مع كونه نقضا للعهد قد تضمن جناية اخرى فان الزنى وقطع الطريق والقتل من حيث هو هو جناية ونقض العهد جناية كذلك هنا سب رسول الله من حيث هو هو جناية منفصله عن نقض العهد له عقوبة تخصه في
الدنيا والاخرة زائدة على مجرد عقوبة التكذيب بنبوته والدليل عليه قوله سبحانه ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا ^ فعلق العنة في الدنيا والاخرة والعذاب المهين بنفس اذى الله ورسوله فعلم انه موجب ذلك وكذلك قوله تعالى ^ وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون ^ وقد تقدم تقريره # يوضح ذلك ان النبي لما دخل مكة امن الناس الذين كانوا يقاتلونه قبل ذلك والذين نقضوا العهد الذي كان بينه وبينهم وخانوه الا نفرا منهم القينتان اللتان كانتا تغنيان بهجائه وساره مولاة بني عبد المطلب التي كانت تؤذيه بمكة فاذا كان قد امر بقتل التي كانت تهجوه من النساء مع ان قتل المراة لا يجوز الا اذا قاتلت وهو قد امن جميع اهل مكة من كان قد قاتل ونقض العهد من الرجال والنساء علم بذلك ان الهجاء جناية زائدة على مجرد القتال والحراب لان التفريق
بين المتامثلين لا يقع من النبي كما انه امر بقتل ابن خطل لانه كان قد قتل مسلما ولانه كان مرتدا ولانه كان يامر بهجائه وكل واحد من القتل الردة والامر بهجائة جناية زائدة على مجرد الكفر والحراب مما يبين ذلك انه قد كان امر بقتل من كان يؤذيه بعد فتح مكة مثل ابن الزبعري وكعب بن زهير والحويرث بن نقيد وابن خطل وغيرهم مع امانه لسائر اهل البلد وكذلك اهدر دم أبي سفيان بن الحارث وامتنع من ادخاله عليه وادخال عبد الله بن أبي امية لما كان يقعان في عرضه وقتل ابن أبي معيط والنضر بن الحارث دون غيرهما من الاسرى وسمى من يبذل نفسه في قتله ناصرا لله ورسوله وكان يندب إلى قتل من يؤذيه ويقول من يكفيني عدوي وكذلك اصحابه يسارعون إلى قتل من اذاه بلسانه وان كان أبا او غيره وينذرون قتل من ظفروا به من هذا الضرب وقد تقدم من بيان ذلك ما فيه بلاغ ومن المعلوم ان هؤلاء لو كانوا بنمزلة سائر الكفار الذين لاعهد لهم لم يقتلهم ولم يأمرهم
بقتلهم في مثل هذه الاوقات التي امن فيها الناس وكف عمن هو مثلهم # فعلم ان السب جناية زائدة على الكفر وقد تقدم تقرير ذلك في المسالة الاولى على وجه يقطع العاقل ان سب الرسول جناية لها موقع يزيد على عامة الجنايات بحيث يستحق صاحبها مع العقوبة ما لايستحقه غيره وان كان حافرا حربيا مبالغا في محاربة المسلمين وان وجوب الانتصار ممن كان هذه حاله كان مؤكدا في الدين والسعي في اهدار دمه من أفضل الاعمال واوجبها واحقها بالمسارعة عليه وابتغاء رضوان الله تعالى فيه وابلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده وفرضه عليهم ومن تامل الذين اهدر النبي دماءهم يوم الفتح واشتد غضبه عليهم حتى قتل بعضهم في نفس الحرم واعرض عن بعضهم وانتظر قتل بعضهم وجد لهم جرائم زائدة على الكفر والحراب من ردة وقتل ونحو ذلك وجرم اكثرهم انما كان من سب رسول الله واذاه بالسنتهم فاي دليل اوضح من هذا # على ان سبه وهجائه جناية زائدة على الكفر والحراب لا يدخل في ضمن الكفر كما تدخل سائر المعاصي في ضمن الكفر وعلى ان المعاهدين اذا نقضوا العهد وفيهم من سب النبي كان للسب عقوبة زائدة على عقوبة مجرد نقض العهد
ومما يدل على ان السب جناية زائدة على كونه كفرا وحرابا وان كان متضمنا لذلك ان النبي قد كان يعفوا عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه وقد كان له ان يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره ولو كان السب مجرد ردة لوجب قتله كالمرتد يجب قتله فعلم انه قد يغلب في السب حق النبي بحيث يجوز له العفو عنه # ومما يدل على ان السب جناية مفردة ان الذمي لو سب واحدا من المسلمين او المعاهدين ونقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة ما لايستحقه بمجرد نقض العهد فيكون سب رسول الله دون سب واحد من البشر # ومما يدل على ذلك ان ساب النبي وشاتمه يؤذيه شتمه وهجائه كما يؤذيه التعرض لدمه وماله قال الله تعالى لما ذكر الغيبة ^ ايحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه ^ فجعل الغيبة التي هي كلام صحيح بمنزلة اكل لحم المغتاب ميتا فكيف ببهتانه وسب النبي لا يكون قط الا بهتانا
وفي الصحيحين عن النبي انه قال لعن المؤمن كقتله وكما يؤذي ذلك غيره من البشر # وايضا فان ذلك يؤذي جميع المؤمنين ويؤذي الله سبحانه وتعالى ومجرد الكفر والمحاربة لا يحصل بهما من اباه ما يحصل بالوقيعة في العرض مع المحاربة فلو قيل ان الواقع في عرضه ممن انتقض عهده بمنزله غيره ممن انتقض عهده لكانت الوقيعة في عرض رسول الله واذاه بذلك جرما لا جزاء له من حيث خصوص النبي وخصوص اذاه كما لو قتل رجل نبيا من الانبياء فان لقتله من العقوبة ما لايستحق على مجرد الكفر والمحاربة وهذا كله ظاهر لا خفاء به فان دماء الانبياء واعراضهم اجل من دماء المؤمنين واعراضهم فاذا كان دماء غيرهم واعراضهم لا تندرج عقوبتها في عقوبة مجرد نقض العهد فان لا تندرج عقوبة دمائهم واعراضهم في عقوبة نقض العهد بطريق الاولى # مما يوضح ذلك ان سب النبي تعلق به عدة حقوق حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله وعادى أفضل اوليائه وبارزه بالمحاربة ومن حيث طعن في كتابه ودينه فان صحتهما موقوفه على صحة الرساله ومن حيث طعن في الوهيته فان الطعن في الرسول طعن
في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وانكار لكلامه وامره وخبره وكثير من صفاته وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الامة ومن غيرها من الامم فان جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا امته فان قيام امر دنياهم ودينهم واخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والاخرة بواسطته وسفارته فالسب له أعظم عندهم من سب انفسهم واباءهم وابناءهم وسب جميعهم كما انه احب اليهم من انفسهم واولادهم وابائهم والناس اجمعين وتعلق به حق رسول الله من حيث خصوص نفسه فان الانسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه اخذ ماله واكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه خصوصا من يجب عليه ان يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والاخرة فان هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله فان قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلة قدره كما ان موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عرضه فانها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفره عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم ايمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والاخرة فكيف يجوز ان يعتقد عاقل ان هذه الجناية بمنزلة ذمي كان في ديار المسلمين فلحق ببلاد الكفار مستوطنا لها
مع ان ذلك اللحاق ليس في خصوصه حق لله ولا لرسوله ولا لاحد من المسلمين أكثر ما فيه ان الرجل كان معتصما بحبلنا فخرق تلك العصمة فانما اضر بنفسه لا باحد من المؤمنين # فعلم بذلك ان السب فيه من الاذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة وهذا ظاهر ان شاء الله تعالى # اذا ثبت ذلك فنقول هذه الجناية جناية السب موجبها القتل لما تقدم من قوله من لكعب بن الاشرف فانه قد ذاى الله ورسوله فعلم ان من اذى الله ورسوله كان حقه ان يقتل ولما تقدم من اهدار النبي دم المراة السابه مع انها لاتقتل لمجرد نقض العهد ولما تقدم من امره بقتل من كان يسبه مع امساكه عمن هو بمنزلته في الدين وندبه الناس إلى ذلك والثناء على من سارع في ذلك ولما تقدم من الحديث المرفوع ومن اقوال الصحابة رضي الله عنهم ان من سب نبيا قتل ومن سب غير نبي جلد # والذي يختص بهذا الموضع ان نقول هذه الجناية اما ان يكون موجبها بخصوصها القتل او الجلد او لاعقوبة لها بل تدخل عقوبتها في ضمن عقوبة الكفر والحراب
وقد ابطلنا القسم الثالث والقسم الثاني باطل ايضا لوجوه # احدها انه لو كان الامر كذلك لكان الذمي اذا نقض العهد بسب النبي ينبغي ان يجلد لسب النبي لانه حق ادمي ثم يكون كالكافر الحربي يقتل للكفر ومعلوم ان هذا خلاف ما دلت عليه السنة واجماع الصحابة فانهم اتفقوا على القتل فقط فعلم ان موجب كلا الجنايتين القتل والقتل لا يمكن تعدده وكذلك كان ينبغي ان يجلد المرتد لحق النبي ثم يقتل لردته كمرتد سب بعض المسلمين فانه يستوفى منه حق الادمي ثم يقتل # الا ترى ان السارق يقطع لسرقته التي هي حق لله ويرد المال المسروق اذا كان باقيا بالاتفاق ويغرم بدله ان كان تالفا عند أكثر الفقهاء ويدخل حق الادمي في حق الله مع ايجاد السبب # الثاني انه لو لم يكن موجبه القتل وانما القتل موجب كونه ردة لم يجز للنبي العفو عنه لان اقامة الحد على المرتد واجبة بالاتفاق ولا يجوز العفو عنه فلما عفا عنه النبي في حياته دل على السب نفسه يوجب القتل حقا للنبي ويدخل فيه حق الله تعالى ويكون سابه وقاذفه بمنزلة ساب غيره وقاذفه قد اجتمع في سبه حقان حق لله وحق لادمي فلو ان المسبوب والمقذوف عفا عن حقه لم يعزر القاذف والساب على حق الله بل دخل في العفو كذلك النبي اذا عفا عمن
سبه دخل في عفوه عنه حق الله فلم يقتل لكفره كما لا يعزر ساب غيره لمعصيته مع ان المعصية المجردة عن حق ادمي توجب التعزيز # يوضح ذلك انه قد ثبت كان له ان يقتل من سبه كما في حديث أبي بكر وحديث الذي امر بقتله لما كذب عليه وحديث الشعبي في قتل الخارجي وكما دلت عليه احاديث قد تقدم ذكرها وثبت ان له ان يعفو عنه كما دل عليه حديث ابن مسعود وابي سعيد وجابر وغيرهم فعلم ان سبه يوجب القتل كما ان سب غيره يوجب الجلد وان تضمن سبه الكفر بالله كما تضمن سب غيره المعصية لله ويكون الكفر والحراب نوعين # احداهما حق خالص لله تعالى والثاني ما فيه حق لله وحق لادمي كما ان المعصية فسمان أحدهما حق خالص لله
والثاني حق لله ولادمي ويكون هذا النوع من الكفر والحراب بمنزلة غيره من الانواع في استحقاق فاعله القتل ويفارقه في الاستيفاء فانه إلى الادمي كما ان المعصية بسب غير النبيين بمنزلة غيرها من المعاصي في استحقاق فاعلها الجلد وتفارق غيرها في ان الاستيفاء فيها إلى الادمي # يوضح هذا ان الحق الوجب على الانسان قد يكون حقا محضا لله وهو ما اذا كفر او عصى على وجه لا يؤذي احدا من الخلق فهذا اذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال وقد يكون حقا محضا لادمي بمنزلة الديون للانسان على غيره من ثمن مبيع او بدل قرض ونحو ذلك من الديون التي ثبتت بوجه مباح فهذا لا عقوبة فيه بوجه وانما يعاقب على الدين اذا امتنع عن وفائه والامتناع معصية وقد يكون حقا لله ولادمي مثل حد القذف والقود وعقوبة السب ونحو ذلك فهذه الامور فيها العقوبة من الحد والتعزيز والاستيفاء فيها مفوض إلى الاختيار الادمي ان احب استوفى القود وحد القذف وان شاء عفا فسب النبي لو كان من القسم الاول لم يجز العفو عنه للنبي ولو كان من القسم الثاني لم يكن فيه عقوبة بحال فتعين ان يكون من القسم الثالث وقد ثبت ان عقوبته القتل فعلم ان سب النبي من حيث هو سب له وحق لادمي عقوبته القتل كما ان سب غيره من حيث هو سب له وحق لادمي عقوبته الجلد أم حدا او تعزيرا وهذا معنى صحيح واضح
وسر ذلك انه اذا اجتمع الحقان فلابد من عقوبة لان معصية الله توجب العقوبة اما في الدنيا او في الاخرة فاذا كان الاستيفاء جعل الله ذلك إلى المستحق من الادميين لان الله اغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا اشرك فيه غيره فهو كله للذي اشرك كذلك من عمل عملا لغيره فيه عقوبه جعل عقوبتة كلها لذلك الغير وكانت عقوبته على معصية الله تمكين ذلك الانسان من عقوبته # وتمام هذا المعنى ان يقال بعد موت النبي يتعين القتل لان المستحق لا يمكن منه المطالبة والعفو كما ان من سب او شتم احدا من اموات المسلمين عزر على ذلك الفعل لكونه معصية لله وان كان في حياته لا يؤدب حتى يطلب اذا علم # الوجه الثالث ان سب النبي لا يجوز ان يكون من حيث هو سب بمنزلة سب غيره من المؤمنين لانه يباين سائر المؤمنين من امته في عامة الحقوق فرضا وخطرا وغيرهما مثل وجوب طاعته ووجوب محبته وتقديمه في المحبة على جميع الناس ووجوب تعزيره وتوقيره على
وجه لا يساويه فيه أحد ووجوب الصلاة عليه والتسليم إلى غيره ذلك من الخصائص التي لا تحصى وفي سبه ايذاء لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده واقل ما في ذلك ان سبه كفر ومحاربة وسب غيره ذنب ومعصية ومعلوم ان العقوبات على قدر الجرائم فلو سوى بين سبه وسب غيره لكان تسوية بين الشيئين المتباينين وذلك لا يجوز فاذا كان سب غيره مع كونه معصية يوجب الجلد وجب ان يكون سبه مع كونه كفرا يوجب القتل ويصير ذلك نوعا من انواع الكفر من وجه ونوعا من انواع السب من وجه فمن حيث هو من جنس الكفر اوجب القتل ومن حيث هو من جنس السب كان حقا لادمي # الوجه الرابع ان النبي لم يعاقب احدا منهم الا بالقتل ولو كان هو بانفراده لا يوجب القتل وانما يوجب ما دونه وهو قد عفا عن عقوبته في ما دونه وامن من فعل ذلك ء لكان صاحب ذلك لا ينبغي قتله لان ذنبه الذي يغتصه لا يقتضي القتل # فان قيل فقتله بمجموع الامرين # قلنا وهذا المقصود لان السب حيث كان فانه مستلزم لكفر لا عهد له
الدليل التاسع أن سب رسول الله ﷺ مع كونه من جنس الكفر والحراب أعظم من مجرد الردة عن الإسلام فإنه من المسلم ردة وزيادة كما تقدم تقريره فإذا كان كفر المرتد قد تغلظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عينا فكفر الساب الذي آذى الله ورسوله وجميع المؤمنين من عباده أولى أن يتغلظ فيوجب القتل عينا لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة # وقد اختلف الناس في قتل المرتدة وإن كان المختار قتلها ونحن قد قدمنا نصوصا عن النبي ﷺ واصحابه في قتل السابة الذمية وغير الذمية والمرتد يستتاب من من الردة ورسول الله ﷺ وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه فعلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتله أولى # الدليل العاشر أن تطير الأرض من إظاهر سب رسول الله ﷺ وأجب حسب الإمكان لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله فحيث ما ظهر سبه ولم ينتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين ظاهرا ولا كلمة الله عالية وهذا كما يجب تطهيرها من الزناة والسراق وقطاع الطريق بحسب الإمكان بخلاف تطهيرها من اصل الكفر فإنه ليس بواجب لجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة لأن إقرارهم بالذمة ملتزمين جريان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظاهر الدين وعلو الكلمة وإنما تجوز مهادنة الكافر وأمانه عند العجز أو
المصلحة المرجوة في ذلك وكل جناية وجب تطهير الارض منها بحسب القدرة يتعين عقوبة فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع اذا لم يكن لها مستحق معين فوجب ان يتعين قتل هذا لانه ليس لهذه الجناية مستحق معين لانه تعلق بها حق الله ورسوله وجميع المؤمنين وبهذا يظهر الفرق بين الساب وبين الكافر لجواز اقرار ذلك على كفره مستخفيا به ملتزما حكم الله ورسوله بخلاف المظهر للسب # الدليل الحادي عشر ان قتل ساب النبي وان كان قتل كافر فهو حد من الحدود ليس قتلا على مجرد الكفر والحراب لما تقدم من الاحاديث الداله على انه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن ان النبي واصحابه امروا فيه بالقتل عينا وليس هذا موجب الكفر والمحاربة ولما تقدم من قول الصديق رضي الله عنه في التي سبت النبي ان حد الانبياء ليس يشبه الحدود ومعلوم ان قتل الاسير الحربي ونحوه من الكفار والمحاربين لا يسمى حدا ولان ظهور سبه في ديار المسلمين فساد عظيم أعظم من جرائم كثيرة فلابد ان يشرع له حد يزجر عنه من يتعاطاه فان الشارع لا يهمل مثل هذه المفاسد ولا يخليها من الزواجر وقد ثبت ان حده القتل بالسنة والاجماع وهو حد لغير معين حي لان الحق فيه لله تعالى ولرسوله وهو ميت ولكل مؤمن وكل حد يكون بهذه المثابة فانه يتعين اقامته بالاتفاق
الدليل الثاني عشر ان نصر رسول الله وتعزيره وتوقيره واجب وقتل سابه مشروع كما تقدم فلو جاز ترك قتله لم يكن ذلك نصرا له ولا تعزيرا ولا توقيرا بل ذلك اقل نصره لان الساب في ايدينا ونحن متمكنون منه فان لم نقتله مع ان قتله جائز لكان ذلك غاية في الخذلان وترك التعزير له والتوقير وهذا ظاهر # واعلم ان تقرير هذه المسالة له طرق متعددة غير ما ذكرناه ولم نطل الكلام هنا لان عامة الدلائل المذكورة في المسألة الاولى تدل على وجوب قتله لمن تأملها فاكتفينا بما ذكرناه هناك وان كان القصد في المسالة الاولى بيان جواز قتله مطلقا وهنا بيان وجوب قتله مطلقا وقد اجبنا هناك عمن ترك النبي قتله منم اهل الكتاب والمشركين السابين وبينا ان ذلك انما كان في أول الامر حين كان مأمورا بالعفو والصفح قبل ان يؤمر بقتال الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ويجاهد الكفار والمنافقين وانه كان له ان يعفو عمن سبه لان هذه الجريمة غلب فيها حقه وبعد موته لا عافي عنها والله اعلم
المسالة الثالثة
انه يقتل ولا يستتاب سواء كان مسلما او كافرا # قال الإمام احمدفي رواية حنبل كل من شتم النبي وتنقصه مسلما كان او كافرا فعليه القتل وارى ان يقتل ولا يستتاب # وقال كل من نقض العهد واحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رايت عليه القتل ليس على هذا اعطوا العهد والذمة # وقال عبد الله سألت أبي عمن شتم النبي يستتاب قال قد وجب عليه القتل ولا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ولم يستتبه # هذا مع نصه انه مرتد ان كان مسلما وانه قد نقض العهد ان كان
ذميا واطلق في سائر اجوبته انه يقتل ولم يأمر فيه باستتابة هذا مع انه لا يختلف نصه ومذهبه ان المرتد المجرد يستتاب ثلاثا الا ان يكون ممن ولد على الفطره فقد روي عنه انه يقتل ولا يستتاب والمشهور عنه استتابة جميع المرتدين واتبع في استتابته ما صح في ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابي موسى وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم انهم امروا باستتابة المرتد في قضايا متفرقة وقدرها عمر رضي الله عنه ثلاثا وفسر الإمام احمد قول النبي من بدل دينه فاقتلوه بأنه المقيم على التبديل الثابت عليه فاذا تاب لم يكن
مبدلا وهو راجع يقول قد اسلمت # وهل استتابة المرتد واجبه او مستحبه فيه عن الإمام احمد روايتان وكذلك الخرقي اطلق القول بأن من قذف أم النبي قتل مسلما كان او كافرا واطلق أبو بكر انه يقتل من سب
النبي وكذلك غيرهما مع انهم في المرتد يذكرون انه لايقتل حتى يستتاب فإن من تاب السب بان يسلم او يعود إلى الذمة ان كان كافرا او يعود إلى الإسلام ان كان مسلما ويقلع عن السب فقال القاضي في المجرد وغيره من اصحابنا والردة تحصل بجحد الشهادتين وبالتعريض بسب الله تبارك وتعالى وبسب النبي الا ان الإمام احمد قال لا تقبل توبة من سب النبي لان المعرة تلحق النبي بذلك وكذلك وقال ابن عقيل قال اصحابنا في سب النبي انه لا تقبل توبته من ذلك لما يدخل من المعرة بالسب على النبي وهو حق لادمي لم يعلم اسقاطه
وقال القاضي في خلافه وابنه أبو الحسين اذا سب النبي قتل ولم تقبل توبته مسلما كان او كافرا ويجعله ناقصا للعهد نص عليه احمد # وذكر القاضي النصوص التي قدمناها عن الإمام احمد في انه يقتل ولا يستتاب وقد وجب عليه القتل قال القاضي لان حق النبي يتعلق به حقان حق لله وحق للادمي والعقوبة اذا تعلق بها حق لله وحق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فانه لو تاب قبل القدرة لم يسقط حق الادمي من القصاص ويسقط حق الله # وقال أبو المواهب العكبري يجب لقذف النبي الحد المغلظ وهو القتل تاب او لم يتب ذميا كان او مسلما
وكذلك ذكر جماعات اخرون من اصحابنا انه يقتل ساب النبي ولا تقبل توبته سواء كان مسلما او كافرا ومرادهم بانه لاتقبل توبته ان القتل لايسقط عنه بالتوبة والتوبة اسم جامع للرجوع عن السب بالإسلام وبغيره فلذلك اتوا بها وارادوا انه لو رجع عن السب بالإسلام او بالاقلاع عن السب والعود إلى الذمة ان كان ذميا لم يسقط عنه القتل لان عامة هؤلاء لما ذكروا هذه المسألة قالوا خلافا لابي حنيفة والشافعي في قولهما ان كان مسلما يستتاب فان تاب والا قتل كالمرتد وان كان ذميا فقال أبو حنيفة لايتنقض عهده واختلف اصحاب الشافعي فيه فعلم انهم ارادوا بالتوبة توبة المرتد وهي الإسلام ولانهم قد حكموا بانه مرتد وقد صرحوا بان توبة المرتد ان يرجع إلى الإسلام وهذا ظاهر فيه فإن كل من ارتد بقول فتوبته ان يرجع إلى الإسلام ويتوب من ذلك القول واما الذمي فان توبته لها صورتان # احداهما ان يقلع عن السب ويقول لااعود اليه وانا اعود إلى الذمة والتزام موجب العهد # والثانية ان يسلم فان إسلامه توبة من السب # وكلا الصورتين تدخل في كلام هؤلاء الذين قالوا لا تقبل توبته مسلما كان او كافرا وان كانت الصورة الثانية ادخل في كلامهم في
الاولى لكن اذا لم يسقط عنه القتل بتوبة هي الإسلام فلأن لا يسقط بتوبة هي العود إلى الذمة اولى وانما كانت ادخل لانه قد علم ان التوبة من المسلم انما هي الإسلام فكذلك من الكافر لذكرهم توبة الاثنين بلفظ واحد ولان تعليلهم بكونه حق ادمي وقياسة على المحارب دليل على انه لايسقط بالإسلام ولانهم قد صرحوا في مواضع يأتي بعضها ان التوبة من الكافر هنا إسلامه # وقد صرح بذلك جماعة غيرهم فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في الارشاد وهو ممن يعتمد نقله ومن سب رسول الله قتل ولم يستتب ومن سبه من اهل الذمة قتل وان اسلم # وقال أبو علي بن البناء في الخصال والاقسام له ومن سب
النبي وجب قتله ولاتقبل توبته وان كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب انه يقتل ايضا ولا يستتاب قال ومذهب مالك كمذهبنا # وعامة هؤلاء لم يذكروا خلافا في وجوب قتل المسلم والكافر وانه لايسقط بالتوبة من إسلام وغيره وهذه طريقة القاضي في كتبه المتاخره من التعليق الجديد وطريقة من وافقه وكان القاضي في التعليق القديم وفي الجامع الصغير يقول ان المسلم يقتل ولا تقبل توبته وفي الكافر اذا اسلم روايتان قال القاضي بالجامع الصغير الذي ضمنه مسائل التعليق القديم ومن سب أم النبي قتل ولن تقبل توبته فان كان كافرا فاسلم ففيه رويتان احداهما يقتل ايضا والثانية لا يقتل ويستتاب قياسا على قوله في الساحر اذا كان كافرا لم يقتل
وان كان مسلما قتل وكذلك ذكر من نقل من التعليق القديم مثل الشريف أبي جعفر قال اذا سب أم النبي قتل ولم تقبل توبته وفي الذمي اذا سب أم النبي روايتان احداهما يقتل والاخرى لا يقتل # قال وبهذا التفصيل قال مالك وقال اكثرهم تقبل توبته في الحالين # لنا انه حد وجب لقذف ادمي فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي # وكذلك قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل اذا قذف أم النبي لاتقبل التوبة منه وفي الكافر اذا سبها ثم اسلم روايتان وقال أبو حنيفة والشافعي تقبل توبته في الحالين # لنا انه حد وجب لقذف ادمي فلا يسقط بالتوبة دليله قذف غير أم النبي
وانما ذكرت عبارة هؤلاء ليتبين ان مرادهم بالتوبة هنا من الكافر الإسلام ويظهر ان طريقتهم هي بعينها طريقة ابن البناء في ان المسلم اذا سب لم تقبل توبته وان الذمي اذا سب ثم اسلم قتل ايضا في الصحيح من المذهب # فان قيل فقد قال القاضي في خلافه فان قيل اليس قد قلتم لو نقض العهد بغير سب النبي مثل ان نقضه بمنع الجزية او قتال المسلمين او اذيتهم ثم تاب قبلتم توبته وكان الإمام فيه بالخيار بين اربعة اشياء كالحربي اذا حصل اسيرا في ايدينا هلا قلتم في سب النبي اذا تاب منه كذلك قيل لان سب النبي قذفا لميت فلا يسقط بالتوبة كما لو قذف ميتا وهذا من كلامه يدل على ان التوبة غير الإسلام لانه لو نقض العهد بغير السب ثم اسلم لم يتخير الإمام فيه # قلنا لا فرق في التخيير بين الاربعة قبل التوبة التي هي الاقلاع وبعده عند من يقول به وانما اراد المخالف ان يقيس على صورة تشبه صورة النزاع وهي الحكم فيه بعد التوبة اذا كان قبل التوبة قد ثبت جواز قتله # على ان توبة الذمي الناقض للعهد لها صورتان # احداهما ان يسلم فان إسلامه توبة من الكفر وتوابعه
والثانية ان يرجع إلى الذمة تائبا من الذنب الذي احدثه حتى انتقض عهده فهذه توبة من نقض العهد فاذا تاب هذه التوبة وهو مقدور عليه جاز لإمام ان يقبل توبته حيث يكون حكمه حكم الاسير كما ان الاسير اذا طلب ان تعقد له الذمه جاز ان يجاب إلى ذلك # فالزم المخالف القاضي على طريقته ان الناقض التائب من الناقض يخير الإمام فيه فهلا خيرتموه في الساب اذا تاب توبة يمكن التخيير بعدها بان يقلع عن السب ويطلب عقد الذمة له ثانيا فلذلك قيل في هذه الصورة هلا خير الإمام فيه بعد التوبة وان كان في صورة اخرى لا يمكن التخيير بعد توبة هي الإسلام # وقد تقدم ذكر ذلك وقد قدمنا ايضا ان الصحيح انه لا يخير فيمن نقض العهد بما يضر المسلمين بحال وقد ظهر ان الرواية الاخرى التي حكوها في الفرق بين المسلم والكافر مخرجة من نصه على الفرق بين الساحر الكافر والساحر المسلم وذلك انه قد قال في الساحر الذمي لا يقتل ما هو عليه من الكفر أعظم واستدل بإن النبي لم يقتل لبيد
ابن أعصم لما سحره والساحر المسلم يقتل عنده لما جاء في ذلك عن النبي وعمر وعثمان وابن عمر وحفصة رضي الله عنهم وغيرهم من الاحاديث # ووجه التخريج ان ماهو الكافر عليه من الشرك أعظم مما هو عليه من السب والسحر فنسبة السب والسحر اليه واحدة بخلاف المسلم فاذا قتل الساحر المسلم دون الذمي فكذلك الساب الذمي دون المسلم لكن السب ينقض العهد فيجوز قتله لاجل نقض العهد فاذا اسلم امتنع قتله لنقض العهد وهو لايقتل لخصوص السب كما لا يقتل لخصوص السحر فيبقى دمه معصوما # وقد حكى هذه الرواية الخطابي عن الإمام احمد نفسه فقال قال
مالك بن انس من شتم النبي من اليهود والنصارى قتل الا ان يسلم وكذلك قال احمد بن حنبل وحكى اخرون من اصحابنا رواية عن الإمام احمد ان المسل تقبل توبته من السب بان يسلم ويرجع عن السب كذلك ذكر أبو الخطاب في الهداية ومن احتذى حذوه من متاخري اصحابنا في ساب الله ورسوله من المسلمين هل تقبل توبته أم يقتل بكل حال روايتان # فقد تلخص ان اصحابنا حكوا في الساب اذا تاب ثلاث روايات # احداهن يقتل بكل حال وهي التي نصروها كلهم ودل عليها كلام الإمام احمد في نفس هذه المسالة واكثر محققيهم لم يذكروا سواها # والثانية تقبل توبته مطلقا # والثالثة تقبل توبة الكافر ولا تقبل توبة المسلم وتوبة الذمي التي تقبل اذا قلنا بها ان يسلم فأما اذا اقلع وطلب عقد الذمة له ثانيا لم يعصم ذلك دمه رواية واحدة كما تقدم
وذكر أبو عبد الله السامري ان من سب النبي من المسلمين فهل تقبل توبته على روايتين قال ومن سبه من اهل الذمة قتل وان اسلم ذكره ابن أبي موسى فعلى ظاهر كلامه يكون الخلاف في المسلم دون الذمي عكس الرواية التي حكاها جماعة من الاصحاب وليس الامر كذلك فان ابن أبي موسى قال ومن سب النبي قتل ولم يستتب ومن سبه من اهل الذمة قتل وان اسلم فلم يذكر خلافا في شيء من ذلك كما دل عليه المأثور عن الإمام احمد وكتاب أبي عبد الله السامري تضمن نقل أبي الخطاب ونقل ابن أبي موسى كما اقتضى شرطه انه يضمنه عدة كتب صغار فلما ذكر ما حكاه أبو الخطاب من الروايتن في المسلم وما ذكره ابن أبي موسى في الذمي اذا اسلم ظهر نوع خلل والا
فلا ريب انا اذا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذمي بإسلامه اولى فإن كل ما يفرض في الكافر من غلظ السب فهو في المسلم وزيادة فإنهما يشتركان في اذى النبي وينفرد سب المسلم بإنه يدل على زندقته وان سابه منافق ظهر نفاقه بخلاف الذمي فإن سبه مستند إلى اعتقاد وذلك الاعتقاد زال بالإسلام # نعم قد يوجه ما ذكره السامري بإن يقال السب قد يكون غلطا من المسلم لا اعتقادا فاذا تاب منه قبلت توبته اذ هو عثرة لسان وسوء ادب او قلة علم والذمي سبه اذى محض لا ريب فيه فاذا وجب الحد عليه لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود وقد ينزع هذا إلى قول من يقول ان السب لايكون كفرا في الباطن الا ان يكون استحلالا وهو قول مرغوب عنه كما سياتي ان شاء الله تعالى # واعلم ان اصحابنا ذكروا انه لاتقبل توبته لان الإمام احمد قال لا يستتاب ومن اصله ان كل من قبلت توبته فانه يستتاب كالمرتد ولهذا لما اختلفت الرواية عنه في الزنديق
والساحر والكاهن والعراف ومن ارتد وكان مسلم الاصل هل يستتابون أم لا على روايتين فان قلنا لا يستتابون يقتلون بكل حال وان تابوا
وقد صرح في رواية عبد الله بأن من سب النبي قد وجب عليه القتل ولا يستتاب فتبين ان القتل قد وجب وما وجب من القتل لم يسقط بحال # يؤيد هذا انه قد قال في ذمي فجر بمسلمة يقتل قيل له فان اسلم قال يقتل هذا قد وجب عليه فتبين ان الإسلام لايسقط القتل الواجب وقد ذكر في الساب انه قد وجب عليه القتل # وايضا فإنه اوجب على الزاني بسملمة بعد الإسلام القتل الذي وجب عقوبة على الزنى بالمسلمة حتى انه يقتله سواء كان حرا او عبدا او محصنا او غير محصنا كما قد نص عليه في مواضع ولم يسقط ذلك القتل بالإسلام ويوجب عليه مجرد حد الزنى لانه ادخل على المسلمين من الضرر والمعرة مااوجب قتله ونقض عهده فاذا اسلم لم تزل عقوبة ذلك الاضرار عنه كما لا تزول عنه عقوبة قطعه للطريق لو اسلم ولم يجز ان يقال هو بعد الإسلام كمسلم فعل ذلك يفعل به ما يفعل بالمسلم لان الإسلام يمنع ابتداء العقوبة ولا يمنع دوامها لان الدوام اقوى كما لو قتل ذمي ذميا ثم اسلم قتل ولو قتله وهو مسلم لم يقتل
ولهذا ينتقض عهد الذمي باشياء مثل الزنى بالمسلمة وان لم يكن محصنا وقتل اي مسلم كان والتجسس للكفار وقتال المسلمين واللحاق بدار الحرب وان كان المسلم لا يقتل بهذه الاشياء على الاطلاق فاذا وجب قتل الذمي بها عينا ثم اسلم كان كما لو وجب قتله بذمي ثم اسلم اذ لا فرق بين ان يجب عليه حد لا يجب على المسلم فيسلم او يجب عليه قصاص لا يجب على المسلم فيسلم فان القصاص في اندرائه بالإسلام كالحدود وهو يسقط بالشبهه حكما يمنع الإسلام ابتداؤه دون دوامه فكذلك العقوبات الواجبه على المعاهد وهذا ينبني على قولنا يتعين قتل الذمي اذا فعل هذه الاشياء وان لخصوص هذه الجنايات اثرا في قتله وراء كونه كافرا غير ذي عهد ويقتضي ان قتله حد من الحدود التي تجب على اهل دار الإسلام من مسلم ومعاهد ليس بمنزلة رجل من اهل دار الحرب أخذ اسيرا اذ المقصود بقتله تطهير دار الإسلام
من فساد هذه الجنايات وحسم مادة جناية المعاهدين واذا كان قد نص على ان لا تزول عنه عقوبة ما ادخله على المسلمين من الضرر في زناه بالمسلمة فان لاتزول عنه عقوبة اضراره بسب رسول الله اولى لان ما يلحق المسلمين من المضرة في دينهم بسب رسول الله أكثر مما يلحقهم بالزنى بمسلمة اذا اقيم على الزاني الحد # ونصه هذا يدل على ان الذمي اذا قذف النبي او سبه ثم اسلم قتل بذلك ولم يقم عليه مجرد حد قذف واحد من الناس وهو ثمانون او سب واحد من الناس وهو التعزير كما انه لم يوجب على من زنى بمسلمة اذا اسلم حد الزنى وانما أوجب القتل الذي كان واجبا وعلى الرواية التي خرجها القاضي في كتبه القديمة ومن اتبعه فان الذمي يستتاب من السب فان تاب والا قتل # وكذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكرها أبو الخطاب وغيره كما يستتاب الزنديق والساحر ولم اجد للاستتابه في كلام الإمام احمد اصلا فاما استتابة المسلم فظاهرة كاستتابة من ارتد بكلام تكلم به واما استتابة الذمي فان يدعي إلى الإسلام فاما استتابة بالعود إلى الذمة فلا يكفي على المذهب لان قتله متعين # فاما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه ان الإمام يخيير فيه فيشرع استتابتة بالعود إلى الذمة لان اقراره بها جائز بعد هذا لكن
لاتجب هذه الاستتابة رواية واحدة وان اوجبنا الاستتابة بالإسلام على احدى الروايتين واما على الرواية التي ذكرها الخطابي فانه اذا اسلم الذمي سقط عنه القتل مع انه لايستتاب كالاسير الحربي وغيره من الكفار يقتلون قبل الاستتابة ولو اسلموا سقط عنهم القتل وهذا اوجه من قول من يقول بالاستتابة فان الذمي اذا نقض العهد جاز قتله لكونه كافرا محاربا وهذا لاتجب استتابته بالاتفاق اللهم الا ان يكون على قول من يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله فاذا اسلم جاز ان يقال عصم دمه كالحربي الاصلي بخلاف المسلم فانه اذا قبلت توبته فانه يستتاب ومع هذا فمن تقبل توبته فقد تجوز استتابته كما تجوز استتابة الاسير لانه من جنس دعاء الكافر إلى الإسلام قبل قتله لكن لايجب لكن المنصوص عن اصحاب هذا القول انه لا يقال له اسلم ولا لاتسلم لكن ان اسلم سقط عنه القتل فتلخص من ذلك انهما لايستتابان في المنصوص المشهور فان تابا لم تقبل توبتهما في المشهور ايضا
وحكي عنه في الذمي انه اذا اسلم سقط عنه القتل وان لم يستتب # وحكي عنه ان المسلم يستتاب وتقبل توبته وخرج عنه في الذمي انه يستتاب وهو بعيد # واعلم انه لافرق بين سبه بالقذف وغيره كما نص عليه الإمام احمد وعامة اصحابه وعامة العلماء # وفرق الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله بين القذف والسب فذكر الروايتين في المسلم وفي الكافر في القذف ثم قال وكذلك سبه بغير القذف الا ان سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لان سب الله تعالى يسقط بالإسلام فسب النبي اولى وسيأتي ان شاء الله تعالى تحرير ذلك اذا ذكرنا انواع السب فهذا مذهب الإمام احمد # واما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم
ومطرف ومن سب النبي قتل ولم يستتب قال ابن القاسم من سبه او شتمه او عابه او تنقصه فانه يقتل كالزنديق وقال أبو مصعب وابن أبي اويس سمعنا مالكا يقول من سب رسول الله او شتمه او عابه او تنقصه قتل مسلما كان او كافرا ولا يستتاب وكذلك قال محمد بن عبد الحكم اخبرنا اصحاب مالك انه قال
من سب النبي او غيره من النبيين من مسلم او كافر قتل ولم يستتب قال وروي لنا عن مالك الا ان يسلم الكافر وقال اشهب عنه من سب النبي من مسلم او كافر قتل ولم يستتب فهذه نصوصه نحوا من نصوص الإمام احمد والمشهور من مذهبه انه لاتقبل توبة المسلم اذا سب النبي وحكمه حكم الزنديق عندهم ويقتل عندهم حدا لا كفرا اذا اظهر التوبة من السب وروى الوليد بن مسلم عن مالك انه جعل سب النبي ردة قال اصحابه فعلى هذا يستتاب فان تاب نكل وان ابى قتل ويحكم له بحكم المرتد واما الذمي اذا سب النبي ثم اسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل على الروايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب وغيره احداهما يسقط
عنه قال مالك في رواية جماعة من اصحابه منهم ابن القاسم من شتم نبينا من اهل الذمة او احدا من الانبياء قتل الا ان يسلم وفي رواية لايقال له اسلم ولا لا تسلم ولكن ان اسلم فذلك له توبة وفي رواية مطرف عنه من سب رسول الله من المسلمين او احدا من الانبياء او انتقصه قتل وكذلك من فعل ذلك من اليهود والنصارى قتل ولايستتاب الا ان يسلم قبيل القتل قال ابن حبيب وسمعت ابن الماجشون يقوله وقاله لي ابن عبد الحكم وقاله لي اصبغ عن ابن
القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم قال مالك ان شتم النصراني النبي شتما يعرف فانه يقتل الا ان يسلم قاله مالك غير مرة ولم يقل يستتاب قال ابن القاسم ومحمل قوله عندي ان اسلم طائعا وعلى هذا فاذا اسلم بعد ان يؤخذ وثبت عليه السب ويعلم انهم يريدون قتله ان لم يسلم لم يسقط عنه القتل لانه مكره في هذه الحال والرواية الثانية لا يدرأ عنه إسلامه القتل قال محمد بن سحنون وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لايسقطه عن الذمي إسلامه وانما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فاما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي او غيره # واما مذهب الشافعي رضي الله عنه فلهم في ساب النبي وجهان احدهما هو كالمرتد اذا تاب سقط عنه القتل وهذا قول جماعة منهم وهو الذي يحكيه اصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي والثاني ان حد من سبه القتل فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة
لايسقط القتل الواجب بسب النبي بالتوبة قالوا ذكر ذلك أبو بكر الفارسي وادعى فيه الاجماع ووافقه الشيخ أبو بكر القفال وقال الصيدلاني قولا ثالثا وهو ان الساب بالقذف مثلا يستوجب القتل للردة لا للسب فان تاب زال القتل الذي هو موجب الردة وجلد ثمانين للقذف ولهذا الوجه لو كان السب غير قذف عزر
بحسبه ثم منهم من ذكر هذا الخلاف في المسلم اذا سب ثم اسلم ولم يتعرض للكلام في الذمي اذا سب ثم اسلم ومنهم من ذكر الخلاف في الذمي كالخلاف في المسلم اذا جدد الإسلام بعد السب ومنهم من ذكر في الذمي اذا سب ثم اسلم انه يسقط عنه القتل وهو الذي حكاه اصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلام الشافعي في موضع من الام فانه قال بعد ان ذكر نواقض العهد وذكر فيها سب النبي وايهم قال او فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد واسلم لم يقتل اذا كان ذلك قولا وكذلك اذا كان فعلا لم يقتل الا ان يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا او قصاصا فيقتل بحد او قصاص لانقض عهد وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يلسم ولكنه قال اتوب واعطي الجزية كما كنت اعطيها او على صلح اجدده عوقب ولم يقتل الاان يكون فعل فعلا يوجب القصاص او القود فاما ما دون هذا من الفعل او القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل قال فان فعل او قال مما وصفنا وشرط انه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من ان يقول اسلم او اعطي الجزية قتل واخذ ماله فيئا فقد ذكر ان من نقض العهد فانه تقبل توبته اما بان يسلم او بان يعود إلى الذمة # وذكر الخطابي قال قال مالك بن انس من شتم النبي من اليهود والنصارى قتل الا ان يسلم وكذلك قال احمد بن حنبل وقال
الشافعي يقتل الذمي اذا سب النبي وتبرأ منه الذمة واحتج في ذلك بخبر كعب بن الاشرف وظاهر هذا النقل والاستدلال يقتضي ان لايكف عنه اذا اظهر التوبة لانه لم يحك عنه شيئا ولان ابن الاشرف كان مظهرا للذمة مجيبا إلى اظهار التوبة لو قبلت منه # والكلام في فصلين # احدهما في استتابة المسلم وقبول توبة من سب النبي وقد ذكرنا ان المشهور عن مالك واحمد انه لا سيتتاب ولا تسقط القتل عنه توبته وهو قول الليث بن سعد وذكر القاضي عياض انه المشهور من قول السلف وجمهور العلماء وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي وحكي عن مالك واحمد انه تقبل توبته وهو قول أبي حنيفة واصحابه وهو المشهور من مذهب الشافعي بناء على قبول توبة
المرتد فنتكلم اولا في قبول توبته والذي عليه عامة اهل العلم من الصحابة والتابعين انه تقبل توبة المرتد في الجملة وروي عن الحسن البصري انه يقتل وان اسلم جعله كالزاني والسارق وذكر عن اهل الظاهر نحو ذلك ان توبته تنفعه عند الله ولكن لا تدرأ القتل عنه وروي عن احمد ان من ولد في الإسلام قتل ومن كان مشركا فاسلم استتيب وكذلك روي عن عطاء وهو قول اسحاق بن راهوية والمشهور عن عطاء واحمد الاستتابة مطلقا وهو الصواب ووجه عدم قبول التوبة قوله من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري
ولم يستثن ما اذا تاب وقال لايحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله الا باحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة متفق عليه فاذا كان القاتل والزاني لا يسقط عنهما القتل بالتوبة فكذلك التارك لدينه المفارق للجماعة وعن حكيم بن معاوية عن ابيه ان رسول الله قال لايقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه رواه الإمام احمد ولانه لايقتل لمجرد الكفر والمحاربة لانه لو كان كذلك لما قتل المترهب والشيخ الكبير الاعمى والمقعد والمراة ونحوهم فلما قتل هؤلاء علم ان الردة حد من الحدود والحدود لاتسقط بالتوبة # والصواب ما عليه الجماعة لان الله سبحانه وتعالى قال في كتابه ^ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لايهدي القوم الظالمين ^ إلى قوله تعالى ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم ^ فاخبر الله انه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة وذلك
يقتضى مغفرته له في الدنيا والاخرة ومن هذه حاله لم يعاقب بالقتل # يبين ذلك ما رواه احمد قال حدثنا على بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس ان رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فانزل الله تعالى ^ كيف يهدي الله قوما كفروا ^ إلى اخر الاية فبعث بها قومه اليه فرجع تائبا فقبل
النبي ذلك منه وخلى عنه ورواه النسائي من حديث داود مثله # وقال الإمام احمد حدثنا علي عن خالد عن عكرمة بمعناه
وقال والله ما كذبني قومي على رسول الله ولا كذب رسول الله على الله والله اصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل رسول الله ذلك منه وخلى عنه # وقد حدثنا حجاج عن ابن جريح حدثت عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى ^ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق ^ في أبي عامر بن النعمان
ووحوح بن الاسلت والحارث بن سويد بن الصامت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى اهليهم هل لنا من توبة فنزلت ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك ^ في الحارث بن سويد بن الصامت
وقال حدثنا عبد الرزاق اخبرنا جعفر عن حميد عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القران ^ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم ^ إلى قوله ^ غفور رحيم ^ قال فحملها اليه رجل من قومه فقراها عليه فقال الحارث والله انك ما علمت لصادق وان رسول الله لأصدق منك وان الله لأصدق الثلاثة قال فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه
وكذلك ذكر غير واحد من اهل العلم انها نزلت في الحارث بن سويد وجماعة معه ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة كهيئة البدأ ولحقوا بمكة كفارا فأنزل الله فيهم هذه الاية فندم الحارث وارسل إلى قومه ان سلوا رسول الله هل لي توبة ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم ^ فحملها اليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث انك والله ما علمت لصدوق وان رسول الله لاصدق منك وان الله عز وجل لاصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة واسلم وحسن إسلامه # فهذا رجل قد ارتد ولم يقتله النبي بعد عوده إلى الإسلام ولان الله سبحانه قال في اخباره عن المنافقين ^ أبا لله واياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن
طائفة منكم نعذب طائفة ^ فدل على ان الكافر بعد ايمانه قد يعفى عنه وقد يعذب وانما يعفى عنه اذا تاب فعلم ان توبته مقبولة # وذكر اهل التفسير انهم كانوا جماعة وان الذي تاب منهم رجل واحد يقال له مخشي بن حمير وقال بعضهم كان قد انكر عليهم بعض ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الايات بريء من نفاقه وقال اللهم اني لا ازال اسمع اية تقر عيني بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك وذكروا القصة
وفي الاستدلال بهذا نظر ولان الله تعالى قال ^ ياايها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ إلى قوله ^ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ومانقموا الا ان اغناهم الله ورسوله من فضله فان يتوبوا يك خيرا لهم وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما في الدنيا والاخرة وما لهم في الارض من ولي ولا نصير ^ # وذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه وانهم لا يعذبون في الدنيا ولا في الاخرة عذابا اليما بمفهوم الشرط ومن جهة التعليل ولسياق الكلام والقتل عذاب اليم فعلم ان من تاب منهم لم يعذب بالقتل لان الله سبحانه قال ^ من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة وان الله لايهدي القوم الكافرين اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك هم الغافلون لاجرم انهم في الاخرة هم الخاسرون ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم ^ فتبين ان الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد ان فتنوا
عن دينهم بالكفر بعد الإسلام وجاهدوا وصبروا فان الله يغفر لهم ويرحمهم ومن غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه عليه في الدنيا ولا في الاخرة # وقال سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن عكرمه خرج ناس من المسلمين يعني مهاجرين فأدركهم المشركون ففتنوهم فاعطوهم الفتنة فنزلت فيهم ^ ومن الناس من يقول امنا بالله فإذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ^ الاية ونزل فيهم ^ من كفر بالله من بعد ايمانه ^ الاية ثم انهم خرجوا مرة اخرى فانقلبوا حتى اتوا المدينة فانزل الله فيهم ^ ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ^ إلى اخر الاية ولأنه سبحانه قال ^ ومن يرتدد
منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة ^ فعلم ان من لم يمت وهو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار وذلك دليل على قبول التوبة وصحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل ولعموم قوله تعالى ^ فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين ^ إلى قوله ^ فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ^ فان هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك وتخلية سبيله اذا تاب من شركه واقام الصلاة واتى الزكاة سواء كان مشركا اصليا او مشركا مرتدا # وايضا فان عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد على عهد النبي ولحق بمكة وافترى على الله ورسوله ثم انه بعد ذلك بايعه النبي وحقن دمه وكذلك الحارث بن سويد أخو الجلاس بن سويد وكذلك جماعة من اهل مكة اسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم وقصص هؤلاء وغيرهم مشهورة عند اهل العلم بالحديث والسيرة
وايضا فالاجماع من الصحابة رضي الله عنهم ظاهر على ذلك فان النبي لما توفى ارتد أكثر العرب الا اهل مكة والمدينة والطائف واتبع قوم منهم من تنبا فيهم مثل مسيلمة والعنسي وطليحة الاسدي فقاتلهم الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع اكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك ولم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام ومن رؤوس من كان قد ارتد ورجع طليحة الاسدي المتنبي والاشعث بن قيس وخلق كثير لا يحصون والعلم بذلك ظاهر
لاخفاء به على أحد وهذه الرواية عن الحسن فيها نظر فان مثل هذا لا يخفى عليه ولعله اراد نوعا من الردة كظهور الزندقة ونحوها او قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما ونحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف # وأما قوله من بدل دينه فاقتلوه فنقول بموجبه فانما يكون مبدلا اذا دام على ذلك واستمر عليه فاما اذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل وكذلك اذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة بل هو متمسك لدينه ملازم للجماعة وهذا بخلاف القتل والزنى فانه فعل صدر عنه لايمكن دوامه عليه بحيث اذا تركه يقال انه ليس بزان ولا سارق ولا قاتل فمتى وجد منه ترتب حده عليه وان عزم على ان لا يعود اليه لان العزم على ترك العود لايقطع مفسدة ما مضى من الفعل # على ان قوله التارك لدينه المفارق للجماعة قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله لايحل دم امريء مسلم يشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله الا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد إحصان فانه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فانه يقتل او يصلب او ينفى من الارض أو يقتل نفسا
فيقتل بها فهذا المستثنى هنا هو المذكور في قوله التارك لدينه المفارق للجماعة ولهذا وصفه بفراق الجماعة وانما يكون هذا بالمحاربة # يؤيد ذلك ان الحديثين تضمنا انه لايحل دم من يشهد ان لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله والمرتد لم يدخل في هذا العموم فلا حاجة إلى استثنائه وعلى هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين ويفرق بين ترك الدين وتبديله او يكون المراد به من ارتد وحارب كالعرنيين ومقيس بن صبابة ممن ارتد وقتل واخذ المال فان هذا يقتل بكل حال وان تاب بعد القدرة عليه ولهذا والله اعلم استثني هؤلاء الثلاثة الذين يقتلون بكل حال وان اظهروا التوبة بعد القدرة ولو كان اريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله المفارق للجماعة فان مجرد الخروج عن الدين يوجب القتل وان لم يفارق جماعة الناس فهذا وجه يحتمله الحديث وهو والله اعلم مقصود هذا الحديث
واما قوله لا يقبل الله توبة عبد اشرك بعد إسلامه فقد رواه ابن ماجة من هذا الوجه ولفظه لايقبل الله من مشرك اشرك بعد إسلامه عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين وهذا دليل على قبول إسلامه اذا رجع إلى المسلمين وبيان ان معنى الحديث ان توبته لاتقبل ما دام مقيما بين ظهراني المشركين مكثرا لسوادهم كحال اللذين قتلوا ببدر ومعناه ان من اظهر الإسلام ثم فتن عن دينه حتى ارتد فانه لاتقبل توبته وعمله حتى يهاجر إلى المسلمين وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى ^ ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم ^ الاية
وايضا فان ترك الدين وتبديله وفراق الجماعة يدوم ويستمر لانه تابع للاعتقاد والاعتقاد دائم فمتى قطعه وتركه عاد كما كان ولم يبق لما مضى حكم اصلا ولا فيه فساد ولا يجوز ان يطلق عليه القول بانه مبدل للدين ولا انه تاركك لدينه كما يطلق على الزاني والقاتل بان هذا زان وقاتل فان الكافر بعد إسلامه لايجوز ان يسمى كافرا عند الاطلاق ولان تبديل الدين وتركه في كونه موجبا للقتل بمنزلة الكفرالاصلي والحراب في كونهما كذلك فاذا كان زوال الكفر بالإسلام او زوال المحاربة بالعهد يقطع حكم الكفر فكذلك اذا زال تبديل الدين وتركه بالعود إلى الدين واخذه انقطع حكم ذلك التبديل والترك
فصل # اذا تقرر ذلك فان الذي عليه جماهير اهل العلم ان المرتد يستتاب ومذهب مالك واحمد انه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابه ثلاثة ايام وهل ذلك واجب او مستحب على روايتين عنهما اشهرهما عنهما ان الاستتابة واجبة وهو قول اسحاق بن راهوية # وكذلك مذهب الشافعي هل الاستتابه واجبة او مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب فان تاب في الحال والا قتل وهو قول ابن المنذر والمزني وفي القول الاخر يستتاب ثلاثا كمذهب مالك
واحمد وقال الزهري وابن القاسم في رواية يستتاب ثلاث مرات # ومذهب أبي حنيفة انه يستتاب ايضا فان لم يتب والا قتل والمشهور عندهم ان الاستتابة مستحبة وذكر الطحاوي عنهم لايقتل المرتد حتى يستتاب وعندهم يعرض عليه الإسلام فان اسلم والاقتل مكانه الا ان يطلب ان يؤجل فانه يؤجل ثلاثة ايام
وقال الثوري يؤجل ما رجيت توبته وكذلك معنى قول النخعي # وذهب عبيد بن عمير وطاوس إلى انه يقتل ولا يستتاب لانه
امر بقتل المبدل دينه والتارك لدينه المفارق للجماعة ولم يأمر باستتابتة كما امر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع انهم لو تابوا لكففنا عنهم # يؤيد ذلك ان المرتد اغلظ كفرا من الكافر الاصلي فاذا جاز قتل الاسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد الاولى # وسر ذلك انا لانجيز قتل كافر حتى نستتيبه بان يكون قد بلغته دعوة محمد إلى الإسلام فان قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز والمرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الاصلي الذي بلغته وهذا هو عله من راى الاستتابة مستحبة فان الكفار يستحب ان ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب وان كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد ولايجب ذلك فيهما
نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فان الاستتابة هنا لابد منها # ويدل على ذلك ايضا ان النبي اهدر يوم الفتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ودم مقيس بن صبابه ودم عبد الله بن خطل وكانوا مرتدين ولم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان وتوقف عن مبايعة بن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم ان قتل المرتد جائز ما لم يسلم وانه لا يستتاب # وايضا فان النبي عاقب العرنيين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما اوجب موتهم ولم يستتبهم ولانه فعل شيئا من
الاسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابتة كالكافر الاصلي وكالزاني وكقاطع الطريق ونحوهم فان كل هؤلاء من قبلت توبته ومن لم تقبل يقتل قبل الاستتابة ولان المرتد لو امتنع بان يلحق بدار الحرب او بان يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام فانه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك اذا كان في ايدينا # وحجة من رأى الاستتابة اما واجبة او مستحبة قوله سبحانه وتعالى ^ قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ^ امر الله ورسوله ان يخبر جميع الذين كفروا انهم ان انتهوا غفر لهم ما سلف وهذا معنى الاستتابة والمرتد من الذين كفروا والامر للوجوب فعلم ان استتابة المرتد واجبة ولا يقال فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام لان هذا الكفر اخص من ذلك الكفر فانه يوجب قتل كل من فعله ولا يجوز استبقاؤه وهو لم يستتب من هذا الكفر # وايضا فان النبي بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد ومن كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد ان كانت قد نزلت فيهم اية التوبة فتكون استتابته مشروعة ثم ان هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام والابلاغ لدينه فيكون واجبا
وعن جابر رضى الله عنه ان امراة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فامر النبي ان يعرض عليها الإسلام فان رجعت والا قتلت # وعن عائشة رضى الله عنها قالت ارتدت امراة يوم أحد فامر النبي ان تستتاب فان تابت والا قتلت رواهما الدارقطني # وهذا ان صح امر بالاستتابة والامر للوجوب والعمدة فيه
إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الاشعري فسأله عن الناس فاخبره ثم قال هل من مغربة خبر قال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه قال عمر فهلا حبستموه ثلاثا واطعتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع امر الله اللهم اني لم احضر ولم امر ولم ارض اذ بلغني رواه
مالك والشافعي واحمد قال اذهب إلى حديث عمر وهذا يدل على ان الاستتابة واجبة والا لم يقل عمر لم ارض اذ بلغني # وعن انس بن مالك قال لما افتتحنا تستر بعثني الاشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال ما فعل البكريون جحينة واصحابه قال فاخذت به في حديث اخر قال فقال ما فعل النفر البكريون قال فلما رايته لا يقطع قلت يا امير المؤمنين ما فعلوا انهم قتلوا ولحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام وقاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال فقال لان اكون اخذتهم سلما كان احب الي مما على وجه الارض من صفراء او بيضاء قال فقلت
وما كان سبيلهم لو اخذتهم سلما قال كنت اعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فان ابوا استودعتهم السجن # وعن عبد الله بن عتبة قال اخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من اهل العراق قال فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه فكتب اليه ان اعرض عليهم دين الحق وشهادة ان لا اله الا الله فان قبلوا فخل عنهم وان لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه ولم يقبلها
بعضهم فقتله رواهما الإمام احمد بسند صحيح # وعن العلاء أبي محمد ان عليا رضي الله عنه اخذ رجلا من بني بكر بن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فابى فقدمه ليضرب عنقه فنادى يالبكر فقال علي اما انك واجده إمامك في النار رواه الخلال وصاحبه أبو بكر # وعن أبي موسى رضى الله عنه انه اتى برجل قد ارتد عن
الإسلام فدعاه عشرين لليلة او قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فابى فضرب عنقه رواه أبو داود # وروى من وجه اخر ان أبا موسى استتابه شهرا ذكره الإمام احمد # وعن رجل عن ابن عمر قال يستتاب المرتد ثلاثا رواه الإمام احمد # وعن أبي وائل عن ابن معين السعدي قال مررت في السحر
بمسجد بني حنيفة وهم يقولون ان مسيلمة رسول الله فاتيت عبد الله فاخبرته فبعث الشرط فجاءوا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم وضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا احدث قوم في امر فقتلت بعضهم وتركت بعضهم فقال اني سمعت رسول الله وقدم اليه هذا وابن اثال فقال اتشهدان اني رسول الله فقالا اتشهد انت ان سيلمة رسول الله فقال النبي امنت بالله ورسوله ولو كنت قاتلا وفدا لقتلتكما قال فلذلك قتلته رواه عبد الله بن احمد بإسناد صحيح
فهذه اقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت اجماعا # والفرق بين هذا وبين الكافر الاصلي من وجوه # احدها ان توبة هذا اقرب لان المطلوب منه اعادة الإسلام والمطلوب من ذاك ابتداؤه والاعادة أسهل من الابتداء فاذا اسقط عنا استتابة الكافر لصعوبتها لم يلزم سقوط استتابة المرتد # الثاني ان هذا يجب قتله عينا وان لم يكن من اهل القتال وذاك لايجوز ان يقتل الا ان يكون من اهل القتال ويجوز استبقاؤه بالامان والهدنة والذمة والارقاق والمن والفداء فاذا كان حده اغلظ فلم يقدم عليه الا بعد الاعذار اليه بالاستتابة بخلاف من يكون جزاؤه دون هذا # الثالث ان الاصلي قد بلغته الدعوة وهي استتابة عامة من كل كفر واما هذا فانما نستتيبه من التبديل وترك الدين الذي كان عليه ونحن لم نصرح له بالاستتابة من هذا ولا بالدعوة إلى الرجوع
واما ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس بن صبابه فانه كانت لهم جرائم زائدة على الردة وكذلك العرنيون فان أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة واخذوا الاموال فصاروا قطاع طريق ومحاربين لله ورسوله وفيهم من كان يؤذي بلسانه اذى صار به من جنس المحاربين فلذلك لم يستتابوا على ان الممتنع لا يستتاب وانما يستتاب المقدور عليه ولعل بعض هؤلاء قد استتيب قبل ذلك
فصل # ذكرنا حكم المرتد استطرادا لان الكلام في الساب متعلق به تعلقا شديدا فمن قال ان ساب النبي من المسلمين يستتاب قال انه نوع من الكفر فان من سب الرسول او جحد نبوته او كذب بآية من كتاب الله او تهود او تنصر ونحو ذلك كل هؤلاء قد بدلوا دينهم وتركوه وفارقوا الجماعة فيستتابون وتقبل توبتهم كغيرهم # يؤيد ذلك ان كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المهاجر في المراة السابة ان حد الانياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك منها مسلم فهو مرتد او معاهد فهو محارب غادر # وعن ابن عباس رضي الله عنهما ايما مسلم سب الله او سب احدا من الانبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فان رجع والا قتل
والاعمى الذي كانت له أم ولد تسب النبي كان ينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فقتلها بعد ذلك فان كانت مسلمة فلم يقتلها حتى استتابها وان كانت ذمية وقد استتابها فاستتابة المسلم اولى # وايضا فاما ان يقتل الساب لكونه كفر بعد إسلامه او لخصوص السب والثاني لا يجوز لان النبي قال لا يحل دم امريء مسلم يشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله الا باحدى ثلاث كفر بعد إسلام او زني بعد احصان او قتل نفس فيقتل بها # وقد صح ذلك عنه من وجوه متعددة وهذا الرجل لم يزن ولم يقتل فان لم يكن قتله لاجل الكفر بعد الإسلام امتنع قتله فثبت انه انما يقتل لانه كفر بعد إسلامه وكل من كفر بعد إسلامه فان توبته تقبل
لقوله تعالى ^ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم ^ إلى قوله ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا ^ الاية ولما تقدم من الادلة الدالة على قبول توبة المرتد # وايضا فعموم قوله تعالى ^ قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ^ وقوله الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ماكان قبله رواه مسلم يوجب ان من اسلم غفر له كل ما مضى # وايضا فان المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم ^ إلى قوله ^ لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ^ وقد قيل فيهم ^ ان نعف
عن طائفة منكم نعذب طائفة ^ مع ان هؤلاء قد اذوه بالسنتهم وايديهم ايضا ثم العفو مرجو لهم وانما يرجى العفو مع التوبة فعلم ان توبتهم مقبولة ومن عفى عنه لم يعذب في الدنيا ولا في الاخرة # وايضا فقوله سبحانه وتعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ إلى قوله ^ فان يتوبوا يك خيرا لهم وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما ^ الاية فانها تدل على أن المنافق اذا كفر بعد إسلامه ثم تاب
لم يعذب عذابا اليما في الدنيا ولا في الاخرة والقتل عذاب اليم فعلم انه لا يقتل # وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه انها نزلت في رجال من المنافقين اطلع احدهم على النبي فقال علام تشتمني انت واصحابك فانطلق الرجل فجاء باصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فانزل الله هذه الاية # وعن الضحاك قال خرج المنافقون مع رسول الله إلى تبوك فكانوا اذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله واصحابه وطعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله فقال النبي يا اهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا لرسول الله ما قالوا شيئا من ذلك فانزل الله هذه الاية اكذابا لهم
وايضا فلا ريب ان توبتهم فيما بينهم وبين الله مقبولة اذا كانت توبة صحيحة ويغفر لهم في ضمنها ما نالوه من عرض رسول الله بما ابدلوه من الايمان به وما في ضمن الايمان به من محبته وتعظيمه وتعزيزه وتوقيره واعتقاد براءته من كل ما رموه به وهذه التوبة صحت فيما بينهم وبين الله وان تضمنت التوبة من حقوق الادميين لاوجه # احدها انه قد قيل كفارة الغيبة الاستغفار لمن استغتبته وقد ذهب كثير من العلماء او اكثرهم إلى مثل ذلك فجاز ان يكون ما اتى به من الايمان برسول الله الموجب لانواع الثناء عليه والتعظيم له ما حيا لما ناله من عرض
الثاني ان حق الانبياء تابع لحق الله وانما عظمت الوقيعة في اعراضهم لما يتضمن ذلك من الكفر والوقيعة في دين الله وكتابه ورسالته فاذا تبعت حق الله في الوجوب تبعته في السقوط لئلا تكون أعظم منه ومعلوم ان الكافر تصح توبته من حقوق الله فكذلك من حقوق الانبياء المتعلقة بنبوتهم بخلاف التوبة من الحقوق التي تجب للناس بعضهم على بعض # الثالث ان الرسول قد علم منه انه يدعوالناس إلى الايمان به واتباعه ويخبرهم ان من فعل ذلك فقد غفر الله له كل ما اسلفه في كفره فيكون قد عفي لمن قد اسلم عما ناله من عرضه # وبهذه الوجوه يظهر الفرق بين سب الرسول وبين سب واحد من الناس فانه اذا سب واحدا من الناس لم يأت بعد سبه ما يناقض موجب السب وسبه حق ادمي محض لم يعف عنه والمقتضي للسب هو موجود بعد التوبة والإسلام كما كان موجودا قبلها ان يزجر عنه بالحد وهناك كان الداعي اليه الكفر وقد زال بالايمان واذا ثبت ان توبته وايمانه مقبول منه فيما بينه وبين الله فاذا اظهرها وجب ان يقبلها منه لما روى أبو سعيد في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي في القسمة فقال خالد بن الوليد يارسول الله الا
اضرب عنقه فقال لا لعله ان يكون يصلي قال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله لم اومر ان انقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم رواه مسلم # وقال لاسامة في الرجل الذي قتله بعد ان قال لا اله الا الله كيف قتلته بعد ان قال لا اله الا الله قال انما قالها تعوذا قال فهلا شققت عن قلبه # وكذلك في حديث المقداد نحو هذا وفي ذلك نزل قوله تعالى
^ ولا تقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ^ ولا خلاف بين المسلمين ان الحربي اذا اسلم عند رؤية السيف وهو مطلق او مقيد يصح إسلامه وتقبل توبته من الكفر وان كانت دلالة الحال تقضي ان باطنه بخلاف ظاهره # وايضا فان النبي كان يقبل من المنافقين علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع اخبار الله له انهم اتخذوا ايمانهم جنة وانهم ^ يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ^ فعلم ان من اظهر الإسلام والتوبة من الكفر قبل ذلك منه فهذا قول هؤلاء وسيأتي ان شاء الله تعالى الاستدلال على تعين قتله من غير استتابة والجواب عن هذه الحجج
الفصل الثاني
في الذمي اذا سبه ثم تاب # وقد ذكرنا فيه ثلاثة اقوال # احدها يقتل بكل حال وهو المشهور من مذهب الإمام احمد ومذهب مالك اذا تاب بعد اخذه وهو وجه لاصحاب الإمام الشافعي # الثاني يقتل الا ان يتوب بالإسلام وهو ظاهر الرواية الاخرى عن مالك واحمد # والثالث يقتل الا ان يتوب بالإسلام او بالعودة إلى الذمة كما كان وعليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي الا ان يتاول وعلى هذا فانه
يعاقب اذا عاد إلى الذمة ولا يقتل # فمن قال ان القتل يسقط عنه بالإسلام فانه يستدل بمثل ما ذكرناه في المسلم فانه كله يدل على ان الكافر ايضا اذا اسلم سقط عنه موجب السب ويدل على ذلك ايضا ان الصحابة ذكروا انه اذا فعل ذلك فهو غادر محارب وانه ناقض للعهد ومعلوم ان من حارب ونقض العهد اذا اسلم عصم دمه وماله وقد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعرى وكعب بن زهير وابي سفيان بن الحارث وغيرهم يهجون النبي بانواع الهجاء ثم اسلموا فعصم الإسلام دماءهم واموالهم وهؤلاءوان كانوا محاربين لم يكونوا من اهل العهد فهو دليل على ان حقوق الادميين التي يستحلها الكافر اذا فعلها ثم اسلم سقطت عنه كما تسقط عنه حقوق الله ولهذا اجمع المسلمون اجماعا مستنده كتاب الله وسنة نبيه الظاهرة ان الكافر الحربي اذا اسلم لم يؤخذ بما كان اصابه من المسلمين من دم او مال او عرض والذمي اذا سب رسول الله فانه يعتقد حل ذلك وعقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فاذا اسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين واموالهم واعراضهم فان عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه وان كان
لايوجب علينا الكف عن سب دينهم والطعن فيه فهذا اقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء وان كان الاستدلال به خطا # وايضا فان الذمي اما ان يقتل اذا سب لكفره اوحرابه كما يقتل الحربي الساب او يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية وقطع الطريق على ذمي والثاني باطل فتعين الاول وذلك لان السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لايوجب الا الجلد بل لايوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم انما صولح على الكف عنه والامساك فمتى اظهر السب زال العهد وصار حربيا ولان كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل ولا دليل على ذلك اذا أكثر ما يذكر من الادلة انما تفيد انه يقتل وذلك متردد بين كون القتل لكفره وحرابه او لخصوص السب ولا يجوز اثبات الاحكام بمجرد الاستحسان
والاستصلاح فان ذلك شرع للدين بالراي وذلك حرام لقوله تعالى
^ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله ^ والقياس في المسالة متعذر لوجهين # احدهما ان كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الاسباب والشروط والموانع لان ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة وقدرها وذلك متعذرا ولان ذلك يخرج السبب عن ان يكون سببا وشرط القياس بقاء حكم الاصل ولانه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن الحاق السب بها لاختلافهما نوعا وقدرا واشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الالحاق بالاتفاق وكون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل والا كان شرعا بالراي ووضعا للدين بالمعقول وذلك انحلال عن معاقد
الدين وانسلال عن روابط الشريعة وانخلاع من ربق الإسلام وسياسة للخلق بالاراء الملكية والانحاء العقليه وذلك حرام بلا ريب فثبت انه انما يقتل لاجل كفره وحرابه ومعلوم ان الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق # وايضا فالذمي لو كان يسب النبي فيما بينه وبين الله تعالى ويقول فيه ما عسى ان يقول من القبائح ثم اسلم واعتقد نبوته ورسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات ولا يجوز ان يقال ان النبي يطالبه بموجب سبه في الدنيا ولا في الاخرة ومن قال ذلك علم انه مبطل في مقالته للعلم بان الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات واشنعها وقد اخبر الله تعالى عنهم في القران ببعضها مثل قولهم ساحر وكاهن ومجنون ومفتر وقول اليهود في مريم بهتانا عظيما ونسبتها إلى الفاحشة وان المسيح لغير رشدة وهذا هو القذف الصريح ثم لو اسلم اليهودي واقر بنبوة المسيح وانه عبد الله ورسوله وانه بريء مما رمته به اليهود لم يبقى للسميح عليه تبعه # ونحن نعلم ان من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الاميين ومنهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن الف الدين وعادته واغراض اخر تمنع من
الدخول في الإسلام ومنهم المعرض عن ذلك الذي لاينظر فيه ولا يتفكر فهؤلاء قد لا يسبونه ومنهم من يعتقد فيه العقيدة الرديه ويكف عن سبه وشتمه او يسبه ويشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به ولا يظهر ذلك ومنهم من يظهر ذلك عند المسلمين ومنهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي وغير النبي كالقذف ونحوه ولكن اذا اسلم الكفار غفر لهم جميع ذلك ولم يجئ في كتاب ولا سنة ان الكافر اذا اسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب والسنة دليلان على ان الإسلام يجب ما قبله مطلقا واذا كان اثم السب مغفورا له لم يجز ان يعاقب عليه بعد الإسلام # وايضا فلو سب الله سبحانه ثم اسلم لم يؤخذ بموجب ذلك وقد قال النبي فيما يروي عنه ربه تبارك وتعالى شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن ادم وما ينبغي له ذلك اما شتمه اياي فقوله اني اتخذت ولدا وانا الاحد الصمد
ثم لو تاب النصراني ونحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا ولا في الاخرة بالاتفاق قال تعالى ^ لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة وما من اله الا اله واحد وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم افلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ^ فسب النبي لا يكون أعظم من سب الله فانه انما عظم وصار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فاذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع اولى وبهذا يظهر الفرق بين سب الانبياء وسب غيرهم من المؤمنين فان سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام وما بعده والاذى والغضاضه التي تلحق المسبوب قبل الإسلام الساب وبعده سواء بخلاف سب النبي فانه قد زال موجبه بالإسلام وتبدل بالتعزير له والتوقير والثناء عليه والمدح له كما تبدل السب لله بالايمان وتوحيده وتقديسه وتحميده وعبادته # يوضح ذلك ان الرسول له نعت البشرية ونعت الرسالة كما قال ^ سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا ^ فمن حيث هو بشر له احكام البشر ومن حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه وفضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين وموجب
للعقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن انما اوجب القتل من حيث هو رسول فقط لان السب المتعلق بالبشرية لايوجب قتلا وسبه من حيث هو رسول حق لله فقط فاذا اسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب ويبقى حق بشريته من هذا السب وحق البشرية انما يوجب جلد ثمانين # فمن قال انه يجلد لقذفه بعد إسلامه ويعزر لسبه بغير القذف قال ان الإسلام يسقط حق الله وحق الرسالة ويبقى حق خصوص الادمية كغيره من الادميين فيؤدب سابه كما يؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه # ومن قال انه لايعاقب بشيء قال هذا الحق اندرج في حق النبوة وحق البشرية انغمر في حق الرسالة فان الجريمة الواحدة اذا اوجبت القتل لم توجب معه عقوبة اخرى عند أكثر الفقهاء ولهذا اندرج حق الله المتعلق بالقتل والقذف في حق الادمي فاذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمه كذلك هنا اندرج حق البشرية في حق الرسالة وفي هذين الاصلين المقيس عليهما خلاف بين الفقهاء فان مذهب مالك ان القاتل يعزره الإمام اذا عفا عنه ولي الدم
وعند أبي حنيفة ان حد القذف لا يسقط بالعفو وكذلك تردد من قال ان القتل يسقط بالإسلام هل يؤدب حدا او تعزيرا على خصوص القذف والسب ومن قال هذا القول قال لا يستدل علينا بان الصحابة قتلوا سابه او امروا بقتل سابه او ارادوا قتل سابه من غير استتابة فان الذمي اذا سبه لا يستتاب بلا تردد فانه يقتل لكفره الاصلي كما يقتل الاسير الحربي ومثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد اجماعا لكن لو اسلم عصم دمه # كذلك نقول من شتمه من اهل الذمة فانه يقتل ولا يستتاب كانه حربي اذى المسلمين وقد اسرناه فانا نقتله فان اسلم سقط عنه القتل # وكذلك أكثر نصوص مالك واحمد وغيرهما انما هي انه يقتل ولا يستتاب وهذا لاتردد فيه اذا سبه الذمي # ومن قال ان الذمي يستتاب فقد يقول انه قد لا يعلم انه
اذا اسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد واولى فان قتل الكفار قبل الاعذار اليهم وتبليغهم رسالات الله غير جائز # ومن لم يستتبه قال هذا هو القياس المثلي في قتل كل كافر اصلي اسير وقد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه ان النبي وخلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الاسرى من غير عرض للإسلام عليهم وان كانوا ناقضين للعهد وذلك في قصة قريضه وخيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من اهل العلم بالسيرة فان رسول الله اخذهم اسرى بعد ان نقضوا العهد وضرب رقابهم من غير ان يعرض عليهم الإسلام وقد امر بقتل ابن الاشرف من غير عرض للإسلام عليه وانما قتله لانه كان يؤذي الله ورسوله وقد نقض العهد # ومن قال انه اذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته او خير الإمام فيه قال انه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد وهو صاغر فيجب الكف عنه # واعلم ان هنا معنى لابد من التنبيه عليه وهو ان الاسير الحربي الاصل لو اسلم فان إسلامه لا يزيل عنه حكم الاسر بل ان يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء والصبيان كاحد القولين في مذهب الشافعي
واحمد او يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الاخر في المذهبين
والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فاسرت ثقيف رجلين من اصحاب النبي واسر اصحاب رسول الله رجلا من بني عقيل واصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق فقال
يا محمد فاتاه فقال ما شانك فقال بم اخذتني واخذت سابقة الحاج يعني العضباء فقال اخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف ثم انصرف عنه فناداه فقال يا محمد يامحمد وكان رسول الله رحيما رقيقا فرجع اليه فقال ما شانك قال اني مسلم قال لو قلتها وانت تملك امرك افلحت كل الفلاح ثم انصرف فناداه يا محمد يا محمد فاتاه فقال ما شانك فقال اني جائع فاطعمني وظمان فاسقني قال هذه حاجتك ففدى بالرجلين فاخبر النبي انه اذا اسلم بعد الاسر لم يفلح كل الفلاح كما اذا اسلم قبل الاسر وان ذلك الإسلام لا يوجب اطلاقه
وكذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه اظهر الإسلام بعد الاسر بل اخبر انه قد كان اسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي حتى فدى نفسه والقياس يقتضي ذلك فانه لو اسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الاسير لا يمنع دوام اسره لانه نوع رق ومجوز للاسترقاق كما ان إسلامه لا يوجب ان يرد عليه ما اخذ من ماله قبل الإسلام فاذا كان هذا حال من اسلم بعد ان اسر ممن هو حربي الاصل فهذا الناقض للعهد حاله اشد بلا ريب فاذا اسلم بعد ان نقض العهد وهو في ايدينا لم يجز ان يقال انه يطلق بل حيث قلنا قد عصم دمه فاما ان يصير رقيقا وللإمام ان يبيعه بعد ذلك وثمنه لبيت المال او انه يتخير فيه وهذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد ومن لم يجوز استرقاقهم فانه يجعل هذا بمنزلة المرتد ويقول اذا عاد إلى الإسلام لم يسترق ولم يقتل ومعنى قوله لو اسلمت وانت تملك امرك افلحت كل الفلاح دليل على ان من اسلم وهو لا يملك امره لم يكن حاله كحال من اسلم وهو مالك امره فلا تجوز التسوية بينهما بحال وفي هذا ايضا دليل على انه اذا بذل الجزية لم يجب اطلاقه فانه اذا لم يجب اطلاقه بالإسلام فببذل الجزية اولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه
فصل # والدليل على ان المسلم يقتل اذا سب من غير استتابة وان اظهر التوبة بعد اخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا ^ # وقد تقدم ان هذا يقتضي قتله ويقتضي تحتم قتله وان تاب بعد الاخذ لانه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فاذا كانت عقوبة اولئك لا تسقط اذا تابوا بعد الاخذ فعقوبة هؤلاء اولى واحرى لان عقوبة كليهما على الاذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه # وايضا فانه قال ^ لئن لم ينته المنافقون ^ إلى قوله
^ ملعونين اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلا ^ وهو امر يقتضي ان من لم ينته فانه يؤخذ ويقتل فعلم ان الانتهاء العاصم ما كان قبل الاخذ # وايضا فانه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم ان الملعون متى اخذ قتل اذا لم يكن قد انتهى قبل الاخذ وهذا ملعون فيدخل في الاية # يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى ^ ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم ^ قال هذه في شأن عائشة وازواج النبي خاصة ليس فيها توبة ثم قرا ^ والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا باربعة شهداء ^ إلى قوله ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا ^ فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لاولئك توبة قال فهم رجل ان يقوم فيقبل راسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين ان من لعن هذه اللعنة لا توبة له واللعنة الاخرى ابلغ منها # يقرره ان قاذف امهات المؤمنين انما استحق هذه اللعنة على قوله لاجل النبي فعلم ان مؤذيه لا توبة له # وايضا قوله سبحانه ^ انما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الارض فسادا ^ الاية # وهذا الساب محارب لله ورسوله كما تقدم تقريره من انه محاد لله ورسوله وان المحاد لله ورسوله مشاق لله ورسوله محارب لله ورسوله ولان المحارب ضد المسالم والمسالم الذي تسلم منه ويسلم منك ومن اذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب وقد تقدم من غير وجه ان النبي سماه عدوا له ومن عاداه فقد حاربه وهو من أعظم الساعين في الارض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين ^ واذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ^ # وكل مل ما في القران من ذكر الفساد مثل قوله ^ ولاتفسدوا في الارض بعد اصلاحها ^ وقوله ^ وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ^ إلى قوله ^ والله لايحب الفساد ^ وغير ذلك فان السب داخل فيه فانه اصل لكل فساد في الارض اذ هو افساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين والدنيا والاخرة
واذا كان هذا الساب محاربا لله ورسوله ساعيا في الارض فسادا وجب ان يعاقب باحدى العقوبات المذكورة في الاية الا ان يتوب قبل القدرة عليه وقد قدمنا الادلة على ان عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل في قطع الطريق فيجب ان يقام ذلك عليه الا ان يتوب قبل القدرة عليه وهذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك انما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه ولهذا كان الكافر الحربي اذا اسلم بعد الاخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي للعقيلي لو قلتها وانت تملك امرك افلحت كل الفلاح بل يعاقب بالاسترقاق او بجواز الاسترقاق وغيره ولكن هذا مرتد محارب فلم يمكن استرقاقه كالعرنيين اذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتل # وايضا فسنة رسول الله دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فانه امر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة وقد ذكرنا ان ذلك يقتضي قتل الساب سواء اجرينا الحديث على ظاهره او حملناه على
من كذب عليه كذبا يشينه وكذلك في حديث الشعبي انه امر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة # وفي حديث أبي بكر لما استاذنه أبو برزة ان يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال انها لم تكن لاحد بعد رسول الله فعلم انه كان له قتل من شتمه من غير استتابة وعمر رضى الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه من غير استتابة اصلا فنزل القران باقراره على ذلك وهو من ادنى انواع الاستخفاف به فكيف باعلاها
وايضا فان عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراء عابه به بعد ان اسلم اهدر دمه وامتنع عن مبايعتة وقد تقدم تقرير
الدلالة منه على ان الساب يقتل وان اسلم وذكرنا انه كان قد جاءه مسلما تائبا قد اسلم قبل ان يجيء اليه كما رويناه عن غير واحد وقد جاء يريد الإسلام وقد علم النبي انه قد جاء يريد الإسلام ثم كف عنه انتظار ان يقوم اليه رجل فيقتله # وهذا نص ان مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله وان جاء تائبا وان تاب وقد قررنا هذا فيما مضى وبينا من وجوه اخر ان الذي عصم دمه عفو رسول الله عنه لامجرد إسلامه وان بالإسلام والتوبة امتحى الاثم وبعفو النبي احتقن الدم والعفو بطل بموته اذ ليس للامة ان يعفوا عن حقه وامتناعه من بيعته حتى يقوم اليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله وان جاء تائبا # واما عصمة دمه ذلك فليس دليلا لنا على ان نعصم دم من سب وتاب بعد ان قدرنا عليه لانا قد بينا من غير وجه أن النبي كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الامة في وجوب قتله اذا فعل ذلك وتعذر عفو النبي عنه وقد ذكرنا ايضا ان حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لانه كان مسلما فارتد وكان يهجوه فقتل من غير استتابة
وايضا فما تقدم من حديث انس المرفوع واثر أبي بكر في قتل من اذاه في ازواجه وسراريه من غير استتابة وما ذاك الا لاجل انه نوع من الاذى ولذلك حرمه الله ومعلوم ان السب اشد اذى منه بدليل ان السب يحرم منه ومن غيره ونكاح الازواج لا يحرم الا منه وانما ذاك مبالغة في تحريم ما يؤذيه ووجوب قتل من يؤذيه اي اذى كان من غير استتابة
وايضا فانه امر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بالسنتهن بالهجاء مع أمانة لعامة اهل البلد ومع ان قتل المراة لايجوز الا ان تفعل ما يوجب القتل ولم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل والكافرة الحربية من النساء لا تقتل ان لم تقاتل والمرتدة لاتقتل حتى تستتاب وهؤلاء النسوة قتلن من غير ان يقاتلن ولم يستتبن فعلم ان قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فان صدور ذلك عن مسلمة او معاهدة أعظم من صدوره عن حربية
وقد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما اغنى عن اعادته هنا وذكرنا ان السنة تدل على ان السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر وهو من جنس المحاربة والتوبة التي تحقن الدم دم المرتد انما هي التوبة عن الكفر فاما ان ارتد بمحاربة مثل سفك الدم واخذ المال كما فعل العرنيون وكما فعل مقيس بن صبابه حيث قتل الانصاري واستاق المال ورجع مرتدا فهذا يتعين قتله كما قتل النبي مقيس بن صبابه وكما قيل له في مثل العرنيين ^ انما جزاؤهم ان يقتلوا ^ الاية فكذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة والمحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط # وايضا ما اعتمده الإمام احمد من أن اصحاب رسول الله فرقوا بين الساب وبين المرتد المجرد فقتلوا الاول من غير استتابة واستتابوا الثاني وامروا باستتابته وذلك انه قد ثبت انهم قتلوا سابه ولم يستتيبوه وانهم امروا بقتل سابه وحرصوا على قتل سابه وقد تقدم
ذكر بعض ذلك مع انه قد تقدم عنهم انهم كانوا يستتيبون المرتد ويامرون باستتابته فثبت بذلك انهم كانوا لا يقبلون توبة من سبه من المسلمين لان توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فانه على هذا القول نوع من المرتدين ومن خص المسلم بذلك قال لايدل ذلك على ان الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فان الحربي يقتل من غير استتابة مع ان إسلامه يسقط عنه القتل اجماعا ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة انه امر باستتابة الساب الا ما روى عن ابن عباس وفي اسناد الحديث عنه مقال ولفظه ايما مسلم سب الله او سب احدا من الانبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فان رجع والا قتل وهذا والله اعلم فيمن كذب بنبوة شخص من الانبياء وسبه بناء على انه ليس بنبي الا ترى إلى قوله فقد كذب برسول الله ولا ريب ان من كذب بنبوة بعض الانبياء وسبه بناء على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب
ببعض ايات القران فان هذا اظهر امره فهو كالمرتد فاما من كان يظهر الاقرار بنبوة النبي ثم اظهر سبه فهذا هو مسالتنا # يؤيد هذا انا قد روينا عنه انه كان يقول ليس لقاذف ازواج النبي توبة وقاذف غيرهن له توبة ومعلوم ان ذلك رعاية لحق رسول الله فعلم ان من مذهبه ان ساب النبي وقاذفه لا توبة له وان وجه الرواية الاخرى عنه ان صحت ما ذكرناه او نحوه # وايضا فإن سبه او شتمه ممن يظهر الاقرار بنبوته دليل على فساد اعتقاده وكفره به بل هو دليل على الاستهانة به والاستخفاف بحرمته
فإن من وقر الايمان في قلبه والايمان موجب لاكرامه واجلاله لم يتصور منه ذمه وسبه والتنقص به وقد كان من اقبح المنافقين نفاقا من يستخف بشتم النبي كما روي عن ابن عباس قال كان رسول الله جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال سيأتيكم انسان ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل ازرق فدعاه النبي فقال علام تشتمني انت وفلان وفلان ودعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم فحلفوا له واعتذروا اليه فانزل الله تبارك
وتعالى ^ يحلفون لكم لترضوا عنهم ^ الاية رواه أبو مسعود ابن الفرات ورواه الحاكم في صحيحه وقال فأنزل الله تعالى ^ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له ^ الاية واذا ثبت انه كافر مستهين به فإظهار الاقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال الكفر والاستهانة لان الظاهر انما يكون دليلا صحيحا معتمدا اذا لم يثبت ان الباطن بخلافه فاذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم ان الباطن بخلافه
ولهذا اتفق العلماء على انه لا يجوز للحاكم ان يحكم بخلاف علمه وان شهد عنده بذلك العدول ويجوز له ان يحكم بشهادتهم اذا لم يعلم خلافها وكذلك ايضا لو اقر اقرارا علم انه كاذب فيه مثل ان يقول لمن هو أكبر منه هذا ابني لم يثبت نسبه ولا ميراثه باتفاق العلماء وكذلك الادلة الشرعية مثل خبر العدل الواحد ومثل الامر والنهي والعموم والقياس يجب اتباعها الا ان يقوم دليل اقوى منها يدل على ان باطنها مخالف لظاهرها ونظائر هذا كثيرة
فاذا علمت هذا فنقول هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له فإظهاره الاقرار برسالته الان ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه وهذه نكتة من لايقبل توبة الزنديق وهو مذهب اهل المدينة ومالك اصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو احدى الروايات عن احمد نصرها كثير من اصحابه وعنهما انه يستتاب وهو المشهور عن الشافعي
وقال أبو يوسف اخرا اقتله من غير استتابة لكن ان تاب قبل ان اقتله قبلت توبته وهذا ايضا الرواية الثالة عن احمد # وعلى هذا المأخذ فاذا كان الساب قد تكرر منه السب ونحوه مما يدل على الكفر اعتضد السبب بدلالات اخر من الاستخفاف بحرمات الله والاستهانة بفرائض الله ونحو ذلك من دلالات النفاق والزندقة كان ذلك ابلغ في ثبوت زندقته وكفره وفي ان لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الامور وما ينبغي ان يتوقف في قتل مثل هذا وفي ان لايسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام اذ توبة هذا بعد اخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير
موجب نعم لو انه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الاقوال والاعمال ما يدل على حسن الإسلام وكف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال وفيه خلاف بين اهل هذا القول سيأتي ان شاء الله تعالى ذكره # وعلى مثل هذا ومن هو اخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل ايات التوبة من النفاق وعلى الاول تحمل ايات اقامة الحد # ثم من اسقط القتل عن الذمي اذا اسلم قال بهذا يظهر الفرق بينه وبين الكافر اذا اسلم فانه كان مظهرا لدين يبيح سبه او لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره وتوقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله ولم يعارضه ما يخالفه فوجب العمل به وهذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام وهو من القياس الجلي
ويدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قوله سبحانه
وتعالى ^ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ^ إلى قوله ^ قل هل تربصون بنا الا احدى الحسنيين ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده او بأيدينا ^ # قال اهل التفسير او بأيدينا بالقتل ان أظهرتم ما في قلبوكم قتلناكم وهو كما قالوا لان العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لايكون الا القتل لكفرهم ولو كان المنافق يجب قبول ما يظهره من التوبة بعد ما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكنا ان نتربص بهم ان يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده او بأيدينا لانا كلما اردنا ان نعذبهم على ما اظهروه اظهروا التوبة منه
وقال قتادة وغيره في قوله تعالى ^ وممن حولكم من الاعراب منافقون ^ إلى قوله ^ سنعذبهم مرتين ^ قالوا في الدنيا القتل وفي البرزخ عذاب القبر # ومما يدل على ذلك ايضا قوله تعالى ^ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله احق ان يرضوه ^ وقوله تعالى ^ سيحلفون بالله لكم اذا انقلبتم اليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم ^ إلى قوله ^ يحلفون لكم لترضوا عنهم فان ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ^
وكذلك قوله تعالى ^ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ^ وقوله سبحانه ^ اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ماكانوا يعملون ^ وقوله تعالى ^ الم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ^ إلى قوله تعالى ^ اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ^ إلى قوله ^ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون انهم على شيء الا انهم هم الكاذبون ^ # دلت هذه الايات كلها على ان المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالايمان الكاذبة وينكرون انهم كفروا ويحلفون انهم لم يتكلموا بكلمة الكفر # وذلك دليل على انهم يقتلون اذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه # احدها انهم لو كانوا اذا اظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف والانكار ولكانوا يقولون قلنا وقد تبنا فعلم انهم كانوا
يخافون اذا ظهر ذلك عليهم انهم يعاقبون من غير استتابة # الثاني انه قال تعالى ^ اتخذوا ايمانهم جنة ^ واليمين انما تكون جنة اذا لم تات ببينة عادلة تكذبها فاذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولايمكنه ان يجتن بعد ذلك الا بجنة من جنس الاولى وتلك جنة مخروقة # الثالث ان الايات دليل على ان المنافقين انما عصم دماءهم الكذب والانكار ومعلوم ان ذلك انما يعصم اذا لم تقم البينة بخلافه وسنذكر لم لم يقتلهم النبي # ويدل على ذلك قوله سبحانه ^ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ^ الاية وقوله تعالى في موضع اخر ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ قال الحسن وقتادة باقامة الحدود عليهم وقال ابن مسعود رضي الله عنه بيده فان
لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وعن ابن عباس وابن جريج باللسان وتغليظ الكلام وترك الرفق # ووجه الدليل ان الله امر رسوله بجهاد المنافقين كما امره بجهاد الكافرين ومعلوم ان جهادهم انما يمكن اذا ظهر منهم من القول او الفعل ما يوجب العقوبة فانه ما لم يظهر منه شيء البته لم يكن لنا سبيل عليه فاذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل وذلك يقتضي ان لا يسقط عنه بتجديد الإسلام له ظاهرا لانا لو اسقطنا عنهم القتل بما اظهروه من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار وكان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون والاية تقتضي جهادهم لانهم
صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لان تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على ان موضع الاشتقاق هو العلة فيجب ان يجاهد لاجل النفاق كما يجاهد الكافر لاجل الكفر # ومعلوم ان الكافر اذا اظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر ولا يعلم ما يخالفه # اما المنافق فاذا اظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لان ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق ولان المنافق اذا كان جهاده باقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض وهو الزاني اذا زنى لم يسقط عنه حده اذا اظهر التوبة بعد اخذه لاقامة الحد عليه كما عرفت ولانه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها عنهم لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق اذا ثبت عنه انه اظهر الكفر فلو كان اظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده # ويدل على ذلك قوله ^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا اخذو وقتلوا
تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ^ دلت هذه الاية على ان المنافقين اذا لم ينتهوا فان الله يغري نبيه بهم وانهم لا يجاورونه بعد الاغراء بهم الا قليلا وان ذلك في حال كونهم ملعونين اينما وجدوا واصيبوا اسروا وقتلوا وانما يكون ذلك اذا اظهروا النفاق لانه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم # وكذلك قال الحسن اراد المنافقون ان يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فاوعدهم الله في هذه الاية فكتموه واسروه وقال قتادة ذكر لنا ان المنافقين ارادوا ان يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فاوعدهم الله في هذه الاية فكتموه ولو كان اظهار التوبة بعد اظهار النفاق مقبولا لم يمكن اخذ المنافق ولاقتله لتمكنه من اظهار التوبة لا سيما اذا كان كلما شاء اظهر النفاق ثم اظهر التوبة وهي مقبولة منه # يؤيد ذلك ان الله تبارك وتعالى جعل جزاءهم ان يقتلوا ولم يجعل جزاءهم ان يقاتلوا ولم يستثن حال التوبة كما استثناء من قتل المحاربين وقتل المشركين فانه قال ^ فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ^ وقال في المحاربين ^ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الارض فسادا ان يقتلوا او يصلبوا ^ إلى قوله تعالى ^ الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم ^ فعلم انهم يقتلون من غير استتابة وانه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة # يوضح ذلك انه جعل انتهاءهم النافع قبل الاغراء بهم وقبل الاخذ والتقتيل وهناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر والاخذ والقتل فعلم ان الانتهاء بعد الاغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه وان نفعت المشرك من مرتد واصلي التوبة بعد القدرة عليه وقد اخبر سبحانه ان سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه ان يؤخذ ويقتل وان هذه السنة لا تبديل لها والانتهاء في الاية ان يعنى به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة او الانتهاء عن اظهاره عند شياطينه وعند بعض المؤمنين # والمعنى الثاني اظاهر فان من المنافقين من لم ينته عن اسرار النفاق حتى مات النبي وانتهوا عن اظهاره حتى كان في اخر الامر لا يكاد أحد يجتريء على اظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن اظهاره فقط او عن اسراره واعلانه خرج من وعيد هذه الاية ومن اظهره لحقه وعيدها
ومما يشبه ذلك قوله تعالى ^ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ^ إلى قولله تعالى ^ فان يتوبوا يك خيرا لهم وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما في الدنيا والاخرة ^ فانه دليل على ان المنافق اذا لم يتب عذبه الله في الدنيا والاخرة وكذلك قوله تعالى ^ وممن حولكم من الاعراب منافقون ^ إلى قوله تعالى ^ سنعذبهم مرتين ^ واما قوله ^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة ^ فقد قال أبو رزين هذا شيء واحد هم المنافقون وكذلك قال مجاهد كل هؤلاء منافقون فيكون من باب
عطف الخاص على العام كقوله تعالى ^ وجبريل وميكال ^ وقال سلمة بن كهيل وعكرمة الذين في قلوبهم مرض اصحاب الفواحش والزناةومعلوم ان من يظهر الفاحشة لم يكن بد من اقامة الحد عليه فكذلك من اظهر النفاق # ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة قال فقال عمر دعني يارسول الله اضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله انه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على اهل بدر فقال اعملوا
ماشئتم فقد غفرت لكم فدل على ان ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع اذ لم ينكر النبي على عمر استحلال ضرب عنق المنافق ولكن اجاب بان هذا ليس بمنافق ولكنه من اهل بدر المغفور لهم فاذا ظهر النفاق الذي لاريب انه نفاق فهو مبيح للدم # وعن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الافك قالت فقام رسول الله من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله وهو على المنبر من يعذرني من رجل بلغني اذاه في اهلي فوالله ما علمت على اهلي الا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خيرا وماكان يدخل على اهلي الا معي فقالت فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الاشهل فقال يارسول الله انا والله اعذرك منه ان كان من الاوس ضربنا عنقه وان
كان من اخواننا من الخزرج امرتنا ففعلنا فيه امرك فقال سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام اسيد بن حضير وهو ابن عم سعديعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الاوس والخزرج حتى هموا ان يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت متفق عليه # وفي الصحيحين عن عمر وعن جابر بن عبد الله قال غزونا مع النبي وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع انصاريا فغضب الانصاري غضبا
شديدا حتى تداعوا وقال الانصاري ياللانصار وقال المهاجري ياللمهاجرين فخرج النبي فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما بالهم فاخبر بكسعة المهاجري الانصاري قال فقال النبي دعوها فانها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول اقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل قال عمر الا تقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه # وذكر اهل التفسير واصحاب السير ان هذه القصة كانت في غزوة
بني المصطلق اختصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار حتى غضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن ارقم غلام حديث السن وقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكابرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم الا كما قال القائل سمن كلبك ياكلك
اما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل يعني بالاعز نفسه وبالاذل رسول الله ثم اقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بانفسكم احللتموهم بلادكم وقا سمتموهم اموالكم اما والله لوامسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا ان يتحولوا عن بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن ابن ارقم انت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا احبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله اسكت فانما كنت العب فمشى زيد بن ارقم بها إلى رسول الله وذلك بعد فراغه من الغزوة وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني اضرب عنقه يا رسول الله فقال اذا ترعد له انف كثيرة بيثرب فقال عمر فان كرهت يا رسول الله ان يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ او محمد بن مسلمة او عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله فكيف يا عمر اذا تحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه لا ولكن اذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها وارسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي فاتاه فقال انت صاحب هذا الكلام فقال عبد الله والذي انزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا وان زيدا لكاذب فقال من حضر من الأنصار يارسول الله شيخنا وكبيرنا لاتصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى ان يكون هذا الغلام وهم في حديثه
ولم يحفظ ما قال فعذره رسول الله وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه قالوا وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من فضلاء الصحابة ما كان من امر ابيه فاتى رسول الله فقال يارسول الله بلغني انك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فان كنت فاعلا فمرني فانا احمل اليك راسه فوالله لقد علمت الخزرج ماكان بها رجل ابر بوالديه مني واني اخشى ان تامر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فاقتله فاقتل مؤمنا بكافر فادخل النار فقال له رسول الله بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا وقال النبي لا يتحدث الناس انه يقتل اصحابه ولكن بر اباك واحسن صحبته وذكروا القصة قالوا وفي ذلك نزلت سورة المنافقين
وقد اخرجا في الصحيحين عن زيد بن ارقم قال خرجنا مع رسول الله في سفر اصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لاتنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل فاتيت رسول الله فاخبرته بذلك فارسل إلى عبد الله بن أبي فساله فاجتهد بيمينه مافعل فقالوا كذب زيد يا رسول الله قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى انزل الله تصديقي ^ اذا جاءك المنافقون ^ قال ثم دعاهم رسول الله ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم
ففي هذه القصة بيان ان قتل المنافق جائز من غير استتابة وان اظهر انكارذلك القول وتبرا منه واظهر الإسلام وانما منع النبي من قتله ما ذكره من تحدث الناس انه يقتل اصحابه لان النفاق لم يثبت عليه بالبينة وقد حلف انه ما قال وانما علم بالوحي وخبر زيد ابن ارقم # وايضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله وغضب اقوام يخاف افتتنانهم بقتله # وذكر بعض اهل التفسير ان النبي عد المنافقين الذين وقفوا له على العقبة في غزوة تبوك ليفتكوا به فقال حذيفة الا تبعث اليهم فتقتلهم فقال اكره ان تقول العرب لما ظفر باصحابه اقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالدبيلة
وذكر بعضهم ان رجلا من المنافقين خاصم رجلا من اليهود إلى النبي فقضى رسول الله لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب فاقبل إلى عمر فقال اليهودي اختصمت انا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم انه مخاصم اليك وتعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق اكذلك قال نعم فقال عمر لهما رويداكما حتى اخرج اليكما فدخل عمر البيت فاخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج اليهما فضرب به المنافق حتى برد فقال هكذا اقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل قوله ^ الم تر إلى الذين يزعمون ^ الاية وقال جبريل ان عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقد تقدمت هذه القصة مروية من وجهين # ففي هذه الاحاديث دلالة على ان قتل المنافق كان جائزا اذ لولا ذلك لانكر النبي على من استأذنه في قتل المنافق ولانكر على عمر اذ قتل من قتل من المنافقين والاخبرب النبي ان الدم معصوم بالإسلام ولم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم وان يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه وان يقول القائل لما ظفر باصحابه اقبل يقتلهم
لان الدم اذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التاثير في عصمة دم المعصوم ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا اثر له ويترك تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم وكما انه دليل على القتل فهو دليل على القتل من غير استتابة على ما لايخفى # فان قيل فلم لم يقتلهم النبي مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علانيتهم # قلنا انما ذاك لوجهين # احدهما ان عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام ونفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي فيحلفون بالله انهم ما قالوها او لايحلفون وتارة بما يظهر من تاخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم للزكاة وظهور الكراهية منهم لكثير من احكام الله وعامتهم يعرفون في لحن القول كما قال تعالى ^ أم حسب الذين في قلوبهم مرض ان لن يخرج الله اضغانهم ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ^ فاخبر سبحانه انه لوشاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال ^ ولتعرفنهم في لحن القول ^ فاقسم على انه لابد ان يعرفهم في لحن القول ومنهم من كان يقول القول او يعمل العمل فينزل القران يخبر ان صاحب ذلك القول
والعمل منهم كما في سورة براءة ^ ومنهم ^ ومنهم ^ وكان المسلمون ايضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد والدلالات والقرائن والامارات ومنهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى ^ وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ^ ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويحلفون انهم مسلمون # وقد اتخذوا ايمانهم جنة واذا كانت هذه حالهم فالنبي لم يكن يقيم الحدود بعلمه ولا بخبر الواحد ولا بمجرد الوحي ولا بالدلائل والشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينة او اقرار الا ترى كيف اخبر عن المراة الملاعنه انها ان جاءت بالولد على نعت كذا وكذا فهو للذي
رميت به وجاءت على النعت المكروه فقال لولا الايمان لكان لي ولها شان # وكان بالمدينة امراة تعلن الشر فقال لو كنت راجما احدا من غير بينة لرجمتها
وقال للذين اختصموا اليه انكم تختصمون الي ولعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض فاقضي بنحو مما اسمع فمن قضيت له من حق اخيه شيئا فلا ياخذه فانما اقطع له قطعة من النار فكان ترك قتلهم مع كونهم كفارا لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية
ويدل على هذا انه لم يستتبهم على التعيين ومن المعلوم ان احسن حال من ثبت نفاقه وزندقته ان يستتاب كالمرتد فان تاب والا قتل ولم يبلغنا انه استتاب واحد بعينه منهم فعلم ان الكفر والردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب ان يقتل كالمرتد ولهذا كان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله فاذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه ولهذا قال اني لم اومر ان انقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة ولما استؤذن ايضا في قتل رجل من المنافقين قال اليس يشهد ان لا اله الا الله قيل بلى قال اليس يصلي قيل بلى قال اولئك الذين نهاني الله عن قتلهم فاخبر انه نهي
عن قتل من اظهر الإسلام من الشهادتين والصلاة وان زن بالنفاق ورمي به وظهرت عليه دلالته اذا لم يثبت بحجة شرعية انه اظهر الكفر وكذلك قوله في الحديث الاخر امرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله واني رسول الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله معناه اني امرت ان اقبل منهم ظاهر الإسلام واكل بواطنه إلى الله والزنديق والمنافق انما يقتل
اذا تكلم بكلمة الكفر وقامت عليه بذلك بينة وهذا حكم بالظاهر لا بالباطن وبهذا الجواب يظهر فقه المسألة
الوجه الثاني انه كان يخاف ان يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم وقد بين ذلك حيث قال لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه وقال اذا ترعد له انف كثيرة بيثرب فانه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لاوشك ان يظن الظان انه انما قتلهم لاغراض واحقاد وانما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال اكره ان تقول العرب لما ظفر باصحابه اقبل يقتلهم وان يخاف من يريد الدخول في الإسلام ان يقتل مع اظهاره الإسلام كما قتل غيره # وقد كان ايضا يغصب لقتل بعضهم قبيلته وناس اخرون ويكون ذلك سببا للفتنة واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له اناس صالحون واخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله وقد بين ذلك رسول الله لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال اصحابنا ونحن الان اذا خفنا مثل ذلك كففناعن القتل
فحاصله ان الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعيةالتي يعلمه بها الخاص والعام او لعدم امكان اقامته الا مع تنفير اقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد اخرين عنه واظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق وهذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا الا في شيء واحد وهو انه ربما خاف ان يظن الظان انه يقتل اصحابه لغرض اخر مثل اغراض الملوك فهذا منتف اليوم # والذي يبين حقيقة الجواب الثاني ان النبي لما كان بمكة مستضعفا هو واصحابه عاجزين عن الجهاد امرهم الله بكف ايديهم والصبرعلى اذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دار عز ومنعة امرهم بالجهاد وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم لانه لو امرهم اذ ذاك باقامة الحدود على كل كافر ومنافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب اذ رأوا ان بعض من دخل فيه يقتل وفي مثل هذه الحال نزل قوله تعالى ^ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ^ وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فامره الله في تلك
الحال ان يترك اذى الكافرين والمنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة ولم يزل الامر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة ثم اخذ النبي في غزو الروم وانزل الله تبارك وتعالى سورة براءة وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والامر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى ^ اليوم اكملت لكم دينكم ^ قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر ولما أنزل براءة امره بنبذ العهود التي كانت للمشركين وقال فيها ^ يا ايها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ وهذه الاية ناسخة لقوله
تعالى ^ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم ^ وذلك انه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو اقيم عليه الحد ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بان محمد يقتل اصحابه فامره الله بجهادهم والاغلاظ عليهم وقد ذكر اهل العلم ان اية الاحزاب منسوخة بهذه الاية ونحوها وقال في الاحزاب ^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا اخذوا ^ الاية فعلم انهم كانوا يفعلون اشياءاذ ذاك ان لم ينتهوا عنها قتلوا عليها في المستقبل لما اعز الله دينه ونصر رسوله فحيث ما كان للمنافق ظهور يخاف من اقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية ^ دع اذاهم ^ كما انه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ # فهذا يبين ان الامساك عن قتل من اظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسول الله اذ لا نسخ بعده ولم ندع ان الحكم تغير بعده لتغير
المصلحة من غير وحي نزل فان هذا تصرف في الشريعة وتحويل لها بالراي ودعوى ان الحكم المطلق كان لمعنى وقد زال وهو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال ان حكم المؤلفة انقطع ولم يأت على انقطاعه بكتاب ولا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة
ويدل على المسألة ما روى أبو ادريس قال اتى على رضي الله عنه بأناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال فقتلهم ولم يستتبهم وقال واتى برجل كان نصرانيا واسلم ثم رجع عن الإسلام قال فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له كيف تستتيب هذا ولم تستتب اولئك قال ان هذا اقر بما كان منه وان اولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم استتبهم رواه الإمام احمد # وروى الاثرم عن أبي ادريس قال اتى علي برجل قد تنصر
فاستتابه فأبى ان يتوب فقتله وأتى برهط يصلون القبلة وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا ليس لنا دين الا الإسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال اتدرون لم استتبت هذا النصراني استتبته لانه اظهر دينه واما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة وجحدوني فانما قتلتهم لانهم جحدوا وقامت عليهم البينة # فهذا من امير المؤمنين على رضي الله عنه بيان ان كل زنديق كتم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب وان النبي لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة # ويدل على ذلك قوله تعالى ^ وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة ^ إلى قوله ^ واخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا واخر سيئا ^ فعلم ان من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين ولهذا الحديث قال الإمام احمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد ليست له توبة انما التوبة لمن اعترف فاما من جحدها فلا توبة له
قال القاضي أبو يعلي وغيره واذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته لانه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لان الزنديق هو الذي يستبطن الكفر وينكره ولا يظهره فاذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته ولهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا # وقد يستدل على المسالة بقوله تعالى ^ وليست التوبة للذين يعملون السيئات ^ الاية وروى الإمام احمد باسناده عن أبي العالية في قوله تعالى ^ انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهاله ثم يتوبون من قريب ^ قال هذه في اهل الايمان ^ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر احدهم الموت قال اني تبت الان ^ قال هذه في اهل النفاق ^ ولا الذين يموتون وهم كفار ^ قال هذه في اهل الشرك هذا مع انه الراوي عن
اصحاب محمد فيما اظن انهم قالوا كل عبد اصاب ذنبا فهو جاهل بالله وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب # ويدل على ما قال ان المنافق اذا اخذ ليقتل ورأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى ^ كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ^ وقوله تعالى ^ شهادة بينكم اذا حضر احدكم الموت ^ وقد قال حين حضره الموت ^ اني تبت الان ^ فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم ان تاب توبة صحيحه فيما بينه وبين الله لم يكن ممن قال ^ اني تبت الان ^ بل يكون ممن تاب من قريب لان الله سبحانه انما نفى التوبة عمن حضره الموت وتاب
بلسانه فقط ولهذا قال في الاول ^ ثم يتوبون ^ وقال هنا ^ اني تبت الان ^ فمن قال اني تبت قبل حضور الموت او تاب توبة صحيحه بعد حضور اسباب الموت صحت توبته # وربما استدل بعضهم بقوله تعالى ^ فلما راوا بأسنا قالوا امنا بالله وحده ^ الايتين وبقوله تعالى ^ حتى اذا ادركه الغرق ^ الاية وقوله سبحانه ^ فلولا كانت قرية امنت فنفعها ايمانها ^ الاية فوجه الدلالة ان عقوبة الامم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم اولئك اذا تابوا بعد معاينة العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق ومن قال هذا فرق بينه وبين الحربي بانا لانقاتله عقوبة على كفره بل نقاتله ليسلم فاذا اسلم فقد اتى بالمقصود والمنافق انما يقاتل عقوبة لا ليسلم فانه لم يزل مسلما والعقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجئ الباس وهذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا # وفيه طريقة اخرى وهي ان سب النبي بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن ككونه مجرد ردة فانا قد بينا انه موجب للقتل وبينا انه جناية غير الكفر اذا لو كان ردة محضة وتبديلا للدين وتركا له لما جاز
للنبي العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد ولما قتل الذين سبوه وقد عفا عمن قاتل وحارب # وقد ذكرنا أدلة اخرى على ذلك فيما تقدم ولان التنقص والسب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة والرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول وتوقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لان سبه نوع من الفساد في الارض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين وتركه وفارق الجماعة واذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر الحدود غير عقوبة الكفر وتبديل الدين قال الله تعالى ^ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف او ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم ^ # فثبت بهذه الاية ان من تاب بعد ان قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة وكذلك قال سبحانه ^ والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه واصلح فان الله يتوب عليه ان الله غفور رحيم ^
فامر بقطع ايديهم جزاء على ما مضى ونكالا عن السرقة في المستقبل منهم ومن غيرهم واخبر ان الله يتوب على من تاب ولم يدرا القطع بذلك لان القطع له حكمتان # الجزاء والنكال والتوبة تسقط الجزاء ولا تسقط النكال فان الجاني متى علم انه اذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق ولم يزجرهم عن ركوب العظائم فان اظهار التوبة والاصلاح لمقصود حفظ النفس والمال سهل # ولهذا لم نعلم خلافا يعتمد في ان السارق او الزاني لو اظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه وقد رجم النبي ماعزا والغامدية واخبر بحسن توبتهما وحسن مصيرهما وكذلك لو قيل ان سب النبي يسقط بالتوبة وتجديد الإسلام لم يردع ذلك الالسن عن انتهاك عرضه ولم يزجر النفوس عن الاستحلال حرمته بل يؤذيه الانسان بما يريد ويصيب من عرضه ما شاء من انواع السب والاذى ثم يجدد إسلامه ويظهر ايمانه وقد ينال المرء من عرضه ويقع منه تنقص له واستهزاء ببعض اقواله او اعماله وان لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلا يصعب على من هذه سبيله كلما نال من عرضه واستخف
بحرمته ان يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فان سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة اذ الانتقال عن الدين عسير لا يقع الا عن شبهة قادحة في القلب او شهوة قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد مجريا للنفوس على الردة ويكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فانه اذا اظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بانه يجبر على العود إلى الإسلام وهنا من فيه استخفاف او اجتراء او سفاهة يتمكن من انتقاص النبي وعيبه والطعن عليه كلما شاء ثم يجدد الإسلام ويظهر التوبة وبهذا يظهر ان السب والشتم يشبه الفساد في الارض الذي يوجب الحد اللازم من الزنى وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر فان مريد هذه المعاصي اذا علم انه تسقط عنه العقوبة اذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله او ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله اذا علم ان التوبة تقبل منه اتى ذلك متى شاء ثم تاب منه وقد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود اولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فان مقصوده لا يحصل الا بالمقام عليها وذلك لا يحصل له اذا قتل ان لم يرجع فيكون ذلك وازعا
له وهذا الوجه لا يخرج السب عن ان يكون ردة لكن حقيقته انه نوع من الردة تغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بان ينضم اليها قتل وغيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في القتل من قاطع الطريق لتغلظ الجرم وان لم يتحتم قتل من قتل لغرض اخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة ويبقى خصوص السب ولابد من اقامة حده كما ان توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل ويبقى حق اولياء المقتول من القتل الدية او العفو وهذه مناسبة ظاهرة وقد تقدم نص الشارع وتنبيهه على اعتبار هذا المعنى # فان قيل تلك المعاصي يدعو اليها الطبع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس اليها بخلاف سب رسول الله فان الطباع لا تدعوا اليه الا لخلل في الاعتقاد والخلل في الاعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم ان مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر وعقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة واذا لم يكن اليه بمجرده باعث طبيعي لم يشرع ما يزجر عنه وان كان حراما كالاستخفاف بالكتاب والدين ونحو ذلك
قلنا بل قد يكون اليه باعث طبيعي غير الخلل في الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض احواله وافعاله والغضب الداعي إلى الوقيعة فيه اذا خالف الغرض بعض احكامه والشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من اموره وغير ذلك فهذه الامور قد تدعو الانسان إلى نوع من السب له وضرب من الاذى والانتقاص وان لم يصدر الا مع ضعف الايمان به كما ان تلك المعاصي لا تصدر ايضا الامع ضعف الايمان واذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء امثاله علىامثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا الحرمة محقورة بخلاف قبول التوبة ممن يرتد انتقالا عن الدين اما إلى دين اخر او إلى تعطيل فانه اذا علم انه يستتاب على ذلك فان تاب والاقتل لم ينتقل بخلاف ما اذا صدر السب عن كافر به ثم امن به فان علمه بانه اذا اظهر السب لا يقبل منه الا الإسلام او السيف يزعه عن هذا السب الا ان يكون مريدا للإسلام ومتى اراد الإسلام فالإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من التطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إسلام من يظهر الإسلام # وايضا فان سب النبي حق لادمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف وكسب غيره من البشر
ثم من فرق بين المسلم والذمي قال المسلم قد التزم ان لا يسبه ولا يعتقد سبه فاذا اتى ذلك اقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر وكما يعزر على اكل لحم الميته والخنزير والكافر لم يلتزم تحريم ذلك ولا يعتقده فلا تجب عليه اقامة حده كما لاتجب عليه اقامة حد الخمر ولا يعزر على الميته والخنزير # نعم اذا اظهره نقض العهد الذي بيننا وبينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه اتى حدا يعتقد تحريمه فاذا اسلم سقط عنه العقوبة على الكفر ولا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله # وحقيقة هذه الطريقة ان سب النبي لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته وتعزيرا له وتوقيرا ونكالا عن التعرض له والحد انما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه اذا اظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك وعوقب عليه كما اذا اظهر الخمر والخنزير فاظهار السب اما ان يكون كهذه الاشياء كما زعمه بعض الناس او يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين وعلى التقديرين فالإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه
وايضا فان الردة على قسمين ردة مجردة وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها وكلاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها والادلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل انما تدل على القسم الاول كما يظهر لمن ذلك تامل الادلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ولم يات نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الالحاق # والذي يحقق هذه الطريقة انه لم يات في كتاب ولا سنة ولا إجماع ان كل من ارتد باي قول او اي فعل كان فانه يسقط عنه القتل اذا تاب بعد القدرة عليه بل الكتاب والسنة والاجماع قد فرق بين انواع المرتدين كما سنذكره # وانما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين انواعه ويقيس بعضها ببعض فاذا لم يكن معه عموم نطقي يعم انواع المرتدين لم يبق الا القياس وهو فاسد اذا فارق الفرع الاصل بوصف له تاثير في الحكم وقد دل على تاثيره نص الشارع وتنبيهه والمناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة
وتقرير هذا من ثلاثة اوجه # احدها ان دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى ^ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم ^ إلى قوله ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا ^ وقوله تعالى ^ من كفر بالله من بعد ايمانه ^ ونحوها ليس فيها الاتوبة من كفر بعد الايمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد اذى واضرار وكذلك سنة رسول الله انما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط وكذلك سنة الخلفاء الراشدين انما تضمنت قبول توبة من جرد الردة وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الاصلي على كفره فمن عزم ان في الاصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة او غلظها باي شئ كان فقد ابطل وحينئذ فقد قامت الادلة على وجوب قتل الساب وانه مرتد ولم تدل الاصول على ان مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض
الثاني ان الله سبحانه قال ^ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين اولئك جزاؤهم ان عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون الا الذين تابوا بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم واولئك هم الضالون ^ فاخبر سبحانه ان من ازداد كفرا بعد ايمانه لن تقبل توبته وفرق بين الكفر المزيد كفرا والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الاول فمن زعم ان كل كفر بعد الايمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القران # وهذه الاية ان كان قد قيل فيها ان ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت وان التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة او يوم القيامة فالاية اعم من ذلك # وقد راينا سنة رسول الله فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم انه امر بقتل مقيس بن صبابه يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم واخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه وامر
بقتل العرنيين لما ضموا ردتهم نحوا من ذلك وكذلك امر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم وامر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء واذا كان الكتاب والسنة قد حكما في المرتدين بحكمين وراينا ان من ضر واذى بالردة اذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل اذا تاب بعد القدرة عليه وان تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا وكان الساب من القسم الذي لايجب ان تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح ولان السب ايذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب ان يتحتم عقوبة فاعله ولان المرتد المجرد انما نقتله لمقامه على التبديل للدين فاذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الاصلي بإسلامه وهذا الساب اتى من الاذى لله ورسوله بعد المعاهدة على ترك ذلك بما اتى به وهو لايقتل لمقامه عليه فان ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد # وبالجملة فمن كانت ردته محاربة لله ورسوله بيد او لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب انه ممن كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه # الوجه الثالث ان الردة قد تتجرد عن السب فلا تتضمنه
ولا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين واخذ اموالهم اذ السب والشتم افراط في العداوة وابلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر وحرصه على فساد الدين واضرار اهله ولربما صدر عمن يعتقد النبوة والرسالة لكن لم يات بموجب هذا الاعتقاد من التوقير والانقياد فصار بمنزلة ابليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه وتعالى بقوله رب وقد ايقن ان الله امره بالسجود ثم لم يات بموجب هذا الاعتقاد من الاستسلام والانقياد بل استكبر وعاند معاندة معارض طاعن في حكمة الامر # ولا فرق بين من يعتقد ان الله ربه وان الله امره بهذا الامر ثم يقول انه لا يطيعه لأنه امره ليس بصواب ولا سداد وبين من يعتقد ان محمدا رسول الله وانه صادق واجب الاتباع في خبره وامره ثم يسبه او يعيب امره اوشيئا من احواله او ينتقصه انتقاصا لايجوز ان يستحقه الرسول وذلك ان الايمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانيه في الالوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الاجلال والاكرام والذي هو حال في القلب يظهر اثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول او بالفعل كان وجودذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح إذا الاعتقادات الايمانية
تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس ولا صلاحا فما ذاك الا لانها لم ترسخ في القلب ولم تصل صفة ونعتا للنفس واذا لم يكن علم الايمان المفروض صفة لقلب الانسان لازمة لم ينفعه فانه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب والنجاة لا تحصل الا بيقين في القلب ولو انه مثقال ذرة # هذا فيما بينه وبين الله واما في الظاهر فتجري الاحكام على ما يظهره من القول والفعل # والغرض بهذا التنبيه على ان الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الايمان الذي في القلب منافاة الضد ضده والاستهزاء باللسان ينافي الايمان الظاهر باللسان كذلك # والغرض بهذا التنبيه على ان السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا # هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من اهل السنة والجماعة خلاف مايقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بان
الايمان هو المعرفة والقول بلا عمل من اعمال القلب من انه انما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في الباطن وربما يكون لنا انشاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع
والغرض هنا انه كما ان الردة تتجرد عن السب فكذلك السب قد يتجرد عن قصد تبديل الدين وارادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر ابليس عن قضد التكذيب بالربوبية وان كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال الكفر ان لايقصد ان يكفر # واذا كان كذلك فالشارع اذا امر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق وغير اعتقاده وقوله فانما ذاك لان المقتضى للقتل الاعتقاد الطارىء وإعدام الاعتقاد الاول فاذا عاد ذلك الاعتقاد الايماني وزال هذا الطاريء كان بمنزلة الماء والعصير يتنجس بتغيره ثم يزول التغير فيعود حلالا لان الحكم اذا ثبت بعلة يزول بزوالها وهذا الرجل لم يظهر مجرد تغير الاعتقاد حتى يعود معصوما بعوده اليه وليس هذا القول من لوازم تغير الاعتقاد حتى يكون حكمه كحكمه إذا قد يتغير الاعتقاد كثيرا ولا يكون اتى باذى لله ورسوله # واضرار بالمسلمين يزيد على تغيير الاعتقاد ويفعله من يظن سلامة الاعتقاد وهوكاذب عند الله ورسوله والمؤمنين في هذه الدعوة
والظن ومعلوم ان المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرتغيير الاعتقاد من هذين الوجهين من جهة كونه ا ضرارا زائدا ومن جهة كونه قد يظن او يقال ان الاعتقاد قد يكون سالما معه فيصدر عمن لايريد الانتقال من دين إلى دين ويكون فساده أعظم من فساد الانتقال اذا الانتقال قد علم انه كفر فنزع ما نزع عن الكفر وهذا قد يظن انه ليس بكفر الا اذا صدر استحلالا بل هو معصية وهو من أعظم انواع الكفر فاذا كان الداعي اليه غير الداعي إلى مجرد الردة والمفسدة فيه مخالفة لمفسدة الردة وهي اشد منها لم يجز ان يلحق التائب منها بالتائب من الردة لان من شروط القياس قياس المعنى استواء الفرع والاصل في حكمة الحكم باستوائهما في دليل الحكمة اذا كانت خفية فاذا كان في الاصل معان مؤثرة يجوز ان تكون التوبة انما قبلت لاجلها وهي معدومة في الفرع لم يجز اذا لا يلزم من قبول توبة من خفت مفسدة جنايته او انتفت قبول توبة من تغلظت مفسدته او بقية
وحاصل هذا الوجه ان عصمة دم هذا بالتوبة قياسا على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر فيكون المرتد المنتقل إلى دين اخر ومن اتى من القول بما يضر المسلمين ويؤذي الله ورسوله وهو موجب للكفر نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه وقد شرعت التوبة في حق الاول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني لوجود الفارق من حيث الاضرار ومن حيث ان مفسدته لاتزول بقبول التوبة
فصل # قد تضمن هذا الدلالة على وجوب قتل الساب من المسلمين وان اسلم وتوجيه قول من فرق بينه وبين الذمي الذي اذا اسلم وقد تضمن الدلالة على ان الذمي اذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الاولى فان عود المسلم إلى الإسلام احقن لدمه من عود الذمي إلى ذمته ولهذا عامة العلماء الذين حقنوا دم هذا وامثاله بالعود إلى الإسلام لم يقولوا مثل ذلك في الذمي اذا عاد إلى الذمة # ومن تامل سنة رسول الله في قتله لبني قريظة وبعض اهل
خيبر وبعض بني النضير واجلائه لبني النضير وبني قينقاع بعد ان نقض هؤلاء الذمة وحرصوا على ان يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيا
فلم يفعل ثم سنة خلفائه وصحابته في مثل هذا المؤذي وامثاله مع العلم بانه كان احرص شيء على العود إلى الذمة لم يسترب في ان القول بوجوب اعادة مثل هذا إلى الذمة قول مخالف للسنة ولاجماع خير القرون وقد تقدم التنبيه على ذلك في حكم نا قضي العهد مطلقا ولولا ظهوره لاشبعنا القول فيه وانما احلنا على سيرة رسول الله وسنته من له بها علم فانهم لا يستريبون انه لم يكن الذي بين النبي وهؤلاء اليهود هدنة مؤقته وانما كانت ذمة مؤبدة على ان الدار دار إسلام وانه يجري عليهم حكم الله ورسوله فيما يختلفون فيه الا انهم لم يضرب عليهم جزية ولم يلزموا بالصغار الذي الزموه بعد نزول براءة لان ذلك لم يكن شرع بعد # واما من قال ان الساب يقتل وان تاب واسلم وسواء كان كافرا او مسلما فقد تقدم دليله ان المسلم يقتل بعد التوبة وان الذمي يقتل وان طلب العود إلى الذمة # واما قتل الذمي اذا وجب عليه القتل بالسب وان اسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق وهي دالة على تحتم قتل المسلم ايضا كما تدل على تحتم
قتل الذمي # احداها قوله تعالى ^ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف او ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم ^ فوجه الدلالة ان هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الارض فسادا الداخلين في هذه الاية سواء كان مسلما او معاهدا وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الاية فانه يقام عليه الحد اذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك او لم يتب فهذا الذمي او المسلم اذا سب ثم اسلم بعد ان اخذ وقدر عليه قبل التوبة فيجب اقامة الحد عليه وحده القتل فيجب قتله سواء تاب او لم يتب # والدليل مبني على مقدمتين # احداهما انه داخل في هذه الاية # والثانية ان ذلك يوجب قتله اذا اخذ قبل التوبة # اما المقدمة الثانية فظاهرة فانا لم نعلم مخالفا في ان المحاربين اذا اخذوا قبل التوبة وجب اقامة الحد عليهم وان تابوا بعد الاخذ وذلك بين في الاية فان الله اخبر ان جزاءهم أحد هذه الحدود الاربعة الا الذين
تابوا قبل ان يقدر عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك وغيره هذه جزاؤه وجزاء أصحاب الحدود تجب اقامته على الائمة لان جزاء العقوبة اذا لم يكن حقا لادمي حى بل كان حدا من حدود الله وجب استيفاؤه باتفاق المسلمين وقد قال تعالى في اية السرقة ^ فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسبا ^ فامر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به اذ العلة المطلوبة يجب ان تكون ابلغ من الحكم واقوى منه والجزاء اسم للفعل واسم لما يجازى به ولهذا قرا قوله تعالى ^ فجزاء مثل ما قتل ^ بالتنوين وبالاضافة وكذلك الثواب والعقاب وغيرهما فالقتل والقطع قد يسمى جزاء ونكالا وقد يقال فعل هذا ليجزيه وللجزاء
ولهذا قال الاكثرون انه نصب على المفعول له والمعنى أن الله امر بالقطع ليجزيهم ولينكل عن فعلهم # وقد قيل انه نصب على المصدر لان معنى اقطعوا اجزوهم ونكلوا وقيل انه على الحال اي فاقطعوهم مجزين منكلين هم وغيرهم او جازين منكلين وبكل حال فالجزاء مامور به او مامور لاجله فثبت انه واجب الحصول شرعا وقد اخبر ان جزاء المحاربين أحد الحدود الاربعة فيجب تحصيلها اذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل المجزي به لان القتل والقطع والصلب وهي افعال وهي غير ما يجزى به وليست اجساما بمنزلة المثل من النعم # يبين ذلك ان لفظ الاية خبر عن احكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير بين فعله وتركه اذا ليس لله احكاما في اهل ذنوب يخير الإمام بين فعلها وترك جميعها
وايضا فانه قال ^ ذلك لهم خزي في الدنيا ^ والخزي لايحصل الا باقامة الحدود لا بتعطيلها # وايضا فإنه لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له اقامته وتركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى ^ وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ^ وقوله ^ والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ^ وقوله ^ ودية مسلمة إلى اهله الا ان يصدقوا ^ # وايضا فالادلة على وجوب اقامة الحدود على السلطان من السنة والاجماع ظاهرة ولم نعلم مخالفا في وجوب جزاء المحاربين ببعض ما ذكر الله في كتابه وانما اختلفوا في هذه الحدود هل يخير الإمام بينها
بحسب المصلحة او لكل جرم جزاء محدود شرعا كما هو مشهور فلا حاجة إلى الاطناب في وجوب الجزاء لكن نقول جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة ولا يخير الإمام فيه بين القتل والقطع بالاتفاق واذا كان جزائه القتل من هذه الحدود وقد اخذ قبل التوبة وجب اقامة الحد عليه اذا كان من المحاربين بلا تردد # فلنبين المقدمة الاولى وهي ان هذا من المحاربين لله ورسوله الساعين في الارض فسادا وذلك من وجوه # احدها ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال
حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال وقوله ^ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ^ قال كان قوم من اهل الكتاب بينهم وبين النبي عهد وميثاق فنقضوا العهد وافسدوا في الارض فخير الله رسوله ان شاء ان يقتل وان شاء ان يصلب وان شاء ان يقطع ايديهم وارجلهم من خلاف
واما النفي فهو ان يهرب في الارض فان جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف منه ثم قال في موضع اخر وذكر هذه الاية من شهر السلاح في قبة الإسلام واخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار ان شاء قتله وان شاء صلبه وان شاء قطع يده ورجله ثم قال ^ او ينفوا من الارض ^ يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب فان تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم # وكذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك
قوله تعالى ^ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ^ قال كان ناس من اهل الكتاب بينهم وبين النبي عهد وميثاق فقطعوا الميثاق وافسدوا في الارض فخير الله رسوله ان يقتل ان شاء او يصلب او يقطع ايديهم وارجلهم من خلاف واما النفي ان يهرب في الارض فلا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما عمل # وقال الضحاك ايما رجل مسلم قتل او اصاب حدا او مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما اصاب قبل ان يهرب من دم او غيره اقيم عليه او اخذ منه # ففي هذين الاثرين انها نزلت في قوم معاهدين من اهل الكتاب لما نقضوا العهد وافسدوا في الارض وكذلك في تفسير الكلبي # عن أبي صالح عن ابن عباس وان كان لايعتمد عليه اذا انفرد
انها نزلت في قوم موادعين وذلك ان رسول الله وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الاسلمي على الا يعينه ولا يعين عليه ومن اتاه من المسلمين فهو امن ان يهاج ومن اتى المسلمين منهم فهو امن ان يهاج ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله فهو امن ان يهاج # قال فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من اسلم من قوم هلال بن عويمر ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا اليهم فقتلوهم واخذوا اموالهم فبلغ ذلك رسول الله فنزل عليه
جبريل بالقصة فيهم فقد ذكر انها نزلت في قوم معاهدين لكن من غير اهل الكتاب # وروى عكرمة عن ابن عباس وهو قول الحسن انها نزلت في المشركين ولعله اراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فان الكافر الاصلي لا ينطبق عليه حكم الاية
والذي يحقق ان ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الاية من الاثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه اتى برجل من اهل الذمة نخس بامراة من المسلمين بالشام حتى وقعت فتجللها فامر به عمر فقتل وصلب فكان أول مصلوب في الإسلام وقال يا ايها الناس اتقوا الله في ذمة محمد ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له وقد رواه عنه
عوف بن مالك الاشجعي وغيره كما تقدم # وروى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الاشعري قال مرت امراة تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضى الله عنه فكتب اليه عمر ان اصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا انما عاهدناهم على ان يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون # وقد قال أبو عبد الله احمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة يقتل هذا قد نقض العهد وكذلك ان كان من اهل الكتاب يقتل ايضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد قيل له ترى عليه الصلب مع القتل قال ان ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه # فهؤلاء اصحاب رسول اله عمر وابو عبيده وعوف بن مالك ومن كان في عصرهم من السابقين الاولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه وبين عمر انا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد وان العهد انتقض بذلك فعلم انهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا انه من محاربة الله ورسوله والسعي في الارض فسادا واستحلوا لذلك قتله وصلبه والا فالصلب مثله لا يجوز الا لمن ذكره الله في كتابه
وقد قال اخرون منهم ابن عمر وانس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن جبير ومكحول وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم انها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن
الإسلام وقتلوا راعي رسول الله واستاقوا ابل رسول الله وحديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فان سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله وكذلك كان عامة العلماء على ان الاية عامة في المسلم والمرتد والناقض كما قال الاوزاعي في هذه الاية هذا حكم حكمه الله في هذه الامة على من حارب مقيما على الإسلام او مرتدا عنه وفيمن حارب من اهل الذمة # وقد جاءت اثار صحيحة عن علي وابي موسى وابي
هريرة وغيرهم رضي الله عنهم تقتضي ان حكم هذه الاية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق ونحوه مقيما على إسلامه لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الاية # والمقصود هنا ان هذا الناقض للعهد والمرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة والتابعين وان كان يدخل فيها بعض من هو على الإسلام وهذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين ومرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الاية # ومما يدل على انه قد عني بها ناقضوا العهد في الجملة ان النبي نفى بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى ارض الحرب وقتل بني
قريظة وبعض اهل خيبر لما نقضوا العهد والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الامور المضرة فحكم النبي وخلفائه في اصناف ناقض العهد كحكم الله في هذه الاية مع صلاحه لأن يكون امتثالا لامر الله فيها دليل على انهم مرادون منها # الوجه الثاني ان ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب انه محارب لله ورسوله فان حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو اولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه لان ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين اولى ان يكون محاربا لله ورسوله ثم لايخلوا اما ان لا يكون محاربا لله ورسوله حتى يقاتلهم ويمتنع عنهم او يكون
محاربا اذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد وان لم يقاتلهم الاول لايصح لما قدمناه من ان هذا قد نقض العهد وصار من المحاربين ولان أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ايما معاهد تعاطى سب الانبياء فهو محارب غادر # وعمر وسائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد ان نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل والصلب فعلم انه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الاقوال والافعال المضرة فهو محاربة داخله في هذه الاية # فان قيل فيلزم من هذا ان يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل اذا اسلم بعد القدرة عليه # قيل وكذلك نقول وعليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فانها اذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد وقيل فيها ^ الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم ^ علم ان التائب بعد القدرة مبقي على حكم الاية # الوجه الثالث ان كل ناقض للعهد فقد حارب الله ورسوله ولولا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلوا اما ان يقتصر على نقض العهد بان يلحق بدار الحرب او يضم إلى ذلك فسادا فان كان الاول فقد حارب الله
ورسوله فقط فهذا لم يدخل في الاية وان كان الثاني فقد حارب وسعى في الارض فسادا مثل ان يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين او يغصب مسلمة على نفسها او يظهر الطعن في كتاب الله ورسوله ودينه او يفتن مسلما عن دينه فان هذا قد حارب الله ورسوله بنقضه العهد وسعى في الارض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين اما دينهم او دنياهم وهذا قد دخل في الاية فيجب ان يقتل او يقتل ويصلب او ينفى من الارض حتى يلحق بارض الحرب ان لم يقدر عليه او تقطع يده ورجله ان كان قد قطع الطرق واخذ المال ولا يسقط عنه ذلك الا ان يتوب من قبل ان يقدر عليه وهوالمطلوب # الوجه الرابع ان هذا الساب محارب الله ورسوله ساع في الارض فسادا فيدخل في الاية وذلك لانه عدو لله ولرسوله ومن عادى الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وذلك لان النبي قال للذي يسبه من يكفنني عدوي وقد تقدم ذكر ذلك من غير وجه اذا كان عدوا له فهو محارب # وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريره رضي الله عنه عن النبي قال يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي وليا فقد
بارزني بالمحاربة # وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله يقول اليسير من الرياء شرك ومن عادى اولياء الله فقد بارز الله بالمحاربه فاذا كان من عادى واحذا من الاولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من اوليائه فانه يكون اشد مبارزة له بالمحاربة واذا كان محاربا لله لاجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الاولى فثبت ان الساب للرسول محارب لله ورسوله
فان قيل فلو سب واحدا من اولياء الله غير الانبياء فقد بارز الله بالمحاربة فانه اذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم واذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح ومع هذا فلا يدخل في المحاربة المذكورة في الاية فقد انتقض الدليل وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد # قيل هذا باطل من وجوه # احدها انه ليس كل من سب غير الانبياء يكون قد عاداهم اذ لا دليل يدل على ذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى ^ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا ^ بعد ان اطلق انه من اذى الله ورسوله فقد لعنه الله في الدنيا والاخرة فعلم ان المؤمن قد يؤذى بما اكتسب ويكون اذاه بحق كإقامة الحدود والانتصار في الشتيمة ونحو ذلك مع كونه وليا لله واذا كان واجبا في بعض الاحيان او جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لان المؤمن يجب عليه ان يوالي المؤمن ولا يعاديه وان عاقبه عقوبة شرعية كما قال تعالى ^ انما وليكم الله ورسوله
والذين امنوا ^ وقال تعالى ^ ومن يتول الله ورسوله والذين امنوا ^ # الثاني أن من سب غير النبي فقد يكون مع السب مواليه من وجه اخر فإن سباب المسلم اذا لم يكن بحق كان فسوقا والفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم ويعتقد مع السب للمؤمن انه تجب موالاته من وجه اخر اما سب النبي فإنه ينافي اعتقاد نبوته ويستلزم البراءة منه والمعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته وهو يقول انه نبي يوجب ان يعامله معاملة المتنبئين وذللك يوجب ابلغ العداوات له # الثالث لو فرض ان سب غير النبي عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له انه ولي لله شهادة توجب ان ترتب عليها الاحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها يقينية نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما ننبه ان شاء الله تعالى عليه
الرابع انه لو فرض انه عادى وليا علم انه ولي فإنما يدل على انه بارز الله بالمحاربة وليس فيه ذكر محاربة الله ورسوله والجزاء المذكور في الاية انما هو لمن حارب الله ورسوله ومن سب الرسول فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه وقد حارب الله ايضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله اخص من محاربة الله والحكم المعلق بالأخص لا يدل على انه معلق بالأعم وذلك ان محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ماجاء به من الرسالة وليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول # الخامس ان الجزاء في الاية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم وقد سعى في الارض فسادا كما سيأتي وهذا الساب للولي وان كان قد حارب الله فلم يسع في الارض فسادا لان السعي في الارض فسادا انما يكون بإفساد عام لدين الناس او دنياهم وهذا انما يتحقق في الطعن في النبي ولهذا لا يجب على الناس الايمان بولاية الوالي ويجب عليهم الايمان بنبوة النبي # السادس ان ساب الولي لو فرض انه محارب لله ورسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل اوجبه لايوجب ان يخرج هذا الساب للرسول لان الفرق بين العداوتين ظاهر والقول العام اذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة اخرى لا تساويها الا بدليل اخر
السابع ان حمله على المحاربة باليد متعذر ايضا في حق الولي فإن من عاداه بيده لم يوجب ذلك ان يدخل في حكم الاية على الاطلاق مثل ان يضربه ونحو ذلك فلا فرق اذا في حقه بين المعادة باليد واللسان بخلاف النبي فإنه لا فرق بين ان يعاديه بيد او لسان فإنه يمكن دخوله في الاية وذلك مقرر الاستدلال كما تقدم # واذا ثبت ان هذا الساب محارب الله ورسوله فهو ايضا ساع في الارض فسادا لان الفساد نوعان فساد الدنيا من الدماء والاموال والفروج وفساد الدين والذي يسب الرسول ويقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم وسواء فرضنا انه افسد على أحد دينه او لم يفسد لأنه سبحانه وتعالى انما قال ^ ويسعون في الارض فسادا ^ قيل انه نصب على المفعول له اي ويسعون في الارض للفساد كما قال ^ واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ^ والسعي هو العمل والفعل فمن سعى ليفسد امر الدين فقد سعى في الارض فسادا وان خاب سعيه وقيل انه نصب على المصدر
او على الحال تقديره سعى في الارض مفسدا كقوله ^ ولا تعثوا في الارض مفسدين ^ او كما يقال جلس قعودا وهذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد وان لم يؤثر لعدم قبول الناس له وتمكينهم اياه بمنزلة قاطع الطريق اذا لم يقتل احدا ولم يأخذ مالا على ان هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط اذا لم يقم عليه الحد # وايضا فإنه لاريب ان الطعن في الدين وتقبيح حال الرسول في اعين الناس وتنفيرهم عنه من أعظم الفساد كما ان الدعاء إلى تعزيره وتوقيره من أعظم الصلاح والفساد ضد الصلاح فكما ان كل قول او عمل يحبه الله فهو من الصلاح فكل قول او عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه وتعالى ^ ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ^ يعني الكفر والمعصية بعد الايمان والطاعة ولكن الفساد
نوعان لازم وهو مصدر فسد يفسد فسادا ومتعد وهو اسم مصدر افسد يفسد افسادا كما قال تعالى ^ سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لايحب الفساد ^ وهذا هو المراد هنا لانه قال ^ ويسعون في الارض فسادا ^ وهذا انما يقال لمن افسد غيره لانه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الارض فسادا وانما يقال في الارض لما انفصل عن الانسان كما قال سبحانه وتعالى ^ ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في انفسكم الا في كتاب ^ # وقال تعالى ^ سنريهم اياتنا في الافاق وفي أنفسهم ^ وقال تعالى ^ وفي الارض ايات للموقنين وفي انفسكم ^ # وايضا فان الساب ونحوه انتهك حرمة الرسول وغض قدره واذى الله ورسوله وعباده المؤمنين وجرا النفوس الكافرة والمنافقة على
اصطلام امر الإسلام وطلب اذلال النفوس المؤمنة وازالة عز الدين واسفال كلمة الله وهذا من ابلغ السعي فسادا # ويؤيد ذلك ان عامة ما ذكر في القران من السعي في الارض فسادا والافساد في الارض فإنه قد عني به افساد الدين فثبت ان هذا الساب محارب لله ورسوله ساع في الارض فسادا فيدخل في الاية # الوجه الرابع ان المحاربة نوعان محاربة باليد ومحاربة باللسان والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون انكى من المحاربة باليد كما تقدم تقريره في المسألة الاولى ولذلك كان النبي يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول بعد موته فإنها انما تمكن باللسان وكذلك الافساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان وما يفسده اللسان من الاديان اضعاف ما تفسده اليد كما ان ما يصلحه اللسان من الاديان اضعاف ما تصلحه اليد فثبت ان محاربة الله ورسوله باللسان اشد والسعي في الارض لفساد الدين باللسان أو كد فهذا الساب لله ورسوله اولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق
الوجه الخامس ان المحاربة خلاف المسالة والمسالة ان يسلم كل من المتسالمين من اذى الاخر فمن لم تسلم من يده او لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب # ومعلوم ان محاربة الله ورسوله هي المغالبة على خلاف ما امر الله ورسوله اذ المحاربة لذات الله ورسوله محال فمن سب الله ورسوله لم يسالم الله ورسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله مغالبة لله ورسوله على خلاف ما امر الله به على لسان رسوله وقد افسد في الارض كما تقدم فيدخل في الاية # وقد تقدم في المسالة الاولى ان هذا الساب محاد لله ورسوله مشاق لله تعالى ورسوله وكل من شاق الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ولانن المحاربة والمشاقة سواء فان الحرب هو الشق ومنه سمي المحارب محاربا واما كونه مفسدا في الارض فظاهر
واعلم ان كل ما دل على ان السب نقض للعهد فقد دلل على انه محاربة لله ورسوله لان حقيقة نقض العهد ان يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد وقد قدمنا في ذلك من الكلام ما لايليق اعادته لما فيه من الاطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضوع يبقى انه سعى في الارض فسادا وهذا اوضح من ان يحتاج إلى دليل فان اظهار كلمة الكفر والطعن في المرسلين والقدح في كتاب الله ودينه ورسله وكل سبب بينه وبين خلقه لا يكون اشد منه فسادا وعامة الاي في كتاب الله التي تنهى عن الافساد في الارض فان من أكثر المراد بها الطعن في الانبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله والذين امنوا وما يخدعون الا انفسهم ^ واذا قيل لهم لاتفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون ^ قال تعالى ^ الاانهم هم المفسدون ^ وانما كان افسادهم نفاقهم وكفرهم وقوله ^ ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ^ وقوله سبحانه ^ والله لايحب الفساد ^
وقوله سبحانه ^ واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ^ واذا كان هذا لمحاربا لله ورسوله ساعيا في الارض فسادا تناولته الاية وشملته # ومما يقرر الدلالة من الاية ان الناس فيها قسمان منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد وناقض عهد ونحوها ومنهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه وفي غيره ولا أعلم احدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الاجماع ثم الذين قالوا انها عامة قال كثير منهم قتادة وغيره قوله ^ الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم ^ هذا لاهل الشرك خاصة فمن اصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فاخذ مالا او اصاب دما ثم تاب من قبل ان يقدر عليه اهدر عنه ما مضى لكن المسلم المقيم على إسلامه
محاربته انما هي باليد لان لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب اما المرتد والناقض للعهد فمحاربته باليد تارة وباللسان اخرى ومن زعم ان اللسان لا تقع به محاربة فالادلة المتقدمة في أول المسألة مع ما ذكرناه هنا تدل على انه محاربة على ان الكلام في هذا المقام انما هو بعد ان تقرر ان السب محاربة ونقض للعهد # واعلم ان هذه الاية اية جامعة لانواع من المفسدين والدلالة منها ظاهرة قوية لمن تأملها لا اعلم شيئا يدفعها # فإن قيل مما يدل على ان المحاربة هنا باليد فقط انه قال ^ إلا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم ^ انما يكون هذا فيمن يكون ممتنعا والشاتم ليس ممتنعا # قيل الجواب من وجوه
احدها ان المستثنى اذا كان ممتنعا لم يلزم ان يكون المستبقى ممتنعا لجواز ان تكون الاية تعم كل محارب بيد او لسان ثم استثنى منهم الممتنع اذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا والممتنع اذا تاب بعد القدرة # الثاني ان كل من جاء تائبا قبل اخذه فقد تاب قبل القدرة عليه # سئل عطاء عن الرجل يجيئ بالسرقة تائبا قال ليس عليه قطع وقرا ^ الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم ^ وكل من لم يؤخذ فهو ممتنع لا سيما إذا لم يؤخذ ولم تقم عليه حجة وذلك لان الرجل وان كان مقيما فيمكنه الاستخفاء والهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم اذا كان لا يواريه في الصحراء خمر ولا غيابه
بخلاف المقيم في المصر وقد يكون المقيم له من يمنعه من اقامة الحد عليه فكل من تاب قبل ان يؤخذ ويرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه # وايضا فإذا تاب قبل ان يعلم به ويثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لان قيام البينة وهو في ايدينا قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة قطعا
الثالث ان المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا وقد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين وكما ان الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل وكما ان الغالب ان القاطع بسيفه انما يخرج على من يستضعفه فكذلك الساب ونحوه انما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من اخذه ورفعه إلى السلطان والشهادة عليه # ومما يقررالدلالة الاستدلال بالآية من وجهين اخرين # احدهما انها قد نزلت في قوم ممن كفر وحارب بعد سلمه باتفاق الناس فيما علمناه وان كانت نزلت ايضا فيمن حارب وهو مقيم على إسلامه فالذمي اذا حارب اما بأن يقطع الطريق على المسلمين او يستكره مسلمة على نفسها ونحو ذلك يصير به محاربا وعلى هذا اذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه وان كان هذا قد اختلف فيه فان العمدة على الحجة فالساب للرسول اولى ولا يجوز ان يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون
ذلك وكذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه انهم قتلوا احدا لاخذ مال ولو كانوا قتلوا احدا لم يسقط القود عن قاتله اذا تاب قبل القدرة وكان قد قتله وله عهد كما لو قتله وهو مسلم # وايضا فقطع الطرق اما أن يكون نقضا للعهد او يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فان كان الاول فلا فرق بين قطع الطريق وغيره من الامور التي تضر المسلمين وحينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده وهو القتل اذا تاب بعد القدرة وان كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق وقد تقدم الدليل على فساده ثم ان الكلام هنا انما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم # الثاني ان الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها
لان الحدود اذا ارتفعت إلى السلطان وجبت ولم يمكن العفو عنها ولا الشفاعة فيها بخلاف ما قبل الرفع ولان التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار والتوبة بعد القدرة توبة اكراه واضطرار بمنزلة توبة فرعون حين ادركه الغرق وتوبة الامم المكذبة لما جاءها البأس وتوبة من حضره الموت فقال اني تبت الان فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب # ولان قبول التوبة بعد القدرة لو اسقطت الحد لتعطلت الحدود وانبثق سد الفساد فان كل مفسد يتمكن اذا اخذ ان يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فانها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهدها الشارع بالاعتبار في غير هذا الاصل فتكون اوصافا مؤثرة او ملائمة فيعلل الحكم بها وهي بعينها موجودة في الساب فيجب ان
لايسقط القتل عنه بالتوبة بعد الاخذ لان إسلامه توبة منه وكذلك توبة كل كافر قال سبحانه وتعالى ^ فإن تابوا واقاموا الصلاة ^ في موضعين والحد قد وجب بالرفع وهذه توبة اكراه واضطرار وفي قبولها تعطيل للحد ولا ينتقض هذا علينا بتوبة الحربي الاصلي فإنه لم يدخل في هذه الاية ولأنه اذا تاب بعد الاسر لم يخل سبيله بل يسترق ويستعبد وهو احدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام والساب لم يكن عليه الا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق والمرتد المجرد لم يسع في الارض فسادا فلم يدخل في الاية ولا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا انما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام وانما نقتله لمقامه على تبديل الدين فاذا اظهر الاعادة اليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله وزال المحذور الذي يمكننا ازالته وانما تعطيل هذا الحد ان يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام ولم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لانا انما طلبنا منه ان يعود إلى الإسلام طوعا او كرها كما لو قاتلناه على الصلاة او الزكاة فبذلها طوعا او كرها حصل مقصودنا والساب ونحوه من المؤذين انما نقتلهم لما فعلوه من الاذى والضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد اعطيناهم العهد على كفرهم فاذا اسلم بعد الاخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده # واما الاذى والضررفهو افساد في الارض قد مضى منه كالافساد بقطع الطريق لم يزل الا بتوبة اضطرار لم تطلب منه ولم يقتل ليفعلها بل
قوتل اولا لليبذل واحدا من الإسلام او اعطاء الجزية طوعا او كرها فبذل الجزية كرها على انه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق ان يقتل فاذا تاب بعد القدرة عليه واسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه # الطريق الثانية قوله سبحانه ^ وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون ^ الايات # وقد قرأ ابن عامر والحسن وعطاء والضحاك والاصمعي
وغيرهم عن أبي عمر لا ايمان لهم بكسر الهمزة وهي قراءة مشهورة # وهذه الاية تدل على انه لا يعصم دم الطاعن ايمان ولايمين ثانيه # اما على قراءة الاكثرين فان قوله ^ لا ايمان لهم ^ اي لاوفاء بالايمان ومعلوم انه انما اراد لا وفاء في المستقبل بيمين اخرى اذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله ^ وان نكثوا ايمانهم ^ فافاد هذا ان الناكث الطاعن إمام في الكفر لايعقد له عهد ثان ابدا # واما على قراءة ابن عامر فقد علم ان الإمام في الكفرليس له ايمان
ولم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لان قوله تعالى ^ فقاتلوا ائمة الكفر ^ ابلغ في انتفاء الايمان عنهم من قوله تعالى ^ لا ايمان لهم ^ وأدل على علة الحكم ولكن يشبه والله اعلم ان يكون المقصود ان الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الايمان كما لم يوثق بما كان عقده من الايمان لان قوله تعالى ^ لا ايمان ^ نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الايمان عنهم مطلقا فثبت ان الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لاايمان له وكل إمام في الكفر لا ايمان له من هؤلاء فانه يجب قتله وان اظهر الايمان # يؤيد ذلك ان كل كافر فانه لا ايمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر فتخصيص هؤلاء بسلب الايمان عنهم لابد ان يكون له موجب ولا موجب له الا نفيه مطلقا عنهم # والمعنى ان هؤلاء لا يرتجى ايمانهم فلا يستبقون وانهم لو اظهروا ايمانا لم يكن صحيحا وهذا كما قال النبي اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم لان الشيخ قد
عسا في الكفر وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لامراء الاجناد شرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو
ابن العاص وستلقون اقواما محوقه رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن اقتل رجلا منهم احب الي من أن اقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله تعالى قال ^ قاتلوا ائمة الكفر انهم لاايمان لهم لعلهم ينتهون ^ والله اصدق القائلين فإنه لا يكاد يعلم احدا من الناقضين للعهود الطاعنين في
الدين ائمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد او نقضه ولم يطعن في الدين او طعن ولم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم ايمان # يبين ذلك انه قال ^ لعلهم ينتهون ^ اي عن النقض والطعن كما سنقرره وانما يحصل الانتهاء اذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب او اخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لانه متى استحمي بعد القدرة طمع امثاله في الحياة فلا ينتهون # وممايوضح ذلك ان هذه الاية قد قيل انها نزلت في اليهود الذين كانوا قد غدروا برسول الله ونكثوا ما كانوا اعطوا من العهودوالايمان على ان لا يعينوا عليه اعداء من المشركين وهموا بمعاونة الكفار والمنافقين على اخراج النبي من المدينة فأخبر انهم بدأوا بالغدر ونكث العهد فأمر بقتالهم # ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الاية مثل مسألتنا سواء
وقد قيل انها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة وقالت طائفة من العلماء براءة انما انزلت بعدتبوك وبعد فتح مكة ولم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من اظهر الإسلام من الطلقاء ولم يبق قتله من الكفر اذا اظهروا النفاق # ويؤيدهذا قراة مجاهد والضحاك ^ نكثوا ايمانهم ^ بكسر الهمزة فتكون دالة على انه من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام
وطعن في الدين فإنه يقاتل وإنه لا ايمان له قال من نصر هذا لانه قال ^ فإن تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ^ ثم قال ^ وان نكثوا ايمانهم ^ فعلم ان هذا نكث بعد هذه التوبة لانه قد تقدم الاخبار عن نكثهم الاول بقوله تعالى ^ لا يرقبون في مؤمن الا ولا ذمة ^ وقوله تعالى ^ كيف وان يظهروا عليكم ^ الاية وقد تقدم ان الايمان من العهود فعلى هذا تعم الاية من نكث عهد الايمان ومن نكث عهد الأمان انه اذا طعن في الدين قوتل وانه لا ايمان له حينئذ فتكون دالة على ان الطاعن في الدين بسب الرسول ونحوه من المسلمين واهل الذمة لا ايمان له ولا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك # فإن قيل قد قيل قوله تعالى ^ لا ايمان لهم ^ اي لا امان لهم مصدر امنت الرجل اؤمنه ايمانا ضد اخفته كما قال تعالى ^ وامنهم من خوف ^
قيل ان كان هذا القول صحيحا فهو حجة ايضا لانه لم يقصد لا امان لهم في الحال فقط للعلم بانهم قد نقضوا العهد وانما يقصد لاامان لهم بحال في الزمان الحاضر والمستقبل وحينئذ فلا يجوز ان يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال # فان قيل انما امر في الاية بالمقاتلة لا بالقتل وقد قال بعدها ^ ويتوب الله على من يشاء ^ فعلم ان التوبة منه مقبولة قيل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة امر بالمقاتلة واخبر سبحانه انه يعذبهم بأيدي المؤمنين وينصر المؤمنين عليهم ثم بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لات ناقضي العهد اذا كانوا ممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود ولذلك قال ^ على من يشاء ^ وانما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم # يوضح ذلك انه قال ^ ويتوب الله ^ بالضم وهذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الامر وذلك يدل على ان التوبة ليست مقصودة من قتالهم ولا هي حاصلة بقتالهم وانما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث والطعن والمضمون بقتالهم تعذيبهم وخزيهم والنصر
عليهم وفي ذلك ما يدل على ان الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لانه لم يقتل ويقاتل لاجلها # يؤيد هذا انه قال ^ كيف يكون للمشركين عهد عند الله ^ إلى قوله ^ فإن تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فاخوانكم في الدين ^ ثم قال ^ وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر ^ فذكر التوبة الموجبة للاخوة قبل ان يذكر نقض العهد والطعن في الدين وجعل للمعاهد ثلاثة احوال # احوال المعاهد # احدها ان يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين # الحال الثانية ان يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الاية قبلها لان الكلام هناك في توبة المحارب وتوبته توجب تخلية سبيله وهنا الكلام في توبة المعاهد وقد كان سبيله مخلى وانما توبته توجب اخوته في الدين قال سبحانه ^ ونفصل الايات لقوم يعلمون ^
وذلك ان المحارب اذا تاب وجب تخليه سبيله اذ حاجته انما هي إلى ذلك وجاز ان يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فاخوته الايمانية تتوقف على ظهور دلائل الايمان كما قال تعالى ^ قالت الاعراب امنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ^ والمعاهد اذا تاب فلا ملجأ له إلى التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة ولا يجوز اكراهه فتوبته دليل على انه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا والمؤمنون اخوة فيكون أخا # الحال الثالثة ان ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا فأمر بقتاله وبين انه ليس له ايمان ولا ايمان والمقصود من قتاله ان ينتهي عن النقض والطعن لا عن الكفر فقط لانه قد كان معاهدا مع الكفر ولم يكن قتاله جائزا فعلم ان الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله وانما المقصود بقتاله انتهاؤه عن مايضر به المسلمين من نقض العهد والطعن في الدين وذلك لايحصل الا بقتل الواحد الممكن وقتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به ويخزون وينصر المؤمنون عليهم اذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتفائها في الحال الاخرى # وذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة بعد ان امر بما يوجب تعذيبهم وخزيهم وشفاء الصدور منهم دليل على ان توبة مثل هؤلاء لابد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على
عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام وللزم ان مثل هؤلاء لا يعذبون ولا يخزون ولا تشفى الصدور منهم وهو خلاف ما امر به في الاية وصار هؤلاء الذين نقضوا العهد وطعنوا في الدين كمن ارتد وسفك الدماء فان كان واحدا فلابد من قتله وان عاد إلى الإسلام وان كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل والله سبحانه اعلم # الطريقة الثالثة قوله سبحانه ^ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر احدهم الموت قال اني تبت الان ^ وقوله تعالى ^ فلما رأوا بأسنا قالوا امنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا ^ وقوله تعالى ^ حتى اذا ادركه الغرق قال امنت انه لا اله الا الذي امنت به بنوا إسرائيل وانا من المسلمين الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ^ وقوله تعالى ^ فلولا كانت قرية امنت فنفعها ايمانها الاقوم يونس ^ وقد تقدم تقرير الدلالة من هذه الايات في قتل المنافق وذكرنا الفرق بين توبة الحربي والمرتد المجرد وتوبة المنافق والمفسد من المعاهدين ونحوهما وفرقنا بين التوبة التي تدرا العذاب والتوبة التي تنفع في الماب
الطريقة الرابعة قوله سبحانه ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة ^ الايات وقد قررنا فيما مضى ان هذه الاية تدل على قتل المؤذي من المسلمين مطلقا وهي تدل على قتل من اظهر الاذى من اهل الذمة لان اللعنة المذكورة موجبة للتقتيل كما في تمام الكلام وقد تقدم تقرير هذا # وذكرنا ان قوله تعالى ^ اولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ^ نزلت في ابن الاشرف لما طعن في دين الإسلام وقد كان عاهد النبي فانتقض عهده بذلك
واخبر الله انه ليس له نصير ليبين ان لاذمة له اذ الذمي له نصير والنفاق قسمان نفاق المسلم استبطان الكفر ونفاق الذمي استبطان المحاربة وتكلم المسلم بالكفر كتكلم الذمي بالمحاربة فمن عاهدنا على ان لايؤذي الله ورسوله ثم نافق بأذى الله ورسوله فهو من منافقي المعاهدين فمن لم ينته من هؤلاء المنافقين اغرى الله نبيه بهم فلا يجاورونه الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلا ففي الاية دلالتان # احداهما ان هذا ملعون والملعون هو الذي يؤخذ اين وجد ويقتل فعلم ان قتله حتم لانه لم يستثن حالا من الاحوال كما استثنى في سائر الصور ولانه قال قتلوا وهذا وعد من الله لنبيه يتضمن نصره والله لا يخلف الميعاد فعلم انه لابد من تقتيلهم اذا اخذوا ولو سقط عنهم القتل بإظهار الإسلام ولم يتحقق الوعد مطلقا # الثانية انه يجعل انتهاءهم النافع قبل الأخذ والتقتيل كما جعل توبة المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم فعلم انهم ان انتهوا عن
اظهار النفاق من الاذى ونحوه النفاق في العهد والنفاق في الدين والا اغراه الله بهم حتى لا يجاورونه في البلد ملعونين يؤخذون ويقتلون وهذا الطاعن الساب لم ينته حتى اخذ فيجب تقتيله # وفيها دلالة ثالثة وهو ان الذي يؤذي المؤمنين من مسلم او معاهد اذا اخذ اقيم عليه حد ذلك الاذى ولم تدرأه عنه التوبة الان فالذي يؤذي الله ورسوله بطريق الاولى لان الاية تدل على ان حاله اقبح في الدنيا والاخرة # الطريقة الخامسة ان ساب النبي يقتل حدا من الحدود لا لمجرد الكفر وكل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالإسلام # وهذا الدليل مبني على مقدمتين # احداهما انه يقتل لخصوص سب رسول الله المستلزم للردة ونقض العهد وان كان ذلك مضمنا للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة ومجرد نقض العهد في بعض المواضع والدليل على ذلك انه قد تقدم ان النبي اهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسبه عند الاعمى
الذي كان يأوي اليها ولا يجوز ان يكون قتلها لمجرد نقض العهد لان المراة الذمية اذا نتقض عهدها فانها تسترق ولا يجوز قتلها ولا يجوز قتل المراة للكفر الاصلي الا ان تقاتل وهذه المراة لم تكن تقاتل ولم تكن معينة على قتال كما تقدم ثم انها اذا كانت تقاتل ثم اسرت صارت رقيقة ولم تقتل عند كثير من الفقهاء منهم الشافعي رضي الله عنه لاسيما ان كانت رقيقة فان قتلها يمتنع لكونها امراة ولكونها رقيقة لمسلم فثبت ان قتلها كان لخصوص السب للنبي وانه جناية من الجنايات الموجبة للقتل كما لو زنت المراة الذمية او قطعت الطريق على المسلمين او قتلت مسلما او كما لو بدلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرتدة بل هذا ابلغ لانه ليس في
قتل المرتدة من السنة الماثورة الخاصة في كتب السنن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابة الذمية # يوضح ذلك ان بني قريظة نقضوا العهد ونزلوا على حكم سعد ابن معاذ فحكم فيهم بان تقتل مقاتليهم وتسبى الذرية من النساء والصبيان فقال النبي لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة ثم قتل النبي الرجال واسترق النساء والذرية
ولم يقتل من النساء الا امراة واحدة كانت قد القت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين ففرق بين الذرية التي لم يثبت في حقهم الامجرد انتقاض العهد وبين الذرية الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين وهذه المراة الذمية لم ينتقض عهدها بانها لحقت بدار الحرب
وامتنعت عن المسلمين وانما نقضت العهد بإن ضرت المسلمين واذت الله ورسوله وسعت في الارض فسادا بالصد عن سبيل الله والطعن في دين الله كما فعلت المراة الملقية للرحى فعلم انها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد وهي لم تكن مسلمة حتى يقال انها قتلت للردة ولا هي ايضا بمنزلة امراة قاتلت ثم اسرت حتى يقال تصير رقيقة بنفس السبي لاتقتل او يقال يجوز قتلها كما يجوز قتل الرجل اذا اسلمت عصم الإسلام الدم وبقيت رقيقة لوجهين # احدهما ان هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن تسمعه للمشركين ولا لعموم المسلمين حتى يقال هو بمنزلة اعانة الكفار على القتال من كل وجه # الثاني انها لم تكن ممتنعة حين السب بل هي حين السب ممكنة مقدور عليها وحالها قبله وبعده سواء # فالسب وان كان حرابا لكنه لم يصدر من ممتنعة اسرت بعد ذلك بل من امراة ملتزمة للحكم بيننا وبينها العهد على الذمة ومعلوم ان السب من الامور المضرة للمسلمين وانه من ابلغ الفساد في الارض لما فيه من ذل الايمان وعز الكفر واذا ثبت انها لم تقتل للكفر ولا لنقض العهد ولا لحراب اصلي متقدم على القدرة عليها ثبت ان قتلها حد من الحدود والقتل الواجب حدا لا لمجرد الكفر لا يسقط بالإسلام كحد الزاني والقاطع والقاتل وغيرهم من المفسدين
ومما يقرر الامر ان السب اما ان يكون حرابا او جناية مفسدة ليست حرابا فان كان حرابا فهو حراب من ذمي او مسلم وسعي في الارض فسادا والذمي اذا حارب وسعى في الارض فسادا وجب قتله وان اسلم بعد القدرة عليه حيث يكون حرابا موجبا للقتل وحراب هذه المراة موجب للقتل كما جاءت به السنة وان كانت جناية مفسدة ليست حرابا وهي موجبة للقتل قتلت ايضا بعد الاخذ بطريق الاولى كسائر الجنايات الموجبة للقتل وهذا كلام مقرر ومداره على حرف واحد وهو ان السب وان كان من اعمال اللسان فقد دلت السنة بأنه بمنزلة الفساد والمحاربة بعمل الجوارح واشد ولذلك قتلت هذه المراة # وتمام ذلك ان قياس مذهب من يقول ان الساب اذا قتل انما يقتل لانه نقض العهد ان لايجوز قتل هذه بل لو كانت قد قتلت باليد واللسان ثم اخذت لم تقتل عنده فاذا دلت السنة على فساد هذا القول علم صحة القول الاخر اذ لا ثالث بينهما ولا ريب عند أحد ان من قتل لحدث اخذ به اوجب نقض عهده ولم يقتل لمجرد ان انتقض عهده فقط فإن قتله لا يسقط بالإسلام لان فساد ذلك الحدث لا يزول بالإسلام # الاترى ان الجنايات الناقضة للعهد مثل قطع الطريق وقتل المسلم والتجسس للكفار والزنى بمسلمة واستكراهها على
الفجور ونحو ذلك اذا صدر من ذمي فمن قتله لنقض العهد قال متى اسلم لم اخذه الا بما يوجب القتل اذا فعله المسلم باقيا على إسلامه مثل ان يكون قد قتل في قطع الطريق فأقتله او زنى فأحده او قتل مسلما فاقيده لانه بالإسلام صار بمنزلة المسلمين فلا يقتل كفرا ومن قال اقتله لمحاربة الله ورسوله وسعيه في الارض فسادا قال اقتله وان اسلم وتاب بعد اخذه كما اقتل المسلم اذا حارب ثم تاب بعد القدرة لان الإسلام الطارئ لا يسقط الحدود الواجبة قبله لادمي بحال وان منع ابتداء وجوبها كما لو قتل ذمي ذميا او قذفه ثم اسلم فان حده لا يسقط ولو قتله او قذفه ابتداء لم يجب عليه قود ولا حد ولا يسقط ما كان منها لله اذا تاب بعد القدرة كما لو قتل في قطع الطريق فانه لايسقط عنه بالإسلام وفاقا فيما اعلم وكذلك لو زنى ثم اسلم فان حده القتل الذي كان يجب عليه قبل الإسلام عند احمد وعند الشافعي حده حد المسلم فحد السب ان كان حقا لادمي لم يسقط بالإسلام وان كان حقا لله فليس حدا على الكفر الطارئ
والمحاربة الاصلية كما دلت عليه السنة ولا على مجرد الكفر الاصلي بالاتفاق فيكون حدا لله على محاربة موجبة كقتل المراة وكل قتل وجب حدا على محاربة ذمية لم يسقط بالإسلام بعد القدرة بالاتفاق فان الذمية اذا لم تقتل في المحاربة لم يقتلها من يقول قتل الذمي المحارب انما هو لنقض العهد ومن قتلها كما دلت علية السنة فلا فرق في هذا الباب بين ان تسلم بعد القدرة او لا تسلم # واعلم ان من قال ان هذه الذمية تقتل فاذا اسلمت سقط عنها القتل لم يجد لهذا في الاصول نظيرا ان ذمية تقتل وهي في ايدينا ويسقط عنها القتل بالإسلام بعد الاخذ ولا اصل يدل على هذه المسالة والحكم اذا لم يثبت باصل ولا نظير كان تحكما ومن قال انها تقتل بكل حال فله نظير يقيس به وهو المحاربة باليد الزانية ونحوهما # الطريقة السادسة الاستدلال من قتل بنت مروان وهو
كالاستدلال من هذه القصة لانا قد قدمنا انها كانت من المهادنين والموادعين وانما قتلت للسب خاصة والتقرير كما تقدم # الطريقة السابعة ان النبي قال من لكعب بن الاشرف فانه قد اذى الله ورسوله وقد كان معاهدا قبل ذلك ثم هجا رسول الله وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله مع كونه قد امنهم على دمه وماله لاعتقاده بقاء العهد ولانهم جاؤوه مجيئ من قد امنه ولو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله اذا امنهم كما تقدم لان الحربي اذا قتل له او علمت معه ما يعتقد انه امان صار له امان
وكذلك كل من يجوز امانه فعلم ان هجاءه للنبي واذه لله تعالى ورسوله لاينعقد معه امان ولا عهد وذلك دليل على ان قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق اذ ذلك يقتل وان اومن كما يقتل الزاني والمرتد وان اومن وكل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقا # الطريقة الثامنة انه قد دل هذا الحديث على ان اذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد فيكون ذلك علة اخرى غير مجرد الكفر والردة فان ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على انه علة والاذى لله ورسوله يوجب القتل ويوجب نقض العهد ويوجب الردة # يوضح ذلك ان اذى الله ورسوله لو كان انما اوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الاعم فإن الاعم اذا كان
مستقلا بالحكم كان الاخص عديم التاثير فلماعلل قتله بالوصف الاخص علم انه مؤثر في الامر بقتله لا سيما في كلام من اوتي جوامع الكلم واذا كان المؤثر في قتله اذى الله ورسوله وجب قتله وان تاب كما ذكرناه فيمن سب النبي من المسلمين فان كلاهما اوجب قتله انه اذى الله ورسوله وهو مقر للمسلمين بان لا يفعل ذلك فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط بالتوبة سقطت عنهما ولانه قال سبحانه ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا ^ وقال في خصوص هذا المؤذي ^ اولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ^ وقد اسلفنا ان هذه اللعنة توجب القتل اذا اخذ ولانه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله ثم قال ^ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا ^ ولا خلاف علمناه ان الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة فالذين يؤذون الله ورسوله احق واولى لان القران قد بين ان هؤلاءاسوا حالا في الدنيا والاخرة فلو اسقطنا عنه العقوبة بالتوبة لكانوا احسن حالا
وليس للمنازع هنا الا كلمة واحدة وهو ان يقول هذا قد تغلظت عقوبته بالقتل لانه نوع من المرتدين وناقض العهد والكافر تقبل توبته من الكفر وتسقط عنه العقوبة بخلاف المؤذي بالفسق # فيقال له هذا لو كان الموجب لقتله انما هو الكفر وقد دلت السنة على ان الموجب لقتله انما هو اذى الله ورسوله وهذا اخص من عموم الكفر وكما ان الزنى والسرقة والشرب وقطع الطريق اخص من عموم المعصية والشارع رتب الامر بالقتل على هذا الوصف الاخص الذي نسبته إلى سائر انواع الكفر نسبة اذى المؤمنين إلى سائر انواع المعاصي فالحاق هذا النوع بسائر الانواع جمع بين ما فرق الله بينه ورسوله وهو من القياس الفاسد كقياس الذين قالوا انما البيع مثل
الربا وانما الواجب ان يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الاسماء والصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها وتغلظ عقوبته ابتداء لا يوجب تخفيفها انتهاء بل يوجب تغلظها مطلقا اذا كان الجرم عظيما وسائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداء ولا انتهاء مثل هذا فانه يجوز اقرارهم بجزية واسترقاقهم في الجملة ويجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب وهذا بخلاف ذلك # وايضا فان الموجب لقتله اذا كان هو أذى الله ورسوله كان محاربا لله ورسوله وساعيا في الارض فسادا وقد اومأ النبي إلى ذلك في حديث ابن الاشرف كما تقدم وهذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة ما لم يرتب على غيره من انواع الكفر وتحتمت عقوبة صاحبه الا ان يتوب قبل القدرة # الطريقة التاسعة انا قد قدمنا عن النبي انه اهدر عام الفتح دماء نسوة لاجل انهن كن يؤذينه بالسنتهن منهن القينتان لابن
خطل اللتان كانتا تغنيان بهجائه ومولاة لبني عبد المطلب كانت تؤذيه وبينا بيانا واضحا انهن لم يقتلن لاجل حراب ولا قتال وانما قتلن لمجرد السب وبينا ان سبهن لم يجر مجرى قتالهن بل كان اغلظ لان النبي امن عام الفتح المقاتلة كلهم الا من له جرم خاص يوجب قتله ولان سبهن كان متقدما على الفتح ولا يجوز قتل المراة في بعض الغزوات لاجل قتال منها متقدم قد كفت عنه وامسكت في هذه الغزوة وبينا بيانا واضحا ان قتل هؤلاء النسوة ادل شيء على قتل المراة السابة من مسلمة ومعاهدة وهودليل قوي على جواز قتل السابة وان تابت من وجوه # احدها ان هذه المراة الكافرة لم تقتل لا اجل انها مرتدة ولا لاجل انها مقاتلة كما تقدم فلم يبق ما يوجب قتلها الا انها مفسدة في الارض محاربة لله ورسوله ووهذه يجوز قتلها بعد التوبة اذا كان قتلها جائزا قبلها بالكتاب والسنة والاجماع # الثاني سب اولئك النسوة اما ان يكون حرابا او جناية موجبة للقتل غير الحراب اذ قتلهن لمجرد الكفر غير جائز كما تقدم فان كان حرابا فالذمي اذا حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا يجب قتله بكل حال كما دل عليه القران وان كان جناية اخرى مبيحة للدم فهو اولى واحرى وقد قدمنا فيما مضى ما يبين ان هؤلاء النسوة لم يقتلن
لحراب كان موجودا منهن في غزوة الفتح وانما قتلن جزاء على الجرم الماضي ونكالا عن مثله وهذا يبين ان قتلهن بمنزلة قتل اصحاب الحدود من المسلمين والمعاهدين # الثالث ان اثنتين منهن قتلتا والثالثة اخفيت حتى استؤمن لها النبي بعد ذلك فأمنها لانه كان له ان يعفوا عمن سبه كما تقدم وله ان يقتله ولم يعصم دم أحد ممن اهدر دمه عام الفتح الا امانه فعلم ان مجرد الإسلام لم يعصم دم هذه المراة وانما عصم دمها عفوه # وبالجملة فقصة قتله لاولئك النسوة من اقوى ما يدل على جوازقتل السابة بكل حال فانه المراة الحربية لا يبيح قتلها الا قتالها واذا قاتلت ثم تركت القتال في غزوة اخرى واستسلمت وانقادت لم يجز قتلها في هذه الثانية ومع هذا فالنبي امر بقتلهن # وللحديث وجهان # احدهما ان النبي قد كان عاهد اهل مكة والظاهر ان عهده انتظم الكف عن الاذى باللسان فان في كثير من الحديث ما يدل
على ذلك وحينئذ فهؤلاء اللواتي هجونه نقضن العهد نقضا خاصا بهجائهن فكان للنبي قتلهن بذلك وان تبن وهذه ترجمة المسالة # الثاني انه كان له ان يقتل من هجاه اذا لم يتم متى قدر عليه وان كان حربيا لكن سقط هذا بموته كما يسقط بموته العفو عن المسلم والذمي الساب ويكون قد كان امر الساب هو مخير فيه مطلقا لكونه اعلم بالمصلحة فاذا مات تحتم قتل من التزم ان لا يسب وكان الحربي الساب كغيره من الحربيين اذا تاب # وهذا الوجه ضعيف فإنه اثبات حكم باحتمال والاول جار على القياس ومن تأمل قصة الذين اهدرت دمائهم عام الفتح علم انهم كلهم كانوا محاربين لله ورسوله ساعين في الارض فسادا # الطريقة العاشرة انه امر في حال واحدة بقتل جماعة ممن كان يؤذيه بالسب والهجاء مع عفوه عمن كان اشد منهم في الكفروالمحاربة
بالنفس والمال فقتل عقبة بن أبي معيط صبرا بالصفراء وكذلك النضر بن الحارث لما كان يؤذيانه وبفتريان عليه ويطعنان فيه مع استبقائه عامة الاسرى # وقد تقدم انه قال يامعشر قريش مالي اقتل من بينكم صبرا فقال النبي بكفرك وافترائك على رسول الله ومعلوم ان مجرد الكفر يبيح القتل فعلم أن الافتراء على رسول الله سبب اخر اخص من عموم الكفر موجب للقتل فحيث ما وجد وجد معه وجوب القتل واهدر عام الفتح دم الحويرث بن نقيد ودم ابي
سفيان بن الحارث ودم ابن الزبعرى واهدر بعد ذلك دم كعب ابن زهير وغيرهم لانهم كانوا يؤذون رسول الله كما اهدر دم من ارتد وحارب ودم من ارتد وافترى على رسول الله ودم من ارتد وحارب واذى الله ورسوله مع امانه لجميع الذين حاربوه ونقضوا عهده فعلم ان اذاه سبب منفرد باباحة القتل وراء الكفر والحراب بالانفس والاموال كقطع الطريق وقتل النفس # وقد تقدم ما كان يأمر به ويقر عليه اذا بلغه وما كان يحرض عليه المسلمين من قتل الساب دون غيره من الكافرين حتى انه لا يحقن دم الساب الاعفوه بعد ذلك فعلم انه كان يلحق الساب بذوي الافعال الموجبة للقتل من قطع طريق ونحوه وهذا ظاهر لمن تامله فيما مضى من الاحاديث وما لم نذكره ومثل هذا يوجب قتل فاعله من مسلم ومعاهد وان تاب بعد القدرة واذا ضم هذا الوجه إلى الذي قبله وعلم ان الاذى وحده سبب يوجب القتل لا لكونه من جنس القتال لان النبي قد امن الذين قاتلوه بالانفس والاموال من الرجال
فامان المراة التي اتت بما يشبه القتال اولى لو كان جرمها من جنس القتال ولان المراة اذا قاتلت في غزوة من الغزوات ثم غزا المسلمون غزوة وعلموا انها لم تقاتل فيها بيد ولا لسان لم يجز قتلها عند أحد من المسلمين علمناه وهؤلاء النسوة كان اذاهن متقدما على فتح مكة ولم يكن لهن في غزو الفتح معونة بيد ولا لسان بل كن مستسلمات منقادات لو علمن ان اظهار الإسلام يعصم دماءهن لبادرن إلى اظهاره فهل يعتقد أحد ان مثل هذه المراة تقتل لكونها محاربة خصوصا عند الشافعي فان منصوصه ان قتل المراة والصبي اذا قاتلا بمنزلة قتل الصائل من المسلمين يقصد به دفعهما وان افضى إلى قتلهما فاذا انكفا بدون القتل لاسر او ترك للقتال ونحو ذلك لم يجز قتلهما كما لايجوز قتل الصائل فاذا كان يامر بقتل من كان يؤذيه ويهجوه من النساء وقد تركن ذلك واستسلمن وربما كن يوددن ان يظهرن الإسلام ان كان عاصما وقد امن المقاتلين كلهم علم ان السب سبب مستقل موجب لحل دم كل أحد وان تركه ذلة وعجز
يؤيد ذلك ان النبي امن اهل مكة الا من قاتل الا هؤلاء النفر فانه امر بقتلهم قاتلوا او لم يقاتلوا فعلم ان هؤلاء النسوة قتلن لاجل السب لا لاجل انهن يقاتلن # الطريقة الحادية عشرة ان عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد وافترى على النبي انه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد فاهدر النبي دمه ونذر بعض المسلمين ليقتلنه ثم حبسه عثمان اياما حتى اطمان اهل مكة ثم جاء به تائبا ليبايع النبي ويؤمنه فصمت النبي طويلا رجاء ان يقوم اليه الناذر او غيره فيقتله ويوفي بنذره # ففي هذا دلالة على ان المفتري على رسول الله الطاعن عليه قد كان له ان يقتله وان دمه مباح وان جاء تائبا من كفره وفريته لان قتله لو كان حراما لم يقل النبي ما قال ولا قال للرجل هلا
وفيت بنذرك بقتله # ولا خلاف بين المسلمين علمناه ان الكافر اذا جاء تائبا مريدا للإسلام مظهرا لذلك لم يجز قتله لذلك ولا فرق في ذلك بين الاصلي والمرتد الا ما ذكرناه من الخلاف الشاذ في المرتد مع ان هذا الحديث يبطل ذلك الخلاف بل لو جاء الكافر طالبا لان يعرض عليه الإسلام ويقرأ عليه القران لوجب امانه لذلك # كما قال تعالى ^ وان أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مامنه ^ # وقال تعالى في المشركين ^ فان تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ^
وعبد الله بن سعد انما جاء تائبا ملتزما لا قامة الصلاة وايتاء الزكاة بل جاء بعد ان اسلم كما تقدم ذكر ذلك ثم ان النبي بين انه كان مريدا لقتله وقال للقوم هلا قام بعضكم اليه ليقتله وهلا وفيت بنذرك في قتله فعلم انه قد كان جائزا له ان يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار وان جاء مظهر للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه وفي ذلك دلالة ظاهرة على ان الافتراء عليه واذاه يجوز له قتل فاعله وان اظهر الإسلام والتوبة # ومما يشبه هذا اعراضه عن أبي سفيان بن الحارث وابن أبي امية
وقد جاءا مهاجرين يريدان الإسلام او قد اسلما وعلل ذلك بانهما كانا يؤذيانه ويقعان في عرضه مع انه لا خلاف علمناه ان الحربي اذا جاء يريد الإسلام وجبت المسارعة إلى قبوله منه وكان الاستيناء به حراما وقد عده بعض الناس كفرا # وقد كانت سيرته في المسارعة إلى قبول الإسلام من كل من اظهره وتاليف الناس عليه بالاموال وغيرها أشهر من ان يوصف فلما ابطأ عن هذين واراد ان لايلتفت اليهما البتة علم انه كان له ان يعاقب من كان يؤذيه ويسبه وان اسلم وهاجر وان لا يقبل منه من الإسلام والتوبة ما يقبله من الكافر الذي لم يكن يؤذيه وفي هذا دلالة على ان السب وحده موجب للعقوبة # يوضح ذلك ما ذكره اهل المغازي ان علي بن أبي طالب قال لابي سفيان بن الحارث ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال اخوة يوسف ليوسف ^ تالله لقد اثرك الله علينا وان كنا لخاطئين ^ فانه لا يرضى ان يكون أحد احسن قولا منه ففعل
ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله ^ لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين ^ # ففي هذا دلالة على ان ما ناله من عرضه كان له ان يعاقب عليه وان يعفو كما كان ليوسف ان يعاقب اخوته على ما فعلوا به من الالقاء في الجب وبيعه للسيارة ولكن لكرمه عفا ولو كان الإسلام يسقط حقه بالكلية كما يسقط حقوق الله لم يتوجه شئ من هذا # وقد تقدم تقرير هذا الوجه في أول الكتاب وبينا انه نص في جواز قتل المرتد الساب بعد إسلامه فكذلك قتل الساب المعاهد لان الماخذ واحد # ومما يوضحه ان المسلمين قد كان استقر عندهم ان الكافر الحربي اذا اظهر الإسلام حرم عليهم قتله لا سيما عند السابقين الاولين مثل عثمان ابن عفان ونحوه وقد علموا قوله تعالى ^ ولاتقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمنا ^ وقصة أسامة بن زيد وحديث
المقداد فلما كان اولئك الذين اهدر النبي دماءهم منهم من قتل ومنهم من اخفي حتى اطمان اهل مكة وطلب من النبي ان يبايعه دل على ان عثمان رضي الله عنه وغيره من المسلمين علموا ان اظهار عبد الله ابن سعد بن أبي سرح ونحوه الإسلام لا يحقن دماءهم دون ان يؤمنهم النبي والا فقد كان يمكنهم ان يامروهم باظهار الإسلام والخروج من أول يوم # والظاهر والله اعلم انهم قد كانوا اسلموا وانما تاخرت بيعتهم للنبي على الإسلام ومع ذلك فلم يعصم دماءهم فثبت انهم علموا ان جرم مثل هؤلاء لا يعصمه مجرد الإسلام حتى يؤمنهم النبي وذلك دليل على انه قد كان للنبي قتلهم لاجل سبه مع اظهار التوبة # وقد روي عن عكرمة ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر اخرون ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة اذ نزل النبي بمر الظهران # وهذا الذي ذكروه نص في المسألة وهو شبيه بالحق فان النبي
لما نزل بمر الظهران شعرت به قريش حينئذ وابن أبي سرح قد علم ذنبه فيكون قد اسلم حينئذ ولما بلغه ان النبي قد اهدر دمه تغيب حتى استؤمن له والحديث لمن تامله دليل على ان النبي كان له ان يقتله وان يؤمنه وان الإسلام وحده لم يعصم دمه حتى عفا عنه رسول الله # فمن ذلك ان عثمان جاء ليشفع له إلى النبي فصمت عنه رسول الله طويلا واعرض عنه مرة بعد مرة وعثمان ياتيه من كل وجهة وهو معرض عنه رجاء ان يقوم بعضهم فيقتله وعثمان في ذلك يكب على النبي يقبل راسه ويطلب منه ان يبايعه ويذكر ان لامه عليه حقوقا حتى استحيا النبي من عثمان فقضى حاجته ببيعته مع انه كان يود ان لايفعل فعلم ان قتله كان حقا له له ان يعفو عنه ويقبل فيه شفاعة شافع وله ان لا يفعل ولو كان ممن يعصم الإسلام دمه لم يحتج إلى شفاعة ولم يجز رد الشفاعة
ومنها ان عثمان لما قال للنبي انه يفر منك قال الم ابايعه واومنه قال بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه فقال الإسلام يجب ما قبله وفي هذا بيان لان خوفه من النبي ان يقتله انما زال بامانه وبيعته لا لمجرد الإسلام وان اثمه زال بالإسلام فعلم ان الإسلام يمحو اثم السب واما سقوط القتل فلا يحصل بمجرد الإسلام لان النبي ازال خوفه من القتل بالامان وازال خوفه من الذنب بالإسلام # ومما يدل على ان الانبياء لهم ان يعاقبوا من اذاهم بالهلاك وان اظهر التوبة والندم ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ان قارون كان يؤذي موسى عليه السلام وكان ابن عمه فبلغ من اذاه اياه ان قال لامرأة بغي اذا اجتمع الناس عندي غدا فتعالي وقولي ان موسى راودني عن نفسي فلما كان
الغد واجتمع الناس جاءت فسارت قارون ثم قالت للناس ان قارون قال لي كذا وكذا وان موسى لم يقل لي شيئا من هذا فبلغ ذلك موسى عليه الصلاة والسلام وهو قائم يصلي في المحراب فخر ساجدا فقال اي رب ان قارون قد اذاني وفعل وفعل وبلغ من اذاه اياي ان قال ما قال فاوحى الله إلى موسى ان ياموسى اني قد امرت الارض ان تطيعك وكان لقارون غرفة قد ضرب عليها صفائح الذهب فاتاه موسى ومعه جلساؤه فقال يا قارون قد بلغ من امرك ان قلت كذا وكذا يا ارض خذيهم فاخذتهم الارض إلى كعبهم فهتفوا يا موسى يا موسى ادع لنا ربك ان ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال خذيهم فاخذتهم إلى انصاف سوقهم فهتفوا وقالوا يا موسى ادع لنا ربك ان ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال يا ارض خذيهم فاخذتهم إلى ركبهم فلم يزل يقول يا ارض خذيهم حتى تطابقت عليهم وهم يهتفون فاوحى الله اليه يا موسى ما افظك اما انهم لو كانوا اياي دعوا لخلصتهم # ورواه عبد الرزاق قال حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا علي بن زيد
ابن جدعان فذكره ابسط من هذا وفيه ان المراة قالت ان قارون بعث إلي فقال هل لك إلى ان امولك واعطيك واخلطك بنسائي على ان تاتيني والملا من بني إسرائيل عندي تقولين يا قارون الا تنهى موسى عن اذاي # واني لم اجد اليوم توبة أفضل من ان اكذب عدو الله وابرئ رسول الله قال فنكس قارون راسه وعرف انه قد هلك وفشا الحديث في الناس حتى بلغ موسى وكان موسى شديد الغضب فلما بلغه ذلك توضا ثم صلى فسجد وبكى وقال يا رب عدوك قارون كان لي مؤذيا فذكر اشياء ثم لم يتناه حتى اراد فضيحتي يارب فسلطني عليه فاوحى الله اليه ان مر الارض بما شئت تطعك قال فجاء موسى عليه السلام يمشي إلى قارون فلما راه قارون عرف الغضب في وجهه فقال ياموسى ارحمني فقال موسى يا ارض خذيهم فاضطربت داره وخسف به وباصحابه إلى ركبهم وساخت داره على قدر ذلك وجعل يقول يا موسى ارحمني ويقول موسى يا ارض خذيهم وذكر القصة
فهذه القصة مع ان النبي قال لابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه قول القائل ان هذه لقسمة ما اريد بها وجه الله دعنا منك لقد اوذي موسى باكثر من هذا فصبر # فهذا مع ما ذكرناه من احوال النبي دليل على ان الانبياء صلوات الله عليهم وسلامه لهم ان يعاقبوا من اذاهم وان تاب ولهم ان
يعفوا عنه كما ذلك لغيرهم من البشر لكن لهم ان يعاقبوا من يؤذيهم بالقتل والهلاك وليس لغيرهم ان يعاقبه بمثل ذلك # وذلك دليل على ان عقوبة مؤذيهم حد من الحدود لا لمجرد الكفر فان عقوبة الكافر تسقط بالتوبة بلا ريب وقارون قد كان تاب في وقت تنفع فيه التوبة ولهذا في الحديث اما انهم لو كانوا اياي دعوا لخلصتهم وفي لفظ لرحمتهم وانما كان يرحمهم سبحانه والله اعلم بان يستطيب نفس موسى من اذاهم له كما يستوهب المظالم لمن يرحمه من عباده ممن هي له ويعوضه منها # الطريقة الثانية عشرة ما تقدم من حديث انس بن زنيم الديلي الذي ذكر عنه انه هجا النبي ثم جاءه وانشده قصيدة تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهدا فتوقف النبي فيه وجعل يسال العفو عنه حتى عفا عنه فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد جائزة لما توقف النبي في حقن دمه ولا احتاج
الى العفو عنه ولولا ان للرسول عليه حقا يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه كما لم يكن يعفو عمن اسلم ولا تبعه عليه وحديثه لمن تامله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي من المعاهدين ثم اسلم كما ان حديث ابن أبي سرح دليل واضح على جواز قتل من سبه مرتدا ثم اسلم وذلك انه لما بلغه انه هجاه وقد كان مهادنا موادعا وكان العهد الذي بينهم يتضمن الكف عن اظهار اذاه وكان على ما قيل عنه قد هجاه قبل ان يقتل بنو بكر خزاعة وقبل ان ينقضوا
العهد فلذلك نذر النبي دمه ثم انشد قصيدة تتضمن انه مسلم يقول فيها تعلم رسول الله تعلم رسول الله ونبي رسول الله وينكر فيها ان يكون هجاه ويدعو على نفسه بذهاب اليد ان كان هجاه وينسب الذين شهدوا عليه إلى الكذب وبلغت رسول الله قصيدته واعتذاره قبل ان يجئ اليه وشفع له كبير قبيلته نوفل بن معاوية وكان نوفل هذا هو الذي نقض العهد وقال يارسول الله انت اولى الناس بالعفو ومن منا لم يعادك ويؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما ناخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وانقذنا بك عن الهلك وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك فقال دع الركب عنك فانا لم نجد بتهامة احدا من ذي رحم ولا بعيد الرحم كان ابر من خزاعة فاسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله قد عفوت عنه قال نوفل فداك أبي وامي
فلو كان الإسلام المتقدم قد عصم دمه لم يحتج إلى العفو كما لم يحتج اليه من اسلم ولا حد عليه ولكان قال الإسلام يجب ما قبله كما قاله لغيره من الحربيين كما يقوله من يقول ان هذا لا يقتل بعد إسلامه فيقول الإسلام يجب ما قبله وصاحب الشريعة بين ان ما اسقط قتله عفوه وذلك ان قوله عفوت عنه اما ان يكون افاده سقوط ما كان نذره من دمه او لم يفده ذلك فان لم يفده فلا معنى لقوله عفوت عنه وان كان قد افاده سقوط ذلك الاهدار فقبل ذلك لو قتله بعض المسلمين بعد ان اسلم وقبل ان عفا عنه النبي لكان جائزا لانه متبع لامر رسول الله بقتله امرا مطلقا إلى حين عفا عنه كما ان امره بقتل ابن أبي سرح كان باقيا حكمه إلى ان عفا عنه وكذلك عتبهم اذا لم يقتلوه قبل عفوه وهذا بين في هذه الاحاديث بيانا واضحا ولو كان عند المسلمين ان من هجاه من معاهد ثم اسلم عصم دمه لكان نوفل وغيره من المسلمين علموا ذلك وقالوا له كما قالوا لكعب بن زهير ونحوه ممن هجاه وهو حربي انه لايقتل من جاءه مسلما الا ترى انهم لم يظهروه لرسول الله حتى عفا عنه كما لم يظهروا ابن أبي سرح حتى عفا عنه بخلاف كعب بن زهير وابن الزبعرى فانهما جاءا بانفسهما لثقتهما بانه لا يمكن قتل الحربي اذا جاء مسلما وامكان ان يقتل الذمي الساب والمرتد الساب وان جاءا مسلمين وان كانا قد اسلما ثم انه قال في قصيدته
% فاني لا عرضا خرقت ولا دما % هرقت ففكر عالم الحق واقصد %
فجمع بين خرق العرض وسفك الدم فعلم انه مما يؤخذ به وان اسلم ولولا ان قتله كان ممكنا بعد إسلامه لم يحتج إلى هذا الانكار والاعتذار # ويؤيد ذلك ان النبي لم ينذر دم واحد بعينه من بني بكر الناقضي العهد الا هذا مع انهم فعلوا تلك الافاعيل فعلم ان خرق عرضه كان أعظم من نقض العهد بالمقاتلة والمحاربة باليد وقد تقدم الحديث بدلالته وانما نبهنا عليه هنا احالة على ما مضى # الطريقة الثالثة عشرة انه قد تقدم انه كان له ان يقتل من اغلظ له واذاه وكان له أن يعفو عنه فلو كان المؤذي له انما يقتل للردة لم يجز العفو عنه قبل التوبة واذا كان هذا حقا له فلا فرق فيه بين المسلم والذمي فانه قد اهدر دم من اذاه من اهل الذمة وقد تقدم ان ذلك لم يكن لمجرد نقض العهد فعلم انه كان لاذاه واذا كان له ان يقتل من اذاه وسبه من مسلم ومعاهد وله ان يعفو عنه علم انه بمنزلة القصاص وحد القذف وتعزير السب لغير الانبياء من البشر واذا كان كذلك لم يسقط عن مسلم ولا معاهد بالتوبة كما لا تسقط هذه
الحدود بالتوبة وهذه طريقة قوية وذلك انه اذا كان قد اباح الله له ان يقتل من سبه واباح له ان يعفو عنه كان المغلب في هذا الحد حقه بمنزلة سب غيره من البشر الا ان حد سابه القتل وحد ساب غيره الجلد واذا كان المغلب حقه فكان الامر في حياته مفوضا إلى اختياره لينال بالعفو علي الدرجات تارة ويقيم بالعقوبة من الحدود ما ينال به ايضا علي الدرجات فانه نبي الرحمة ونبي الملحمة وهو الضحوك القتال والذمي قد عاهده على ان لا يخرق عرضه وهو لو اصاب لواحد من المسلمين او المعاهدين حقا من دم او مال او عرض ثم اسلم لم يسقط عنه فاولى ان لايسقط عنه هذا # واذ قد قدمنا ان قتله لم يكن لمجرد نقض العهد وانما كان لخصوص السب واذا كان يجوز له ان يقتل هذا الساب بعد مجيئه مسلما وله ان يعفو عنه فبعد موته تعذر العفو وتمحضت العقوبة حقا لله سبحانه فوجب استيفاؤها على ما لا يخفي إذا القول بجواز عفو أحد عن هذا بعد رسول الله يفضي إلى ان يكون الإمام مخيرا بين قتل هذا واستبقائه وهو قول لا يعلم به قائلا ثم إنه خلاف قواعد الشريعة واصولها
وقد تقدم فيما مضى الفرق ين حال حياته وحال مماته # الطريقة الرابعة عشرة انه قد تقدم الحديث المرفوع ان كان ثابتا من سب نبيا قتل ومن سب اصحابه جلد فامر بالقتل مطلقا كما امر بالجلد مطلقا فعلم ان السب للنبي موجب بنفسه للقتل كما ان سب غيره موجب للجلد وان ذلك عقوبة شرعية على السب وكما لايسقط هذا الجلد بالتوبة بعد القدرة فكذلك لا يسقط هذا القتل # الطريقة الخامسة عشرة اقوال اصحابة رسول الله وافعالهم # فمن ذلك ان أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي امية في المراة التي غنت بهجاء النبي لولا ما سبقتني فيها لامرتك بقتلها لان حد الانبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد او معاهد فهو محارب غادر فاخبره أبو بكر انه لولا الفوت لامره بقتلها من غير استتابة ولا استثناء حال توبة مع أن غالب من يقدم ليقتل على مثل هذا يبادر إلى التوبة او الإسلام اذا علم انه يدرا عنه القتل ولم يستفصله الصديق عن السابة هل هي مسلمة او ذمية بل ذكر ان القتل حد من سب الانبياء وان حدهم ليس كحد غيرهم مع انه فصل في المراة التي غنت بهجاء المسلمين بين
ان تكون مسلمة او ذمية # وهذا ظاهر في ان عقوبة الساب حد للنبي واجبة عليه له ان يعفو عنها في بعض الاحوال وان يستوفيها في بعض الاحوال كما ان عقوبة ساب غيره حد له واجبة على الساب # وقوله من تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد ليس فيه دلالة على قبول توبته لان الردة جنس تحتها انواع منها ما تقبل فيه التوبة ومنها ما لاتقبل كما تقدم التنبيه على هذا ولعله ان تكون لنا اليه عودة وانما غرضه ان يبين الاصل الذي يبيح دم هذا وكذلك قوله فهو محارب غادر فان المحارب الغادر جنس يباح دمه ثم منهم من يقتل وان اسلم كما لو حارب بقطع الطريق او باستكراه مسلمة على الزنى ونحو ذلك
قال تعالى ^ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا او يصلبوا ^ الاية ثم انه لم يرفع العقوبة الا اذا تابوا قبل القدرة عليهم وقد قدمنا ان هذا محارب مفسد فيدخل في هذه الاية # وعن مجاهد قال أتى عمر برجل يسب النبي فقتله ثم قال عمر من سب الله او سب احدا من الانبياء فاقتلوه # هذا مع ان سيرته في المرتد انه يستتاب ثلاثا ويطعم كل يوم رغيفا لعله يتوب فاذا امر بقتل هذا من غير استتابة علم ان جرمه اغلظ عنده من جرم المرتد المجرد فيكون جرم سابه من اهل العهد اغلظ من جرم من اقتصر على نقض العهد لاسيما وقد امر بقتله مطلقا من غير ثنيا # وكذلك المراة التي سبت النبي فقتلها خالد بن الوليد ولم يستتبها دليل على انها ليست كالمرتدة المجردة
وكذلك حديث محمد بن مسلمة لما حلف ليقتلن ابن يامين لما ذكر ان قتل ابن الاشرف كان غدرا وطلبه لقتله بعد ذلك بمدة طويلة ولم ينكر المسلمون ذلك عليه مع انه لو كان قتله لمجرد الردة لكان قد عاد إلى الإسلام بما اتى به بعد ذلك من الشهادتين والصلوات ولم يقتل حتى يستتاب
وكذلك قول ابن عباس في الذمي يرمي امهات المؤمنين انه لا توبة له نص في هذا المعنى وهذه القضايا قد اشتهرت ولم يبلغنا ان احدا انكر شيئا من ذلك كما انكر عمر رضي الله عنه قتل المرتد الذي لم يستتب وكما انكر ابن عباس رضي الله عنه تحريق الزنادقة واخبر ان حدهم القتل فعلم انه كان مستفيضا بينهم ان حد الساب ان يقتل الا ما روي عن ابن عباس من سب نبيا من الانبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فإن تاب والا قتل وهذا في سب يتضمن جحد نبوة نبي من الانبياء فإنه يتضمن تكذيب رسول الله ولا ريب ان من قال عن بعض الانبياء انه ليس بنبي وسبه بناء على انه ليس بنبي فهذه ردة محضة ويتعين حمل حديث ابن عباس على هذا او نحوه ان كان محفوظا عنه لانه اخبر ان قاذف امهات المؤمنين لاتوبة له فكيف تكون حرمتهن لاجل سب النبي أعظم من حرمه نبي معروف مذكور في القران
الطريقة السادسة عشرة ان الله سبحانه وتعالى اوجب لنبينا على القلب واللسان والجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته كما اوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح امورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه وحرم سبحانه لحرمة رسوله مما يباح ان يفعل مع غيره امورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته # فمن ذلك انه امر بالصلاة عليه والتسليم بعد ان اخبر ان الله وملائكته يصلون عليه والصلاة عليه تتضمن ثناء الله عليه ودعاء الخير له وقربته منه ورحمته له والسلام عليه يتضمن سلامته من كل افة فقد جمعت الصلاة عليه والتسليم جميع الخيرات ثم انه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة حضا للناس على الصلاة عليه ليسعدوا بذلك وليرحمهم الله بها
ومن ذلك انه اخبر انه اولى بالمؤمنين من انفسهم فمن حقه انه يجب ان يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام وانه يجب ان يوقى بالانفس والاموال كما قال سبحانه وتعالى ^ ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بانفسهم عن نفسه ^ # فعلم ان رغبة الانسان بنفسه ان يصيبه ما يصيب النبي من المشقة معه حرام # وقال تعالى مخاطبا للمؤمنين فيما اصابهم من مشقات الحصر والجهاد ^ لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا ^ # ومن حقه ان يكون احب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه ^ قل ان كان اباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم ^ إلى قوله ^ احب اليكم من الله ورسوله ^ الاية مع الاحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر
رضي الله عنه يارسول الله لانت احب الي من كل شئ الامن نفسي فقال لا ياعمر حتى اكون احب اليك من نفسك قال فانت والله يارسول الله احب الي من نفسي قال الان ياعمر وقال لايؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من ولد ووالده والناس اجمعين متفق عليه # ومن ذلك ان الله امر بتعزيره وتوقيره فقال ^ وتعزروه وتوقروه ^ والتعزير اسم جامع لنصره وتاييده ومنعه من كل ما يؤذيه والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمانينة من الاجلال والاكرام وان يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار # ومن ذلك انه خصه في المخاطبة بما يليق به فقال ^ لاتجعلوا
دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ^ فنهى ان يقولوا يا محمد او يا احمد او يا أبا القاسم ولكن يقولون يا رسول الله يا نبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى اكرمه في مخاطبته اياه بما لم يكرم به احدا من الانبياء فلم يدعه باسمه في القران قط ببل يقول ^ يا ايها النبي قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ^ ^ يا ايها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين ^ ^ يا ايها النبي انا احللنا لك ازواجك ^ ^ يا ايها النبي اتق الله ^ ^ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ^ ^ يا ايها النبي اذا طلقتم النساء ^ ^ يا ايها النبي لم
تحرم ما احل الله لك ^ ^ يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك ^ ^ يا ايها المزمل قم الليل ^ ^ يا ايها المدثر قم فانذر ^ ^ يا ايها النبي حسبك الله ^ مع انه سبحانه قد قال ^ وقلنا يا ادم اسكن انت وزوجك ^ الاية ^ يا ادم انبئهم باسمائهم ^ ^ يا نوح انه ليس من اهلك ^ ^ يا إبراهيم اعرض عن هذا ^ ^ يا موسى اني اصطفيتك على الناس ^ ^ يا داود انا جعلناك خليفة في الارض ^ ^ يا يحيى خذ الكتاب بقوة ^
^ يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس ^ ^ يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ^ # ومن ذلك انه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى ياذن وحرم رفع الصوت فوق صوته وان يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل واخبر ان ذلك سبب حبوط العمل فهذا يدل على انه قد يقتضي الكفر لان العمل لا يحبط الا به واخبر ان الذين يغضون اصواتهم عنده هم الذين خلصت قلوبهم للتقوى وان الله يغفر لهم ويرحمهم واخبر ان الذين ينادونه وهو في منزله لا يعقلون لكونهم رفعوا اصواتهم عليه ولكونهم لم يصبروا حتى يخرج ولكن ازعجوه إلى الخروج
ومن ذلك انه حرم على الامة ان يؤذوه بما هو مباح ان يعامل به بعضهم بعضا تمييزا له مثل نكاح ازواجه من بعده فقال تعالى ^ وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابدا ان ذلكم كان عند الله عظيما ^ # واوجب على الامة لاجله احترام ازواجه وجعلهن امهات في التحريم والاحترام فقال سبحانه ^ النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم وازواجه امهاتهم ^ # واما ما اوجبه من طاعته والانقياد لامره والتاسي بفعله فهذا باب واسع لكن ذاك قد يقال هو من لوازم الرسالة وانما الغرض هنا ان ننبه على بعض ما اوجبه الله من الحقوق الواجبة والمحرمة على الأمة مما يزيد على لوازم الرسالة بحيث يجوز ان يبعث الله رسولا ولا يوجب له هذه الحقوق # ومن كرامته المتعلقة بالقول انه فرق بين اذاه واذى المؤمنين فقال تعالى ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا ^ # وقد تقدم في هذه الاية ما يدل على ان حد من سبه القتل كما ان حد من سب غيره الجلد
ومن ذلك ان الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه الا ذكر معه ولا تصح للامة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا انه عبده ورسوله واوجب ذكره في كل خطبة وفي الشهادتين اللتين هما اساس الإسلام وفي الاذان الذي هو شعار الإسلام وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع # هذا إلى خصائص له اخر يطول تعدادها # واذا كان كذلك فمعلوم ان سابه ومنتقصه قد ناقض الايمان به وناقض تعزيره وتوقيره وناقض رفع ذكره وناقض الصلاة عليه والتسليم وناقض تشريفه في الدعاء والخطاب بل قابل أفضل الخلق بما لا يقابل به الا شر الخلق # يوضح ذلك ان مجرد اعراضه عن الايمان به يبيح الدم مع عدم العهد واعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة فهذا بمجرد
سكوته عن تشريفه وتكريمه فإذا اتى بضد ذلك من الذم والسب والانتقاص والاستخفاف فلابد ان يوجب ذلك زيادة على الذم والعقاب فان مقادير العقوبات على مقادير الجرائم الاترى ان الرجل لو قتل رجلا اعتباطا لكن عقوبته القود وهو التسليم إلى ولي المقتول فان انضم إلى ذلك قتله لاخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل فان انضم إلى ذلك اخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب وعوقب عند بعض العلماء ايضا بقطع اليد والرجل حتما مع ان اخذ المال سرقة لا يوجب الا قطع اليد فقط وكذلك لو قذف عبدا او ذميا او فاجرا لم يجب عليه الا التعزير فلو قذف حرا مسلما عفيفا لوجب عليه الحد التام فلو قيل انه لايجب عليه مع ذلك الا ما يجب على من ترك الايمان به او ترك العهد الذي بيننا وبينه لسوى بين الساكت عن ذمه وسبه والمبالغ في ذلك وهذا غير جائز كما انه غير جائز التسوية بين الساكت
عن مدحه والصلاة عليه والمبالغ في ذلك ولزم من ذلك ان لا يكون لخصوص سبه وذمه واذاه عقوبة مع انه من أعظم الجرائم وهذا باطل قطعا # ومعلوم ان لا عقوبة فوق القتل لم تبق الزيادة على ذلك الا تعين قتله وتحتمه تاب او لم يتب كحد قاطع الطريق اذ لا نعلم احدا اوجب ان يجلد لخصوص السبب ثم يقتل للكفر اذا كانت العقوبة لخصوص السب كانت حدا من الحدود وهذه مناسبة ظاهرة قد دل على صحتها دلالات النصوص السالفة من كون السب موجبا للقتل والعلة اذا ثبت بالنص او بالايماء لم تحتج إلى اصل يقاس عليه الفرع وبهذا يظهر انا لم نجعل خصوص السب موجبا للقتل الا بما دل عليه من الكتاب والسنة والاثر لا لمجرد الاستحسان والاستصلاح كما زعمه من لم يحظ بماخذ الاحكام على ان الاصل الذي يقاس به هذا الفرع ثابت وهو # الطريقة السابعة عشرة وذلك انا وجدنا الاصول التي دل عليها الكتاب او السنة او إجماع الأمة حكمت في المرتد وناقض العهد حكمين فمن لم يصدر منه الا مجرد الردة او مجرد نقض العهد ثم عاد إلى الإسلام عصم دمه كما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله وقد تقدم ذكر بعض ما يدل على ذلك في المرتد وهو في ناقض العهد ايضا موجود
بقوله في بعض من نقض العهد ^ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ^ وبان النبي قبل إسلام من اسلم من بني بكر وكانوا قد نقضوا العهد وعدوا على خزاعة فقتلوهم وقبل إسلام قريش الذين اعانوهم على قتال المسلمين حتى انتقض عهدهم بذلك ودلت سنته على ان مجرد إسلامهم كان عاصما لدمائهم وكذلك في حصره لقريظة والنضير مذكر انهم لو اسلموا لكف عنهم وقد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم واموالهم منهم ثعلبة بن سعية واسد بن سعية واسد ابن عبيد اسلموا في الليلة التي نزل فيها بنو قريضة على حكم رسول الله وخبرهم مشهور ومن تغلظت ردته او نقضه بما يضر
المسلمين اذا عاد إلى الإسلام لم تسقط عنه العقوبة مطلقا بل يقتل اذا كان جنس ما فعله موجبا للقتل او يعاقب بما دونه ان لم يكن كذلك كما دل عليه قوله تعالى ^ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ^ الاية وكما دلت عليه سنته في قصة ابن أبي سرح وابن زنيم وفي قصة ابن خطل وقصة مقيص بن صبابة وقصة العرنيين وغيرهم وكما دلت عليه الاصول المقررة فان الرجل اذا اقترن بردته قطع طريق او قتل مسلم او زنى او غير ذلك ثم رجع إلى الإسلام اخذت منه الحدود وكذلك لو اقترن بنقض عهده الاضرار بالمسلمين من قطع طريق او قتل مسلم او زنى بمسلمة فان الحدود تستوفى منه بعد الإسلام اما الحد الذي يجب على المسلم لو فعل ذلك او الحد الذي كان واجبا قبل الإسلام وهذا
الرجل الساب قد وجد منه قدر زائد على مجرد نقض العهد كما قدمنا من الاضرار الذي صار به اغلظ جرما من مجرد نقض العهد او فعل ما هو أعظم من أكثر الامور المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده اذى المسلمين في دم او مال او عرض واشد واذا كان كذلك فإسلامه لا يزيل عنه عقوبة هذا الاضرار كما دلت عليه الاصول في مثله وعقوبة هذا الاضرار قد ثبت انه القتل بالنص والإسلام الطارئ لا يمنع ابتداء هذه العقوبة فان المسلم لو ابتدا بمثل هذا قتل قتلا لا يسقط بالتوبة كما تقدم # واذا لم يمنع الإسلام ابتداءها فان لا يمنع بقاءها ودوامها اولى واحرى لان الدوام والبقاء اقوى من الابتداء والحدوث في الحسيات والعقليات والحكميات # الا ترى ان العدة والاحرام والردة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع دوامه والإسلام يمنع ابتداء الرق ولا يمنع دوامه ويمنع ابتداء وجوب القود وحد القذف على المسلم اذا قتل او قذف ذميا ولا يمنع دوامه عليه اذا اسلم بعد القتل والقذف # ولو فرض ان إسلام يمنع ابتداء قتل هذا فلا يجب ان يسقط القتل بإسلامه لان الدوام اقوى من الابتداء وجاز ان يكون في بمنزلة القود وحد القذف فان الإسلام يمنع ابتداءه دون دوامه لاسيما
والسب فيه حق لادمي ميت وفيه جناية متعلقة بعموم المسلمين فهو مثل القتل في المحاربة ليس حقا لمعين واذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من المحاربين المفسدين # يحقق ذلك ان الذمي اذا قطع الطريق وقتل مسلما فهو يعتقد في دينه جواز قتل المسلم واخذ ماله وانما حرمه عليه العهد الذي بيننا وبينه كما انه يعتقد جواز السب في دينه وانما حرمه عليه العهد وقطع الطريق قد يفعل استحلالا وقد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض كما ان سب الرسول قد يفعل استحلالا وقد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض فهو مثله من كل وجه الا ان مفسدة ذلك في الدنيا ومفسدة هذا في الدين ومفسدة الدين أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله العالمين به وبامره فاذا اسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه اظهارا اعتقاد تحريم دم المسلم وماله مع جواز ان لايفي بموجب هذا الاعتقاد وكذلك اذا اسلم الساب فقد تجدد اظهار اعتقاد تحريم عرض الرسول مع جواز ان لايفي بموجب هذا الاعتقاد فاذا كان هناك يجب قتله بعد إسلامه فكذلك يجب قتله هنا بعد إسلامه ويجب ان يقال اذا كان ذلك لايسقط حده بالتوبة بعد القدرة فكذلك هذا لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة # ومن انعم النظر لم يسترب في ان هذا محارب مفسد كما ان قاطع الطريق محارب مفسد
ولا يرد على هذا سب الله تعالى لان احدا من البشر لا يسبه اعتقادا الا بما يراه تعظيما واجلالا كزعم اهل التثليث ان له صاحبة وولدا فانهم يعتقدون ان هذا من تعظيمه والتقرب اليه ومن سبه لا على هذا الوجه فالقول فيه كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين وهو المختار كما سنقرره ومن فرق قال انه تعالى لا تلحقه غضاضة ولا انتقاص بذلك ولا يكاد أحد يفعل ذلك اصلا الا ان يكون وقت غضب ونحو ذلك بخلاف سب الرسول فانه يسبه انتقاصا له واستخفافا به سبا يصدر عن اعتقاد وقصد اهانة وهو من جنس تلحقه الغضاضة ويقصد بذلك وقد يسب تشفيا وغيظا وربما حل منه في النفوس حبائل ونفر عنه بذلك خلائق ولاتزول نفرتهم عنه باظهار التوبة كما لا تزول مفسدة الزنى وقطع الطريق ونحو ذلك باظهار التوبة وكما لا يزول العار الذي يلحق بالمقذوف باظهار القاذف التوبة فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه بخلاف سب الرسول
فان قيل قد تكون زيادة العقوبة على عقوبة مجرد الناقض للعهد تحتم قتله ما دام كافرا بخلاف غيره من الكافرين فان عقد الامان والهدنة والذمة واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة بهم جائز في الجملة فاذا اتى مع حل دمه لنقض العهد او لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه وهكذا الجواب عن المواضع التي قتل النبي فيها من سبه او امر بقتله او امر اصحابه بذلك فانها تدل على ان الساب يقتل وان لم يقتل من هو مثله من الكافرين # وكذلك قال النبي ليهود في قصة ابن الاشرف انه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رايه ما اغتيل ولكنه نال منا وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا احدا منكم الا كان السيف # واذا كان كذلك فيكون القتل وجب لامرين للكفر ولتغلظه بالسب كما يجب قتل المرتد للكفر ولتغلظه بترك الدين الحق والخروج منه فمتى زال الكفر زال الموجب للدم فلم يستقل بقاء اثر السب باحلال الدم وتبع الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول فانه فرع للكفر ونوع منه فاذا زال الاصل زالت جميع فروعه وانواعه
وهذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي الإسلام بناء على ان السب فرع للردة ونوع منها وقد لايمكن لانه لم يتجدد من هذا بعد السب ما لم يكن موجودا حال السب بخلاف الكافر # قلنا وهذا ايضا دليل على ان قتل الساب حد من الحدود فانه قد تقدم انه يجب قتله ان كان معاهدا ولا يجوز استبقاؤه بعد السب بامان ولا استرقاق ولو كان انما يقتل لكونه كافرا محاربا لجاز امانه واسترقاقه والمفاداة به فلما كان جزاؤه القتل عينا علم ان قتله حد من الحدود ليس بمنزلة قتل سائر الكفار # ومن تامل الادلة الشرعية نصوصها ومقاييسها مما ذكرناه ومما لم نذكره ثم ظن بعد هذا ان قتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد كقتل الاسير فليس على بصيرة من امره ولا ثقة من رايه # وليس هذا من المسالك المحتملة بل من مسالك القطع فان من تامل دلالات الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الامة وما توجبه الاصول الشرعية علم قطعا ان للسب تاثيرا في سفح الدم زائدا على تاثير مجرد الكفر الخالي عن عهد # نعم قد يقال هو مقتول بمجموع الامرين بناء على ان كفر الساب نوع مغلظ لايحتمل الاستبقاء ككفر المرتد فيكون مقتولا لكفره وسبه ويكون القتل حدا بمعنى انه يجب اقامته ثم يزول موجبه
بالتوبة كقتل المرتد فهذا له مساغ فيما تقدم ما يضعف هذا الوجه ومع هذا فانه لايقدح في كون قتل الساب حدا من الحدود وجب لما فيه خصوص ظهور سب الرسول من المفسدة # وانما يبقى ان يقال هذا الحد هل يسقط بالإسلام أم لا # فنقول جميع ما ذكرناه من الدلالات وان دلت على وجوب قتله بعد اظهار التوبة فهي دالة على ان قتله حد من الحدود وليس لمجرد الكفر وهي دالة على هذا بطريق القطع لما ذكرناه من تفريق الكتاب والسنة والاجماع بين من اقتصر على الكفر الأصلي أو الطارىء أو نقض العهد وبين من سب الرسول من هؤلاء واذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق الا ان يكون حدا واذا ثبت انه يقتل لخصوص السب لكونه حدا من الحدود لا لعموم كونه كافرا غير ذي عهد او لعموم كونه مرتدا فيجب ان لا يسقط بالتوبة والإسلام لان الإسلام والتوبة لا يسقط شيئا من الحدود الواجبة قبل ذلك اذا كانت التوبة بعد الثبوت والرفع إلى الإمام بالاتفاق # وقد دل القران ان حد قاطع الطريق والزاني
والسارق والقاذف لا يسقط بالتوبة بعد التمكن من اقامة الحد # ودلت السنة على مثل ذلك في الزاني وغيره ولم يختلف المسلمون فيما علمناه ان المسلم اذا زنى او سرق او قطع الطريق او شرب الخمر فرفع إلى السلطان وثبت عليه الحد ببينة ثم تاب من ذلك انه تجب اقامة الحد عليه الا ان يظن أحد في ذلك خلافا شاذا لا يعتد به فهذه حدود الله
تعالى وكذلك لو وجب عليه قصاص او حد قذف او عقوبة سب لمسلم او معاهد ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة وكذلك ايضا لم يختلفوا فيما علمناه ان الذمي لو وجب عليه حد قطع الطريق او حد السرقة او قصاص او حد قذف او تعزير ثم اسلم وتاب من ذلك لم تسقط عنه عقوبة ذلك وكذلك ايضا لو زنى فانه اذا وجب عليه حد الزنى ثم اسلم لم يسقط عنه بل يقام عليه حد الزنى عند من يقول بوجوبه قبل الإسلام ويقتل حتما عند الإمام احمد ان كان زنى انتقض به عهده
هذا مع ان الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه مع اقامة الحد عليه تطهيرا له وتنكيلا للناس عن مثل تلك الجريمة فتحصل باقامة الحد المصلحة العامة وهي زجر الملتزمين للإسلام او الصغار عن فعل مثل ذلك الفساد فانه لو لم يقم الحد عند اظهار التوبة لم يتات اقامة حد في الغالب فانه لا يشاء المفسد في الارض اذا اخذ ان يظهر التوبة الا اظهرها ويوشك كل من هم بعظيمة من العظائم من الاقوال والافعال ان يرتكبها ثم اذا احيط به قال اني تائب # ومعلوم أن ذلك لو درا الحد الواجب لتعطلت الحدود وظهر الفساد في البر والبحر ولم يكن في شرع العقوبات والحدود كبير مصلحة وهذا ظاهر لاخفاء به # ثم الجاني ان تاب توبة نصوحا فذلك نافعه فيما بينه وبين الله يغفر له ما اسلف ويكون الحد تطهيرا له وتكفيرا لسيئته وهو من تمام التوبة كما قال ماعز بن مالك للنبي طهرني وقد جاء
تائبا وقال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطا ^ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ^ وقال تعالى في كفارة الظهار ^ ذلكم توعظون به ^ # فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين # مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة وهي أهم المصلحتين فان الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء وانما كمال الجزاء في الاخرة وانما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر والنكال وان كان فيها مقاصد اخر كما ان غالب مقصود العدة براءة الرحم وان كان فيها مقاصد اخر ولهذا كانت هذه المصلحة مقصودة في كل عقوبة مشروعة # والمصلحة الثانية تطهير الجاني وتكفير خطيئته ان كان له عند الله خير او عقوبته والانتقام منه ان لم يكن كذلك وقد يكون زيادة في ثوابه ورفعه في درجاته # ونظير ذلك المصائب المقدرة في النفس والاهل والمال فانها تارة تكون كفارة وطهورا وتارة تكون زيادة في الثواب وعلوا في الدرجات
وتارة تكون عقابا وانتقاما # لكن اذا اساء الانسان سرا فان الله يقبل توبته سرا ويغفر له من غير احواج له إلى ان يظهر ذنبه حتى يقام حده عليه اما اذا اعلن الفساد بحيث يراه الناس ويسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان او اعترف هو به عند السلطان فانه لا يطهره مع التوبة بعد القدرة الا اقامته عليه الا ان في التوبة اذا كان الحد لله وثبت بإقراره خلافا سنذكره ان شاء الله تعالى ولهذا قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وقال لما شفع اليه في
السارقة تطهر خيرا لها وقال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في امره وقال من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فاليستتر بستر الله فانه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله
اذا تبين ذلك فنقول هذا الذي اظهر سب رسول الله من مسلم او معاهد قد اتى بهذه المفسدة التي تضمنت مع الكفر ونقض العهد اذى الله ورسوله وانتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين والوقيعة في عرض لا يساوي غيره من الاعراض والطعن في صفات الله وافعاله وفي دين الله وكتابه وجميع انبيائه والمؤمنين من عباده فان الطعن في واحد من الانبياء طعن في جميع الانبياء كما قال سبحانه وتعالى ^ اولئك هم الكافرون حقا ^ وطعن في كل من امن بنبينا من الانبياء والمؤمنين المتقدمين والمتاخرين وقد تقدم تقرير هذا # ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد ايمانه او امانه انه لا يفعل ذلك ولا ياتيه كما صدر الزنى والسرقة وقطع الطريق عمن التزم بعقد ايمانه او امانه لا يفعل ذلك فاذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما تقدم امتنع ان يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم ايضا
ثم هنا مسلكان # احدهما وهو مسلك طائفة من اصحابنا وغيرهم ان يقتل حدا لله كما يقتل لقطع الطريق وللردة وللكفر لان السب للرسول قد تعلق به حق الله وحق كل مؤمن فان اذاه ليس مقصورا على رسول الله فقط كمن سب واحدا من عرض الناس بل هو اذى لكل مؤمن كان ويكون بل هو عندهم من ابلغ انواع الاذى ويود كل منهم ان يفتدي هذا العرض بنفسه واهله وماله وعرضه كما تقدم ذكره عن الصحابة من انهم كانوا يبذلون دماءهم في صون عرضه وكان النبي يمدح من فعل ذلك سواء قتل او غلب ويسميه ناصر الله ورسوله ولو لم يكن السب أعظم من قتل بعض المسلمين لما جاز بذل الدم في درئه
كما لا يجوز بذل الدم في صون عرض واحد من الناس وقد قال حسان ابن ثابت يخاطب اباسفيان بن الحارث # % هجوت محمدا فاجبت عنه % وعند الله في ذاك الجزاء % فان ابى ووالده وعرضي % لعرض محمد منكم وقاء %
وذلك انه انتهاك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا والاخرة وبها ينالها كل واحد سواهم وبها يقام دين الله ويرضى الله عن عباده ويحصل ما يحبه وينتفي ما يبغضه كما ان قاطع الطريق وان قتل واحدا فان مفسدة قطع الطريق تعم جميع الناس فلم يفوض الامر فيه إلى ولي المقتول
نعم كان الامر في حياة رسول الله مفوضا اليه فيمن سبه ان احب عفا عنه وان احب عاقبه وان كان في سبه حق الله ولجميع المؤمنين لان الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا لحق العبد كما ذكرناه في القصاص وحقوق الادميين تابعة لحق الرسول فانه اولى بهم من انفسهم ولان في ذلك تمكينه من اخذ العفو والامر بالعرف والاعراض عن الجاهلين الذي امره الله تعالى به في كتابه وتمكينه من العفو والاصلاح الذي يستحق به ان يكون أجره على الله وتمكينه من ان يدفع بالتي هي احسن السيئة كما امر الله وتمكينه من استعطاف النفوس وتاليف القلوب على الايمان واجتماع الخلق عليه وتمكينه من ترك التنفير عن الايمان وما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء ساب من المفسدة كما دل عليه قوله تعالى ^ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفوا عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر ^
وقد بين النبي نفس هذه الحكمة حيث قال اكره ان يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه وقال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة رجوت ان يؤمن بذلك الف من قومه فحقق الله رجاءه ولو عاقب كل من اذاه بالقتل لخامر القلوب عقدا او وسوسة ان ذلك لما في النفس من حب الشرف وانه من باب غضب الملوك وقتلهم على ذلك ولو لم يبح له عقوبته لانتهك العرض واستبيحت الحرمة وانحل رباط الدين وضعفت العقيدة في حرمة النبوة فجعل الله له الامرين فلما انقلب إلى رضوان الله وكرامته لم يبق واحدا مخصوص من الخلق اليه استيفاء هذه العقوبة والعفو عنها والحق فيها ثابت لله سبحانه ولرسول الله ولعباده المؤمنين وعلم كل ذي عقل ان المسلمين انما يقتلونه لحفظ الدين وحفظ حمى الرسول ووقاية عرضه فقط كما يقتلون قاطع الطريق في لأمن الطرقات من المفسدين وكما يقطعون السارق لحفظ الاموال وكما يقتلون المرتد صونا للداخلين في الدين عن الخروج عنه ولم يبق هنا توهم مقصود جزوي كما قد كان يتوهم في زمانه ان قتل الساب كذلك وتقرير ذلك بالساب له من المسلمين فانه قد كان له ان يعفوا عنه مع انه لايحل للامة الا اراقة دمه فحاصله انه في حياته قد غلب في هذه الجناية حقه ليتمكن من الاستيفاء والعفو وبعد موته فهي جناية على الدين مطلقا ليس لها من يمكنه العفو عنها فوجب استيفاؤها وهذا مسلك جيد لمن تدبر غوره
ثم هنا تقريران # احدهما ان يكون الساب من جنس المحارب المفسد وقد تقدم في ذلك زيادة بيان ومما يؤيده انه قال سبحانه وتعالى ^ من قتل نفس بغير نفس او فسادا في الارض فكانما قتل الناس جميعا ^ فعلم ان كل ما اوجب القتل حقا لله كان فسادا في الارض والا لم يبح # وهذا السب قد اباح الدم فهو فساد في الارض وهو ايضا محاربة لله ورسوله على ما لا يخفى لان المحاربة هنا والله اعلم انما عني بها المحاربة بعد المسالمة لان المحاربة الاصليه لم يدخل حكمها في هذه الاية وسبب نزولها انما كان فعل مرتد وناقض عهد فعلم انهما جميعا دخلا فيها وهذا قد حارب بعد المسالمة وافسد في الارض فيتعين اقامة الحد عليه # الثاني ان يكون السب جناية من الجنايات الموجبه للقتل كالزنى وان لم يكن حرابا كحراب قاطع الطريق فان من الفساد ما يوجب القتل
وان لم يكن حرابا وهذا فساد قد اوجب القتل فلا يسقط بالتوبة كغيره من انواع الفساد اذ لايستثنى من ذلك الا القتل للكفر الاصلي او الطاريء وقد قدمنا ان هذا القتل ليس هو كقتل سائر الكفار # فان قيل فاذا كان السب حد لله فيجب ان يسقط بالإسلام كمايسقط حد المرتد بالإسلام وكما يسقط قتل الكافر بالإسلام وذلك ان مجرد تسميته حدا لايمنع سقوطه بالتوبة او بالإسلام فان قتل المرتد حد فان الفقهاء يقولون باب حد المرتد ثم انه يسقط بالإسلام ثم ان هذا امر لفظي لاتناط به الاحكام وانما تناط بالمعاني وكل عقوبة لمجرم فهي حد من حيث تزجره وتمنعه عن تلك الجريمة وان لم تسم حدا لكن لاريب انه انما يقتل للكفر والسب والسب لايمكن تجريده عن الكفر والمحاربة حتى يفرض ساب قد وجب قتله وهو مؤمن او معاهد باق على عهده كما يفرض مثل ذلك في الزاني والسارق والقاذف فان اولئك وجبت عقوباتهم لتلك الجرائم وهي قبل الإسلام وبعده سواء وهذا انما وجبت عقوبته بجرم هو من فروع الكفر وانواعه فاذا زال الاصل تبعته فروعه فيكون الموجب للقتل انه كافرمحارب وانه مؤذ لله ولرسوله كما قال لعقبة بن أبي معيط لما قال مالي اقتل من بينكم صبرا فقال له النبي بكفرك وافترائك على رسول الله والعلة اذا كانت ذات وصفين زال الحكم بزوال احدهما
ونحن قد نسلم انه يتحتم قتله اذا كان ذميا كما يتحتم قتل المرتد لتغلظ كفره باذى الله ورسوله كتغلظ كفر المرتد بترك الدين لكن الإسلام يسقط كل حد تعلق بالكفر كما يسقط حد المرتد فلم الحقتم هذا الحد بقاطع الطريق والزاني والسارق ولم تلحقوه بحد المرتد فهذا نكتة هذا الموضع # فنقول لا يسقط شيء من الحدود بالإسلام ولا فرق بين المرتد وغيره في المعنى بل كل عقوبة وجبت لسبب ماض او حاضر فانها تجب لوجود سببها وتعدم لعدمه فالكافر الاصلي والمرتد لم يقتل لاجل ما مضى من كفره فقط وانما يقتل للكفر الذي هو الان حاصل فاذا علمنا انه كان كافرا ولم نعلم انتقاله استصحبنا تلك الحال فيقتل للكفر الذي الان موجود اذ الاصل بقاؤه على ما كان عليه فاذا تاب زال الكفر فزال المبيح للدم لان الدم لايباح بالكفر الا حال وجود الكفر اذ المقصود بقتله ان تكون كلمة الله هي العليا وان يكون الدين كله لله فاذا انقاد لكلمة الله ودان بدين الله حصل مقصود القتال ومطلوب الجهاد وكذلك المرتد انما يقتل لانه تارك للدين مبدل له فاذا هو عاد لم يبقى مبدلا ولا تاركا وبذلك يحصل حفظ الدين فانه لا يترك مبدلا له # اما الزاني والسارق وقاطع الطريق فانه سواء كان مسلما او معاهدا لم يقتل لدوامه على الزنى والسب وقطع الطريق فان هذا غير ممكن ولم يقتل لمجرد اعتقاده حل ذلك او ارادته له فان الذمي لايباح دمه بهذا
الاعتقاد ولا يباح دم مسلم ولا ذمي بمجرد ارادة فعلم ان ذلك واجب جزاء على ما ماضي وزجرا عما يستقبل منه ومن غيره فمن اظهر سب الرسول من اهل الذمة او سبه من المسلمين ثم ترك السب وانتهى عنه فليس هو مستديما للسب كما يستديم الكافر المرتد وغيره على كفره بل افسد في الارض كما افسد غيره من الزناة وقطاع الطريق ونحن نخاف ان يتكرر مثل هذا الفسادمنه ومن غيره نخاف مثل ذلك في الزاني وقاطع الطريق لان الداعي له إلى ما فعله من السب ممكن منه ومن غيره من الناس فوجب ان يعاقب جزاء بما كسب ونكالا من الله له ولغيره وهذا فرق ظاهر بين قتل المرتد والكافر الاصلي وبين قتل الساب والقاطع والزاني # وبيانه لان السب من جنس الجريمة الماضية لامن جنس الجريمةالدائمة لكن مبناه على ان السب يوجب الحد لخصوصه لا لكونه كافرا وقد تقدم بيان ذلك # يوضح ذلك ان قتل المرتد والكافر الاصلي الا ان يتوب يزيل مفسدة الكفر لان الهام بالردة متى علم انه لا يترك حتى يقتل او يتوب لم ياتها لانه ليس له غرض في ان يرتد ثم يعود إلى الإسلام وانما غرضه في بقائه على الكفر واستدامته # فاما الساب من المسلمين والمعاهدين فان غرضه من السب يحصل باظهاره وينكأ المسلمين بأذاه كما يحصل غرض القاطع من القتل والزاني
من الزنى وتسقط حرمة الدين والرسول بذلك كما تسقط حرمة النفوس والاموال في قطع الطريق والسرقة ويؤذي عموم المسلمين اذى يخشى ضرره كما يؤذيهم مثل ذلك من فعل القاطع والسارق ونحوهما ثم انه اذا اخذ فقد يظهر الإسلام والتوبة مع استبطانه العود إلى مثل ذلك عند القدرة كما يظهر القاطع والسارق والزاني العود إلى مثل هذه الجرائم عند امكان الفرصة بل ربما تمكن من هذا السب بعد اظهار الإسلام عند شياطينه مالم يمكنه قبل ذلك وتنوع في انواع التنقص والطعن غيظا على ما فعل به من القهر والضغط حتى اظهر الإسلام بخلاف من لم يظهر شيئا من ذلك حتى اسلم فانه لا مفسدة ظهرت لنا منه وبخلاف المحارب الاصلي اذا قتل او فعل الافاعيل فانه لم يكن قد التزم لنا ان لا يفعل شيئا من ذلك # وهذا قد كان التزم لنا بعقد الذمة ان لا يؤذينا بشيء من ذلك ثم لم يف بعهده فلا يؤمن منه ان يلتزم بعقد الايمان ان لايؤذينا بذلك ولا يفي بعقده وذلك لانه واجب عليه في دينه ان يفي بالعهد فلا يظهر الطعن علينا في ديننا وعالم ان ذلك من أكبر الامور التي عاهدناه على ان لايؤذينا بها وهو خائف من سيف الإسلام ان خالف كما
انه واجب عليه في دين الإسلام ان لايتعرض للرسول بسوء وهو خائف من سيف الإسلام ان هو خالف فلم يتجدد له بإظهار الإسلام جنس العاصم الزاجر بخلاف الحربي في ذلك ايضا ان قتل المرتد غلب فيه حقه فشرع قتله لئلا يستمر على الردة وليعود إلى الإسلام وان كان في ضمن ذلك زجر لغيره من الناس عن الردة الا ترى انه لا يشرع الستر عليه ولا يستحب التعريض للشهود بترك الشهادة عليه وتجب اقامة الشهادة عليه عند الحاكم ولا يستحب العفو عنه قبل الرفع إلى الحاكم وان كان قدارتد سرا لانه متى رفع إلى الحاكم استتابه فنجاه من النار وان لم يتب قتله فقصر عليه مدة الكفر فكان رفعه مصلحة له محضه بخلاف من استسر بقاذورة من القاذورات فانه لا ينبغي التعرض له لانه اذا رفع يقتل حتما وقد يتوب اذا لم يرفع فلم يكن الرفع مصلحة محضه وانما المصلحة للناس فاذا لم تظهر الفاحشة لم تضرهم # ومن سب الرسول فانما نقتله لاذاه لله ولرسوله وللمؤمنين ولطعنه في دينهم فكان بمنزلة من اظهر قطع الطريق ولزنى ونحوه المغلب فيه جانب الردع والزجر وان تضمن مصلحة الجاني وكان قتله لانه اظهر الفساد في الارض وكذلك لو سب الذمي سرا لم نتعرض له وكذلك لم ينبغ الستر عليه لان من اظهر الفساد لا يستر عليه بحال
وقوله السب مستلزم للكفر والحراب بخلاف تلك الجرائم قلنا ليس لنا سب خال عن كفر حتى تجرد العقوبة له بل العقوبة على مجموع الامرين وهذه الملازمة لا توهن امر السب فان كونه مستلزما للكفر يوجب تغلظ عقوبته فاذا انفصل الكفر عنه فيما بعد لم يلزم ان لا يكون موجبا للعقوبة اذا كان هو في نفسه يتضمن من المفسدة مايستوجب العقوبة والزجر كما دل عليه الكتاب والسنة والاثر والقياس # ثم نقول اقصى ما يقال انه حد على كفر مغلظ فيه ضرر على المسلمين صدر عن مسلم او معاهد فمن اين لهم ان مثل هذا تقبل منه التوبة بعد القدرة فإنا قد قدمنا ان التوبة انما شرعت في حق من تجردت ردته او تجرد نقضه للعهد فاما من تغلظت ردته او نقضه بكونه مضرا بالمسلمين فلا بد من عقوبته بعد التوبة # وقولهم ان السب من فروع الكفر وانواعه فان عنوا أن الكفر يوجب ذلك فليس بصحيح وان عنوا ان الكفر يبيح ذلك فنقول لكن عقد الذمة حرم عليه في دينه اظهار ذلك كما حرم قتل المسلمين وسرقة اموالهم وقطع طريقهم وافتراش نسائهم وكما حرم قتالهم وان كان دينه يبيح له ذلك كله فاذا هو اذى المسلمين بما يقتضيه الكفر المجرد عن عهد فانه يعاقب على ذلك وان زال الكفر الموجب لذلك فيقتل ويقطع ويعاقب كذلك هنا يعاقب على ما اذى به الله ورسوله والمؤمنين مما يخالف عهده وان كان دينه يبيحه
وقولهم ان الزاني والسارق وقاطع الطريق قبل الإسلام وبعده سواء قلنا هو مثل الساب لانه قبل الإسلام يعتقد استحلال دماء المسلمين واموالهم واعراضهم لولا العهد الذي بينهم وبينه وبعد الإسلام انما يعتقد تحريمها لاجل الدين وكذلك انتهاكه لعرض رسول الله يعتقد حله لولا العهد الذي بيننا وبينه وبعد الدين انما يمنعه منه الدين ولا فرق بين ما يضر المسلمين في دينهم او دنياهم # واما قولهم انما وجب قتله لاجل الامرين فيسقط بزوال احدهما فنقول بل اجتمع فيه سببان كل منهما يوجب نوعا من القتل يخالف النوع الاخر وان كان احدهما يستلزم الاخر فالكفر يوجب القتل للكفر الاصلي او الكفر الارتداد وله احكام معروفة والسب يوجب القتل لخصوصه حتى يندرج فيه قتل الكفر وقتل الردة وهذا القتل هو المغلب في حق مثل هذا حتى كان رسول الله له القتل والعفو وله القتل مع امتناع القتل بالكفر والردة وله القتل بعد سقوط القتل بالكفر والردة كما قدمناه من الدلائل على ذلل اثرا ونظرا وبينا ان في خصوص السب ما يقتضي القتل لو فرض تجرده عن الكفر والردة فاذا انفصل عنه في اثناءالحال فسقط موجب الكفروالردة لم يسقط موجب السب وقد قدمنا في المسألة الثانية دلائل على ذلك
ثم نقول هب انه وجب لاجل الامرين فالقتل الواجب لكفر متغلظ بالاضرار اذا زال لا تسقط عقوبة فاعله فوجب ان لا تسقط عقوبة فاعل هذا والعقوبة التي استحقها هي القتل # وايضا فان الإسلام الطاريء لا يمنع ما وجب من العقوبة وان كان الإسلام يمنع وجوبها ابتداء كالقتل قودا وكحد القذف فانه انما يجب بشرط كون الفاعل ذميا ولا يسقط بإسلامه بعد ذلك اذا كان المقتول والمقذوف ذميا # وايضا فان الإسلام لا يمنع قتل الساب ابتداءفان لايمنع قتله دواما بطريق الاولى فقوله اجتمع سببان فزال احدهما ممنوع بل الموجب لقتل هذا لميزل # المسلك الثاني ان يقتل حدا للنبي كما يقتل قودا وكما يجلد القاذف والساب لغيره من المؤمنين وقد تقدمت الدلالة على ان عقوبة شاتم النبي القتل كما ان عقوبة شاتم غيره الجلد وهذا مسلك كثير من اصحابنا وغيرهم # ومن المعلوم الذي لاريب فيه ان الرجل لو سب واحدا من المؤمنين او سب واحدا من اعيان الامة وهو ميت او غائب لوجب على من حضره من المسلمين ان ينتصروا له وذا بلغ الامر إلى السلطان فانه
يعاقب هذا الجريء بما يزعه عن اذى المؤمنين ثم ان كان حيا وعلم فله ان يعفو عن سابه واما ان تعذر علمه لموته او غيبته لم يجز للمسلمين الامساك عن عقوبة هذا واذا رفع إلى السلطان عاقبه وان اظهر التوبة لان هذا من المعاصي والذنوب المتعلقة بحق ادمي لا يمكن قيامه بطلب هذا الحد وكل ماكان كذلك لم تحتج العقوبة عليه إلى طلب أحد ولا تسقط بالتوبة اذا رفع إلى السلطان ولهذا قلنا ان من سب اصحاب رسول الله فانه يجب ان يعزر ويؤدب او يقتل وان لم يطالب بحقهم معين لأن نصر المسلم واجب على كل مسلم بيده ولسانه فكيف على ولي الامر # وعلى هذا التقدير فنقول ان سب النبي كان موجبا للقتل في حياته كما تقدم تقريره وكان اذا علم بذلك تولىهذا الحق فان احب استوفى وان احب عفا فاذا تعذر اعلامه لغيبته او موته وجب على المسلمين القيام بطلب حقه ولم يجز العفو عنه لاحد من الخلق كما لا يجوز العفو عن من سب غيره من الاموات والغائب # وقد قدمنا الدلائل على القتل بخصوص سبه وان المغلب فيه حقه حتى كان له ان يقتل من سبه او يعفو عنه كما للرجل ان يعاقب سابه وان يعفو عنه # فان قيل هذا ينبني على مقدمتين
احداهما ان قذف الميت موجب للحد وقد ذهب أبو بكر بن جعفر صاحب الخلال إلى انه لاحد لقذف ميت لان الحي وارثه لم يقذف وانما قذف الميت وحد القذف لا يستوفى الا بعد المطالبة وقد تعذرت منه والحد لا يورث الا بمطالبة الميت وهي منتفية والاكثرون يثبتون الحد لقذف الميت لكن من الفقهاء من يقول انما يثبت اذا ضمن القدح في نسب الحي وهو قول الحنفية وبعض اصحابنا وقيل عن الحنفية لا يأخذ به الا الوالد او الولد ومن الفقهاء من يقول يثبت مطلقا ثم هل يرثه جميع الورثة او من سوى الزوجين لبقاء سبب الارث او العصبة فقط لمشاركتهم له في عمود نسبه فيه
ثلاثة اقوال في مذهب الشافعي واحمد # الثانية ان حد قذف الميت لا يستوفي الا بطلب الورثة وذلك انهم لايختلفون انه لا يستوفي الا بمطالبة الورثة او بعضهم ومتى عفوا سقط عند الاكثرين # فعلى هذا ينبغي ان يسقط الحد لقذف النبي لانه لا يورث ويكون كقذف من لا وارث له وهذا ليس فيه حد قذف عند أكثر الفقهاء او يقال لا يستوفي حتى يطالب بعض الهاشميين او بعض القرشيين # فنقول الجواب من ثلاثة اوجه
احدها انا لم نجعل سب النبي وقذفه من باب حد القذف الذي لا يستوفى حتى يطلبه المستحق فان ذاك انما هو اذا علم به وانما هو من باب السب والشتم الذي يعلم انه حرام باطل وقد تعذر علم المسبوب به كما لو رمى رجل بعض اعيان الامة بالكفر او الكذب او شهادة الزور او سبه سبا صريحا فانا لا نعلم مخالفا في ان هذا الرجل يعاقب على ذلك كما يعاقب على ما ينتهكه من المحارم انتصارا لذلك الرجل الكريم في الامة وزجرا عن معصية الله كمن يسب الصحابة او العلماء او الصالحين # الوجه الثاني ان سبه سب لجميع امته وطعن في دينهم وهو سب تلحقهم به غضاضة وعار بخلاف سب الجماعة الكثيرة بالزنى فانه يعلم كذب فاعله وهذا يوقع في بعض النفوس ريبا واذا كان قد اذى جميع المؤمنين اذى يوجب القتل وهو حق تجب عليهم المطالبة به من حيث وجب عليهم اقامة الدين فيكون شبيها بقذف الميت الذي فيه قدح في نسب الحي اذا طالب به وذاك يتعين اقامته # وبهذا يظهر الفرق بينه وبين غيره من الاموات على قول أبي بكر فان ذلك الميت لا يتعدى ضرر قذفه في الاصل إلى غيره فاذا تعذرت مطالبته امكن ان يقال لا يستوفي حد قذفه وهنا ضرر السب في الحقيقة انما يعود إلى الامة بفساد دينها وذل عصمتها واهانة مستمسكها والا فالرسول صلوات الله عليه وسلامه في نفسه لا يتضرر بذلك
وبه يظهر الفرق بينه وبين غيره في ان حد قذف الغير انما يثبت لورثته او لبعضهم وذلك لان العار هناك انما يلحق الميت او ورثته وهنا العار يلحق جميع الامة لا فرق في ذلك بين الهاشميين وغيرهم بل اي الامة كان اشد حبا لله ورسوله واشد اتباعا له وتعزيرا وتوقيرا كان حظه من هذا الاذى والضرر أعظم وهذا ظاهر لا خفاء به واذا كان هذا ثابتا لجميع الامة فانه مما يجب عليهم القيام به ولا يجوز لهم العفو عنه بوجه من الوجوه لانه وجب لحق دينهم لا لحق دنياهم بخلاف حد قذف قريبهم فانه وجب لحظ نفوسهم ودنياهم فلهم ان يتركوه وهذا يتعلق بدينهم فالعفو عنه عفو عن حدود الله وعن انتهاك حرماته فظهر الجواب عن المقدمتين المذكورتين # الوجه الثالث ان النبي لايورث فلا يصح ان يقال ان حق عرضه يختص به اهل بيته دون غيرهم كما ان ماله لا يختص به اهل بيته دون غيرهم بل اولى لان تعلق حق الامة بعرضه أعظم من تعلق حقهم بماله وحينئذ فتجب المطالبة باستيفاء حقه على كل مسلم لان ذلك من تعزيره ونصره وذلك فرض على كل مسلم # ونظير ذلك ان يقتل مسلم او معاهد نبيا من الانبياء فان قتل ذلك الرجل متعين على الامة ولا يجوز ان يجعل حق دمه إلى من يكون وارثا له لو كان يورث ان احب قتل وان احب عفا على الدية او مجانا
ولا يجوز تقاعد الامة عن قتل قاتله فان ذلك أعظم من جميع انواع الفساد ولا يجوز ان يسقط حق دمه بتوبة القاتل او إسلامه فان المسلم او المعاهد لو ارتد او نقض العهد وقتل مسلما لوجب عليه القود ولا يكون ما ضمه إلى القتل من الردة ونقض العهد مخففا لعقوبته وما اظن احدا يخالف في هذا مع ان مجرد قتل النبي ردة ونقض للعهد باتفاق العلماء وعرضه كدمه فان عقوبته القتل كما ان عقوبة دمه القتل بل الوقيعة في عرضه اشد ضررا في الدين من قتله وسبب ذلك ان دمه وعرضه ممنوع من المسلم بإسلامه ومن المعاهد بعهده فاذا انتهكا حرمته وجبت عليهما العقوبة لذلك # الطريقة الثامنة عشرة وهي طريقة القاضي أبي يعلى ان سب النبي يتعلق به حقان حق لله وحق لادمي # فاما حق الله فظاهر وهو القدح في رسالته وكتابه ودينه # واما حق الادمي فظاهر ايضا فانه ادخل المعرة على النبي بهذا السب وانا له بذلك غضاضة وعار # والعقوبة اذا تعلق بها حق الله وحق الادمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فانه يتحتم قتله ثم لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من
انحتام القتل والصلب ولم يسقط حق الادمي من القود كذلك هنا # فان قيل المغلب هنا حق الله ولهذا لو عفا النبي عن ذلك لم يسقط بعفوه # قلنا قد قال القاضي أبو يعلى في هذا نظر على انه انما لم يسقط بعفوه لتعلق حق الله به فهو كالعدة إذا أسقط الزوج حقه منها لم تسقط لتعلق حق الله بها ولم يدل هذا على انه لا حق للادمي فيها كذلك هنا فقد تردد القاضي أبو يعلى في جواز عفو النبي في هذا الموضع وقطع في موضع اخر انه كان له ان يسقط حق سبه لانه حق له وذكر في قول الانصاري للنبي ان كان ابن عمتك وقد عرض للنبي بما يستحق به العقوبة ولم يعاقبه لانه حمل قول النبي للزبير اسق بانه قضى له على الانصاري للقرابة وفي الرجل الذي اغلظ لابي بكر ولم يعزره فقال القاضي التعزير هنا وجب لحق ادمي
وهو افتراؤه على النبي وعلى أبي بكر وله ان يعفو عنه وكذلك ذكر ابن عقيل عنه ان الحق كان للنبي وله تركه وقال ابن عقيل قد عرض هذا للنبي بما يقتضي العقوبة والتهجم على النبي يوجب التعزير لحق الشرع دون ان يختصه في نفسه قال وقد عزره النبي بحبس الماء عن زرعه وهو نوع ضرر وكسر لعرضه وتاخير لحقه وعندنا ان العقوبات بالمال باقية غير منسوخة وليس يختص التعزير بالضرب في حق كل احد
وقول ابن عقيل هذا يضمن ثلاثة اشياء # احدها ان هذا القول انما كان يوجب التعزير لا القتل # والثاني ان ذلك واجب لحق الشرع ليس له ان يعفو عنه # الثالث انه عزره بحبس الماء # والثلاثة ضعيفة جدا والصواب المقطوع به انه كان له العفو كما دلت عليه الاحاديث السابقة لما ذكرناه من المعنى فيه وحينئذ فيكون ذلك مؤيدا لهذه الطريقة # وقد دل على ذلك ما ذكرناه من ان النبي عاقب من سبه واذاه في الموضع الذي سقطت فيه حقوق الله نعم صار سب النبي سبا لميت وذلك لا يسقط بالتوبة البتة # وعلى هذه الطريقة فالفرق بين سب الله وسب رسوله ظاهر فان هناك الحق لله خاصة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وهنا الحق لهما فلا يسقط حق الادمي بالتوبة كالقتل في المحاربة
الطريقة التاسعة عشرة انا قد ذكرنا ان النبي اراد من المسلمين قتل ابن أبي سرح بعد ان جاء مسلما تائبا ونذر دم انس بن زنيم إلى ان عفا عنه بعد الشفاعة واعرض عن أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي امية وقد جاءا مسلمين مهاجرين واراق دماء من سبه من النساء من غير قتال وهن منقادات مستسلمات وقد كان هؤلاء حربيين لم يلتزموا ترك سبه ولا عاقدونا على ذلك فالذي عقد الايمان او الامان على ترك سبه اذا جاء يريد الإسلام ويرغب فيه اما ان يجب قبول الإسلام منه والكف عنه او لا يجب فان قيل يجب فهو خلاف سنة رسول الله وان قيل لا يجب فهو دليل على انه اذا جاء ليتوب ويسلم جاز قتله وكل من جاز قتله وقد جاء مسلما تائبا مع علمنا بانه قد جاء كذلك جاز قتله وان اظهر الإسلام والتوبة لا نعلم بينهما فرقا عند أحد من الفقهاء في جواز القتل فان اظهار ارادة الإسلام هي أول الدخول فيه كما ان التكلم بالشهادتين هو أول الالتزام له ولا يعصم الإسلام الا دم من يجب قبوله منه فاذا اظهر انه يريده فقد بذل ما يجب قبوله فيجب قبوله كما لو اذاه # وهنا نكتة حسنة وهي ان ابن أبي أمية وابا سفيان لم يزالا كافرين وليس في القصة بيان انه اراد قتلهما بعد مجيئهما وانما فيها الاعراض عنهما وذلك عقوبة من النبي
واما حديث ابن أبي سرح فهو نص في اباحة دمه بعد مجيئه لطلب البيعة وذلك لان ابن أبي سرح كان مسلما فارتد وافترى على النبي انه كان يتمم له القران ويلقنه ما يكتبه من الوحي فهو ممن ارتد بسب النبي ومن ارتد بسبه قفد كان له ان يقتله من غير استتابه وكان له ان يعفو عنه وبعد موته تعين قتله # وحديث ابن زنيم فإنه اسلم قبل ان يقدم على النبي مع بقاء دمه منذورا مباحا إلى ان عفا عنه النبي بعد ان روجع في ذلك # وكذلك النسوة اللاتي امر بقتلهن انما وجهه والله اعلم انهن كن قد سببنه بعد المعاهدة فانتقض عهدهن بسبه فقتلت اثنتان والثالثة لم يعصم دمها حتى استؤمن لها بعد ايام ولو كان دمها معصوما بالإسلام لم يحتج إلى الامان وهذه الطريقة مبناها على ان من جاز قتله بعد ان اظهر انه جاء ليسلم جاز قتله بعد ان اسلم وان من لم يعصم دمه الا عفو وامان لم يكن الإسلام هو ا لعاصم لدمه وان كان قد تقدم ذكر هذا لكن ذكزناه لخصوص هذا المأحذ # الطريقة الموفية عشرين ان الاحاديث عن النبي واصحابه مطلقة بقتل سابه لم يؤمر فيها باستتابة ولم يستثن منها من تاب واسلم كما هي مطلقة عنهم في قتل الزاني المحصن ولو كان يستثني
منها حال دون حال لوجب بيان ذلك فأن سب النبي قد وقع منه وهو الذي علق القتل عليه ولم يبلغنا حديث ولا اثر يعارض ذلك وهذا بخلاف قوله من بدل دينه فاقتلوه فان المبدل للدين هو المستمر على التبديل دون من عاد وكذلك قوله التارك لدينه المفارق للجماعة فان من عاد إلى دينه لم يجز ان يقال هو تارك لدينه ولا مفارق لللجماعة وهذا المسلم او المعاهد اذا سب الرسول ثم تاب لم يكن ان يقال ليس بساب للرسول او لم يسب الرسول فان هذا الوصف واقع عليه تاب او لم يتب كما يقع على الزاني والسارق والقاذف وغيرهم # الطريقة الحادية والعشرون انا قد قررنا ان المسلم اذا سب الرسول يقتل وان تاب بما ذكرناه من النص والنظر والذمي كذلك فان أكثر ما يفرق به اما كون المسلم يتبين بذلك انه منافق او انه مرتد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفى منه ونحو ذلك وهذا المعنى موجود في الذمي فان اظهاره للإسلام بمنزلة اظهاره للذمة فاذا لم يكن كان صادقا في عهده وامانه لم نعلم انه صادق في إسلامه وايمانه وهو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفي منه كسائر الحدود # وقول من يقول قتل المسلم اولى يعارضه قول من يقول قتل الذمي اولى وذلك ان الذمي دمه اخف حرمة والقتل اذا وجب عليه في حال الذمة لسبب لم يسقط عنه بالإسلام
يبين ذلك انه لا يبيح دمه الا اظهار السب وصريحه بخلاف المسلم فان دمه محقون وقد يجوز انه غلظ بالسب فاذا حقق الإسلام والتوبة من السب ثبت العاصم مع ضعف المبيح والذمي المبيح محقق والعاصم لا يرفع ما وجب فيكون اقوى من هذا الوجه # الا ترى ان المسلم لو كان منافقا لم يقتصر على السب فقط بل لابد ان تظهر منه كلمات مكفرة غير ذلك بخلاف الذمي فانه لا يطلب على كفره دليل وانما يطلب على محاربته وافساده والسب من اظهر الادله على ذلك كما تقدم # الطريقة الثانية والعشرون انه سب لمخلوق لم يعلم عفوه فلا يسقط بالإسلام كسب سائر المؤمنين وأولى فان الذمي لو سب مسلما او معاهدا ثم اسلم لعوقب على ذلك بما كان يعاقب به قبل ان يسلم فكذلك اذا سب الرسول وأولى وكذلك يقال في المسلم اذا سبه # تحقيق ذلك ان القاذف والشاتم اذا قذف انسانا فرفعه إلى السلطان فتاب كان له ان يستوفي منه الحد وهذا الحد إنما وجب لما الحق به من العار والغضاضه فان الزنى امر يستخفى منه فقذف المرء به يوجب تصديق كثير من الناس به وهو من الكبائر التي لا يساويها غيرها في
العار والمنقصة اذا تحقق ولا يشبهه غيره في لحوق العار اذا لم يتحقق فانه اذا قذفه بقتل كان الحق لاولياء المقتول ولا يكاد يخلو غالبا من طهور كذب الرامي به او براءة المرمي به من الحق بإبراء اهل الحق او بالصلح او بغير ذلك على وجه لا يبقي عليه عار وكذلك الرمي بالكفر فان ما يظهره من الإسلام يكذب هذا الرامي به فلا يضر الا صاحبه ورمي الرسول بالعظائم يوجب الحاق العار به والغضاضه لانه باي شئ رماه من السب كان متضمنا للطعن في النبوه وهي وصف خفي فقد يؤثر كلامه اثرا في بعض النفوس فتوبته بعد اخذه قد يقال انها صدرت عن خوف وتقية فلا يرتفع العار والغضاضة الذي الحقه به كما لا يرتفع العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة ولذلك كانت توبته توجب زوال الفسق عنه وفاقا وتوجب قبول شهادته عند أكثر الفقهاء ولا يسقط الحد الذي للمقذوف فكذلك شاتم الرسول
فان قيل ما اظهره الله لنبيه من الايات والبراهين المحققة لصدقه في نبوته تزيل عار هذا السب وتبين انه مفتر كذاب بخلاف المقذوف بالزنى # قيل فيجب على هذا ان لو قذفه أحد بالزنى في حياته ان لا يجب عليه حد قذف وهذا ساقط وكان يجب على هذا ان لا يعبأ بمن يسبه ويهجوه بل يكون من يخرج عن الدين والعهد بهذا وبغيره على حد
واحد وهو خلاف الكتاب والسنه وما كان عليه السابقون ويجب اذا قذف رجل سفيه معروف بالسفه والفرية من هو مشهور عند الخاصة والعامه بالعفة مشهود له بذلك ان لا يحد وهذا كله فاسد وذلك لان مثل هذا السب والقذف لا يخاف من تأثيره في قلوب اولي الالباب وانما يخاف تأثيره في عقول ضعيفة وقلوب مريضة ثم سمع العالم يكذبه له من غير نكير يصغر الحرمه عنده وربما طرق له شبهة وشك فان القلوب سريعة التقلب وكما ان حد القذف شرع صونا للعرض من التلطخ بهذه القاذورات وسترا للفاحشة وكتما لها فشرع ما يصون عرض الرسول من التلطيخ بما قد ثبت انه بريئ منه اولى وستر الكلمات التي اوذي بها ونيل منه فيها اولى لما في ذكرها من تسهيل الاجتراء عليه الا ان حد هذا السب والقذف والقتل لعظم موقعه وقبح تاثيره فانه لو لم يؤثر الا تحقيرا لحرمة او فساد قلب واحد او القاء شبهة في قلب كان بعض ذلك يوجب القتل بخلاف عرض الواحد من الناس فانه لا يخاف منه مثل هذا وسيجيئ الجواب عما يتوهم فرقا بين سب النبي وسب غيره في سقوط حده بالتوبة دون حد غيره # الطريقة الثالثة والعشرون ان قتل الذمي اذا سب اما ان يكون جائزا غير واجب اويكون واجبا والاول باطل بما قدمناه من الدلائل في المسألة الثانية وبينا انه قتل واجب واذا كان واجبا
على الذمي بل كل عقوبة وجبت على الذمي لقدر زائد على الكفر فانها لا تسقط بالإسلام اصلا جامعا وقياسا جليا فانه يجب قتله بالزنى والقتل في قطع الطريق وبقتل المسلم او الذمي ولا يسقط الإسلام قتلا واجبا وبهذا يظهر الفرق بين قتله وقتل الحربي الاصلي او الناقض المحض فان القتل هناك ليس واجبا عينا وبه يظهر الفرق بين هذا وبين سقوط الجزية عنه بالإسلام عند أكثر الفقهاء غير الشافعي فان الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر وعند بعضهم حقن الدم وقد يقال اجرة سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت لقدر زائد على الكفر
الطريقة الرابعة والعشرون انه قتل لسبب ماضي فلم يسقط بالتوبة والإسلام كالقتل للزنى وقطع الطريق وعكسه القتل لسبب حاضر وهو القتل لكفر قديم باق او محدث جديد باق اعني الكفر الاصلي والطارئ وذلك ان النبي عليه وسلم قال من لكعب بن الاشرف فانه قد اذى الله ورسوله فأمر بقتله للاذى ماض ولم يقل فانه يؤذي الله ورسوله وكذلك ما تقدم من الاثار فيها دلالة على ان السب اوجب القتل والسب كلام لا يدوم ويبقى بل هو كالأفعال المنصرمة من القتل والزنى وما كان هكذا فالحكم فيه عقوبة فاعله مطلقا بخلاف القتل للردة او للكفر الاصلي فانه انما يقتل لانه حاضر موجود حين القتل لان الكفر اعتقاد والاعتقاد يبقى في القلب وانما يظهر انه اعتقاد بما يظهر من قول ونحوه فإذا ظهر فالاصل بقائه فيكون هذا الاعتقاد حاصلا في القلب وقت القتل وهذا وجه محقق ومبناه على ان قتل الساب ليس لمجرد الردة ونقض العهد فقط كغيره ممن جرد الردة وجرد نقض العهد بل لقدر زائد على ذلك وهو ما جاء به من الاذى والاضرار وهذا اصلا قد تمهد على وجهه لا يستريب فيه لبيب # الطريقة الخامسة والعشرون ان قتل الساب قتل تعلق بالنبي فلم يسقط بإسلام الساب كما لو قتل نبيا وذلك ان المسلم او المعاهد اذا قتل نبيا ثم اسلم بعد ذلك لم يسقط عنه القتل فانه لو قتل بعض الامة لم يسقط عنه القتل بالإسلامه فكيف يسقط عنه اذا قتل النبي ولا يجوز ان يتخير فيه خليفته بعد الإسلام بين القتل والعفو على الدية
او أكثر منها كما يتخير في قتل قاتل من لا وارث له لان قتل النبي أعظم انواع المحاربة والسعي في الارض فسادا فإن هذا حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا بلا ريب واذا كان من قاتل على خلاف امره محاربا له ساعيا في الارض فسادا فمن قاتله او قتله فهو أعظم محاربة واشد سعيا في الارض فسادا وهو من أكبر انواع الكفر ونقض العهد وان زعم انه لم يقتله مستحلا كما ذكره اسحاق بن راهويه من ان هذا إجماع من المسلمين وهو ظاهر واذا وجب قتله عينا وان اسلم وجب قتل سابه ايضا وان اسلم لان كلاهما اذى له يوجب القتل لا لمجرد كونه ردة او نقض عهد لا تمثيلا له بقتل غيره او سبه فان سب غيره لا يوجب القتل وقتل غيره انما فيه القود الذي يتخير فيه الوارث او السلطان بين القتل او اخذ الدية وللوارث ان يعفوا عنه مطلقا بل
لكون هذا محاربه لله ورسوله وسعيا في الارض فسادا ولا يعلم شئ أكثر منه فان أعظم الذنوب الكفر وبعده قتل النفس وهذا اقبح الكفر وقتل أعظم النفوس قدرا ومن قال ان حد سبه يسقط بالإسلام لزمه ان يقول ان قاتله اذا اسلم يصير بمنزلة قاتل من لا وارث له من المسلمين لان القتل بالردة ونقض العهد سقط ولم يبق الا مجرد القود كما قال بعضهم ان قاذفه اذا اسلم جلد ثمانين او ان يقول يسقط عنه القود بالكلية كما اسقط حد قذفه وسبه بالكلية وقال انغمر حدا السب في موجب الكفر لا سيما على رأية ان كان السب من كافر ذمي يستحل قتله وعداوته ثم اسلم بعد ذلك وأقبح بهذا من قول ما انكره وابشعه وانه لا يقشعر منه الجلد ان تطل دماء الانبياء في موضع تثأر دماء غيرهم وقد جعل الله عامة ما اصاب بني اسرائل من الذلة
والمسكنة والغضب حتى سفك منهم من الدماء ما شاء الله ونهبت الاموال وزال الملك عنهم وسبيت الذرية وصاروا تحت ايدي غيرهم إلى يوم القيامة انما هو بأنهم كانوا يكفرون بايات الله ويقتلون البيين بغير الحق وكل من قتل نبيا فهذا حاله وانما هذا كقوله ^ وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم ^ عطف خاص على عام واذا كان هذا باطلا فنظيره باطل مثله فان اذى النبي اما ان يندرج في عموم الكفر والنقض او يسوى بينه وبين اذى غيره فيما سوى ذلك او يوجب القتل لخصوصه فاذا بطل القسمان الاولان تعين الثالث ومتى اوجب القتل لخصوصه فلا ريب انه يوجبه مطلقا # واعلم ان منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعهما جامع وهو التسوية بين النبي وغيره في الدم او في العرض اذا فرض عود المنتهك إلى الإسلام وهو مما يعلم بطلانه ضرورة ويقشعر الجلد من التفوه به فان من قتله للردة او للنقض فقط ولم يجعل لخصوص كونه اذى له اثرا وانما المؤثر عنده عموم وصف الكفر اما ان يهدر خصوص الاذى او يسوى فيه بينه وبين غيره زعما منه ان جعله كفرا ونقضا هو غاية التعظيم وهذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة وسوى بينه وبين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق
وهذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه ثم يجر إلى شعبة نفاق ثم يخاف ان يخرج إلى النفاق الاكبر وانه لخليق به ومن قال هذا القول من الفقهاء لا يرتضي ان يلتزم مثل هذا المحذور ولا يفوه به فان الرسول أعظم في صدورهم من ان يقولوا فيه مثل هذا لكن هذا لازم قولهم لازوما لا محيد عنه وكفى بقول فسادا ان يكون هذا حقيقته بعد تحريره والا فمن تصور ان له حقوقا كثيره عظيمة مضافة إلى الايمان به وهي زيادة في الايمان به كيف يجوز ان يهدر اذاه اذا فرض عريا عن الكفر او يسوى بينه وبين غيره ارايت لو ان رجلا سب اباه واذاه كانت عقوبته المشروعة مثل عقوبة من سب غير ابيه أم يكون اشد لما قابل الحقوق بالعقوق وقد قال سبحانه وتعالى ^ فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ^ الاية وفي مراسيل أبي دواد عن ابن المسيب ان النبي قال من ضرب اباه فاقتلوه وبالجملة فلا يخفى على لبيب ان حقوق الوالدين لما كانت أعظم كان النكال على اذاهما باللسان وغيره اشد مع انه ليس كفرا فاذا كان قد اوجب له من الحقوق ما يزيد على التصديق وحرم من انواع اذاه ما لا يستلزم التكذيب فلابد لتلك
الخصائص من عقوبات على الفعل والترك ومما هو كالاجماع من المحققين امتناع ان يسوى بينه وبين غيره في العقوبة على خصوص اذاه وهو ظاهر لم يبق الا ان يكون القتل جزاء ما قوبل به من حقوقه بالعقوق جزاء وفاقا وانه لقليل له ولعذاب الاخرة اشد وقد لعن الله مؤذيه في الدنيا والاخرة واعد له عذابا مهينا # الطريقة السادسة والعشرون انا قد قدمنا من السنة واقوال الصحابة ما دل على قتل من اذاه بالتزوج بنسائه والتعرض بهذا الباب لحرمته في حياته او بعد موته وان قتله لم يكن حد الزنى من وطء ذوات المحارم وغيرهن بل لما في ذلك من اذاه فإما ان يجعل هذا الفعل كفرا او لا يجعل فإن لم يجعل كفرا فقد ثبت قتل من اذاه مع تجرده عن الكفر وهو المقصود فالاذى بالسب ونحوه اغلظ وان جعل كفرا فلو فرض انه تاب منه لم يجز ان يقال يسقط القتل عنه لانه يستلزم ان يكون من الافعال ما يوجب القتل ويسقط بالتوبة بعد القدرة وثبوته عند الإمام وهذا لاعهد لنا به في الشريعة ولا يجوز اثبات مالا نضير له الا بنص وهو لعمري سمج فان اظهار التوبة باللسان من فعل تشتهيه النفوس سهل على ذي الغرض اذا اخذ فيسقط مثل هذا الحد بهذا واذا لم يسقط القتل الذي اوجبه هذا الاذى عنه فكذلك القتل الذي اوجبه اذى اللسان واولى لان القران قد غلظ هذا على ذاك والتقدير ان كلاهما كفر فاذا لم يسقط قتل من اتى بالادنى فأن لا يسقط قتل من اتى بالاعلى اولى
الطريقة السابعة والعشرون انه سبحانه وتعالى قال ^ ان شانئك هو الابتر ^ فاخبر سبحانه ان شانئه هو الابتر والبتر القطع يقال بتر يبتر بترا وسيف بتار اذا كان قاطعا ماضيا ومنه في الاشتقاق الاكبر تبره تتبيرا اذا اهلكه والتبار الهلاك
والخسران وبين سبحانه انه هو الابتر بصيغة الحصر والتوكيد لانهم قالوا ان محمدا ينقطع ذكره لانه لا ولد له فبين الله ان الذي يشنأه هو الابتر لا هو والشنان منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنان واشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله اذا اظهر ذلك الجرم عندنا وجب ان نعاقبه ونقيم عليه حد الله فيجب ان نبتر من اظهر شنانه وابدى عداوته واذا كان ذلك واجبا وجب قتله وان اظهر التوبة بعد القدرة والا لما انبتر له شانيء بايدينا في غالب الامر لانه لا يشاء شانئ ان يظهر شنانه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف الا فعل فان ذلك سهل على من يخاف السيف # تحقيق ذلك انه سبحانه رتب الانبتار على شنانه والاسم المشتق المناسب اذا علق به حكم كان ذلك دليلا على ان المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب ان يكون شنانه هو الموجب لانبتاره وذلك اخص مما تضمنه الشنان من الكفر المحض او نقض العهد والانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي انقطاع العين والاثر فلو جاز استحياؤه بعد اظهار الشنان لكان في ذلك ابقاء لعينه واثره واذا اقتضى الشنان قطع عينه واثره كان كسائر الاسباب الموجبة لقتل الشخص وليس شئ يوجب قتل الذمي الا هو موجب لقتله بعد الإسلام اذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الاطلاق وهذا لان اله سبحانه لما رفع
ذكر محمد فلا يذكر الا ذكر معه ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى انه يبقى ذكر من بلغ عنه ولو حديثا وان كان غير فقيه قطع اثر من شناه من المنافقين واخوانهم من اهل الكتاب وغيرهم فلا يبقى له ذكر حميد وان بقيت اعيانهم وقتا ما اذا لم يظهروا الشنان فاذا اظهروه محقت اعيانهم واثارهم تقديرا وتشريعا فلو استبقى من اظهر شنانه بوجه ما لم يكن مبتورا اذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا # يوضح ذلك ان العقوبات التي شرعها الله نكالا مثل قطع السارق ونحوه لا تسقط باظهار التوبة اذ النكال لا يحصل بذلك فما شرع لقطع صاحبه وبتره ومحقه كيف يسقط بعد الاخذ فان هذا الفظ يشعر بان المقصود اصطلام صاحبه واستئصاله واجتياحه وقطع شأفته وما كان بهذه المثابة كان عما يسقط عقوبته ابعد من كل أحد وهذا بين لمن تامله والله اعلم # والجواب عن حججهم اما قولهم هو مرتد فيستتاب كسائر المرتدين فالجواب ان هذا مرتد بمعنى انه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز ان يكون مصدقا للرسول معترفا بنوبته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فاذا انتقصه في كلامه ارتفع حكم
التصديق وصار بمنزلة اعتراف ابليس لله بالربيوية فانه موجب للخضوع له فلما استكبر عن امره بطل حكم ذلك الاعتراف فالايمان بالله وبرسوله قول وعمل اعني بالعمل ما ينبعث عن القول والاعتقاد من التعظيم والاجلال فاذا عمل ضد ذلك من الاستكبار والاستخفاف صار كافرا وكذلك كان قتل النبي كفرا باتفاق العلماء فالمرتد كل من اتى بعد الإسلام من القول او العمل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه واذا كان كذلك فليس كل من وقع عليه اسم المرتد يحقن دمه بالإسلام فان ذلك لم يثبت بلفظ علم عن النبي ولا عن اصحابه وانما جاء عنه وعن اصحابه في ناس مخصوصين انهم استتابوهم او امروا باستتابتهم ثم انهم امروا بقتل الساب وقتلوه من غير استتابة # وقد ثبت عن النبي انه قتل العرنيين من غير استتابة وانه اهدر دم ابن خطل ومقيس بن صبابه وابن أبي سرح من غير استتابة فقتل منهم اثنان واراد من اصحابه ان يقتلوا الثالث بعد ان جاء تائبا # فهذه سنة رسول الله وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة تبين لك ان من المرتدين من يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ومنهم من يستتاب وتقبل توبته فمن لم يوجد منه الا مجرد تبديل الدين وتركه وهو مظهر
لذلك فاذا تاب قبلت توبته كالحارث بن سويد واصحابه والذين ارتدوا في عهد الصديق رضي الله عنه ومن كان مع ردته قد اصاب ما يبيح الدم من قتل مسلم وقطع الطريق وسب الرسول والافتراء عليه ونحو ذلك وهو في دار الإسلام غير ممتنع بفئة فانه اذا اسلم يؤخذ بذلك الموجب للدم فيقتل للسب وقطع الطريق مع قبول إسلامه # هذه طريقة من يقتله لخصوص السب وكونه حدا من الحدود او حقا للرسول فانه يقول الردة نوعان ردة مجردة وردة مغلظة والتوبة انما هي مشروعة في الردة المجردة فقط دون الردة المغلظة وقد تقدم تقرير ذلك في الادلة # ثم الكلمة الوجيزة في الجواب ان يقال جعل الردة جنسا واحدا تقبل توبة اصحابه ممنوع فلابد له من دليل ولا نص في المسالة والقياس متعذر لوجود الفرق # ومن يقتله لدلالة السب على الزندقة فانه يقول هذا لم يتب اذا
لا دليل يدل على صحة التوبة كما تقدم # وبهذا حصل الجواب عن احتجاجه بقول الصدق وتقدم الجواب عن قول ابن عباس واما استتابة الاعمى أم ولده فانه لم يكن سلطانا ولم تكن اقامة الحدود واجبة عليه وانما النظر في جواز اقامته للحد ومثل هذا لا ريب انه يجوز له ان ينهي الساب ويستتيبه فانه ليس عليه ان يقيم الحد ولا يمكنه ان يشهد به عند السلطان وحده فانه لاينفع ونظيره في ذلك من كان يسمع من المسلمين كلمات من المنافقين توجب الكفر فتارة ينقلها إلى النبي وتارة ينهي صاحبها ويخوفه ويستتيبه وهو بمثابة من ينهى من يعلم منه الزنى او السرقة او قطع الطريق عن فعله لعله يتوب قبل ان يرفع إلى السلطان ولو رفع قبل التوبة لم يسقط حده بالتوبة بعد ذلك # واما الحجة الثانية فالجواب عنها من وجوه # احدها انه مقتول بالكفر بعد الإسلام وقولهم كل من كفر بعد إسلامه فان توبته تقبل # قلنا هذا ممنوع والاية إنما دلت على قبول توبة من كفر بعد ايمانه اذا لم يزدد كفرا اما من كفر وزاد على الكفر فلم تدل الاية على قبول توبته بل قوله ^ ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادو
كفرا ^ قد يتمسك بها في خلاف ذلك على انه انما استثنى من تاب واصلح وهذا لا يكون فيمن تاب بعد اخذه وانما استفدنا سقوط القتل عن التائب لمجرد توبته من السنة وهي انما دلت على من جرد الردة مثل الحارث بن سويد ودلت على ان من غلظها كابن أبي سرح يجوز قتله بعد التوبة والإسلام # الوجه الثاني انه مقتول لكونه كفر بعد إسلامه ولخصوص السب كما تقدم تقريره فاندرج في عموم الحديث مع كون السب مغلظا لجرمه ومؤكدا لقتله # الثالث انه عام قد خص منه تارك الصلاة وغيرها من
الفرائض عند من يقتله ولا يكفره وخص منه قتل الباغي وقتل الصائل بالسنة والاجماع فلو قيل ان السب موجب للقتل بالادلة التي ذكرناها وهي اخص من هذا الحديث لكان كلاما صحيحا
واما من يحتج بهذا الحديث في الذمي اذا سب ثم اسلم فيقال له هذا وجب قتله قبل الإسلام والنبي انما يريد اباحة الدم بعد حقنه بالإسلام ولم يتعرض لمن وجب قتله ثم اسلم اي شئ حكمه ولا يجوز ان يحمل الحديث عليه فانه اذا حمل على حل الدم بالاسباب الموجوده قبل الإسلام وبعده لزم من ذلك ان يكون الحربي اذا قتل او زنى ثم شهد شهادتي الحق ان يقتل بذلك القتل والزنى لشمول الحديث على هذا التقدير له وهو باطل قطعا ولا يجوز ان يحمل على ان كل من اسلم لا يحل دمه الا باحدى الثلاث ان صدر عنه بعد ذلك لانه يلزمه ان لايقتل الذمي لقتل او زنى صدر منه قبل الإسلام فعلم ان المراد ان المسلم الذي تكلم بالشهادتين يعصم دمه لا يبيحه بعد هذا الا احدى الثلاث ثم لو اندرج هذا في العموم لكان مخصوصا بما ذكرناه من ان قتله حد من الحدود وذلك ان كل من اسلم فان الإسلام يعصم دمه فلا يباح بعد ذلك الا باحدى الثلاث وقد يتخلف الحكم عن هذا المقتضى لمانع من ثبوت حد قصاص او زنى او نقض عهد فيه ضرر وغير ذلك ومثل هذا كثيرا في العمومات
واما الاية على الوجهين الاولين فنقول انما تدل على ان من كفر بعد ايمانه ثم تاب واصلح فان الله غفور رحيم له ونحن نقول بموجب ذلك اما من ضم إلى الكفر انتهاك عرض الرسول والافتراء عليه أو قتله او قتل واحد من المسلمين او انتهك عرضه فلا تدل الاية على سقوط العقوبة عن هذا على ذلك والدليل على ذلك قوله سبحانه ^ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا ^ فان التوبة عائدة إلى الذنب المذكور والذنب المذكور هو الكفر بعد الايمان وهذا اتى بزيادة على الكفر توجب عقوبة بخصوصها كما تقدم والاية لم تتعرض من للتوبة من غير الكفر ومن قال هو زنديق قال انا لااعلم ان هذا تاب ثم ان الاية انما استثنى فيها من تاب واصلح وهذا الذي يرفع إلى الإمام لم يصلح وانا لا ادخر العقوبة الواجبة عليه إلى ان يظهر صلاحه نعم الاية قد تعم من فعل ذلك ثم تاب واصلح قبل ان يرفع إلى الإمام وهنا قد يقول كثير من الفقهاء بسقوط العقوبة على ان الاية التي بعدها قد تشعر بان المرتد قسمان قسم تقبل توبته وهو من كفر فقط وقسم لا تقبل توبته وهو من كفر ثم ازداد كفرا قال سبحانه وتعالى ^ ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبته ^ وهذه
الاية وان كان قد تاولها اقوام على من ازداد كفرا إلى ان عاين الموت فقد يستدل بعمومها على هذه المسالة فيقال من كفر بعد ايمانه وازداد كفرا بسب الرسول ونحوه لم تقبل توبته خصوصا من استمر به ازدياد الكفر إلى ان ثبت عليه الحد واراد السلطان قتله فهذا قد يقال انه ازداد كفرا إلى ان راى اسباب الموت وقد يقال فيه ^ فلما راوا بأسنا قالوا امنا بالله وحده ^ إلى قوله ^ فلم يك ينفعهم ايمانهم لما راوا باسنا ^ واما قوله سبحانه وتعالى ^ قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ^ فانه يغفر لهم ما قد سلف من الاثام اما من الحدود الواجبة على مسلم مرتد او معاهد فانه يجب استيفاؤها بلا تردد على ان سياق الكلام يدل انها في الحربي # ثم نقول الانتهاء انما هو الترك قبل القدرة كما في قوله تعالى ^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ^ إلى قوله ^ اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلا ^ فمن لم يتب حتى اخذ فلم ينته ويقال ايضا انما تدل الاية على انه يغفر لهم وهذا مسلم وليس كل من غفر له سقطت العقوبة عنه في الدنيا فان الزاني او السارق لو تاب توبة نصوحا غفر الله له ولابد من اقامة الحدود عليه وقوله
الإسلام يجب ما قبله كقوقله التوبة تجب ما قبلها ومعلوم ان التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد كما دل عليه القران وذلك ان الحديث خرج جوابا لعمرو بن العاص لما قال للنبي ابايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي فقال يا عمر اما علمت ان الإسلام يهدم ما كان قبله وان التوبة تهدم ما كان قبلها وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله فعلم انه عنى بذلك انه يهدم اثام الذنوب التي سأل عمرو مغفرتها ولم يجر للحدود ذكر وهي لا تسقط بهذه الاشياء بالاتفاق وقد بين في حديث ابن أبي سرح ان ذنبه سقط بالإسلام وان القتل انما سقط عنه يعفو النبي كما تقدم ولو فرض انه عام فلا خلاف ان الحدود لا تسقط عن الذمي بإسلامه وهذا منها كما تقدم # واما قوله سبحانه وتعالى ^ ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ^ فالجواب عنها من وجوه # احدها انه ليس في الاية دليل على ان هذه الاية نزلت فيمن سب النبي وشتمه وانما فيها انها نزلت بالمنافقين وليس كل منافق
يسبه ويشتمه فان الذي يشتمه من أعظم المنافقين واقبحهم نفاقا وقد ينافق الرجل بان لايعتقد النبوة وهو لا يشتمه كحال كثيرا من الكفار ولو ان كل منافق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد شاتما ولا ستحالت هذه المسالة وليس الامر كذلك فان الشتم قدر زائد على النفاق والكفر على ما لا يخفى وقد كان ممن هو كافر من يحبه ويوده ويصطنع اليه المعروف خلق كثير وكان ممن يكف عنه اذاه من الكفار خلق أكثر من اولئك وكان ممن يحاربه ولا يشتمه خلق اخرون بل الاية تدل على انها نزلت في منافقين غير الذين يؤذونه فانه سبحانه وتعالى قال ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ^ إلى قوله ^ يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا ان الله مخرج ما تحذرون ولئن سالتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب قل ا بالله واياته ورسوله كنتم تستهزئون لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بانهم كانوا مجرمين ^ فليس في هذا ذكر سب وانما فيه ذكر استهزاء ومن الاستهزاء بالدين ما لا يتضمن سبا ولا شتما للرسول # وفي هذا الوجه نظر كما تقدم في سبب نزولها الا ان يقال تلك الكلمات ليست من السب المختلف فيه وهذا ليس بجيد # الوجه الثاني انهم قد ذكروا ان المعفو عنه هو الذي استمع اذاهم
ولم يتكلم وهو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه واما الذين تكلموا بالاذى فلم يعف عن أحد منهم # يحقق هذا ان العفو المطلق انما هو ترك المؤاخذة بالذنب وان لم يتب صاحبه كقوله تعالى ^ ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ^ والكفر لا يعفى عنه فعلم ان الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة اما بسماع الكفر دون انكاره والجلوس مع الذين يخوضون في ايات الله او بكلام هو ذنب وليس هو كفرا او غير ذلك وعلى هذا فتكون الاية دالة على انه لابد من تعذيب اولئك المستهزئين وهو دليل على انه لا توبة لهم لان من اخبر الله بانه يعذب وهو معين امتنع ان يتوب توبة تمنع العذاب فيصلح ان يجعل هذا دليلا في المسالة # الوجه الثالث انه سبحانه وتعالى اخبر انه لابد ان يعذب طائفة من هؤلاء ان عفا عن طائفة وهذا يدل على ان العذاب واقع بهم لا محالة وليس فيه ما يدل على وقوع العفو لان العفو معلق بحرف
الشرط فهو محتمل واما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو وهو بتقدير عدمه اوقع فعلم انه لابد من التعذيب اما عاما او خاصا لهم ولو كانت توبتهم كلهم مرجوة صحيحة لم يكن كذلك لانهم اذا تابوا لم يعذبوا واذا ثبت انهم لابد ان يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم وانه يحرم تعذيبهم اذا اظهروها وسواء اراد بالتعذيب التعذيب بعذاب من عنده او بايدي المؤمنين لانه سبحانه وتعالى امر نبيه فيما بعد بجهاد الكفار والمنافقين فكان من اظهره عذب بايدي المؤمنين ومن كتمه عذبه الله بعذاب من عنده وفي الجملة فليس في الاية دليل على ان العفو واقع وهذا كاف هنا # الوجه الرابع انه ان كان في هذه الاية دليل على قبول توبتهم فهو حق وتكون هذه التوبة اذا تابوا قبل ان يثبت النفاق عند السلطان كما بين ذلك قوله تعالى ^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ^ الايتين فانها دليل على ان من لم ينته حتى اخذ فانه يقتل وعلى هذا فلعله والله اعلم عنى ^ وان نعف عن طائفة منكم ^ وهم الذين اسروا النفاق حتى تابوا منه ^ نعذب طائفة ^ وهم الذين اظهروه حتى اخذوا فتكون دالة على وجوب تعذيب من اظهره
الوجه الخامس ان هذه الاية تضمنت ان العفو عن المنافق اذا اظهر النفاق وتاب او لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ كما اسلفناه وبيناه # ويؤيده انه قال ^ ان نعف ^ ولم يقل يتب وسبب النزول يؤيد ان النفاق ثبت عليهم ولم يعاقبهم النبي وذلك كان في غزوة تبوك قبل ان تنزل براءة وفي عقبها نزلت سورة براءة فامر فيها بنبذ العهود إلى المشركين وجهاد الكفار والمنافقين ونهى فيها عن الصلاة عليهم فلم يظهر أحد بعدها نفاقا # واما قوله ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ الايتين # فالجواب عما احتج به منها من وجوه
احدها انه سبحانه وتعالى انما ذكر انهم قالوا كلمة الكفر وهموا بما لم ينالوا وليس في هذا ذكر للسب والكفر اعم من السب ولا يلزم من ثبوت الاعم ثبوت الاخص لكن فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على انها نزلت فيمن سب فيبطل هذا # الوجه الثاني انه سبحانه وتعالى انما عرض التوبة على الذين يحلفون بالله ما قالوا وهذا حال من انكر ان يكون تكلم بكفر وحلف على انكاره فاعلم الله نبيه انه كاذب في يمينه وهذا كان شان كثير ممن يبلغ النبي عنه الكلمة من النفاق ولا تقوم عليه به بينة ومثل هذا لا يقام عليه حد اذ لم يثبت عليه في الظاهر شيء والنبي انما يحكم في الحدود ونحوها بالظاهر والذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كلها انما فيه ان النبي اخبره بما قالوا مخبر واحد اما حذيفه او عامر بن قيس او زيد بن ارقم او غير هؤلاء او انه اوحي اليه
بحالهم وفي بعض التفاسير ان المحكي عنه هذه الكلمة الجلاس بن سويد اعترف بانه قالها وتاب من ذلك من غير بينه قامت عليه فقبل رسول الله ذلك منه وهذا كله دلالة واضحة على ان التوبة من مثل هذا مقبولة وهي توبة من لم يثبت عليه نفاق وهذا لا خلاف فيه اذا تاب فيما بينه وبين الله سرا كما نافق سرا انه تقبل توبته ولو جاء مظهرا لنفاقه المتقدم ولتوبته منه من غير ان تقوم عليه بينه بالنفاق قبلت توبته ايضا على القول المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا للتوبة من زنى او سرقة لم يثبت عليه على الصحيح واولى من ذلك واما من ثبت نفاقه بالبينه فليس فالاية ولا فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على قبول توبته بل ليس في نفس الاية ما يدل على ظهور التوبة بل يجوز ان يحمل على توبته فيما بينه وبين الله فان ذلك نافعه وفاقا وان اقيم عليه الحد كما قال سبحانه ^ والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ^
وقال تعالى ^ ومن يعمل سوءا او يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ^ وقال تعالى ^ ياعبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا ^ وقال تعالى ^ الم يعلموا ان الله هويقبل التوبة عن عباده ^ وقال تعالى ^ غافر الذنب وقابل التوب ^ إلى غير ذلك من الايات مع ان هذا لا يوجب ان يسقط الحد الواجب بالبينة عمن اتى فاحشة موجبة للحد او ظلم نفسه بشرب او سرقة فلو قال من لم يسقط الحد عن المنافق سواء ثبت نفاقه ببينه او اقرار ليس في الاية ما يدل على سقوط الحد عنه لكان لقوله مساغ # الوجه الثالث انه قال سبحانه وتعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ إلى قوله ^ يحلفون بالله ما قالوا ^ الاية وهذا تقرير لجهادهم وبيان لحكمته واظهار لحالهم المقتضي لجهادهم فان ذكر الوصف المناسب بعد الحكم يدل على انه علة له وقوله ^ يحلفون بالله ما قالوا ^ وصف لهم وهو منا سب لجهادهم فان كونهم يكذبون في ايمانهم ويظهرون الايمان ويبطنون الكفر موجب
للاغلاظ عليهم بحيث لايقبل منهم ولا يصدقون فيما يظهرونه من الايمان بل ينتهرون ويرد ذلك عليهم # وهذا كله دليل على انه لا يقبل ما يظهره من التوبة بعد اخذه اذ لا فرق بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي انه لم يكفر وفيما يخبره من الحاضر انه ليس بكافر فاذا بين سبحانه وتعالى من حالهم ما يوجب ان لا يصدقوا وجب ان لا يصدق في اخباره انه ليس بكافر بعد ثبوت كفره بل يجري عليه حكم قوله تعالى ^ والله يشهد ان المنافقين لكاذبون لكن بشرط ان يظهر كذبه فيها فاما بدون ذلك فانا لم نامر ان ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم وعلى هذا فقوله تعالى ^ فان يتوبوا يك خيرا لهم ^ اي قبل ظهور النفاق وقيام البينه به عند الحاكم حتى يكون للجهاد موضع وللتوبة موضع والا فقبول التوبة الظاهرة في كل وقت يمنع الجهاد لهم بالكلية # الوجه الرابع انه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك ^ وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما في الدنيا والاخرة ^ وفسر ذلك في قوله تعالى ^ ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده او بايدينا ^ وهذا يدل على ان هذه التوبة قبل ان نتمكن من تعذيبهم بايدينا لان من تولى عن التوبة حتى اظهر النفاق وشهد عليه به واخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله عليه فيجب ان يعذبه الله عذابا اليما
في الدنيا والقتل عذاب اليم فيصلح ان يعذب به لان المتولى ابعد احواله ان يكون ترك التوبة إلى ان يتركه الناس لانه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم يعذب في الدنيا لان عذا ب الدنيا قد فات فلا بد ان يكون التولي ترك التوبة وبينه وبين الموت مهل يعذبه الله فيه كما ذكره سبحانه فمن تاب بعد ان اخذ ليعذب فهو ممن لم يتب قبل ذلك بل تولى فيستحق ان يعذبه الله عذابا اليما في الدنيا والاخرة ومن تامل هذه الاية والتي قبلها وجدهما دالتين على ان التوبة بعد اخذه لا ترفع عذاب الله عنه # واما كون هذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله وان تضمنت التوبة من عرض الرسول فنقول اولا وان كان حق هذا الجواب ان يؤخر إلى المقدمة الثانية هذا القدر لا يمنع اقامة الحد عليه اذا رفع الينا ثم اظهر التوبة بعد ذلك كما ان الزاني والشارب وقاطع الطريق اذا تاب فيما بينه وبين الله قبل ان يرفع الينا قبل الله توبته واذا اطلعنا عليه ثم تاب فلا بد من اقامة الحد عليه ويكون ذلك من تمام توبته وجميع الجرائم من هذا الباب # وقد يقال ان المنتهك لاعراض الناس اذا استغفر لهم ودعا لهم قبل ان يعلموا بذلك رجي ان يغفر الله له على ما في ذلك من الخلاف
المشهور ولو ثبت ذلك عليه عند السلطان ثم اظهر التوبة لم تسقط عقوبته وذلك ان الله سبحانه لابد ان يجعل للمذنب طريقا إلى التوبة فاذا كان عليه تبعات للخلق فعليه ان يخرج منها جهده ويعوضهم عنها بما يمكنه ورحمة الله من وراء ذلك ثم ذلك لا يمنع ان نقيم عليه الحد اذا ظهرنا عليه ونحن انما نتكلم في التوبة المسقطة للحد والعقوبة لا في التوبة الماحية للذنب # ثم نقول ثانيا ان كان ما اتاه من السب قد صدر عن اعتقاد يوجبه فهو بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين وناقضي العهد من سفك دماء المسلمين واخذ اموالهم وانتهاك اعراضهم فانهم يعتقدون في المسلمين اعتقادا يوجب اباحة ذلك ثم اذا تابوا توبة نصوحا من ذلك الاعتقاد غفر لهم موجبه المتعلق بحق الله وحق العباد كما يغفر للكافر الحربي موجب اعتقاده اذا تاب منه مع ان المرتد او الناقض متى فعل شيئا من ذلك قبل الامتناع اقيم عليه حده وان عاد إلى الإسلام سواء كان لله او لادمي فيحد على الزنى والشرب وقطع الطريق وان كان في زمن الردة ونقض العهد يعتقد حل ذلك الفرج لكونه وطئه
بملك اليمين اذا قهر مسلمة على نفسها ويعتقد حل دماء المسلمين واموالهم كما يؤخذ منه القود وحد القذف وان كان يعتقد حلهما ويضمن ما اتلفه من الاموال وان اعتقد حلها # والحربي الاصل لا يؤخذ بشيء من ذلك بعد الإسلام وكان الفرق ان ذاك كان ملتزما بايمانه وامانه ان لايفعل شيئا من ذلك فاذا فعله لم يعذر بفعله بخلاف الحربي الاصل ولان في اقامة هذه الحدود عليه زجرا له عن فعل هذه الموبقات كما فيها زجر للمسلم المقيم على إسلامه بخلاف الحربي الاصل فان ذلك لا يزجره بل هو منفر له عن الإسلام ولان الحربي الاصل ممتنع وهذان ممكنان # وكذلك قد نص الإمام احمد على ان الحربي اذا زنى بعد الاسر اقيم عليه الحد لانه صار في ايدينا كما ان الصحيح عنه وعن أكثر اهل العلم ان المرتد اذا امتنع لم تقم عليه الحدود لانه صار بمنزلة الحربي اذ
الممتنع يفعل هذه الاشياء باعتقاد وقوة من غير زاجر له ففي اقامة الحدود عليهم بعد التوبة تنفير واغلاق لباب التوبة عليهم وهو بمنزلة تضمين اهل الحرب سواء وليس هذا موضع استقصاء هذا وانما نبهنا عليه واذا كان هذا هنا هكذا فالمرتد والناقض اذا اذيا الله ورسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرة توبة نصوحا كانا بمنزلتهما اذا حاربا باليد في قطع الطريق او زنيا وتابا بعد اخذهما وثبوت الحد عليهما ولا فرق بينهما وذلك لان الناقض للعهد قد كان عهده يحرم عليه هذه الامور في دينه وان كان دينه المجرد عن عهد يبيحها له # وكذلك المرتد قد كان يعتقد ان هذه الامور محرمة فاعتقاده اباحتها اذا لم يتصل به قوة ومنعه ليس عذرا له في ان يفعلها لما كان ملتزما له من الدين الحق ولما هو به من الضعف ولما في سقوط الحد عنه من الفساد وان كان السب صادرا عن غير اعتقاد بل سبه مع اعتقاد نبوته او سبه باكثر مما يوجبه اعتقاده او بغير ما يوجبه اعتقاده فهذا من أعظم الناس كفرا بمنزلة ابليس وهو من نوع العناد او السفه وهو بمنزلة من شتم بعض المسلمين او قتلهم وهو يعتقد ان دمائهم واعراضهم حرام # وقد اختلف الناس في سقوط حد المشتوم بتوبة الشاتم قبل العلم به سواء كان نبيا اوغيره فمن اعتقد ان التوبة لا تسقط حق الادمي له ان يمنع هنا ان توبة الشاتم في الباطن صحيحة على الاطلاق وله ان
يقول ان النبي ان يطالب هذا بشتمه مع علمه بأنه حرام كسائر المؤمنين لهم ان يطالبوا شاتمهم وسابهم بل ذلك اولى وهذا القول قوي في القياس وكثير من الظواهر تدل عليه # ومن قال هذا من باب السب والغيبة ونحوهما مما يتعلق باعراض الناس وقد فات الاستحلال فليأت للمشتوم من الدعاء والاستغفار بما يزن حق عرضه ليكون ما ياخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له واستغفر فيسلم له سائر عمله فكذلك من صدرت منه كلمة سب
او شتم فليكثر من الصلاة والتسليم ويقابلها بضدها فمن قال ان ذلك يوجب قبول التوبة ظاهرا وباطنا ادخله في قوله تعالى ^ ان الحسنات يذهبن السيئات ^ واتبع السيئة الحسنة تمحها ومن قال لا بد من القصاص قال قد اعد له من الحسنات ما يقوم بالقصاص وليس لنا غرض في تقرير واحد من القولين هنا وانما الغرض ان الحد لا يسقط بالتوبة لانه ان كان عن اعتقاد فالتوبة منه صحيحة مسقطة لحق الرسول في الاخرة وهي لاتسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم وان كانت من غير اعتقاد ففي سقوط حق الرسول بالتوبة خلاف
فان قيل لا يسقط فلا كلام وان قيل يسقط الحق ولم يسقط الحد كتوبة الاول واولى فحاصله ان الكلام في مقامين # احدهما ان هذه التوبة اذا كانت صحيجة نصوحا فيما بينه وبين الله هل يسقط معها حق المخلوق وفيه تفصيل وخلاف فان قيل لم يسقط فلا كلام وان قيل يسقط فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حق الله بالتوبة فتكون كالتوبة من سائر انواع الفساد وتلك التوبة اذا كانت بعد القدرة لم تسقط شيئا من الحدود وان محت الاثم في الباطن # وحقيقة هذا الكلام ان قتل الساب ليس لمجرد الردة ومجرد عدم العهد حتى تقبل توبته كغيره بل لردة مغلظة ونقض مغلظ بالضرر ومثله لا يسقط موجبه بالتوبة لانه من محاربة الله ورسوله والسعي في الارض فسادا او هو من جنس الزنى والسرقة او هو من جنس القتل والقذف فهذه حقيقة الجواب وبه يتبين الخلل فيما ذكر من الحجة # ثم نبينه مفصلا فنقول اما قولهم ان ما جاء به من الايمان به ماح لما اتى به من هتك عرضه فنقول ان كان السب مجرد موجب اعتقاد فالتوبة من الاعتقاد توبة من موجبه واما من زاد على موجب الاعتقاد او اتى بضده وهم أكثر السابين فقد لا يسلم ان ما ياتي به من التوبة ماح الا بعد عفوه بل يقال له المطالبة وان سلم ذلك فهو كالقسم الاول وهذا القدر لا يسقط الحدود كما تقدم غير مرة
واما قولهم حقوق الانبياء من حيث النبوة تابعة لحق الله في الوجود فتبعته في السقوط فنقول هذا مسلما ان كان السب موجب اعتقاد والا ففيه الخلاف واما حقوق الله فلا فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد او غير اعتقاد فان التائب من اعتقاد الكفر وموجباته والتائب من الزنى سواء ومن لم يسو بينهما قال ليست أعظم من حق الله اذا لم يسقط في الباطن بسقوطه ولكن الامر إلى مستحقها ان شاء جزى وان شاء عفا ولم يعلم بعد ما يختاره الله سبحانه قد اعلمنا انه يغفر لكل من تاب # وايضا فان مستحقها من جنس تلحقهم المضرة والمعرة بهذا ويتألمون به فجعل الامر اليهم والله سبحانه وتعالى انما حقه راجع إلى مصلحة المكلف خاصة فانه لا ينتفع بالطاعة ولا يستضر بالمعصية فاذا عاود المكلف الخير فقد حصل ما اراده ربه منه فلما كان الانبياء عليهم السلام فيهم نعت البشر ولهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حق الله ونعت حق سائر العباد وانما يكون حقهم مندرجا في حق
الله اذا صدر عن اعتقاد فانهم لما وجب الايمان بنبوتهم صار كالايمان بوحدانية الله فاذا لم يعتقد معتقد نبوتهم كان كافرا كما اذا لم يقر بوحدانية الله وصار الكفر بذلك كفرا برسالات الله ودينه وغير ذلك فاذا كان السب موجب هذا الاعتقاد فقط مثل نفي الرسالة او النبوة ونحو ذلك وتاب منه توبة نصوحا قبلت توبته كتوبة المثلث واذا زاد على ذلك مثل قدح في نسب او وصف لمساوي الاخلاق او فاحشة او غير ذلك مما يعلم هو انه باطل او لا يعتقد صحته او كان مخالفا للاعتقاد مثل ان يحسد او يتكبر او يغضب لفوات غرض او حصول مكروه مع اعتقاد النبوة فيسب فهنا اذا تاب لم يتجدد له اعتقاد ازال موجب السب انما غير نيته وقصده وهو قد اذاه بهذا السب اذى يتالم به البشر ولم يكن معذورا بعدم اعتقاد النبوة فهو كحق الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله وبين خلقه فوجب قتله وهو كحق البشر من حيث انه اذى ادميا يعتقد انه لا يحل اذاه فلذلك كان له ان يطالبه بحق اذاه وان ياخذ من حسناته بقدر اذاه وليست له حسنة تزن ذلك الا ما يضاد السب من الصلاة والتسليم ونحوهما وبهذا يظهر ان التوبة من سب صدر عن غير اعتقاد من الحقوق التي تجب للبشر على البشر ثم هو حق متعلق بالنبوة لا محاله فهذا قول هذا القائل وان كنا لم نرجح واحدا من القولين
ثم اذا كانت حقوقهم تابعة لحق الله فمن الذي قال ان حقوق الله تسقط على المرتد وناقض العهد بالتوبة فانا قد بينا ان هؤلاء تقام عليهم حدود الله بعد التوبة وانما تسقط بالتوبة عقوبة الردة المجردة والنقض المجرد وهذا ليس كذلك # واما قوله ان الرسول يدعوا الناس إلى الايمان به ويخبرهم ان الايمان يمحو الكفر فيكون قد عفا لمن كفر عن حقه فنقول هذا جيد اذا كان السب موجب الاعتقاد فقط لانه هو الذي اقتضاه ودعاه إلى الايمان به فانه من ازال اعتقاد الكفر به باعتقاد الايمان به زال موجبه اما من زاد على ذلك وسبه بعد ان امن به او عاهده فلم يلتزم ان يعفو عنه وقد كان له ان يعفو وله أن الا يعفو والتقدير المذكور في السؤال انما يدل على سب اوجبه الاعتقاد ثم زال باعتقاد الايمان لانه هو الذي كان يدعو اليه الكفر وقد زال بالايمان واما ما سوى ذلك فلا فرق بينه وبين سب سائر الناس من هذه الجهة وذلك أن الساب ان كان حربيا فلا فرق بين سبه للرسول او لواحد من الناس من هذه الجهة وان كان مسلما او ذميا فاذا سب الرسول سبا لا يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس فان تجدد الإسلام منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل وينهاه عنه وان لم يرفع موجبه فان موجب هذا السب لم يكن الكفر به اذ كلامنا في سب لا يوجبه الكفر به مثل فريه عليه يعلم انها فرية ونحو ذلك لكن اذا اسلم الساب فقد عظم في قلبه عظمة تمنعه ان يفتري عليه كما انه اذا تاب من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظمة تمنعه من مواقعته وجاز ان لا يكون هذا الإسلام وازعا لكون موجب السب
كان شيئا غير الكفر وقد يضعف هذا الإسلام عن دفعه كما تضعف هذه التوبة عن موجب الاذى وفرق بين ارتفاع الامر بارتفاع سببه او بوجود ضده فان ما اوجبه الاعتقاد اذا زال الاعتقاد زال سببه فلم يخش عوده الا بعود السبب وما لم يوجبه الاعتقاد من الفرية ونحوها على النبي وغيره يرفعها الإسلام والتوبة رفع الضد للضد اذ اعتقاد قبح هذا الامر وسوء عاقبته والعزم الجازم على فعل ضده وتركه ينافي وقوعه لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب المقتضي عمل عمله فهذا يبين انه لافرق في الحقيقة بين ان يتوب من سب لم يوجبه مجرد الكفر بالايمان به الموجب لعدم ذلك السب وبين ان يتوب من سب مسلم بالتوبة الموجبه لعدم ذلك السب # واعتبر هذا برجل له غرض في امر فزجر عنه وقيل له هذا قد حرمه النبي فلا سبيل اليه فحمله فرط الشهوة وقوة الغضب لفوات المطلوب على ان لعن وقبح فيما بينه وبين الله مع انه لايشك في النبوة ثم انه جدد إسلامه وتاب وصلى على النبي ولم يزل باكيا من كلمته ورجل اراد ان ياخذ مال مسلم بغير حق فمنعه منه فلعن وقبح سرا ثم انه تاب من هذا واستغفر لذلك الرجل ولم يزل خائفا من كلمته اليست توبة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته وان كانت توبة هذا يجب ان تكون أعظم لعظم كلمته لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه بخلاف من انما يلعن ويقبح من يعتقده كذابا ثم
يتبين له انه كان ضالا في ذلك الاعتقاد وكان في مهواة التلف فتاب ورجع من ذلك الاعتقاد توبة مثله فانه يندرج فيه جميع ما اوجبه # ومما يقرر هذا ان النبي كان اذا بلغه سب مرتد او معاهد سئل ان يعفو عنه بعد الإسلام ودلت سيرته على جواز قتله بعد إسلامه وتوبته ولو كان مجرد التوبة يغفر لهم بها ما في ضمنها مغفرة تسقط الحد لم يجز ذلك فعلم انه كان يملك العقوبة على من سبه بعد التوبة كما يملكها غيره من المؤمنين # فهذا الكلام في توبة الساب فيما بينه وبين الله هل تسقط حق الرسول أم لا وبكل حال سواء اسقطت أم لم تسقط لا يقتضي ذلك ان اظهارها مسقط للحد الا ان يقال هو مقتول لمحض الردة او محض نقض العهد فان توبة المرتد مقبولة وإسلام من جرد نقض العهد مقبول مسقط للقتل # وقد قدمنا فيما مضى بالادلة القاطعة ان هذا مقتول لردة مغلظة ونقض مغلظ بمنزلة من حارب وسعى في الارض فسادا
ثم من قال يقتل حقا لادمي قال العقوبة اذا تعلق بها حقان حق لله وحق لادمي ثم تاب سقط حق الله وبقي حق الادمي من القود وهذا التائب اذا تاب سقط حق الله وبقي حق الادمي # ومن قال يقتل حدا لله قال هو بمنزلة المحارب وقد يسوى بين من سب الله وبين من سب الرسول على ما سياتي ان شاء الله تعالى # وقولهم في المقدمة الثانية اذا اظهر التوبة وجب ان نقبلها منه قلنا هذا مبني على ان هذه التوبة مقبولة مطلقا وقد تقدم الكلام فيه # ثم الجواب هنا من وجهين # احدهما القول بموجب ذلك فانا نقبل منه هذه التوبة ونحكم بصحة إسلامه كما نقبل توبة القاذف ونحكم بعدالته ونقبل توبة السارق وغيرهم لكن الكلام في سقوط القتل عنه ومن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ من الحدود الواجبة لقدر زائد على الردة او النقض ومن تاب قبلها لم تسقط عنه حقوق العباد اذا قبلنا توبته فمن تمام توبته ان يطهر باقامة الحد عليه كسائر هؤلاء وذلك انا نحن
لاننازع في صحة توبته ومغفرة الله له مطلقا فان ذلك إلى الله وانما الكلام هل هذه التوبة مسقطة للحد عنه وليس في الحديث ما يدل على ذلك فانا قد نقبل إسلامه وتوبته ونقيم عليه الحد تطهيرا له وهذا جواب من يقتله حدا محضا مع الحكم بصحة إسلامه # الثاني ان هذا الحديث في قبول الظاهر اذا لم يثبت خلافه بطريق شرعي وهنا قد ثبت خلافه وهذا الجواب من يقتله لزندقته وقد يجيب به من يقتل الذمي ايضا بناء على انه زنديق في حال العهد فلا يوثق بإسلامه # واما إسلام الحربي والمرتد ونحوهما عند معاينة القتل فانما جاز لانا انما نقاتلهم لان يسلموا ولا طريق إلى الإسلام الاما يقولونه بالسنتهم فوجب قبول ذلك منهم وان كانوا في الباطن كاذبين والا لوجب قتل كل كافر اسلم او لم يسلم فلا تكون المقاتلة حتى يسلموا بل يكون القتال دائما وهذا باطل ثم انه قد يسلم الان كارها ثم ان الله يحبب اليه الايمان ويزينه في قلبه كذلك أكثر من يسلم لرغبته في المال ونحوه او لرهبته من السيف ونحوه ولا دليل يدل على فساد الا كونه مكرها عليه بحق وهذا لا يلتفت اليه # اما هنا فانما نقتله لما مضى من جرمه من السب كما نقتل الذمي لقتله النفس او لزناه بمسلمة وكما نقتل المرتد لقتله مسلما ولقطعه
الطريق كما تقدم تقريره فليس مقصودنا بارادة قتله ان يسلم ولا نحن مقاتليه على ان يسلم بل نحن نقتله جزاء له على ما اذانا ونكالا لا مثاله على مثل هذه الجريمة فاذا اسلم فان صححنا إسلامه لم يمنع ذلك وجوب قتله كالمحارب المرتد او الناقض اذا اسلم بعد القدرة وقد قتل فانه يقتل وفاقا فيما علمناه وان حكم بصحة إسلامه وان لم يصحح إسلامه فالفرق بينه وبين الحربي والمرتد من وجهين # احدهما ان الحربي والمرتد لم يتقدم منه ما دل على ان باطنه بخلاف ظاهره بل اظهاره للردة لما ارتد دليل على ان ما يظهره من الإسلام صحيح وهذا مازال مظهر للإسلام وقد اظهر ما دل على فساد عقده فلم يوثق بما يظهره من الإسلام بعد ذلك وكذلك ناقض العهد قد عاهدنا على ان لا يسب وقد سب فثبتت جنايته وغدره فاذا اظهر الإسلام بعد ان اخذ ليقتل كان اولى ان يخون ويغدر فانه كان ممنوعا من اظهار السب فقط وهو لم يف بذلك فكيف اذا اصبح ممنوعا من اظهاره واسراره ولم يكن له عذر فيما فعله من السب بل كان محرما عليه في دينه فاذا لم يف به صار من المنافقين في العهد # الثاني ان الحربي او المرتد نحن نطلب منه ان يسلم فاذا اعطانا ما اردناه بحسب قدرته وجب قبوله منه والحكم بصحته والساب لايطلب منه الا القتل عينا فاذا اسلم ظهر انما اسلم ليدرا عن نفسه القتل الواجب عليه كما اذا تاب المحارب بعد القدرة عليه او اسلم او
تاب سائر الجناة بعد اخذهم فلا يكون الظاهر صحة هذا الإسلام فلا يسقط ما وجب من الحد قبله # وحقيقة الامر ان الحربي والمرتد يقتل لكفر حاضر ويقاتل ليسلم ولا يمكن ان يظهر وهو مقاتل او ماخوذ الإسلام الا مكرها فوجب قبوله منه اذ لايمكن بذله الا هكذا وهذا الساب والناقض لم يقتل لمقامه على الكفر او كونه بمنزلة سائر الكفار غير المعاهدين لما ذكرناه من الادلة الدالة على ان السب مؤثر في قتله ويكون قد بذل التوبة التي لم تطلب منه في حال الاخذ للعقوبة فلا تقبل منه # وعلى هذين الماخذين ينبني الحكم بصحة إسلام هذا الساب في هذه الحال مع القول بوجوب قتله # احدهما لا يحكم بصحة إسلامه وهو مقتضى قول ابن القاسم وغيره من المالكية # والثاني يحكم بصحة إسلامه وعليه يدل كلام الإمام احمد واصحابه في الذمي مع وجوب اقامة الحد عليه واما المسلم اذا سب ثم قتل بعد ان اسلم فمن قال يقتل عقوبة على السب لكونه حق ادمي
او حدا محضا لله فقط حكم بصحة هذا الإسلام وقبله وهذا قول كثير من اصحابنا وغيرهم وهو قول من قال يقتل من اصحاب الشافعي # وكذلك من قال يقتل ساب الله ومن قال يقتل لزندقته اجرى عليه اذا قتل بعد اظهار الإسلام احكام الزنادقة وهو قول كثير من المالكية وعليه يدل كلام بعض اصحابنا وعلى ذلك ينبني الجواب عما احتج به من قبول النبي ظاهر الإسلام من المنافقين فان الحجة اما ان تكون في قبول ظاهر الإسلام منهم في الجملة فهذا لا حجة فيه من اربعة اوجه قد تقدم ذكرها # احدها ان الإسلام انما قبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلافه وكانوا ينكرون انهم تكلموا بخلافه فاما ان البينة تقوم عند رسول الله على كفر رجل بعينه فيكف عنه فهذا لم يقع قط الا ان يكون في بادئ الامر
الثاني انه كان في أول الامر مامورا ان يدع اذاهم ويصبر عليهم لمصلحة التاليف وخشية التنفير إلى ان نسخ ذلك بقوله تعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ # الثالث انا نقول بموجبه فنقبل من هذا الإسلام ونقيم عليه حد السب كما لو اتى حدا غيره وهذا جواب من يصحح إسلامه ويقتله حدا لفساد السب # الرابع ان النبي لم يستتب احدا منهم ويعرضه على السيف ليتوب ممن مقالة صدرت منه مع ان هذا مجمع على وجوبه فان الرجل منهم اذا شهد عليه بالكفر والزندقة فاما ان يقتل عينا او يستتاب فان لم يتب والا قتل # واما الاكتفاء منه بمجرد الجحود فما اعلم به قائلا بل اقل ما قيل فيه انه يكتفى منهم بالنطق بالشهادتين والتبري من تلك المقاله فاذا
لم تكن السيرة في المنافقين كانت هكذا علم ان ترك هذا الحكم لفوات شرطه وهو اما ثبوت النفاق او العجز عن اقمة الحد او مصلحة التاليف في حال الضعف حتى قوي الدين فنسخ ذلك # وان كان الاحتجاج بقبول ظاهر الإسلام ممن سب فعنه جواب خمس وهو انه كان له ان يعفو عمن شتمه في حياته وليس هذا العفو لاحد من الناس بعده # واما تسمية الصحابه الساب غادرا محاربا فهو بيان لحل دمه وليس كل من نقض العهد وحارب سقط القتل عنه بإسلامه بدليل ما لو قتل مسلما او قطع الطريق عليه او زنى بمسلمة بل تسميته محاربا مع كون السب فسادا يوجب دخوله في حكم الاية كما تقدم # واما الذين هجو رسول الله وسبوه ثم عفا عنهم فالجواب عن ذلك كله قد تقدم في المسألة الاولى لما ذكرنا قصصهم وبينا ان السب غلب فيه حق الرسول اذا علم فله ان يعفو وان ينتقم وفي قصص هؤلاء ما يدل على ان العقوبة انما سقطت عنهم مع عفوه وصفحه لمن تامل احوالهم معه والتفريق بينهم وبين لم يهجه ولم يسبه
وايضا فهؤلاء كانوا محاربين والحربي لايؤخذ بما اصابه من المسلمين من دم او مال او عرض والمسلم والمعاهد يؤخذ بذلك # وقولهم الذمي يعتقد حل السب كما يعتقده الحربي وان لم يعتقد حل الدم والمال غلط فان عقد الذمة منعهم من الطعن في ديننا واو جب عليهم الكف عن ان يسبوا نبينا كما منعهم دماءنا واموالنا وابلغ فهو ان لم يعتقد تحريمه للدين فهو يعتقد تحريمه للعهد كاعتقادنا نحن في دمائهم واموالهم واعراضهم ونحن لم نعاهد على غان نكف عن سب دينهم الباطل واظهار معايبهم بل نعاهدهم على ان نظهر في دارنا ما شئنا وان يلتزموا جريان احكامنا عليهم والا فأين الصغار # واما قولهم الذمي اذا سب اما ان يقتل لكفره وحرابه كما يقتل الحربي الساب او يقتل حدا من الحدود قلنا هذا تقسيم منتشر بل يقتل لكفره وحرابه بعد الذمة وليس من حارب بعد الذمة بمنزلة الحربي الاصلي فان الذمي اذا قتل مسلما اجتمع عليه انه نقض العهد وانه وجب عليه القود فلو عفا ولي الدم قتل لنقض العهد بهذا الفساد وكذلك سائر الامور المضرة بالمسلمين يقتل بها الذمي اذا فعلها وليس حكمه فيها كحكم الحربي الاصلي اجماعا واذا قتل لحرابه وفساده بعد
العهد فهو حد من الحدود فلا تنافي بين الوصفين حتى يجعل احدهما قسيما للاخر وقد بينا في بالأدلة الواضحة ان قتله ليس لمجرد كونه كافرا غير ذي عهد بل حدا وعقوبة على سب نبينا الذي اوجبت عليه الذمة تركه والامساك عنه مع ان السب مستلزم لنقض العهد العاصم لدمه وأنه يصير بالسب محاربا غادرا وليس هو كحد الزنى ونحوه مما لا مضرة علينا فيه وانما اشبه الحدود به حد المحاربة # واما قولهم ليس في السب أكثر من انتهاك العرض وهذا قدر لا يوجب الا الجلد إلى اخر الكلام عنه ثلاثة اجوبة # احدها ان هذا كلام في راس المسالة فانه اذا لم يوجب الا الجلد والامور الموجبة للجلد لا تنقض العهد لم ينتقض العهد به كسب بعض المسلمين وقد قدمنا الدلالات التي لا تحل مخالفتها على وجوب قتل الذمي اذا فعل ذلك وانه لاعهد له يعصم دمه مع ذلك وبينا ان انتهاك عرض عموم المسلمين يوجب الجلد واما انتهاك عرض الرسول فانه يوجب القتل وقد صولح على الامساك عن العرضين فمتى انتهك عرض الرسول فقد اتى بما يوجب القتل مع التزامه ان لايفعله فوجب ان يقتل كما لو قطع الطريق او زنى والتسوية بين عرض الرسول وعرض غيره في مقدار العقوبة من افسد القياس # والكلام في الفرق بينهما يعد تكلفا فانه عرض قد اوجب الله على
جميع الخلق ان يقابلوه من الصلاة والسلام والثناء والمدحة والمحبة والتعظيم والتعزير والتوقير والتواضع في الكلام والطاعة للامر ورعاية الحرمة في اهل البيت والاصحاب بما لاخفاء به على أحد من علماء المؤمنين عرض به قام دين الله وكتابه وعباده المؤمنون به وجبت الجنة لقوم والنار لاخرين به كانت هذه الامة خير امة اخرجت للناس عرض قرن الله ذكره بذكره وجمع بينه وبينه في كتابة واحدة وجعل بيعته بيعة له وطاعته طاعة له واذاه اذى له إلى خصائص لا تحصى ولا يقدر قدرها افيليق لو لم يكن سبه كفرا ان تجعل عقوبة منتهك هذا العرض كعقوبة منتهك عرض غيره # ولو فرضنا ان لله نبينا بعثه إلى امة ولم يوجب على امة اخرى ان يؤمنوا به عموما ولا خصوصا فسبه رجل ولعنه عالما بنبوته إلى اولئك افيجوز ان يقال ان عقوبته وعقوبة من سب واحدا من المؤمنين سواء هذا افسد من قياس الذين قالوا انما البيع مثل الربا
قولهم الذمي يعتقد حل ذلك قلنا لا نسلم فان العهد الذي بيننا وبينه حرم عليه في دينه السب كما حرم عليه دماءنا واموالنا واعراضنا فهو اذا اظهر السب يدري انه قد فعل عظيمة من العظائم التي لم نصالحه عليها ثم ان كان يعلم ان عقوبة ذلك عندنا القتل والا فلا يجب لان مرتكب الحدود يكفيه العلم بالتحريم كمن زنى او سرق او شرب او قذف او قطع الطريق فانه اذا علم تحريم ذلك عقوب العقوبة المشروعة وان كان يظن ان لاعقوبة على ذلك او ان عقوبته دون ما هو مشروع # وايضا فان دينهم لا يبيح لهم السب واللعنة للنبي وان كان دينن باطلا أكثر ما يعتقدون انه ليس بنبي او ليس عليهم اتباعه اما ان يعتقدوا ان لعنته وسبه جائزة فكثير منهم او اكثرهم لا يعتقدون ذلك على ان السب نوعان احدهما ما كفروا به واعتقدوه والثاني ما لم يكفروا به فهذا الثاني لا ريب انهم لا يعتقدون حله # واما قولهم صولح على ترك ذلك فاذا فعله انتقض العهد فانه اذا فعله انتقض عهده وعوقب على نفس تلك الجريمة وإلا كان يستوي حال من ترك العهد ولحق بدار الحرب من غير اذى لنا وحال من قتل وسرق وقطع الطريق وشتم الرسول مع نقض العهد وهذا لايجوز # واما قولهم كون القتل حدا حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي فصحيح وقد تقدمت الادلة الشرعية من الكتاب والسنة والاثر والنظر الدالة على ان نفس السب من حيث خصوصيته موجب للقتل
ولم يثبت ذلك استحسانا صرفا واستصلاحا محضا بل اثبتناه بالنصوص واثار الصحابة وما دل عليه ايماء الشارع وتنبيهه وبما دل عليه الكتاب والسنة واجماع الامة من الخصوصية بهذا السب والحرمة لهذا العرض التي يوجب ان لا يصونه الا القتل لا سيما اذا قوي الداعي على انتهاكه وخفة حرمته بخفة عقابه وصغر في القلوب مقدار من هو أعظم العالمين قدرا اذا ساوى في قدر العرض زيدا وعمروا وتمضمض بذكره اعداء الدين من كافر غادر ومنافق ماكر فهل يستريب من قلب الشريعة ظهرا لبطن ان محاسنها توجب حفظ هذه الحرمة التي هي أعظم حرمات المخلوقين وحرمتها متعلقة بحرمة رب العالمين بسفك دم واحد من الناس مع قطع النظر عن الكفر والارتداد فانهما مفسدتان اتحادهما في معنى التعداد ولسنا الان للكلام في المصالح المرسلة فانا لم نحتج اليها في هذه المسالة لما فيها من الادلة الخاصة الشرعية وانما ننبه على عظم المصلحة في ذلك بيانا لحكمة الشرع لان القلوب إلى ما فهمت حكمته اسرع انقيادا والنفوس اذا ما تطلع على مصلحته اعطش اكبادا ثم لو لم يكن في المسالة نص ولا اثر لكان اجتهاد الراي يقضي بان يجعل القتل عقوبة هذا الجرم لخوصه لا لعموم كونه كفرا او ردة حتى لو فرض تجرده عن ذلك لكان موجبا للقتل اخذا له من قاعدة العقوبات في الشرع فانه يجعل اعلى العقوبات في مقابلة ارفع الجنايات واوسطها في مقابلة اوسطها وادناها في مقابلة ادناها فهذه الجناية اذا انفردت تمتنع ان تجعل في مقابلة الاذى فتقابل بالجلد او الحبس تسوية بينها وبين الجناية على
عرض زيد وعمرو فانه لا يخفى على من له ادنى بصر باسباب الشرع ان هذا من افسد انواع الاجتهاد ومثله في الفساد خلوها من عقوبة تخصها واما جعله في الاوسط كما اعتقده المهاجر بن أبي امية حتى قطع يد الجارية السابة وقلع ثنيتها فباطل أيضا كما انكره عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لان الجناية جناية على اشرف الحرمات ولانه لا مناسبة بينها وبين أوسط العقوبات من قطع عضو من الاعضاء فتعين ان تقابل باعلى العقوبات وهو القتل # ولو نزلت بنا نازلة السب وليس معنا فيها اثر يتبع ثم استراب مستريب في ان الواجب الحقها باعلى الجنايات لما عد من بصراء الفقهاء ومثل هذه المصلحة ليست مرسلة بحيث ان لا يشهد لها الشرع بالاعتبار فاذا فرض انه ليس لها اصل خاص يلحق به ولا بد من الحكم فيها فيجب ان يحكم فيها بما هو اشبه بالاصول الكلية واذا لم يعمل بالمصلحة لزم العمل بالمفسدة والله لايحب الفساد
ولا شك ان العلماء في الجملة من اصحابنا وغيرهم قد يختلفون في هذا الضرب من المصالح اذا لم يكن فيها اثر ولا قياس خاص والإمام احمد قد يتوقف في بعض افرادها مثل قتل الجاسوس المسلم
ونحوه ان جعلت من افرادها وربما عمل بها وربما تركها اذا لم يكن معه فيها اثر او قياس خاص ومن تامل تصاريف الفقهاء علم انهم يضطرون إلى رعايتها اذا لم يخالف اصلا من الاصول ولم يخالف في اعتبارها الا طوائف من اهل الكلام والجدل من اصحابنا وغيرهم ولو انهم خاضوا مخاض الفقهاء لعلموا انه لابد من اعتبارها وذوق الفقه ممن لجج فيه شيء والكلام على حواشه من غير معرفة اعيان المسائل شيء اخر واهل الكلام والجدل انما يتكلمون في القسم الثاني فيلزمون غيرهم ما لا يقدرون على التزامه ويتكلمون في الفقه كلام من لا يعرف الا امورا كلية وعمومات احاطية وللتفاصيل خصوص نظر ودلائل يدركها من عرف اعيان المسائل
واثبتناه ايضا بالقياس الخاص وهو القياس على كل من ارتد ونقض العهد على وجه يضر المسلمين مضرة فيها العقوبة بالقتل وبينا ان هذا اخص من مجرد الردة ومجرد نقض العهد وان الاصول فرقت بينهما # واثبتناه ايضا بالنافي لحقن دمه وبينا ان هذا حل دمه بما فعله والادلة العاصمة لم اسلم من مرتد وناقض لا تتناوله لفظا ولا معنى # وقولهم القياس في الاسباب لا يصح خلاف ما عليه الفقهاء وهو قول باطل قطعا لكن ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك # وقولهم معرفة نوع الحكمة وقدرها متعذر قلنا لا نسلم هذا على الاطلاق بل قد يمكن وقد يتعذر بل ربما علم قطعاان الفرع مشتمل على الحكمة الموجودة في الا صل وزيادة # وقولهم هو يخرج السبب عن ان يكون سببا ليس كذلك فان سبب السبب لايمنعه ان يكون سببا والاضافة إلى السبب لا تقدح في الاضافة إلى سبب السبب والعلم بها ضروري # واما قولهم ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يجوز الحاق السب بها قلنا بل هو ملحق بالردة المقترنة بما يغلظها والنقض المقترن بما يغلظه وان الفساد الحاصل في السب ابلغ من الفساد الحاصل بتلك الامور المغلظة كما تقدم بيانه بشواهده من الاصول
الشرعية على ان هذا الحكم مستغن عن اصل يقاس به بل هو اصل في نفسه كما تقدم ثم ان هذا الكلام يقابل بما هو أنور منه بيانا وابهر منه برهانا وذلك ان القول بوجوب الكف عن هذا الساب بعد الاتفاق على حل دمه قول لا دليل عليه الا قياس له على بعض المرتدين وناقضي العهد مع ظهور الفرق بينهما ومن قاس الشيء على ما يخالفه ويفارقه كان قياسه فاسدا فان جعل هذا سببا عاصما قياس السبب على سبب مع تباينهما في نوع الحكمة وقدرها ثم انه اخلاء للسب الذي هو أعظم الجناية على الاعراض من العقوبات ولا عهد لنا بهذا في الشرع فهو اثبات حكم خارج عن القياس وجعل لكونه موجبا للقتل موجبا لكونه اهون من اعراض الناس في باب السقوط وهذا تعليق على العلة ضد مقتضاها وخروج عن موجب الاصول فان العقوبات لا يكون تغلظها في الوجوب سببا لتخفيفها في السقوط قط لكن ان كان جنسها مما يسقط سقطت خفيفة كانت او غليظة كحقوق الله في في بعض المواضع ولم تسقط خفيفة كانت او غليظة كحقوق العباد
ثم ان القول باستتابة الساب قول يخالف كتاب الله ويخالف صريح سنة رسول الله وسنة خلفائه واصحابه والقول بان لا حق للرسول على الساب اذا اسلم الذمي او المسلم ولا عقوبة له عليه قول يخالف المعروف من سيرة رسول الله ويخالف اصول الشريعة ويثبت حكما ليس له اصل ولا نظير الا ان يلحق بما ليس مثلا له # الجواب الثاني انا لم ندع ان مجرد السب موجب للقتل وانما بينا ان كل سب فهو محاربة ونقض للعهد بما يضر المسلمين فيقتل بمجموع الامرين السب ونقض العهد ولا يجوز ان يقال خصوص السب عديم التاثير فان فساد هذا معلوم قطعا بما ذكرناه من الادلة القاطعة على تاثيره واذا كان كذلك فلم نثبته سببا خارجا عن الاسباب المعهودة وانما هو مغلظ للسبب المعروف وهو الكفر كما ان قتل النفس موجب لحل دمه ثم ان كان قد قتله في المحاربة تغلظ بتحتم القتل والا بقي الامر فيه إلى الاولياء ومعلوم ان المقتول من قطاع الطريق لا يقال فيه قتل قودا ولا قصاصا حتى ترتب عليه احكام من يجب عليه القود وانما يضاف القتل إلى خصوص جنايته وهو القتل في المحاربة كذلك هنا الموجب هو خصوص المحاربة # وقولهم الادلة مترددة بين كون القتل لمجرد المحاربة او لخصوص السب قلنا هي نصوص في ان السب مؤثر تاثيرا زائدا على مطلق تاثير الكفر الخالي عن عهد فلا يجوز اهمال خصوصه بعد
اعتبار الشرع له وان يقال انما المؤثر مجرد ما في ضمنه وطيه من زوال العهد ولذلك وجب قتل صاحبه عينا من غير تخيير كما قررنا دلالته فيما مضى واذا كان كذلك فليس مع المخالف ما يدل على ان القتل المباح يسقط بالإسلام وان كان هذا من فروع الكفر كما ان الذمي اذا استحل دماء المسلمين واموالهم واعراضهم فانتهكها لاعتقاده انهم كفار وان ذلك حلال له منهم ثم اسلم فانه يعاقب على ذلك اما بالقتل ان كان فيها مايوجب القتل او بغيره وكذلك لو استحل ذلك ذمي من ذمي مثل ان يقتل نصراني يهوديا او ياخذ ماله لاعتقاده ان ذلك حلال له او يقذفه او يسبه فانه يعاقب على ذلك عقوبة مثله وان اسلم وكذلك لو قطع الطريق على قافلة فيهم مسلمون ومعاهدون فقتل بعض اولئك المسلمين او المعاهدين قتل لاجل ذلك حتما وانتقض عهده وان اسلم بعد ذلك وان كان هذا من فروع الكفر فهذا رجل انتقض عهده بامر يعتقد حله قبل العهد ولو فعله مسلم لم يقتل عند كثير من الفقهاء اذا كان المقتول ذميا وكل واحد من الكفر ومن القتل مؤثر في قتله وان
كان عهده انما زال بهذا القتل فهذا نظير السب ثم لو اسلم هذا لم يسقط عنه القتل بل يقتل اما حدا او قصاصا سواء كان ذلك القتل مما يقتل به المسلم بان يكون المقتول مسلما او لا يقتل به بان يكون المقتول ذميا وعلى التقديرين يقتل هذا الرجل بعد إسلامه كقطعه الطريق مثلا وقتله ذلك المعاهد من غير اهل دينه وان كان انما فعل هذا مستحلا له لكفره وهو قد تاب من ذلك الكفر فتكون التوبة منه توبة من فروعه وذلك لان هذا الفرع ليس من لوازم الكفر بل هو محرم عليه في دينه لاجل الذمة كما ان تلك الدماء والاموال محرمة عليه لاجل الذمة # ومنشا الغلط في هذه المسالة اعتقاد ان الذمي يستبيح هذا السب فان هذا غلط اذ لا فرق بالنسبة اليه بين اظهار الطعن في دين المسلمين وبين سفك دمائهم واخذ اموالهم اذ الجميع انما حرمه عليه العهد لا الدين المجرد فكيف لم يندرج اخذه لعرض بعض الامة او لعرض واحد من غير اهل دينه من اهل الذمة في ضمن التوبة من كفره مع انه فرعه واندرج اخذه لعرض نبينا في ضمن التوبة من كفره # الجواب الثالث هب انه انما يقتل للكفر والحراب فقوله الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق غلط وذلك ان انما
اتفقنا على أنه يسقط القتل الثابت للكفر والحراب الاصلي فان ذلك اذا اسلم لم يؤخذ بما اصاب في الجاهلية من دم او مال او عرض للمسلمين اما الحراب الطاريء فمن الذي وافق على ان القتل الثابت بجميع انواعه يسقط بالإسلام نعم نوافق على ما اذا نقض العهد بما لا ضرر على المسلمين فيه ثم اسلم اما اذا اسلم ثم حارب وافسد بقطع طريق او زنى بمسلمة او قتل مسلم او طعن في الدين فهذا يقتل بكل حال كما دل عليه الكتاب والسنة وهو يقتل في مواضع بالاجماع كما اذا قتل في المحاربة وحيث لم يكن مجمعا عليه فهو كمحل النزاع والقران يدل على انه يقتل لانه انما استثنى من تاب قبل القدرة في الجملة فهذه المقدمة ممنوعة والتمييز بين انواع الحراب يكشف اللبس # واما ما ذكروه من ان الكافر او المسلم اذا سب فيما بينه وبين الله وقذف الانبياء ثم تاب قبل الله توبته ولم يطالبه النبي بموجب قذفه في الدنيا ولا في الاخرة وان الإسلام يجب قذف اليهود لمريم وابنها وقولهم في الانبياء والرسل فهو كما قالوا ولا ينبغي ان يستراب في مثل هذا وقد صرح به بعض اصحابنا وغيرهم وقالوا انما الخلاف في
سقوط القتل عنه اما توبته وإسلامه فيما بينه وبين الله فمقبولة فان الله يقبل التوبة عن عباده من الذنوب كلها وعموم الحكم في توبة المسلم والذمي فاما توبة المسلم فقد تقدم القول فيها واما توبة الذي من ذلك فان كان ذلك السب ليس ناقضا للعهد بأن يقوله سرا فتوبته منه كتوبة الحربي من جميع ما يقوله ويفعله وتوبة الذمي من جميع ما يقر عليه من الكفر فان هذا لم يكن ممنوعا منه بعقد الذمة وليس كلامنا فيه وبه يخرج الجواب عما ذكروه فان السب الذي قامت الادلة على مغفرته بالإسلام ليس هو السب الذي ينتقض به عهد الذمي اذا فعله وانما فرق في الذمي بين الجهر بالسب والاسرار به بخلاف المسلم لان ما يسره من السب لا يمنعه منه ايمان ولا امان الا ترى انه لو قذف واحدا من المسلمين سرا مستحلا لذلك ثم اسلم كما لو قذفه وهو حربي ثم اسلم ومعلوم ان الكافر الذي لاعهد معه يمنعه من شئ متى اسلم سقط عنه جميع الذنوب تبعا للكفر نعم لو اتى من السب بما يعتقده حراما في دينه ثم اسلم ففي سقوط حق المسبوب هنا نظر ونظيره ان يسب الانبياء بما يعتقده محرما في دينه واما ان كان السب ناقضا للعهد فإظهاره له مستحلا له في الاصل وغير مستحل كقتله المسلم مستحلا او غير مستحل فالتوبة هنا تسقط حق الله في الباطن واما اسقاطها لحق الادمي ففيه نظر والذي يقتضيه القياس انه كتوبة المسلم ان كان قد بلغ المشتوم فلابد من استحلاله وان لم يبلغه ففيه خلاف مشهور
وذلك لانه حق ادمي يعتقده محرما عليه وقد انتهكه فهو كما لو قتل المعاهد مسلما سرا ثم اسلم وتاب او اخذ له مالا سرا ثم اسلم فان إسلامه لم يسقط عنه حق الادمي الذي كان يعتقده محرما عليه بالعهد لا ظاهرا ولا باطنا وهذا معنى قول من قال من اصحابنا ان توبته فيما بينه وبين الله مقبولة فان الله يقبل التوبة من الذنوب كلها فان الله يقبل التوبة من حقوقه مطلقا واما حقوق العباد فإن التوبة لا تبطل حقوقهم بل اما ان يستوفيها صاحبها ممن ظلمه او يعوضه الله عنها من فضله العظيم # وجماع هذا الامر ان التوبة من كل شئ كان يستحله في كفره تسقط حقوق الله وحقوق العباد ظاهرا وباطنا لكن السب الذي نتكلم فيه هو السب الذي يظهره الذمي وليس هذا مما كان يستحله كما لم يكن يستحل دماءنا واموالنا وان كان ذلك مما يستحله لولا العهد # وقد تقدم ذكر هذا وبينا ان العهد يحرم عليه في دينه كثيرا مما كان يعتقده حلالا لولا العهد ونظير هذا توبة المرتد من السب الذي يعتقد صحته واما ما لم يكن يستحله وهو اظهار السب ففيه حقان حق الله وحق للادمي فتوبته تسقط فيما بينه وبين الله حقه لكن لا يلزم ان تسقط حق الادمي في الباطن فهذا الكلام على قبول التوبة فيما بينه وبين الله
وحينئذ فالجواب من وجوه # احدها ان الموضع الذي ثبت فيه قبول توبته فيما بينه وبين الله من حق الله وحق عباده ليس هو الموضع الذي ينتقض فيه عهده ويقتل وان تاب فان ادعى انه يسقط حق العباد في جميع الصور فهذا محل منع لما فيه من الخلاف فلابد من اقامة الدلالة على ذلك والادلة المذكورة لم تتناول السب الظاهر الذي ينتقض به العهد # الوجه الثاني ان صحة التوبة فيما بينه وبين الله لا تسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا فان من تاب من قتل او قذف او قطع طريق او غير ذلك فيما بينه وبين الله فان ذلك لا يسقط حقوق العباد من والقود وحد القذف وضمان المال وهذا السب فيه حق لادمي فان كانت التوبة يغفر له بها ذنبه المتعلق بحق الله وحق عباده فان ذلك لا يوجب سقوط حقوق العباد من العقوبة # الوجه الثالث ان من يقول بقبول التوبة من ذلك في الباطن بكل حال يقول ان توبة العبد فيما بينه وبين الله ممكنه من جميع الذنوب حتى انه لو سب سرا احادا من الناس موتى ثم تاب واستغفر لهم بدل سبهم لرجي ان يغفر الله له ولايكلف الله نفسا الا وسعها فكذلك ساب الانبياء والرسل لو لم تقبل توبته وتغفر زلته لانسد باب التوبة وقطع طريق المغفرة والرحمة وقد قال تعالى لما نهى عن الغيبة ^ ايحب احدكم ان يكال لحم اخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم ^ فعلم ان المغتاب له سبيل إلى التوبة بكل حال وان كان
الذي اغتيب ميتا او غائبا بل على اصح الروايتين ليس عليه ان يستحله في الدنيا اذا لم يكن علم فان فساد ذلك أكثر من صلاحه وفي الاثر كفارة الغيبة ان تستغفر لمن اغتبته وقد قال تعالى ^ ان الحسنات يذهبن السيئات ^ اما اذا كان الرسول حيا وقد بلغه السب فقد يقول هنا ان التوبة لاتصح حتى يستحل الرسول ويعفو الرسول عنه كما فعل انس بن زنيم وابو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي امية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وابن الزبعرى واحدى القينتين وكعب بن زهير وغيرهم كما دلت عليه السيرة لمن تدبرها وقد قال كعب بن زهير % انبئت ان رسول الله اوعدني % والعفو عند رسول الله مامول %
وانما يطلب العفو في شئ يجوز فيه العفو والانتقام وانما يقال اوعده اذا كان حكم الايعاد باقيا بعد الإسلام والا فلو كان الايعاد معلقا ببقائه على الكفر لم يبق ابعاد # اذا تقرر هذا فصحة التوبة فيما بينه وبين الله وسقوط حق الرسول بما ابدله من الايمان به الموجب لحقوقه لا يمنع ان يقيم عليه حد الرسول اذا ثبت عند السلطان وان اظهر التوبة بعد ذلك كالتوبة من جميع الكبائر الموجبة للعقوبات المشروعة سواء كانت حقا لله او حقا لادمي فان توبة العبد فيما بينه وبين الله بحسب الامكان صحيحة مع انه اذا ظهر عليه اقيم عليه الحد وقد اسلفنا ان سب الرسول فيه حق لله وحق لادمي وانه من كلا الوجهين يجب استيفاؤه اذا رفع إلى السلطان وان اظهر الجاني التوبة بعد الشهادة عليه # واما ما ذكره من كون سب الرسول ليس بأعظم من سب الله وان ما فيه من الشرف فلأجله ففي الجواب عنه طريقان # احدهما انه لافرق بين التائبين فان ساب الله ايضا يقتل ولا تسقط التوبة القتل عنه اما لكونه دليلا على الزندقة في الايمان والامان او لكونه ليس مجرد ردة ونقض وانما هو من باب الاستخفاف بالله والاستهانة ومثل هذا لا يسقط القتل عنه اذا تاب بعد الشهادة عليه
كما لايسقط القتل عنه اذا انتهك محارمه فان انتهاك حرمته أعظم من انتهاك محارمه وسياتي ان شاء الله تعالى ذكر ذلك ومن قاله من اصحابنا وغيرهم ومن اجاب بهذا لم يورد عليه صحة إسلام النصراني ونحوه وقبول توبتهم لانه لاخلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله وفي قبول التوبة مطلقا اذا لم يظهروا السب وانما الخلاف فيما اذا اظهر النصراني ما هو سب وطعن ودعاؤهم إلى التوبة لا يمنع اقامة الحدود عليهم اذا كانوا معاهدين كقوله سبحانه وتعالى ^ ان الذي فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ^ وكانت فتنتهم انهم القوهم في النار حتى كفروا ولو فعل هذا معاهد بمسلم فانه يقتل وان اسلم
بالاتفاق وان كانت توبته فيما بينه وبين الله مقبولة # وايضا فان مقالات الكفار التي يعتقدونها ليست من السب المذكور فانهم يعتقدون هذا تعظيما لله ودينا له وانما الكلام في السب الذي هو السب عند الساب وغيره من الناس وفرق بين من يتكلم في حقه بكلام يعتقده تعظيما له وبين من يتكلم بكلام يعلم انه استهزاء به واستخفاف به ولهذا فرق في القتل والزنى والسرقة والشرب والقذف ونحوهن بين المستحل لذلك المعذور وبين من يعلم التحريم # وكذلك قول النبي لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر وقوله فيما يروي عن ربه عز وجل يؤذيني ابن ادم
يسب الدهر وانا الدهر بيدي الامر اقلب الليل والنهار فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه وانما يقصد ان يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لانه هو الفاعل في الحقيقة وسواء قلنا انه الدهر اسم من اسماء الله تعالى كما قال نعيم بن حماد او قلنا إنه ليس باسم وانما قوله انا الدهر اي انا الذي افعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون السب عليه كما قاله أبو عبيدة والاكثرون ولهذا لا يكفر من سب الدهر ولا يقتل
لكن يؤدب ويعزر لسوء منطقه والسب المذكور في قوله تعالى ^ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ^ قد قيل ان المسلمين كانوا اذا سبوا الهة الكفار سب الكفار من يأمرهم بذلك والههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم والههم فيقع سبهم على الله لانه الهنا ومعبودنا فيكونوا سابين لموصوف وهو الله سبحانه ولهذا قال سبحانه ^ عدوا بغير علم ^ وهو شبيه بسب الدهر من بعض
الوجوه وقيل كانوا يصرحون بسب الله عدوا وغلوا وفي الكفر قال قتادة كان المسلمون يسبون اصنام الكفار فيسب الكفار الله بغير علم فانزل الله ^ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ^ وقال ايضا كان المسلمون يسبون اوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله تعالى ان يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله وذلك انه في اللجاجة ان يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه اذا كان يعظمه ايضا كما قال بعض الحمقى % سبوا عليا كما سبوا عتيقكم % كفرا بكفر وايمانا بايمانا %
وكما يقول بعض الجهال مقابلة الفاسد بالفاسد وكما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على ان يسب عيسى اذا جاهره المحاربون بسب رسول الله وهذا من الموجبات للقتل # الطريقة الثانية طريقة من فرق بين سب الله وسب رسوله وذلك من وجوه # احدها ان سب الله حق محض لله وذلك يسقط بالتوبة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وسب النبي فيه حقان لله وللعبد فلا يسقط حق الادمي بالتوبة كالقتل في المحاربة هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلافه # الثاني ان النبي تلحقه المعرة بالسب لانه مخلوق وهو من جنس الادميين الذين تلحقهم المعرة والغضاضة بالسب والشتم وكذلك يثابون على سبهم ويعطيهم الله من حسنات الشاتم او من عنده عوضا على ما اصابهم من المصيبة بالشتم فمن سبه فقد انتقص حرمته والخالق سبحانه لا تلحقه معرة ولا غضاضة بذلك فانه منزه عن لحوق المنافع والمضار كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله يا عبادي انكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي
فنتفعوني واذا كان سب النبي قد يؤثر انتقاصه في النفوس وتلحقه بذلك معرة وضيم وربما كان سببا للتنفير عنه وقلة هيبته وسقوط حرمته شرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبه فلا تسقط بالتوبه كالعقوبة على جميع الجرائم وأما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر والمرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يقتل # وهذا الفرق ذكره طوائف من المالكية والشافعية والحنابلة منهم القاضي عبد الوهاب بن نصر والقاضي أبو يعلي في المجرد وابو علي بن البناء وابن عقيل وغيرهم وهو يتوجه مع قولنا ان سب النبي حد لله كالزنى والسرقة # يؤيد ذلك ان القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنى ثم لم يشرع عليه حد مقدر كما شرع على الرمي بالزنى وذلك لان المقذوف بالكفر
لا يلحقه العار الذي يلحقه بالرمي بالزنى لانه بما يظهر من الايمان يعلم كذب القاذف وبما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرة بخلاف الزنى فانه يستسر به ولا يمكنه اظهار البراءة منه ولا تزول معرته في عرف الناس عند اظهار التوبة فكذلك ساب الرسول يلحق بالدين واهله من المعرة ما لا يلحقهم اذا سب الله لكون المنافي لسب الله ظاهرا معلوما لكل أحد علما يشترك فيه كل الناس # الوجه الثالث ان النبي انما يسب على وجه الاستخفاف به والاستهانة وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داع من جهة الحسد على ما اتاه الله من فضله ومن جهة المخالفة في دينه ومن جهة الانقهار تحت حكم دينه وشرعه ومن جهة المراغمة لامته وكل مفسدة يكون اليها داع فلابد من شرع العقوبة عليها حدا وكل ما شرعت العقوبة عليه لم يسقط بالتوبة كسائر الجرائم واما سب الله سبحانه فانه لا يقع في الغالب استخفافا واستهانة وانما يقع تدينا واعتقادا وليس للنفوس في الغالب داع إلى ايقاع السب الا عن اعتقاد يرونه تعظيما وتمجيدا واذا كان كذلك لم يحتج خصوص السب إلى شرع زاجر بل هو نوع من الكفر فيقتل الانسان عليه لردته وكفره الا ان يتوب # وهذا الوجه من نمط الذي قبله والفرق بينهما ان ذلك بيان لان مفسدة السب لا تزول بإظهار التوبة بخلاف مفسدة سب الله تعالى والثاني بيان لأن سب الرسول اليه داع طبعي فيشرع الزجر عليه لخصوصه كشرب الخمر وسب الله تعالى ليس اليه داع طبعي فلا يحتاج خصوصه إلى حد زاجر كشرب البول واكل الميتة والدم
والوجه الرابع ان سب النبي حد وجب لسب ادمي ميت لم يعلم انه عفا عنه وذلك لا يسقط بالتوبة بخلاف سب الله تعالى فانه قد علم انه قد عفا عمن سبه اذا تاب وذلك ان سب الرسول متردد في سقوطه حده بالتوبة بين سب الله وسب سائر الادميين فيجب الحاقه باشبه الاصلين به ومعلوم ان سب الادمي انما لم تسقط عقوبته بالتوبة لان حقوق الادميين لا تسقط بالتوبة لانهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم ولا ينتفعون بتوبة التائب فاذا تاب من للادمي عليه حق قصاص او قذف فان له ان ياخذه منه لينتفع به اشتفاء ودرك ثار وصيانة عرض وحق الله قد علم سقوط بالتوبة لانه سبحانه انما اوجب الحقوق لينتفع بها العباد فاذا رجعوا إلى ما ينفعهم حصل مقصود الايجاب وحينئذ فلا ريب ان حرمة الرسول الحقت بحرمة الله من جهة التغليظ لان الطعن فيه طعن في دين الله وكتابه وكتابه وهو من الخلق الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة لانهم ينتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه وقد ذكرنا ما دل على ذلك من ان رسول الله كان له ان يعاقب من اذاه وان جاءه تائبا وهو كما انه بلغ الرسالة لينتفع بها العباد فاذا تابوا ورجعوا إلى ما امرهم به فقد حصل مقصوده فهو ايضا يتألم بأذاهم له فله ان يعاقب من اذاه تحصيلا لمصلحة نفسه كما له ان يأكل ويشرب فان تمكين البشر من استيفاء حقه ممن بغى عليه من جملة مصالح الانسان ولولا ذلك لماتت النفوس غما ثم اليه الخيرة في العفو والانتقام فقد
تترجح عنده مصلحة الانتقام فيكون فاعلا لامر مباح وحظ جائز كما له ان يتزوج النساء وقد يترجح العفو والانبياء عليهم السلام منهم من كان قد يترجح عنده احيانا الانتقام ويشدد الله قلوبهم فيه حتى تكون اشد من الصخر كنوح وموسى ومنهم من كان يترجح عنده العفو فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكون الين من اللبن كابراهيم وعيسى فاذا تعذر عفوه عن حقه تعين استيفاؤه والا لزم اهدار حقه بالكلية # قولهم اذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع اولى # قلنا هو تابع من حيث تغلظت عقوبته لا من حيث ان له حقا في الاستيفاء لا ينجبر بالتوبة # قولهم ساب الواحد من الناس لا يختلف حاله بين ما قبل الإسلام وبعده بخلاف ساب الرسول # عنه جوابان # احدهما المنع فان سب الذمي للمسلم جائز عنده لانه يعتقد كفره وضلاله وانما يحرمه عنده العهد الذي بيننا وبينه فلا فرق بينهما وان فرض الكلام في سب خارج عن الدين مثل الرمي بالزنى والافتراء عليه ونحو ذلك فلا فرق في ذلك بين سب الرسول وسب الواحد من الامة ولا ريب ان الكافر اذا اسلم صار أخا للمسلمين يؤذيه ما يؤذيهم وصار معتقدا لحرمة اعراضهم وزال المبيح لانتهاك اعراضهم ومع ذلك لا يسقط حق المشتوم بإسلامه وقد تقدم هذا الوجه غير مرة
الثاني ان شاتم الواحد من الناس لو تاب واظهر براءة المشتوم واثنى عليه ودعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له ان يستوفي حده مع ذلك فلا فرق بينه وبين شاتم الرسول اذا اظهر اعتقاد رسالته وعلو منزلته وسبب ذلك أن اظهار مثل هذه التوبة لا يزيل ما لحق المشتوم من الغضاضة والمعرة بل قد يحمل ذلك على خوف العقوبة وتبقى اثار السب الاول جارحه فان لم يكن المشتوم من اخذ حقه بكل حال لم يندمل جرحه # قولهم القتل حق الرسالة واما البشرية فانما لها حقوق البشرية والتوبة تقطع حق الرسالة # قلنا لا نسلم ذلك بل هو من حيث هو بشر مفضل في بشريته على الادميين تفضيلا يوجب قتل سابه ولو كان القتل انما وجب لكونه قدحا في النبوة لكان مثل غيره من انواع الكفر ولم يكن خصوص السب موجبا للقتل وقد قدمنا من الادلة ما يدل على ان خصوص السب موجب للقتل وانه ليس بمنزلة سائر انواع الكفر ومن سوى بين الساب للرسول وبين المعرض عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب والسنة الظاهره والاجماع الماضي وخالف المعقول وسوى بين الشيئين المتباينين وكون الالقاذف له لم يجب عليه مع القتل جلد ثمانين او ضح دليل على ان القتل عقوبة لخصوص السب والا كان قد اجتمع حقان حق لله وهو تكذيب رسوله فيوجب القتل وحق لرسوله وهو سبه فيوجب الجلد على هذا الراي فكان ينبغي قبل التوبة على هذا ان يجتمع عليه
الحدان كما لو ارتد وقذف مسلما او نقض العهد وقذف مسلما وبعدالتوبة يستوفى منه حد القذف فكان انما للنبي ان يعاقب من سبه وجاء تائبا بالجلد فقط كما انه ليس للإمام ان يعاقب قاطع الطريق اذ جاء تائبا الا بالقود ونحوه مما هو خالص حق الادمي ولو سلمنا ان القتل حق الرسالة فقط فهو ردة مغلظة بما فيه ضرر او نقض مغلظ بما فيه ضرر كما لو اقترن بالنقض حراب وفسادا بالفعل من قطع طريق وزنى بمسلمة وغير ذلك فان القتل هنا حق لله ومع هذا لم يسقط بالتوبة والإسلام وهذا متحقق سواء قلنا ان ساب الله يقتل بعد التوبة او لايقتل كما تقدم تقريره # قولهم اذا اسلم سقط القتل المتعلق بالرسالة # قلنا هذا ممنوع اما اذا سوينا بينه وبين سب الله فظاهر وان فرقنا فان هذا شبه من باب فعل المحارب لله ورسوله الساعي في الارض فسادا والحاجة داعية إلى ردع امثاله كما تقدم وان سلمنا سقوط الحق المتعلق بالكفر بالرسالة لكن لم يسقط الحق المتعلق بشتم الرسول وسبه فان هذه جناية زائدة على نفس الرسول مع التزام تركها فان الذمي ملتزم لنا ان لا يظهر السب وليس ملتزما لنا ان لا يكفر به فكيف يجعل ما التزم تركه من جنس ما قد قررناه عليه وجماع الامر ان هذه
الجناية على الرسالة نقض يتضمن حرابا وفسادا او ردة تضمنت فسادا وحرابا وسقوط القتل عن مثل هذا ممنوع كما تقدم # قولهم حق البشرية انغمر في حق الرسالة وحق الادمي انغمر في حق الله # قلنا هذه دعوة محضة ولو كان كذلك لما جاز للنبي العفو عمن سبه ولا جاز عقوبته بعد مجيئه تائبا ولا احتيج خصوص السب ان يفرد بذكر العقوبة لعلم كل أحد ان سب الرسول اغلظ من الكفر به فلما جاءت الاحاديث والاثار في خصوص سب الرسول بالقتل علم ان ذلك لخاصة في السب وان اندرج في عموم الكفر # وايضا فحق العبد لا ينغمر في حق الله قط نعم العكس موجود كما تندرج عقوبة القاتل والقاذف على عصيانه لله في القود وحد القذف اما ان يندرج حق العبد في حق الله فباطل فان من جنى جناية واحدة تعلق بها حقان لله ولادمي ثم سقط حق الله لم يسقط حق
الادمي سواء كان من جنس او جنسين كما لو جنى جنايات متفرقة كمن قتل في قطع الطريق فإنه اذا سقط عنه تحتم القتل لم يسقط عنه القود ولو سرق سرقة ثم سقط عنه القطع لم يسقط عنه الغرم باجماع المسلمين حتى عند من قال ان القطع والغرم لا يجتمعان نعم اذا جنى جناية واحدة فيها حقان لله ولآدمي فان كان موجب الحقين من جنس واحد تداخلا وان كانا من جنسين ففي التداخل خلاف معروف
مثال الاول قتل المحارب فانه يوجب القتل حقا لله وللادمي والقتل لا يتعدد فمتى قتل لم يبق للادمي حق في تركته من الدية وان كان له ان ياخذ الدية اذا قتل عدة مقتولين فيقتل ببعضهم عند الشافعي واحمد وغيرهما اما ان قلنا ان موجب العمد القود عينا فظاهر وان قلنا ان موجبه أحد شيئين فانما ذاك حيث يمكن العفو وهنا لا يمكن العفو فصار موجبه القود عينا وولي استيفائه الإمام لان ولايته اعم ومثال الثاني اخذ المال سرقة واتلافه فانه موجب للقطع حدا لله وموجب للغرم حقا للادمي ولهذا قال الكوفيون ان حد
الادمي يدخل في القطع فلا يجب وقال الاكثرون بل يغرم للادمي ماله وان قطعت يده واما اذا جنى جنايات متفرقة لكل جناية حد فان كانت لله وهي من جنس واحد تداخلت بالاتفاق وان كانت من اجناس وفيها القتل تداخلت عند الجمهور ولم تتداخل عند الشافعي وان كانت للادميين لم تتداخل عند اجمهور وعند مالك تتداخل في القتل الا حد القذف فهنا هذا الشاتم الساب لا ريب انه تعلق بشتمه حق الله وحق لادمي ونحن نقول ان موجب كل منهما القتل ومن ينازعنا اما ان يقول اندرج حق الادمي في حق الله او موجبه الجلد فاذا قتل فلا كلام الا عند من يقول ان موجبه الجلد فانه يجب ان يخرج على الخلاف واما اذا سقط حق الله في بالتوبة فكيف يسقط حق العبد فانا لا نحفظ لهذا نظيرا بل النظائر تخالفه كما ذكرناه والسنة تدل على خلافه واثبات حكم بلا اصل ولا نظير غير جائز بل مخالفته للاصول دليل على بطلانه # وايضا فهب ان هذا حد محض لله لكن لم يقال انه يسقط بالتوبة وقد قدمنا ان الردة ونقض العهد نوعان مجرد ومغلظ
فما تغلظ منه بما يضر المسلمين يجب قتل صاحبه بكل حال وان تاب وبينا ان السب من هذا النوع # وايضا فأقصى ما يقال ان يلحق هذا السب بسب الله وفيه من الخلاف ما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى # واما ما ذكر من الفرق بين سب المسلم وسب الكافر فهو وان كان له توجه كما للتسوية بينهما في السقوط توجه ايضا فانه معارض بما يدل على ان الكافر اولى بالقتل لكل حال من المسلم وذلك ان الكافر قد ثبت المبيح لدمه وهو الكفر وانما عصمه العهد واظهاره السب لا ريب انه محاربة لله ورسوله وافساد في الارض ونكاية في المسلمين فقد تحقق الفساد من جهته واظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يوثق بها كتوبة غيره من المحاربين لله ورسوله الساعين في الارض فسادا بخلاف من علم منه الإسلام وصدرت منه الكلمة من السب مع امكان انها لم تصدر عن اعتقاد بل خرجت سفها او غلطا فاذا عاد إلى الإسلام مع انه لم يزل يتدين به لم يعلم منه خلافه كان اولى بقبول توبته لان ذنبه اصغر وتوبته اقرب إلى الصحة # ثم انه يجاب عنه بان اظهار المسلم تجديد الإسلام بمنزلة اظهار الذمي الإسلام لان الذمي كان يزعه عن اظهار سبه ما اظهره من عقد الامان كما يزع المسلم ما اظهره من عقد الايمان فاذا كان المسلم الآن انما يظهر عقد ايمان قد ظهر ما يدل على فساده فكذلك الذمي انما يظهر عقد
امان قد ظهر ما يدل على فساده فانه من يتهم في امانه يتهم في ايمانه ويكون منافقا في الايمان كما كان منافقا في الامان بل ربما كان حال هذا الذي تاب بعد معاينة السيف اشد على المسلمين من حاله قبل التوبة فانه كان في ذلة الكفر والان فانه يشرك المسلمين في ظاهر العز مع ما ظهر من نفاقه وخبثه الذي لم يظهر ما يدل على زواله على ان في تعليل سبه بالزندقة نظرا فان السب امر ظاهر اظهره ولم يظهر منه ما يدل على استبطانه اياه قبل ذلك ومن الجائز ان يكون قد حدث له ما اوجب الردة # نعم ان كان ممن تكررذلك منه او له دلالات على سوء العقيدة فهنا الزندقة ظاهرة لكن يقال نحن نقتله لامرين لكونه زنديقا ولكونه سابا كما نقتل الذمي لكونه كافرا غير ذي عهد ولكونه سابا فان الفرق بين المسلم والذمي في الزندقة لا يمنع اجتماعهما في علة اخرى تقضي كون السب موجبا للقتل وان احدث الساب اعتقادا صحيحا بعد ذلك بل قد يقال ان السب اذا كان موجبا للقتل قتل صاحبه وان كان صحيح الاعتقاد في الباطن حال سبه كسبه لله تعالى وكالقذف في ايجابه للجلد وكسب جميع البشر
واما الفرق الثاني الذي مبناه على ان السب يوجب قتل المسلم حدا لان مفسدته لا تزول بسقوطه بتجديد الإسلام بخلاف سب الكافر فمضمونه انا نرخص لاهل الذمة في اظهار السب اذا اظهروا بعده الإسلام وناذن لهم ان يشتموا ويسبوا ثم بعد ذلك يسلمون وما هذا الا بمثابة ان يقال على الذمي بانه اذا زنى بمسلمة او قطع الطريق اخذ فقتل الا ان يسلم يزعه عن هذه المفاسد الا ان يكون من يريد الإسلام واذا اسلم فالإسلام يجب ما كان قبله ومعلوم ان هذا أن معنى الذمي يحتمل منه ما يقوله ويفعله من انواع المحاربة والفساد اذا قصد ان يسلم بعده واسلم ومعلوم ان هذا خير جائز فان الكلمة الواحدة من سب رسول الله لا تحتمل بإسلام الوف من الكفار ولا ن يظهر دين الله ظهورا يمنع احدا ان ينطق فيه بطعن احب إلى الله ورسوله من ان يدخل فيه اقوام وهو منتهك مستهان وكثير ممن يسب الانبياء من اهل الذمة قد يكون زنديقا لا يبالي إلى اي دين انتسب فلا يبالي ان ينال غرضه من السب ثم يظهر الإسلام كالمنافق سواء ثم هذا يوجب الطمع منهم في عرضه فانه ما دام العدو يرجو ان يستبقى ولو بوجه لم يزعه ذلك عن اظهار مقصوده في وقت ما ثم ان ثبت ذلك عليه ورفع إلى السلطان وامر بقتله اظهر الإسلام والافقد حصل غرضه وكل فساد قصد ازالته بالكلية لم يجعل لفاعله سبيل إلى استبقائه بعد الاخذ كالزنى والسرقة وقطع الطريق فان كان مقصود الشارع من تطهير الدار من ظهور كلمة الكفر والطعن في الدين ابلغ من مقصوده من تطهيرها من وجود هذه القبائح ابتغى ان يكون تحتم عقوبة من فعل ذلك ابلغ من تحتم عقوبة هؤلاء
وفقه هذا الجواب ان تعلم ان ظهور الطعن في الدين من سب الرسول ونحوه فسادا عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ما حيا لذلك الفساد # وأما الفرق الثالث قولهم ان الكافر لم يلتزم تحريم السب فباطل فانه لا فرق بين اظهاره لسب النبي وبين اظهاره لسب احدا من المسلمين وبين سفك دمائهم واخذ اموالهم فانه لولا العهد لم يكن فرق عنده بيننا وبين سائر من يخالفه في دينه من المحاربي له ومعلوم انه يستحل ذلك كله منهم ثم انه بالعهد صار بذلك محرما عليه في دينه منا لاجل العهد فاذا فعل شيئا من ذلك اقيم عليه حده وان اسلم سواء انتقض عهده بما يفعله او لم ينتقض فتارة يجب عليه الحد مع بقاء العهد كما لو سرق او قذف مسلما وتارة ينتقض عهده ولا حد عليه فيصير بمنزلة المحاربين وتارة يجب عليه الحد وينتقض عهده كما اذا سب الرسول وزنى بمسلمة او قطع الطريق على المسلمين فهنا يقتل وان اسلم وعقوبة هذا النوع من الجنايات القتل حتما كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاء له على ما فعل من الفساد الذي التزم بعقد الايمان ان لا يفعله مع كون مثل ذلك الفساد موجبا للقتل ونكالا لا مثاله عن فعل مثل هذا اذا علموا انه لا يترك صاحبه حتى يقتل # فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف مع ان فيما تقدم من كلامنا ما يغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ والله سبحانه وتعالى اعلم
فصل # في مواضيع التوبة # وذلك مبني على التوبة من سائر الجرائم فنقول # لا خلاف علمناه ان قاطع الطريق اذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما كان حدا لله من تحتم القتل والصلب والنفي وقطع الرجل وكذلك قطع اليد عند عامة العلماء الا في وجه لاصحاب الشافعي وقد نص الله على ذلك بقوله ^ الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم ^ ومعنى القدرة عليهم امكان الحد عليهم لثبوته بالبينة او الاقرار وكونهم في قبضة المسلمين فاذا تابوا قبل ان يؤخذوا سقط ذلك عنهم # واما من لم يوجد منه الامجرد الردة وقد اظهرها فذلك ايضا تقبل توبته عند العامة الا ما يروى عن الحسن ومن قيل انه وافقه # واما القاتل والقاذف فلا اعلم مخالفا ان توبتهم لا تسقط عنهم حق
الادمي بمعنى انه اذا طالب بالقود وحد القذف فله ذلك وان كانوا قد تابوا قبل ذلك # واما الزاني والسارق والشارب فقد اطلق بعض اصحابنا انه اذا تاب قبل ان يقام عليه الحد فهل يسقط عنه الحد على روايتين # اصحهما ان يسقط عنه الحد بمجرد التوبة ولا يعتبر مع ذلك اصلاح العمل # والثانية لا يسقط ويكون من توبته تطهيره بالحد # وقيد بعضهم اذا تاب قبل ثبوت حده عند الإمام وليس بين الكلامين خلاف في المعنى فانه لاخلاف انه لا يسقط في الموضع الذي لا يسقط حد المحارب بتوبته وان اختلفت عباراتهم هل ذلك لعدم الحكم بصحة التوبة او لافضاء سقوط الحد إلى المفسدة فقال القاضي أبو يعلى وغيره وهو ممن اطلق الروايتين التوبة غير محكوم بصحتها بعد قدرة الإمام عليه لجواز ان يكون اظهارها تقية من الإمام والخوف من عقوبته قال ولهذا نقول في توبة الزاني والسارق والشارب لا يحكم بصحتها بعد علم الإمام بحدهم وثبوته عنده وانما يحكم بصحتها قبل ذلك
قال وقد ذكره أبو بكر في الشافعي فقال اذا تاب يعني الزاني بعد ان قدر عليه فمن توبته ان يطهر بالرجم او الجلد واذا تاب قبل ان يقدر عليه قبلت توبته فمأخذ القاضي ان نفس التوبة المحكوم بصحتها مسقطة للحد في كل موضع فلم يحتج إلى التقييد هو ومن سلك طريقته من اصحابه مثل الشريف أبي جعفر وابي الخطاب وماخذ أبي بكر وغيره الفرق بين ماقبل القدرة وبعدها في الجميع مع صحة التوبة بعد القدرة ويكون الحد من تمام التوبة فلهذا قيدوا ولا فرق في الحكم بين القولين والتقييد بذلك موجود في كلام الإمام احمد نقل عنه أبو الحارث في سارق جاء تائبا ومعه السرقة فردها قبل ان يقدر عليه قال لم يقطع قال قال الشعبي ليس على تائب قطع وكذلك نقل
حنبل ومهنا في السارق اذا جاء إلى الإمام تائبا يدرا عنه القطع # ونقل عنه الميموني في الرجل اذا اعترف بالزنى اربع مرات ثم تاب قبل ان يقام عليه الحد انه تقبل توبته ولا يقام عليه الحد وذكر قصة ماعز اذ وجد مس الحجر فهرب قال النبي فهلا تركتموه
قال الميموني وناظرته في مجلس اخر قال اذا رجع عما اقر به لم يرجم قلت فان تاب قال من توبته ان يطهر بالرجم قال ودار بيني وبينه الكلام غير مرة انه اذا رجع لم يقم عليه وان تاب فمن توبته ان يطهر بالجلد # قال القاضي والمذهب الصحيح انه يسقط بالتوبة كما نقل أبو الحارث وحنبل ومهنا # فتلخص من هذا انه اذا اظهر التوبة بعد ان ثبت عليه الحد عند الإمام بالبينة لم يسقط عنه الحد واما اذا تاب قبل ان يقدر عليه بان يتوب قبل اخذه او بعد اقراره الذي له ان يرجع عنه ففيه روايتان وقد صرح بذلك غير واحد من ائمة المذهب منهم الشيخ أبو عبد الله بن حامد قال فاما الزنى فانه لا خلاف انه فيما بينه وبين الله تصح توبته منه
فاما اذا تاب الزاني وقد رفع إلى الإمام فقول واحد لا يسقط الحد فاما ان تاب بحضرة الإمام فانه ينظر فان كان بإقرار منه ففيه روايتان وان كان ذلك ببينه فقول واحد لا يسقط لانه اذا قامت البينة عليه بالزنى فقد وجب القضاء بالبينة والاقرار بخلاف البينة لانه اذا رجع عن اقراره قبل منه # وقال في السرقة لا خلاف ان الحق الذي لله يسقط بالتوبة سواء تاب قبل القطع او بعده وانما الخلاف فيمن تاب قبل اقامة الحد فان كان ذلك قبل ان يرفع إلى الإمام سقط الحد سواء رفع إلى الإمام او لم يرفع واما اذا تاب بعد ان رفع إلى الإمام فلا يسقط الحد عنه لانه حق يتعلق بالإمام فلا يجوزتركه # قال وكذلك المحارب اذا تاب من حق الله وقد قدمنا انا اذا
قلنا يسقط الحد عن غير قطاع الطريق بالتوبة فانه يكفي مجرد التوبة وهذا هوالمشهور من المذهب كما يكفي ذلك في قطاع الطريق # وفيه وجه ثان انه لابد من اصلاح العمل مع التوبة وعلى هذا فقد قيل يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة لان التوقيت يفتقر إلى توقيف ويتحرج ان يعتبر مضي سنة كما نص عليه الإمام احمد في توبة الداعي إلى البدعة انه
يعتبر فيه مضي سنة اتباعا لما امر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية صبيغ بن عسل فانه تاب عنده ثم نفاه إلى البصرة وامر المسلمين بهجره فلما حال الحول ولم يظهر منه الا خير امر المسلمين بكلامه وهذه قضية مشهورة بين الصحابة هذه طريقة أكثر اصحابنا
وظاهر طريقة أبي بكر انه يفرق بين التوبة قبل ان يقر بان يجيء تائبا وبين ان يقر ثم يتوب لان احمد رضي الله عنه انما اسقط الحد عمن جاء تائبا فاما اذا اقر ثم تاب فقد رجع احمد عن القول بسقوط الحد # وللشافعي ايضا في سقوط سائر الحدود غير حد المحارب بالتوبة قولان اصحهما انه يسقط لكن حد المحارب يسقط باظهار التوبة قبل القدرة وحد غيره لا يسقط بالتوبة حتى يقترن بها الاصلاح في زمن يوثق بتوبته وقيل مدة ذلك سنة # وهكذا ذكر العراقيون من اصحابه وذكر بعض الخراسانيين ان في توبة المحارب وغيره بعد الظفر قولين اذا اقترن بها الاصلاح واستشكلوا ذلك فيما اذا انشأ التوبة حيث اخذ لاقامة الحد فانه لا يؤخر حتى يصلح العمل # ومذهب أبي حنيفة ومالك انه لا يسقط بالتوبة وذكر بعضهم ان ذلك إجماع وانما هو إجماع في التوبة بعد ثبوت الحد
فصل # اذا تلخص ذلك فمن سب الرسول ورفع إلى السلطان وثبت ذلك عليه بالبينة ثم اظهر التوبة لم يسقط عنه الحد عند من يقول انه يقتل حدا سواء تاب قبل اداء البينة او بعد اداء البينة لان هذه توبة بعد اخذه والقدرة عليه فهو كما لو تاب قاطع الطريق والزاني والسارق في هذه الحال وكذلك لو تاب بعد ان اريد رفعه إلى السلطان والبينة بذلك ممكنة وهذا لا ريب فيه والذمي في ذلك كالملي اذا قيل انه يقتل حدا كما قررناه # واما ان اقر بالسب ثم تاب او جاء تائبا منه فذهب المالكية انه يقتل ايضا لانه حد من الحدود والحدود لا تسقط عندهم بالتوبة قبل القدرة ولا بعدها ولهم في الزنديق اذا جاء تائبا قولان لكن قال القاضي عياض مسألة الساب اقوى لا يتصور فيها الخلاف لانه حق يتعلق بالنبي ولأمته بسببه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الادميين وكذلك يقول من يرى انه يقتله حدا كما يقرر الجمهور
ويرى ان التوبة لا تسقط الحد بحال كأحد قولي الشافعي واحدى الروايتين عن احمد واما على المشهور في المذهبين من ان التوبة قبل القدرة تسقط الحد فقد ذكرنا انما ذاك في حدود الله سبحانه وتعالى فأما حدود الادميين من القود وحد القذف فلا تسقط بالتوبة فعلى هذا لايسقط القتل عنه وان تاب قبل القدرة كما لا يسقط القتل قودا عن قاطع الطريق اذا تاب قبل القدرة لانه حق ادمي ميت فأشبه القود وحد القذف وهذا قول القاضي أبي يعلى وغيره وهو مبني على ان قتله حق لادمي وانه لم يعف عنه ولا يسقط الا بالعفو وهو قول من يفرق بين من سب الله ومن سب رسوله واما من سوى بين من سب الله ومن سب رسوله وقال ان الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة فانه يسقط القتل هنا لانه حد من الحدود لله تعالى تاب صاحبه قبل القدرة عليه وهذا موجب قول من قال ان توبته تنفعه فيما بينه وبين الله ويسقط عنه حق الرسول في الاخرة وقد صرح بذلك غير واحد من اصحابنا وغيرهم لان التوبة المسقطة لحق الله وحق العبد وجدت قبل اخذه لاقامة الحد عليه وذلك ان هذا الحد ليس له عاف عنه فإن لم تكن التوبة مسقطة له لزم ان يكون من الحدود ما لاتسقطه توبة قبل القدرة ولا عفو وليس لهذا نظير نعم لو كان الرسول حيا لتوجه ان يقال
لا يسقط الحد الا بعفوه بكل حال # واما ان اخذ وثبت السب باقراره ثم تاب او جاء فاقر بالسب غير مظهر للتوبة ثم تاب فذلك مبني على جواز رجوعه عن هذا الاقرار فاذا لم يقبل رجوعه اقيم عليه الحد بلا تردد وان قبل رجوعه واسقط الحد عمن جاء تائبا ففي سقوطه عن هذا الوجهان المتقدمان وان اقيم الحد على من جاء تائبا فعلى هذا اولى والقول في الذمي اذا جاء مسلما معترفا او اسلم بعد اقراره كذلك # فهذا ما يتعلق بالتوبة من السب ذكرنا ما حضرنا ذكره كما يسره الله سبحانه وتعالى # وقد حان ان نذكر المسألة الرابعة فنقول
المسألة الرابعة # في بيان السب المذكور والفرق بينه وبين مجرد الكفر # وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة وقد كان يليق ان تذكر في أول المسألة الاولى وذكرها هنا مناسب ايضا لينكشف سر المسالة # وذلك ان نقول ان سب الله او سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا وسواء كان الساب يعتقد ان ذلك محرم او كان مستحلا له او كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر اهل السنة القائلين بان الايمان قول وعمل # وقد قال الإمام أبو يعقوب اسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وهو أحد الائمة يعدل بالشافعي واحمد قد اجمع المسلمون ان من سب الله او سب رسوله او دفع شيئا مما انزل الله او قتل نبيا من انبياء الله انه كافر بذلك وان كان مقرا بكل ما انزل الله # وكذلك قال محمد بن سحنون وهو أحد الائمة من اصحاب
مالك وزمنه قريب من هذه الطبقة اجمع العلماء ان شاتم النبي المنتقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الامة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر # وقد نص على مثل هذا غير واحد من الائمة قال احمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا وكذا اعني أنت ومن خلقك هذا مرتد عن الإسلام يضرب عنقه وقال في رواية عبد الله وابي طالب من شتم النبي قتل وذلك انه اذا شتم فقد ارتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي فبين ان هذا مرتد وان المسلم لا يتصور ان يشتم وهو مسلم # وكذلك نقل عن الشافعي انه سئل عمن هزل بشئ من ايات الله تعالى انه قال هو كافر واستدل بقول الله تعالى ^ قل أبا الله واياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ^
وكذلك قال اصحابنا وغيرهم من سب الله كفر سواء كان مازحا او جادا لهذه الاية وهذا هو الصواب المقطوع به # وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد من سب الله او سب رسوله فانه يكفر سواء استحل سبه او لم يستحله فان قال لم استحل ذلك لم يقبل منه في ظاهر الحكم رواية واحدة وكان مرتدا لان الظاهر خلاف ما اخبر لانه لا غرض له في سب الله وسب رسوله الا لانه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي ويفارق الشارب والقاتل والسارق اذا قال انا غير مستحل لذلك انه يصدق في الحكم لان له غرضا في فعل هذه الاشياء مع اعتقاد تحريمها وهو ما يتعجل من اللذة قال وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر الحكم فاما في الباطن فان كان صادقا فيما قال فهو مسلم كما قلنا في الزنديق لا تقبل توبته في ظاهر الحكم
وذكر القاضي عن الفقهاء ان ساب النبي ان كان مستحلا كفر وان لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر كساب الصحابة وهذا نظير ما يحكى ان بعض الفقهاء من اهل العراق افتى هارون امير المؤمنين فيمن سب النبي ان يجلده حتى انكر ذلك مالك ورد هذه الفتيا وهو نظير ما حكاه أبو محمد ابن حزم ان بعض الناس لم يكفر المستخف به # وقد ذكر القاضي عياض بعد ان رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الاجماع عن غير واحد
وحمل الحكاية على ان اولئك لم يكونوا ممن شهر بالعلم او لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به او ان الفتيا كانت في كلمة اختلف في كونها سبا او كانت فيمن تاب ذكر ان الساب اذا اقر بالسب ولم يتب منه قتل كفرا لان قوله اما صريح كفر كالتكذيب ونحوه او هو من كلمات الاستهزاء او الذم فاعترافه بها وترك توبته منها دليل على استحلاله لذلك وهو كفر ايضا قال فهذا كافر بلا خلاف # وقال في موضع اخر ان من قتله بلا استتابة فهو لم يره ردة وانما يوجب القتل فيه حدا وانما يقول ذلك مع انكاره ما شهد عليه به او اظهاره الاقلاع عنه والتوبة ونقتله حدا كالزنديق اذا تاب قال ونحن ان اثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لاقراره بالتوحيد والنبوة وانكاره ما شهد به عليه او زعمه ان ذلك كان منه ذهولا ومعصية وانه مقلع عن ذلك نادما عليه قال واما من علم ان سبه معتقدا لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك وكذلك ان كان سبه في نفسه كفرا كتكذيبه او تكفيره ونحوه فهذا مالا اشكال فيه وكذلك من لم يظهر التوبة واعتراف بما شهد به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله اوحرمة نبيه وهذا ايضا تشبث منه بان السب يكفر
به لاجل استحلاله له اذا لم يكن في نفسه تكذيبا صريحا # وهذا موضع لابد من تحريره ويجب ان يعلم ان القول بان كفر الساب في نفس الامر انما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع من كتبه ما يناقض ماقاله هنا وانما اوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متاخري المتكلمين وهم الجهمية الاناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الاولى في ان الايمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وان لم يقترن به قول اللسان ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح وصرح القاضي أبو يعلى بذلك هنا قال عقيب ان ذكر ما حكيناه عنه وعلى هذا لو قال الكافر ان معتقد بقلبي معرفة الله وتوحيده لكني لا اتي بالشهادتين كما لا اتي غيرها من العبادات كسلا لم يحكم
بإسلامه في الظاهر ويحكم به باطنا قال وقول الإمام احمد من قال ان المعرفة تنفع في القلب من غير ان يتلفظ بها فهو جهمي محمول على أحد وجهين احدهما انه جهمي في ظاهر الحكم والثاني على انه يمتنع من الشهادتين عنادا لانه احتج احمد في ذلك بان ابليس عرف ربة بقلبه ولم يكن مؤمنا ومعلوم ان ابليس اعتقد انه لا يلزم امتثال امره تعالى بالسجود لادم وقد ذكر القاضي في غير موضع انه لا يكون مؤمنا حتى يصدق بلسانه مع القدرة وبقلبه وان الايمان قول وعمل كما هو مذهب الائمة كلهم مالك وسفيان والاوزاعي والليث والشافعي واحمد واسحاق ومن قبلهم وبعدهم من اعيان الامة
وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الاصل وانما الغرض التنيبه على ما يختص هذه المسألة وذلك من وجوه # احدها ان الحكاية المذكورة عن الفقهاء انه ان كان مستحلا كفر والا فلا ليس لها اصل وانما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين حكوها عن الفقهاء وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا في اصولهم او بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولا وقد حكينا نصوص ائمة الفقهاء وحكاية اجماعهم ممن هو اعلم الناس بمذاهبهم فلا يظن ظان ان في المسألة خلافا يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد وانما ذلك غلط لا يستطيع أحد ان يحكي عن واحد من الفقهاء ائمة الفتوى هذا التفصيل البتة # الوجه الثاني ان الكفر اذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد ان السب حلال فإنه لما اعتقد ان ما حرمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب ان من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها انها حلال كفر لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة
لهم إلى غير ذلك من الاقوال التي علم ان الله حرمها فانه من فعل شيئا من ذلك مستحلا كفر مع انه لايجوز ان يقال من قذف مسلما او اغتابه كفر ويعنى بذلك اذا استحله # الوجه الثالث ان اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب او لم يقترن فاذن لا اثر للسب في التكفير وجودا وعدما وانما المؤثر هو الاعتقاد وهو خلاف ما اجمع عليه العلماء # الوجه الرابع انه اذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على ان الساب مستحل فيجب ان لايكفر لا سيما اذا قال انا اعتقد ان هذا حرام وانما قلته غيظا وسفها او عبثا اولعبا كما قال المنافقون ^ انما كنا نخوض ونلعب ^ كما اذا قال انما قذفت هذا او كذبت عليه لعبا وعبثا فان قيل لا يكونون كفارا فهو خلاف نص القران وان قيل يكونون كفارا فهو تكفير بغير موجب اذا لم يجعل نفس السب مكفرا وقول القائل انا لا اصدقه في هذا لا يستقيم فان التكفير لا يكون بامر محتمل فاذا كان قد قال انا اعتقد ان ذلك ذنب ومعصية وانا افعله فكيف يكفر ان لم يكن ذلك كفرا ولهذا قال سبحانه وتعالى ^ لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ^ ولم يقل قد كذبتم في
قولكم انما كنا نخوض ونلعب فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما اظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر كما لو كانوا صادقين بل بين انهم كفروا بعد ايمانهم بهذا الخوض واللعب # واذا تبين ان مذهب سلف الامة ومن اتبعهم من الخلف ان هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها او لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الاولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ^ وقوله تعالى ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله ^ وقوله تعالى ^ لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ^ وما ذكرناه من الاحاديث والاثار فانها ادلة بينة في ان نفس اذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودا وعدما فلا حاجة إلى ان نعيد الكلام هنا بل في الحقيقة كل ما دل على ان الساب كافر وانه حلال الدم لكفره فقد دل على هذه المسألة اذا لو كان الكفر المبيح هو اعتقاد ان السب حلال لم يجز تكفيره وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورا تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء
ومنشأ هذه الشهبة التي اوجبت هذا الوهم من المتكلمين او من حذا حذوهم من الفقهاء انهم رأوا ان الايمان هو تصديق الرسول فيما اخبر به وراوا ان اعتقاد صدقة لا ينافي السب والشتم بالذات كما ان اعتقاد ايجاب طاعته لا ينافي معصيته فان الانسان قد يهين من يعتقد وجوب اكرامه كما يترك ما يعتقد وجوب فعله ويفعل ما يعتقد وجوب تركه ثم رأوا ان الامة قد كفرت الساب فقالوا انما كفر لان سبه دليل على انه لم يعتقد انه حرام واعتقاد حله تكذيب للرسول فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الاهانة وانما الاهانة دليل على التكذيب فاذا فرض انه في نفس الامر ليس بمكذب كان في نفس الامر مؤمنا وان كان حكم الظاهر انما يجري عليه بما اظهره فهذا ماخذ المرجئة ومعتضديهم وهو الذين يقولون الايمان هو الاعتقاد والقول وغلاتهم وهم الكرامية الذين يقولون هو مجرد القول وان عري عن الاعتقاد واما الجهمية الذين
يقولون هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط وان لم يتكلم بلسانه فلهم مأخذ اخر وهو نه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه فاذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح اظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن كما لا ينفع المنافق اظهار خلاف ما في قلبه في الباطن # وجواب الشبهة الاولى من وجوه # احدها ان الايمان وان كان اصله تصديق القلب فذلك التصديق لابد ان يوجب حالا في القلب وعملا له وهو تعظيم الرسول واجلاله ومحبته وذلك امر لازم كالتألم والتنعم عند الاحسساس بالمؤلم والمنعم وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي فاذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يغن شيئا وانما يمنع حصوله اذا عارضه معارض من حسد الرسول او التكبر عليه او الاهمال له واعراض القلب عنه ونحو ذلك كما ان ادراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم الا ان يعارضه معارض ومتى حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه كما يكون وجود ذلك كعدمه بل يكون ذلك المعارض موجبا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب وبتوسط عدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الايمان بالكلية من القلب وهذا هو الموجب لكفر من حسد الانبياء او تكبر عليهم او كره فراق الالف والعادة مع علمه بانهم صادقون وكفرهم اغلظ من كفر الجهال # الثاني ان الايمان وان كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد
التصديق وانا هو الاقرار والطمأنية وذلك لان التصديق انما يعرض للخبر فقط فاما الامر فليس فيه تصديق من حيث هو امر وكلام الله خبر وامر فالخبر يستوجب تصديق المخبر والامر يستوجب الانقياد له والاستسلام وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للامر وان لم يفعل المامور به فاذا قوبل الخبر بالتصديق والامر بالانقياد فقد حصل اصل الايمان في القلب وهو الطمأنية والاقرار فان اشتقاقه من الامن الذي هو القرار والطمأنية وذلك انما يحصل اذا استقر في القلب التصديق والأنقياد واذا كان كذلك فالسب اهانة واستخفاف والانقياد للأمر اكرام واعزاز ومحال ان يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم او يستخف به فاذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع ان يكون فيه انقياد او استسلام فلا يكون فيه ايمان وهذا هو بعينه كفر ابليس فانه سمع امر الله له فلم يكذب رسولا ولكن لم ينقد للامر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرا وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف تخيل لهم ان الايمان ليس في الاصل الا التصديق ثم يرون مثل ابليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب او صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من اغلظ الكفر فيتحيرون ولم انهم هدوا لما هدي اليه السلف الصالح لعلموا ان الايمان قول وعمل اعني في الاصل قولا في القلب وعملا في القلب فان الايمان بحسب كلام الله ورسالته وكلام الله ورسالته يتضمن اخباره واوامره فيصدق القلب اخباره تصديقا يوجب حالا في القلب بحسب المصدق به والتصديق هو من نوع العلم والقول وينقاد لامره ويستسلم وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع
من الارادة والعمل ولا يكون مؤمنا الا بمجموع الامرين فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا فصار من الكافرين واذا كان مصدقا فالكفر اعم من التكذيب يكون تكذيبا وجهلا ويكون استكبارا وظلما ولهذا لم يوصف ابليس الا بالكفر والاستكبار دون التكذيب ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر ابليس وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالا وهو الجهل الا ترى ان نفرا من اليهود جاؤوا إلى النبي وسالوه عن اشياء فاخبرهم فقالوا نشهد انك نبي ولم يتعبوه وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعهم هذا العلم وهذا
التصديق الا ترى ان من صدق الرسول بان ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرا وامرا فانه يحتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياد لامر الله فاذا قال اشهد ان لا اله الا الله فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لامره فاذا قال واشهد ان محمدا رسول الله تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الاقرار فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ظن من ظن انه اصل لجميع الايمان وغفل عن ان الاصل الاخر لابد منه وهو الانقياد والا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا ثم يمتنع من الانقياد للامر اذ غايته في تصديق الرسول ان يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس وهذا مما يبين لك ان الاستهزاء بالله ورسوله ينافي الانقياد له والطاعة منافاة ذاتية وينافي التصديق بطريق الاستلزام لانه ينافي موجب التصديق ومقتضاه ويمنعه عن حصول ثمرته ومقصوده لكن الايمان بالرسول انما يعود اصله إلى التصديق فقط لانه مبلغ لخبر الله وامره لكن يستلزم الانقياد له لانه قد بلغ عن الله انه امر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره فمن لم ينقد لامره فهو اما مكذب له او ممتنع عن الانقياد لربه وكلاهما كفرا صريح ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع ان يكون منقادا لامره فان الانقياد اجلال واكرام والاستخفاف اهانة واذلال وهذان ضدان فمتى حصل في القلب احدهما انتفى الاخر فعلم ان الاستخفاف والاستهانة ينافي الايمان منافاة الضد للضد
الوجه الثالث ان العبد اذا فعل الذنب مع اعتقاد ان الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه واوجبه فهذا ليس بكافر فاما ان اعتقد ان الله لم يحرمه او انه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وابى ان يذعن لله وينقاد فهو اما جاحدا او معاند ولهذا قالوا من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند اهل السنة والجماعة وانما يكفره الخوارج فان العاصي المستكبر وان كان مصدقا بأن الله ربه فان معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق
وبيان هذا ان من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق فانه ما امن بالقران من استحل محارمه وكذلك لو استحلها بغير فعل والاستحلال اعتقاد انها حلال له وذلك يكون تارة باعتقاد ان الله احلها وتارة باعتقاد ان الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد ان الله حرمها وهذا يكون لخلل في الايمان بالربوبية أو لخلل في الايمان بالرسالة ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة وتارة يعلم ان الله حرمها ويعلم ان الرسول انما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا اشد كفرا ممن قبله وقد يكون هذا مع علمه بان من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه ثم ان هذا الامتناع والاباء اما لخلل في اعتقاد حكمة الامر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردا او اتباعا لغرض النفس وحقيقته كفر هذا لانه يعترف لله ورسوله بكل ما اخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه ويقول انا لااقر بذلك ولا التزمه وابغض هذا الحق وانفر عنه فهذا نوع غير النوع الاول وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقران مملوء من تكفير مثل هذا النوع بل عقوبته اشد وفي مثله قيل اشد الناس عذابا يوم
القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه وهو ابليس ومن سلك سبيله وبهذا يظهر الفرق بين العاصي فانه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويحب ان لا يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة فقد اتى من الايمان بالتصديق والخضوع والانقياد وذلك قول وعمل لكن لم يكمل العمل # واما اهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما فلانه لم يهن ما كان الانقياد له والاكرام شرطا في ايمانه وانما اهان من اكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه وجانب الله والرسول انما كفر فيه لانه لا يكون مؤمنا حتى يصدق تصديقا يقتضي الخضوع والانقياد فحيث لم يقتضه لم يكن ذلك التصديق ايمانا بل كان وجوده شرا من عدمه فان من خلق له حياة وادراك ولم يرزق الا العذاب كان فقد تلك الحياة والادراك احب اليه من حياة ليس فيها الا الالم واذا كان التصديق ثمرته صلاح حاله وحصول النعيم له واللذة في الدنيا والاخرة فلم يحصل معه الا فساد حاله والبؤس والالم في الدنيا والاخرة كان ان لا يوجد احب اليه من ان يوجد
وهنا كلام طويل في تفصيل هذه الامور ومن حكم الكعاب والسنة على نفسه قولا وفعلا ونور الله قلبه تبين له ضلال كثير من الناس ممن يتكلم برأيه في سعادة النفوس بعد الموت وشقاوتها جريا على منهاج الذين كذبوا بالكتاب وبما ارسل الله به رسله ونبذا لكتاب الله وراء ظهورهم واتباعا لما تتلوه الشياطين # واما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاثة اوجه # احدها ان موجب هذا ان من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر انواع الكفر من غير اكراه على ذلك فانه يجوز ان يكون مع ذلك في نفس الامر مؤمنا ومن جوز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
الثاني ان الذي عليه الجماعة ان من لم يتكلم بالايمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة وان القول من القادر عليه شرط في صحة الايمان حتى اختلفوا في تكفير من قال ان المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح وليس هذا موضع تقرير هذا # وما ذكره القاضي رحمه الله من التأويل لكلام الإمام احمد فقد ذكر هو وغيره خلاف ذلك في غير موضع وكذلك ما دل عليه كلام القاضي عياض فان مالكا وسائر الفقهاء من التابعين ومن بعدهم الا من نسب إلى بدعة قالوا الايمان قول وعمل وبسط هذا له مكان غير هذا # الثالث ان من قال ان الايمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى المنطق باللسان يقول لا يفتقر الايمام في نفس الامر إلى القول الذي
يوافقه باللسان لكن لا يقول ان القول الذي ينافي الايمان لايبطله فان القول قولان قول يوافق تلك المعرفة وقول يخالفها فهب ان القول الموافق لا يشترط لكن القول المخالف ينافيها فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدا لها عالما بانها كلمة كفر فانه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا ولايجوز ان يقال انه في الباطن يجوز ان يكون مؤمنا ومن قال ذلك ذلك فقد مرق من الإسلام قال الله سبحانه ^ من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ^ # ومعلوم انه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لان ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من اكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وانما يكره على القول فقط فعلم انه اراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله
عذاب عظيم وانه كافر بذلك الا من اكره وهو مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فانه كافر ايضا فصار كل من تكلم بالكفر كافرا الا من اكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالايمان وقال تعالى في حق المستهزئين ^ لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ^ فبين انهم كفار بالقول مع انهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم من ان التصديق بالقلب يمنع ارادة التكلم وارادة فعل فيه استهانة واستخفاف كما انه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء ادراك الموافق للذة وادراك المخالف للألم فاذا عدم المعلول كان مستلزما لعدم العلة واذا وجد الضد كان مستلزما لعدم الضد الاخر فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كفرا # واعلم ان الايمان وان قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق ما في القلب والعمل يصدق القول والتكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب ورافع للتصديق الذي كان في القلب اذ اعمال الجوارح تؤثر في القلب كما ان اعمال القلب تؤثر في الجوارح فأيهما قام به كفر تعدى حكمه إلى الاخر والكلام في هذا واسع وانما نبهنا على هذه المقدمة
فصل # ثم نعود إلى مقصود المسالة فنقول # قد ثبت ان كل سب وشتم يبيح الدم فهو كفر وان لم يكن كل كفر سبا ونحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة # قال الإمام احمد كل من شتم النبي او تنقصه مسلما كان او كافرا فعليه القتل وارى ان يقتل ولا يستتاب # وقال في موضع اخر كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان او كافرا وهذا مذهب اهل المدينة # وقال اصحابنا التعرض بسب الله وسب رسول الله ردة وهو موجب للقتل كالتصريح ولا يختلف اصحابنا ان قذف أم رسول الله من جملة سبه الموجب للقتل واغلظ لان ذلك يفضي إلى القدح في نسبه وفي عبارة بعضهم اطلاق القول بان من سب أم النبي
يقتل مسلما كان او كافرا وينبغي ان يكون مرادهم بالسب هنا القذف كما صرح به الجمهور لما فيه من سب النبي # وقال القاضي عياض جميع من سب النبي او عابه او الحق به نقصا في نفسه او نسبه او دينه او خصلة من خصاله او عرض به او شبهه بشئ على طريق السب له والازراء عليه او البغض منه والعيب له فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل ولا نستثن فصلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا نمتر فيه تصريحا كان او تلويحا وكذلك من لعنه او تمنى مضرة له أو دعا عليه او نسب اليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم او عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور او عيره بشئ مما يجري من البلاء والمحنة عليه او غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه قال هذا كله إجماع من العلماء وائمة الفتوى من لدن اصحابه وهلم جرا
وقال ابن القاسم عن مالك من سب النبي قتل ولم يستتب قال ابن القاسم او شتمه او عابه او تنقصه فانه يقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره وبره # وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه من سب رسول الله او شتمه او عابه او تنقصه قتل مسلما كان او كافرا ولا يستتاب # وروى ابن وهب عن مالك من قال ان رداء النبي ويروى زره وسخ واراد به عيبه قتل
وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على ان من دعا على نبي من الانبياء بالويل او بشيء من المكروه انه يقتل بلا استتابة # وذكر القاضي عياض اجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة افتى في كل قضية بعضهم # منها رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي اذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال تريدون تعرفون صفته هي صفة هذا المار في خلقه ولحيته # ومنها رجل قال النبي كان اسود # ومنها رجل قيل له لا وحق رسول الله فقال فعل الله برسول الله كذا قيل له ما تقول يا عدوا الله فقال اشد من كلامه
الاول ثم قال انما اردت برسول الله العقرب قالوا لان ادعاءه للتأويل في لفظ صراح لا يقبل لانه امتهان وهو غير معزر لرسول الله ولا موقر له فوجبت اباحة دمه # ومنها عشار قال اد واشك إلى النبي وقال ان سألت او جهلت فقد سأل النبي وجهل # ومنها متفقه كان يستخف بالنبي ويسميه في اثناء مناظرته اليتيم وختن حيدره ويزعم ان زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات لأكلها واشباه هذا
قال عياض فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا وتنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ومتاخرهم وان اختلفوا في حكم قتله # وكذلك قال أبو حنيفة واصحابه فيمن تنقصه او برئ منه او كذبه انه مرتد وكذلك قال اصحاب الشافعي كل من تعرض لرسول الله بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح فان الاستهانة بالنبي كفر وهل يتحتم فيه قتله او يسقط بالتوبة على الوجهين وقد نص الشافعي على هذا المعنى # فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على ان التنقص به
كفر مبيح للدم وهم في استتابته على ما تقدم من الخلاف ولا فرق في ذلك بين ان يقصد عيبه والازراء به او لا يقصد عيبه لكن المقصود شيء اخر حصل السب تبعا له او لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح او يفعل غير ذلك # فهذا كله يشترك في هذا الحكم اذا كان القول نفسه سبا فان الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن ان تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار ابعد مما بين المشرق والمغرب ومن قال ما هو سب وتنقص له فقد اذى الله ورسوله وهو ماخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه اذى وان لم يقصد اذاهم الم تسمع إلى الذين قالوا
انما كنا نخوض ونلعب فقال الله تعالى ^ أبا الله واياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ^ # وهذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي او حكم من حكمه او يدعى لما سنه فيلعن ويقبح ونحو ذلك وقد قال تعالى ^ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ^ فأقسم سبحانه بنفسه انهم لايؤمنون حتى يحكموه ثم لايجدون في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في أمره وحرج لذكر رسول الله حتى افحش في منطقة فهو كافر بنص التنزيل ولا يعذر بان مقصوده رد الخصم فان الرجل لايؤمن حتى يكون الله ورسوله احب اليه ممن سواهما وحتى يكون الرسول احب اليه من ولده ووالده والناس اجمعين
ومن هذا الباب قول القائل ان هذه لقسمة مااريد بها وجه الله وقول الاخر اعدل فانك لم تعدل وقول ذلك الانصاري ان كان ابن عمتك فان هذا كفر محض حيث زعم ان النبي انما حكم للزبير لانه ابن عمته ولذلك انزل الله تعالى هذه الاية واقسم انهم لايؤمنون حتى لا يجدوا في انفسهم حرجا من حكمه وانما عفا عنه النبي كما عفا عن الذي قال ان هذه لقسمة ما اريد
بها وجه الله وعن الذي قال اعدل فانك لم تعدل وقد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه انه قتل رجلا لم يرض بحكم النبي فنزل القرن بموافقته فكيف بمن طعن في حكمه وقد ذكر طائفة من الفقهاء منهم ابن عقيل وبعض اصحاب الشافعي ان هذا كان عقوبته التعزير ثم منهم من قال لم يعزره النبي لان التعزير غير واجب ومنهم من قال عفا عنه لان الحق له ومنهم من قال عاقبه بان امر الزبير ان يسقي ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر وهذه كلها اقوال ردية لا يستريب من تأمل في ان هذا كان يستحق القتل بعد نص القران ان من هو بمثل حاله ليس بمؤمن # فان قيل ففي رواية صحيحة انه كان من اهل بدر وفي الصحيحين عن علي عن النبي انه قال وما يدريك لعل الله اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ولو كان هذا
القول كفرا للزم ان يغفر الكفر والكفر لايغفر ولا يقال عن بدري انه كفر # فقيل هذه الزيادة ذكرها أبو اليمان عن شعيب ولم يذكرها أكثر الرواة فيمكن انهم وهم كما وقع في حديث كعب وهلال بن
امية انهما من اهل بدر ولا يختلف اهل المغازي والسير انهما لم يشهدا بدرا وكذلك لم يذكره ابن اسحاق في روايته عن الزهري لكن الظاهر صحتها # فنقول ليس في الحديث ان هذه القصة كانت بعد بدر فلعلها كانت قبل بدر وسمي الرجل بدريا لان عبد الله بن الزبير حدث بالقصة بعد ان صار الرجل بدريا فعن عبد الله بن الزبير عن ابيه ان
رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الانصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله فقال رسول الله للزبير اسق يازبير ثم ارسل الماء إلى جارك فغضب الانصاري ثم قال يارسول الله ان كان ابن عمتك فتلون وجه النبي ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع اللى الجدر فقال الزبير والله لاني احسب هذه الاية نزلت في ذلك ^ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ^ متفق عليه وفي رواية للبخاري من حديث عروة قال فاستوعى رسول الله حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله قبل ذلك قد اشار على الزبير براي اراد فيه سعة له وللانصاري فلما احفظ الانصاري رسول الله استوعى رسول الله للزبير حقه في صريح الحكم وهذا يقوي ان القصة متقدمة قبل بدر لان النبي
قضى في سيل مهزور ان الأعلى يسقى ثم يحبس حتى يبلغ الماء إلى الكعبين فلو كانت قصة الزبير بعد هذا القضاء لكان قد علم وجه الحكم فيه وهذا القضاء الظاهر انه متقدم من حين قدم النبي لان الحاجة إلى الحكم فيه من حين قدم ولعل قصة الزبير اوجبت هذا القضاء # وايضا فان هؤلاء الايات قد ذكر غير واحد ان اولها نزل لما اراد بعض المنافقين ان يحاكم يهوديا إلى ابن الاشرف وهذا انما كان قبل بدر لان ابن الاشرف ذهب عقب بدر إلى مكة فلما رجع قتل
فلم يستقر بعد بدر بالمدينة استقرار يتحاكم اليه وان كانت القصة بعد بدر فان القائل لهذه الكلمة يكون قد تاب واستغفر وقد عفا له النبي عن حقه فغفر له والمضمون لأهل بدر انما هو المغفرة اما بان يستغفروا ان كان الذنب مما لا يغفر الا بالاستغفار او لم يكن كذلك واما بدون ان يستغفروا الا ترى ان قدامة بن مظعون وكان بدريا تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى ^ ليس على الذين امنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ^ # حتى اجمع رأي عمر واهل الشورى ان يستتاب هو اصحابه فان اقروا بالتحريم جلدوا وان لم يقروا به كفروا ثم انه تاب وكاد
يبلس لعظم ذنبه في نفسه حتى ارسل اليه عمر رضي الله عنه بأول سورة غافر فعلم ان المضمون للبدريين ان خاتمتهم حسنة وانهم يغفر لهم وان جاز ان يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى ان يصدر فان التوبة تجب ما قبلها # واذا ثبت ان كل سب تصريحا او تعريضا موجب للقتل فالذي يجب ان يعتني به الفرق بين السب الذي لا تقبل منه التوبة والكفرالذي تقبل منه التوبة فنقول # هذا الحكم قد نيط في الكتاب والسنة باسم اذى الله ورسوله وفي بعض الاحاديث ذكر الشتم والسب وكذلك جاء في الفاظ الصحابة والفقهاء ذكر السب والشتم والاسم اذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الارض والسماء والبر والبحر والشمس والقمر ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والايمان والكفر فانه يرجع في حده إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكرى ونحوها فيجب ان يرجع في حد
الاذى والشتم والسب إلى العرف فما عده اهل العرف سبا او انتقاصا او عيبا او طعنا ونحو ذلك فهو من السب وما لم يكن كذلك وهو كفر به فيكون كفرا ليس بسب حكم صاحبه حكم المرتد ان كان مظهرا له والا فهو زندقة والمعتبر ان يكون سبا واذى للنبي وان لم يكن سبا واذى لغيره فعلى هذا كل ما لو قيل لغير النبي او جب تعزيرا او حدا بوجه من الوجوه فانه من باب سب النبي كالقذف واللعن وغيرهما من الصورة التي تقدم التنبيه عليها واما ما يختص بالقدح في النبوة فان لم يتضمن الا مجرد عدم التصديق بنبوته فهو كفر محض ان كان فيه استخفاف واستهانة مع عدم التصديق فهو من السب # وهنا مسائل اجتهادية يتردد الفقهاء هل هي من السب اومن الردة المحضة ثم ما ثبت انه ليس بسب فان استسر به صاحبه فهو زنديق حكمه حكم الزندقة والا فهو مرتد محض واستقصاء الانواع والفرق بينها ليس هذا موضعه
فصل # فاما الذمي فيجب التفريق بين مجرد كفره به وبين سبه فان كفره به لا ينقض االعهد ولايبيح دم المعاهد بالاتفاق لانا صالحناهم على هذا واما سبه له فانه ينقض العهد ويوجب القتل كما تقدم # قال القاضي أبو يعلى عقد الامان يوجب اقرارهم على تكذيب النبي لا على شتمهم وسبهم له # وقد تقدم ان هذا الفرق ايضا معتبر في المسلم حيث قتلناه بخصوص السب وكونه موجبا للقتل حدا من الحدود بحيث لا يسقط بالتوبة وان صحت واما حيث قتلناه لدلالته على الزندقة او لمجرد كونه مرتدا فلا فرق حينئذ بين مجرد الكفر وبين ما تضمنه من انواع السب نقول # الاثار عن الصحابة والتابعين والفقهاء مثل مالك واحمد وسائر الفقهاء القائلين بذلك كلها مطلقة في من شتم النبي من مسلم او معاهد فانه يقتل ولم يفصلوا بين شتم وشتم ولا بين ان يكرر الشتم او لا يكرره او يظهره او لا يظهره واعني بقولي لا يظهره ان لا يتكلم به في ملأ من المسلمين والا فالحد لا يقام عليه حتى يشهد مسلمان انهما سمعاه يشتمه او حتى يقر بالشتم وكونه يشتمه بحيث
يسمعه المسلمون اظهارا له اللهم الا ان يفرض انه شتمه في بيته خاليا فسمعه جيرانه المسلمون او من استرق السمع منهم # قال مالك واحمد كل من شتم النبي او تنقصه مسلما كان او كافرا فانه يقتل ولا يستتاب فنصا على ان الكافر يجب قتله بتنقصه له كما يقتل بشتمه وكما يقتل المسلم بذلك وكذلك اطلق سائر اصحابنا ان سب النبي من الذمي يوجب القتل # وذكر القاضي وابن عقيل وغيرهما ان ما ابطل الايمان فانه يبطل الامان اذا اظهروه فان الإسلام اكد من عقد الذمة فاذا كان من الكلام ما يبطل حق الإسلام فان يبطل حقن الذمة اولى مع الفرق بينهما من وجه اخر فان المسلم اذا سب الرسول دل على سوء اعتقاده في رسول الله فلذلك كفر والذمي قد علم ان اعتقاده ذلك واقررناه على اعتقاده وانما اخذ عليه كتمه وان لا يظهره فبقي تفاوت ما بين الاظهار والاضمار # قال ابن عقيل فكما اخذ على المسلم ان لا يعتقد ذلك اخذ على الذمي ان لايظهره فاظهار هذا كاضمار ذاك واضماره لا ضرر على الإسلام ولا ازراء فيه وفي اظهاره ضرر وإزراء على الإسلام ولهذا ما بطن من الجرائم لا نتبعها في حق المسلم ولو اظهروها اقمنا عليهم حد الله
وطرد القاضي وابن عقيل هذا القياس في كل ما ينقض الايمان من الكلام مثل التثنية والتثليث كقول النصارى ان الله ثالث ثلاثة ونحو ذلك ان الذمي متى اظهر ما تعلمه من دينه من الشرك نقض العهد كما انه ان اظهر ما نعلمه بقوله في نبينا نقض العهد # قال القاضي وقد نص احمد على ذلك فقال في رواية حنبل كل من ذكر شيئا يعرض به الرب فعليه القتل مسلما كان او كافرا هذا مذهب اهل المدينة # وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له كذبت فقال يقتل لانه شتم فقد نص على قتل من كذب المؤذن وهو يقول الله أكبر او اشهد ان لا اله الا الله أو اشهد ان محمدا رسول الله وقد ذكرها الخلال والقاضي في
سب الله بناء على انه كذبه فيما يتعلق بذكر الرب سبحانه والاشبه انه عام في تكذيبه فيما يتعلق بذكر الرب وذكر الرسول بل هو في هذا اولى لان اليهودي لا يكذب من قال لا اله الا الله ولا من قال الله أكبر وانما يكذب من قال ان محمدا رسول الله وهذا قول جمهور المالكيين قالوا انه يقتل لكل سب سواء كانوا يستحلونه او لا يستحلونه لانهم وان استحلوه فانا لم نعطهم العهد على اظهاره وكما لا يحصن الإسلام من سبه وكذلك لا تحصن منه الذمة وهو قول أبي مصعب وطائفة من المدنيين # قال أبو مصعب في نصراني قال والذي اصطفى عيسى على محمد اختلف علي فيه فضربته حتى قتلته او عاش يوما وامرت من جر برجله وطرح على مزبلة فاكتله الكلاب # قال أبو مصعب في نصراني قال عيسى خلق محمد قال يقتل وافتى سلف الاندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية وبنوة عيسى لله # وقال ابن القاسم فيمن سبه فقال ليس بنبي او لم يرسل أو لم ينزل عليه قران وانما هو شئ تقوله ونحو هذا فيقتل وان قال ان محمد لم يرسل الينا وانما ارسل اليكم وانما نبينا موسى او عيسى ونحو هذا لا شئ عليهم لان الله اقرهم على مثله
قال ابن القاسم واذا قال النصراني ديننا خير من دينكم اانما دينكم دين الحمير ونحو ذلك من هذا القبيح او سمع المؤذن يقول اشهد ان محمدا رسول الله فقال كذلك يعظكم الله ففي هذا الادب الموجع والسجن الطويل وهذا قول محمد بن سحنون وذكره عن ابيه ولهم قول اخر فيما اذا سبه بالوجه الذي به كفروا انه لايقتل # قال سحنون عن ابن القاسم من شتم الانبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه الا ان يسلم # وقال سحنون في اليهودي يقول للمؤذن اذا تشهد كذبت يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل # وقد تقدم نص الإمام احمد في مثل هذه الصورة على القتل لانه شتم
وكذلك اختلف اصحاب الشافعي في السب الذي ينتقض به عهد الذمي ويقتل به اذا قلنا بذلك على الوجهين # احدهما ينتقض بمطلق السب لنبينا والقدح في ديننا اذا اظهروه وإن كانوا يعتقدون ذلك دينا وهذا قول اكثرهم # والثاني انهم اذا اظهروه وان كانوا يعتقدون فيه دينا من انه ليس برسول والقران ليس بكلام الله فهو كاظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث قالوا وهذا لا ينقض العهد بلا تردد بل يعزرون على اظهاره واما ان ذكروه بما لايعتقدونه دينا كالطعن في نسبه فهو الذي قيل فيه ينقض العهد وهذا اختيار الصيدلاني وابي المعالي وغيرهما # وحجة من فرق بين ما يعتقدونه فيه دينا وما لا يعتقدونه كما اختاره بعض المالكية وبعض الشافعية انهم قد اقروا على دينهم الذي
يعتقدونه لكن منعوا من اظهاره فاذا اظهروه كان كما لو اظهروا سائر المناكير التي هي من دينهم كالخمر والخنزير والصليب ورفع الصوت بكتابهم ونحو ذلك وهذا انما يستحقون عليه العقوبة والنكال بما دون القتل # يؤيد ذلك ان اظهار معتقدهم في الرسول ليس باعظم من اظهار معتقدهم في الله وقد يسلم هؤلاء ان اظهار معتقدهم لا يوجب القتل واستبعدوا ان ينتقض عهدهم باظهار معتقدهم اذا لم يكن مذكورا في الشرط وهذا بخلاف ما اذا سبوه بما لا يعتقدونه دينا فانا لن نقرهم على ذلك ظاهرا ولا باطنا وليس هو من دينهم فصار بمنزلة الزنى والسرقة وقطع الطريق وهذا القول مقارب لقول الكوفيين وقد ظن من سلكه انه خلص بذلك من سؤالهم وليس الامر كما اعتقد فان الادلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة والاجماع والاعتبار كلها تدل على السب بما يعتقده فيه دينا وما لايعتقده فيه دينا وان مطلق السب موجب
للقتل ومن تامل كل دليل بانفراده لم يخف عليه انها جميعا تدل علىا السب المعتقد دينا كما تدل على السب الذي لا يعتقده دينا ومنها ما هو نص في السب الذي يعتقد دينا بل اكثرها كذلك فان الذين كانوا يهجونه من الكفار الذين اهدر دماءهم لم يكونوا يهجونه الا بما يعتقدونه دينا مثل نسبته إلى الكذب والسحر وذم دينه ومن اتبعه وتنفير الناس عنه إلى غير ذلك من الامور فاما الطعن في نسبه او خلقه او امانته او وفائه او صدقه في غير دعوى الرسالة فلم يكن احدا يتعرض لذلك في غالب الامر ولا يتمكن من ذلك ولا يصدقه أحد في ذلك لا مسلم ولا كافر لظهور كذبه وقد تقدم ذلك فلا حاجة إلى اعادته # ثم نقول هنا هذا الفرق متهافت من وجوه # احداها ان الذمي لو اظهر لعنة الرسول او تقبيحه او الدعاء عليه بالسخط وجهنم والعذاب او نحو ذلك فان قيل ليس من السب الذي ينتقض به العهد كان هذا قولا مردودا سمجا فانه من لعن شخصا وقبحه لم يبق من سبه غاية وفي الصحيحين عن النبي انه قال لعن المؤمن كقتله ومعلوم ان هذا اشد من الطعن في خلقه وامانته او وفائه وان قيل هو سب فقد علم ان من الكفار من
يعتقد ذلك دينا ويرى انه من قرباته كتقريب المسلم بلعن مسيلمة والاسود العنسي # الوجه الثاني انه على القول بالفرق المذكور اذا سبه بما لايعتقده دينا مثل الطعن في نسبه او خلقه او خلقه ونحو ذلك فمن اين ينتقض عهده ويحل دمه ومعلوم انه قد اقر على ما هو أعظم من ذلك من الطعن في دينه الذي هو أعظم من الطعن في نسبه ومن الكفر بربه الذي هو أعظم الذنوب ومن سب الله بقوله ان له صاحبة وولدا وانه ثالث ثلاثة فانه لا ضرر يلحق الامة ونبيها باظهار ما لا يعتقد صحته من السب الا ويلحقهم بإظهار ما كفر به أعظم من ذلك # فاذا اقر على أعظم السببين ضررا فاقراره على ادناهما ضررا اولى نعم بينهما من الفرق انه اذا طعن في نسبه او خلقه فانه يقر لنا بانه كاذب او اهل دينه يعتقدون انه كاذب اثم بخلاف السب الذي يعتقده دينا فانه واهل دينه متفقون على انه ليس بكاذب فيه ولا اثم فيعود الامر إلى انه قال كلمة اثم بها عندهم وعندنا لكن في حق من لا حرمة له عنده بل مثاله عنده ان يقذف الرجل مسيلمة او العنسي او ينسبه إلى انه كان اسود او انه كان دعيا او كان يسرق او كان قومه يستخفون به ونحو ذلك من الوقيعة في عرضه بغير حق ومعلوم ان هذا لا يوجب القتل بل ولا يوجب الجلد ايضا فان العرض يتبع الدم فمن لم يعصم دمه لم يصن عرضه فلو لم يجب قتل الذمي اذا سب الرسول لكونه قد قدح في ديننا
لم يجب قتله بشئ من السب ايضا فان خطب ذلك يسير # يبين ذلك ان المسلم انما قتل اذا سبه بالقذف ونحوه لان القدح في نسبه قدح في نبوته فاذا كنا بإظهار القدح في النبوة لا نقتل الذمي فان لانقتله باظهار القدح فيما يقدح في النبوة اولى اذ الوسائل اضعف من المقاصد # وهذا البحث اذا حقق اضطر المنازع إلى أحد امرين اما موافقة من قال من اهل الراي ان العهد لا ينتقض بشئ من السب واما موافقة الدهماء في ان العهد ينتقض بكل سب واما الفرق بين سب وسب في انتقاض العهد واستحلال الدم فمتهافت # ثم انه اذا فرق لم يمكنه ايجاب القتل ولا نقض العهد بذلك اصلا ومن ادعى وجوب القتل بذلك وحده لم يمكنه ان يقيم عليه دليلا # الثالث انا اذا لم نقتلهم باظهار ما يعتقدونه دينا لم يمكنا ان نقتلهم باظهار شئ من السب فانه ما من أحد منهم يظهر شيئا من ذلك الا ويمكنه ان يقول اني معتقد لذلك متدين به وان كان طعنا في النسب
كما يتدينون بالقدح في عيسى وامه عليهما السلام ويقولون على مريم بهتانا عظيما ثم انهم فيما بينهم قد يختلفون في اشياء من انواع السب هل هي صحيحة عندهم او باطلة وهم قوم بهت ظالون فلا يشاؤون ان يأتوا ببهتان ونوع من الضلال الذي لا اوجع للقلوب منه ثم يقلون هو معتقدنا الا فعلوه فحينئذ لا يقتلون حتى يثبت انهم لا يعتقدونه دينا وهذا القدر هو محل اجتهاد واختلاف وبعضه لا يعلم الا من جهتهم وقول بعضهم في بعض غير مقبول ونحن وان كنا نعرف أكثر عقائدهم فيما تخفي صدورهم أكبر وتجدد الكفر والبدع منهم غير مستنكر فهذا الفرق مغضاة إلى حتم القتل بسب الرسول وهو لعمري قول اهل الراي ومستندهم ما ابداه هؤلاء وقد قدمنا الجواب عن ذلك وبينا انا انما اقررناهم على اخفاء دينهم لا على اظهار باطل قولهم والمجاهرة بالطعن في ديننا وان كان يستحلون ذلك فان المعاهدة على تركه صيرته حراما في دينهم كالمعاهدة على الكف عن دمائنا
واموالنا وبينا ان المجاهرة بكلمة الكفر في دار الإسلام كالمجاهرة بضرب السيف بل اشد على ان الكفر اعم من السب فقد يكون الرجل كافرا ولا يسب وهذا هو سر المسالة فلابد من بسطه فنقول # التكلم في تمثيل سب رسول الله وذكر صفته ذلك مما يثقل على القلب واللسان ونحن نتعاظم ان نتفوه بذلك ذاكرين او اثرين لكن الاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في انواع السب مطلقا من غير تعيين والفقيه ياخذ حظه من ذلك فنقول السب نوعان دعاء وخبر اما الدعاء فمثل ان يقول القائل لغيره لعنه الله او قبحه الله او اخزاه الله او لا رحمه الله او لا رضي الله عنه او قطع الله دابره فهذا وامثاله سبب للانبياء ولغيرهم وكذلك لو قال عن نبي لا صلى الله عليه او لا سلم او لا رفع الله ذكره او محا الله اسمه ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضرر عليه في الدنيا او في الدين او في الاخرة # فهذا كله اذا صدر من مسلم او معاهد فهو سب فاما المسلم فيقتل به بكل حال واما الذمي فيقتل بذلك اذا اظهره # فاما ان اظهر الدعاء للنبي وابطن الدعاء عليه ابطانا يعرف من لحن القول بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض مثل قوله السام عليكم اذا اخرجه مخرج التحية واظهر انه يقول السلام ففيه قولان
احدهما انه من السب الذي يقتل به وانما كان عفو النبي عن اليهود الذين حيوه بذلك حال ضعف الإسلام تاليفا عليه لما كان مأمورا بالعفو عنهم والصبر على اذاهم وهذا قول طائفة من المالكية والشافعية والحنبلية مثل القاضي عبد الوهاب والقاضي أبي يعلي وابي اسحاق الشيرازي وابي الوفاء بن عقيل وغيرهم وممن ذهب إلى ان هذا سب من قال لم يعلم ان هؤلاء كانوا اهل عهد وهذا قول ساقط لأنا قد بينا فيما تقدم ان اليهود الذين بالمدينة كانوا معاهدين وقال اخرون كان الحق له وله ان يعفو عنهم فاما بعده فلا عفو # والقول الثاني انه ليس من السب الذي ينتقض العهد لانهم لم يظهروا السب ولم يجهروا به وانما اظهروا التحية والسلام لفظا
وحالا وحذفوا اللام حذفا خفيا يفطن له بعض السامعين وقد لا يفطن له الاكثرون ولهذا قال النبي ان اليهود اذا سلموا فانما يقول احدهم السام عليكم فقولوا وعليكم فجعل هذا شرعا باقيا في حياته وبعد موته حتى صارت السنة ان يقال للذمي اذا سلم وعليكم او عليكم وكذلك لما سلم عليهم اليهودي قال اتدرون ماقال انما قال السام عليكم ولو كان هذا من السب الذي هو سب لوجب ان يشرع عقوبة اليهودي اذا سمع منه ذلك ولو بالجلد فلما لم يشرع ذلك علم انه لا يجوز مؤاخذتهم بذلك وقد اخبر الله عنهم بقوله تعالى ^ واذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في انفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس
المصير ^ فجعل عذاب الاخرة حسبهم فدل على انه لم يشرع على ذلك عذابا في الدنيا وهذا لانهم لو قرروا على ذلك لقالوا انما قلنا السلام وانما السمع يخطئ وانتم تتقولون علينا فكانوا في هذا مثل المنافقين الذين يظرون الإسلام ويعرفون في لحن القول ويعرفون بسيماهم فانه لا يمكن عقوبتهم باللحن والسيما فان موجبات العقوبات لابد ان تكون ظاهرة الظهور الذي يشترك فيه الناس وهذا القدر وان كان كفرا من المسلم فانما يكون نقضا للعهد اذا اظهره الذمي واتيانه به على هذا الوجه غاية ما يكون من الكتمان والاخفاء ونحن لا نعاقبهم على مايسرونه ويخفونه من السب وغيره وهذا قول جماعات من العلماء من المتقدمين ومن اصحابنا والمالكيين وغيرهم وممن اختار هذا القول من زعم ان هذا دعاء بالسام وهو الموت على اصح القولين او دعاء بالسامة وملال واما الذين قالوا ان الموت محتوم على الخليقة قالوا وهذا تعريض بالاذى لا بالسب وهذا القول ضعيف فان الدعاء على الرسول والمؤمنين بالموت وترك الدين من ابلغ السب كما ان الدعاء بالحياة والعافية والصحة واثبات على الدين من ابلغ الكرامة
النوع الثاني الخبر فكل ما عهده الناس شتما او سبا او تنقصا فانه يجب به القتل كما تقدم فان الكفر ليس مستلزما للسب وقد يكون الرجل كافرا ليس بساب والناس يعلمون علما عاما ان الرجل قد يبغضىالرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه وقد يضم إلى ذلك مسبه وان كانت المسبة مطابقة للمعتقد فليس كل ما يحتمل عقدا يحتمل قولا وما لا يحتمل ان يقال سرا يحتمل ان يقال جهرا والكلمة الواحدة تكون في حال سبا وفي حال ليست بسب فعلم ان هذا يختلف باختلاف الاقوال والاحوال واذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب ان ينزل عليه كلام الصحابة والعلماء وما لا فلا ونحن نذكر من ذلك اقساما فنقول # لا شك ان اظهار التنقص والاستهزاء به عند المسلمين سب كالتسمية باسم الحمار او الكلب او وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة او الاخبار بانه في العذاب وان عليه اثام الخلائق ونحو ذلك وكذلك اظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بانه ساحر خادع محتال وانه يضر من اتبعه وان ما جاء به كله زور وباطل ونحو ذلك فان نظم ذلك شعرا كان ابلغ في الشتم فان الشعر يحفظ ويروى وهو الهجاء وربما يؤثر في نفوس كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تاثير البراهين
فان غني به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم امره واما ان اخبر عن معتقده بغير طعن فيه مثل ان يقول انا لست متبعه او لست مصدقه او لا احبه او لا ارضى دينه ونحو ذلك فانما اخبر عن اعتقاد او ارادة لم يتضمن انتقاصا لان عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد والحسد والكبر وتقليد الاسلاف وإلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي خلاف ما اذا قال من كان ومن هو وأي كذا وكذا هو ونحو ذلك واذا قال لم يكن رسولا ولا نبيا ولم ينزل عليه شيء ونحو ذلك فهو تكذيب صريح وكل تكذيب فقد تضمن نسبته إلى الكذب ووصفه بانه كذاب لكن بين قوله ليس بنبي وقوله هو كذاب فرق من حيث ان هذا انما تضمن التكذيب بواسطة علمنا انه كان يقول اني رسول الله وليس من نفى عن غيره بعض صفاته نفيا مجردا كمن نفاها عنه ناسبا له إلى الكذب في دعواها والمعنى الواحد قد يؤدى بعبارات بعضها يعد سبا وبعضها لايعد سبا وقد ذكرنا ان الإمام احمد نص على ان من قال للمؤذن كذبت فهو شاتم وذلك لان ابتداؤه بذلك للمؤذن معلنا بذلك بحيث يسمعه المسلمون طاعنا في دينهم مكذبا للأمة في تصديقها بالوحدانية والرسالة لاريب انه شتم
فان قيل ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الرسول عن الله تبارك وتعالى انه قال شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن ادم وما ينبغي له ذلك فاما شتمه اياي فقوله اني اتخذت ولدا واما تكذيبه اياي فقوله لن يعيدني كما بداني فقد قرن بين التكذيب والشتم # فيقال قوله لن يعيدني كما بداني يفارق قول اليهودي للمؤذن كذبت من وجهين # احدهما انه لم يصرح بنسبته إلى الكذب ونحن لم نقل ان كل تكذيب شتم اذ لو قيل ذلك لكان كل كافر شاتما وانما قيل ان الاعلان بمقابلة داعي الحق بقوله كذبت سب للأمة وشتم لها في اعتقاد النبوة وهوسب للنبوة كما ان الذين هجو من اتبع النبي على اتباعهم اياه كانوا سابين للنبي مثل شعر بنت مروان وشعر كعب بن زهير وغيرهما واما قول الكافر لن يعيدني كما بدأني فانه نفي لمضمون خبر الله بمنزلة سائر انواع الكفر # الثاني ان الكافر المكذب بالبعث لايقول ان الله اخبر انه سيعيدني ولا يقول ان هذا الكلام تكذيب لله وان كان تكذيبا
بخلاف القائل للرسول او لمن صدق الرسول كذبت فانه مقر بان هذا طعن على المكذب وعيب له وانتقاص به وهذا ظاهر وكل كلام تقدم ذكره في المسالة الاولى من نظم ونحوه عده النبي سبا حتى رتب على قائله حكم الساب فانه سب ايضا وكذلك ماكان في معناه وقد تقدم ذكر ذلك والكلام على اعيان الكلمات لا ينحصر وانما جماع ذلك ان ما يعرف الناس انه سب فهو سب وقد يختلف ذلك باختلاف الاحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام ونحو ذلك وما اشتبه فيه الامر الحق بنظيره وشبهه والله سبحانه اعلم
فصل # وكل ماكان من الذمي سبا ينقض عهده ويوجب قتله فان التوبة توبته منه لا تقبل على ما تقدم هذا هو الذي عليه عامة اهل العلم من اصحابنا وغيرهم # وقد تقدم عن الشيخ أبي محمد المقدسي رضي الله عنه انه قال ان الذمي اذا سب النبي ثم اسلم سقط عنه القتل وانه اذا قذفه ثم اسلم ففي سقوط القتل عنه روايتان وينبغي ان يبنى كلامه على انه ان سبه بما يعتقده فيه دينا سقط عنه القتل بإسلامه كاللعن والتقبيح ونحوه وان سبه بما لايعتقده فيه كالقذف لم يسقط عنه لان ما يعتقده فيه كفر محض سقط حده بالإسلام باطنا فيجب ان يسقط ظاهرا ايضا لان سقوط الاصل الذي هو الاعتقاد يستتبع سقوط فروعه واما ما لا يعتقده فهو فرية يعلم هو انها فرية فهي بمنزلة سائر حقوق الادميين وان حمل الكلام على ظاهره في انه يستثنى القذف فقط من بين سائر انواع السب فيمكن ان يوجه بان قذف غيره لما تغلظ بان جعل على صاحبه الحد المؤقت وهو ثمانون بخلاف غيره من انواع السب فان عقوبته التعزير
المفوض إلى اجتهاد ذي السلطان كذلك يفرق في حقه بين القذف وغيره فيجعل على قاذفه الحد مطلقا وهو القتل وان اسلم ويدرأ عن الساب الحد اذا تاب لكن هذا الفرق ليس بمرضي فان قذفه انما اوجب القتل ونقض العهد لما قدح في نسبه وكان ذلك قدحا في نبوته وهذا معنى يستوي فيه السب بالقذف وبغيره من انواع الاكاذيب بل قد توصف من الافعال او الاقوال المنكرة بما يلحق بالموصوف شيئا وغضاضة أعظم من هذا وانما فرق في حق غيره بين القذف وغيره لانه لا يمكن تكذيب القاذف به كما يمكن تكذيب غيره فصار العار به اشد # وهنا كلمات السب القادحة في النبوة سواء في العلم ببطلانها ظهورا وخفاء فان العلم بكذب القاذف كالعلم بكذب الناسب له إلى منكر من القول وزور لا فرق بينهما # وبالجملة فالمنصوص عن الإمام احمد وعامة اصحابه وسائر اهل العلم انه لافرق في هذا الباب بين السب بالقذف وغيره بل من قال انه ينتقض عهده ويتحتم قتله لم يفرق بين القذف وغيره ومن قال يسقط عنه القتل بإسلامه لم يفرق بين القذف وغيره ومن فرق من الفقهاء بين ما يعتقده وما لا يعتقده فانما فرق في انتقاض
العهد لا في سقوط القتل عنه بالإسلام لكن هو يصلح ان يكون معاضدا لقول الشيخ أبي محمد لانه فرق بين النوعين في الجملة واما الإمام احمد وسائر العلماء المتقدمين فانما خلافهم في السب مطلقا وليس في شئ من كلام الإمام احمد رضي الله عنه تعرض للقذف بخصوصه وانما ذكره اصحابه في القذف لانهم تكلموا في احكام القذف مطلقا فذكروا هذا النوع من القذف انه موجب للقتل وانه لا يسقط القتل بالتوبة لنص الإمام على ان السب الذي هو اعم من القذف موجب للقتل لا يستتاب صاحبه ثم منهم من ذكر المسالة بلفظ السب كما هي في لفظ احمد وغيره ومنهم من ذكرها بلفظ القذف لان الباب باب القذف فكان ذكرها بالاسم الخاص اظهر تاثيرا في الفرق بين هذا القذف وغيره ثم علل الجميع وادلتهم تعم انواع السب بل هي في غير القذف انص منها في القذف وانما تدل على القذف بطريق العموم او بطريق القياس والدليل يوافق ما ذكره الجمهور من التسوية كما تقدم ذكره نفيا واثباتا ولا حاجة إلى الاطناب هنا فان من سلم ان جميع انواع السب من القذف وغيره ينقض العهد ويوجب القتل ثم فرق بين بعضهما وبعض في السقوط بالإسلام فقد ابعد جدا لان السب لو كان بمنزلة الكفر عنده لم ينقض العهد ويوجب قتل الذمي واذا لم يكن بمنزلة الكفر فإسلامه اما ان يسقط الكفر فقط او يسقط الكفر وغيره من الجناية على عرض
الرسول فأما اسقاطه لبعض الجنايات دون بعض مع استوائهما في مقدار العقوبة فلا يتبين له وجه محقق # والاحتجاج بان الإسلام يسقط عقوبة من سب الله فاسقاطه عقوبة من سب النبي اولى ان صح فانما يدل على ان الإسلام يسقط عقوبة الساب مطلقا قذفا كان السب او غير قذف ونحن في هذا المقام لا نتكلم الا في التسوية بين انواع السب لا في صحة هذه الحجة وفسادها اذا قد تقدم التنبيه على ضعفها وذلك لان سب النبي ان جعل بمنزلة سب الله مطلقا وقيل بالسقوط في الاصل فيجب ان يقال بالسقوط في الفرع وان جعل بمنزلة سب الخلق او جعل موجبا للقتل حدا لله او سوي بين السبين في عدم السقوط ونحو ذلك من الماخذ التي تقدم ذكرها فلا فرق في هذا الباب بين القذف وغيره في السقوط بالإسلام فان الذمي لو قذف مسلما او ذميا او شتمه بغير القذف ثم اسلم لم يسقط عنه التعزير المستحق بالسب كما لا يسقط الحد المستحق بالقذف فعلم انهما سواء في الثبوت والسقوط وانما يختلفان في مقدار العقوبة بالنسبة إلى غير النبي اما بالنسبة إلى النبي فعقوبتهما سواء فلا فرق بينهما بالنسبة اليه البته # واذ قد ذكرنا حكم الساب للرسول فنردفه بما هو من جنسه مما قد تقدم في الادلة المذكورة باصل حكمه فان ذلك من تمام الكلام في هذه المسالة على ما لا يخفى ونفصله فصولا
فصل # في من سب الله تعالى # فان كان مسلما وجب قتله بالاجماع لانه بذلك كافر مرتد واسوأ من الكافر فان الكافر يعظم الرب ويعتقد ان ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له # ثم اختلف اصحابنا وغيرهم في قبول توبته بمعنى انه هل يستتاب كالمرتد ويسقط عنه القتل اذا اظهر التوبة من ذلك بعد رفعة إلى السلطان وثبوت الحد عليه على قولين # احدهما انه بمنزلة ساب الرسول فيه الروايتان كالروايتين في ساب الرسول هذه طريقة أبي الخطاب واكثر من احتذى حذوه من المتاخرين وهو الذي يدل عليه كلام الإمام احمد حيث قال كل من ذكر شئ يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان او كافرا وهذا مذهب اهل المدينة فاطلق وجوب القتل عليه
ولم يذكر استتابته وذكر انه قول اهل المدينة ومن وجب عليه القتل لم يسقط بالتوبة وقول اهل المدينة المشهور انه لايسقط القتل بتوبته ولو لم يرد هذا لم يخصه باهل المدينة فان الناس مجمعون على ان من سب الله تعالى من المسلمين يقتل وانما اختلفوا في توبته فلما اخذ بقول اهل المدينة في المسلم كما اخذ بقولهم في الذمي علم انه قصد محل الخلاف بين المدينين والكوفيين في المسالتين وعلى هذه الطريقة فظاهر المذهب انه لا يسقط القتل باظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول # وأما الرواية الثانية فان عبد الله قال سئل أبي عن رجل قال يا ابن كذا وكذا انت ومن خلقك قال أبي هذا مرتد عن الإسلام قلت لابي تضرب عنقه قال نعم نضرب عنقه فجعله من المرتدين # والرواية الاولى قول الليث بن سعد وقول مالك روى ابن القاسم عنه قال من سب الله تعالى من المسلمين قتل ولم يستتب الا ان يكون افترى على الله بارتداده إلى دين دان به واظهره فيستتاب وان لم يظهره لم يستتب وهذا قول ابن القاسم ومطرف وعبد الملك وجماهير المالكية
والثاني انه يستتاب وتقبل توبته بمنزلة المرتد المحض وهذا قول القاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وابي علي بن البناء وابن عقيل مع قولهم ان من سب الرسول لا يستتاب وهذا قول طائفة من المدنيين منهم محمد بن مسلمة والمخزومي وابن أبي حازم قالوا لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب وكذلك اليهودي والنصراني فان تابوا قبل منهم وان لم يتوبوا قتلوا ولا بد من الاستتابة وذلك كله كالردة وهو الذي ذكره العراقيون من المالكية
وكذلك ذكر اصحاب الشافعي رضي الله عنه قالوا سب الله ردة فاذا تاب قبلت توبته وفرقوا بينه وبين سب الرسول على أحد الوجهين وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة # واما من استتاب الساب لله ولرسوله فماخذه ان ذلك من انواع الردة ومن فرق بين سب الله والرسول قال سب الله تعالى كفر محض وهو حق لله وتوبة من لم يصدر منه الا مجرد الكفر الاصلي او الطارئ مقبولة مسقطة للقتل بالاجماع ويدل على ذلك ان النصارى يسبون الله بقولهم هو ثالث ثلاثة وبقولهم ان له ولدا كما اخبر النبي عن الله عز وجل انه قال شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن ادم وما ينبغي له ذلك فاما شتمه اياي فقوله ان ولدا وانا الاحد الصمد وقال سبحانه ^ لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة ^ إلى قوله ^ افلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ^ وهو سبحانه قد علم منه انه يسقط حقه عن التائب فان الرجل لو اتى من الكفر والمعاصي بملء الارض ثم تاب الله عليه وهو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضة ولا معرة وانما يعود ضرر السب على قائله وحرمته في قلوب العباد أعظم من ان يهتكها جرأة الساب وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول فان السب هناك قد تعلق به حق ادمي والعقوبة الواجبة لادمي لا تسقط بالتوبة والرسول تلحقه المعرة
والغضاضة بالسب فلا تقوم حرمته وتثبت في القلوب مكانته الا باصطلام سابه لما ان هجوه وشتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس ويقدح في مكانه في قلوب كثيره فان لم يحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك والا افضى الامر إلى فساد # وهذا الفرق يتوجه بالنظر إلى ان حد سب الرسول حقا لادمي كما يذكره كثير من الاصحاب وبالنظر إلى انه حق الله ايضا فان ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر الا باقامة الحد فاشبه الزاني والسارق والشارب اذا تابوا بعد القدرة عليهم # وايضا فان سب الله ليس له داع عقلي في الغالب واكثر ما هو سب في نفس الامر انما يصدر عن اعتقاد وتدين يراد به التعظيم لا السب ولا يقصد الساب حقيقة الاهانة لعلمه ان ذلك لا يؤثر بخلاف سب الرسول فانه في الغالب انما يقصد به الاهانة والاستخفاف والدواعي إلى ذلك متوفرة من كل كافر ومنافق وصار من جنس الجرائم التي تدعوا اليها الطباع فإن حدودها لا تسقط بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي اليها # ونكتة هذا الفرق ان خصوص سب الله تعالى ليس اليه داع غالب الاوقات فيندرج في عموم الكفر بخلاف سب الرسول فان لخصوصه دواعي متوفرة فناسب ان يشرع لخصوصه حد والحد المشروع لخصوصه لا يسقط بالتوبة كسائر الحدود فلما اشتمل سب
الرسول على خصائص من جهة توفر الدواعي اليه وحرص اعداء الله عليه وان الحرمة تنتهك به انتهاك الحرمات بانتهاكها وان فيه حق لمخلوق تحتمت عقوبته لا لانه اغلظ اثما من سب الله بل لان مفسدته لا تنحسم الا بتحتم القتل # الا ترى انه لاريب ان الكفر والردة أعظم اثما من الزنى والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر ثم الكافر والمرتد اذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما ولو تاب اولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم مع ان الكفر أعظم من الفسق ولم يدل ذلك على ان الفاسق أعظم اثما من الكافر فمن اخذ تحتم العقوبة سقوطها من كبر الذنب وصغره فقد نأى عن مسالك الفقه والحكمة # ويوضح ذلك انا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب ولا نقر واحدا منهم ولا من غيرهم على زنى ولا سرقة ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود وقد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لاجل الفاحشة والارض مملوئة من المشركين وهم في عافية وقد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي مرات والارض تلفظه في كل
ذلك فقال النبي ان الارض لتقبل من هو شر منه ولكن الله اراكم هذا لتعتبروا ولهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر والاعراض والجلد وغير ذلك بما لايعاقب به الكافر الذمي مع ان ذلك احسن حالا عند الله وعندنا من الكافر # فقد رايت العقوبات المقدورة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبة ما هو اشد منها وسبب ذلك ان الدنيا في الاصل ليست دار الجزاء وانما الجزاء يوم الدين يوم يدين الله العباد باعمالهم ان خيرا فخير وان شرا فشر لكن ينزل الله سبحانه من العقاب ويشرع من الحدود بمقدار ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يختص فاعله او ما يطهر الفاعل من خطيئته او لتغلظ الجرم او لما يشاء سبحانه فالخطيئة اذا خيف ان يتعدى ضررها فاعلها لم تنسحم مادتها الا بعقوبة فاعلها فلما كان الكفر والردة اذا قبلت التوبة منه بعد القدرة لم تترتب على ذلك مفسدة تتعدى التائب وجب قبول التوبة لان احدا لايريد ان يكفر او يرتد ثم اذا اخذ اظهر التوہة لعلمه ان ذلك لا يحصل
مقصوده بخلاف اهل الفسوق فانه اذا اسقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحا لباب الفسوق فان الرجل يعمل ما اشتهى ثم اذا اخذ قال اني تائب وقد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها فكذلك سب الله هو أعظم من سب الرسول لكن لا يخاف ان النفوس تتسرع إلى ذلك اذا استتيب فاعله وعرض على السيف فانه لا يصدر غالبا الا عن اعتقاد وليس للخلق اعتقاد يبعثهم على اظهار السب لله تعالى واكثر ما يكون ضجرا وتبرما وسفها وروعه بالسيف والاستتابة تكف عن ذلك بخلاف اظهار سب الرسول فان هناك دواعي متعددة تبعث عليه متى علم صاحبها انه اذا اظهر التوبة كف عنه لم يزعه ذلك عن مقصوده # ومما يدل على الفرق من جهة السنة ان المشركين كانوا يسبون الله بانواع السب ثم لم يتوقف النبي في قبول إسلام أحد منهم ولا عهد بقتل واحد منهم بعينه وقد توقف في قبول توبة من سبه مثل أبي سفيان وابن أبي امية وعهد بقتل من كان يسبه من الرجال والنساء مثل الحويرث بن نقيد والقينتين وجارية لبني عبد المطلب ومثل الرجال والنساء الذين امر بقتلهم بعد الهجرة وقد تقدم الكلام على تحقيق الفرق عند من يقول به بما هو ابسط من هذا في المسالة الثالثة
واما من قال لا تقبل توبة من سب الله سبحانه وتعالى كما لا تقبل توبة من سب الرسول فوجهه ما تقدم من عمر رضى الله تعالى عنه من التسوية بين سب الله وسب الانبياء في ايجاب القتل ولم يامر بالاستتابة مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد لكن قد ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما انه يستتاب لانه كذب النبي فيحمل ذلك على السب الذي يتدين به # وايضا فان السب ذنب منفرد عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد فان الكافر يتدين بكفره ويقول انه حق ويدعوا اليه وله عليه موافقون وليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافا واستهزاء وسبا لله وان كان في الحقيقة سبا كما انهم لا يقولون انهم ضلال جهال معذبون اعداء الله وان كانوا كذلك واما الساب فانه مظهر للتنقص والاستخفاف والاستهانة بالله منتهك لحرمته انتهاكا يعلم من نفسه انه منتهك مستخف مستهزىء ويعلم من نفسه انه قد قال عظيما وان السموات والارض تكاد تنفطر من مقالته وتخر الجبال وان ذلك أعظم من كل كفر وهو يعلم ان ذلك كذلك ولو قال بلسانه اني كنت لا اعتقد وجود الصانع ولا عظمته والان فقد رجعت عن ذلك علمنا انه كاذب فان فطر الخلائق كلها مجبولة على الاعتراف بوجود الصانع وتعظيمه فلا شبهة تدعوه إلى هذا السب ولا شهوة له في ذلك بل
هو مجرد سخرية واستهزاء واستهانة وتمرد على رب العالمين تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب او من سفيه لا وقار لله عنده كصدور قطع الطريق والزنى عن الغضب والشهوة واذا كان كذلك وجب ان يكون للسب عقوبة تخصه حدا من الحدود وحينئذ فلا تسقط تلك العقوبة باظهار التوبة كسائر الحدود # ومما يبين ان السب قدر زائد على الكفر قوله تعالى ^ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ^ # ومن المعلوم انهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله ثم نهى المسلمون ان يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم الله فعلم ان سب الله أعظم عنده من ان يشرك به ويكذب رسوله ويعادني فلابد له من عقوبة تختصه لما انتهكه من حرمة الله كسائر اللحرمات التي تنتهكها بالفعل واولى ولا يجوز ان يعاقب على ذلك بدون القتل لان ذلك أعظم الجرائم فلا يقابل الا بابلغ العقوبات # ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة واعد لهم عذابا مهينا ^ فانها تدل على قتل من يؤذي الله كما تدل على قتل من يؤذي رسوله والاذى المطلق انما هو باللسان وقد تقدم تقرير هذا
وايضا فانا اسقاط القتل عنه باظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله سبحانه فانه لا يشاء شاء ان يفعل ذلك ثم اذا اخذ أظهر التوبة الا فعل كما في سائر الجرائم الفعلية # وايضا فانه لم ينتقل إلى دين يريد المقام عليه حتى يكون الانتقال عنه تركا له وانما فعل جريمة لا تستدام بل هي مثل الافعال الموجبة للعقوبات فتكون العقوبة على نفس تلك الجريمة الماضية ومثل هذا لا يستتاب وانما يستتاب من يعاقب على ذنب مستمر من كفر او ردة # وايضا فإن استتابة مثل هذا توجب ان لايقام حد على ساب لله فانا نعلم ان ليس أحد من الناس مصرا على السب لله الذي يرى انه سب فان ذلك لا يدعو اليه عقل ولا طبع وكل ما افضى إلى تعطيل الحدودبالكلية كان باطلا ولما كان استتابة الفساق بالافعال يفضي إلى تعطيل الحدود لم يشرع مع ان احدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه اليه طبعه وكذلك المستتاب من سب الرسول فلا يتوب لما يستحله من سبه فاستتابة الساب لله الذي يسارع إلى اظهار التوبة منه كل أحد اولى ان لا يشرع اذا تضمن تعطيل الحد واوجب ان تمضمض الافواه بهتك حرمة اسم الله والاستهزاء به # وهذا كلام فقيه لكن يعارضه ان ما كان بهذه المثابة لايحتاج إلى تحقيق اقامة الحد ويكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب
ولمن ينصر الاول ان يقول تحقيق اقامة الحد على الساب لله ليس لمجرد زجر الطباع عما تهوى بل تعظيما لله واجلالا لذكره واعلاء لكلمته وضبطا للنفوس ان تتسرع إلى الاستهانة بجنابه وتقييدا للالسن ان تتفوه بالانتقاص لحقه # وايضا فان حد سب المخلوق وقذفه لا يسقط باظهار التوبة فحد سب الخالق اولى # وايضا فحد الافعال الموجبة للعقوبة لا تسقط باظهار التوبة فكذلك حد الاقوال بل شأن الاقوال وتاثيرها أعظم # وجماع الامر ان كل عقوبة وجبت جزاء ونكالا على فعل او قول ماض فانها لاتسقط اذا اظهرت التوبة بعد الرفع إلى السلطان فسب الله اولى بذلك ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد لان العقوبة هناك انما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي فلا يصلح نقضا لوجهين # احدهما ان عقوبة الساب لله ليست لذنب استصحبه واستدامه فانه بعد انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه وعقوبة الكافر والمرتد انما هي الكفر الذي هو مصر عليه مقيم على اعتقاده
الثاني ان الكافر انما يعاقب على اعتقاد هو الان في قلبه وقوله وعمله دليل على ذلك الاعتقاد حتى لو فرض ان علمنا ان كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقاد لموجبها لم نكفره بان يكون جاهلا بمعناها او مخطئا قد غلط وسبق لسانه اليها مع قصد خلافها ونحو ذلك والساب انما يعاقب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فيقتل وان علمنا انه لا يستحسن السب لله ولا يعتقده دينا اذ ليس أحد من البشر يدين بذلك ولا ينتقض هذا ايضا بترك الصلاة والزكاة ونحوهما فانهم انما يعاقبون على دوام الترك لهذه الفرائض فاذا فعلوها زال الترك وان شئت ان تقول الكافر والمرتد وتاركوا الفرائض يعاقبون على عدم فعل الايمان والفرائض اعني على دوام هذا العدم فاذا وجد الايمان والفرائض امتنعت العقوبة لانقطاع العدم وهؤلاء يعاقبون على وجود الاقوال والافعال الكبيرة لاعلى دوام وجودها فاذا وجدت مرة لم يرتقع ذلك بالترك بعد ذلك # وبالجملة فهذا القول له توجه وقوة وقد تقدم ان الردة نوعان مجردة ومغلظة وبسطنا هذا القول فيما تقدم في المسالة الثالثة ولا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الاثم بالتوبة النصوح # ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكا اخر وهو انه جعله من باب الزنديق كاحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب
الرسول لان وجود السب منه مع اظهاره للإسلام دليل على خبث سريرته لكن هذا ضعيف فان الكلام هنا انما هو في سب لا يتدين به فان السب الذي يتدين به كالتثليث ودعوى الصاحبة والولد فحكمه حكم انواع الكفر وكذلك المقالات المكفرة مثل مقالة الجهمية والقدرية وغيرهم من صنوف البدع # واذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فانه يؤدب ادبا وجيعا حتى يردعه عن العود إلى مثل ذلك هكذا ذكره بعض اصحابنا وهو قول اصحاب مالك في كل مرتد
فصل # وان كان الساب لله ذميا فهو كما لو سب الرسول وقد تقدم نص الإمام أحمد على أن من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه فانه يقتل سواء كان مسلما أو كافرا وكذلك اصحابنا قالوا من ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء فجعلوا الحكم فيه واحدا وقالوا الخلاف في ذكر الله وفي ذكر النبي سواء وكذلك مذهب مالك واصحابه وكذلك اصحاب الشافعي ذكروا لمن سب الله أو رسوله أو كتابه من أهل الذمة حكما واحدا لكن هنا مسألتان # أحداهما ان سب الله تعالى على قسمين # أحدهما أن يسبه بما لا يتدين به مما هو استهانة به عند المتكلم وغيره مثل اللعن والتقبيح ونحوه فهذا هو السب الذي لا يرب فيه # والثاني أن يكون مما يتدين به ويعتقده تعظيما ولا يراه سبا ولا انتقاصا مثل قول النصراني ان له ولدا وصاحبة ونحوه فهذا مما اختلف فيه اذا اظهره الذمي فقال القاضي وابن عقيل من اصحابنا ينتقض به العهد كما ينتقض اذا اظهروا اعتقادهم في النبي وهو
مقتضى ما ذكره الشريف أبو جعفر وابو الخطاب وغيرهما فانهم ذكروا ان ما ينقض الايمان ينقض الذمة ويحكى ذلك عن طائفة من المالكية ووجه ذلك انا عاهدناهم على ان لايظهروا شيئا من الكفر وان كانوا يعتقدونه فمتى اظهروا مثل ذلك فقد اذوا الله ورسوله والمؤمنين بذلك وخالفوا العهد فينتقض العهد بذلك كسب النبي وقد تقدم عن عمر رضي الله عنه انه قال للنصراني الذي كذب بالقدرلئن عدت إلى مثل ذلك لاضربن عنقك وقد تقدم ما يقرر ذلك # والمنصوص عن مالك ان من شتم الله من اليهودوالنصارى بغير
الوجه الذي كفروا به قتل ولم يستتب قال ابن القاسم الا ان يسلم تطوعا فلم يجعل ما يتدين به الذمي سبا وهذا قول عامة المالكية وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه ذكره اصحابه وهو منصوصه قال في الام في تحديد الإمام ما ياخذه من اهل الذمة وعلى ان لايذكر وا رسول الله الا بما هو اهله ولا يطعنوا في دين الإسلام ولا يعيبوا من حكمة شيئا فان فعلوه فلا ذمة لهم وياخذ عليهم ان لايسمعوا المسلمين شركهم وقولهم في عزير وعيسى فان وجودهم فعلوا بعد التقدم في عزير وعيسى اليهم عاقبهم على ذلك عقوبة لا يبلغ بها حدا لانهم قد اذن لهم بإقرارهم على دينهم مع علم ما يقولون وهذا ظاهر كلام الإمام احمد لانه سئل عن يهودي مر بمؤذن فقال له كذبت فقال يقتل لانه شتم فعلل قتله بانه شتم فعلم ان ما يظهر به من دينه الذي ليس بشتم ليس كذلك وقال رضي الله عنه من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تعالى فعليه القتل مسلما كان او كان كافرا وهذا مذهب اهل المدينة وانما مذهب اهل المدينة فيما هو سب عند القائل وذلك ان هذا القسم ليس من باب السب والشتم الذي يلحق بسب الله وسب النبي لان الكافر لايقول هذا طعنا ولا عيبا وانما يعتقده تعظيما واجلالا وليس هو ولا أحد من الخلق يتدين
بسب الله تعالى بخلاف ما يقال في حق النبي من السوء فانه لايقال الا طعنا وعيبا وذلك ان الكافر يتدين بكثير من تعظيم الله وليس يتدين بشيء من تعظيم الرسول الا ترى انه اذ قال في محمد هو ساحر او شاعر فهو يقول ان هذا نقص وعيب واذا قال ان المسيح او عزيرا ابن الله فليس يقول ان هذا نقص وعيب وان كان هذا عيبا ونقصا في الحقيقة وفرق بين قول يقصد به قائله العيب والنقص وقول لا يقصد به ذلك ولا يجوز ان يجعل قولهم في الله تقولهم في الرسول بحيث يجعل الجميع نقضا للعهد اذ يفرق في الجميع بين ما يعتقدونه وما لا يعتقدونه لان قولهم في الرسول كله طعن في الدين وغضاضة على الإسلام واضهار لعداوة المسلمين يقصدون به عيب الرسول ونقصه وليس مجرد قولهم الذي يعتقدونه في الله مما يقصدون به عيب الله ونقصه الا ترى ان قريشا كانت تقار النبي على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده ولا يقارونه على عيب الهتهم والطعن في دينهم وذم ابائهم وقد نهى الله المسلمين ان يسبوا الاوثان لئلا يسب المشركون الله سبحانه مع كونهم لم يزالوا على الشرك فعلم ان محذور سب الله اغلظ من محذور الكفربه فلايجعل حكمهما واحدا
المسالة الثانية # في استتابة الذمي من هذا وقبل توبته # اما القاضي وجمهور اصحابه مثل الشريف وابن والبناء وابن عقيل ومن تبعهم فانهم يقبلون توبته ويسقطون عنه القتل بها وهذا ظاهر على اصلهم فانهم يقبلون توبة المسلم اذا سب الله فتوبة الذمي اولى وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلامه حيث قال في شروط اهل الذمة وعلى ان احدا منكم ان ذكر محمدا او كتاب الله ودينه بما لاينبغي فقد برئت منه ذمة الله ثم قال وايهم قال او فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد واسلم لم يقتل اذا كان قولا الا انه لم يصرح بالسب لله فقد يكون عنى اذا ذكروا ما يعتقدونه وكذلك قال ابن القاسم وغيره من المالكية انه يقتل الا ان
يسلم وقال ابن مسلمة وابن أبي حازم والمخزومي انه لا يقتل حتى يستتاب فان تاب والا قتل والمنصوص عن مالك انه يقتل ولا يستتاب كما تقدم وهذا معنى قول احمد رضي الله عنه في احدى الروايتين # قال في رواية حنبل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب فعليه القتل مسلما كان او كافرا وهذا مذهب اهل المدينة وظاهر هذه العبارة ان القتل لا يسقط عنه بالتوبة كما لا يسقط القتل عن المسلم بالتوبة فانه قال مثل هذه العبارة في شتم النبي في رواية حنبل ايضا قال كل من شتم النبي مسلما كان او كافرا فعليه القتل وكان حنبل يعرض عليه مسائل المدنيين ويساله عنها # ثم ان اصحابنا فسروا قوله في شاتم النبي بانه لايسقط عنه
القتل بالتوبة مطلقا وقد تقدم توجيه ذلك وهذا مثله وهذا ظاهر اذا قلنا ان المسلم الذي يسب الله لا يسقط عنه القتل بالتوبة لان المأخذ عندنا ليس هو الزندقة فانه لو اظهر كفرا غير السب استتبناه وانما المأخذ ان يقتل عقوبة على ذلك وحدا عليه مع كونه كافرا كما يقتل لسائر الافعال # ويظهر الحكم في المسألة بان يرتب هذا السب ثلاث مراتب # المرتبة الاولى أن من شان الرب بما يتدين به وليس فيه سب لدين الإسلام الا انه سب عند الله تعالى مثل قول النصارى في عيسى ونحو ذلك فقد قال الله تعالى فيما يرويه عنه رسوله شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك ثم قال واما شتمه اياي فقوله اني اتخذت ولدا وانا الاحد الصمد الذي لم الد ولم اولد فهذا القسم حكمة حكم سائر أنواع الكفر سميت شتما أو لم تسم وقد ذكرنا الخلاف في انتقاض العهد باظهار مثل هذا واذا قيل بانتقاض العهد به فسقوط القتل عنه بالإسلام متوجه وهو في الجملة قول الجمهور # المرتبة الثانية ان يذكر ما يتدين به وهو سب لدين المسلمين وطعن عليهم كقول اليهودي للمؤذن كذبت وكرد النصراني على عمر رضي الله عنه وكما لو عاب شيئا من احكام
الله او كتابه ونحو ذلك فهذا حكمه حكم سب الرسول في انتقاض العهد به وهذا القسم هو الذي عناه الفقهاء في نواقض العهد حيث قالوا اذا ذكر الله او كتابه او رسوله او دينه بسوء ولذلك اقتصر كثير منهم على قوله او ذكر كتاب الله او دينه او رسوله بسوء واما سقوط القتل عنه بالإسلام فهو كسب الرسول الا ان في ذلك حقا لادمي فمن سلك ذلك المسلك في سب اللرسول فرق بينه وبين هذا وهي طريقة القاضي واكثر اصحابه ومن قتله لما في ذلك من الجناية على الإسلام وانه محارب لله ورسوله فانه يقتل بكل حال وهو مقتضى أكثر الادلة التي تقدم ذكرها # المرتبة الثالثة ان يسبه بما لايتدين به بل هو محرم في دينه كما هو محرم في دين الله تعالى كاللعن والتقبيح ونحو ذلك فهذا النوع لا يظهر بينه وبين سب المسلم فرق بل ربما كان فيه اشد لانه يعتقد تحريم مثل هذا الكلام في دينه كما يعتقد المسلمون تحريمه وقد عاهدناه على ان نقيم عليه الحد فيما يعتقد تحريمه فإسلامه لم يجدد له اعتقادا لتحريمه بل هو فيه كالذمي اذا زنى او قتل او سرق ثم اسلم سواء ثم هو مع ذلك مما يؤذي المسلمين كسب الرسول بل اشد فاذا قلنا لا تقبل توبة المسلم من سب الله فان نقول لا تقبل توبة الذمي اولى بخلاف سب الرسول فانه يتدين بتقبيح من يعتقد كذبه ولا يتدين
بتقبيح خالقه الذي يقر انه خالقه وقد يكون من هذا الوجه اولى بان لايسقط عنه القتل ممن سب الرسول ولهذا لم يذكر عن مالك نفسه واحمد استثناء فيمن سب الله تعالى كما ذكر عنهما الاستثناء فيمن سب الرسول وان كان كثير من اصحابهما يرون الامر بالعكس وانما قصدا هذا الضرب من السب ولهذا قرنا بين المسلم والكافر فلابد ان يكون سبا منهما واشبه شئ بهذا الضرب من الافعال زناه بمسلمة فانه محرم في دينه مضر بالمسلمين فاذا اسلم لم يسقط عنه بل اما ان يقتل او يحد حد الزنى كذلك سب الله تعالى حتى لو فرض ان هذا الكلام لا ينقض العهد لوجب ان يقام عليه حده لان كل امر يعتقده محرما فانا نقيم عليه فيه حد الله الذي شرعه في دين الإسلام وان لم يعلم ما حده في كتابه مع ان الاغلب على القلب ان اهل الملل كلهم يقتلون على مثل هذا الكلام كما ان حده في دين الله القتل الا ترى ان النبي لما اقام على الزاني منهم حد الزنى قال اللهم اني أول من احيا امرك اذ اماتوه ومعلوم ان ذلك الزاني منهم لم يكن يسقط الحد عنه لو اسلم فإقامة الحد على من سب الرب تبارك وتعالى سبا هو سب في دين الله ودينهم عظيم عند الله وعندهم اولى ان يحيا فيه امر الله ويقام عليه حده
وهذا القسم قد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة اقوال # احدها ان الذمي يستتاب منه كما يستتاب المسلم منه وهذا قول طائفة من المدنيين كما تقدم وكان هؤلاء لم يروه نقضا للعهد لان ناقض العهد يقتل كما يقتل المحارب ولا معنى لاستتابة الكافر الاصلي والمحارب وانما رأوا حده القتل فجعلوه كالمسلم وهو يستتيبون المسلم فكذلك يستتاب الذمي على قول هؤلاء فالأشبه ان استتابة من السب لا تحتاج إلى إسلامه بل تقبل توبته مع بقائه على دينه # القول الثاني انه لايستتاب لكن ان اسلم لم يقتل وهذا قول ابن القاسم وغيره وهو قول الشافعي وهو احدى الروايتين عن احمد وعلى طريقة القاضي لم يذكر فيه خلاف بناء على انه قد نقض عهده فلا يحتاج قتله إلى استتابة لكن اذا اسلم سقط عنه القتل كالحربي # القول الثالث انه يقتل بكل حال وهو ظاهر كلام مالك واحمد لان قتله وجب على جرم محرم في دين الله وفي دينه فلم يسقط عنه موجبه بالإسلام كعقوبته على الزنى والسرقة والشرب وهذا القول هو الذي يدل عليه أكثر الادلة المتقدم ذكرها
فصل # السب الذي ذكرنا حكمه من المسلم هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحوه وهو الذي دل عليه قوله تعالى ^ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ^ # فهذا أعظم ما تفوه به الالسنة فاما ما كان سبا في الحقيقة والحكم لكن من الناس من يعتقده دينا ويراه صوابا وحقا ويظن ان ليس فيه انتقاص ولاتعييب فهذا نوع من الكفر حكم صاحبه اما حكم المرتد المظهر للردة او المنافق المبطن للنفاق والكلام في الكلام الذي يكفر به صاحبه او لايكفر وتفصيل الاعتقادات وما يوجب منها الكفر او البدعة فقط وما اختلف فيه من ذلك ليس هذا موضعه وانما الغرض ان لايدخل هذا في قسم السب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيا واثباتا والله اعلم
فصل # فان سب موصوفا بوصف او مسمى باسم وذلك يقع على الله سبحانه او بعض رسله خصوصا او عموما لكن قد اظهر انه لم يقصد ذلك اما لاعتقاده ان الوصف او الاسم لا يقع عليه او لانه وان كان يعتقد وقوعه عليه لكن ظهر انه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره فهذا القول وشبهه حرام في الجملة يستتاب صاحبه منه ان لم يعلم انه حرام ويعزر مع العلم تعزيرا بليغا لكن لا يكفر بذلك ولايقتل وان كان يخاف عليه الكفر # مثال الاول سب الدهر الذي فرق بينه وبين الاحبة او الزمان الذي احوجه إلى الناس او الوقت الذي ابلاه بمعاشرة من ينكد عليه ونحو ذلك مما يكثر الناس قوله نظما ونثرا فانه انما يقصد ان يسب من فعل ذلك به ثم انه يعتقد او يقول ان فاعل ذلك هو الدهر الذي هو الزمان فيسبه وفاعل ذلك انما هو الله سبحانه فيقع السب عليه من حيث لم يعتمده المرء والى هذا اشار النبي بقوله لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر بيده الامر وقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى يقول ابن ادم يا خيبة الدهر وانا الدهر بيدي الامر أقلب الليل والنهار فقد نهى النبي عن هذا القول وحرمه ولم يذكر
كفرا ولا قتلا والقول المحرم يقتضي التعزيز والتنكيل # ومثال الثاني ان يسب مسمى باسم عام يندرج فيه الانبياء وغيرهم لكن يظهر انه لم يقصد الانبياء من ذلك العام مثل ما نقل الكرماني قال سالت احمد قلت رجل افترى على رجل فقال يا ابن كذا وكذا إلى ادم وحواء فعظم ذلك جدا وقال نسال الله العافية لقد اتى هذا عظيما وسئل عن الحد فيه فقال لم يبلغني في هذا شيء وذهب إلى حد واحد وذكر هذا أبو بكر عبد العزيز ايضا فلم يجعل احمد رضي الله عنه بهذا القول كافرا مع ان اللفظ يدخل فيه نوح وادريس وشيث وغيرهم من النبيين لان الرجل لم يدخل ادم وحواء في عمومه وانما جعلها غاية وحدا لمن قذفه والا لو كانا من المقذوفين تعين قتله بلا ريب ومثل هذا العموم في مثل هذا الحال لايكاد يقصد به صاحبه من يدخل فيه من الانبياء فعظم الإمام احمد ذلك لان احسن احواله ان يكون قذف خلقا من المؤمنين ولم يوجب الا حدا واحدا لان الحد هنا ثبت للحي ابتداء على اصله وهو واحد وهذا قول أكثر المالكية في مثل ذلك
ذهب سحنون واصبغ وغيرهما في رجل قال له غريمه صلى الله على النبي محمد فقال له الطالب لا صلى الله على من صلى عليه قال سحنون ليس هو كمن شتم النبي او شتم الملائكة الذين يصلون عليه اذا كان على ما وصف من الغضب لانه انما شتم الناس وقال اصبغ وغيره لا يقتل انما شتم الناس وكذلك قال ابن أبي زيد فيمن قال لعن الله العرب ولعن الله بني إسرائيل ولعن الله بني ادم وذكر انه لم يرد الانبياء وانما اردت الظالمين منهم ان عليه الادب بقدر اجتهاد السلطان # وذهب طائفة منهم الحارث بن مسكين وغيره إلى القتل في
مسالة المصلي ونحوها وكذلك قال أبو موسى بن مناس فيمن قال لعنه الله إلى ادم أنه يقتل وهذه مسألة الكرماني بعينها وهذا قياس أحد الوجهين لاصحابنا فيمن قال عصيت الله في كل ما امرني به فان أكثر اصحابنا قالوا ليس ذلك بيمين لانه انما التزم المعصية كما لو قال محوت المصحف او شربت الخمر ان فعلت كذا ولم يظهر قصد ارادة الكفر من هذا العموم لانه لو اراده لذكره باسمه الخاص ولم يكتف بالاسم الذي يشركه فيه جميع المعاصي # ومنهم من قال هو يمين لان مما امره الله به الايمان ومعصيته فيه كفر ولو التزم الكفر بيمينه بان قال هو يهودي او نصراني او هو برئ من الله او من الإسلام او هو يستحل الخمر والخنزير او لايراه الله في مكان كذا ان فعل كذا ونحوه كان يمينا في المشهور عنه
ووجه هذا القول ان اللفظ عام فلا يقبل منه دعوى الخصوص ولعل من يختار هذا يحمل كلام الإمام احمد على ان القائل كان جاهلا بان في النسب انبياء # ووجه الاول ان أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي امية في المراة التي كانت تهجو المسلمين يلومه على قطع يدها ويذكر له انه كان الواجب ان يعاقبها بالضرب مع ان الانبياء يدخلون في عموم هذا اللفظ ولان الالفاظ العامة قد كثرت وغلب ارادة الخصوص بها فاذا كان اللفظ لفظ سب وقذف وللأنبياء ونحوهم من الخصائص والمزايا ما يوجب ذكرهم بأخص اسمائهم اذا اريد ذكرهم والغضب يحمل الانسان على التجوز في القول والتوسع فيه كان ذلك قرائن عرفية ولفظية وحالية في انه لم يقصد دخولهم في العموم لا سيما اذا كان دخول ذلك الفرد في العموم لا يكاد يشعر به # ويؤيد هذا ان يهوديا قال في عهد النبي والذي اصطفى
موسى على العالمين فلطمه المسلم حتى شكاه إلى النبي ونهى النبي عن تفضيله على موسى لما فيه من انتقاض المفضول بعينه والغض منه ولو ان اليهودي اظهر القول بان موسى أفضل من محمد لوجب التعزير عليه اجماعا أما بالقتل او بغيره كما تقدم التنبيه عليه
فصل # والحكم في سب سائر الانبياء كالحكم في سب نبينا فمن سب نبيا مسمى باسمه من الانبياء المعروفين كالمذكورين في القران او موصوفا بالنبوة مثل ما يذكر حديثا ان نبيا فعل كذا او قال كذا فيسب ذلك القائل او الفاعل مع العلم بانه نبي وان لم يعلم من هو أو يسب نوع الانبياء على الاطلاق فالحكم في هذا كما تقدم لان الايمان بهم واجب عموما وواجب الايمان خصوصا بمن قصه الله علينا في كتابه وسبهم كفر وردة ان كان من مسلم ومحاربة ان كان من ذمي
وقد تقدم في الادلة الماضية ما يدل على ذلك بعمومه لفظا او معنى وما اعلم احدا فرق بينهما وان كان أكثر كلام الفقهاء انما فيه ذكر من سب نبيا فانما ذلك لمسيس الحاجة اليه وانه وجب التصديق له والطاعة له جملة وتفضيلا ولا ريب ان جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره كما ان حرمته أعظم من حرمة غيره وان شاركه سائر اخوانه من النبيين والمرسلين في ان سابهم كافر محارب حلال الدم # فاما ان سب نبيا غير معتقد لنبوته فانه يستتاب من ذلك اذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب والسنة لان هذا جحد لنبوته ان كان ممن يجهل انه نبي واما ان كان ممن لايجهل انه نبي فانه سب محض ولا يقبل قوله اني لم اعلم انه نبي
فصل # فاما من سب ازواج النبي فقال القاضي أبو يعلى من قذف عائشة بما براها الله منه كفر بلا خلاف وقد حكى الاجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الائمة بهذا الحكم # فروي عن مالك من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل قيل له لم قال من رماها فقد خالف القران ولان الله تعالى قال ^ يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا كنتم مؤمنين ^ # وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري سمعت القاسم بن محمد
يقول لاسماعيل بن اسحاق اتى المأمون بالرقة برجلين شتم احدهما فاطمة والاخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الاخر فقال إسماعيل ما حكمهما الا ان يقتلا لان الذي شتم عائشة رد القران وعلى هذا مضت سيرة اهل الفقه والعلم من اهل البيت وغيرهم
قال أبو السائب القاضي كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين الف دينار إلى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال يا غلام اضرب عنقه فقال له العلويون هذا رجل من شيعتنا فقال معاذ الله هذا رجل طعن على النبي قال الله تعالى ^ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات
والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات اولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ^ فان كانت عائشة خبيثة فالنبي خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه فضربوا عنقه وانا حاضر رواه اللالكائي # وروي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد انه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام اليه بعمود فضرب به دماغه فقتله فقيل له هذا من شيعتنا ومن يتولانا فقال هذا سمى جدي قرنان
ومن مسمي جدي قرنان استحق القتل فقتله # واما من سب غير عائشة من ازواجه ففيه قولان # احدهما انه كساب غيرهن من الصحابة على ما سيأتي # والثاني وهو الاصح ان من قذف واحدة من امهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس وذلك لان هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله واذى له أعظم من اذاه بنكاحهن بعده وقد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله ^ ان الذين يؤذون الله ورسوله ^ الاية والامر فيه ظاهر
فصل # فاما من سب احدا من اصحاب رسول الله من اهل بيته وغيرهم فقد اطلق الإمام احمد انه يضرب ضربا نكالا وتوقف عن كفره وقتله # قال أبو طالب سألت احمد عمن شتم اصحاب النبي قال القتل اجبن عنه ولكن اضربه ضربا نكالا # وقال عبد الله سألت أبي عمن شتم رجلا من اصحاب النبي قال ارى ان يضرب قلت له حد فلم يقف على الحد الا انه قال يضرب وقال ما اراه على الإسلام # وقال سالت أبي من الرافضة فقال الذين يشتمون
او يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما # وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس احمد بن يعقوب الاصطخري وغيره وخير الامة بعد النبي أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون ثم اصحاب رسول الله بعد هؤلاء الاربعة خير الناس لا يجوز لاحد ان يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب
على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له ان يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه وان ثبت اعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت او يراجع # وحكى الإمام احمد هذا عمن ادركه من اهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن اسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم # وقال الميموني سمعت احمد يقول ما لهم ولمعاوية نسأل الله
العافية وقال لي يا أبا الحسن اذا رأيت احدا يذكر اصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على الإسلام # فقد نص رضي الله عنه على جواب تعزيره واستتابة حتى يرجع بالجلد وان لم ينته حبس حتى يموت او يراجع وقال ما اراه على الإسلام واتهمه على الإسلام وقال اجبن عن قتله # وقال اسحاق بن راهويه من شتم اصحاب النبي يعاقب ويحبس # وهذا قول كثير اصحابنا منهم ابن أبي موسى قال ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة الا ان يتوب ويظهر توبته وهذا في الجملة قول عمر بن
عبد العزيز وعاصم الاحول وغيرهما من التابعين # قال الحارث بن عتبة ان عمر بن عبد العزيز اتى برجل سب عثمان فقال ما حملك على ان سببته قال ابغضه قال وان ابغضت رجلا سببته قال فامر به فجلد ثلاثين سوطا # وقال إبراهيم بن ميسرة ما رايت عمر بن عبد العزيز ضرب انسانا قط الا انسانا شتم معاوية فضربه اسواطا رواهما اللالكائي
وقد تقدم انه كتب في رجل سبه لا يقتل الا من سب النبي ولكن اجلده فوق راسه اسواطا ولولا اني رجوت ان ذلك خير له لم افعل # وروى الإمام احمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الاحول قال اتيت برجل قد سب عثمان قال فضربته عشرة اسواط قال ثم عاد لما قال فضربته عشرة اخرى قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا # وهذا هو المشهور من مذهب مالك قال مالك من شتم النبي قتل ومن شتم اصحابه ادب # وقال عبد الملك بن حبيب من غلا من الشيعة إلى بغض
عثمان والبراءة منه ادب ادبا شديدا ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه اشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل الا في سب النبي # وقال ابن المنذر لا اعلم احدا يوجب قتل من سب من بعد النبي # وقال القاضي أبو يعلى الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة ان كان مستحلا لذلك كفر وان لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم او طعن في دينهم مع إسلامهم # وقد قطع طائفة من الفقهاء من اهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة قال محمد بن يوسف الفريابي وسئل عمن
شتم أبا بكر قال كافر قيل فيصلى عليه قال لا وسأله كيف يصنع به وهو يقول لا اله الا الله قال لا تمسوه بايديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته # وقال احمد بن يونس لو ان يهوديا ذبح شاة وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي ولم اكل ذبيحة الرافضي لانه مرتد عن الإسلام # وكذلك قال أبو بكر بن هانيء لا تؤكل ذبيحة الروافض
والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع انه تؤكل ذبيحة الكتابي لان هؤلاء يقامون مقام المرتد واهل الذمة يقرون على دينهم وتؤخذ منهم الجزية # وكذلك قال عبد الله بن ادريس من اعيان ائمة الكوفة ليس لرافضي شفعه لانه لا شفعة الا لمسلم # وقال فضيل بن مرزوق سمعت الحسن بن الحسن يقول
لرجل من الرافضة والله ان قتلك لقربة إلى الله وما امتنع من ذلك الا بالجوار وفي رواية قال رحمك الله قد عرفت انما تقول هذا تمزح قال لا والله ما هو بالمزح ولكنه الجد قال وسمعته يقول لئن امكننا الله منكم لنقطعن ايديكم وارجلكم # وصرح جماعات من اصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم # وقال أبو بكر عبد العزيز في المقنع واما الرافضي فان كان
يسب فقد كفر فلا يزوج # ولفض بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى انه ان سبهم سبا يقدح في دينهم او عدالتهم كفر بذلك وان كان سبا لا يقدح مثل ان يسب أبا احدهم او يسبه سبا يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر # قال احمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان هذه زندقة وقال في رواية المروذي من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما اراه على الإسلام وقال في رواية حنبل من شتم رجلا من اصحاب النبي ما اراه على الإسلام # قال القاضي أبو يعلى فقد اطلق القول فيه انه يكفر بسبه لاحد من
الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وابي طالب عن قتله وكمال الحد وايجاب التعزير يقتضي انه لم يحكم بكفره # قال فيحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الإسلام اذا استحل سبهم بانه يكفر بلا خلاف ويحمل اسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن ياتي المعاصي قال ويحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الإسلام على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله ظلموا وفسقوا بعد النبي واخذوا الامر بغير حق ويحمل قوله في اسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك قال ويحتمل ان يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان احداهما يكفر والثانية يفسق وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في تكفيرهم روايتين # قال القاضي ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف # ونحن نرتب الكلام في فصلين احدهما في حكم سبهم مطلقا والثاني في تفصيل احكام السب
اما الاول فسب اصحاب رسول الله حرام بالكتاب والسنة # اما الاول فلأن الله سبحانه يقول ^ ولا يغتب بعضكم بعضا ^ وادنى احوال الساب لهم ان يكون مغتابا وقال تعالى ^ ويل لكل همزة لمزة ^ والطاعن عليهم همزة لمزة وقال ^ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ^ وهم صدور المؤمنين فانهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى ^ يا ايها الذين امنوا ^ حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب اذاهم لان الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى ^ والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبوعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ^ فرضي عن السابقين من غير اشتراط احسان ولم يرض عن التابعين الا ان يتبعوهم باحسان وقال تعالى ^ لقد رضي الله عن المؤمنين اذا يبايعونك تحت الشجرة ^ والرضى من الله صفة
قديمة فلا يرضى الا عن عبد علم انه يوافقه على موجبات الرضى ومن رضى الله عنه لم يسخط عليه ابدا وقوله تعالى ^ اذ يبايعونك ^ سواء كانت ظرفا محضا او ظرفا فيها معنى التعليل فان ذلك ظرف لتعلق الرضى بهم فانه يسمى رضى ايضا كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وقيل بل الظرف يتعلق بنفس الرضى وانه يرضى عن المؤمن بعد ان يطعيه ويسخط عن الكافر بعد ان يعصيه ويحب من اتبع الرسول بعد اتباعه له وكذلك امثال هذا وهذا قول جمهور السلف واهل الحديث وكثير من اهل الكلام وهو الاظهر وعلى هذا فقد بين في مواضع اخر ان هؤلاء الذين رضي الله
عنهم هم من اهل الثواب في الاخرة يموتون على الايمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى ^ والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها ابدا ذلك الفوز العظيم ^ # وقد ثبت في الصحيح عن النبي انه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة # وايضا فكل من اخبر الله أنه رضي عنه فانه من اهل الجنة وان كان رضاه عنه بعد ايمانه وعمله الصالح فانه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح عليه فلو علم انه يتعقب ذلك ما يسخط الرب لم يكن من اهل ذلك # وهذا كما في قوله تعالى ^ يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ^
ولانه سبحانه وتعالى قال ^ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رءوف رحيم ^ وقال سبحانه وتعالى ^ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ^ وقال تعالى ^ محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ^ الاية وقال تعالى ^ كنتم خير امة اخرجت للناس ^ ^ وكذلك جعلناكم امة وسطا ^ وهو أول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب وقال سبحانه وتعالى ^ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رءوف رحيم ^ فجعل سبحانه ما افاء الله على رسوله من اهل القرى للمهاجرين والانصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله ان لايجعل في قلوبهم غلا لهم فعلم ان الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم امر يحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله كما انه قد امر
بذلك رسوله في قوله تعالى ^ فاعلم انه لا اله الا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ^ وقال تعالى ^ فاعف عنهم واستغفر لهم ^ ومحبة الشيء كراهة لضده فيكون الله سبحانه وتعالى يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة وهذا معنى قوله عائشة رضي الله عنها امروا بالاستغفار لاصحاب محمد فسبوهم رواه مسلم # وعن مجاهد عن ابن عباس قال لا تسبوا اصحاب محمد فان
الله قد امرنا بالاستغفار لهم وقد علم انهم سيقتتلون رواه الإمام احمد # وعن سعد بن أبي وقاص قال الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما انتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال ثم قرأ ^ للفقراء المهاجرين ^ إلى قوله ^ ورضوانا ^ فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت ^ والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ^ إلى قوله ^ ولو كان بهم خصاصة ^ قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرا ^ والذين جاءوا من بعدهم ^ إلى قوله ^ رحيم ^ قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فاحسن ما انتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت يقول ان تستغفروا لهم ولان من
حاز سبه لعينه او لعنته لم يجز الاستغفار له كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى ^ ما كان للنبي والذين امنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب الجحيم ^ وكما لا يجوز ان يستغفرلجنس العاصين مسمين باسم المعصية لان ذلك لا سبيل اليه ولانه شرع لنا ان نسأل الله ان لايجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا والسب باللسان أعظم من الغل الذي لاسب معه ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع لنا ان نسأله ترك مالا يضر فعله ولانه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وصف السابقين بالهجرة والنصرة فعلم ان ذلك صفة لهم وشرط فيهم ولو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك امر جائز كما لايشترط ترك سائر المباحات بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لان استحقاق الفيىء لا يشترط فيه
ما ليس بواجب بل هذا دليل على ان الاستغفار لهم داخل في عقد الدين واصله # واما السنة ففي الصحيحين عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله لا تسبوا اصحابي فوالذي نفسي بيده لو ان احدكم انفق مثل أحد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولانصيفه
وفي رواية لمسلم واستشهد بها البخاري قال كان بين خالد ابن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله لا تسبوا اصحابي فان احدكم لو انفق مثل أحد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولا نصيفه # وفي رواية للبرقاني في صحيحه لا تسبوا اصحابي دعوا لي
اصحابي فان احدكم لو انفق كل يوم مثل أحد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولا نصيفه # والاصحاب جمع صاحب والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه وذلك يقع على قليل الصحابة وكثيرها لانه يقال صحبته ساعة وصحبته شهرا وصحبته سنة قال الله تعالى ^ والصاحب بالجنب ^ قد قيل هو الرفيق في السفر وقيل هو الزوجة ومعلوم ان صحبة الرفيق وصحبة الزوجة قد تكون ساعة فما فوقها وقد اوصى الله به احسانا ما دام صاحبا وفي الحديث عن النبي خير الاصحاب عنه الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند
الله خيرهم لجاره وقد دخل في ذلك قليل الصحبة وكثيرها وقليل الجوار وكثيره وكذلك قال الإمام احمد وغيره كل من صحب النبي سنة او شهرا او يوما او راه مؤمنا به فهو من اصحابه له من الصحبة بقدر ذلك # فان قيل فلم نهى خالد عن ان يسب اصحابه اذا كان من اصحابه ايضا وقال لو ان احدكم انفق مثل أحد ما بلغ مد احدهم ولا نصيفه # قلنا لان عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الاولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وامثاله يعادونه فيه وانفقوا اموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهو أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد الفتح
وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد فنهى خالدا ونظراءه ممن اسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل ان يسب اولئك الذين صحبوه قبله ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسية خالد إلى السابقين وابعد # وقوله لاتسبوا اصحابي خطاب لكل أحد ان يسب من انفرد عنه بصحبته وهذا كقوله في حديث اخر ايها الناس اني اتيتكم فقلت اني رسول الله اليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل انتم تاركوا لي صاحبي فهل انتم تاركوا لي صاحبي او كما قال بابي هو وامي قال ذلك لما
غامر بعض الصحابة أبا بكر وذاك الرجل من فضلاء اصحابه ولكن امتاز أبو بكر بصحبة انفرد بها عنها # وعن محمد بن طلحة المدني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن ابيه عن جده قال قال رسول الله ان الله اختارني واختار لي اصحابا جعل لي منهم وزراء وانصارا واصهارا فمن سبه فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين
لايقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا وهذا محفوظ بهذا الاسناد # وقد روى ابن ماجة بهذا الاسناد حديثا وقال أبو حاتم في محمد هذا محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به على انفراده
ومعنى هذا الكلام انه يصلح للاعتبار بحديثه والاستشهاد به فاذا عضده اخر مثله جاز ان يحتج به ولا يحتج به على انفراده # وعن عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله الله الله في اصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي من احبهم فقد احبني ومن ابغضهم فقد ابغضني ومن اذاهم فقد اذاني ومن اذاني فقد اذى الله ومن اذى الله فيوشك ان يأخذه رواه الترمذي وغيره
من حديث عبيدة ابن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عنه وقال الترمذي غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه # وروي هذا المعنى من حديث انس أيضا ولفظه من سب اصحابي فقد سبني ومن سبني فقد سب الله رواه ابن البناء وعن عطاء بن أبي رباح عن النبي ﷺ قال لعن الله من سب أصحابي
رواه أبو احمد الزبيري حدثنا محمد بن خالد عنه وقد روي عنه عن ابن عمر مرفوعا من وجهه اخر رواهما اللالكائي # وقال علي بن عاصم انبأ أبو قحذم حدثني أبو قلابة عن
ابن مسعود قال قال رسول الله اذا ذكر القدر فاسمكوا واذا ذكر اصحابي فامسكوا رواه اللالكائي # ولما جاء فيه من الوعيد قال إبراهيم النخعي كان يقال شتم أبي بكر وعمر من الكبائر وكذلك قال أبو اسحاق السبيعي
شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى ^ ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ^ واذا كان شتمهم بهذه المثابة فاقل ما فيه التعزير لانه مشروع في كل معصية ليس فيها حدا ولا كفارة وقد قال انصر اخاك ظالما او مظلوما وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين اهل الفقه والعلم من اصحاب النبي والتابعين لهم باحسان وسائر اهل السنة والجماعة فانهم مجمعون على ان الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والترضي عنهم واعتقاد محبتهم وموالاتهم وعقوبة من اساء فيهم القول # ثم من قال لا اقتل بشتم غير النبي فانه يستدل بقصة أبي بكر المتقدمة وهو ان رجلا اغلظ له وفي روايه شتمه فقال له أبو برزة اقتله فانتهره وقال ليس هذا لاحد بعد النبي وبانه كتب إلى المهاجر بن أبي امية ان حد الانبياء ليس يشبه الحدود كما
تقدم ولان الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الاول ملعونا في الدنيا والاخرة وقال في الثاني ^ فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا ^ ومطلق البهتان والاثم ليس بموجب للقتل وانما هو موجب للعقوبة في الجملة فتكون عليه عقوبة مطلقة ولا يلزم من العقوبة جواز القتل ولان النبي قال لا يحل دم امرىء مسلم يشهد ان لا اله الا الله الا بإحدى ثلاث كفر بعد ايمان او زنى بعد احصان او رجل قتل نفسا فيقتل بها ومطلق السب لغير الانبياء لا يستلزم الكفر لان بعض من كان على عهد النبي كان ربما سب بعضهم بعضا ولم يكفر احدا بذلك ولان اشخاص الصحابة لا يجب الايمان بهم باعيانهم فسب الواحد لا يقدح في الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر # واما من قال يقتل الساب او قال يكفر فلهم دلالات احتجوا بها # منها قوله تعالى ^ محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم ^ إلى قوله تعالى ^ ليغيظ بهم الكفار ^ فلابد ان يغيظ بهم الكفار واذا كان الكفار يغاظون بهم فمن غيظ
بهم فقد شارك الكفار فيما اذلهم الله به واخزاهم وكبتهم على كفرهم ولا يشارك الكفار في غيظهم الذين كبتوا به جزاء لكفرهم الا كافر لان المؤمن لا يكبت جزاء للكفر # يوضح ذلك ان قوله تعالى ^ ليغيظ بهم الكفار ^ تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب لان الكفر مناسب لان يغاظ صاحبه فاذا كان هو الموجب لان يغيظ الله صاحبه باصحاب محمد فمن غاظه الله باصحاب محمد فقد وجد في حقه موجب ذاك وهو الكفر # قال عبد الله ابن ادريس الاودي الإمام ما امن ان يكونوا قد ضارعوا الكفار يعني الرافضة لان الله تعالى يقول ^ ليغيظ بهم الكفار ^ وهذا معنى قول الإمام احمد ما اراه على الإسلام # ومن ذلك ما روى عن النبي انه قال من ابغضهم فقد
ابغضني ومن اذاهم فقد اذاني ومن اذاني فقد اذى الله وقال فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا واذى الله ورسوله كفر موجب للقتل كما تقدم وبهذا يظهر الفرق بين اذاهم قبل استقرار الصحبة واذى سائر المسلمين وبين اذاهم بعد صحبتهم له فانه على عهده قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن ان يكون منافقا ويمكن ان يرتد فأما اذا مات مقيما على صحبه النبي وهو غير مزنون بنفاق فاذاه اذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود اعتبروا الناس باخدانهم وقالوا % عن المرء لا تسال وسل عن قرينه % فكل قرين بالمقارن يقتدي %
وقال مالك رضي الله عنه انما هؤلاء قوم ارادوا القدح في النبي فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في اصحابه حتى يقال رجل
سوء كان له اصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا كان اصحابه صالحين او كما قال وذلك انه ما منهم رجل الا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله بنفسه وماله ويعينه على اظهار دين الله واعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة وهو حينئذ لم يستقر امره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه ومعلوم ان رجلا لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم اذاه احدا لغضب له صاحبه وعد ذلك اذى له والى هذا اشار ابن عمر قال نسير بن ذعلوق سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول لا تسبوا اصحاب محمد فان مقام احدهم خير من عملكم كله رواه اللالكائي
وكانه اخذه من قول النبي لو انفق احدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد احدهم او نصيفه وهذا تفاوت عظيم جدا # ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انه لعهد النبي الامي الي انه لايحبك الا مؤمن ولا يبغضك الامنافق رواه مسلم # ومن ذلك ما خرجاه في الصحيحين عن انس ان النبي قال اية الايمان حب الأنصار واية النفاق بغض الأنصار وفي
لفظ قال في الأنصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق # وفي الصحيحين ايضا عن البراء بن عازب عن النبي انه قال في الأنصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق من احبهم احبه الله ومن ابغضهم ابغضه الله # وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال لا يبغض الأنصار رجل امن بالله واليوم الاخر
وروى مسلم ايضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الاخر # فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب ان يكون منافقا لا يؤمن بالله ولا باليوم الاخر وانما خص الأنصار والله اعلم لانهم هم الذين تبؤوا الدار والايمان من قبل المهاجرين واووا رسول الله ونصروه ومنعوه وبذلوا في اقامة الدين النفوس والاموال وعادوا الاحمر والاسود من اجله واووا المهاجرين وواسوهم في الاموال وكان المهاجرون اذ ذاك قليلا غرباء فقراء مستضعفين ومن عرف السيرة وايام رسول الله وما قاموا به من الامر ثم كان مؤمنا يحب الله ورسوله لم يملك ان لا يحبهم كما ان المنافق لا يملك ان لا يبغضهم واراد بذلك والله اعلم ان يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بان الناس يكثرون والانصار يقلون وان الامر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما امكنه فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى
^ يا ايها الذين امنوا كونوا انصار الله ^ فبغض من نصر الله ورسوله من اصحابه نفاق # ومن هذا رواه طلحة بن مصرف قال كان يقال بغض بني هاشم نفاق وبغض أبي بكر وعمر نفاق والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة # ومن ذلك ما راوه كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن بن
الحسن بن علي بن أبي طالب عن ابيه عن جده قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال رسول الله يظهر في امتي في اخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام هكذا راوه عبد الله ابن احمد في مسند ابيه # وفي السنة من وجوه صحيحة عن يحيى بن عقيل حدثنا كثير ورواه ايضا من حديث أبي شهاب عبد ربه بن نافع الخياط
عن كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن عن ابيه عن جده يرفعه قال يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام وكثيرالنواء يضعفونه # وروى أبو يحيى الحماني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني او النخعي عن عمه عن علي قال قال لي النبي يا علي انت وشيعتك في الجنة وان قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة ان ادركتهم فاقتلهم فانهم مشركون قال علي ينتحلون حبنا اهل البيت وليسوا كذلك واية ذلك انه يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
ورواه عبد الله بن احمد حدثني محمد بن إسماعيل الاحمسي حدثنا أبو يحيى # ورواه أبو بكر الاثرم في سننه حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي جناب عن أبي سليمان الهمداني عن رجل من قومه قال قال علي قال رسول الله الا ادلك على عمل اذا عملته كنت من اهل الجنة وانك من اهل الجنة انه سيكون بعدنا قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فان ادركتموهم فاقتلوهم فانهم مشركون قال وقال علي رضي الله عنه سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا يكذبون علينا مارقة اية ذلك انهم يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
ورواه أبو القاسم البغوي حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا محمد بن خازم عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي رضي الله عنه قال يخرج في اخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة يعرفون به وينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا واية ذلك انهم يشتمون أبا بكر وعمر اينما ادركتموهم فاقتلوهم فانهم مشركون
وقال سويد حدثنا مرون بن معاوية عن حماد بن كيسان عن ابيه وكانت اخته سرية لعلي رضي الله عنه قال سمعت عليا يقول يكون في اخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فانهم مشركون فهذا الموقوف على علي رضي الله عنه شاهد في المعنى لذلك المرفوع # وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث أم سلمة وفي اسناده سوار ابن مصعب وهو متروك
وروي ابن بطة باسناده عن انس قال قال رسول الله ان الله اختارني واختار لي اصحابي فجعلهم انصاري وجعلهم اصهاري وانه سيجيء في اخر الزمان قوم ينتقصونهم الا فلا تواكلوهم ولا تشاربوهم الا فلا تناكحوهم الا فلا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم عليهم حلة اللعنة وفي هذا الحديث نظر # وروى ما هو اغرب من هذا واضعف رواه ابن البناء عن أبي هريرة قال قال رسول الله لا تسبوا اصحابي فان كفارتهم القتل # وايضا فان هذا ماثور عن اصحاب النبي فروى أبو الاحوص
عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال بلغ علي بن أبي طالب ان عبد الله بن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر فهم بقتله فقيل له تقتل رجلا يدعو إلى حبكم اهل البيت فقال لايساكنني في دار ابدا # وفي رواية عن شباك قال بلغ عليا ان ابن السوداء انتقص أبا بكر وعمر قال فدعاه ودعا بالسيف او قال فهم بقتله فكلم فيه فقال لا يساكنني ببلد انا فيه فنفاه إلى المدائن وهذا
محفوظ عن أبي الاحوص وقد رواه النجاد وابن بطه واللالكائي وغيرهم ومراسيل إبراهيم جياد لا يظهر علي رضي الله عنه انه يريد قتل رجل الا وقتله حلال عنده ويشبه والله اعلم ان يكون انما تركه خوف الفتنه بقتله كما كان النبي يمسك عن قتل بعض المنافقين فان الناس تشتتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه وصار في عسكره من اهل الفتنة اقوام لهم عشائر لو اراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم وبسبب هذا وشبهه كانت فتنة الجمل # وعن سلمه بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن ابزي قال قلت لابي ياابت لو كنت سمعت رجلا يسب عمر بن الخطاب ماكنت تصنع به قال كنت اضرب عنقه هكذا رواه الاعمش عنه # ورواه الثوري عنه ولفظه قلت لابي يا ابت لو اتيت برجل يشهد على عمر ابن الخطاب بالكفر اكنت تضرب عنقه قال نعم رواهما الإمام احمد وغيره
ورواه ابن عيينه عن خلف بن حوشب عن سعيد بن عبد الرحمن ابن ابزي قال قلت لابي لو اتيت برجل يسب أبا بكر ماكنت صانعا قال اضرب عنقه قلت فعمر قال اضرب عنقه وعبد الرحمن ابن ابزي من أصحاب النبي ﷺ ادركه وصلى خلفه واقره عمر رضي الله عنه عاملا على مكة وقال هو ممن رفعه الله بالقران بعد ان قيل له انه عالم بالفرائض قاريء لكتاب الله واستعمله على رضي ا لله عنه على خراسان
وروى قيس ابن الربيع عن وائل عن البهي قال وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلام فشتم عبيد الله المقداد فقال عمر علي بالحداد اقطع لسانه لايجتريء أحد بعده بشتم أحد من اصحاب النبي وفي رواية فهم عمر بقطع لسانه فكلمه فيه اصحاب محمد فقال ذروني اقطع لسان ابني حتى لا يجتريء أحد بعده
يسب احدا من اصحاب محمد رواه حنبل وابن بطة واللالكائي وغيرهم ولعل عمر انما كف عنه لما شفع فيه اصحاب الحق وهم اصحاب النبي ولعل المقداد كان فيهم # وعن عمر بن الخطاب انه اتى باعرابي يهجو الأنصار فقال لولا ان له صحبة لكفيتكموه رواه أبو ذر الهروي # ويؤيد ذلك ما روى الحكم بن جحل قال سمعت عليا يقول
لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الا جلدته جلد المفتري # وعن علقمة بن قيس قال خطبنا علي رضي الله عنه فقال انه بلغني ان قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولوكنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه ولكني اكره العقوبة قبل التقدم ومن قال شيئا من ذلك فهو مفتر عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر رواهما عبد الله بن احمد
وروى ذلك ابن بطة اللالكائي من حديث سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها # وروى الإمام احمد باسناد صحيح عن ابن أبي ليلى قال تداروا في أبي بكر وعمر فقال رجل من عطارد عمر أفضل من أبي بكر فقال الجارود بل أبو بكر أفضل منه قال فبلغ ذلك عمر
قال فجعل يضربه ضربا بالدرة حتى شغر برجليه ثم اقبل إلى الجارود فقال اليك عني ثم قال عمر أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله في كذا وكذا ثم قال عمر من قال غير هذا اقمنا عليه ما نقيم على المفتري # فاذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري لمن يفضل عليا على أبي بكر وعمر او من يفضل عمر على أبي بكر مع ان مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب علم ان عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير
فصل # في تفاصيل القول فيهم # اما من اقترن بسبه دعوى ان عليا اله او انه كان هو النبي وانما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره # وكذلك من زعم منهم ان القران نقص منه ايات وكتمت او
زعم ان له تأويلات باطنة تسقط الاعمال المشروعة ونحو ذلك وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم
التناسخية وهؤلاء لا خلاف في كفرهم # واما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل او الجبن او قلة العلم او عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التاديب والتعزير ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء # واما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الامر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد # واما من جاوز ذلك إلى ان زعم انهم ارتدوا بعد رسول الله الا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا او انهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب ايضا في كفره فانه مكذب لما نصه القران في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فان كفره
متعين فان مضمون هذه المقالة ان نقلة الكتاب والسنة كفار او فساق وان هذه الامة التي هي ^ كنتم خير امة اخرجت للناس ^ وخيرها هو القرن الاول كان عامتهم كفارا او فساقا ومضمونها ان هذه الامة شر الامم وان سابقي هذه الامة هم شرارها وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الاقوال فانه يتبين انه زنديق وعامة الزنادقة انما يستترون بمذهبهم وقد ظهرت لله فيهم مثلات وتواتر النقل بان وجوههم
تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الا صحاب وما جاء فيه من الاثم والعقاب
وبالجملة فمن اصناف السابة من لاريب في كفره ومنهم من لايحكم بكفره ومنهم من يرتدد فيه وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك وانما ذكرنا هذه المسائل لانها في تمام الكلام في المسألة التي قصدنا لها # فهذا ما تيسر من الكلام في هذا الباب ذكرنا ما يسره الله واقتضاه الوقت والله سبحانه يجعله لوجهه خالصا وينفع به ويستعملنا فيما يرضاه منم القول والعمل # والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين
الخاتمة # خاتمة الدراسة والتحقيق # لقد وصلنا من خلال تحقيقنا ودراستنا لهذا الكتاب القيم الصارم المسلول على شاتم الرسول إلى نتائج عديدة واقترحات مفيدة تتلخص فيما يلي #1 لقد ظهر في هذا الزمان امور هي من قواسم الظهور من لعن الدين وسب رسول رب العالمين والمجاهرة بذلك على رؤوس الملأ اجمعين بلا رادع ولا وازع من خلق او دين وما ذلك الا لاسباب منها الجهل المزري الذي وقع فيه كثير من الناس في معرفة حكم ساب النبي وحده الشرعي ومنها عدم تنفيذ الحدود على الشاتمين والمرتدين حتى ظهر اولئك الزنادقة الذين جاهروا بالاستهزاء والسب على مرأى ومسمع من الناس اجمعين #2 نظرا لجهل الكثير من المنتسبين إلى الإسلام بهذا الحكم والحد الشرعي فاننا نقترح ان تقوم الجهات المسؤولة بجعل هذا الكتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول كمرجع في المرحلة الجامعية او يلخص ويكون ضمن المناهج في احدى المراحل الدراسية لكي يدرك الطلاب هذا الامر ادراكا صحيحا وينتشر بين الناس معرفة حكم الساب وحده الشرعي #3 حيث ان هذا الموضوع مهم جدا واهميته لا تخفى على ذي مسكة في
عقله في مشارق الارض ومغاربها فيا حبذا لو يترجم هذا الكتاب وغيره من كتب شيخ الإسلام القيمة إلى اللغات الاخرى ليعم النفع بها باذن الله تعالى فما احوج الناس اليوم إلى ادراك حقيقة هذا الامر الخطير #4 لقد اصبح تحقيق النصوص القديمة علما ذا قواعد واصول وان كتب سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى في حاجة الي تجديد احيائها وتحقيق مخطوطاتها بل وان المطبوعات منها في حاجة إلى تحقيق ايضا تحقيقا علميا ونشرها بطريقة تناسب هذا العصر واننا نتمنى من الله تعالى ان يوفق الباحثين والدارسين في اعادة طبع وتحقيق جميع الكتب والرسائل التي لم تحقق تحقيقا علميا حسب القواعد والاصول المعروفة في علم التحقيق وذلك حتى تظهر كتب تراثنا الإسلامية سليمة من التصحيف والتحريف والاخطاء وغيرها #5 ان يناط تحقيق كتب سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى بمن عرف عنه محبته لهم وسيره على منهاج النبوة وان لا توضع في ايدي غيرهم لكي لا يظهر التحقيق وفيه من الانهزامية والتهجم على ائمتنا رحمهم الله تعالى وتجريحهم بما لايليق ولا يحق كما وقع في تحقيق كتاب احكام اهل الذمة للإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى الذي حققه د صبحي الصالح ونشر في عام 1983 م #6 مقابلة النصوص المنقولة من المصادر والمراجع في الكتاب مع النسخ المخطوطة او النسخة الاصل لها فوائد ملموسة في عملية التحقيق
والمقابلة فمنها ان المقابلة مع ذلك المصدر تعتبر مقابلة لنسخة اخرى اضافية ومنها تقويم العبارات وتصحيحها وخاصة اذا حدث خطأ من الناسخين ومنها زيادة عبارات او كلمات تفيد في فهم المعنى وتوضحيه خاصة اذا نقل النص في الكتاب مختصرا او محرفا من قبل الناسخين ومنها تحديد بداية النقول ونهايتها وانه اذ ذاك فاننا نرى ان لا يكتفى في التحقيق بمجرد مقابلة النسخ الخطية فحسب بل وبمقابلة النصوص ايضا مع المصادر والمراجع المنقول منها ان امكن الباحث او المحقق إلى ذلك سبيلا #7 ان من الواجب على القادرين من المسلمين ان يعنوا عناية جادة بامر سب نبينا او الاستهزاء بشئ من الدين وأن ينشروا بين الناس الوعي الصحيح والادراك السليم لهذا الامر الخطير بمختلف الوسائل الدعوية وان تنشر مثل هذه المؤلفات القيمة لائمتنا الكرام رحمهم الله تعالى بعد تحقيقها وتصحيحها بدقة كاملة حتى لا نسمع ولا نسمح في ديارنا بشئ فيه اذى الله ورسوله وعباده المؤمنين #8 ان السب كفر في الظاهر والباطن سواء اعتقد فاعله انه حرام أم كان مستحلا له وان شاتم الرسول يقتل بكل حال عند الحنابلة سواء كان مسلما او كافرا ولا يستتاب ولا تقبل له توبة وان سب الذمي للرسول ينقض العهد ويوجب القتل ولا تقبل له توبة والمشهور في مذهب الإمام مالك قتل الساب بدون استتابة وحكمه حكم الزنديق اذا كان مسلما واذا كان ذميا فاسلم ففيه روايتان في الاولى لا يقتل وفي الثانية يقتل ومذهب جمهور الشافعية ان الساب كالمرتد اذا تاب سقط عنه القتل
وذهب أبو بكر الفارسي إلى انه لايسقط عنه القتل بالتوبة وعند الصيدلاني اذا سب بالقذف ثم تاب سقط عنه القتل وجلد ثمانين للقذف وعند الاحناف ان الساب كالمرتد في سائر احكام الردة #9 الردة على قسمين مجردة ومغلظة وتقبل توبة المرتد المجرد عند عامة اهل العلم وروي عن الحسن البصري انه يقتل ولو اسلم واشهر الروايتين عن الإمام مالك والإمام احمد ان استتابة المرتد واجبة وفي الثانية مستحبة والمشهور عند الإمام أبي حنيفة ان الاستتابة مستحبة وهو ايضا قول للإمام الشافعي الا انه قال في أحد قوليه يستتاب فان تاب في الحال والا قتل ومذهب الجمهور ان المرتد يؤجل ثلاث ايام بعد الاستتابة #10 ان حقيقة السب هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف وهو ما يفهم عنه السب في عقول الناس #11 ان الحكم في سب سائر الانبياء عليهم الصلاة والسلام كالحكم في سب نبينا محمد #12 ان الساب لله عز وجل من المسلمين يجب قتله بالاجماع لانه صار بذلك كافرا مرتدا بل اسوأ من الكافر وان الذمي من اذا سب الله تعالى بما لا يتدين به مثل اللعن والتقبيح فهو سب يقتل به واذا سب الله تعالى بما يتدين به مثل قول النصارى ان لله ولدا وصاحبة ففيه خلاف عند العلماء
13 ان سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله تعالى منه كفر إجماع بلا خلاف وان من سب غير عائشة من ازواج النبي رضي الله عنهن حكمه كحكم سب عائشة على الارجح #14 ان سب الصحابة رضي الله عنهم حرام بالكتاب والسنة واجماع الامة وان من سبهم وجب تاديبه وعقوبته ولا يجوز العفو عنه ومن اقترن بسبه للصحابة ان عليا اله او انه هو النبي وانما اخطأ جبريل في الرسالة فهو كافر بالاجماع بل لاشك كفر من لا يكفره ومن زعم ان الصحابة رضي الله عنهم ارتدوا بعد رسول الله الا عددا يسيرا او انهم فسقوا عامتهم فهذا ايضا لا شك في كفره #15 إن من زعم ان القران نقص منه وزيد فيه وكتمت منه ايات او زعم ان له تأويلات تسقط الاعمال فلا شك في كفره ايضا
تصنيف:
الصارم المسلول على شاتم الرسول
=====
الصفدية اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
كتاب الصفدية
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني المتوفى 728 هـ
//1//2//3//4//5//6//7//8//9//10//11//12//13//14//15//16
==========
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ابن تيمية
نزل نسخة مطبوعة
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز وختمهم بمحمد ﷺ الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزيز وأشهد أن لا إله إلى الله وحده ولا شريك له شهادة خالصة خلاص الذهب الإبريز وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وشهادة يكون صاحبها في حرز حريز
أما بعد فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية والإنابة النبوية لا يستغني عنها الراعي والرعية اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور كما قال النبي ﷺ فيما ثبت عنه من غير وجه: [ إن الله يرضى لكم ثلاثة أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ]
وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}
قال العلماء نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله لأن ذلك من طاعة الله ورسوله وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة
فإن النبي ﷺ لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها نه العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية بدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل قال النبي صلى الله عليه: [ من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله ]
وفي رواية [ من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين ] رواه الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روى ذلك عنه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولى من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمير الحاج والبرد والعيون الذين هم القصاد وخزائن الأموال وحراس الحصون والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون
فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو يسبق في الطلب بل ذلك سبب المنع فإن في الصحيحين عن النبي ﷺ: [ أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه ] وقال لعبد الرحمن بن سمرة: [ يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإن إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه ] أخرجاه في الصحيحين وقال ﷺ: [ من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكا يسدده ] رواه أهل السنن فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أوطريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة أو غر ذلك من الأسباب أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} ثم قال {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}
فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته
ثم أن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثبته الله فيحفظه في أهله وماله وبعده والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذلك أهله ويذهب ماله وفي ذلك الحكاية المشهورة أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته فقال: أدخلوهم علي فأدخلوهم بضعة عشر ذكرا ليس فيهم بالغ فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال: يا بني والله ما منعتكم حقا هو لكم ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين وإما غير صالح فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله قوموا عني قال: فلقد رأيت بعض ولده حمل على مائة فرس في سبيل الله يعني أعطاها لمن يغزو عليها
قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق بلاد الترك إلى أقصى المغرب بلاد الأندلس وغيرها ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها إلى أقصى اليمن وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا يقال: اقل من عشرين درهما - قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه - وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله ما فيه عبرة لكل ذي لب
وقد دلت سنة رسول الله ﷺ على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع مثل ما تقدم ومثل قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الأمارة: [ إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ] رواه مسلم وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: [ إذا ضيعت الأمانة انتظر الساعة قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غيره أهله فانتظر الساعة ] وقد أجمع المسلمون على معنى هذا فإن وصى اليتيم وناظر الوقف ووكيل الرجل في ماله عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح كما قال الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ولم يقل إلا بالتي هي حسنة وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم كما قال النبي ﷺ [ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيت ] أخرجاه في الصحيحين وقال ﷺ [ ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلى حرم الله عليه رائحة الجنة ] رواه مسلم
ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيها الأجير فقالوا: قل السلام عليك: أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا: قل أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل الأجير فقالوا قل الأمير فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها فإن أنت هنأت جرباها وداويت مرضاها وحبست أولادها على أخراها وفاك سيدها أجرها وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها
وهذا ظاهر الاعتبار فإن الخلق عباد الله الولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ففيهم معنى الولاية والوكالة ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا وترك من هو أصلح للتجارة أو المقار منه وباع السلعة بثمن وهو من حاباه وبينه مودة أو قربة فإن صاحبه يبغضه ويذمه أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه
إذا عرف هذا فليس أن يستعمل إلا أصلح الموجود وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا وصار في هذا الموضع من أئمة العدل والمقسطين عند الله وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فإن الله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} ويقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقال {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى وقال النبي ﷺ [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين لكن إن كان منه عجز ولا حاجة إليه أو خيانة عوقب على ذلك وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى {إن خير من استأجرت القوي الأمين} وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وقال تعالى في صفة جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين}
والقوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك كما قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} وقال النبي ﷺ: [ ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ] وفي رواية: [ فهي نعمة جحدها ] رواه مسلم والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفي الأحكام
والأمانة ترجع إلى خشية الله وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ولهذا قال النبي ﷺ: [ القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ] رواه أهل السنن والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله ﷺ: وهو ظاهر
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور فيها على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر ولآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزي ؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر وقد قال النبي ﷺ: [ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] وروى [ بأقوام لا خلاق لهم ] فإذا لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده
ولهذا كان النبي ﷺ يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال: [ إن خالدا سيف سله الله على المشركين ] مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي ﷺ حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال: [ اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد ] لما أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي ﷺ وضمن أموالهم ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل
وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق ومع هذا فقال له النبي ﷺ: [ يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم ] رواه مسلم نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد روى: [ ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ]
وأمر النبي ﷺ مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم على من هم أفضل منه وأمر أسامة بن زيد لأجل ثأر أبيه ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان
وهكذا أبو خليفة رسول الله ﷺ رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة وفي فتوح العراق والشام وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل وقد ذكر له عند أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها بل عتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه وأن غيره لم يكن يقوم مقامه لأن المتولي الكبير إذا كان خلفه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل الأمر ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يؤثر استنابة خالد وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأن خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان لينا كأبي بكر وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ليكون أمره معتدلا ويكون بذلك من خلفاء رسول الله ﷺ الذي هو معتدل حتى قال النبي ﷺ [ أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة ]
وقال: [ أنا الضحوك القتال ] وأمته وسط قال الله تعالى فيهم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي ﷺ من لين أحدهما وشدة الآخر حتى قال فيهما النبي ﷺ: [ اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ] وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب في قتال أهل الردة وغيرهم ما برز به على عمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصحلتين وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام
ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم - فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى - الأورع وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم ففي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل عند حلول الشهوات ]
ويقدمان على الأكفأ إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما من جهة والي الحرب أو العامة
ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع فإن القاضي المطلق يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا بل وكذلك كل وال للمسلمين فأي صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه والكفاءة: إما بقهر ورهبة وإما بإحسان ورغبة وفي الحقيقة فلا بد منهما
وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من يولي القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر؟ على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحاج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها
والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم هم أمراء الحرب الذين هم نواب ذي السلطان على الجند ولهذا لما قدم النبي ﷺ أبا بكر في الصلاة قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها
وكان النبي ﷺ إذا بعث أميرا على حرب كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف وعليا ومعاذا وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران كان نائبه هو الذي يصلي بهم ويقيم فيهم الحدود وغيرها مما يفعله أمير الحرب وكذلك خلفاؤه بعده ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي ﷺ في الصلاة والجهاد وكان إذا عاد مريضا يقول: [ اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا ]
ولما بعث النبي ﷺ إلى اليمن قال: [ يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة ]
وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة
وذلك أن النبي ﷺ قال: [ الصلاة عماد الدين ] فإذا أقام المتولي عماد الدين فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات كما قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}
وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} وقال لنبيه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} وقال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا وإصلاح ما لا يقوم الدين إلى به من أمر دنياهم وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه وعقوبات المعتدين فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه ولهذا كان عمر بن الخطاب يقولك: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقيموا بينكم دينكم فلما تغيرت الرعية من وجه والرعاة من وجه تناقضت الأمور فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله فقد روى [ يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ] وفي مسند الإمام أحمد عن النبي ﷺ أنه قال: [ أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغضهم إليه إمام جائر ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم ورجل غني عفيف متصدق ] وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: [ الساعي على الصدقة بالحق كالمجاهد في سبيل الله ] وقد قال الله تعالى - لما أمر بالجهاد -: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقيل للنبي ﷺ: يا رسول الله - الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: [ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ] أخرجاه في الصحيحين
فالمقصود أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمها كتابه وهكذا قال الله تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله ﷺ أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف - فإذا كان هذا هو المقصود فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب وينظر إلى الرجلين أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي فإذا كانت الولاية مثلا إمامة صلاة فقط قدم من قدمه النبي ﷺ حيث قال: [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه ] رواه مسلم فإذا تكافأ رجلان أو خفي أصلحهما أقرع بينهما كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية لما تشاجروا على الأذان متابعة لقوله ﷺ: [ لو يعلم الناس في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ] فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر وبفعله - ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها
ويدخل في هذا القسم: الأعيان والديون الخاصة والعامة مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك وقد قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم} إلى قوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا تخاصم عنهم وقال النبي ﷺ: [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وقال النبي ﷺ: [ المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأموالهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ] وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي وقال ﷺ: [ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ] رواه البخاري وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم وكذلك أداء العارية وقد خطب النبي ﷺ في خطبة الوداع وقال في خطبته: [ العارية مؤداة والمنحة مردودة الدين مقضي والزعيم غارم إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ]
وهذا القسم يتناول الولاة والرعية فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه وكذلك على الرعية الذين يجب عليهم الحقوق وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال مالا يستحقونه فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون * إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}
ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه من الحقوق وإن كان ظالما كما أمر النبي ﷺ لما ذكر جور الولاة فقال: [ أدوا إليهم الذي لهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ] ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: [ كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا: فما تأمرنا ؟ فقال: أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ]
وفيها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم ]
وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا كما قال رسول الله ﷺ: [ إني - والله - لا أعطي ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ونحوه فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره فيضع حيث أمره الله تعالى
وهكذا قال رجل لعمل بن الخطاب: يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء ؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منه مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم ؟ وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مال عظيم من الخمس فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذه لأمناء فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعت
وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك والذي على ولي الأمر أن يأخذ المال من حله ويضعه في حقه ولا يمنعه من مستحقه وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم يقول: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك أو يتركوا حقك
الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف: الغنيمة والصدقة والفيء
فأما الغنيمة فهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال ذكرها الله في سورة الأنفال التي أنزلها في غزوة بدر وسماها أنفالا لأنا زيادة في أموال المسلمين فقال: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} إلى قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} الآية وقال: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: [ أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] وقال النبي ﷺ: [ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحي ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ] رواه أحمد في المسند عن ابن عمر واستشهد به البخاري
فالواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى وقسمة الباقي بين الغانمين قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم الذين شهدوها للقتال قاتلوا أو لم يقاتلوا ويجب قسمها بينهم بالعدل فلا يحابى أحد لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله كما كان النبي ﷺ وخلفاؤه يقسمونها وفي صحيح البخاري: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى له فضلا على من دونه فقال النبي ﷺ: [ هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ ] وفي مسند أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: [ قلت: يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم يكون سهمه وسهم غيره سواء ؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ ]
وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر لكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية كسرية تسرت من الجيش أو رجل صعد حصنا عاليا ففتحه أو حمل على مقدم العدو فقتله فهزم العدو ونحو ذلكن لأن النبي ﷺ وخلفاءه كانوا ينفلون لذلك
وكان ينفل السرية في البداية الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس وقال بعضهم: إنه يكون من خمس الخمس لئلا يفضل بعض الفاتحين على بعض والصحيح أنه يجوز من أربعة الأخماس وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية لا هوى النفس كما فعل رسول الله ﷺ غير مرة وهذا قول فقهاء الشام و أبي حنيفة و أحمد وغيرهم وعلى هذا فقد قيل: إنه ينفل الربع والثلث بشرط وغير شرط وينفل الزيادة على ذلك الشرط مثل أن يقول: من دلني على قلعة فله كذا ومن جاء برأس فله كذا ونحو ذلك وقيل: لا ينفل زيادة على الثلث ولا ينفله إلا بالشرط وهذان قولان لأحمد وغيرهن وكذلك - على القول الصحيح - للإمام أن يقول: من اخذ شيئا فهو له كما روى أن النبي ﷺ كان قد قال ذلك في غزة بدر إذا رأي ذلك مصلحة راجحة على المفسدة
وإذا كان الإمام يجمع الغنائم ويقسمها لم يجز لأحد أن يغل منها شيئا {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} فإن الغلول خيانة ولا تجوز النهبة فإن النبي ﷺ نهى عنها فإذا ترك الإمام الجمع والقسمة وأذن في الأخذ إذنا جائزا فمن أخذ شيئا بلا عدوان حل له بعد تخميسه وكل ما دل على الإذن فهو إذن وأما إذا لم يأذن أو أذن إذنا غير جائز جاز للإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة متحريا للعدل في ذلك
ومن حرم على المسلمين جمع المغانم والحال هذه وأباح الإمام أن يفعل فيها ما يشاء فقد تقابل القولان تقابل الطرفين ودين الله وسط والعدل في القسمة: أن يقسم للراجل سهم وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه هكذا قسم النبي ﷺ عام خيبر ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه - ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة راجلين - ومنهم من يقول: يسور بين الفرس العرب والهجين في هذا ومنهم من يقول: بل الهجين يسهم له سهم واحد كما روى عن النبي ﷺ وأصحابه والفرس الهجين الذي تكون أمه نبطية - ويسمى البرذون - وبعضهم يسميه التتري سواء كان حصانا أو خصيا ويسمى الإكديش أو رمكة وهي الحجر كان السلف يعدون للقتال الحصان لقوته وحدته وللإغارة والبيات الحجر لأنه ليس لها صهيل ينذر العدو فيحترزون وللسير الخصي لأنه أصبر على السير
وإذا كان المغنوم مالا - قد كان للمسلمين قبل ذلك من عقار أو منقول وعرف صاحبه قبل القسمة - فإنه يرد إليه بإجماع المسلمين وتفاريع المغانم وأحكامها فيها آثار وأقوال اتفق المسلمون على بعضها وتنازعوا في بعض ذلك ليس هذا موضعها وإنما الغرض ذكر الجمل الجامعة
وأما الصدقات فهي لمن سمى الله تعالى في كتابه فقد روى عن النبي ﷺ: أن رجلا سأله من الصدقة فقال: [ إن الله لم يرض في الصدقة بقسم نبي ولا غيرهن ولكن جزاها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك ]
( فالفقراء والمساكين ) يجمعها معنى الحاجة إلى الكفاية فلا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ( والعاملين عليها ) هم الذين يجبونها ويحفظونها ويكتبونها ونحو ذلك ( والمؤلفة قلوبهم ) سنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في مال الفيء ( وفي الرقاب ) يدخل فيه إعانة المكاتبين وافتداء الأسرى وعتق الرقاب هذا أقوى الأقوال فيها ( والغارمين ) هم الذين عليهم ديون لا يجدون وفاءهان فيعطون وفاء ديونهم ولو كان كثيرا إلا أن يكونوا غرموه في معصية الله تعالى فلا يعطون حتى يتوبوا ( وفي سبيل الله ) وهم الغزاة الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم فيعطون ما يغزون به أو تمام ما يغزون به من خيل وسلاح ونفقة وأجرة والحج من سبيل الله كما قال النبي ﷺ ( وابن السبيل ) هو المجتاز من بلد إلى بلد
وأما الفيء فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر التي أنزلها الله في غزة بني النضير بعد بدر من قوله تعال {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}
ومعنى قوله {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ما حركتم ولا سقتم خيلا ولا إبلا ولهذا قال الفقهاء: إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال لأن إيجاف الخيل والركاب هو معنى القتال وسمي فيئا لأن الله أفاءه على المسلمين أي رده عليهم من الكفار فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته لعباده المؤمنين الذين يعبدونه وأفاء إليهم ما يستحقونه كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك وهذا مثل الجزية التي على اليهود والنصارى والمال الذي يصالح عليه العدو أو يهدونه إلى سلطان المسلمين الحمل الذي يحمل من بلاد النصارى ونحوه وما يؤخذ من تجار أهل الحرب وهو العشر ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا من غير بلادهم وهو نصف العشر
هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ وما يأخذ من أموال من ينقض العهد منهم والخراج الذي كان مضربا في الأصل عليهم وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين
ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين: كالأموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين وكالغصوب والعواري والودائع التي تعذر معرفة أصحابها وغير ذلك من أموال المسلمين العقار والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين وإنما ذكر الله تعالى في القرآن الفيء فقط لأن النبي ﷺ ما كان يموت على عهده ميت إلا وله وارث معين لظهور الأنساب في أصحابه وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر تلك القبيلة أي أقربهم نسبا إلى جدهم وقد قال بذلك طائفة من العلماء كأحمد في قول منصوص وغيره ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له فدفع ميراثه إلى عتيقه وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان ﷺ هو وخلفاءه يتوسعون في دفع ميراث الميت إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه
ولم يكن يأخذ من المسلمين إلا الصدقات وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما أمر الله به في كتابه
ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوان جامع على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد وكثر الناس فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم وديوان الجيش - في هذا الزمان - مشتمل على أكثره وذلك الديوان هو أهم دواوين المسلمين
وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال وكان النبي ﷺ وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير ذلك فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع: نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع كما ذكرناه ونوع يحرم أخذه بالإجماع كالجنايات التي تؤخذ من أهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم وإن كان له وارث أو على حد ارتكب - وتسقط عنه العقوبة بذلك وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقا ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم - وليس بذي فرض ولا عصبة - ونحو ذلك
وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما لا يحل وهؤلاء يمنعون ما يجب كما قد يتظالم الجند والفلاحون وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب ويكنز الولاة من مال الله مما لا يحل كنزه وكذلك العقوبات على أداء الأموال فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب وقد يفعل ما لا يحل
والأصل في ذلك: أن كل من عليه مال يجب أداؤه كرجل عنده وديعة أو مضارة أو شركة أو مال لموكله أو مال يتيم أو مال وقف أو مال لبيت المال أو عنده دين هو قادر على أدائه فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين وعرف أنه قادر على أدائه فإنه يستحق العقوبة حتى يظهر المال - أو يدل على موضعه - فإذا عرف المال وصير في الحبس فإنه يستوفي الحق من المال ولا حاجة إلى ضربه به وإن امتنع من الدلالة على مال ومن الإيفاء ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها لما روى عمر بن الشريد عن أبيه عن النبي ﷺ أنه قال [ لي الواجد يحل عرضه عقوبته ] رواه أهل السنن وقال ﷺ [ مطل الغني ظلم ] أخرجاه في الصحيحين واللي هو المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه: أن كل من فعل محرما أو ترك واجبا استحق العقوبة فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيرا يجتهد فيه ولي الأمر فيعاقب الغني المماطل بالحبس فإن أصر عوقب بالضرب حتى يؤدي الواجب وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم رضي الله عنهم ولا أعلم فيه خلافا
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح سأل بعض اليهود وهو سعية عم حيي بن أخطب عن كنز مال حيي بن أخطب فقال أذهبته النفقات والحروب فقال ك [ العهد قريب والمال أكثر من ذلك ] فدفع النبي ﷺ سعية إلى الزبير فمسه بعذاب فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة وهذا الرجل كان ذميا والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك يعاقب على ترك الواجب
وما أخذ ولاة الأموال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: هدايا العمال غلول وروى إبراهيم الحربي - في كتاب الهدايا - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: [ هدايا الأمراء غلول ] وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي ﷺ رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي ﷺ: [ ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يجمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ ثلاثا ]
وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك من الهداية ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها وكان الأمر يقتضي ذلك لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية فلما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما أباح الله له
وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهداية ونحوها ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم ويترك ما أوجبه الله من قضاء حوائجهم فيكون من اخذ منهم عوضا على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة أحب إليهم من هذا فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم وتعريفه بأمورهم ودلالته على مصالحهم وصرفه عن مفاسدهم بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة كما يفعل ذوو الأغراض من الكتاب ونحوهم في أغراضهم ففي حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه كان يقول: [ أبلغوني حاجة من لا يستطيق إبلاغها فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ]
وقد روى الإمام أحمد و أبو داود في سننه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ] وروى إبراهيم الحربي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل فيقضي له فيهدى إليه فيقبلها وروى أيضا عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى له صاحبها وصيفا فرده عليه وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من رد عن مسلم مظلمة فرزأه عليها قليلا أو كثيرا فهو سحت فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذاك كفر
فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه فلا ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منهما ظالم كلص سرق من لصن وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم فإن التعاون نوعان :
الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين فهذا مما أمر الله به ورسوله ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهما أنه متورع وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك
والثاني: تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه لله ورسوله
نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوى إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوية إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء كمالك و أبو حنيفة و أحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص في موضع آخر
وإن كان غيره قد أخذها فعليه هو أن يفعل بها ذلك وكذلك لو امتنع السلطان من ردها كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين فإن مدار الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وهي مبينة لقوله {اتقوا الله حق تقاته} وعلى قول النبي ﷺ: [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتبطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع
والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم مثال ذلك ولي اليتيم والوقف إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك - بمال أقل منه إليه - أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن وما على المحسنين من سبيل
وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ
كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء كان محسنا
لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذي يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم ثم يقذفون في النار
وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة
فمنهم المقاتلة: الذين هم أهل النصرة والجهاد وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء: هل هو مختص بهم أو مشترك في جميع المصالح ؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا إلا ما خص به نوع كالصدقات والمغنم
ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم كالولاة والقضاة والعلماء والسعاة على المال جمعا وحفظا وقسمة ونحو ذلك حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك
وكذا صرفه في الأثمان والأجور لما يعم نفعه من سداد والثغور بالكراع والسلاح وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس كالجسور والقناطر وطرقات المياه كالأنهار
ومن المستحقين: ذوو الحاجات فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون في غير الصدقات من الفيء ونحوه على غيره ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره منهم من قال: يقدمون ومنهم من قال: المال استحق بالإسلام فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث والصحيح أنهم يقدمون فإن النبي ﷺ كان يقدم ذوي الحاجات كما قدمهم في مال بني النضير وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد إنما هو الرجل وسابقته والرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وحاجته فجعلهم عمر رضي الله عنه أربعة أقسام :
(الأول) ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال
(الثاني) من يغني عن المسلمين في جلب المنافع له كولاة الأمور والعلماء الذين يجعلون لهم منافع الدين والدنيا
(الثالث) من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم
(الرابع) ذوو الحاجات
واذا حصل من هؤلاء متبرع فقد أغنى الله به وإلا أعطي ما يكفيه أو قدر عمله وإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات أيضا فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة أو ميراث
ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا مالا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة ونحو ذلك فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه كعطية المخنثين من الصبيان المردان الأحرار والمماليك ونحوهم والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم
لكن يجوز - بل يجب - الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه وإن كان هو لا يحل له أخذ ذلك كما أباح الله تعالى في القرآن العطاء للمؤلفة قلوبهم من الصدقات وكما كان النبي ﷺ يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه وهم السادة المطاعون في عشائرهم كما كان النبي ﷺ يعطي الأقرع بن حابس سيد بني تميم وعيينة بن حصن سيد بني فزارة وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان وعلقمة ابن عاثة العامري سيد بني كلاب ومثل سادات قريش من الطلقاء كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمر والحارث بن هشام وعدد كثير ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي وهو باليمن بذهبية بتربتها إلى رسول الله ﷺ فقسمها رسول الله ﷺ بين أنفر: والأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن حصن الفزاري وعلقمة ابن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي أحد بني نبهان
قال: فغضبت قريش والأنصار فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله ﷺ: [ إني إنما فعلت ذلك لتألفهم ] فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس فقال: اتق الله يا محمد. فقال رسول الله ﷺ: [ فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني أهل الأرض ولا تأمنوني؟ ]
قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتلهن ويرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله ﷺ: [ إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ]
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله ﷺ أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة ابن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس ذلك فقال عباد بن مرداس :
( أتجعل نهبي ونهب العبـ ... يد بين عيينة والأقرع )
( وما كان حصن ولا حابس يفو ... قان مرداس في المجمع )
( وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع )
قال: فأتم له رسول الله ﷺ مائة رواه مسلم و العبيد اسم فرس له
والمؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم فالكافر: إما أن ترجى بعطيته منفعة كإسلامه أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا كحسن إسلامه أو إسلام نظيره أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف أو لنكاية في العدو أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك
وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات فإذا كان قصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان من جنس عطاء النبي ﷺ وخلفائه وإن كان المقصود العلو في الارض والفساد كان من جنس عطاء فرعون وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي ﷺ حتى قال فيه ما قال وكذا حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم
وهؤلاء أمر النبي ﷺ بقتالهم لأن معهم دين فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخره وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل فإن كلاهما فيه ترك فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة جبنا وبخلا وقد قال النبي ﷺ: [ شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع ] قال الترمذي: حديث صحيح
كذلك قد يترك الإنسان العمل ظنا أو إظهارا أنه ورع وإنما هو كبر وإرادة للعلو وقول النبي ﷺ: [ إنما الأعمال بالنيات ] كلمة جامعة كاملة فإن النية للعمل كالروح للجسد وإلا فكل واحد من الساجد لله والساجد للشمس والقمر قد وضع جبهته على الأرض فصورتهما واحدة ثم هذا أقرب الخلق إلى الله تعالى وهذا أبعد الخلق عن الله وقد قال الله تعالى: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} وفي الأثر أفضل الإيمان: السماحة والصبر فلا يتم رعابة الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء والنجدة التي هي الشجاعة بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك ولهذا كان من لا يقوم بهما سلبه الأمر ونقله إلى غيره كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} وقال تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} وقد قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء والقتال الذي هوالشجاعة وكذلك قال الله تعالى في غير موضع: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وبين أن البخل من الكبائر في قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} وفي قوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} الآية وكذلك الجبن في مثل قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} وفي قوله تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} وهو كثير في الكتاب والسنة وهو مما تفق عليه أهل الأرض حتى إنهم يقولون في الأمثال العامية: لا طعنة ولا جفنة ويقولون: لا فارس الخيل ولا وجه العرب
ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق: فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد فلم ينظروا في عاقبة المعاد ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها فصاروا فهابين وهابي وهؤلاء يقولون: لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم فإنه إذا تولى العفيف الذي لا يأكل ولا يطعم سخط عليه الرؤساء وعزلوه إن لم يضروه في نفسه وماله وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة إن لم يحصل له ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها
وفريق عندهم خوف من الله تعالى ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق وفعل المحارم فهذا حسن واجب ولكن قد يعتقدون مع ذلك: أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام فيمنعون عنها مطلقا وربما كان في نفوسهم جبن أو بخل أو ضيق خلق بنضم إلى ما معهم من الدين فيقعون أحيانا في ترك واجب يكون تركه أضر عليهم من بعض المحرمات أو يقعون في النهي عن واجب يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله وقد يكونون متأولين وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ولا يتم إلا بالقتال فيقاتلون المسلمين كما فعلة الخوارج وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين وبعض أمور الدنيا وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا ويغفر لهم قصورهم وقد يكونون من الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره ولا يرى أنه يتألف الناس من الكبار والفجار لا بمال ولا بنفع ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم
الفريق الثالث: الأمة الوسط وهم ( أهل ) دين محمد ﷺ وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة وهو إنفاق المال والمنافع للناس - وإن كانوا رؤساء - بحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال ولإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين وعفته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه فيجمعون بين التقوى والإحسان {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}
ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة
وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إليه إلى طعامه ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه والأولون فإن الذي يأخذ لنفسه تطمع فيه النفوس ما لا تطمع في العفيف ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني فإن العفة مع القدرة تقوى حرمة الدين وفي الصحيحين عن أبي سفيان بن حرب أن هرقل ملك الروم قال له عن النبي ﷺ: بماذا يأمركم ؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة - وفي الأثر: أن الله أوحى إلى إبراهيم الخليل عليه السلام: يا إبراهيم أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ هذا الذي ذكرناه في الرزق والعطاء الذي هو السخاء وبذل المنافع نظيره في الصبر والغضب الذي هو الشجاعة ودفع المضار
إن الناس ثلاثة أقسام: قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم والثالث - وهو الوسط - أن يغضب لا لنفسه كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده: خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله
فأما من يغضب لنفسه لا لربه أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره فهذا القسم الرابع شر الخلق لا يصلح بهم دين ولا دنيا
كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه ويعفون عن حظوظهم وهذا أخلاق رسول الله صلى عليه وسلم في بذله ودفعه وهي أكمل الأمور
وكلما كان إليها أقرب كان أفضل فليجتهد المسلم في التقرب إليها بجهد ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره أو تقصيره بعد أن يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا ﷺ من الدين فهذا في قول الله سبحانه وتعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والله أعلم
وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس يكون في الحدود والحقوق وهما قسمان:
فالقسم الأول الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم وكلهم محتاج إليها وتسمى حدود الله وحقوق الله مثل: حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم ومثل: الحكم في الأمور السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين فهذه من أهم أمور الولايات ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء
وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به وأن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره لكنهم يتفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق وقد اشترط المطالبة بالمال لئلا يكون للسارق فيه شبهة
وهذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع والضعيف ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرها ولا تحل الشفاعة فيه ومن عطله لذلك - وهو قادر على إقامته - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: [ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم دين ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال قيل يا رسول الله: وما ردعة الخبال ؟ قال عصارة أهل النار ] فذكر النبي ﷺ الحكام والشهداء والخصماء وهؤلاء أركان الحكم
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله: [ أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد قال: يا أسامة: أتشفع في حد من حدود الله ؟ إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] ففي هذه القصة عبرة فإن أشرف بيت كان في قريش بطنان: بنو مخزوم وبنو عبد مناف فلما وجب على هذه القطاع بسرقتها التي هي جحود العارية على قول بعض العلماء أو سرقة أخرى - غير هذه - على قول آخرين وكانت ( من ) أكبر القبائل وأشرف البيوت وشفع فيها حب رسول الله ﷺ أسامة غضب رسول الله ﷺ فأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله وهو الشفاعة في الحدود ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين - وقد برأها الله من ذلك - فقال: [ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ]
قد روى: أن هذه المرأة التي قطعت يدها تابت وكانت تدخل بعد ذلك على النبي ﷺ فيقضي حاجتها فقد روى: [ أن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة وإن لم يتب سبقته يده إلى النار ] وروى مالك في الموطأ أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضي الله فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا: إذا رفع إلى عثمان فاشفع فيه عنده فقال: إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع يعني الذي يقبل الشفاعة [ وكان صفوان بن أمية نائما على رداء له في مسجد رسول الله ﷺ فجاء لص فسرقه فأخذه فأتي به النبي ﷺ فأمر بقطع يده فقال: يا رسول الله أعلى ردائي تقطع يده ؟ أنا أهبه له فقال: فهلا قبل أن تأتيني به ؟ ثم قطع يده ] رواه أهل السنن يعني ﷺ أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان فأما بعد أن رفع إلي فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا غير ذلك ولهذا اتفق العلماء - فيما أعلم - على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم بل تجب إقامته وإن تابوا، فإن كانوا صادقين في التوبة كان الحد الكفارة لهم وكان تمكينهم - وذلك من تمام التوبة - بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها والتمكين من استيفاء القصاص في حقوق الآدميين وأصل هذا في قوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى تصير معه شفعا بعد أن كان وترا فإن أعانه على بر وتقوى كانت شفاعة حسنة وإن أعانه على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة
والبر ما أمرت به والإثم ما نهيت عنه وإن كانوا كاذبين فإن الله لا يهدي كيد الخائنين
وقد قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم فقط فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد للعموم والمفهوم والتعليل هذا إذا كان قد ثبت بالبينة فأما إذا كان بإقرار وجاء مقرا بالذنب تائبا فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع وظاهر مذهب أحمد: أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد وعلى هذا حمل حديث ماعز بن مالك لما قال: [ فهلا تركتموه ] وحديث الذي قال [ أصبت حدا فأقمه ] مع آثار أخر وفي سنن أبي داود و النسائي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] وفي سنن النسائي و ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: [ حد يعمل به الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا ] وهذا لأن المعاصي سبب لنقصان الرزق والخوف من العدو كما يدل عليه الكتاب والسنة فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى فحصل الرزق والنصر
ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود ولا بيت المال ولا لغيره وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث وإذا فعل ولي الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين أحدهما: تعطيل الحد والثاني أكل السحت فترك الواجب وفعل المحرم قال الله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} وقال الله تعالى عن اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت} لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى البرطيل وتسمى أحيانا الهدية وغيرها ومتى أكل السحت ولي الأمر احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها وقد روى [ لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي والرائش الواسطة الذي يمشي بينهما ] رواه أهل السنن
وفي الصحيحين: [ أن رجلين اختصما إلى النبي ﷺ فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقال صاحبه - وكان أفقه منه - نعم يا رسول الله: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي فقال: إن ابني كان عسيفا في أهل هذا - يعني أجيرا - فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإن رجالا من أهل العلم أخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها فسألها فاعترفت فرجمها ] ففي هذا الحديث أنه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحد عنه أمر النبي ﷺ بدفع المال إلى صاحبه وأمر بإقامة الحد ولم يأخذ المال للمسلمين: من المجاهدين والفقراء وغيرهم وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث
وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس إنما هو لتعطيل الحد بمال أوجاه وهذا من أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وأهل الأهواء كقيس ويمن وأهل الحاضرة من رؤساء الناس وأعيانهم وفقرائهم وأمراء الناس ومقدميهم وجندهم وهو سبب سقوط حرمة المتولى وسقوط قدره من القلوب وانحلال أمره فإذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه أن يقيم حد آخر وصار من جنس اليهود الملعونين وأصل البرطيل هو الحجر الطويل كما قد جاء في الأثر إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك مثل السحت الذي يسمى التأديبات ألا ترى أن الأعراب المفسدين أخذوا لبعض الناس ثم جاءوا إلى ولي الأمر فقادوا إليه خيلا يقدمونها له أو غير ذلك كيف يقوي طمعهم في الفساد وتنكسر حرمة الولاية والسلطنة وتفسد الرعية
وكذلك الفلاحون وغيرهم وكذلك شارب الخمر إذا أخذ فدفع بعض ماله: كيف يطمع الخمارون فيرجون إذا أمسكوا أن يقدموا بعض أموالهم فيأخذها ذلك الوالي سحتا
وكذلك ذوو الجاه إذا أحموا أحدا أن يقام عليه ( الحد ) مثل أن يرتكب بعض الفلاحين جريمة ثم يأوي إلى قرية نائب السلطان أو أمير فيحمي على الله ورسوله فيكون ذلك حماه ممن لعنه الله ورسوله فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ] فكل من آوى محدثا من هؤلاء المحدثين فقه لعنه الله ورسوله وإذا كان النبي ﷺ قد قال: [ إن من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ] فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده واعتاض عن المجرمين بسحت من المال يأخذه لا سيما الحدود على سكان البر فإن من أعظم فسادهم حماية المعتدين منهم بجاه أو مال سواء كان المال المأخوذ لبيت المال أو للوالي سرا أو علانية فذلك جميعه محرم بإجماع المسلمين وهو مثل تضمين الخانات والخمر فإن من مكن من ذلك أو أعان أحدا عليه بمال يأخذه منه فهو من جنس واحد
والمال المأخوذ على هذا شبيه ما يؤخذ من مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وأجره المتوسط في الحرام الذي يسمى القواد قال النبي ﷺ: [ ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وحلوان الكاهن خبيث ] رواه البخاري
فمهر البغي الذي يسمى حدور القحاب وفي معناه ما يعطاه المخنثون الصبيان من المماليك أو الأحرار على الفجور بهم وحلوان الكاهن مثل حلاوة المنجم ونحوه على ما يخبر به من الأخبار المبشرة بزعمه ونحو ذلك
وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} وقال تعالى {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها} فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقال به المسلمين يوضح ذلك أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقال تعالى عن بني إسرائيل: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} فأخبر الله تعالى أن العذاب لما نزل نجى الذين ينهون عن السوء وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد وفي الحديث الثابت: أنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس على منبر رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ] وفي حديث آخر: [ إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا ظهرت فلم تنكر أضرت العامة ]
وهذا القسم الذي ذكرناه من الحكم في حدود الله وحقوقه ومقصوده الأكبر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالأمر بالمعروف مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقة والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن العشرة مع الأهل والجيران ونحو ذلك فالواجب على ولي الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره ويعاقب التارك بإجماع المسلمين فإن كان التاركون طائفة ممتنعة قوتلوا على تركها بإجماع المسلمين وكذلك يقاتلون على ترك الزكاة والصيام وغيرهما وعلى استحلال ما كان من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كنكاح ذوات المحارم والفساد في الأرض ونحو ذلك فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله باتفاق العلماء وإن كان التارك للصلاة واحدا فقد قيل: إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب فإن تاب وصلى وإلا قتل وهل يقتل كافرا أو مسلما فاسقا ؟ فيه قولان وأكثر السلف على أنه يقتل كافرا وهذا كله مع الإقرار بوجوبها أما إذا جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين وكذلك من جحد سائر الواجبات وفعل المحرمات هو مقصود الجهاد في سبيل الله وهو واجب على الأمة باتفاق كما دل عليه الكتاب والسنة وهو من أفضل الأعمال [ قال رجل: يارسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال: لا تستطيعه أو لا تطيقه قال: أخبرني به ؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ؟ قال: ومن يستطيع ذلك ؟ قال: فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله ] وقال: [ إن الجنة لمئة درجة بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] كلاهما في الصحيحين
وقال النبي ﷺ: [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ] وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} وقال تعالى {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}
من ذلك عقوبة المحاربين وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم قال الله تعالى فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه - في قطاع الطريق -: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي و أحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها ويقطع من رأى مصلحة وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حد الله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين فإن النبي ﷺ قال: [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قاعدتهم ]
==========
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ابن تيمية
نزل نسخة مطبوعة
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز وختمهم بمحمد ﷺ الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزيز وأشهد أن لا إله إلى الله وحده ولا شريك له شهادة خالصة خلاص الذهب الإبريز وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وشهادة يكون صاحبها في حرز حريز
أما بعد فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية والإنابة النبوية لا يستغني عنها الراعي والرعية اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور كما قال النبي ﷺ فيما ثبت عنه من غير وجه: [ إن الله يرضى لكم ثلاثة أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ]
وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}
قال العلماء نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله لأن ذلك من طاعة الله ورسوله وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة
فإن النبي ﷺ لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها نه العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية بدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل قال النبي صلى الله عليه: [ من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله ]
وفي رواية [ من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين ] رواه الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روى ذلك عنه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولى من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمير الحاج والبرد والعيون الذين هم القصاد وخزائن الأموال وحراس الحصون والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون
فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو يسبق في الطلب بل ذلك سبب المنع فإن في الصحيحين عن النبي ﷺ: [ أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه ] وقال لعبد الرحمن بن سمرة: [ يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإن إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه ] أخرجاه في الصحيحين وقال ﷺ: [ من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكا يسدده ] رواه أهل السنن فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أوطريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة أو غر ذلك من الأسباب أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} ثم قال {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}
فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته
ثم أن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثبته الله فيحفظه في أهله وماله وبعده والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذلك أهله ويذهب ماله وفي ذلك الحكاية المشهورة أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته فقال: أدخلوهم علي فأدخلوهم بضعة عشر ذكرا ليس فيهم بالغ فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال: يا بني والله ما منعتكم حقا هو لكم ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين وإما غير صالح فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله قوموا عني قال: فلقد رأيت بعض ولده حمل على مائة فرس في سبيل الله يعني أعطاها لمن يغزو عليها
قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق بلاد الترك إلى أقصى المغرب بلاد الأندلس وغيرها ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها إلى أقصى اليمن وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا يقال: اقل من عشرين درهما - قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه - وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله ما فيه عبرة لكل ذي لب
وقد دلت سنة رسول الله ﷺ على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع مثل ما تقدم ومثل قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الأمارة: [ إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ] رواه مسلم وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: [ إذا ضيعت الأمانة انتظر الساعة قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غيره أهله فانتظر الساعة ] وقد أجمع المسلمون على معنى هذا فإن وصى اليتيم وناظر الوقف ووكيل الرجل في ماله عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح كما قال الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ولم يقل إلا بالتي هي حسنة وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم كما قال النبي ﷺ [ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيت ] أخرجاه في الصحيحين وقال ﷺ [ ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلى حرم الله عليه رائحة الجنة ] رواه مسلم
ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيها الأجير فقالوا: قل السلام عليك: أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا: قل أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل الأجير فقالوا قل الأمير فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها فإن أنت هنأت جرباها وداويت مرضاها وحبست أولادها على أخراها وفاك سيدها أجرها وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها
وهذا ظاهر الاعتبار فإن الخلق عباد الله الولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ففيهم معنى الولاية والوكالة ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا وترك من هو أصلح للتجارة أو المقار منه وباع السلعة بثمن وهو من حاباه وبينه مودة أو قربة فإن صاحبه يبغضه ويذمه أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه
إذا عرف هذا فليس أن يستعمل إلا أصلح الموجود وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا وصار في هذا الموضع من أئمة العدل والمقسطين عند الله وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فإن الله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} ويقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقال {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى وقال النبي ﷺ [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين لكن إن كان منه عجز ولا حاجة إليه أو خيانة عوقب على ذلك وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى {إن خير من استأجرت القوي الأمين} وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وقال تعالى في صفة جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين}
والقوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك كما قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} وقال النبي ﷺ: [ ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ] وفي رواية: [ فهي نعمة جحدها ] رواه مسلم والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفي الأحكام
والأمانة ترجع إلى خشية الله وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ولهذا قال النبي ﷺ: [ القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ] رواه أهل السنن والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله ﷺ: وهو ظاهر
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور فيها على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر ولآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزي ؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر وقد قال النبي ﷺ: [ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] وروى [ بأقوام لا خلاق لهم ] فإذا لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده
ولهذا كان النبي ﷺ يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال: [ إن خالدا سيف سله الله على المشركين ] مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي ﷺ حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال: [ اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد ] لما أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي ﷺ وضمن أموالهم ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل
وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق ومع هذا فقال له النبي ﷺ: [ يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم ] رواه مسلم نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد روى: [ ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ]
وأمر النبي ﷺ مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم على من هم أفضل منه وأمر أسامة بن زيد لأجل ثأر أبيه ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان
وهكذا أبو خليفة رسول الله ﷺ رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة وفي فتوح العراق والشام وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل وقد ذكر له عند أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها بل عتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه وأن غيره لم يكن يقوم مقامه لأن المتولي الكبير إذا كان خلفه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل الأمر ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يؤثر استنابة خالد وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأن خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان لينا كأبي بكر وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ليكون أمره معتدلا ويكون بذلك من خلفاء رسول الله ﷺ الذي هو معتدل حتى قال النبي ﷺ [ أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة ]
وقال: [ أنا الضحوك القتال ] وأمته وسط قال الله تعالى فيهم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي ﷺ من لين أحدهما وشدة الآخر حتى قال فيهما النبي ﷺ: [ اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ] وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب في قتال أهل الردة وغيرهم ما برز به على عمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصحلتين وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام
ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم - فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى - الأورع وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم ففي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل عند حلول الشهوات ]
ويقدمان على الأكفأ إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما من جهة والي الحرب أو العامة
ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع فإن القاضي المطلق يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا بل وكذلك كل وال للمسلمين فأي صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه والكفاءة: إما بقهر ورهبة وإما بإحسان ورغبة وفي الحقيقة فلا بد منهما
وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من يولي القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر؟ على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحاج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها
والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم هم أمراء الحرب الذين هم نواب ذي السلطان على الجند ولهذا لما قدم النبي ﷺ أبا بكر في الصلاة قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها
وكان النبي ﷺ إذا بعث أميرا على حرب كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف وعليا ومعاذا وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران كان نائبه هو الذي يصلي بهم ويقيم فيهم الحدود وغيرها مما يفعله أمير الحرب وكذلك خلفاؤه بعده ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي ﷺ في الصلاة والجهاد وكان إذا عاد مريضا يقول: [ اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا ]
ولما بعث النبي ﷺ إلى اليمن قال: [ يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة ]
وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة
وذلك أن النبي ﷺ قال: [ الصلاة عماد الدين ] فإذا أقام المتولي عماد الدين فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات كما قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}
وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} وقال لنبيه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} وقال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا وإصلاح ما لا يقوم الدين إلى به من أمر دنياهم وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه وعقوبات المعتدين فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه ولهذا كان عمر بن الخطاب يقولك: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقيموا بينكم دينكم فلما تغيرت الرعية من وجه والرعاة من وجه تناقضت الأمور فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله فقد روى [ يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ] وفي مسند الإمام أحمد عن النبي ﷺ أنه قال: [ أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغضهم إليه إمام جائر ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم ورجل غني عفيف متصدق ] وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: [ الساعي على الصدقة بالحق كالمجاهد في سبيل الله ] وقد قال الله تعالى - لما أمر بالجهاد -: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقيل للنبي ﷺ: يا رسول الله - الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: [ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ] أخرجاه في الصحيحين
فالمقصود أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمها كتابه وهكذا قال الله تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله ﷺ أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف - فإذا كان هذا هو المقصود فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب وينظر إلى الرجلين أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي فإذا كانت الولاية مثلا إمامة صلاة فقط قدم من قدمه النبي ﷺ حيث قال: [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه ] رواه مسلم فإذا تكافأ رجلان أو خفي أصلحهما أقرع بينهما كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية لما تشاجروا على الأذان متابعة لقوله ﷺ: [ لو يعلم الناس في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ] فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر وبفعله - ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها
ويدخل في هذا القسم: الأعيان والديون الخاصة والعامة مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك وقد قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم} إلى قوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا تخاصم عنهم وقال النبي ﷺ: [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وقال النبي ﷺ: [ المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأموالهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ] وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي وقال ﷺ: [ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ] رواه البخاري وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم وكذلك أداء العارية وقد خطب النبي ﷺ في خطبة الوداع وقال في خطبته: [ العارية مؤداة والمنحة مردودة الدين مقضي والزعيم غارم إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ]
وهذا القسم يتناول الولاة والرعية فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه وكذلك على الرعية الذين يجب عليهم الحقوق وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال مالا يستحقونه فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون * إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}
ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه من الحقوق وإن كان ظالما كما أمر النبي ﷺ لما ذكر جور الولاة فقال: [ أدوا إليهم الذي لهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ] ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: [ كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا: فما تأمرنا ؟ فقال: أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ]
وفيها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم ]
وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا كما قال رسول الله ﷺ: [ إني - والله - لا أعطي ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ونحوه فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره فيضع حيث أمره الله تعالى
وهكذا قال رجل لعمل بن الخطاب: يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء ؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منه مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم ؟ وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مال عظيم من الخمس فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذه لأمناء فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعت
وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك والذي على ولي الأمر أن يأخذ المال من حله ويضعه في حقه ولا يمنعه من مستحقه وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم يقول: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك أو يتركوا حقك
الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف: الغنيمة والصدقة والفيء
فأما الغنيمة فهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال ذكرها الله في سورة الأنفال التي أنزلها في غزوة بدر وسماها أنفالا لأنا زيادة في أموال المسلمين فقال: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} إلى قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} الآية وقال: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: [ أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] وقال النبي ﷺ: [ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحي ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ] رواه أحمد في المسند عن ابن عمر واستشهد به البخاري
فالواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى وقسمة الباقي بين الغانمين قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم الذين شهدوها للقتال قاتلوا أو لم يقاتلوا ويجب قسمها بينهم بالعدل فلا يحابى أحد لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله كما كان النبي ﷺ وخلفاؤه يقسمونها وفي صحيح البخاري: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى له فضلا على من دونه فقال النبي ﷺ: [ هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ ] وفي مسند أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: [ قلت: يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم يكون سهمه وسهم غيره سواء ؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ ]
وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر لكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية كسرية تسرت من الجيش أو رجل صعد حصنا عاليا ففتحه أو حمل على مقدم العدو فقتله فهزم العدو ونحو ذلكن لأن النبي ﷺ وخلفاءه كانوا ينفلون لذلك
وكان ينفل السرية في البداية الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس وقال بعضهم: إنه يكون من خمس الخمس لئلا يفضل بعض الفاتحين على بعض والصحيح أنه يجوز من أربعة الأخماس وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية لا هوى النفس كما فعل رسول الله ﷺ غير مرة وهذا قول فقهاء الشام و أبي حنيفة و أحمد وغيرهم وعلى هذا فقد قيل: إنه ينفل الربع والثلث بشرط وغير شرط وينفل الزيادة على ذلك الشرط مثل أن يقول: من دلني على قلعة فله كذا ومن جاء برأس فله كذا ونحو ذلك وقيل: لا ينفل زيادة على الثلث ولا ينفله إلا بالشرط وهذان قولان لأحمد وغيرهن وكذلك - على القول الصحيح - للإمام أن يقول: من اخذ شيئا فهو له كما روى أن النبي ﷺ كان قد قال ذلك في غزة بدر إذا رأي ذلك مصلحة راجحة على المفسدة
وإذا كان الإمام يجمع الغنائم ويقسمها لم يجز لأحد أن يغل منها شيئا {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} فإن الغلول خيانة ولا تجوز النهبة فإن النبي ﷺ نهى عنها فإذا ترك الإمام الجمع والقسمة وأذن في الأخذ إذنا جائزا فمن أخذ شيئا بلا عدوان حل له بعد تخميسه وكل ما دل على الإذن فهو إذن وأما إذا لم يأذن أو أذن إذنا غير جائز جاز للإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة متحريا للعدل في ذلك
ومن حرم على المسلمين جمع المغانم والحال هذه وأباح الإمام أن يفعل فيها ما يشاء فقد تقابل القولان تقابل الطرفين ودين الله وسط والعدل في القسمة: أن يقسم للراجل سهم وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه هكذا قسم النبي ﷺ عام خيبر ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه - ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة راجلين - ومنهم من يقول: يسور بين الفرس العرب والهجين في هذا ومنهم من يقول: بل الهجين يسهم له سهم واحد كما روى عن النبي ﷺ وأصحابه والفرس الهجين الذي تكون أمه نبطية - ويسمى البرذون - وبعضهم يسميه التتري سواء كان حصانا أو خصيا ويسمى الإكديش أو رمكة وهي الحجر كان السلف يعدون للقتال الحصان لقوته وحدته وللإغارة والبيات الحجر لأنه ليس لها صهيل ينذر العدو فيحترزون وللسير الخصي لأنه أصبر على السير
وإذا كان المغنوم مالا - قد كان للمسلمين قبل ذلك من عقار أو منقول وعرف صاحبه قبل القسمة - فإنه يرد إليه بإجماع المسلمين وتفاريع المغانم وأحكامها فيها آثار وأقوال اتفق المسلمون على بعضها وتنازعوا في بعض ذلك ليس هذا موضعها وإنما الغرض ذكر الجمل الجامعة
وأما الصدقات فهي لمن سمى الله تعالى في كتابه فقد روى عن النبي ﷺ: أن رجلا سأله من الصدقة فقال: [ إن الله لم يرض في الصدقة بقسم نبي ولا غيرهن ولكن جزاها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك ]
( فالفقراء والمساكين ) يجمعها معنى الحاجة إلى الكفاية فلا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ( والعاملين عليها ) هم الذين يجبونها ويحفظونها ويكتبونها ونحو ذلك ( والمؤلفة قلوبهم ) سنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في مال الفيء ( وفي الرقاب ) يدخل فيه إعانة المكاتبين وافتداء الأسرى وعتق الرقاب هذا أقوى الأقوال فيها ( والغارمين ) هم الذين عليهم ديون لا يجدون وفاءهان فيعطون وفاء ديونهم ولو كان كثيرا إلا أن يكونوا غرموه في معصية الله تعالى فلا يعطون حتى يتوبوا ( وفي سبيل الله ) وهم الغزاة الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم فيعطون ما يغزون به أو تمام ما يغزون به من خيل وسلاح ونفقة وأجرة والحج من سبيل الله كما قال النبي ﷺ ( وابن السبيل ) هو المجتاز من بلد إلى بلد
وأما الفيء فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر التي أنزلها الله في غزة بني النضير بعد بدر من قوله تعال {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}
ومعنى قوله {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ما حركتم ولا سقتم خيلا ولا إبلا ولهذا قال الفقهاء: إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال لأن إيجاف الخيل والركاب هو معنى القتال وسمي فيئا لأن الله أفاءه على المسلمين أي رده عليهم من الكفار فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته لعباده المؤمنين الذين يعبدونه وأفاء إليهم ما يستحقونه كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك وهذا مثل الجزية التي على اليهود والنصارى والمال الذي يصالح عليه العدو أو يهدونه إلى سلطان المسلمين الحمل الذي يحمل من بلاد النصارى ونحوه وما يؤخذ من تجار أهل الحرب وهو العشر ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا من غير بلادهم وهو نصف العشر
هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ وما يأخذ من أموال من ينقض العهد منهم والخراج الذي كان مضربا في الأصل عليهم وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين
ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين: كالأموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين وكالغصوب والعواري والودائع التي تعذر معرفة أصحابها وغير ذلك من أموال المسلمين العقار والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين وإنما ذكر الله تعالى في القرآن الفيء فقط لأن النبي ﷺ ما كان يموت على عهده ميت إلا وله وارث معين لظهور الأنساب في أصحابه وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر تلك القبيلة أي أقربهم نسبا إلى جدهم وقد قال بذلك طائفة من العلماء كأحمد في قول منصوص وغيره ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له فدفع ميراثه إلى عتيقه وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان ﷺ هو وخلفاءه يتوسعون في دفع ميراث الميت إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه
ولم يكن يأخذ من المسلمين إلا الصدقات وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما أمر الله به في كتابه
ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوان جامع على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد وكثر الناس فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم وديوان الجيش - في هذا الزمان - مشتمل على أكثره وذلك الديوان هو أهم دواوين المسلمين
وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال وكان النبي ﷺ وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير ذلك فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع: نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع كما ذكرناه ونوع يحرم أخذه بالإجماع كالجنايات التي تؤخذ من أهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم وإن كان له وارث أو على حد ارتكب - وتسقط عنه العقوبة بذلك وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقا ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم - وليس بذي فرض ولا عصبة - ونحو ذلك
وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما لا يحل وهؤلاء يمنعون ما يجب كما قد يتظالم الجند والفلاحون وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب ويكنز الولاة من مال الله مما لا يحل كنزه وكذلك العقوبات على أداء الأموال فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب وقد يفعل ما لا يحل
والأصل في ذلك: أن كل من عليه مال يجب أداؤه كرجل عنده وديعة أو مضارة أو شركة أو مال لموكله أو مال يتيم أو مال وقف أو مال لبيت المال أو عنده دين هو قادر على أدائه فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين وعرف أنه قادر على أدائه فإنه يستحق العقوبة حتى يظهر المال - أو يدل على موضعه - فإذا عرف المال وصير في الحبس فإنه يستوفي الحق من المال ولا حاجة إلى ضربه به وإن امتنع من الدلالة على مال ومن الإيفاء ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها لما روى عمر بن الشريد عن أبيه عن النبي ﷺ أنه قال [ لي الواجد يحل عرضه عقوبته ] رواه أهل السنن وقال ﷺ [ مطل الغني ظلم ] أخرجاه في الصحيحين واللي هو المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه: أن كل من فعل محرما أو ترك واجبا استحق العقوبة فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيرا يجتهد فيه ولي الأمر فيعاقب الغني المماطل بالحبس فإن أصر عوقب بالضرب حتى يؤدي الواجب وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم رضي الله عنهم ولا أعلم فيه خلافا
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح سأل بعض اليهود وهو سعية عم حيي بن أخطب عن كنز مال حيي بن أخطب فقال أذهبته النفقات والحروب فقال ك [ العهد قريب والمال أكثر من ذلك ] فدفع النبي ﷺ سعية إلى الزبير فمسه بعذاب فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة وهذا الرجل كان ذميا والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك يعاقب على ترك الواجب
وما أخذ ولاة الأموال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: هدايا العمال غلول وروى إبراهيم الحربي - في كتاب الهدايا - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: [ هدايا الأمراء غلول ] وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي ﷺ رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي ﷺ: [ ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يجمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ ثلاثا ]
وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك من الهداية ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها وكان الأمر يقتضي ذلك لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية فلما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما أباح الله له
وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهداية ونحوها ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم ويترك ما أوجبه الله من قضاء حوائجهم فيكون من اخذ منهم عوضا على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة أحب إليهم من هذا فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم وتعريفه بأمورهم ودلالته على مصالحهم وصرفه عن مفاسدهم بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة كما يفعل ذوو الأغراض من الكتاب ونحوهم في أغراضهم ففي حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه كان يقول: [ أبلغوني حاجة من لا يستطيق إبلاغها فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ]
وقد روى الإمام أحمد و أبو داود في سننه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ] وروى إبراهيم الحربي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل فيقضي له فيهدى إليه فيقبلها وروى أيضا عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى له صاحبها وصيفا فرده عليه وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من رد عن مسلم مظلمة فرزأه عليها قليلا أو كثيرا فهو سحت فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذاك كفر
فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه فلا ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منهما ظالم كلص سرق من لصن وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم فإن التعاون نوعان :
الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين فهذا مما أمر الله به ورسوله ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهما أنه متورع وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك
والثاني: تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه لله ورسوله
نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوى إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوية إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء كمالك و أبو حنيفة و أحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص في موضع آخر
وإن كان غيره قد أخذها فعليه هو أن يفعل بها ذلك وكذلك لو امتنع السلطان من ردها كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين فإن مدار الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وهي مبينة لقوله {اتقوا الله حق تقاته} وعلى قول النبي ﷺ: [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتبطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع
والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم مثال ذلك ولي اليتيم والوقف إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك - بمال أقل منه إليه - أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن وما على المحسنين من سبيل
وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ
كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء كان محسنا
لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذي يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم ثم يقذفون في النار
وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة
فمنهم المقاتلة: الذين هم أهل النصرة والجهاد وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء: هل هو مختص بهم أو مشترك في جميع المصالح ؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا إلا ما خص به نوع كالصدقات والمغنم
ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم كالولاة والقضاة والعلماء والسعاة على المال جمعا وحفظا وقسمة ونحو ذلك حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك
وكذا صرفه في الأثمان والأجور لما يعم نفعه من سداد والثغور بالكراع والسلاح وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس كالجسور والقناطر وطرقات المياه كالأنهار
ومن المستحقين: ذوو الحاجات فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون في غير الصدقات من الفيء ونحوه على غيره ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره منهم من قال: يقدمون ومنهم من قال: المال استحق بالإسلام فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث والصحيح أنهم يقدمون فإن النبي ﷺ كان يقدم ذوي الحاجات كما قدمهم في مال بني النضير وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد إنما هو الرجل وسابقته والرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وحاجته فجعلهم عمر رضي الله عنه أربعة أقسام :
(الأول) ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال
(الثاني) من يغني عن المسلمين في جلب المنافع له كولاة الأمور والعلماء الذين يجعلون لهم منافع الدين والدنيا
(الثالث) من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم
(الرابع) ذوو الحاجات
واذا حصل من هؤلاء متبرع فقد أغنى الله به وإلا أعطي ما يكفيه أو قدر عمله وإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات أيضا فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة أو ميراث
ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا مالا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة ونحو ذلك فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه كعطية المخنثين من الصبيان المردان الأحرار والمماليك ونحوهم والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم
لكن يجوز - بل يجب - الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه وإن كان هو لا يحل له أخذ ذلك كما أباح الله تعالى في القرآن العطاء للمؤلفة قلوبهم من الصدقات وكما كان النبي ﷺ يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه وهم السادة المطاعون في عشائرهم كما كان النبي ﷺ يعطي الأقرع بن حابس سيد بني تميم وعيينة بن حصن سيد بني فزارة وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان وعلقمة ابن عاثة العامري سيد بني كلاب ومثل سادات قريش من الطلقاء كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمر والحارث بن هشام وعدد كثير ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي وهو باليمن بذهبية بتربتها إلى رسول الله ﷺ فقسمها رسول الله ﷺ بين أنفر: والأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن حصن الفزاري وعلقمة ابن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي أحد بني نبهان
قال: فغضبت قريش والأنصار فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله ﷺ: [ إني إنما فعلت ذلك لتألفهم ] فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس فقال: اتق الله يا محمد. فقال رسول الله ﷺ: [ فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني أهل الأرض ولا تأمنوني؟ ]
قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتلهن ويرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله ﷺ: [ إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ]
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله ﷺ أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة ابن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس ذلك فقال عباد بن مرداس :
( أتجعل نهبي ونهب العبـ ... يد بين عيينة والأقرع )
( وما كان حصن ولا حابس يفو ... قان مرداس في المجمع )
( وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع )
قال: فأتم له رسول الله ﷺ مائة رواه مسلم و العبيد اسم فرس له
والمؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم فالكافر: إما أن ترجى بعطيته منفعة كإسلامه أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا كحسن إسلامه أو إسلام نظيره أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف أو لنكاية في العدو أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك
وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات فإذا كان قصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان من جنس عطاء النبي ﷺ وخلفائه وإن كان المقصود العلو في الارض والفساد كان من جنس عطاء فرعون وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي ﷺ حتى قال فيه ما قال وكذا حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم
وهؤلاء أمر النبي ﷺ بقتالهم لأن معهم دين فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخره وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل فإن كلاهما فيه ترك فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة جبنا وبخلا وقد قال النبي ﷺ: [ شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع ] قال الترمذي: حديث صحيح
كذلك قد يترك الإنسان العمل ظنا أو إظهارا أنه ورع وإنما هو كبر وإرادة للعلو وقول النبي ﷺ: [ إنما الأعمال بالنيات ] كلمة جامعة كاملة فإن النية للعمل كالروح للجسد وإلا فكل واحد من الساجد لله والساجد للشمس والقمر قد وضع جبهته على الأرض فصورتهما واحدة ثم هذا أقرب الخلق إلى الله تعالى وهذا أبعد الخلق عن الله وقد قال الله تعالى: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} وفي الأثر أفضل الإيمان: السماحة والصبر فلا يتم رعابة الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء والنجدة التي هي الشجاعة بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك ولهذا كان من لا يقوم بهما سلبه الأمر ونقله إلى غيره كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} وقال تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} وقد قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء والقتال الذي هوالشجاعة وكذلك قال الله تعالى في غير موضع: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وبين أن البخل من الكبائر في قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} وفي قوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} الآية وكذلك الجبن في مثل قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} وفي قوله تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} وهو كثير في الكتاب والسنة وهو مما تفق عليه أهل الأرض حتى إنهم يقولون في الأمثال العامية: لا طعنة ولا جفنة ويقولون: لا فارس الخيل ولا وجه العرب
ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق: فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد فلم ينظروا في عاقبة المعاد ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها فصاروا فهابين وهابي وهؤلاء يقولون: لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم فإنه إذا تولى العفيف الذي لا يأكل ولا يطعم سخط عليه الرؤساء وعزلوه إن لم يضروه في نفسه وماله وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة إن لم يحصل له ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها
وفريق عندهم خوف من الله تعالى ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق وفعل المحارم فهذا حسن واجب ولكن قد يعتقدون مع ذلك: أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام فيمنعون عنها مطلقا وربما كان في نفوسهم جبن أو بخل أو ضيق خلق بنضم إلى ما معهم من الدين فيقعون أحيانا في ترك واجب يكون تركه أضر عليهم من بعض المحرمات أو يقعون في النهي عن واجب يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله وقد يكونون متأولين وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ولا يتم إلا بالقتال فيقاتلون المسلمين كما فعلة الخوارج وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين وبعض أمور الدنيا وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا ويغفر لهم قصورهم وقد يكونون من الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره ولا يرى أنه يتألف الناس من الكبار والفجار لا بمال ولا بنفع ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم
الفريق الثالث: الأمة الوسط وهم ( أهل ) دين محمد ﷺ وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة وهو إنفاق المال والمنافع للناس - وإن كانوا رؤساء - بحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال ولإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين وعفته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه فيجمعون بين التقوى والإحسان {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}
ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة
وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إليه إلى طعامه ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه والأولون فإن الذي يأخذ لنفسه تطمع فيه النفوس ما لا تطمع في العفيف ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني فإن العفة مع القدرة تقوى حرمة الدين وفي الصحيحين عن أبي سفيان بن حرب أن هرقل ملك الروم قال له عن النبي ﷺ: بماذا يأمركم ؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة - وفي الأثر: أن الله أوحى إلى إبراهيم الخليل عليه السلام: يا إبراهيم أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ هذا الذي ذكرناه في الرزق والعطاء الذي هو السخاء وبذل المنافع نظيره في الصبر والغضب الذي هو الشجاعة ودفع المضار
إن الناس ثلاثة أقسام: قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم والثالث - وهو الوسط - أن يغضب لا لنفسه كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده: خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله
فأما من يغضب لنفسه لا لربه أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره فهذا القسم الرابع شر الخلق لا يصلح بهم دين ولا دنيا
كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه ويعفون عن حظوظهم وهذا أخلاق رسول الله صلى عليه وسلم في بذله ودفعه وهي أكمل الأمور
وكلما كان إليها أقرب كان أفضل فليجتهد المسلم في التقرب إليها بجهد ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره أو تقصيره بعد أن يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا ﷺ من الدين فهذا في قول الله سبحانه وتعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والله أعلم
وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس يكون في الحدود والحقوق وهما قسمان:
فالقسم الأول الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم وكلهم محتاج إليها وتسمى حدود الله وحقوق الله مثل: حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم ومثل: الحكم في الأمور السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين فهذه من أهم أمور الولايات ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء
وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به وأن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره لكنهم يتفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق وقد اشترط المطالبة بالمال لئلا يكون للسارق فيه شبهة
وهذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع والضعيف ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرها ولا تحل الشفاعة فيه ومن عطله لذلك - وهو قادر على إقامته - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: [ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم دين ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال قيل يا رسول الله: وما ردعة الخبال ؟ قال عصارة أهل النار ] فذكر النبي ﷺ الحكام والشهداء والخصماء وهؤلاء أركان الحكم
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله: [ أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد قال: يا أسامة: أتشفع في حد من حدود الله ؟ إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] ففي هذه القصة عبرة فإن أشرف بيت كان في قريش بطنان: بنو مخزوم وبنو عبد مناف فلما وجب على هذه القطاع بسرقتها التي هي جحود العارية على قول بعض العلماء أو سرقة أخرى - غير هذه - على قول آخرين وكانت ( من ) أكبر القبائل وأشرف البيوت وشفع فيها حب رسول الله ﷺ أسامة غضب رسول الله ﷺ فأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله وهو الشفاعة في الحدود ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين - وقد برأها الله من ذلك - فقال: [ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ]
قد روى: أن هذه المرأة التي قطعت يدها تابت وكانت تدخل بعد ذلك على النبي ﷺ فيقضي حاجتها فقد روى: [ أن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة وإن لم يتب سبقته يده إلى النار ] وروى مالك في الموطأ أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضي الله فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا: إذا رفع إلى عثمان فاشفع فيه عنده فقال: إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع يعني الذي يقبل الشفاعة [ وكان صفوان بن أمية نائما على رداء له في مسجد رسول الله ﷺ فجاء لص فسرقه فأخذه فأتي به النبي ﷺ فأمر بقطع يده فقال: يا رسول الله أعلى ردائي تقطع يده ؟ أنا أهبه له فقال: فهلا قبل أن تأتيني به ؟ ثم قطع يده ] رواه أهل السنن يعني ﷺ أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان فأما بعد أن رفع إلي فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا غير ذلك ولهذا اتفق العلماء - فيما أعلم - على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم بل تجب إقامته وإن تابوا، فإن كانوا صادقين في التوبة كان الحد الكفارة لهم وكان تمكينهم - وذلك من تمام التوبة - بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها والتمكين من استيفاء القصاص في حقوق الآدميين وأصل هذا في قوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى تصير معه شفعا بعد أن كان وترا فإن أعانه على بر وتقوى كانت شفاعة حسنة وإن أعانه على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة
والبر ما أمرت به والإثم ما نهيت عنه وإن كانوا كاذبين فإن الله لا يهدي كيد الخائنين
وقد قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم فقط فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد للعموم والمفهوم والتعليل هذا إذا كان قد ثبت بالبينة فأما إذا كان بإقرار وجاء مقرا بالذنب تائبا فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع وظاهر مذهب أحمد: أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد وعلى هذا حمل حديث ماعز بن مالك لما قال: [ فهلا تركتموه ] وحديث الذي قال [ أصبت حدا فأقمه ] مع آثار أخر وفي سنن أبي داود و النسائي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] وفي سنن النسائي و ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: [ حد يعمل به الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا ] وهذا لأن المعاصي سبب لنقصان الرزق والخوف من العدو كما يدل عليه الكتاب والسنة فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى فحصل الرزق والنصر
ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود ولا بيت المال ولا لغيره وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث وإذا فعل ولي الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين أحدهما: تعطيل الحد والثاني أكل السحت فترك الواجب وفعل المحرم قال الله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} وقال الله تعالى عن اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت} لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى البرطيل وتسمى أحيانا الهدية وغيرها ومتى أكل السحت ولي الأمر احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها وقد روى [ لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي والرائش الواسطة الذي يمشي بينهما ] رواه أهل السنن
وفي الصحيحين: [ أن رجلين اختصما إلى النبي ﷺ فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقال صاحبه - وكان أفقه منه - نعم يا رسول الله: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي فقال: إن ابني كان عسيفا في أهل هذا - يعني أجيرا - فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإن رجالا من أهل العلم أخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها فسألها فاعترفت فرجمها ] ففي هذا الحديث أنه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحد عنه أمر النبي ﷺ بدفع المال إلى صاحبه وأمر بإقامة الحد ولم يأخذ المال للمسلمين: من المجاهدين والفقراء وغيرهم وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث
وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس إنما هو لتعطيل الحد بمال أوجاه وهذا من أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وأهل الأهواء كقيس ويمن وأهل الحاضرة من رؤساء الناس وأعيانهم وفقرائهم وأمراء الناس ومقدميهم وجندهم وهو سبب سقوط حرمة المتولى وسقوط قدره من القلوب وانحلال أمره فإذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه أن يقيم حد آخر وصار من جنس اليهود الملعونين وأصل البرطيل هو الحجر الطويل كما قد جاء في الأثر إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك مثل السحت الذي يسمى التأديبات ألا ترى أن الأعراب المفسدين أخذوا لبعض الناس ثم جاءوا إلى ولي الأمر فقادوا إليه خيلا يقدمونها له أو غير ذلك كيف يقوي طمعهم في الفساد وتنكسر حرمة الولاية والسلطنة وتفسد الرعية
وكذلك الفلاحون وغيرهم وكذلك شارب الخمر إذا أخذ فدفع بعض ماله: كيف يطمع الخمارون فيرجون إذا أمسكوا أن يقدموا بعض أموالهم فيأخذها ذلك الوالي سحتا
وكذلك ذوو الجاه إذا أحموا أحدا أن يقام عليه ( الحد ) مثل أن يرتكب بعض الفلاحين جريمة ثم يأوي إلى قرية نائب السلطان أو أمير فيحمي على الله ورسوله فيكون ذلك حماه ممن لعنه الله ورسوله فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ] فكل من آوى محدثا من هؤلاء المحدثين فقه لعنه الله ورسوله وإذا كان النبي ﷺ قد قال: [ إن من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ] فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده واعتاض عن المجرمين بسحت من المال يأخذه لا سيما الحدود على سكان البر فإن من أعظم فسادهم حماية المعتدين منهم بجاه أو مال سواء كان المال المأخوذ لبيت المال أو للوالي سرا أو علانية فذلك جميعه محرم بإجماع المسلمين وهو مثل تضمين الخانات والخمر فإن من مكن من ذلك أو أعان أحدا عليه بمال يأخذه منه فهو من جنس واحد
والمال المأخوذ على هذا شبيه ما يؤخذ من مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وأجره المتوسط في الحرام الذي يسمى القواد قال النبي ﷺ: [ ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وحلوان الكاهن خبيث ] رواه البخاري
فمهر البغي الذي يسمى حدور القحاب وفي معناه ما يعطاه المخنثون الصبيان من المماليك أو الأحرار على الفجور بهم وحلوان الكاهن مثل حلاوة المنجم ونحوه على ما يخبر به من الأخبار المبشرة بزعمه ونحو ذلك
وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} وقال تعالى {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها} فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقال به المسلمين يوضح ذلك أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقال تعالى عن بني إسرائيل: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} فأخبر الله تعالى أن العذاب لما نزل نجى الذين ينهون عن السوء وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد وفي الحديث الثابت: أنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس على منبر رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ] وفي حديث آخر: [ إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا ظهرت فلم تنكر أضرت العامة ]
وهذا القسم الذي ذكرناه من الحكم في حدود الله وحقوقه ومقصوده الأكبر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالأمر بالمعروف مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقة والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن العشرة مع الأهل والجيران ونحو ذلك فالواجب على ولي الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره ويعاقب التارك بإجماع المسلمين فإن كان التاركون طائفة ممتنعة قوتلوا على تركها بإجماع المسلمين وكذلك يقاتلون على ترك الزكاة والصيام وغيرهما وعلى استحلال ما كان من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كنكاح ذوات المحارم والفساد في الأرض ونحو ذلك فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله باتفاق العلماء وإن كان التارك للصلاة واحدا فقد قيل: إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب فإن تاب وصلى وإلا قتل وهل يقتل كافرا أو مسلما فاسقا ؟ فيه قولان وأكثر السلف على أنه يقتل كافرا وهذا كله مع الإقرار بوجوبها أما إذا جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين وكذلك من جحد سائر الواجبات وفعل المحرمات هو مقصود الجهاد في سبيل الله وهو واجب على الأمة باتفاق كما دل عليه الكتاب والسنة وهو من أفضل الأعمال [ قال رجل: يارسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال: لا تستطيعه أو لا تطيقه قال: أخبرني به ؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ؟ قال: ومن يستطيع ذلك ؟ قال: فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله ] وقال: [ إن الجنة لمئة درجة بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] كلاهما في الصحيحين
وقال النبي ﷺ: [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ] وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} وقال تعالى {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}
من ذلك عقوبة المحاربين وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم قال الله تعالى فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه - في قطاع الطريق -: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي و أحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها ويقطع من رأى مصلحة وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حد الله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين فإن النبي ﷺ قال: [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قاعدتهم ]
يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا فإن الجيش يشاركها فيها غنمت لأنها بظهره وقوته تمكنت لكن تنفل عنه نفلا فإن النبي ﷺ كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي ﷺ لطلحة والزبير يوم بدر لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم - وهكذا المقتتلون على باطل - لا تأويل فيه مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما هما ظالمتان كما قال النبي ﷺ: [ إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله: هذا القاتل فم بال المقتول ؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه ] أخرجاه في الصحيحين وتضمن طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراف كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة و أحمد وغيرهم وهذا معنى قول الله تعالى: {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت
وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل فإنه قد ينسى وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله وإذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم أغمدوه وأو هربوا أو تركوا الحرب فإنهم ينفون قيل: نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد وقيل: هو حبسهم وقيل هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك
والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه وقال النبي ﷺ: [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] رواه مسلم وقال: إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون
وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل: فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله ﷺ خطبة إلى أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مافعلوا والترك أفضل كما قال الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله} قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي ﷺ: [ لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا ] فأنزل الله هذه الآية وإن كان قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} وقوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبي ﷺ [ بل نصبر ] وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال: [ كان النبي ﷺ إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاهم بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولاتمثلوا ولا تقتلوا وليدا ]
ولو شهروا السلاح في البنيان - لا في الصحراء - لأخذ المال فقد قيل إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس وقال أكثرهم: عن حكمهم في البنيان والصحراء واحد وهذا قول مالك - في المشهور عنه - و الشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه - غالبا - إلا بعض ماله وهذا هو الصواب لا سيما هؤلاء المحترفون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين ولو حاربوا بالعصى والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها فهم محاربون أيضا وقد حكى عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد وحكى بعضهم الإجماع: على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتل فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصي فهو مجاهد في سبيل الله وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم أو يدعوا إلى منزلة من يستأجره لخياطة أو طبيبا أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان أخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليه حكم القود ؟ ففيه قولان للفقهاء :
أحدهما: أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به
واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما: هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم - على قولين في مذهب أحمد وغيره - لأن في قتله فسادا عاما
وهذا كله إذا قدر عليهم فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تخربوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك وهؤلاء كالمحاربين الذين إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم في الدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلية الذين يعتصمون برؤوس الجبال أو المغارات لقطاع الطريق وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة فإنهم يقاتلون كما ذكرنا لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذ لم يكونوا كفارا ولا تأخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق فإن عليهم ضمانها فيأخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشرة سواء كما قلناه لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك
بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يكون قد وجب عليهم القتل وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ومن أسر منهم أقيم عليهم الحد الذي أقيم على غيره ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك فإما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة على شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا لقتالهم وأما من كان لا يقطع الطريق ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس والدواب والأحمال ونحو ذلك فهذا مكاس عليه عقوبة المكاسين
وقد اختلف الفقهاء في جواز قتله وليس هو من قطاع الطريق فإن الطريق لا ينقطع به مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة حتى قال النبي ﷺ في الغامدية: [ لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ] ويجوز للمطلوبين الذين تراد أموالهم قتال المحاربين بإجماع المسلمين ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير إذا أمكن قتالهم قال النبي ﷺ: [ من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ]
وهذا الذي تسميه الفقهاء الصائل وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية فإذا كان مطلوبه المال جاز منعه بما يمكن فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز وأما إن كان مطلوبة الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الزنا أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن ولو بالقتال ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه لأن بذل المال جائز وبذلك الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه وهل يجب عليه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وهذا إذا كان للناس سلطان وأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها ؟ على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية - وقد أخذوا الأموال التي للناس - فعليه أن يستخرج منهم الأموال التي للناس ويردها عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم وكذلك السارق فإن امتنعوا من إحضار المال بعد ثبوتهم عليهم عاقبهم بالحبس والضرب حتى يمكنوا من أخذه بإحضاره أو توكيل من يحضره أو الإخبار بمكانه كما يعاقب كل ممتنع عن حق وجب عليه أداؤه فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليه حتى تؤديه فهؤلاء أولى وأحرى وهذه المطالبة والعقوبة حق لرب المال فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عليه فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليه فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه
وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق فقيل: يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين وهو قول الشافعي و أحمد رضي الله عنهما وتبقى مع الإعسار في ذمتهم إلى ميسرة وقيل: لا يجتمع الغرم والقطع وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل: يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار وهو قول مالك رحمه الله ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا على طلب المحاربين وإقامة الحد وارتجاع أموال الناس منهم ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى البيكار
وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة فإن كان لهم إقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات فإن هذا من سبيل الله فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف فأعطى الإمام من الفيء والمصالح أو الزكاة لبعض رؤساهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره وهو ظاهر في الكتاب والسنة وأصول الشريعة
ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقاومة الحرامية ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين بعض أموالهم أو لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا والواجب أن يقال ما يقال في الرد والعون لهم فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثر أهل العلم وإن أخذوا المال قطعت يده وإن قتلوا وأخذوا المال قتل وصلب وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب وقيل: يخير بين هذين وإن كانوا لم يؤذن لهم لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال وعطل بعض الحقوق والحدود
ومن أوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفى منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم ولقد لعنه الله ورسوله وروى مسلم: [ لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ] وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب من إحضاره أو الإعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها: ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذين يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل فإنه لا يحب الإعلام به لأنه من التعاون على الإثم والعدوان بل يجب الدفع عنه لأن نصر المظلوم واجب ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول ﷺ: [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ]
وروى مسلم نحوه عن جابر وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله ﷺ بسبع: وينهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم وإجابة الدعوى ونصر المظلوم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن لبس الحرير والقسي والديباح والإستبرق فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جازت عقوبته بالحبس وغيره حتى يخبر به لأنه امتنع من حق واجب عليه لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم ولا تجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به
وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل وليس هذا مطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره حتى يدخل في قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وفي النبي ﷺ: [ ألا لا يجني جان إلى على نفسه ] وإنما ذلك مثل أن يطلب بمال قد وجب على غيره وهو ليس وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال أو يعاقب الرجل بجريمة قريبه أو جاره من غير أن يكون قد أذنب لا بترك واجب ولا بفعل محرم فهذا الذي لا يحل فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسهن وهو أن يكون قد علم مكان الظالم لذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو يعلم مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع إما محاباة وحمية لذلك الظالم كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض وإما معاداة أو بغضا للمظلوم وقد قال الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}
وإما إعراضنا عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض
وعلى كل تقدير فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء
ومن لم يسلك هذه السبل عطل الحدود وضيع الحقوق وأكل القوي والضعيف وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفي به دينه أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبه وكما تجب الدية على عاقلة القاتل وهذا الضرب من التعزيز عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره وهو لا يحضره كالقطاع والسراق وحماتهم أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يتعدى عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ويجتمع شبهة وشهوته والواجب تمييز الحق من الباطل وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان طالما مبطلا على المحق المظلوم لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناويهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى ما يناويهم ذلا أو عجزا وهذا - على الإطلاق - جاهية محضة وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر أنه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب بسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذا سبب دخول الترك المغول دار الإسلام واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو ذلك
ومن أذل نفسه لله فقد أعزها ومن بذل الحق من نفسه فقد أكر نفسه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} وقال تعالى عن المنافقين: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}
وإنما الواجب على من استجار به مستجير - إن كان مظلوما ينصره ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم بل يكشف خبره من خصمه وغيره فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن إما من صلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل أو غلظ وقع فيما بينهما سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} وقال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} وقد روى أبو داود في السنن [ عن النبي ﷺ أنه قيل له: أمن العصبية أن ينصر الرجل في الحق ؟ قال: لا قال: ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل ] وقال: [ خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم ] وقال: [ مثل الذين ينصر قومه بالباطل كبعير تردى في بئر فهر يجر بذنبه ] وقال: [ من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا يتكنوا ]
وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار قال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري: يا للأنصار قال النبي ﷺ: [ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ ] وغضب لذلك غضبا شديدا
وأما السارق يجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة أو بالإقرار تأخيره ولا مال يفتدى به ولا غيره بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لإشفاء غيظه وإرادة العلو عن الخلق به منزلة الوالد إذا أدب ولده فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الكريه وبمنزلة قطع العضو المتأكل والحجم ويقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة
فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وابتغى بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره لأن الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد
وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أن ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي ﷺ وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد ساهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم ؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه قال: كيف محبتكم له ؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا قال: فكيف أدبه فيكم قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء
وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه فإن سرق ثانيا: قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا ورابعا: فيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما: تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين و أحمد في روايته الأخرى وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحجاز وغيرهم كمالك و الشافعي و أحمد ومنهم من يقول: دينار أو عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ: [ قطاع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ] وفي لفظ لمسلم: [ قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم ] والمجن الترس وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: [ تقطع اليد في ربع دينار فصاعد ] وفي رواية لمسلم: [ لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ] وفي رواية للبخاري قال: [ اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ] وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدراهم اثنا عشر درهما
ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزز الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث
وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ لا قطع في ثمر ولا كثر والكثر جمار النخل ] رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله ﷺ قال: [ يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال: معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها قال: فالضالة من الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها: قال: فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها ؟ قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال: يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال: من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرته ففيه القطع إذا يلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال ] رواه أهل السنن لكن هذا سياق النسائي ولذلك قال النبي ﷺ: [ ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع ] فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح
وأما الزاني: فإن كان محصنا فإنه يرجم حتى يموت كما رجم النبي ﷺ ماعز بن مالك الأسلمي ورجم الغامدية ورجم اليهوديين ورجم غير هؤلاء ورجم المسلمون من بعده واختلف العلماء: هل يجلد قبل الرجم مائة ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله ويغرب عاما بسنة رسول الله ﷺ وإن كان بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب
ولا يقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء أو يشهد على نفسه أربع شهادات عند كثير من العلماء أو أكثرهم ومنهم من يكتفي بشهادته على نفسه مرة واحدة ولو أقر على نفسه ثم رجع فمنهم من يقول: يسقط عنه الحد ومنهم من يقول: لا يسقط
والمحصن من وطئ وهو حر مكلف لمن تزوجها نكاحا صحيحا في قبلها ولو مرة واحدة وهل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات ؟ على قولين للعلماء وهل تحصن المراهقة للبالغ وبالعكس؟
فأما أهل الذمة فإنهم محصنون أيضا عند أكثر العلماء كالشافعي وأحمد لأن النبي ﷺ رجم يهوديين عند باب مسجده وذلك أول رجم كان في الإسلام
واختلفوا في المرأة إذا وجدت حبلى ولم يكن لها زوج ولا سيد ولم تدع شبهة في الحبل ففيها قولان في مذهب أحمد قيل: لا حد لها لأنه يجوز أن تكون حبلت مكرهة أو بتحمل بوطء شبهة وقيل بل تحد وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو الأشبه بأصول الشريعة وهو مذهب أهل المدينة فإن الاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها كاحتمال كذبها وكذب الشهود
وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا وقد قيل دون ذلك والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل سواء كانا محصنين أو غير محصنين فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ: قال: [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: [ في البكر يوجد على اللواطية قال: يرجم ] ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو ذلك
ولم تختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعوا فيه فروى الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه وعن غيره قتله وعن بعضهم: أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم وقيل: يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط وهذه رواية عن ابن عباس والرواية الأخرى قال: يرجم وعلى هذا أكثر السلف قالوا: لأن الله رجم قوم لوط وشرع رجم الزاني تشبيها برجم قوم لوط فيرجم الاثنان سواء كانا حرين أو مملوكين أو كان أحدهما مملوك الآخر إذا كانا بالغين فإن كان أحدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل ولا يرجم إلا البالغ
1 - حد شرب الخمر :
وأما حد الشرب: فإنه ثابت بسنة رسول الله ﷺ وإجماع المسلمين قد روى أهل السنن عن النبي ﷺ من وجوه أنه قال: [ من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه ] وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة هو وخلفاؤه والمسلمون بعده
والقتل عند أكثر العلماء منسوخ وقيل هو محكم يقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة
وقد ثبت عن النبي ﷺ: أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين وضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين وضرب عمر في خلافته ثمانين وكان علي رضي الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين فمن العلماء من يقول: يجب ضرب الثمانين ومنهم من يقول: الواجب أربعون والزيارة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك
فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون وهذا أوجه القولين وهو قول الشافعي و أحمد رحمها الله في إحدى الروايتين عن أحمد
وقد كان عمر رضي الله عنه - لما كثر الشرب - زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في الزجر عنه فلو عزر الشارب مع الأربعين بقطع خبزه أو عزله عن ولايته كان حسنا وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوابه أنه يتمثل بأبيات في الخمر فعزله
والخمرة التي حرمها الله ورسوله وأمر النبي ﷺ بجلد شاربها كل شراب مسكر من أي أصل كان سواء من الثمار كالعنب والرطب والتين أو الحبوب كالحنطة والشعير أو الطلول كالعسل أو الحيوان كلبن الخيل بل لما أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد ﷺ تحريم الخمر لم يكن عندهم بالمدينة من خمر العنب شيء لأنه لم يكن بالمدينة شجر عنب وإنما كانت تجلب من الشام وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر وقد تواترت السنة عن النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه رضي الله عنهم أنه حرم كل مسكر وبين أنه خمر
وكانوا يشربون النبذ الحلو وهو أن ينبذ في الماء تمر وزبيب أي يطرح فيه والنبذ الطرح ليحلوا الماء لا سيما كثير من مياه الحجاز فإن فيه ملوحة فهذا النبيذ حلال بإجماع المسلمين لأنه لا يسكر كما يحل شرب عصير العنب قبل أن يصير مسكرا وكان النبي ﷺ قد نهاهم أن ينبذوا هذا النبيذ في أوعية الخشب أو الجرر وهو ما يصنع من التراب أو القرع أو الظروف المزفتة وأمرهم أن ينبذوا في الظروف التي تربط أفواهها بالأوكية لأن الشدة تدب في النبيذ دبيبا خفيفا ولا يشعر الإنسان فربما شرب الإنسان ما قد دبت فيه الشدة المطربة وهو لا يشعر فإذا كان السقاء موكيا انشق الظرف إذا غلا فيه النبيذ فلا يقع الإنسان في محذور وتلك الأوعية لا تنشق
وروى عنه أنه ﷺ رخص بعد هذا في الانتباذ في الأوعية وقال: [ كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا المسكر ] فاختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء منهم من لم يبلغه النسخ أو لم يثبته فنهى عن الانتباذ في الأوعية ومنهم من اعتقد ثبوته وأنه ناسخ فرخص في الانتباذ في الأوعية فسمع طائفة من الفقهاء أن بعض الصحابة كانوا يشربون النبيذ فاعتقدوا أنه المسكر فترخصوا في شرب أنواع من الأشربة التي ليست من العنب والتمر وترخصوا في المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب إذا لم يسكر الشارب
والصواب ما عليه جماهير المسلمين أن كل مسكر خمر يجلد شاربه ولو شرب منه قطرة واحدة لتداو أو غير تداو فإن النبي ﷺ سئل عن الخمر يتداوى بها فقال: [ إنها داء وليست بدواء وإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ]
والحد واجب إذا قامت البينة أو اعترف الشارب فإن وجدت منه رائحة الخمر أو رؤى وهو يتقايؤها ونحو ذلك فقد قيل: لا يقام عليه الحد لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر أو شربها جاهلا بها أو مكرها ونحو ذلك وقيل: يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعود وعليه تدل سنة رسول الله ﷺ ن وهو الذي اصطلح عليه الناس وهو مذهب مالك و أحمد في غالب نصوصه وغيرهما
والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام أيضا يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة وكلاهما يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة
وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد حيث ظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج ولم نجد للعلماء المتقدمين فيها كلاما وليس كذلك بل آكلوها ينشؤون عنها ويشتهونها كشراب الخمر وأكثر وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة إذا أكثروا منها مع ما فيها من المفاسد الأخرى من الدياثة والتخنث وفساد المزاج والعقل وغير ذلك
ولكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شرابا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال: في مذهب أحمد وغيره فقيل: هي نجسة كالخمر المشروبة وهذا هوالاعتبار الصحيح وقيل: لا لجمودها وقيل: يفرق بين جامدها ومائعها وبكل حال فهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظا أو معنى قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يا رسول الله أفتنا في شرايين كنا نصنعهما باليمن: البتع - وهو من العسل ينبذ حتى يشتد - والمزر وهو من الذرة والشعير حتى يشتد قال: وكان رسول الله ﷺ قد أعطى جوامع الكلم بخواتيمه فقال: [ كل مسكر حرام ] متفق عليه في الصحيحين وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: [ إن من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا وأنا أنهى عن كل مسكر ] رواه أبو داود وغيره
ولكن هذا في الصحيحين عن عمر موقوفا عليه أنه خطب به على منبر رسول الله ﷺ فقال: [ الخمر ما خامر العقل ] وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: [ كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ] وفي رواية: [ كل مسكر خمر وكل خمر حرام ] رواه مسلم في صحيحه
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: [ كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ] قال الترمذي حديث حسن وروى أهل السنن عن السنن عن النبي ﷺ من وجوه أنه قال: [ ما أسكر كثيره فقليله حرام ] وصححه الحافظ وعن جابر رضي الله عنه [ أن رجلا سأل النبي ﷺ عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر فقال: أمسكر هو ؟ قال: نعم فقال: كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال: عرق أهل النار ]
رواه مسلم في صحيحه وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: [ كل محرم خمر وكل مسكر حرام ] رواه أبو داود
والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة جمع رسول الله ﷺ بما أوتيته من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا على الخمر قد يصطبغ بها والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب فكل خمر يشرب ويؤكل والحشيشة تؤكل وتشرب وكل ذلك حرام وإنما لم يتكلم المتقدمون في خصوصها لأنه إنما حدث أكلها من قريب في أواخر المائة السادسة أو قريبا من ذلك كما أنه قد أحدثت أشربة مسكرة بعد النبي ﷺ وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب والسنة
2 - حد القذف
ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف فإذا قذف الرجل محصنا بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة والمحصن هنا هو الحر العفيف وفي باب حد الزنا هو الذي وطئ كاملا في نكاح تام
1 - وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة أو يقذف الناس بغير الزنا أو يسرق من غير حرز أو شيئا يسيرا أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك إذا خانوا فيها وكالولاء والشركاء إذا خانوا أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان أو يشهد بالزور أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه أو يحكم بغير ما أنزل الله أو يعتدي على رعيته أو يتعزى بعزاء الجاهلية أو يلبي داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيزا وتنكيلا داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيزا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة بخلاف ما إذا كان قليلا وعلى حسب حال المذنب فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته بخلاف المقل من ذلك وعلى حسب كبر المذنب وصغره فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم ما لا يعاقبه من يتعرض إلا لامرأة واحدة أو صبي واحد
وليس لأقل التعزير حد بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل وترك قول وترك فعل فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبي ﷺ وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا وقد يعزر بعزله عن ولايته كما كان النبي ﷺ وأصحابه يعزرون بذلك وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف فإن الفرار من الزحف من الكبائر وقطع خبزه نوع تعزير له وكذلك الأمير فعل ما يستعظم فعزله من الإمارة تعزير له
وكذلك قد يعزر بالحبس وقد يعزر بالضرب وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا كما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بذلك في شاهد الزور فإن الكاذب سود الوجه فسود وجهه وقلب الحديث فقلب ركوبه وأما أعلاه فقد قيل: لا يزيد على عشرة أسواط وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد ثم هم على قولين: منهم من يقول: لا يبلغ به أدنى الحدود: لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر وهي الأربعون أو الثمانون ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد وهي العشرون أو الأربعون وقيل: بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد ومنهم من يقول: لا يبلغ بكل ذنب جنسه وإن زاد على حد جنس آخر فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد وإن ضرب أكثر من حد القاذف ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنى حد الزنى وإن زاد على حد القاذف كما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا نقش على خاتمه وأخذ بذلك من بيت المال فأمر به فضرب مائة ضربة ثم في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة
وروى عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف: يضربان مائة وروى عن النبي ﷺ في الذي يأتي جارية امرأته إن كانت أخلتها له: [ جلد مائة ] وإن لم تكن أخلتها له: [ رجم ] وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره والقولان الأولان في مذهب الشافعي وغيره
وأما مالك وغيره فحكى عنه: أن من الجرائم ما يبلغ به القتل ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد يتوقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى
وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وكذلك كثير من أصحاب مالك وقالوا: إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض لا لأجل الردة وكذلك قد قيل في قتل الساحر فإن أكثر العلماء على أنه يقتل وقد روى عن جندب رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا: أن حد الساحر ضربة بالسيف رواه الترمذي وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قتله فقال بعض العلماء: لأجل الكفر وقال بعضهم لأجل الفساد في الأرض لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا
وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل كما يقتل من تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك
وقد يستدل على أن المفسد متى إذا لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل بما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجه الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ من أتاكم وأمركم جمع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ] وفي رواية: [ ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ] وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة بدليل ما رواه أحمد في المسند عن ديلم الحميري رضي لله عنه قال: [ سألت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله إنا بأرض نعالج بها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا فقال: هل يسكر ؟ قلت نعم قال: فاجتنبوه قلت: إن الناس غير تاركيه قال: فإن لم يتركوه فاقتلوهم ] وهذا لأن المفسد كالصائل فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل
وجماع ذلك أن العقوبة نوعان: أحدهما: على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق والثاني: العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فإن تاب وإلا فقتل
وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه والحديث الذي في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ] قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم الله لحق الله فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام مثل آخر الحلال وأول الحرام فيقال في الأول: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} ويقال في الثاني {تلك حدود الله فلا تقربوها}
وأما تسمية العقوبة المعزرة حدا فهو عرف حادث ومراد الحديث: أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات
والجلد الذي جاءت به الشريعة: هو الجلد المعتدل بالسوط فإن خيار الأمور أوساطها قال علي رضي الله عنه: ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين ولا يكون الجلد بالعصى ولا بالمقارع ولا يكتفي فيه بالدرة بل الدرة تستعمل في التعزير
أما الحدود فلا بد فيها من الجلد بالسوط كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤدب بالدرة فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط ولا تجرد ثيابه كلها بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك ولا يضرب وجهه فإن النبي ﷺ قال: [ إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله ] فإن المقصود تأديبه لا قتله ويعطى كل عضو حظه من الضرب كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك
العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان :
أحدهما: عقوبة المقدر عليه من الواحد والعدد كما تقدم
والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال فاصل هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله فكل من بلغته دعوة رسول الله ﷺ إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له فإنه يجب قتاله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}
وكان الله - لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلف إلى دينه - لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فإذن له وللمسلمين بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} قال تعالى: {فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وهذا كثير في القرآن وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في سورة الصف التي يقوم فيها: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} وكقوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} وقوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} وقال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}
فذكر ما يولده عن أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة حتى قال النبي ﷺ [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ] وقال: [ إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] متفق عليه وقال: [ من اغبر قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ] رواه البخاري وقال ﷺ: [ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ] رواه مسلم وفي السنن: [ رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ] وقال ﷺ: [ عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ] قال الترمذي حديث حسن: وفي مسند الإمام أحمد: [ حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ] وفي الصحيحين : [ أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله قال: لا تستطيع قال: اخبرني قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر ؟ قال: لا قال: فذلك الذي يعدل الجهاد ] وفي السنن: أنه ﷺ قال: [ إن لكل أمة سياحة وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ]
وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه فهو ظاهر عند الاعتبار فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين الدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على مال يشتمل عليه عمل آخر
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة
ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتهما فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وفي السنن: عنه ﷺ: [ أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال: ما كانت هذه لتقاتل وقال لأحدهم: الحق خالدا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا ] وفيهما أيضا عنه ﷺ أنه كان يقول: [ لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ]
وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لا يعاقب به الساكت
ولهذا أوجبت الشريعة قتل الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم بل إذا أسر الرجل منهم في القتال أو غير القتال مثل أن تلقيه السفينة إلينا أو يضل الطريق أو يؤخذ بحيلة فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء كما دل عليه الكتاب والسنة وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفاداته منسوخا
فأما أهل الكتاب والمجوس فيقاتلون حتى يستسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
ومن سواهم فقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية منهم إلا أن عامتهم لا يأخذونها من العرب وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة - وكان قد توقف في قتالهم بعض الصحابة - ثم اتفقوا حتى قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس ؟ وقد قال رسول الله ﷺ: [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ] فقال له أبو بكر: فإن الزكاة من حقها والله - لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال: فعلمت أنه الحق وقد ثبت عنه ﷺ من وجوه كثيرة أنه أمر بقتال الخوارج
ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة]
وفي رواية مسلم عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء يقرءون القرآن يحسبونه أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز قراءتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لا تكلوا على العمل ]
وعن أبي سعيد عن رسول الله ﷺ في هذا الحديث: [ يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] متفق عليه وفي رواية لمسلم: [ تكون أمتي فرقتين فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق ] فهؤلاء الذين قتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما حصلت الفرقة بين أهل العراق والشام وكانوا يسمون الحرورية
بين النبي ﷺ أن كلا الطائفتين المفترقتين من أمته وأن أصحاب علي أولى بالحق ولم يحرض إلا على قتال أولئك المارقين الذين خرجوا من الإسلام وفارقوا الجماعة واستحلوا دماء من سواهم من المسلمين وأموالهم فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين
وقد اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة لو تركت السنة الراتبة كركعتي الفجر هل يجوز قتالها؟ على قولين: فأما الواجبات والمحرمات الظاهرة والمستفيضة فيقاتل عليها بالاتفاق حتى يلتزموا أن يقيموا الصلوات المكتوبات ويؤدوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت ويلتزموا ترك المحرمات من نكاح الأخوات وأكل الخبائث والاعتداء على المسلمين في النفوس والأموال ونحو ذلك
وقتال هؤلاء واجب ابتداء بعد بلوغ دعوة النبي ﷺ إليهم بها يقاتلون عليه فأما إذا بدءوا المسلمين فيتأكد قتالهم ما ذكرناه في قتال الممتنعين من المعتدين قطاع الطرق وأبلغ الجهاد الواجب للكفار والممتنعين عن بعض الشرائع كما نعى الزكاة والخوارج ونحوهم يجب ابتداء ودفعا فإذا كان ابتداء فهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وكان الفضل لمن قام به كما قال الله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} الآية فأما إذا أرادوا الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبا على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين لإعانتهم كما الله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} وكما أمر النبي ﷺ بنصر المسلم وسواء أكان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله مع القلة والكثرة والمشي والركوب كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق ولم يأذن الله في تركه أحدا كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج بل ذم الذين يستأذنون النبي ﷺ {يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}
فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس وهو قتال اضطرار وذلك قتال اختيار للزيادة في الدين وإعلائه ولإرهاب العدو كغزاة تبوك ونحوها فهذا النوع من العقوبة هو للطوائف الممتنعة
فأما غير الممتنعين من أهل ديار الإسلام ونحوهم فيجب إلزامهم بالواجبات التي هي مباني الإسلام الخمس وغيرها من أداء الأمانات والوفاء بالعهود في المعاملات وغير ذلك
فمن كان لا يصلي من جميع الناس رجالهم ونسائهم فإنه يؤمر بالصلاة فإن امتنع عوقب حتى يصلي بإجماع العلماء ثم إن أكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصل فيستتاب فإن تاب وإلا قتل وهل يقتل كافرا أو مرتدا أو فاسقا ؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد وغيره والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره وهذا مع الإقرار بالوجوب
فأما من جحد الوجوب فهو كافر بالاتفاق بل يجب على الأولياء أن يأمروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعا ويضربوه عليها لعشر كما أمر النبي ﷺ حيث قال: [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ]
وكذلك ما تحتاج إليه الصلاة من الطهارة الواجبة ونحوها ومن تمام ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم وأمرهم بأن يصلوا بهم صلاة النبي ﷺ حيث قال: [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] رواه البخاري وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال: [ إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ]
وعلى إمام الناس في الصلاة وغيرها أن ينظر لهم فلا يفوتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينه بل على إمام الصلاة أن يصلي بهم صلاة كاملة ولا يقتصر على مايجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الأجزاء إلا لعذر وكذلك على إمامهم في الحج وأميرهم في الحرب ألا ترى أن الوكيل والولي في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله ؟ وهو في مال نفسه يفوت نفسه ما شاء فأمر الدين أهم وقد ذكر الفقهاء هذا المعنى
ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس صلح للطائفتين دينهم ودنياهم وإلا اضطربت الأمور عليهم وملاك ذلك كله حسن النية للرعية وإخلاص الدين كله لله والتوكل عليه فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة كما أمرنا أن نقول في صلاتنا {إياك نعبد وإياك نستعين} فإن هاتين الكلمتين قد قيل: أنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء وقد روى أن النبي ﷺ كان مرة في بعض مغازيه فقال: [ يامالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ] فجعلت الرؤوس تندر عن كواهلها وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله: {فاعبده وتوكل عليه} وقوله تعالى: {عليه توكلت وإليه أنيب} وكان النبي ﷺ - إذا ذبح أضحيته - يقول: [ اللهم منك وإليك ]
وأعظم عون لولي الأمر خاصة ولغيره عامة ثلاثة أمور أحدها: الإخلاص لله والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات والبدن والثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة الثالث: الصبر على أذى الحلق وغيره من النوائب ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر كقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} وكقوله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وقوله تعالى: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} وكذلك في سورة ق: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وقال تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين}
وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدا فالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى دعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه وفي الزكاة بالإحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ كل معروف صدقة ] فيدخل فيه كل إحسان ولوببسط الوجه والكلمة الطيبة ففي الصحيحين: عن علي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولاترجمان فينظر أيمن فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه فينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة ] وفي السنن عن النبي ﷺ قال: [ لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ] وفي السنن عن النبي ﷺ: [ إن أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن ] وروى عنه ﷺ أنه قال لأم سلمة [ يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الأشر والبطر ] كما قال تعالى: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} وقال لنبيه ﷺ {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}
وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} وقال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين}
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: ألا يقوم من وجب أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح فليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه فقد قال الله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} وقال تعالى للصحابة: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه ] وقال ﷺ: [ إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ]
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: والله لأريدن أن أخرج لهم المرة من الحق فأخاف أن ينفروا عنها فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأخرجها معها فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه
وهكذا كان النبي ﷺ إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول وسأله مرة بعض أقاربه أن يوليه على الصدقات ويرزقه منها فقال: [ إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ] فمنعهم إياها وعوضهم من الفيء وحاكم إليه علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة فلم يقض بها لواحد منهم ولكن قضى بها لخالتها ثم إنه طيب قلب كل واحد منهم بكلمة حسنة فقال لعلي: [ أنت مني وأنا منك ] وقال لجعفر: [ أشبهت خلقي وخلقي ] وقال لزيد: [ أنت أخونا ومولانا ] فهكذا ينبغي لولي الأمر في قسمه وحكمه فإن الناس دائما يسألون ولي الأمر مالا يصلح بذله من الولايات والأموال والمنافع والجود والشفاعة في الحدود وغير ذلك فيعوضهم من جهة أخرى إن أمكن أو يردهم بميسور من القول ما لم يحتج إلى الإغلاظ فإن رد السائل يؤلمه خصوصا من يحتاج إلى تأليفه وقد قال الله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} وقال تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} إلى قوله: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا}
وإذا حكم على شخص فإنه قد يتأذى فإذا طيب نفسه بما يصلح من القول والعمل كان ذلك تمام السياسة وهو نظير ما يعطيه الطبيب للمريض من الطيب الذي يسوغ الدواء الكريه وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام - لما أرسله إلى فرعوه -: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}
وقال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما - لما بعثهما إلى اليمن - [ يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا ] وبال مرة أعرابي في المسجد فقام أصحابه إليه فقال: [ لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله ثم أمر بدلو من ماء فصب عليه وقال النبي ﷺ: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ] والحديثان في الصحيحين
وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته فأن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة ألا ترى أن الأكل والشرب واللباس واجب على الإنسان ؟ حتى لو اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء فإن لم يأكل حتى مات دخل النار لأن العبادات لا تؤدي إلا بهذا ومالا يتم إلا به فهن واجب ولهذا كانت نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ تصدقوا فقال رجل يا رسول الله عندي دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندي آخر قال: تصدق به على زوجتك قال: عندي آخر قال: تصدق به على ولدك قال عندي آخر قال: تصدق به على خادمك قال عندي آخر قال: أنت أبصر به ] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمهما أجرا الذي أنفقته على أهلك ] وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى ] وهذا تأويل قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} أي الفضل
وذلك لأن نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين بخلاف النفقة في الغزو على المساكين فإنه في الأصل إما فرض على الكفاية وإما مستحب وإن كان قد يصير متعينا إذا لم يقم غيره به فإن إطعام الجائع واجب ولهذا جاء في الحديث [ لو صدق السائل لما أفلح من رده ] ذكره الإمام أحمد وذكر أنه إذا علم صدقة وجب إطعامه وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ الذي فيه من أنواع العلم والحكمة وفيه أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام: حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يناجي يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه وساعة يخلو فيها بلذاته فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات فبين أنه لا بد من اللذات المباحات الجميلة فإنها تعين على تلك الأمور
ولهذا ذكر الفقهاء أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة باستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل لأستعين به على الحق والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق فإنهم بذلك يجتلبون ما ينفعهم كما خلق الغضب ليدفعوا به ما يضرهم وحرم من الشهوات ما يضر تناوله وذم من اقتصر عليها فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: [ في بضع أحدكم صدقة قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أما يكون عليه وزر ؟ قالوا: بلى فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال ] وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له: [ إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك ] الآثار في هذا كثيرة فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكان المباحات في صالح أعماله لصالح قلبه ونيته والمنافق لفساد قلبه ونيته - يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء فإن في الصحيح أن النبي ﷺ قال: [ ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ]
وكما أن العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات وترك المحرمات فقد شرع أيضا كل ما يعين على ذلك فينبغي تيسير طريق الخير والطاعة والإعانة عليه والترغيب فيه بكل ممكن مثل أن يبذل لولده وأهله أو رعيته ما يرغبهم في العمل الصالح من مال أو ثناء أو غيره ولهذا شرعت المسابقة بالخيل والإبل والمناضلة بالسهام وأخذ الجعل عليها لما فيه من الترغيب في إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد في سبيل الله حتى كان النبي ﷺ يسابق بين الخيل هو وخلفاؤه الراشدون ويخرجون الأسباق من بيت المال وكذلك عطاء المؤلفة قلوبهم فقد روى: [ أن الرجل كان يسلم أول النهار رغبة في الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس ]
وكذلك الشر والمعصية ينبغي حسم مادته وسد ذريعته ودفع ما يفضي إليه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة مثال ذلك ما نهى عنه النبي ﷺ فقال: [ لا يخلون الرجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ] وقال: [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين إلا ومعها زوج أو ذو محرم ] فنهى ﷺ عن الخلو بالأجنبية والسفر بها لأنه ذريعة إلى الشر وروى عن الشعبي أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي ﷺ كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة فأجلسه ظهره وقال: [ إنما كانت خطيئة داود النظر ]
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يعس بالمدينة فسمع امرأة تتغنى بأبيات تقول فيها :
( هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... هل من سبيل إلى نصر بن حجاج )
فدعى به فوجده شابا حسنا فحلق رأسه فازداد جمالا فنفاه إلى البصرة لئلا تفتتن به النساء
وروى عنه: أنه بلغه أن رجلا يجلس إليه الصبيان فنهى عن مجالسته فإذا كان من الصبيان من تخاف فتنته على الرجل أو على النساء منع وليه من إظهاره لغير حاجة أو تحسينه لا سيما بتريحه وتجريده في الحمامات وإحضاره مجالس اللهو والأغاني فإن هذا مما ينبغي التعزير عليه
وكذلك من ظهر من الفجور يمنع من تملك الغلمان المردان الصباح ويفرق بينهما فإن الفقهاء متفقون على أنه لو شهد شاهد عند الحاكم وكان قد استفاض عنه نوع من أنواع الفسوق القادحة في الشهادة فإنه لا يجوز قبول شهادته ويجوز للرجل أن يجرحه بذلك وإن لم يره فقد ثبت عن النبي ﷺ [ أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فسألوه عن ذلك فقال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازةأثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض ] مع أنه كان في زمانه امرأة تعلن الفجور فقال: [ لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه ]
فالحدود لا تقام إلا بالبينة وأما الحذر من الرجل في شهادته ونحو ذلك فلا يحتاج إلى المعاينة بل الاستفاضة كافية في ذلك وما هو دون الاستفاضة حتى أنه يستدل عليه بأقرانه كما قال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم فهذا لدفع شره مثل الاحتراز من العدو وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: احترسوا في الناس بسوء الظن فهذا أمر عمر مع أنه لا تجوز عقوبة المسلم بسوء الظن
وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس قال الله تعالى ك {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} إلى قوله {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وقال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ]
فالقتل ثلاثة أنواع:
أحدها العمد المحض وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه أو بثقله كالسندان وكوذين القصار أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق والخنق وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح حتى يموت وسقي السموم ونحو ذلك في الأفعال فهذا رغم الوجه فيه القود وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل فإن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} قيل في التفسير: لا يقتل غير قاتله
وروى عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ من أصيب بدم أو خبل - الخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية فمن فعل شيئا من ذلك فعاد فإن له جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ] رواه أهل السنن قال الترمذي حديث حسن صحيح فمن قتل بعد العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء حتى قال بعض العلماء: إنه يجب قتله حدا ولا يكون أمره لأولياء المقتول قال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم * ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}
قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيط حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء وتعدى هؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات من الأعراب وغيرهم وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل وربما حالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم وهؤلاء قوما فيفضي إلى الفتن والعدوات العظيمة
وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى فكتب الله علينا القصاص - وهو المساواة والمعادلة في القتلى - وأخبر أن فيه حياة فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين وأيضا فإذا علم من يريد القتل أنه يقتل كف عن القتل وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: [ المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ] رواه أحمد و أبو داود وغيرهما من أهل السنن فقضى رسول الله ﷺ أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي تتساوى وتتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين ولا حر أصلي على مولى عتيق ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور
وهذا متفق عليه بين المسلمين بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود فإنه كان بقرب مدينة النبي ﷺ صنفان من اليهود: قريظة والنضير وكانت تتفضل على قريظة في الدماء فتحاكموا إلى النبي ﷺ في ذلك وفي حد الزنا فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم وقالوا إن حكم نبيكم بذلك كان لكم حجة وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} إلى قوله: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} إلى قوله: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون * وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} فبين سبحانه وتعالى أنه سوى بين نفوسهم ولم يفضل منهم نفسا على أخرى كما كانوا يفعلونه إلى قوله {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} إلى قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فحكم الله سبحانه في دماء المسلمين أنها كلها سواء خلاف ما عليه أهل الجاهلية وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر إنما هي البغي وترك العدل فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها من الأخرى دما أو مالا أو تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية وإذا أصلح مصلح بينهما فيصلح بالعدل كما قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}
وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} قال أنس رضي الله عنه: ما رفع إلى رسول الله ﷺ أمر قصاص إلا أمر فيه بالعفو رواه أبو داود
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ] وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ هو في المسلم الحر مع المسلم الحر فأما الذمي فجمهور العلماء: على أنه ليس بكفء للمسلم كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار رسولا أو تاجرا ونحو ذلك ليس بكفء له وفاتا ومنهم من يقول: بل هو كفء له وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد
والنوع الثاني الخطأ الذي يشبه العمد قال النبي ﷺ: [ إلا إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ] سماه شبه العمد لأنه قصد العدون عليه بالضرب لكنه لا يقتل غالبا فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل
والثالث الخطأ وما يجري مجراه مثل أن يرمي صيدا أو هدفا فيصيب به إنسانا بغير علمه ولا قصده فهذا ليس فيه قود وإنما في الدية والكفارة وهنا ومسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم بينهم
والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة فإذا قطع يده اليمنى من مفصل فله أن يقطع يده كذلك وإذا سنه فله أن يقلع سنه وإذا شجه في رأسه أو وجهه فأوضح العظم فله أن يشجه كذلك وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن يكسر له عظما باطنا أو يشجه دون الموضحة فلا يشرع القصاص بل تجب الدية المحدودة أو الأرش وأما القصاص في الضرب بيده أو بعصاه أو سوطه مثل أن يلطه أو يلكمه أو يضربه بعصا ونحو ذلك فقد قال طائفة من العلماء: إنه لا قصاص فيه بل فيه تعزير لأنه هلا تمكن المساواة فيه
والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء وبذلك جاءت سنة رسول الله ﷺ وهو الصواب وقال أبو فراس خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر حديثا قال فيه: ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسننكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين: إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب رعيته أئنك لتقصه منه ؟ قال: إي والذي نفس محمد بيده إذا لأقصنه منه أني لا أقصه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقص من نفسه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم رواه الإمام أحمد وغيره
ومعنى هذا إذا ضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز فأما الضرب المشروع فلا قصاص فيه بالإجماع إذ هو واجب أو مستحب أو جائز
والقصاص في الأعراض مشروع أيضا: وهو أن الرجل إذا لعن رجلا أو دعا عليه فله أن يفعل به كذلك وكذلك إذا شتمه شتيمة لا كذب فيها والعفو أفضل قال الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} قال النبي صلى الله عليه: [ المستبان: ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم ] ويسمى هذا الانتصار والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح أو تسميته بالكلب أو الحمار ونحو ذلك فأما إن افترى عليه لم يحل له أن يفتري عليه ولو كفره أو فسقه بغير حق لم يحل له أن يكفره أن يفسقه بغير حق ولو لعن أباه أو قبيلته أو أهل بلده ونحو ذلك لم يحل أن يتعدى على أولئك فإنهم لم يظلموه وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فأمر الله المسلمين ألا يحملهم بغضهم للكفار على ألا يعدلوا وقال {اعدلوا هو أقرب للتقوى}
فإن كان العدوان عليه في العرض محرما لحقه بما يلحقه من الأذى جاز القصاص فيه بمثله كالدعاء عليه بمثل ما دعاه وأما إذا محرما لحق الله تعالى كالكذب لم يجز بحال وهكذا قال كثير من الفقهاء: إذا قتله بتحريق أو تغريق أو خنق أو نحو ذلك فإنه يفعل به كما فعل ما يكن الفعل محرما كتجريع الخمر واللواط به ومنهم من قال: لا قود إلا بالسيف والأولى أشبه بالكتاب والسنة والعدل
وإذا كانت الفرية ونحوها لا قصاص فيها ففيها العقوبة بغير ذلك فمنه حد القذف الثابت في الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}
فإذا رمى الحر محصنا بالزنا أو اللواط فعليه حد القذف وهو ثمانون جلدة وإن رماه بغير ذلك عوقب تعزيرا
وهذا الحد يستحق المقذوف فلا يستوفي إلا بطلبه باتفاق الفقهاء فإن عفا عنه سقط عند جمهور العلماء لأن المغلب فيه حق الآدمي كالقصاص والأموال وقيل: لا يسقط تغليبا حلق الله لعدم المماثلة كسائر الحدود وإنما يجب القذف إذا كان المقذوف محصنا وهو المسلم الحر العفيف
فأما المشهور بالفجور فلا يحد قاذفه وكذلك الكافر والرقيق لكن يعزر القاذف إلا الزوج فإنه يجوز له أن يقذف امرأته إذا زنت ولم تحبل من الزنا فإن حبلت منه وولدت فعليه أن يقذفها وينفي ولدها لئلا يلحق به من ليس منه وإذا قذفها فإما أن تقر بالزنا وإما أن تلاعنه كما ذكره الله تعالى في الكتاب والسنة ولو كان القاذف عبدا فعليه نصف حد الحر وكذلك في جلد الزنا وشرب الخمر لأن الله تعالى قال في الإماء {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} وأما إذا كان الواجب القتل أو قطاع اليد فإنه لا يتنصف
ومن الحقوق الأبضاع فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فيجب على كل من الزوجين أن يؤدي إلى الآخر حقوقه بطيب نفس وانشراح صدر فإن للمرأة على الرجل حقا في ماله وهو الصداق والنفقة بالمعروف وحقا في بدنه وهو العشرة والمتعة بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإجماع المسلمين وكذلك لو كان مجبوبا أو عنينا لا يمكنه جماعها فلها الفرقة ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء
وقد قيل: إنه لا يجب اكتفاء بالباعث الطبيعي والصواب أنه واجب كما دل عليه الكتاب والسنة والأصول وقد قال النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه - لما رآه يكثر الصوم والصلاة -: [ إن لزوجك عليك حقا ]
ثم قيل: يجب عليه وطؤها كل أربعة أشهر مرة وقيل يجب وطؤها بالمعروف على قدر قوته وحاجته كما تجب النفقة بالمعروف كذلك وهذا أشبه
وللرجل عليها أن يتمتع بها متى شاء ما لم يضر بها أو يشغلها عن واجب فيجب عليها أن تمكنه كذلك
ولا تخرج من منزله إلا بإذنه أو بإذن الشارع واختلف الفقهاء هل عليها خدمة المنزل كالفرس والكنس والطبخ ونحو ذلك ؟ فقيل يجب عليها وقيل: لا يجب وقيل: يجب التخفيف
وأما الأحوال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله مثل قسم المواريث بين الورثة على ما جاء به الكتاب والسنة
وقد تنازل المسلمون في مسائل من ذلك وكذلك في المعاملات من المبايعات والإجارات والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلقة بالعقود والقبوض فإن العدل فيها هو قوام العالمين لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به
فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كل أحد بعقلهن كوجوب تسليم الثمن على المشتري وتسليم المبيع على البائع المشتري وتحريم تطفيف المكيال والميزان ووجوب الصدق والبيان وتحريم الكذب والخيانة والغش وأن جزاء القرض الوفاء والحمد
ومنها ما هو خفي جاءت به الشرائع أو شريعتنا أهل الإسلام فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم دقه وجله مثل أكثر المال الباطل وجنسه من الربا والميسر وأنواع الربا والميسر التي نهى النبي ﷺ مثل: بيع الغرر وبيع حبل الحبلى وبيع الطير في الهواء والسمك في الماء والبيع إلى أجل غير مسمى وبيع المسراة وبيع المدلس والملامسة والمنابذة والمزابنة والمحاقلة والنجش وبيع الثمن قبل بدو صلاحه وما نهى عنه من أنواع المشاركات الفاسدة كالمخابرة كزرع بقعة بعينها من الأرض
و من ذلك ما قد ينازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه فقد يرى هذا العقد والقبض صحيحا عدلا وإن كان غيره يرى فيه جورا يوجب فساده وقد قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يقربون بها إلى الله إلا مادل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دون الله مالم يحرمه الله وأشركوا به مالم ينزل به سلطانا وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين شرعته
لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه ﷺ فقال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} وقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ﷺ
وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه وليقتدي به من بعده ليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك فغيره - ﷺ - أولى بالمشورة
وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} وإذا استشارهم فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك وإن كان عظيما في الدين والدنيا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}
وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}
وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس فعلى كل منهما أن يتحرى ما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله ومتى أمكن في ا لحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه هذا أقوى الأقوال
وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان بل وسائر شروط العبادات من الصلاة والجهاد وغير ذلك كل ذلك واجب مع القدرة
فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ولهذا أمر الله المصلي أن يتطهر بالماء فإن عدمه أو خاف الضرر باستعماله لشدة البرد أو جراحة أو غير ذلك تيمم الصعيد فمسح بوجهه ويديه منه وقال النبي ﷺ لعمران بن حصين: [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] فقد أوجب الله فعل الصلاة في الوقت على أي حال أمكن كما قال تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين * فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}
فأوجب الله الصلاة على الآمن والخائف والصحيح والمريض والغني والفقير والمقيم والمسافر وخففها على المسافر والخائف والمريض كما جاء به الكتاب والسنة
وكذلك أوجب فيها واجبات من الطهارة والستارة واستقبال القبلة وأسقط ما يعجز عنه العبد من ذلك
فلو انكسرت سفينة قوم أو سلبهم المحاربون ثيابهم صلوا عراة بحسب أحوالهم وقام إمامهم وسطهم لئلا يرى الباقون عورته
وان اشتبهت عليهم القبلة اجتهدوا في الاستدلال عليها فلو عميت الدلائل صلوا كيفما أمكنهم كما قد روى أنهم فعلوا ذلك على عهد رسول الله ﷺ فهكذا الجهاد والولايات وسائر أمور الدين وذلك كله في قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}
وفي قول النبي ﷺ: [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] كما أن الله تعالى لما حرم المطاعم الخبيثة قال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فلم يوجب مالا يستطاع ولم يحرم ما يضطر إليه إذا كانت الضرورة بغير معصية من العبد
يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي ﷺ: [ إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ] رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال: [ لا يحل لثلاثة يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ] فأوجب ﷺ تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روى: [ أن السلطان ظل الله في الأرض ] ويقال: [ ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ] والتجربة تبين ذلك ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض و أحمد بن حنبل وغيرهما - يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان وقال النبي ﷺ: [ إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ] رواه مسلم وقال: [ ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم ] رواه أهل السنن وفي الصحيح عنه أنه قال: [ الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ]
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات وإنما يفسد فيها حال كثير الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها وقد روى كعب بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال أو الشرف لدينه ] قال الترمذي حديث حسن صحيح فأخبر أن حرص المرء على المال والرياسة يفسد دينه مثل أو أكثر من إرسال الذئبين الجائعين لزريبة الغنم
وقد أخبر الله تعالى عن الذي يؤتي كتابه بشماله أنه يقول: {ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه}
وغاية مريد الرياسة أن يكون كفرعون وجامع المال أن يكون كقارون وقد بين الله تعالى في كتابه حال فرعون وقارون فقال تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق} وقال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} فإن الناس أربعة أقسام :
القسم الأول: يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض هو معصية الله وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون كفرعون وحزبه وهؤلاء هم شر الخلق قال الله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله: إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا أفمن الكبر ذاك ؟ قال: لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ] فبطر الحق ودفعه وجحده وغمط الناس واحتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد
والقسم الثاني: الذين يريدون الفساد بلا علو كالسراق المجرمين من سفلة الناس
والقسم الثالث: يريد العلو بلا فساد كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس
والقسم الرابع: فهم أهل الجنة الذين لا يردون علوا في الأرض ولا فسادا مع أنهم قد يكونوا أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} وقال: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}
فكم ممن يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم لأن الناس من جنس واحد فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم ومع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهورا لنظيره وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر ثم أنه مع هذا لا بد له - في العقل والدين - من أن يكون بعضهم فوق بعض كما قدمناه كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس قال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم} وقال تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال في سبيل الله
فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا وإن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح كما في الصحيحين عن النبي ﷺ: [ إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم ]
ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف صاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان وكمال الدين ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك فأخذه معرضا عن الدين لاعتقاده أنه مناف لذلك وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل لا في محل العلو والعز وكذلك لما غلب على كثير من أهل الديانتين العجز عن تكميل الدين والجزع لما يقد يصيبهم في إقامته من البلاء استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها
وهاتان السبيلان الفاسدتان سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد و المال وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين الأولى للضالين النصارى والثانية للمغضوب عليهم اليهود
وإنما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هي سبيل نبينا محمد ﷺ وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيلهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه و أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم
فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك حسب وسعه فمن ولى ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة مايمكنه من دينه ومصالح المسلمين وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه فإن قوام الدين الكتاب الهادي والحديث الناصر كما ذكره الله تعالى
فعلى كل أحد الاجتهاد في إيثار القرآن والحديث لله تعالى ولطلب ما عنده مستعينا بالله في ذلك ثم الدنيا تخدم الدين كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظاما وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال: [ من أصبح والآخرة أكبر همه جمع له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له ] وأصل ذلك في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
==============
الزهد والورع والعبادة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني المتوفى 728 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق