الثلاثاء، 8 فبراير 2022

مفتاح دار السعادة 1 و2و3-ابن قيم الجوزية

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
ابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي سهل لعباده المتقين الى مرضاته سبيلا واوضح لهم طرق الهداية وجعل اتباع الرسول عليها دليلا واتخذهم عبيدا له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلا وكتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه لما رضوا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا والحمد لله الذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنن المرسلين كفيلا واختص هذه الامة بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امره ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلا يدعون من ضل الى الهدى ويصبرون منهم على الاذى ويبصرون بنور الله أهل العمى ويحيون بكتابه الموتى فهم احسن الناس هديا وأقومهم قيلا فكم من قتيل لابليس قد احيوه ومن ضال جاهل لا يعلم طريق رشده قد هدوه ومن مبتدع في دين الله بشهب الحق قد رموه جهادا في الله وابتغاء مرضاته وبيانا4 لحججه على العالمين وبيناته وطلبا للزلفى لديه ونيل رضوانه وجناته فحاربوا في الله من خرج عن دينه القويم وصراطه المستقيم الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلعوا اعنة الفتنة وخالفوا الكتاب واختلفوا في الكتاب واتفقوا على مفارقة الكتاب ونبذوه وراء ظهورهم وارتضوا غيره منه بديلا احمده وهو المحمود على كل ما قدره وقضاه واستعينه استعانة من يعلم انه لا رب له غيره ولا إله له سواه واستهديه سبل الذين انعم عليهم ممن اختاره لقبول الحق وارتضاه واشكره والشكر كفيل بالمزيد من عطاياه واستغفره من الذنوب التي تحول بين القلب وهداه وأعوذ بالله من شر نفسي وسيئات عملي استعاذة عبد فار الى ربه بذنوبه وخطاياه واعتصم به من الاهواء المردية والبدع المضلة فما خاب من اصبح به معتصما وبحماه نزيلا واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة اشهد بها مع الشاهدين واتحملها عن الجاحدين وأدخرها عند الله عدة ليوم الدين واشهد ان
(1/1)
الحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور واشهد ان محمدا عبده المصطفى ونبيه المرتضى ورسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ارسله رحمة للعالمين وحجة للسالكين وحجة على العباد اجمعين ارسله على حين فترة من الرسل فهدى به الى أقوم الطرق واوضح السبل وافترض على العباد طاعته وتعظيمه وتوفيره وتبجيله والقيام بحقوقة وسد اليه جميع الطرق
(1/2)
فلم يفتح لاحد الا من طريقه فشرح له صدره ورفع له ذكره وعلم به من الجهالة وبصر به من العمى وارشد به من الغي وفتح به اعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فلم يزل قائما بأمر الله لا يرده عنه راد داعيا الى الله لا يصده عنه صاد الى ان اشرقت برسالته الارض بعد ظلماتها وتالفت القلوب بعد شتاتها وسارت دعوته سير الشمس في الاقطار وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار فلما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين استأثر به ونقله الى الرفيق الاعلى من كرامته والمحل الارفع الاسنى من أعلى جناته ففارق الامة وقد تركها على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها الا من كان من الهالكين فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة دائمة بدوام السموات والارضين مقيمة عليهم أبدا لا تروم انتقالا عنهم ولا تحويلا أما بعد فإن الله سبحانه لما اهبط آدم أبا البشر من الجنة لما له في ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن معرفتها والالسن عن صفتها فكان إهباطه منها عين كماله ليعود اليها على احسن احواله فأراد سبحانه ان يذيقه وولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصا بها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم اليها في الدار الاخرة فإن الضد يظهر حسنه الضد ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها وأيضا فإنه سبحانه اراد أمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم وليست الجنة دار تكليف فاهبطهم الى الارض وعرضهم بذلك لافضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الامر والنهي وايضا فإنه سبحانه أراد ان يتخذ منهم انبياء ورسلا وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه فخلى بينهم وبين اعدائه وامتحنهم بهم فلما آثروه وبذلوا نفوسهم واموالهم في مرضاته ومحابه نالوا من محبته روضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك اصلا فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة والحب فيه والبغض فيه وموالاة اوليائه ومعاداة اعدائه عنده من افضل الدرجات ولم يكن ينال هذا الا على الوجه الذي قدره وقضاه من
(1/3)
إهباطه إلى الارض وجعل معيشته ومعيشة اولاده فيها وايضا فإنه سبحانه له الاسماء الحسنى فمن اسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث الصبور ولا بد من ظهور آثار هذه الاسماء فاقتضت حكمته سبحانه ان ينزل آدم وذريته دارا يظهر عليهم فيها اثر اسمائه النى فيغفر فيها لمن يشاء ويرحم من يشاء ويخفض من يشاء ويرفع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وينتقم ممن يشاء ويعطى ويمنع ويبسط الى غير ذلك من ظهور اثر اسمائه وصفاته وأيضا فإنه سبحانه الملك الحق المبين والملك هو الذي يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويهين ويكرم ويعز ويذل فاقتضى ملكه سبحانه ان انزل آدم وذريته دارا تجرى عليهم فيها احكام الملك ثم ينقلهم الى دار يتم عليهم فيها ذلك وايضا فإنه سبحانه أنزلهم الى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب والايمان بالغيب هو الايمان النافع وأما الايمان بالشهادة فكل احد يؤمن يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إلا ايمانها في الدنيا فلو خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الايمان بالغيب واللذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه بل كان الحاصل لهم في دار النعيم لذة وكرامة غير هذه وايضا فإن الله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض والارض فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والكريم واللئيم فعلم سبحانه ان في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره فأنزله الى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه ثم ميزهم سبحانه بدارين فجعل الطيبين اهل جواره ومساكنته في داره وجعل الخبيث اهل دار الشقاء دار الخبثاء قال الله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم اولئك هم الخاسرون فلما علم سبحانه ان في ذريته من ليس بأهل لمجاورته انزلهم دارا استخرج منها اولئك والحقهم بالدار التي هم لها اهل حكمة بالغة ومشيئة نافذة ذلك تقدير العزيز العليم وايضا فإنه سبحانه لما قال للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك اجابهم بقوله إني اعلم ما لا تعلمون ثم اظهر سبحانه علمه لعباده ولملائكته بما جعله في الارض من خواص خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه ومن يتقرب اليه ويبذل نفسه في محبته ومرضاته مع مجاهدة شهوته وهواه فيترك محبوباته تقربا الي ويترك شهواته ابتغاء مرضاتي ويبذل دمه ونفسه في محبتي وأخصه بعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء الليل وأطراف النهار ويعبدني مع معارضات الهوى والشهوة والنفس والعدو إذ تعبدوني انتم من غير معارض يعارضكم ولا شهوة تعتريكم ولا عدو أسلطه عليكم بل عبادتكم لي بمنزلة النفس لاحدهم وأيضا فإني اريد ان اظهر ما خفى عليكم من شأن عدوي ومحاربته لي وتكبره عن أمري وسعيه في خلاف مرضاتي وهذا وهذا كانا كامنين مستترين في ابي البشر وأبي الجن فأنزلهم دارا اظهر فيها ما كان الله سبحانه منفردا بعلمه لا يعلمه سواه وظهرت حكمته وتم امره وبدا للملائكة من علمه ما لم يكونوا يعلمون وايضا فإنه سبحانه لما كان يحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الشاكرين وكانت محبته اعلى انواع الكرامات اقتضت حكمته ان أسكن آدم وبنيه دارا يأتون فيها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته فكان إنزالهم الى الارض من اعظم النعم عليهم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يتخذ من آدم ذرية يواليهم ويودهم ويحبهم ويحبونه فمحبتهم له هي غاية كمالهم ونهاية شرة ولم يمكن تحقيق هذه المرتبة السنية الا بموافقة رضاه وأتباع امره وترك إرادات النفس وشهواتها التي يكرهها محبوبهم فأنزلهم دارا امرهم فيها ونهاهم فقاموا بأمره ونهيه فنالوا درجة محبتهم له فأنالهم درجة حبه إياهم وهذا من تمام حكمته وكمال رحمته وهو البر الرحيم وايضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه اطوارا وأصنافا وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته افضل درجاتهم اعنى العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا وقد ثبت ان الله سبحانه ارسل جبريل الى النبي يخيره بين ان يكون ملكا نبيا او عبدا نبيا فنظر الى جبريل كالمستشير له فاشار اليه ان تواضع فقال بل ان اكون عبدا نبيا فذكره سبحانه باسم عبوديته في أشرف مقاماته في مقام الاسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال في مقام الاسراء سبحان الذي اسرى بعبده ليلا ولم يقل برسوله ولا نبيه إشارة الى انه قام هذا المقام الاعظم بكمال عبوديته لربه وقال في مقام الدعوة وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال في مقام التحدي وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وفي الصحيحين في حديث الشفاعة وتراجع الانبياء فيها وقول المسيح اذهبوا الى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدل ذلك على انه نال ذلك المقام الاعظم بكمال عبوديته لله وكمال مغفرة الله له وإذا كانت العبودية عند الله بهذه المنزلة اقتضت حكمته ان اسكن آدم وذريته دارا ينالون فيها هذه الدرجة بكمال طاعتهم لله وتقربهم اليه بمحابه وترك مألوفاتهم من اجله فكان ذلك من تمام نعمته عليهم وإحسانه اليهم وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يعرف عباده الذين انعم عليهم تمام نعمته عليهم وقدرها ليكونوا اعظم محبةوأكثر شكرا واعظم التذاذا بما اعطاهم من النعيم فأراهم سبحانه فعله بأعدائه وما اعد لهم من العذاب وانواع الالام واشهدهم تخليصهم من ذلك
وتخصيصهم بأعلى انواع النعيم ليزداد سرورهم وتكمل غبطتهم ويعظم فرحهم وتتم لذتهم وكان ذلك من إتمام الانعام عليهم ومحبتهم ولم يكن بد في ذلك من إنزالهم الى الارض وامتحانهم واختبارهم وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلا وخذلان من شاء منهم حكمة منه وعدلا وهو العليم الحكيم ولا ريب ان المؤمن إذا رأى عدوه ومحبوبه الذي هو أحب الاشياء اليه في أنواع العذاب والالام وهو يتقلب في انواع النعيم واللذة ازداد بذلك سرورا وعظمت لذته وكملت نعمته وأيضا فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته وهي الغاية منهم قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ومعلوم ان كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل في دار النعيم والبقاء إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف وايضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والفتنة وداعي العقل والعلم فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مراده ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه فاقتضت حكمته ورحمته ان أذاق أباهم وبيل مخالفته وعرفه ما يجنى عواقب إجابة الشهوة والهوى ليكون اعظم حذرا فيها واشد هروبا وهذا كحال رجل سائر على طريق قد كمنت الاعداء في جنباته وخلفه وأمامه وهو لا يشعر فإذا اصيب منها مرة بمصيبة استعد في سيره وأخذ اهبة عدوه وأعد له ما يدفعه ولولا انه ذاق ألم اغارة عدوه عليه وتبييته له لما سمحت نفسه بالاستعداد والحذر واخذ العدة فمن تمام نعمة الله على آدم وذريته ان اراهم ما فعل العدو بهم فاستعدوا له واخذوا اهبته فإن قيل كان من الممكن ان لا يسلط عليهم العدو قيل قد تقدم انه سبحانه خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مستلزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم به ولو شاء لخلقهم كالملائكة الذين هم عقول بلا شهوات فلم يكن لعدوهم طريق اليهم ولكن لو خلقوا هكذا لكانوا خلقا آخر غير بني آدم فإن بنى آدم قد ركبوا على العقل والشهوة وأيضا فإنه لما كانت محبة الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا سعادة بدونها اصلا وكانت المحبة الصادقة إنما تتحقق بغيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفوس واحتمال اعظم المشاق في طاعته ومرضاته فبهذا تتحقق المحبة ويعلم ثبوتها في القلب اقتضت حكمته سبحانه اخراجهم الى هذه الدار المحفوفة بالشهوات ومحاب النفوس التي بإيثار الحق عليها والاعراض عنها يتحقق حبهم له وإيثارهم إياه على غيره ولذلك يتحمل المشاق الشديدة وركوب الاخطار واحتمال الملامة والصبر على دواعي الغي والضلال ومجاهدتها يقوى سلطان المحبة وتثبت شجرتها في القلب وتطعم ثمرتها على الجوارح فإن المحبة الثابتة اللازمة على كثرة الموانع والعوارض
(1/9)
والصوارف هي المحبة الحقيقية النافعة واما المحبة المشروطة بالعافية والنعيم واللذة وحصول مراد المحب من محبوبه فليست محبة صادقة ولا ثبات لها عند المعارضات والموانع فإن المعلق على الشرط عدم عند عدمه ومن ودك لأمر ولي عند انقضائه وفرق بين من يعبد الله على السراء والرخاء والعافية فقط وبين من يعبده على السراء والضراء والشدة والرخاء والعافية والبلاء وايضا فإن الله سبحانه له الحمد المطلق الكامل الذي لا نهاية بعده وكان ظهور الاسباب التي يحمد عليها من مقتضى كونه محمودا وهي من لوازم حمده تعالى وهي نوعان فضل وعدل إذ هو سبحانه المحمود على هذا وعلى هذا فلا بد من ظهور أسباب العدل واقتضائها لمسمياتها ليترتب عليها كمال الحمد الذي هو أهله فكما انه سبحانه محمود على إحسانه وبره وفضله وثوابه فهو محمود على عدله وانتقامه وعقابه إذ يصدر ذلك كله عن عزته وحكمته ولهذا نبه سبحانه على هذا كثيرا كما في سورة الشعراء حيث يذكر في آخر كل قصة من قصص الرسل وأممهم إن في ذلك لاية وما كان اكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم فأخبر سبحانه ان ذلك صادر عن عزته المتضمنة كمال قدرته وحكمته المتضمنة كمال علمه ووضعه الاشياء مواضعها اللائقة بها ما وضع نعمته ونجاته لرسله ولاتباعهم ونقمته وإهلاكه لاعدائهم الا في محلها اللائق بها لكمال عزته وحكمته ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن قضائه بين اهل السعادة والشقاوة ومصير كل منهم الى ديارهم التي لا يليق بهم غيرها ولا تقتضى حكمته سواها وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته وحمده ان فاوت بين عباده اعظم تفاوت وابينه ليشكره منهم من ظهرت عليه نعمته وفضله ويعرف انه قد حبى بالانعام وخص دون غيره بالاكرام ولو تساووا جميعهم في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة قدرها ولم يبذل شكرها إذ لا يرى احدا إلا في مثل حاله ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها استخرجا له من العبد ان يرى غيره في ضد حاله الذي هو عليها من لاكمال والفلاح وفي الاثر المشهور ان الله سبحانه لما أرى آدم ذريته وتفاوت مراتبهم قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني احب ان اشكر فاقتضت محبته سبحانه لان يشكر خلق الاسباب التي يكن شكر الشاكرين عندها اعظم وأكمل وهذا هو عين الحكمة الصادرة عن صفة الحمد وايضا فإنه سبحانه لا شيء احب اليه من العبد من تذلله بين يديه وخضوعه وافتقاره وإنكساره وتضرعه اليه ومعلوم ان هذا المطلوب من العبد إنما يتم بأسبابه التي تتوقف عليها وحصول هذه الاسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة يمتنع إذ هو مستلزم للجمع بين الضدين وأيضا فإنه سبحانه له الخلق والامر والامر هو شرعه وأمره ودينه الذي بعث به رسله وانزل به كتبه وليست الجنة دار تكليف تجرى عليهم فيها أحكام التكليف ولوازمها وإنما هي دار نعيم ولذة واقتضت حكمته سبحانه استخراج آدم وذريته الى دار تجرى عليهم فيها احكام دينه وأمره ليظهر فيهم مقتضى الامر ولوازمه فإن الله
سبحانه كما ان افعاله وخلقه من لوازم كمال اسمائه الحسنى وصفاته العلى فكذلك امره وشرعه وما يترتب عليه من الثواب والعقاب وقد ارشد سبحانه الى هذا المعنى في غير موضع من كتابه فقال تعالى ايحسب الانسان ان يترك سدى أي مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب وهذا يدل على ان هذا مناف لكمال حكمته وان ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك ولهذا اخرج الكلام مخرج الانكار على من زعم ذلك وهو يدل على ان حسنه مستقر في الفطر والعقول وقبح تركه سدا معطلا ايضا مستقر في الفطر فكيف ينسب الى الرب ما قبحه مستقر في فطركم وعقولكم وقال تعالى أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله الا هو رب العرش الكريم نزه نفسه سبحانه عن هذا الحسبان الباطل المضاد لموجب اسمائه وصفاته وانه لا يليق بجلاله نسبته اليه ونظائر هذا في القرآن كثيرة وايضا فإنه سبحانه يحب من عباده امورا يتوقف حصولها منهم على حصول الاسباب المقتضية لها ولا تحصل الا في دار الابتلاء والامتحان فإنه سبحانه يحب الصابرين ويحب الشاكرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ولا ريب ان حصول هذه المحبوبات بدون اسبابها ممتنع كامتناع حصول الملزوم بدون لازمه والله سبحانه أفرح بتوبة عبده حين يتوب اليه من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في ارض دوية مهلكة إذا وجدها كما ثبت في الصحيح عن النبي انه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل من فيارض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال ارجع الى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه فالله اشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث وذكر سر هذا الفرح بتوبة العبد والمقصود ان هذا الفرح المذكور إنما يكون بعد التوبة من الذنب فالتوبة والذنب لا زمان لهذا الفرح ولا يوجد الملزوم بدون لازمه وإذا كان هذا الفرح المذكور إنما يحصل بالتوبة المستلزمة للذنب فحصوله في دار النعيم التي لا ذنب فيها ولا مخالفة ممتنع ولما كان هذا الفرح احب الى الرب سبحانه من عدمه اقتضت محبته له خلق الاسباب المفضية اليه ليترتب عليها المسبب الذي هو محبوب له وأيضا فإن الله سبحانه جعل الجنة دار جزاء وثواب وقسم منازلها بين اهلها على قدر اعمالهم وعلى هذا خلقها سبحانه لما له في ذلك من الحكمة التي اقتضتها اسماؤه وصفاته فان الجنة درجات بعضها فوق بعض وبين الدرجتين كما بين السماء والارض كما في الصحيح عن النبي انه قال ان الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والارض وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها وإنما تعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الاعمال كما قال غير واحد من السلف ينجون من النار بعفو الله ومغفرته ويدخلون الجنة بفضله ونعمته ومغفرته ويتقاسمون المنازل بأعمالهم وعلى هذا حمل غير واحد ما جاء من إثبات دخول الجنة بالاعمال كقوله تعالى وتلك الجنة التي اورثتموها بما كنتم تعملون وقوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون قالوا وأما نفي دخلوها بالاعمال كما في قوله لن يدخل الجنة احد بعمله قالوا ولا انت يا رسول الله قال ولا انا فالمراد به نفي اصل الدخول واحسن من هذا ان يقال الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نفى معها الدخول فالمقتضية هي باء السببية الدالة على ان الاعمال سبب للدخول مقتضية له كاقتضاء سائر الاسباب لمسبباتها والباء التي نفى بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم اشتريت هذا بهذا فأخبر النبي ان دخول الجنة ليس في مقابلة عمل احد وانه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة فليس عمل العبد وان تناهى موجبا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضا لها فإن اعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي انعم بها عليه في دار الدنيا ولا تعادلها بل لو حاسبه لوقعت اعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله كما في السنن من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما مرفوعا الى النبي انه قال ان الله لو عذب أهل سمواته وأهل ارضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من اعمالهم والمقصود ان حكمته سبحانه اقتضت خلق الجنة درجات بعضها فوق بعض وعمارتها بآدم وذريته وإنزالهم فيها بحسب اعمالهم ولازم هذا إنزالهم الى دار العمل والمجاهدة وأيضا فإنه سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الارض كما اخبر سبحانه في كتابه بقوله اني جاعل في الارض خليفة وقوله وهو الذي جعلكم خلائف الارض وقال ويستخلفكم في الارض فأراد سبحانه ان ينقله وذريته من هذا الاستخلاف الى توريثه جنة الخلد وعلم سبحانه بسابق علمه انه لضعفه وقصور نظره قد يختار العاجل الخسيس على الاجل النفيس فإن النفس مولعة بحب العاجلة وإيثارها على الاخرة وهذا من لوازم كونه خلق من عجل وكونه خلق عجولا فعلم سبحانه ما في طبيعته من الضعف والخور فاقتضت حكمته ان ادخله الجنة ليعرف النعيم الذي اعد له عيانا فيكون اليه اشوق وعليه احرص وله اشد طلبا فإن محبة الشيء وطلبه والشوق اليه من لوازم تصوره فمن باشر طيب شيء ولذته وتذوق به لم يكد يصبر عنه وهذا لان النفس ذواقة تواقة فإذا ذاقت تاقت ولهذا إذا ذاق العبد طعم حلاوة الايمان وخالطت بشاشته قلبه رسخ فيه حبه ولم يؤثر عليه شيئا ابدا وفي الصحيح من حديث ابي هريرة رضى الله عنه المرفوع ان الله عز وجل يسأل الملائكة فيقول ما يسألني عبادي فيقولون يسألونك الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا يا رب فيقول كيف لو رأوها فيقولون لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا فاقتضت حكمته ان اراها أباهم وأسكنه إياها ثم قص على بنيه قصته فصاروا كأنهم مشاهدون لها حاضرون مع ابيهم فاستجاب من خلق لها وخلقت له وسارع اليها فلم يثنه عنها العاجلة بل يعد نفسه كانه فيها ثم سباه العدو فيراها وطنه الاول فهو دائم الحنين الى وطنه ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه كما قيل : نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الاول كم منزل في الارض يألفه الفتى وحنينه ابدا لاول منزل ولي من ابيات تلم بهذا المعنى : وحى على جنات عدن فإنها منازلك الاولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود الى اوطاننا ونسلم فسر هذه الوجوه انه سبحانه وتعالى سبق في حكمه وحكمته ان الغايات المطلوبة لا تنال الا باسبابها التي جعلها الله اسبابا مفضية اليها ومن تلك الغايات اعلى انواع النعيم وافضلها وأجلها فلا تنال الا باسباب نصبها مفضية اليها وإذا كانت الغايات التي هي دون ذلك لاتنال لا باسبابها مع ضعفها وانقطاعها كتحصيل المأكول والمشروب والملبوس والولد والمال والجاه في الدنيا فكيف يتوهم حصول اعلى الغايات واشرف المقامات بلا سبب يفضى اليه ولم يكن تحصيل تلك الاسباب الا في دار المجاهدة والحرث فكان اسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الاسباب الموصلة الى أعلى المقامات من إتمام انعامه عليهم وسرها ايضا انه سبحانه جعل الرسالة والنبوة والخلة والتكليم والولاية والعبودية من اشرف مقامات خلقه ونهايات كمالهم فأنزلهم دارا اخرج منهم الانبياء وبعث فيها الرسل واتخذ منهم من اتخذ خليلا وكلم موسى تكليما واتخذ منهم اولياء وشهداء وعبيدا وخاصة يحبهم ويحبونه وكان إنزالهم الى الارض من تمام الانعام والاحسان وايضا انه اظهر لخلقه من آثار اسمائه وجريان احكامها عليهم ما اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وسرها ايضا انه تعرف الى خلقه بافعاله واسمائه وصفاته وما احدثه في اوليائه واعدائه من كرامته وانعامه على الاولياء واهانته واشقائه للاعداء ومن اجابته دعواتهم وقضائه حوائجهم وتفريج كرباتهم وكشف بلائهم وتصريفهم تحت أقداره كيف يشاء وتقليبهم في أنواع الخير والشر فكان في ذلك اعظم دليل لهم على انه ربهم ومليكهم وانه الله الذي لا إله الا هو وأنه العليم الحكيم السميع البصير وأنه الاله الحق وكل ما سواه باطل فتظاهرت ادلة ربوبيته وتوحيده في الارض وتنوعت وقامت من كل جانب فعرفه الموفقون من عباده وأقروا بتوحيده إيمانا واذعانا وجحده المخذولون على خليقته واشركوا به ظلما وكفرانا فهلك من هلك عن بينة وحيي من حى بينة والله سميع عليم ومن تأمل آياته المشهودة والمسموعة في الارض ورأى آثارها علم تمام حكمته في اسكان آدم وذريته في هذه الدار الى أجل معلوم فالله سبحانه إنما خلق الجنة لآدم وذريته وجعل الملائكة فيها خدما لهم ولكن اقتضت حكمته ان خلق لهم دارا يتزودون منها الى الدار التي خلقت لهم وأنهم لاينالونها الا بالزاد كما قال تعالى في هذه الدار وتحمل اثقالكم الى بلد لم تكونوا بالغيه الا بشق الانفس إن ربكم لرؤوف رحيم فهذا شأن الانتقال في الدنيا من بلد الى بلد فكيف الانتقال من الدنيا الى دار القرار وقال تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فباع المغبونون
(1/18)
منازلهم منها بأبخس الحظ وأنقص الثمن وباع الموفقون نفوسهم واموالهم من الله وجعلوها ثمنا للجنة فربحت تجارتهم ونالوا الفوز العظيم قال الله تعالى ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة فهو سبحانه ما اخرج آدم منها الا وهو يريد ان يعيده اليها اكمل اعادة كما قيل على لسان القدر يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها فإني انا الغني عنها وعن كل شيء وانا الجواد الكريم وانا لا اتمتع فيها فإني اطعم ولا اطعم وانا الغني الحميد ولكن انزل الى دار البذر فإذا بذرت فاستوى الزرع على سوقه وصار حصيدا فحينئذ فتعال فاستوفه احوج ما انت اليه الحبة بعشر امثالها الى سبعمائة ضعف الى اضعاف كثيرة فإني اعلم بمصلحتك منك وانا العلي الحكيم فإن قيل ما ذكرتموه من هذه الوجوه وأمثالها إنما يتم إذا قيل إن الجنة التي اسكنها آدم وأهبط منها جنة الخلد التي اعدت للمتقين والمؤمنين يوم القيامة وحينئذ يظهر سر اهباطه واخراجه منها ولكن قد قالت طائفة منهم ابو مسلم ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهما انها انما كانت جنة في الارض في موضع عال منها لا انها جنة المأوى التي اعدها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة وذكر منذر بن سعيد هذا القول في تفسيره عن جماعة فقال وأما قوله لادم اسكن انت وزوجك الجنة فقالت طائفة اسكن الله تعالى آدم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة وقال آخرون هي جنة غيرها جعلها الله له واسكنه اياها ليست جنة الخلد قال وهذا قول تكثر الدلائل الشاهدة له والموجبة للقول به لان الجنة التي تدخل بعد القيامة هي من حيز الاخرة وفي اليوم الاخر تدخل ولم يأت بعد وقد وصفها الله تعالى لنا في كتابه بصفاتها ومحال ان يصف الله شيئا بصفة ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي التي وصفها به والقول بهذا دافع لما اخبر الله به قالوا وجدنا الله تبارك وتعالى وصف الجنة التي اعدت للمتقين بعد قيام القيامة بدار المقامة ولم يقم آدم فيها ووصفها بأنها جنة الخلد ولم يخلد آدم فيها ووصفها بأنها دار جزاء ولم يقل انها دار ابتلاء وقد ابتلى آدم فيها بالمعصية والفتنة ووصفها بأنها ليس فيها حزن وان الداخلين اليها يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقد حزن فيها آدم ووجدناه سماها دار السلام ولم يسلم فيها آدم من الافات التي تكون في الدنيا وسماها دار القرار ولم يستقر فيها آدم وقال فيمن يدخلها وما هم منها بمخرجين وقد اخرج منها آدم بمعصيته وقال لايمسهم فيها نصب وقد ند آدم فيها هاربا فارا عند اصابته المعصية وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه الذي نفاه الله عنها وأخبر انه لا يسمع فيها لغو ولا تأثيم وقد اثم فيها آدم واسمع فيها ما هو اكبر من اللغو وهو انه امر فيها بمعصية ربه وأخبر انه لا يسمع فيها لغو ولا كذب وقد اسمعه فيها ابليس الكذب وغره وقاسمه عليه ايضا بعد ان اسمعه اياه وقد شرب آدم من شرابها الذي سماه في كتابه شرابا طهورا أي مطهرا من جميع الافات المذمومة وآدم لم يطهر من تلك الافات وسماها الله تعالى مقعد صدق وقد كذب ابليس فيها آدم ومقعد الصدق لا كذب فيه وعليون لم يكن فيه استحالة قط ولا تبديل ولا يكون باجماع المصلين والجنة في اعلى عليين والله تعالى انما قال اني جاعل في الارض خليفة ولم يقل اني جاعله في جنة الماوى فقالت الملائكة اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء والملائكة اتقى لله من ان تقول مالا تعلم وهم القائلون لاعلم لنا الا ما علمتنا وفي هذا دلالة على ان الله قد كان اعلمهم ان بني آدم سيفسدون في الارض والا فكيف كانوا يقولون مالا يعلمون والله تعالى يقول وقوله الحق لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون والملائة لا تقول ولا تعمل الا بما تؤمر به لا غير قال الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون والله تعالى أخبرنا ان ابليس قال لادم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن كان قد اسكن الله جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه نصيحته ويكذبه في قول فيقول وكيف تدلني على شيء انا فيه قد اعطيته واخترته بل كيف لم يحث التراب في وجهه ويسبه لان ابليس لئن كان يكون بهذا الكلام مغويا له انما كان يكون زاريا عليه لانه إنما وعده على معصية ربه بما كان فيه لا زائدا عليه ومثل هذا لا يخاطب به الا المجانين الذين لا يعقلون لان العوض الذي وعده به بمعصية ربه قد كان احرزه وهو الخلد والملك الذي لا يبلى ولم يخبر الله آدم إذ اسكنه الجنة انه فيها من الخالدين ولو كان فيها من الخالدين لما ركن الى قول ابليس ولا قبل نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غره بما اطمعه فيه من الخلد فقبل منه ولو اخبر الله آدم انه في دار الخلد ثم شك في خبر ربه لسماه كافرا ولما سماه عاصيا لان من شك في خبر الله فهو كافر ومن فعل غير ما امره الله به وهو معتقد للتصديق بخبر ربه فهو عاص وإنما سمى الله آدم عاصيا ولم يسمه كافرا قالوا فإن كان آدم اسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يدخلها الا طاهر مقدس فكيف توصل اليها إبليس الرجس النجس الملعون المذموم المدحور حتى فتن فيها آدم وابليس فاسق قد فسق عن امر ربه وليست جنة الخلد دار الفاسقين ولا يدخلها فاسق البتة إنما هي دار المتقين وابليس غير تقي فبعد ان قيل له اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها انفسح له ان يرقى الى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط والابعاد له بالعتو والاستكبار هذا مضاد لقوله تعالى اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فإن كانت مخاطبته آدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليس تكبرا فليس تعقل العرب التي انزل القرآن بلسانها ما التكبر ولعل من ضعفت رويته وقصر بحثه ان يقول ان ابليس لم يصل اليها ولكن وسوسته وصلت فهذا قول يشبه قائله ويشاكل معتقده وقول الله تعالى حكم بيننا وبينه وقوله تعالى وقاسمهما يرد ما قال لان المقاسمة ليست وسوسة ولكنها مخاطبة ومشافهة ولا تكون الا من اثنين شاهدين غير غائبين ولا احدهما ومما يدل على ان وسوسته كانت مخاطبة قول الله تعالى فوسوس اليه الشيطان قال يا آدم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأخبر انه قال له ودل ذلك على انه انما وسوس اليه مخاطبة لا انه اوقع ذلك في نفسه بلا مقاولة فمن ادعى على الظاهر تاويلا ولم يقم عليه دليلا لم يجب قبول قوله وعلى ان الوسوسة قد تكون كلاما مسموعا او صوتا قال رؤية وسوس يدعو مخلصا رب الفلق وقال الاعشى : تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح كشرق زجل قالوا وفي قول ابليس لهما ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة دليل على مشاهدته لهما وللشجرة ولما كان آدم خارجا من الجنة وغير ساكن فيها قال الله الم انهكما عن تلكما ما الشجرة ولم يقل عن هذه الشجرة كما قال له ابليس لان آدم لم يكن حينئذ في الجنة ولا مشاهدا للشجرة مع قوله عز وجل اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فقد اخبر سبحانه خبرا محكما غير مشتبه انه لا يصعد اليه الا كلم طيب وعمل صالح وهذا مما قدمنا ذكره انه لا يلج المقدس المطهر الا مقدس مطهر طيب ومعاذ الله ان تكون وسوسة ابليس مقدسة او طاهرة او خيرا بل هي شر كلها وظلمة وخبث ورجس تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وكما ان اعمال الكافرين لا تلج القدس الطاهر ولا تصل اليه لانها خبيثة غير طيبة كذلك لا تصل ولم تصل وسوسة ابليس ولا ولجت القدس قال تعالى كلا ان كتاب الفجار لفي سجين وقد روى عن النبي ان آدم نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها باجماع من المسلمين لان النوم وفاة وقد نطق به القرآن والوفاة تقلب حال ودار السلام مسلمة من تقلب الاحوال والنائم ميت او كالميت قالوا وقد روى عنه انه قال لام
(1/23)
حارثة لما قالت له يا رسول الله ان حارثة قتل معك فإن كان صار الى الجنة صبرت واحتسبت وان كان صار الى ما سوى ذلك رأيت ما افعل فقال لها رسول الله او جنة واحدة هي انما هي جنان كثيرة فاخبر ان لله جنات كثيرة فلعل آدم اسكنه الله جنة من جنانه ليست هي جنة الخلد قالوا وقد جاء في بعض الاخبار ان جنة آدم كانت بأرض الهند قالوا وهذا وأن كان لا يصححه رواة الاخبار ونقلة الاثار فالذي تقبله الالباب ويشهد له ظاهر الكتاب ان جنة آدم ليست جنة الخلد ولا دار البقاء وكيف يجوز ان يكون الله اسكن آدم جنة الخلد ليكون فيها من الخالدين وهو قائل للملائكة اني جاعل في الارض خليفة وكيف اخبر الملائكة انه يريد ان يجعل في الارض خليفة ثم يسكنه دار الخلود ودار الخلود لا يدخلها الا من يخلد فيها كما سميت بدار الخلود فقد سماها الله بالاسماء التي تقدم ذكرنا لها تسمية مطلقة لا خصوص فيها فإذا قيل للجنة دار الخلد لم يجزان ينقص مسمى هذا الاسم بحال فهذا بعض ما احتج به القائلون بهذا المذهب وعلى هذا فاسكان آدم وذريته في هذه الجنة لا ينافي كونهم في دار الابتلاء والامتحان وحينئذ كانت تلك الوجوه والفوائد التي ذكرتموها ممكنة الحصول في الجنة فالجواب ان يقال هذا فيه قولان للناس ونحن نذكر القولين واحتجاج الفريقين ونبين ثبوت الوجوه التي ذكرناها وأمثالها على كلا القولين ونذكر أولا قول من قال انها جنة الخلد التي وعدها الله المتقين وما احتجوا به ومانقضوا به حجج من قال انها غيرها ثم نتبعها مقالة الاخرين وما احتجوا به وما أجابوا به عن حجج منازعيهم من غير انتصاب لنصرة احد القولين وابطال الاخر إذ ليس غرضنا ذلك وإنما الغرض ذكر بعض الحكم والمصالح المقتضية لاخراج آدم من الجنة واسكانه في الارض في دار الابتلاء والامتحان وكان الغرض بذلك الرد على من زعم ان حكمة الله سبحانه تأبى ادخال آدم الجنة وتعريضه للذنب الذي اخرج منها به وانه أي فائدة في ذلك والرد على ان من ابطل ان يكون له في ذلك حكمة وإنما هو صادر عن محض المشيئة التي لا حكمه الحكمة وراءها ولما كان المقصود حاصلا على كل تقدير سواء كانت جنة الخلد او غيرها بينا الكلام على التقديرين ورأينا ان الرد على هؤلاء بدبوس السلاق لا يحصل غرضا ولا يزيل مرضا فسلكنا هذا السبيل ليكون قولهم مردودا على كل قول من اقوال الامة وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة الا بالله فنقول اما ما ذكرتموه من كون الجنة التي اهبط منها آدم
(1/25)
ليست جنة الخلد وإنماهي جنة غيرها فهذا مما قد اختلف فيه الناس والاشهر عند الخاصة والعامة الذي لا يخطر بقلوبهم سواه انها جنة الخلد التي اعدت للمتقين وقد نص غير واحد من السلف على ذلك واحتج من نصر هذا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابي مالك الاشجعي عن ابي حازم عن ابي هريرة وابو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قالا قال رسول الله يجمع الله عز وجل الناس حتى يزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل اخرجكم من الجنة الا خطيئة ابيكم آدم وذكر الحديث قالوا فهذا يدل على ان الجنة التي اخرج منها آدم هي بعينها التي يطلب منه ان يستفتحها لهم قالوا ويدل عليه ان الله سبحانه قال يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة الى قوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين عقيب قوله اهبطوا فدل على انهم لم يكونوا اولا في الارض وأيضا فإنه سبحانه وصف الجنة التي اسكنها آدم بصفات لا تكون في الجنة الدنيوية فقال تعالى إن لك الا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لاتظمأ فيها ولا تضحى وهذا لا يكون في الدنيا اصلا ولو كان الرجل في اطيب منازلها فلا بد ان يعرض له الجوع والظمأ والتعرى والضحى للشمس وايضا فإنها لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب ابليس في قوله هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن آدم كان يعلم ان الدنيا منقضية فانية وان ملكها يبلى وايضا فإن قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في ان الجنة التي اخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم فهذا اهباط آدم وحواء وابليس من الجنة ولهذا اتى فيه بضمير الجمع وقيل انه خطاب لهم وللحية وهذا يحتاج الى نقل ثابت إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم وإبليس وقيل خطاب لآدم وحواء وأتى فيه بلفظ الجمع كقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين وقيل لادم وحواء وذريتهما وهذه الاقوال ضعيفة غير الاول لانها بين قول لا دليل عليه وبين ما يدل ظاهر الخطاب على خلافه فثبت ان ابليس داخل في هذا الخطاب وانه من المهبطين من الجنة ثم قال تعالى قلنا اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذا الاهباط الثاني لا بد ان يكون غير الاول وهو اهباطه من السماء الى الارض
وحينئذ فتكون الجنة التي اهبطوا منها الاول فوق السماء وهي جنة الخلد وقد ذهبت طائفة منهم الزمخشري الىان قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لادم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتاباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما ياتينكم مني هدى وقال ويدل على ذلك قوله فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون وما هو الا حكم يعم الناس كلهم ومعنى بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادى والتباغض وتضليل بعضهم لبعض وهذا الذي اختاره اضعف الاقوال في الاية فإن العداوة التي ذكرها الله انما هي بين آدم وابليس وذرياتهما كما قال تعالى ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وأما آدم وزوجه فإن الله سبحانه اخبر في كتابه انه خلقها منه ليسكن اليها وقال سبحانه ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة فهو سبحانه جعل المودة بين الرجل وزوجه وجعل العداوة بين آدم وابليس وذرياتهما ويدل عليه ايضا عود الضمير اليهم بلفظ الجمع وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وابليس في قولهم فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما فهؤلاء ثلاثة آدم وحواء وإبليس فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام ولايعود على جميع المذكور مع انه وجه الكلام فإن قيل فما تصنعون بقوله في سورة طه : قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو وهذا خطاب لادم وحواء وقد اخبر بعداوة بعضهم بعضا قيل اما ان يكون الضمير في قوله اهبطا راجعا الى آدم وزوجه او يكون راجعا الى آدم وابليس ولم يذكر الزوجة لانها تبع له وعلى الثاني فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالاهباط وهما آدم وابليس وعلى الاول تكون الاية قد اشتملت على أمرين احدهما امره لادم وزوجه بالهبوط والثاني جعله العداوة بين آدم وزوجه وابليس ولا بد ان يكون ابليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك وقال لذريته ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها العداوة على ضمير الجمع دون التثنية وأما ذكر الاهباط فتارة ياتي بلفظ ضمير الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة يأتي بلفظ الافراد لابليس وحده كقوله تعالى في سورة الاعراف قال ما منعك ان لا تسجد اذ امرتك قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فهذا الاهباط لابليس وحده والضمير في قوله منها قيل انه عائد الى الجنة وقيل عائد الى السماء وحيث اتى بصيغة الجمع كان لادم وزوجه وابليس اذ مدار القصة عليهم وحيث اتى بلفظ التثنية فاما ان يكون لادم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الاكل من الشجرة واقدما على المعصية واما ان
(1/29)
يكون لادم وابليس اذ هما ابوا الثقلين فذكر حالهما وما آل اليه امرهما ليكون عظة وعبرة لاولادهما والقولان محكيان في ذلك وحيث اتى بلفظ الافراد فهو لابليس وحده وأيضا فالذي يوضح ان الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لادم وابليس ان الله سبحانه لما ذكر المعصية افرد بها آدم دون زوجه فقال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتابه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا وهذا يدل على ان المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا وهذا لان المقصود اخبار الله تعالى لعباده المكلفين من الجن والانس بما جرى على ابويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر لئلا يقتدوا بهما في ذلك فذكر ابو الثقلين ابلغ في حصول هذا المعنى من ذكر ابوي الانس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة انها اكلت مع آدم وأخبر انه اهبطه
وأخرجه من الجنة بتلك الاكلة فعلم ان هذا اقتضاه حكم الزوجية وانها صارت الى ما صار اليه آدم فكان تجريد العناية الى ذكر الابوين الذين هما اصل الذرية اولى من تجريدها الى ذكر ابي الانس وامهم والله اعلم وبالجملة فقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله اهبطا قالوا وأما قولكم انه كيف وسوس له بعد اهباطه منها ومحال ان يصعد اليها بعد قوله تعالى اهبط فجوابه من وجوه احدهما انه اخرج منها ومنع من دخولها على وجه السكنى والكرامة واتخاذها دارا فمن اين لكم انه منع من دخولها على وجه الابتلاء والامتحان لادم وزوجه ويكون هذا دخولا عارضا كما يدخل شرط دار من امروا بابتلائه ومحنته وان لم يكونوا اهلا لسكنى تلك الدار الثاني انه كان يدنو من السماء فيكلمهما ولا يدخل عليهما دارهما الثالث انه لعله قام على الباب فناداهما وقاسمهما ولم يلج الجنة الرابع انه قد روى انه اراد الدخول عليهما فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به عليهما ولا يشعر الخزنة بذلك قالوا ومما يدل على انها جنة الخلد بعينها انها جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله اسكن انت وزوجك الجنة ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها الا جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة وان كان في اصل الوضع عبارة عن البستان ذي الثمار والفواكه وهذا كالمدينة الطيبة والنجم للثريا ونظائرها فحيث ورد اللفظ معرفا بالالف واللام انصرف الى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما ان اريد به جنة غيرها فانها تجيء منكرة كقوله جنتين من اعناب او مقيدة بالاضافة كقوله ولولا اذ دخلت جنتك او مقيدة من السياق بما يدل على انها جنة في الارض كقوله انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة اذ اقسموا ليصرمنها مصبحين الايات فهذا السياق والتقييد يدل على انها بستان في الارض قالوا وأيضا فإنه قد اتفق اهل السنة
(1/31)
والجماعة على ان الجنة والنار مخلوقتان وقد تواترت الاحاديث عن النبي بذلك كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي انه قال إن احدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من اهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن اهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة وفي الصحيحين من حديث ابي سعيد الخدري عن النبي قال اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة مالي لا يدخلني الا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار مالي لا يدخلني الا الجبارون والمتكبرون فقال للجنة انت رحمتي ارحم بك من أشاء وقال للنار انت عذابي اعذب بك من أشاء الحديث وفي السنن عن ابي هريرة ان رسول الله قال لما خلق الله الجنة والنار ارسل جبريل الى الجنة فقال اذهب فانظر اليها والى ما اعددت لاهلها قال
(1/32)
فذهب فنظر اليها وإلى ما اعد الله لاهلها الحديث وفي الصحيحين في حديث الاسراء ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا ورقها مثل آذان الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا اربعة انهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت ما هذا يا جبريل قال اما النهران الظاهران فالنيل والفرات وأما الباطنان فنهران في الجنة وفيه ايضا ثم ادخلت الجنة فإذا جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك وفي صحيح البخاري عن انس عن النبي قال بينما انا أسير في الجنة إذا انا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قال قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي اعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك اذفر وفي صحيح مسلم في حديث صلاة الكسوف ان النبي جعل يتقدم ويتأخر في الصلاة ثم اقبل على اصحابه فقال انه عرضت لي الجنة والنار فقربت مني الجنة حتى لو تناولت منها قطفا لاخذته فلو اخذته لاكلتم منه ما بقيت الدنيا وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود في قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون ارواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى الى تلك القناديل فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا فقالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا الحديث وفي الصحيح من حديث ابن عباس قال قال رسول الله لما اصيب اخوانكم باحد جعل الله ارواحهم في اجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتاوى الى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ عنا اخواننا انا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلوا عند الحرب فقال الله أنا ابلغهم عنكم فانزل الله عز وجل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الاية وفي الموطأ من حديث كعب بن مالك ان رسول الله قال انما نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة حتى يرجعه الله الى جسده يوم يبعثه وفي البخاري ان إبراهيم ابن رسول الله لما توفي قال رسول
(1/33)
الله ان له مرضعا في الجنة وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال قال رسول الله اطلعت في الجنة فرأيت اكثر اهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت اكثر اهلها النساء والاثار في هذا الباب اكثر من ان تذكرا واما القول بان الجنة والنار لم تخلقا بعد فهو قول اهل البدع من ضلال المعتزلة ومن قال بقولهم وهم الذين يقولون ان الجنة التي اهبط منها آدم إنما كانت جنة بشرقي الارض وهذه الاحاديث وأمثالها ترد قولهم قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها منتفية في الجنة التي اسكنها آدم من اللغو والكذب والنصب والعرى وغير ذلك فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا احد من اهل الاسلام ولكن هذا إنما هو إذا دخلها المؤمنون
(1/34)
يوم القيامة كما يدل عليه سياق الكلام وهذا لا ينفى ان يكون فيها بين آدم وإبليس ما حكاه الله عز وجل من الامتحان والابتلاء ثم يصير الامر عند دخول المؤمنين اليها الى ما أخبر الله عز وجل به فلا تنافي بين الامرين قالوا وأما قولكم ان الجنة دار جزاء وثواب وليست دارتكليف وقد كلف الله سبحانه آدم فيها بالنهي عن الشجرة فجوابه من وجهين احدهما انه إنما يمتنع ان تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف وأما امتناع وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل عليه الثاني ان التكليف فيها لم يكن بالاعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها وإنما كان حجرا عليه في شجرة من جملة أشجارها وهذا لا يمتنع وقوعه في جنة الخلد كما ان كل احد محجور عليه ان يقرب أهل غيره فيها فإن اردتم بان الجنة ليست دار كيف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الاوقات فلا دليل لكم عليه وإن اردتم ان غالب التكاليف التي تكون في الدنيامنتفية فيها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم قالوا وهذا كما انه موجب الادلة وقول سلف الامة فلا يعرف بقولكم قائل من ائمة العلم ولا يعرج عليه ولا يلتفت اليه قال الاولون الجواب عما ذكرتم من وجهين مجمل ومفصل اما المجمل فإنكم لم تأتوا على قولكم بدليل يتعين المصير اليه لا من قرآن ولا من سنة ولا أثر ثابت عن احد من اصحاب رسول الله ولا التابعين لا مسندا ولا مقطوعا ونحن نوجدكم من قال بقولنا هذا احد ائمة الاسلام سفيان بن عيينة قال في قوله عز وجل ان لك ان لا تجوع فيها ولا تعرى قال يعني في الارض وهذا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال في معارفه بعد ان ذكر خلق الله لادم وزوجه ان الله سبحانه اخرجه من مشرق جنة عدن الى الارض التي منها اخذ وهذا ابى قد حكى الحسن عنه ان آدم لما احتضر اشتهى قطفا من قطف الجنة فانطلق بنوه ليطلبوه له فلقيتهم الملائكة فقالوا اين تريدون يا بني آدم
(1/35)
قالوا إن ابانا اشتهى قطفا من قطف الجنة فقالوا لهم ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا اليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل وبنوه خلف الملائكة ودفنوه وقالوا هذه سنتكم في موتاكم وهذا ابو صالح قد نقل عن ابن عباس في قوله اهبطوا منها قال هو كما يقال هبط فلان في ارض كذا وكذا وهذا وهب بن منبه يذكر آن آدم خلق في الارض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس وانه كان بعدن وان سيحون وجيحون والفرات انقسمت من النهر الذي كان في وسط الجنة وهو الذي كان يسقيها وهذا منذر بن سعيد البلوطي اختاره في تفسيره ونصره بما حكيناه عنه وحكاه في غير التفسير عن ابي حنيفة فيما خالفه فيه فلم قال بقوله في هذه المسألة وهذا أبو مسلم الاصبهاني صاحب التفسير وغيره احد الفضلاء المشهورين قال بهذا وانتصر له واحتج عليه بما هو معروف
(1/36)
في كتابه وهذا ابو محمد عبد الحق بن عطية ذكر القولين في تفسيره في قصة آدم في البقرة وهذا ابو محمد بن حزم ذكر القولين في كتاب الملل والنحل له فقال وكان المنذر بن سعيد القاضي يذهب الى ان الجنة والنار مخلوقتان الا انه كان يقول انها ليست هي التي كان فيها آدم وامراته وممن حكى القولين ايضا ابو عيسى الرماني في تفسيره واختار انها جنة الخلد ثم قال والمذهب الذي اخترناه قول الحسن وعمرو بن واصل وأكثر اصحابنا وهو قول ابي علي وشيخنا ابي بكر وعليه اهل التفسير وممن ذكر القولين ابو القاسم الراغب في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي اسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانا جعله الله له امتحانا ولم يكن جنة المأوى ثم قال ومن قال لم يكن جنة المأوى لانه لا تكليف في الجنة وآدم كان مكلفا قال وقد قيل في جوابه انها لا تكون دار التكليف في الاخرة ولا يمتنع ان تكون في وقت دار تكليف دون وقت كما ان الانسان يكون في وقت مكلفا دون وقت وممن ذكر الخلاف في المسألة ابو عبد الله بن الخطيب الرازي في تفسيره فذكر هذين القولين وقولا ثالثا وهو التوقف قال لامكان الجميع وعدم الوصول الى القطع كما سيأتي حكاية كلامه ومن المفسرين من لم يذكر غير هذا القول وهو انها لم تكن جنة الخلد إنما كانت حيث شاء الله من الارض وقالوا كانت تطلع فيها الشمس والقمر وكان ابليس فيها ثم اخرج قال ولو كانت جنة الخلد لما اخرج منها وممن ذكر القولين ايضا أبو الحسن الماوردي فقال في تفسيره واختلف في الجنة التي اسكناها على قولين احدهما انها جنة الخلد الثاني انها جنة اعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها الله دار جزاء ومن قال بهذا اختلفوا فيه على قولين احدهما انها في السماء لانه اهبطهما منها وهذا قول الحسن الثاني انها في الارض لانه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد ان
(1/37)
أمر ابليس بالسجود لادم والله اعلم بصواب ذلك هذا كلامه وقال ابن الخطيب في تفسيره اختلفوا في ان الجنة المذكورة في هذه الاية هل كانت في الارض او في السماء وبتقدير انها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد او جنة اخرى فقال ابو القاسم البلخي وابو مسلم الاصبهاني هذه الجنة في الارض وحملا الاهباط على الانتقال من بقعة الى بقعة كما في قوله تعالى اهبطوا مصرا القول الثاني وهو قول الجبائي ان تلك كانت في السماء السابعة قال والدليل عليه قوله اهبطوا ثم ان الاهباط الاول كان من السماء السابعة الى السماء الاولى والاهباط الثاني كان من السماء الى الارض والقول الثالث وهو قول جمهور اصحابنا ان هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليههو ان الالف واللام في لفظ الجنة لا يفيد العموم لان سكنى آدم جميع الجنان محال فلا بد من صرفها الى المعهود السابق والجنة المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللفظ اليها قال والقول الرابع ان الكل ممكن والادلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع
(1/38)
قالوا ونحن لا نقلد هؤلاء ولا نعتمد على ما حكى عنهم والحجة الصحيحة حكم بين المتنازعين قالوا وقد ذكرنا على هذا القول ما فيه كفاية واما الجواب المفصل فنحن نتكلم على ما ذكرتم من الحجج لينكشف وجه الصواب فنقول وبالله التوفيق اما استدلالكم بحديث ابي هريرة وحذيفة حين يقول الناس لادم استفتح لنا الجنة فيقول وهل اخرجكم منها الا خطيئة ابيكم فهذا الحديث لا يدل على ان الجنة التي طلبوا منه ان يستفتحها لهم هي التي أخرج منها بعينها فإن الجنة اسم جنس فكل بستان يسمى جنة كما قال تعالى انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين وقال تعالى وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا او تكون لك جنة من نخيل وعنب وقال تعالى ومثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من انفسهم كمثل جنة بربوة وقال تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل الى قوله ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله فإن الجنة اسم جنس فهم لما طلبوا من آدم ان يستفتح لهم جنة الخلد اخبرهم بأنه لا يحسن منه ان يقدم على ذلك وقد اخرج نفسه وذريته من الجنة التي اسكنه الله اياها بذنبه وخطيئته هذا الذي دل عليه الحديث وأما كون الجنة التي اخرج منها هي بعينها التي طلبوا منه ان يستفتحها لهم فلا يدل الحديث عليه بشيء من وجوه الدلالات الثلاث ولو دل عليه لوجب المصير الى مدلول الحديث وامتنع القول بمخالفته وهل مدارنا الا على فهم مقتضى كلام الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه قالوا وأما استدلالكم بالهبوط وأنه نزول من علو الى سفل فجوابه من وجهين احدهما ان الهبوط قد استنقل في النقلة من ارض الى ارض كما يقال هبط فلان بلد كذا وكذا وقال تعالى اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وهذا كثير في نظم العرب ونثرها قال : إن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح وقد روى ابو صالح عن ابن عباس رضى الله
(1/39)
عنهما قال هو كما يقال هبط فلان ارض كذا وكذا الثاني انا لا ننازعكم في ان الهبوط حقيقة ما ذكرتموه ولكن من اين يلزم ان تكون الجنة التي منها الهبوط فوق السموات فإذا كانت في أعلى الارض اما يصح ان يقال هبط منها كما يهبط الحجر من اعلى الجبل الى اسفله ونحوه وأما قوله تعالى ولكم في الارض مستقرومتاع الى حين فهذا يدل على ان الارض التي اهبطوا اليها لهم فيها مستقر ومتاع الى حين ولا يدل على انهم لم يكونوا في جنة عالية اعلى من الارض التي اهبطوا اليها تخالف الارض
(1/40)
في صفاتها واشجارها ونعيمها وطيبها فالله سبحانه فاوت بين بقاع الارض اعظم تفاوت وهذا مشهود بالحس فمن اين لكم ان تلك لم تكن جنة تميزت عن سائر بقاع الارض بما لا يكون الا فيها ثم اهبطوا منها الى الارض التي هي محل التعب والنصب والابتلاء والامتحان وهذا بعينه هوالجواب عن استدلالكم بقوله تعالى إن لك الا تجوع فيهاولاتعرى ألى آخر ما ذكرتموه مع ان هذا حكم معلق بشرط والشرط لم يحصل فإنه سبحانه إنما قال ذلك عقيب قوله ولا تقربا هذه الشجرة وقوله ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى هو صيغة وعد مرتبطة بما قبلها والمعنى ان اجتنبت الشجرة التي نهيتك عنها ولم تقربها كان لك هذا الوعد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فلما اكل من الشجرة زال استحقاقه لهذا الوعد قال واما قولكم انه لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب ابليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى الى آخره فدعوى لا دليل عليها لانه لا دليل لكم على ان الله سبحانه كان قد اعلم آدم حين خلقه ان الدنيا منقضية فانية وان ملكها يبلى ويزول وعلى تقدير ان يكون آدم حينئذ قد أعلم ذلك فقول ابليس هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى لا يدل على انه اراد بالخلد مالا يتناهى فإن الخلد في لغة العرب هو اللبث الطويل كقولهم قيد مخلد وحبس مخلد وقد قال تعالى لثمود تبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وكذلك قوله وملك لا يبلى يراد به الملك الطويل الثابت وأيضا فلا وجه للاعتذار عن قول ابليس مع تحقق كذبه ومقاسمته آدم وحواء على الكذب والله سبحانه قد أخبر انه قاسمهما ودلاهما بغرور وهذا يدل على انهما اغترا بقوله فغرهما بان اطمعهما في خلد الابد والملك الذي لا يبلى وبالجملة فالاستدلال بهذا على كون الجنة التي سكنها آدم هي جنة الخلد التي وعدها المتقون غير بين ثم نقول لو كانت الجنة هي جنة الخلد التي لا يزول ملكها لكانت جميع اشجارها شجر الخلد فلم يكن لتلك
(1/41)
الشجرة اختصاص من بين سائر الشجر بكونها شجرة الخلد وكان آدم يسخر من ابليس إذ قد علم ان الجنة دار الخلد فإن قلتم لعل آدم لم يعلم حينئذ ذلك فغره الخبيث وخدعه بان هذه الشجرة وحدها هي شجرة الخلد قلنا فاقنعوا منا بهذا الجواب بعينه عن قولكم لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب ابليس في ذلك لان قوله كان خداعا وغرورا محضا على كل تقدير فانقلب دليلكم حجة عليكم وبالله التوفيق قالوا وأما قولكم ان قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في ان جنة آدم كانت فوق السماء فنحن نطالبكم بهذا الظهور ولا سبيل لكم الى اثباته قولكم انه كرر فيه ذكر الهبوط مرتين ولا بد ان يفيد الثاني غير ما أفاد الاول فيكون الهبوط الاول من الجنة والثاني من السماء فهذا فيه خلاف بين اهل التفسير فقالت طائفة هذا القول الذي ذكرتموه وقالت طائفة
(1/42)
منهم النقاش وغيره ان الهبوط الثاني إنما هو من الجنة الى السماء والهبوط الاول الى الارض وهو آخر الهبوطين في الوقوع وان كان اولهما في الذكر وقالت طائفة اتى به على جهة التغليظ والتأكيد كما تقول للرجل اخرج اخرج وهذه الاقوال ضعيفة فأما القول الاول فيظهر ضعفه من وجوه احدها انه مجرد دعوى لا دليل عليها من اللفظ ولا من خبر يجب المصير اليه وما كان هذا سبيله لا يحمل القرآن عليه الثاني ان الله سبحانه قد اهبط ابليس لما امتنع من السجود لادم اهباطا كونيا قدريا لا سبيل له الى التخلف عنه فقال تعالى اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين وقال في موضع آخر فاخرج منها فانك رجيم وان عليك اللعنة الى يوم الدين وفي موضع آخر اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم اجمعين وسواء كان الضمير في قوله منها راجعا الى السماء او الى الجنة فهذا صريح في اهباطه وطرده ولعنه وادحاره والمدحور المبعد وعلى هذا فلو كانت الجنة فوق السموات لكان قد صعد اليها بعد اهباط الله له وهذا وان كان ممكنا فهو في غاية البعد عن حكمة الله ولا يقتضيه خبره فلا ينبغي ان يصار اليه وأما الوجوه الاربعة التي ذكرتموها من صعوده للوسوسة فهي مع امر الله تعالى بالهبوط مطلقا وطرده ولعنه ودحوره لا دليل عليها لا من اللفظ ولا من الخبر الذي يجب المصير اليه وما هي الا احتمالات مجردة وتقديرات لا دليل عليها الثالث ان سياق قصة اهباط الله تعالى لابليس ظاهرة في أنه اهباط الى الارض من وجوه احدها انه سبحانه نبه على حكمة اهباطه بما قام به من التكبر المقتضى غاية ذله وطرده ومعاملته بنقيض قصده وهو اهباطه من فوق السموات الى قرار الارض ولا تقتضى الحكمة ان يكون فوق السماء مع كبره ومنافاة حاله لحال الملائكة الاكرمين الثاني انه قال فاخرج منها فإنك رجيم وان عليك لعنتي الى يوم الدين وكونه رجيما ملعونا ينفى ان يكون في السماء بين
(1/43)
المقربين المطهرين الثالث انه قال اخرج منها مذؤما مدحورا وملكوت السموات لا يعلوه المذموم المدحور ابدا وأما القول الثاني فهو القول الاول بعينه مع زيادة ما لا يدل عليه السياق بحال من تقديم ما هو مؤخر في الواقع وتأخير ما هو مقدم فيه فيرد بما رد به القول الذي قبله وأما القول الثالث وهو أنه للتأكيد فإن أريد التأكيد اللفظي المجرد فهذا لا يقع في القرآن وان اريد به انه مستلزم للتغليظ والتأكيد مع ما يشتمل عليه من الفائدة فصحيح فالصواب ان يقال اعيد الاهباط مرة ثانية لانه علق عليه حكما غير المعلق على الاهباط الاول فإنه علق على الاول عداوة بعضهم بعضا فقال اهبطوا بعضكم لبعض عدو وهذه جملة حالية وهي اسمية بالضمير وحده عند الاكثرين والمعنى اهبطوا متعادين وعلق على الهبوط الثاني حكمين آخرين احدهما هبوطهم جميعا والثاني
(1/44)
قوله فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون فكأنه قيل اهبطوا بهذا الشرط مأخوذا عليكم هذا العهد وهو انه مهما جاءكم مني هدى فمن اتبعه منكم فلا خوف عليه ولا حزن يلحقه ففي الاهباط الاول إيذان بالعقوبة ومقابلتهم على الجريمة وفي الاهباط الثاني روح التسلية والاستبشاربحسن عاقبة هذا الهبوط لمن تبع هداي ومصيره الى الامن والسرور المضاد للخوف والحزن فكسرهم بالاهباط الاول وجبر من اتبع هداه بالاهباط الثاني على عادته سبحانه ولطفه بعباده وأهل طاعته كما كسر آدم بالاخراج من الجنة وجبره بالكلمات التي تلقاها منه فتاب عليه وهداه ومن تدبر حكمته سبحانه ولطفه وبره بعباده وأهل طاعته في كسره لهم ثم جبره بعد الانكسار كما يكسر العبد بالذنب ويذله به ثم يجبره بتوبته عليه ومغفرته له وكما يكسره بأنواع المصائب والمحن ثم يجبره بالعافية والنعمة انفتح له باب عظيم من أبواب معرفته ومحبته وعلم انه ارحم بعباده من الوالدة بولدها وان ذلك الكسر هو نفس رحمته به وبره ولطفه وهو أعلم بمصلحة عبده منه ولكن العبد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكاد يشعر بذلك ولا ينال رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنو منه والزلفى لديه الاعلى جسر من الذلة والمسكنة وعلى هذا قام امر المحبة فلا سبيل الى الوصول الى المحبوب الا بذلك كما قيل تذلل لمن تهوى لتحظى بقربه فكم عزة قد نالها العبد بالذل إذا كان من تهوى عزيز او لم تكن ذليلا له فاقرا السلام على الوصل وقال آخر : اخضع وذل لمن تحب فليس في شرع الهوى انف يشال ويقعد وقال آخر : وما فرحت بالوصل نفس عزيزة وما العز إلا ذلها وانكسارها قالوا وإذا علم ان إبليس اهبط من دار العز عقب امتناعه وإبائه من السجود لادم ثبت ان وسوسته له ولزوجه كانت في غير المحل الذي اهبط منه والله اعلم قالوا واما قولكم ان الجنة إنما جاءت معرفة باللام وهي تنصرف الى الجنة
(1/45)
التي لا يعهد بنو آدم سواها فلا ريب انها جاءت كذلك ولكن العهد وقع في خطاب الله تعالى آدم لسكناها بقوله اسكن انت وزوجك الجنة فهي كانت معهودة عند آدم ثم اخبرنا سبحانه عنهامعرفا لها بلام التعريف فانصرف العرف بها الىتلك الجنة المعهودة في الذهن وهي التي سكنها آدم ثم اخرج منها فمن اين في هذا ما يدل على محلها وموضعها بنفي او إثبات وأما مجيء جنة الخلد معرفة باللام فلانها الجنة التي اخبرت بها الرسل لاممهم ووعدها الرحمن عباده بالغيب فحيث ذكرت انصرف الذهن اليها دون غيرها لانها قد صارت معلومة في القلوب مستقرة فيها ولا ينصرف الذهن الى غيرها ولا يتوجه الخطاب الى سواها وقد جاءت الجنة في القرآن معرفة باللام والمراد بها بستان في بقعة من الارض كقوله تعالى إنا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين فهذا لا ينصرف الذهن فيها الى جنة الخلد ولا الى جنة آدم بحال قالوا وما قولكم انه قد اتفق اهل السنة والجماعة علىان الجنة والنار مخلوقتان وإنه لم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع والضلال واستدلالكم على وجود الجنة الان فحق لاننازعكم فيه وعندنا من الادلة على وجودها اضعاف ما ذكرتم ولكن أي تلازم بين ان تكون جنة الخلد مخلوقة وبين ان تكون هي جنة آدم بعينها فكانكم تزعمون ان كل من قال ان جنة آدم هي جنة في الارض فلا بد له ان يقول ان الجنة والنار لم يخلقا بعد وهذا غلط منكم منشؤه من توهمكم ان كل من قال بأن الجنة لم تخلق بعد فإنه يقول ان جنة آدم هي في الارض كذلك بالعكس ان كل من قال ان جنة آدم في الارض فيقول ان الجنة لم تخلق فأما الاول فلا ريب فيه وأما الثاني فوهم لا تلازم بينهما لافي المذهب ولا في الدليل فأنتم نصبتم دليلكم مع طائفة نحن وانتم متفقون على انكار قولهم ورده وابطاله ولكن لا يلزم من هذا بطلان هذا القول الثالث وهذا واضح قالوا وأما قولكم ان جميع ما نفاه الله سبحانه عن الجنة من اللغو والعذاب
(1/46)
وسائر الافات التي وجد بعضها من ابليس عدو الله فهذا إنما يكون بعد القيامة إذا دخلها المؤمنون كما يدل عليه السياق فجوابه من وجهين احدهما ان ظاهر الخبر يقتضي نفيه مطلقا لقوله تعالى لا لغو فيها ولا تأثيم ولقوله تعالى لا تسمع فيها لاغية فهذا نفي عام لا يجوز تخصيصه الا بمخصص بين والله سبحانه قد حكم بانها دار الخلد حكما مطلقا فلا يدخلها الا خالد فيها فتخصيصكم هذه التسمية بما بعد القيامة خلاف الظاهر الثاني ان ما ذكرتم إنما يصار اليه إذا قام الدليل السالم عن المعارض المقاوم انها جنة الخلد بعينها وحينئذ يتعين المصير الى ما ذكرتم فأما إذا لم يقم دليل سالم على ذلك ولم تجمع الامة عليه فلا يسوغ مخالفة ما دلت عليه النصوص البينة بغير موجب والله اعلم قالوا ومما يدل على انها ليست جنة الخلد التي وعدها المتقون ان الله سبحانه لما خلق آدم اعلمه ان لعمره اجلا ينتهي اليه وأنه لم يخلقه للبقاء ويدل على هذا ما رواه الترمذي في جامعه قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا الحارث بن عبد الرحمن ابن ابي زياب عن سعيد بن ابي سعيد المقبري عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله يا رب فقال له ربه يرحمك الله يا آدم إذهب الى اولئك الملائكة إلى ملاء منهم جلوس فقل السلام
(1/47)
عليكم قالوا وعليك السلام ثم رجع الى ربه فقال ان هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر ايتهما شئت فقال اخترت يمين ربي كلتا يدي ربي يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته قال أي رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه فإذا رجل اضوؤهم او من اضوئهم قال يا رب من هذا قال هذا ابنك داود وقد كتبت له عمرا اربعين سنة قال يا رب زد في عمره قال ذاك الذي كتبت له قال أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذاك قال ثم اسكن الجنة ما شاء الله ثم اهبط منها وكان آدم يعد لنفسه فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت اليس قد كتبت لي الف سنة قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة فجحد فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته قال فمن يومئذ امر بالكتاب والشهود هذا حديث حسن غريب م هذا الوجه وروى من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي قالوا فهذا صريح في أن آدم لم يكن مخلوقا في دار الخلد التي لا يموت من دخلها وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله لها ولأهلها اجلا معلوما وفيها اسكن فإن قيل فإذا كان آدم قد علم ان له عمرا ينتهي اليه وأنه ليس من الخالدين فكيف لم يكذب ابليس ويعلم بطلان قوله حيث قال له هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى بل جوز ذلك واكل من الشجرة طمعا في الخلد فالجواب ما تقدم من الوجهين اما ان يكون المراد بالخلد المكث الطويل الى أبد الابد او يكون عدوه ابليس لماقاسمه وزوجه وغيرهما واطمعهما بدوامهما في الجنة نسى ما قدر له من عمره قالوا والمعول عليه في ذلك قوله تعالى للملائكة إني جاعل في الارض خليفة وهذا الخليفة هو آدم باتفاق الناس ولما عجبت الملائكة من ذلك وقالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك عرفهم سبحانه ان هذا الخليفة الذي هوجاعله في الارض ليس حاله كما توهمتم من الفساد بل اعلمه من علمي مالا تعلمونه فأظهر من فضله وشرفه بأن
(1/48)
علمه الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فلم يعرفوها و قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم وهذا يدل على ان هذا الخليفة الذي سبق به اخبار الرب تعالى لملائكته وأظهر تعالى فضله وشرفه وأعلمه بما لم تعلمه الملائكة وهو خليفة مجعول في الارض لا فوق السماء فإن قيل قوله تعالى اني جاعل في الارض خليفة إنما هو بمعنى سأجعله في الارض فهي مآله ومصيره وهذا لا ينافي ان يكون في جنة الخلد فوق السماء اولا ثم يصير الى الارض للخلافة التي جعلها الله له واسم الفاعل هنا بمعنى الاستقبال ولهذا انتصب عنه المفعول فالجواب ان الله سبحانه اعلم ملائكته بانه يخلقه لخلافة الارض لا لسكنى جنة الخلود وخبره الصدق وقوله الحق وقد علمت الملائكة
(1/49)
أنه هو آدم فلو كان قد اسكنه دار الخلود فوق السماء لم يظهر للملائكة وقوع المخبر ولم يحتاجوا الى ان يبين لهم فضله وشرفه وعلمه المتضمن رد قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فإنهم إنما سألوا هذا السؤال في حق الخليفة المجعول في الارض فاما من هو في دار الخلد فوق السماء فلم تتوهم الملائكة منه سفك الدماء والفساد في الارض ولا كان اظهار فضله وشرفه وعلمه وهو فوق السماء رادا لقولهم وجوابا لسؤالهم بل الذي يحصل به جوابهم وضد ما توهموه إظهار تلك الفضائل والعلوم منه وهو في محل خلافته التي خلق لها وتوهمت الملائكة انه لا يحصل منه هناك الا ضدها من الفساد وسفك الدماء وهذا واضح لمن تأمله وأما اسم الفاعل وهو فاعل وإن كان بمعنى الاستقبال فلأن هذا إخبار عما سيفعله الرب تعالى في المستقبل من جعله الخليفة في الارض وقد صدق وعده ووقع ما أخبر به وهذا ظاهر في أنه من أول الامر جعله خليفة في الارض وأما جعله في السماء اولا ثم جعله خليفة في الارض ثانيا وإن كان مما لا ينافي الاستخلاف المذكور فهو ممالا يقتضيه اللفظ بوجه بل يقتضى ظاهره خلافه فلا يصار اليه إلا بدليل يوجب المصير اليه وحوله ندندن قالوا وايضا فمن المعلوم الذي لا يخالف فيه مسلم ان الله سبحانه خلق آدم من تراب وهو تراب هذه الارض بلا ريب كما روى الترمذي في جامعه من حديث عوف عن قسامة بن زهير عن ابي موسى الاشعري رضى الله عنه قال قال رسول الله ان الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض فجاء منهم الاحمر والابيض والاسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقد رواه الامام احمد في مسنده من طرق عدة وقد أخبر سبحانه انه خلقه من تراب وأخبر انه خلقه من سلالة من طين واخبر انه خلقه من صلصال من حمأ مسنون والصلصال قيل فيه هو الطين اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا طبخ فهو فخار وقيل
(1/50)
فيه هو المتغير الرائحة من قولهم صل إذا انتن والحمأ الطين الاسود المتغير والمسنون قيل المصبوب من سننت الماء إذا صببته وقيل المنتن المسن من قولهم سننت الحجر على الحجر إذا حككته فإذا سال بينهما شيء فهو سنين ولا يكون إلا منتنا وهذه كلها اطوار التراب الذي هو مبدؤه الاول كما اخبر عن خلق الذرية من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وهذه احوال النطفة التي هي مبدأ الذرية ولم يخبر سبحانه انه رفعه من الارض الى فوق السموات لا قبل التخليق ولا بعده وإنما اخبر عن اسجاد الملائكة له وعن إدخاله الجنة وما جرى له مع إبليس بعد خلقه فأخبر سبحانه بالأمور الثلاثة في نسق واحد مرتبطا بعضها ببعض قالوا فأين الدليل الدال على إصعاد مادته واصعاده بعدخلقه الى فوق السموات هذا مما لا دليل لكم عليه اصلا ولا هو لازم من لوازم ما أخبر الله به قالوا ومن المعلوم ان ما فوق
(1/51)
السموات ليس بمكان للطين الارضي المتغير الرائحة الذي قد انتن من تغيره وإنما محله هذا الارض التي هي محل المتغيرات والفاسدات وأما ما كان فوق الأملاك فلا يلحقه تغير ولا نتن ولافساد ولا استحاله قالوا وهذا امر لا يرتاب فيه العقلاء قالوا وقد قال تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فأخبر سبحانه ان هذا العطاء في جنة الخلد غير مقطوع وما اعطيه آدم فقد انقطع فلم تكن تلك جنة الخلد قالوا وأيضا فلا نزاع في ان الله تعالى خلق آدم في الارض كما تقدم ولم يذكر في قصته انه نقله الى السماء ولو كان تعالى قد نقله الى السماء لكان هذا اولى بالذكر لانه من اعظم انواع النعم عليه واكبر اسباب تفضيله وتشريفه وابلغ في بيان آيات قدرته وربوبيته وحكمته وابلغ في بيان المقصود من عاقبة المعصية وهو الاهباط من السماء التي نقل اليها كما ذكر ذلك في حق ابليس فحيث لم يجيء في القرآن ولا في السنة حرف واحد أنه نقله الى السماء ورفعه اليها بعد خلقه في الارض علم ان الجنة التي ادخلها لم تكن هي جنة الخلد التي فوق السموات قالوا وأيضا فإنه سبحانه قد اخبر في كتابه انه لم يخلق عباده عبثا ولا سدى وأنكر على من زعم ذلك فدل على ان هذا مناف لحكمته ولو كانتا جنة آدم هي جنة الخلد لكانوا قد خلقوا في دار لا يؤمرون فيها ولا ينهون وهذا باطل بقوله أيحسب الانسان ان يترك سدى قال الشافعي وغيره معطلا لا يؤمر ولا ينهى وقال أفحسبتم انا خلقناكم عبثا فهو تعالى لم يخلقهم عبثا ولا تركهم سدى وجنة الخلد لا تكليف فيها قالوا وأيضا فإنه خلقها جزاء للعاملين بقوله تعالى نعم اجر العالمين وجزاء للمتقين بقوله ولنعم دار المتقين ودار الثواب بقوله ثوابا من عند الله فلم يكن ليسكنها إلا من خلقها لهم من العاملين ومن المتقين ومن تبعهم من ذرياتهم وغيرهم من الحور والولدان وبالجملة فحكمته تعالى اقتضت انها لا
(1/52)
تنال الا بعد الابتلاء والامتحان والصبر والجهاد وأنواع الطاعات وإذا كان هذا مقتضى حكمته فإنه سبحانه لا يفعل الا ما هومطابق لها قالوا فإذا جمع ما أخبر الله عز وجل به من انه خلقه من الارض وجعله خليفة في الارض وأن ابليس وسوس له في مكانه الذي اسكنه فيه بعد ان اهبط ابليس من السماء وأنه أخبر ملائكته انه جاعل في الارض خليفة وأن دار الجنة لا لغو فيها ولا تاثيم وان من دخلها لا يخرج منها ابدا وان من دخلها ينعم لا يبؤس وانه لا يخاف ولا يحزن وان الله سبحانه حرمها على الكافرين وعدو الله ابليس اكفر الكافرين فمحال ان يدخلها اصلا لا دخول عبور ولا دخول قرار وانها دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان الى غير ذلك مما ذكرناه من منافاة اوصاف جنة الخلد للجنة التي اسكنها آدم إذا جمع ذلك بعضه الى بعض ونظر فيه بعين الانصاف والتجرد عن نصرة المقالات تبين الصواب من ذلك والله المستعان
(1/53)
قال الاخرون بل الجنة التي اسكنها آدم عند سلف الامة وأئمتها وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال انها كانت جنة في الارض بأرض الهند أو بأرض جدة او غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة او من اخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفسلفة والمعتزلة والكتاب يرد هذا القول وسلف الامة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول قال تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين فقد أخبر سبحانه أنه أمرهم بالهبوط وان بعضهم لبعض عدو ثم قال ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين وهذا بين انهم لم يكونوا في الارض وإنما اهبطوا الى الارض فإنهم لو كانوا في الارض وانتقلوا منها الى ارض اخرى كما انتقل قوم موسى من ارض الى ارض كان مستقرهم ومتاعهم الى حين في الارض قبل الهبوط كما هو بعده وهذا باطل قالوا وقد قال تعالى في سورة الاعراف لما قال إبليس أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين يبين اختصاص الجنة التي في السماء بهذا الحكم بخلاف جنة الارض فإن ابليس كان غير ممنوع من التكبر فيها والضمير في قوله منها عائد الى معلوم وان كان غير مذكور في اللفظ لان العلم به أغنى عن ذكره قالوا وهذا بخلاف قوله اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم فإنه لم يذكر هنا ما اهبطوا منه وإنما ذكر ما اهبطوا اليه بخلاف اهباط ابليس فإنه ذكر مبدأ هبوطه وهو الجنة والهبوط يكون من علوالى سفل وبنو اسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على مصر الذي يهبطون اليه ومن هبط من جبل الى واد قيل له اهبط قالوا وايضا فبنو اسرائيل كانوا يسيرون
(1/54)
ويرحلون والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال نزل فيها لان من عادته ان يركب في مسيره فإذا وصل نزل عن دوابه ويقال نزل العدو بأرض كذا ونزل القفل ونحوه ولفظ النزول كلفظ الهبوط فلا يستعمل نزل وهبط الا إذا كان من علو الى سفل وقال تعالى عقب قوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون فهذا دليل على انهم لم يكونوا قبل ذلك في مكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون والقرآن صريح في انهم انما صاروا اليه بعدالاهباط قالوا ولو لم يكن في هذه الا قصة آدم وموسى لكانت كافية فإن موسى إنما لام آدم عليه السلام لما حصل له ولذريته من الخروج من الجنة من النكد والمشقة فلو كانت بستانا في الارض لكان غيره من بساتين الارض يعوض
(1/55)
عنه وموسى اعظم قدرا من ان يلومه على ان اخرج نفسه وذريته من بستان في الارض قالوا وكذلك قول آدم يوم القيامة لما يرغب اليه الناس ان يستفتح لهم باب الجنة فيقول وهل اخرجكم منها الا خطيئة ابيكم فإن ظهور هذا في كونها جنة الخلد وانه اعتذر لهم بانه لا يحسن منه ان يستفتحها وقد اخرج منها بخطيئته من اظهر الادلة قال الاولون اما قولكم ان من قال انها جنة في الارض فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة او من اخوانهم فقد اوجدناكم من قال بهذا وليس من احد من هؤلاء ومشاركة أهل الباطل للمحق في المسئلة لا يدل على بطلانها ولا تكون اضافتها لهم موجبة لبطلانها ما لم يختص بها فإن اردتم أنه لم يقل بذلك إلا هؤلاء فليس كذلك وإن اردتم ان هؤلاء من جملة القائمين بهذا لم يفدكم شيئا قالوا وأما قولكم وسلف الامة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول فنحن نطالبكم بنقل صحيح عن واحد من الصحابة ومن بعدهم من ائمة السلف فضلا عن اتفاقهم قالوا ولا يوجد عن صاحب ولا تابع ولا تابع تابع خبر يصح موصولا ولا شاذا ولا مشهورا ان النبي قال ان الله تعالى اسكن آدم جنة الخلد التي هي دار المتقين يوم المعاد قالوا وهذا القاضي منذر بن سعيد قد حكى عن غير واحد من السلف انها ليست جنة الخلد فقال ونحن نوجدكم ان ابا حنيفة فقيه العراق ومن قال بقوله قد قالوا ان جنة آدم التي خلقها الله ليست جنة الخلد وليسوا عند أحد من العالمين من الشاذين بل من رؤساء المخالفين وهذه الدواوين مشحونة من علومهم وقد ذكرنا قول ابن عيينة وقد ذكر ابن مزين في تفسيره قال سألت ابن نافع عن الجنة أمخلوقة فقال السكوت عن هذا افضل قالوا فلو كان عند ابن نافع ان الحنة التي اسكنها آدم هي جنة الخلد لم يشك انها مخلوقة ولم يتوقف في ذلك وقال ابن قتيبة في كتابه غريب القرآن في قوله تعالى وقلنا اهبطوا منها قال ابن عباس رضى الله عنهما في رواية ابي صالح هو كما يقال هبط فلان ارض كذا وكذا ولم
(1/56)
يذكر في كتابه غيره فأين اجماع سلف الامة وأئمتها قالوا واما احتجاجكم بقوله تعالى ولكم في الارض مستقر عقيب قوله اهبطوا فهذا لا يدل على انهم كانوا في جنة الخلد فان احد الاقوال في المسئلة انها كانت جنة في السماء غير جنة الخلد كما حكاه الماوردي في تفسره وقد تقدم وأيضا فإن قوله ولكم في الارض مستقر يدل على ان لهم مستقرا الى حين في الارض المنقطعة عن الجنة ولا بد فإن الجنة ايضا لها ارض قال تعالى عن اهل الجنة وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده واورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم اجر العاملين فدل على ان قوله ولكم في الارض مستقر المراد به الارض الخالية من
(1/57)
تلك الجنة لا كل ما يسمى ارضا وكان مستقرهم الاول في ارض الجنة ثم صار في ارض الابتلاء والامتحان ثم يصير مستقر المؤمنين يوم الجزاء ارض الجنة ايضا فلا تدل الاية على ان جنة آدم هي جنة الخلد قالوا وهذا هو الجواب بعينه عن استدلالكم بقوله تعالى قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون فان المراد به الارض التي اهبطوا اليها وجعلت مسكنا لهم بدل الجنة وهذا تفسير المستقر المذكور في البقرة مع تضمنه ذكر الاخراج منها قالوا وأما قوله تعالى لابليس اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها وقولكم ان هذا انما هو في الجنة التي في السماء والا فجنة الارض لم يمنع ابليس من التكبر فيها فهو دليل لنا في المسئلة فإن جنة الخلد لا سبيل لابليس الى دخولها والتكبر فيها اصلا وقد اخبر تعالى انه وسوس لادم وزوجه وكذبهما وغرهما وخانهما وتكبر عليهما وحسدهما وهما حينئذ في الجنة فدل على انها لم تكن جنة الخلد ومحال ان يصعد اليها بعد اهباطه واخراجه منها قالوا والضمير في قوله اهبطوا منها إما ان يكون عائدا الى السماء كما هو احد القولين وعلىهذا فيكون سبحانه قد اهبطه من السماء عقب امتناعه من السجود وأخبر انه ليس له ان يتكبر ثم تكبر وكذب وخان في الجنة فدل على انها ليست في السماء او يكون عائدا الى الجنة على القول الاخر ولا يلزم من هذا القول ان تكون الجنة التي كاد فيها آدم وغره قاسمه كاذبا في تلك التي اهبط منها بل القرآن يدل على انها غيرها كما ذكرناه فعلى التقديرين لا تدل الاية على ان الجنة التي جرى لادم مع ابليس ما جرى فيها هي جنة الخلد قالوا وأما قولكم ان بني اسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على الارض التي يهبطون وهم كانوا يسيرون ويرحلون فلذلك قيل لهم اهبطوا فهذا حق لا ننازعكم فيه وهو بعينه جواب لنا فإن الهبوط يدل على ان تلك الجنة كانت اعلا من الارض التي اهبطوا اليها واما كونها جنة الخلد فلا قالوا والفرق بين قوله اهبطوامصرا
(1/58)
وقوله اهبطوا منها فإن الاول لنهاية الهبوط وغايته وهبطوا منها متضمن لمبدئه وأوله لا تأثير له فيما نحن فيه فإن هبط من كذا الى كذا يتضمن معنى الانتقال من مكان عال الى مكان سافل فأي تأثير لابتداء الغاية ونهايتها في تعيين محل الهبوط بأنه جنة الخلد قالوا وأما قصة موسى ولومه لآدم على إخراجهمن الجنة فلا يدل على أنها جنة الخلد وقولكم لا يظن بموسى أنه يلوم آدم على إخراجه نفسه وذريته من بستان في الارض تشنيع لا يفيد شيئا افترى كان ذلك بستانا مثل آحاد هذه البساتين المقطوعة المهوعة التي هي عرضة الافات والتعب والنصب والظمأ والحرث والسقي والتلقيح وسائر وجوه النصب الذي يلحق هذه البساتين ولا ريب ان موسى عليه الصلاة والسلام أعلم واجل من ان يلوم آدم على
(1/59)
خروجه وإخراج بنيه من بستان هذا شأنه ولكن من قال بهذا وإنما كانت جنة لا يلحقها آفة ولا تنقطع ثمارها ولا تغور انهارها ولا يجوع ساكنها ولا يظمأ ولا يضحى للشمس ولا يعرى ولا يمسه فيها التعب والنصب والشقاء ومثل هذه الجنة يحسن لوم الانسان على التسبب في خروجه منها قالوا واما اعتذار آدم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة لأهل الموقف بأن خطيئته هي التي اخرجته من الجنة فلا يحسن ان يستفتحها لهم فهذا لا يستلزم ان تكون هي بعينها التي اخرج منها بل إذا كانت غيرها كان أبلغ في الاعتذار فإنه إذا كان الخروج من غير جنة الخلد حصل بسبب الخطيئة فكيف يليق استفتاح جنة الخلد والشفاعة فيها ثم خرج من غيرها بخطيئة فهذا موقف نظر الفريقين ونهاية أقدام الطائفتين فمن كان له فضل علم في هذه المسئلة فليجد به فهذا وقت الحاجة اليه ومن علم منتهى خطوته ومقدار بضاعته فليكل الامر الى عالمه ولا يرضى لنفسه بالتنقيص والازراء عليه وليكن من اهل التلول الذين هم نظارة الحرب إذا لم يكن من أهل الكر والفر والطعن والضرب فقد تلاقت الفحول وتطاعنت الاقران وضاق بهم المجال في حلبة هذا الميدان إذا تلاقى الفحول في لجب فكيف حال الغصيص في الوسط هذه معاقد حجج الطائفتين مجتازة ببابك واليك تساق وهذه بضائع تجار العلماء ينادي عليها في سوق الكساد لا في سوق النفاق فمن لم يكن له به شيء من اسباب البيان والتبصرة فلا يعدم من قد استفرغ وسعه وبذل جهده منه التصويب والمعذرة ولا يرضى لنفسه بشر الخطتين وابخس الحظين جهل الحق وأسبابه ومعاداة اهله وطلابه وإذا عظم المطلوب وأعوزك الرفيق الناصح العليم فارحل بهمتك من بين الاموات وعليك بمعلم إبراهيم فقد ذكرنا في هذه المسئلة من النقول والادلة والنكت البديعة ما لعله لا يوجد في شيء من كتب المصنفين ولا يعرف قدره الا من كان من الفضلاء المنصفين ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه التوكل واليه الاستناد فإنه لا يخيب
(1/60)
من توكل عليه ولا يضيع من لاذ به وفوض امره اليه وهو حسبنا ونعم الوكيل فصل ولما اهبطه سبحانه من الجنة وعرضه وذريته لانواع المحن والبلاء اعطاهم افضل مما منعهم وهوعهده الذي عهد اليه وإلى بنيه وأخبر انه من تمسك به منهم صار الى رضوانه ودار كرامته قال تعالى عقب اخراجه منها قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي الاية الاخرى قال اهبطا منها جميعا فاما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا نحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى فلما كسره سبحانه باهباطه من الجنة جبره وذريته بهذا العهد الذي عهده اليهم فقال تعالى فاما يأتينكم مني هدى وهذه هي ان الشرطية المؤكدة بما الدالة على استغراق الزمان والمعنى أي وقت وأي حين اتاكم من يهدى وجعل جواب هذا الشرط جملة شرطية وهي قوله فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى كما تقول إن زرتني فمن بشرني بقدومك فهو حر وجواب الشرط يكون جملة تامة أما خبرا محضا كقولك ان زرتني اكرمتك او خبرا مقرونا بالشرط كهذا اومؤكدا بالقسم او بأن واللام كقوله تعالى وإن اطعتموهم انكم لمشركون واما طلبا كقول النبي اذا سالت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وقوله وإذا لقيتموهم فاصبروا وقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وأكثر ما يأتي هذا النوع مع إذا التي تفيد تحقيق وقوع الشرط لسر وهو افادته تحقيقالطلب عند تحقيق الشرط فمتى تحقق الشرط فالطلب متحقق فأتى بإذا الدالة على تحقيق الشرط فعلم تحقيق الطلب عندها وقد يأتي مع ان قليلا كقوله تعالى وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم واما جملة انشائية كقوله لعبده الكافر ان اسلمت فانت حر ولامرأته ان فعلت كذا فانت طالق فهذا انشاء للعتق والطلاق عند
(1/61)
وجود الشرط على رأي او انشاء له حال التعليق ويتأخر نفوذه الى حين وجود الشرط على رأي آخر وعلى التقديرين فجواب الشرط جملة انشائية والمقصود ان جواب الشرط في الاية المذكورة جملة شرطية وهي قوله فمن اتبع هداي فلاخوف عليهم ولا هم يحزنون وهذا الشرط يقتضى ارتباط الجملة الاولى بالثانية ارتباط العلة بالمعلول والسبب بالمسبب فيكون الشرط الذي هو ملزوم علة ومقتضيا للجزاء الذي هو لازم فإن كان بينهما تلازم من الطرفين كان وجود كل منهما بدون دخول الاخر ممتنعا كدخول الجنة بالاسلام وارتفاع الخوف والحزن والضلال والشقاء مع متابعة الهوى وهذه هي عامة شروط القرآن والسنة فإنها اسباب وعلل والحكم ينتفى بانتفاء علته وإن كان التلازم بينهما من احد الطرفين كان الشرط ملزوما خاصا والجزاء لازما عاما فمتى تحقق الشرط الملزوم الخاص تحقق الجزاء اللازم العام ولا يلزم العكس كما يقال ان كان هذا انسانا فهو حيوان وإن كان البيع صحيحا فالملك ثابت وهذا غالب ما يأتي في قياس الدلالة حيث يكون الشرط دليلا على الجزاء فيلزم من وجوده وجود الجزاء لان الجزاء لازمه ووجود الملزوم يستلزم وجود اللازم ولا يلزم من عدمه عدم الجزاء وان
(1/62)
وقع هذا الشرط بين علة ومعلول فإن كان الحكم معللا بعلل صح ذلك وجاز ان يكون الجزاء اعم من الشرط كقولك إن كان هذا مرتدا فهو حلال الدم فإن حل الدم اعم من حله بالردة إلا ان يقال ان حكم العلة المعينة ينتفى بانتفائها وإن ثبت الحكم بعلة اخرى فهو حكم آخر واما حكم العلة المعينة فمحال ان ينفى مع زوالها وحينئذ فيعود التلازم من الطرفين ويلزم من وجود كل واحد من الشرط والجزاء وجود الاخر ومن عدمه عدمه وتمام تحقيق هذا في مسئلة تعليل الحكم الواحد بعلتين وللناس فيه نزاع مشهور وفصل الخطاب فيها ان الحكم الواحد ان كان واحدا بالنوع كحل الدم وثبوت الملك ونقض الطهارة جاز تعليله بالعلل المختلفة وإن كان واحدا بالعين كحل الدم بالردة وثبوت الملك بالبيع اوالميراث ونحو ذلك لم يجز تعليله بعلتين مختلفتين وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذه المسألة والله اعلم ومن تأمل ادلة الطائفتين وجد كل ما احتج به من رأى تعليل الحكم بعلل مختلفة إنما يدل على تعليل الواحد بالنوع بها وكل من نفى تعليل الحكم بعلتين إنما يتم دليله على نفي تعليل الواحد بالعين بهما فالقولان عند التحقيق يرجعان الى شيء واحد والمقصود ان الله سبحانه جعل اتباع هداه وعهده الذي عهده الى آدم سببا ومقتضيا لعدم الخوف والحزن والضلال والشقاء وهذا الجزاء ثابت بثبوت الشرط منتف بانتفائه كما تقدم بيانه ونفى الخوف والحزن عن متبع الهدى نفي لجميع انواع الشرور فإن المكروه الذي ينزل بالعبد متى علم بحصوله فهو خائف منه ان يقع به وإذا وقع به فهو حزين على ما أصابه منه فهو دائما في خوف وحزن وكل خائف حزين فكل حزين خائف وكل من الخوف والحزن يكون على فعل المحبوب وحصول المكروه فالاقسام اربعة خوف من فوت المحبوب وحصول المكروه وهذا جماع الشر كله فنفى الله سبحانه ذلك عن متبع هداه الذي أنزله على السنة رسله وأتى في نفي الخوف بالاسم الدال على نفي الثبوت واللزوم فإن أهل الجنة لا بد
(1/63)
لهم من الخوف في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة حيث يقول آدم وغيره من الانبياء نفسي نفسي فأخبر سبحانه انهم وإن خافوا فلا خوف عليهم أي لا يلحقهم الخوف الذي خافوا منه وأتى في نفي الحزن بالفعل المضارع الدال على نفي التجدد والحدوث أي لا يلحقهم حزن ولا يحدث لهم إذا لم يذكروا ما سلف منهم بل هم في سرور دائم لا يعرض لهم حزن على ما فات وأما الخوف فلما كان تعلقه بالمستقبل دون الماضي نفي لحوقه لهم جملة أي الذي خافوا منه لا ينالهم ولا يلم بهم والله اعلم فالحزين إنما يحزن في المستقبل على ما مضى والخائف إنما يخاف في الحال مما يستقبل فلا خوف عليهم أي لا يلحقهم ما خافوا منه ولا يعرض لهم حزن على ما فات وقال في الاية الاخرى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فنفى عن متبع هداه امرين الضلال والشقاء قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما
(1/64)
تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ان لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الاخرة ثم قرأ فأما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى والاية نفت مسمى الضلال والشقاء عن متبع الهدى مطلقا فاقتضت الاية انه لا يضل في الدنيا ولا يشقى ولا يضل في الاخرة ولا يشقى فيها فإن المراتب اربعة هدى وشقاوة في الدنيا وهدى وشقاوة في الاخرة لكن ذكر ابن عباس رضى الله عنهما في كل دار اظهر مرتبتيها فذكر الضلال في الدنيا إذ هو اظهر لنا وأقرب من ذكر الضلال في الاخرة وايضا فضلال الدنيا اضل ضلال في الاخرة وشقاء الاخرة مستلزم للضلال فيها فنبه بكل مرتبة على الأخرى فنبه بنفي ضلال الدنيا على نفي ضلال الاخرة فإن العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه قال الله تعالى في الاية الأخرى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وقال في الاية الاخرى ومن كان في هذه اعمى فهو في الاخرة اعمى وأضل سبيلا فأخبر ان من كان في هذه الدار ضالا فهو في الاخرة اضل واما نفي شقاء الدنيا فقد يقال انه لما انتفى عنه الضلال فيها وحصل له الهدى والهدى فيه من برد اليقين وطمأنينة القلب وذاق طعم الايمان فوجد حلاوته وفرحة القلب به وسروره والتنعيم به ومصير القلب حيا بالايمان مستنيرا به قويا به قد نال به غذاؤه ورواءه وشفاءه وحياته ونوره وقوته ولذته ونعيمه ما هو من اجل انواع النعيم واطيب الطيبات واعظم اللذات قال الله تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فهذا خبر اصدق الصادقين ومخبره عند اهله عين اليقين بل هو حق اليقين ولا بد لكل من عمل صالحا ان يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله ولكن يغلط الجفاة الاجلاف في مسمى الحياة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب
(1/65)
والملابس والمناكح او لذة الرياسة والمال وقهر الاعداء والتفنن بأنواع الشهوات ولا ريب ان هذه لذة مشتركة بين البهائم بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الانسان فمن لم تكن عنده لذة الا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والانعام فذلك ممن ينادي عليه من مكان بعيد ولكن اين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الابناء والنساء والاوطان والاموال والاخوان والمساكن ورضى بتركها كلها والخروج منها رأسا وعرض نفسه لانواع المكاره والمشاق وهو متحل بهذا منشرح الصدر به يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته واخيه لا تأخذه في ذلك لومة لائم حتى ان احدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول فزت ورب الكعبة ويستطيل الاخر حياته حتى يلقى قوته من يده ويقول انها لحياة طويلة ان صبرت حتى أكلها ثم يتقدم الى الموت فرحا
(1/66)
مسرورا ويقول الاخر مع فقره لو علم الملوك وابناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف ويقول الاخر انه ليمر بالقلب اوقات يرقص فيها طربا وقال بعض العارفين انه لتمر بي اوقات اقول فيها إن كان اهل الجنة في مثل هذا انهم لفي عيش طيب ومن تأمل قول النبي لما نهاهم عن الوصال فقالوا انك تواصل فقال اني لست كهيئتكم إني اظل عند ربي يطعمني ويسقيني علم ان هذا طعام الارواح وشرابها وما يفيض عليها من أنواع البهجة واللذة والسرور والنعيم الذي رسول الله في الذروة العليا منه وغيره إذا تعلق بغباره رأى ملك الدنيا ونعيمها بالنسبة اليه هباء منثورا بل باطلا وغرورا وغلط من قال انه كان يأكل ويشرب طعاما وشرابا يغتذى به بدنه لوجوه احدها انه قال اظل عند ربي يطعمني ويسقيني ولو كان اكلا وشربا لم يكن وصالا ولا صوما الثاني ان النبي اخبرهم انهم ليسوا كهيئته في الوصال فإنهم إذا واصلوا تضرروا بذلك واماهو فإنه إذا واصل لا يتضرر بالوصال فلو كان يأكل ويشرب لكان الجواب وأنا ايضا لا اواصل بل آكل وأشرب كما تأكلون وتشربون فلما قررهم على قولهم انك تواصل ولم ينكره عليهم دل على انه كان مواصلا وانه لم يكن يأكل اكلا وشربا يفطر الصائم الثالث انه لو كان اكلا وشربا يفطر الصائم لم يصح الجواب بالفارق بينهم وبينه فإنه حينئذ يكون هو وهم مشتركون في عدم الوصال فكيف يصح الجواب بقوله لست كهيئتكم وهذا امر يعلمه غالب الناس ان القلب متى حصل له ما يفرحه ويسره من نيل مطلوبه ووصال حبيبه او ما يغمه ويسؤوه ويحزنه شغل عن الطعام والشراب حتى ان كثيرا من العشاق تمر به الايام لا يأكل شيئا ولا تطلب نفسه اكلا وقد افصح القائل في هذا المعنى لها احاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في اعقابها حادى إذ اشتكت من كلال السير او عدها روح القدوم فتحيا عند ميعاد والمقصود ان الهدى مستلزم لسعادة الدنيا
(1/67)
وطيب الحياة والنعيم العاجل وهو أمر يشهد به الحس والوجد واما سعادة الاخرة فغيب يعلم بالايمان فذكرها ابن عباس رضى الله عنهما لكونها اهم وهي الغاية المطلوبة وضلال الدنيا اظهر وبالنجاة منه ينجو من كل شر وهو اضل ضلال الاخرة وشقائها فلذلك ذكره وحده والله اعلم فصل وهذان الضلالان اعني الضلال والشقاء يذكرهما سبحانه كثيرا في كلامه ويخبر انهما حظ اعدائه ويذكر ضدهما وهما الهدى والفلاح كثيرا ويخبر انهما حظ اوليائه اما الاول فكقوله تعالى ان المجرمين في ضلال وسعر فالضلال الضلال والسعر هو الشقاء والعذاب وقال تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين وأما الثاني فكقوله تعالى في أول البقرة وقد ذكر المؤمنين وصفاتهم اولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون وكذلك في أول لقمان وقال في الانعام الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون ولما كانت سورة ام القرآن اعظم سورة في القرآن وافرضها قراءة على الامة واجمعها لكل ما يحتاج اليه العبد واعمها نفعا ذكر فيها الامرين فأمرنا ان نقول اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم فذكر الهداية والنعمة وهما الهدى والفلاح ثم قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فذكر المغضوب عليهم وهم اهل الشقاء والضالين وهم اهل الضلال وكل من الطائفتين له الضلال والشقاء لكن ذكر الوصفين معا لتكن الدلالة على كل منهما بصريح لفظه وايضا فإنه ذكر ماهو اظهر الوصفين في كل طائفة فإن الغضب على اليهود أظهر لعنادهم الحق بعدمعرفته والضلال في النصارى اظهر لغلبة الجهل فيهم وقد صح عن النبي انه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون فصل وقوله تعالى فاما ياتينكم مني هدى هو خطاب لمن اهبطه من الجنة
(1/68)
بقوله اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ثم قال فاما يأتينكم مني هدى وكلا الخطابين لابوي الثقلين وهو دليل على ان الجن مامورون منهيون داخلون تحت شرائع الانبياء وهذا مما لا خلاف فيه بين الامة وان نبينا بعث اليهم كما بعث الى الانس كما لا خلاف بينها ان مسيئهم مستحق للعقاب وانما اختلف علماء الاسلام في المسلم منهم هل يدخل الجنة فالجمهور على ان محسنهم في الجنة كما ان مسيئهم في النار وقيل بل ثوابهم سلامتهم من الجحيم واما الجنة فلا يدخلها احد من اولاد إبليس وإنماهي لبني آدم وصالحي ذريته خاصة وحكى هذا القول عن ابي حنيفة رحمه الله تعالى واحتج الاولون بوجوه احدها هذه الاية فانه سبحانه اخبر ان من اتبع هداه فلا يخاف ولا يحزن ولا يضل ولا يشقى وهذا مستلزم
(1/69)
لكمال النعيم ولا يقال ان الاية إنما تدل على نفي العذاب فقط ولا خلاف ان مؤمنيهم لا يعاقبون لانا نقول لولم تدل الاية الا على امر عدمي فقط لم يكن مدحا لمؤمني الانس ولما كان فيها الا مجرد امرعدمي وهو عدم الخوف والحزن ومعلوم ان سياق الاية ومقصودها إنما اريد به ان من اتبع هدى الله الذي انزله حصل له غاية النعيم واندفععنه غاية الشقاء وعبر عن هذا المعنى المطلوب بنفي الامور المذكورة لاقتضاء الحال لذلك فإنه لما اهبط آدم من الجنة حصل له من الخوف والحزن والشقاء ما حصل فاخبره سبحانه انه معطيه وذريته عهدا من اتبعه منهم انتفى عنه الخوف والحزن والضلال والشقاء ومعلوم انه لا ينتفى ذلك كله إلا بدخول دار النعيم ولكن المقام بذكر التصريح بنفي غاية المكروهات اولى الثاني قوله تعالى وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضى ولوا الى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إناسمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي الى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم فأخبرنا سبحانه عن نذيرهم اخبارا بقوله ان من اجاب داعيه غفر له وأجاره من العذاب ولو كانت المغفرة لهم إنما ينالون بها مجرد النجاة من العذاب كان ذلك حاصلا بقوله ويجركم من عذاب اليم بل تمام المغفرة دخول الجنة والنجاة من النار فكل من غفر الله له فلا بد من دخوله الجنة الثالث قوله تعالى في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فهذا يدل على ان مؤمني الجن والانس يدخلون الجنة وأنه لم يسبق من احد منهم طمث لاحد من الحور فدل على ان مؤمنيهم يتأنى منهم طمث الحور العين بعد الدخول كما يتأتى من الانس ولو كانوا ممن لا يدخل الجنة لما حسن الاخبار عنهم بذلك الرابع قوله تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين وبشر الذين آمنوا
(1/70)
وعملوا الصالحات ان لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرةرزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون والجن منهم مؤمن ومنهم كافر كما قال صالحوهم وانا منا المسلمون ومنا القاسطون فكما دخل كافرهم في الاية الثانية وجب ان يدخل مؤمنهم في الاولى الخامس قوله عن صالحيهم فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا والرشد هو الهدى والفلاح وهو الذي يهدى اليه القرآن ومن لم يدخل الجنة لم ينل غاية الرشد بل لم يحصل له من الرشد الا مجردالعلم السادس قوله تعالى سابقوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ومؤمنهم ممن آمن بالله ورسله فيدخل في المبشرين ويستحق البشارة السابع قوله تعالى والله يدعو الى دار السلام ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم عم
(1/71)
سبحانه بالدعوة وخص بالهداية المفضية اليها فمن هداه اليها فهو من دعاه اليها فمن اهتدى من الجن فهو من المدعوين اليها الثامن قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال اولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا اجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ان ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والانس الم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على انفسهم انهم كانوا كافرين ذلك ان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم واهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وهذا عام في الجن والانس فاخبرهم تعالى ان لكلهم درجات من عمله فاقتضى ان يكون لمحسنهم درجات من عمله كما لمحسن الانس التاسع قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ان لا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وقولوه تعالى أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك اصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ووجه التمسك بالاية من جوه ثلاثة احدها عموم الاسم الموصول فيها الثاني ترتيبه الجزاء المذكورعلى المسألة ليدل علىانه مستحق بها وهو قول ربنا الله مع الاستقامة والحكم يعم بعموم علته فإذا كان دخول الجنة مرتبا على الاقرار بالله وربوبيته مع الاستقامة على امره فمن اتى ذلك استحق الجزاء الثالث انه قال فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك اصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوايعملون فدل على ان كل من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة وقد تقدم في اول الايات قوله تعالى فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وانه متناول للفريقين ودلت هذه الاية على ان من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة العاشر انه إذا دخل مسيئهم النار بعدل
(1/72)
الله فدخول محسنهم الجنة بفضله ورحمته اولى فإن رحمته سبقت غضبه والفضل اغلب من العدل ولهذا لا يدخل النار الا من عمل اعمال اهل النار واما الجنة فيدخلها من لم يعمل خيرا قط بل ينشيء لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه ويرفع فيها درجات العبد من غير سعي منه بل بما يصل اليه من دعاء المؤمنين وصلاتهم وصدقتهم وأعمال البر التي يهدونها اليه بخلاف اهل النار فإنه لا يعذب فيها بغير عمل اصلا وقد ثبت بنص القرآن واجماع الامة ان مسيء الجن في النار بعدل الله وبما كانوا يكسبون فمحسنهم في الجنة بفضل الله بما كانوا يعملون لكن قيل انهم يكونون في ربض الجنة يراهم اهل الجنة ولا يرونهم كما كانوا في الدنيا يرون بني آدم من حيث لا يرونهم ومثل هذا لايعلم الا بتوقيف تنقطع الحجة عنده فإن ثبتت حجة يجب اتباعها وإلا فهو مما يحكى ليعلم وصحته موقوفة على الدليل والله أعلم فصل ومتابعة هدى الله التي رتب عليها هذه الامور هي تصديق خبره من
(1/73)
غير اعتراض شبهة تقدح في تصديقه وامتثال امره من غير اعتراض شهوة تمنع امتثاله وعلى هذين الاصلين مدار الايمان وهما تصديق الخبر وطاعة الامر ويتبعهما امران آخران وهما نفي شبهات الباطل الواردة عليه المانعة من كمال التصديق وان لا يخمش بها وجه تصديقه ودفع شهوات الغي الواردة عليه المانعة من كمال الامتثال فهنا اربعة امور احدها تصديق الخبر الثاني بذل الاجتهاد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والانس في معارضته الثالث طاعة الامر والرابع مجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة وهذان الامران اعني الشبهات والشهوات اصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده كما ان الاصلين الاولين وهما تصديق الخبر وطاعة الامر اصل سعادته وفلاحه في معاشه ومعاده وذلك ان العبد له قوتان قوة الادراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام وقوة الارادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل فالشبهة تؤثر فسادا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها والشهوة تؤثر فسادا في القوة الارادية العملية ما لم يداوها باخراجها قال الله تعالى في حق نبيه يذكر مامن به عليه من نزاهته وطهارته مما يلحق غيره من ذلك والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فما ضل دليل على كمال علمه ومعرفته وانه على الحق المبين وما غوى دليل على كمال رشده وأنه أبر العالمين فهو الكامل في علمه وفي عمله وقد وصف بذلك خلفاءه من بعده وأمر باتباعهم على سنتهم فقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي رواه الترمذي وغيره فالراشد ضد الغاوي والمهدي ضد الضال وقد قال تعالى كالذين من قبلكم كانوا اشد منكم قوة وأكثر اموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا اولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرةوأولئك هم الخاسرون فذكر تعالى الاصلين وهما دار الاولين والاخرين احدهما
(1/74)
الاستمتاع بالخلاف وهو النصيب من الدنيا والاستمتاع به متضمن لنيل الشهوات المانعة من متابعة الامر بخلاف المؤمن فإنه وان نال من الدنيا وشهواتها فإنه لا يستمتع بنصيبه كله ولا يذهب طيباته في حياته الدنيا بل ينال منها ما ينال منها ليتقوى به على التزود لمعاده والثاني الخوض بالشبهات الباطلة وهو قوله وخضتم كالذي خاضوا وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق للآخرة لاتزال ساعية في نيل شهواتها فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والاجل ومن تمام حكمة الله تعالى انه يبتلى هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها فلا تتفرغ للخوض بالباطل الا قليلا ولو تفرغت هذه النفوس الباطولية
(1/75)
لكانت ائمة تدعوا الىالنار وهذا حال من تفرغ منها كما هومشاهد بالعيان وسواء كان المعنى وخضتم كالحزب الذي خاضوا او كالفريق الذي خاضوا فإن الذي يكون للواحد والجمع ونظيره قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين لكن لا يجرى على جمع تصحيح فلا يجيء المسلمون الذي جاؤوا وإنا يجيء غالبا في اسم الجمع كالحزب والفريق او حيث لا يذكر الموصوف وان كان جمعا كقول الشاعر وإن الذي جاءت تقبح دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد او حيث يراد الجنس دون الواحد والعدد كقوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به ثم قال اولئك هم المتقون ونظيره الاية التي نحن منها وهي قوله وخضتم كالذي خاضوا او كان المعنى علىالقول الاخر وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا فيكون صفة لمصدر محذوف كقولك اضرب كالذي ضرب واحسن كالذي احسن ونظائره وعلى هذا فيكون العائد منصوبا محذوفا وحذفه في مثل ذلك قياس مطرد على القولين فقد ذمه سبحانه على الخوض بالباطل واتباع الشهوات واخبر ان من كانت هذه حالته فقد حبط عمله في الدنيا والاخرة وهو من الخاسرين ونظير هذا قول اهل النار لاهل الجنة وقد سألوهم كيف دخلوها قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين فذكروا الاصلين الخوض بالباطل وما يتبعه من التكذيب بيوم الدين وايثار الشهوات وما يستلزمه من ترك الصلوات واطعام ذوي الحاجات فهذان الاصلان هماما هما والله ولي التوفيق فصل والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله هو القلب الذي قد سلم
(1/76)
من هذا وهذا فهو القلب الذي قد سلم لربه وسلم لامره ولم تبق فيه منازعة لامره ولا معارضة لخبره فهو سليم مما سوى الله وأمره لا يريد الا الله ولا يفعل إلا ما أمره الله فالله وحده غايته وامره وشرعه وسيلته وطريقته لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة تعلم انه لا قرار لها فيه ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك وسليم من البدع وسليم من الغي وسليم من الباطل وكل الاقوال التي قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها وحقيقته انه القلب الذي قد سلم لعبودية ربه حياء وخوفا وطمعا ورجاء ففنى بحبه عن حب ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وسلم لامره ولرسوله تصديقا وطاعة كما تقدم واستسلم لقضائه وقدره فلم يتهمه ولم ينازعه ولم يتسخط لاقداره فاسلم لربه انقيادا وخضوعا وذلا وعبودية وسلم جميع احواله واقواله واعماله واذواقه ومواجيده ظاهرا وباطنا من مشاكة رسوله وعرض ما جاء من سواها عليها فما وافقها قبله وما خالفها رده وما لم يتبين له فيه موافقة ولا مخالفة وقف امره وأرجأه الى ان يتبين له وسالم أولياءه وحزبه المفلحين الذابين عن دينه وسنة نبيه القائمين بها وعادى اعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه الخارجين عنهما الداعين الى خلافهما فصل وهذه المتابعة هي التلاوة التي اثنى الله على اهلها في قوله
(1/77)
تعالى ان الذين يتلون كتاب الله وفي قوله إن الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به والمعنى يتبعون كتاب الله حق اتباعه وقال تعالى اتل ما اوحى اليك من الكتاب واقم الصلاة وقال إنما امرت ان اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت ان اكون من المسلمين وان اتلوا القرآن فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة وهي تلاوة اللفظ والمعنى فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع يقال اتل اثر فلان وتلوت اثره وقفوته وقصصته بمعنى تبعت خلفه ومنه قوله تعالى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها أي تبعها في الطلوع بعد غيبتها ويقال جاء القوم يتلو بعضهم بعضا أي يتبع وسمى تالي الكلام تاليا لانه يتبع بعض الحروف بعضا لا يخرجها جملة واحدة بل يتبع بعضها بعضا مرتبة كلما انقضى حرف او كلمة اتبعه بحرف آخر وكلمة اخرى وهذه التلاوة وسيلة وطريقة والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائماما به حيث ما قادك انقدت معه فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى اشرف من مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم اهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والاخرة فإنهم اهل تلاوة ومتابعة حقا فصل ثم قال تعالى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده اخبر عن حال من اعرض عنه ولم يتبعه فقال ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا أي عن الذكر الذي انزلته فالذكر هنا مصدر مضاف الى الفاعل كقيامي وقراءتي لا الى المفعول وليس المعنى ومن اعرض
(1/78)
عن ان يذكرني بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره واحسن من هذا الوجه ان يقال الذكر هنا مضاف إضافة الاسماء لا إضافة المصادر الى معمولاتها والمعنى ومن اعرض عن كتابي ولم يتبعه فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى وهذا ذكر مبارك انزلناه وقال تعالى ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم وقال تعالى وما هو الا ذكر للعالمين وقال تعالى إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز وقال تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن وعلى هذا فاضافته كاضافة الاسماء الجوامد التي لا يقصد بها اضافة العامل الىمعموله ونظيره في اضافة اسم الفاعل غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الاضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم وكذلك جرت اوصافا على اعرف المعارف وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو اليه المصير فصل وقوله تعالى فإن له معيشة ضنكا فسرها غير واحد من السلف بعذاب
(1/79)
القبر وجعلوا هذه الاية احد الادلة الدالة على عذاب القبر ولهذا قال ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى أي تترك في العذاب كماتركت العمل بآياتنا فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوارونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون اشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة اليوم تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق فهذه الاذاقة هي في البرزخ واولها حين الوفاة فإنه معطوف علىقوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه كنظائره وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه في قوله تعالى يثبت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة قال نزلت في عذاب القبر والاحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر والمقصود ان الله سبحانه اخبر ان من اعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى فإن له معيشة ضنكا وتكفل لمن حفظ
(1/80)
عهده ان يحييه حياة طيبة ويجزيه اجره في الاخرة فقال تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فاخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علماوعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الاخرة باحسن الجزاء وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالاخرة وقال سبحانه ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون فأخبر سبحانه ان من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب اعراضه وعشوه عن ذكره الذي انزله على رسوله فكان عقوبة هذا الاعراض ان قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب انه مهتد حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وافلاسه قال يا ليت بيني وبينك بعدالمشرقين فبئس القرين وكل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب انه على هدى كما قال تعالى ويحسبون انهم مهتدون قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول ولو ظن انه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في اهل النار وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين او تقول لو ان الله هداني لكنت من المتقين او تقول حين ترى العذاب لو ان لي كرة فأكون من
(1/81)
المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا كثير في القرآن فصل وقوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة او من عمى البصر والذين قالوا هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا وقوله لقدكنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين وقوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية
(1/82)
في الاخرة كقوله تعالى وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله يوم يدعون الى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون افسحر هذا ام انتم لا تبصرون وقوله رأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها والذين رجحوا انه منعمى البصر قالوا السياق لا يدل الا عليه لقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا في عمى عن الحق فكيف يقول وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمى البصر وانه جوزي من جنس عمله فإنه لما اعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا فجازاه على عمى بصيرته عمى في الاخرة وعلى تركه ذكره تركه في العذاب وقال تعالى ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم اولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الاية ايضا انهم عمي وبكم وصم عن الهدى كما قيل في قوله ونحشره يوم القيامة اعمى قالوا لانهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون ومن نصرانه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه ولهذا قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يرون شيئا يسرهم وقال آخرون هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم الى الموقف قاموا كذلك ثم انهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذامروى عن الحسن وقال آخرون هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبو الاسماع والابصار والنطق حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى اخسئوا فيها ولاتكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون ولا يسمع منهم الا الزفير
(1/83)
والشهيق وهذا منقول عن مقاتل والذين قالوا المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم انهم لا حجة لهم ولم يريدوا ان لهم حجة هم عمى عنها بل هم عمىعن الهدى كما كانوا في الدنيا فان العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الاخر وانه عمى البصر فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ويقر بما كان يجحده في الدنيا فليس هو اعمى عن الحق يومئذ وفصل الخطاب ان الحشر هو الضم والجمع ويراد به تارة الحشر الىموقف القيامةكقوله النبي انكم محشورون الى الله حفاة عراة غرلا وكقوله تعالى وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر فحشر المتقين جمعهم وضمهم الى الجنة وحشر الكافرين جمعهم وضمهم الى النار قال تعالى يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا وقال تعالى احشروا الذين ظلموا أزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم فهذا الحشر هو بعدحشرهم الىالموقف وهو حشرهم وضمهم الى النار لانه قد اخبر عنهم انهم قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ثم قال تعالى احشروا الذين ظلموا وازواجهم وهذا الحشر الثاني وعلى هذا فهم ما بين الحشر الاول من القبور الىالموقف والحشر الثاني من الموقف الى النار فعند الحشر الاول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته فالقرآن يصدق بعضه بعضا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فصل والمقصود ان الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج
(1/84)
آدم وذريته من الجنة اعاضهم افضل منها وهو ما اعطاهم من عهده الذي جعله سببا موصلا لهم اليه وطريقا واضحا بين الدلالة عليه من تمسك به فاز واهتدى ومن اعرض عنه شقى وغوى ولما كان هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل اليه ابدا إلا من باب العلم والارادة فالارادة باب الوصول اليه والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه وكمال كل انسان إنما يتم بهذين النوعين همة ترقيه وعلم يبصره ويهديه فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين او من احداهما اما ان لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها او يكون عالما بها ولا تنهض همته اليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسا وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدودا منكوسا قد أسام نفسه مع الانعام راعيا مع الهمل واستطاب لقيعات الراحة والبطالة واستلان فراش العجز والكسل لا كمن رفع له علم فشمر اليه وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه قد ابت غلبات شوقه الا لهجرة الى الله ورسوله ومقتت نفسه الرفقاء الا ابن سبيل يرافقه في سبيله ولما كان كمال الارادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابع لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها ان تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت وعزمات همته مسافرة الى حضرة الحي الذي لا يموت ولا سبيل له إلى هذا المطلب الاسني والحظ الاوفى الا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيا وأقامه على هذا الطريق هاديا وجعله واسطة بينه وبين الانام وداعيا لهم بإذنه الى دار السلام وأبى سبحانه ان يفتح لاحد منهم الاعلى يديه او يقبل من احد منهم سعيا الا ان يكون مبتدأ منه ومنتهيا اليه
(1/85)
فالطرق كلها الا طريقة مسدودة والقلوب باسرها الا قلوب اتباعه المنقادة اليه عن الله محبوسة مصدودة فحق على من كان في سعادة نفسه ساعيا وكان قلبه حيا عن الله واعيا ان يجعل على هذين الاصلين مدار اقواله واعماله وان يصيرهما اخبيته التي اليها مفزعة في حياته وطاء له فلا جرم كان وضع هذا الكتاب مؤسسا على هاتين القاعدتين ومقصوده التعريف بشرف هذين الاصلين وسميته مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية اهل العلم والارادة إذ كان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها على حين انقطاعي اليه عند بيته والقائي نفسي ببابه مسكينا ذليلا وتعرض لنفحاته في بيته وحوله بكرة واصيلا فما خاب من انزل به حوائجه وعلق به آماله واصبح ببابه مقيما وبحماه نزيلا ولما كان العلم امام الارادة ومقدما عليها ومفصلا لها ومرشدا لها قدمنا الكلام عليه على الكلام على المحبة ثم نتبعه ان شاء الله بعد الفراغ منه كتابا في الكلام على المحبة واقسامها واحكامها وفوائدها وثمراتها واسبابها وموانعها وما يقويها وما يضعفها والاستدلال بسائر طرق الادلة من النقل والعقل والفطرة والقياس والاعتبار والذوق والوجد على تعلقها بالاله الحق الذي لا إله غيره بل لا ينبغي ان تكون إلا له ومن اجله والرد على من انكر ذلك وتبيين فساد قوله عقلا ونقلا وفطرة وقياسا وذوقا ووجدا فهذا مضمون هذه التحفة وهذه عرائس معانيها الان تجلى عليك وخود ابكارها البديعة الجمال ترفل في حللها وهي تزف اليك فاما شمس منازلها بسعد الاسعد وأما خود تزف الى ضرير مقعد فاختر لنفسك احدى الخطتين وانزلها فيما شئت من المنزلتين ولا بد لكل نعمة من حاسد ولكل حق من جاحد ومعاند هذا وإنما اودع من المعاني والنفائس رهن عند متأمله ومطالعه له غنمه وعلى مؤلفه غرمه وله ثمرته ومنفعته ولصاحبه كله ومشقته مع تعرضه لطعن الطاعنين والاعتراض المناقشين وهذه بضاعته المزجاة وعقله المدود يعرض على عقول العالمين وإلقائه نفسه
(1/86)
وعرضه بين مخالب الحاسدين وانياب البغاة المعتدين فلك ايها القارئ صفوه ولمؤلفه كدره وهو الذي تجشم غراسه وتعبه ولك ثمره وها هو قد استهدف لسهام الراشقين واستعذر الى الله من الزلل والخطأ ثم الى عباده المؤمنين اللهم فعياذا بك ممن قصر في العلم والدين باعه وطالت في الجهل وآذى عبادك ذراعه فهو لجهله يرى الاحسان اساءة والسنة بدعة والعرف نكرا ولظلمه يجزى بالحسنة سيئة كاملة وبالسيئة الواحدة عشرا قد اتخذ بطر الحق وغمط الناس سلما الى ما يحبه من الباطل ويرضاه ولا يعرف من المعروف ولا ينكر من المنكر الا ما وافق إرادته او حالف هواه يستطيل على اولياء الرسول وحزبه باصغريه ويجالس اهل الغي والجهالة ويزاحمهم بركبتيه قد ارتوى من ماء آجن ونضلع واستشرف الى مراتب
(1/87)
ورثة الانبياء وتطلع يركض في ميدان جهله مع الجاهلين ويبرز عليهم في الجهالة فيظن انه من السابقين وهو عند الله ورسوله والمؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزل وإذا انزل الورثة منازلهم منها فمنزلته منها اقصى وابعد منزل نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء ابعد منزل وعياذا بك ممن جعل الملامة بضاعته والعذل نصيحته فهو دائما يبدى في الملامة ويعيد ويكرر على العذل فلا يفيد ولا يستفيد بل عياذا بك من عدو في صورة ناصح وولى في مسلاخ بعيد كاشح يجعل عداوته واذاه حذرا وإشفاقا وتنفيره وتخذيله اسعافا وإرفاقا وإذا كانت العين لا تكاد إلا على هؤلاء تفتح والميزان بهم يخف ولا يرجح فما احرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قلبه جزا من الالتفات ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره الى الاحياء بين الاموات وما احسن ما قال القائل : وفي الجهل قبل الموت موت لأهله واجسامهم قبل القبور قبور وارواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور اللهم فلك الحمد واليك المشتكى وانت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك وانت حسبنا ونعم الوكيل فلنشرع الان في المقصود بحول الله وقوته فنقول الاصل الاول في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة اليه وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه قال الله تعال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائما
(1/88)
بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم استشهد سبحانه باولى العلم على اجل مشهود عليه وهوتوحيده فقال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط وهذا يدل على فضل العلم واهله من وجوه احدها استشهادهم دون غيرهم من البشر والثاني اقتران شهادتهم بشهادته والثالث اقترانها بشهادة ملائكته والرابع ان في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فان الله لا يستشهد من خلقه الا العدول ومنه الاثر المعروف عن النبي يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وقال محمد بن احمد بن يعقوب بن شيبة رأيت رجلا قدم رجلا الى اسماعيل بن إسحاق القاضي
(1/89)
فادعى عليه دعوى فسأل المدعى عليه فانكر فقال للمدعى الك بينة قال نعم فلان وفلان قال اما فلان فمن شهودي واما فلان فليس من شهودي قال فيعرفه القاضي قال نعم قال بماذا قال اعرفه بكتب الحديث قال فكيف تعرفه في كتبه الحديث قال ما علمت الا خيرا قال فان النبي قال يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله فمن عدله رسول الله اولى ممن عدلته انت فقال قم فهاته فقد قبلت شهادته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث في موضعه الخامس انه وصفهم بكونهم اولى العلم وهذا يدل على اختصاصهم به وانهم اهله واصحابه ليس بمستعار لهم السادس انه سبحانه استشهد بنفسه وهو اجل شاهد ثم بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلا وشرفا السابع انه استشهد بهم على اجل مشهود به واعظمه واكبره وهو شهادة ان لا إله إلا الله والعظيم القدر انما يستشهد على الامر العظيم اكابر الخلق وساداتهم الثامن انه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين فهم بمنزلة آدلته وآياته وبراهنيه الدالة على توحيده التاسع انه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة لصادرة منه ومن ملائكته ومنهم ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على السنتهم وانطقهم بهذه الشهادة فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة وإنطاقا وتعليما وهم الشاهدون بها له إقرارا واعترافا وتصديقا وإيمانا العاشر انه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة فإذا ادوها فقد ادوا الحق المشهود به فثبت الحق المشهود به فوجب على الخلق الاقرار به وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكل من ناله الهدى بشهادتهم واقر بهذا الحق بسبب شهادتهم فلهم من الاجر مثل اجره وهذا فضل عظيم لا يدرى قدره الا الله وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم فلهم من الاجر مثل اجره ايضا فهذه عشرة اوجه في هذه الاية الحادي عشر في تفضيل العلم وأهله انه سبحانه
(1/90)
نفي التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين اصحاب الجنة واصحاب النار فقال تعالى قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون كما قال تعالى لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم الوجه الثاني عشر انه سبحانه جعل اهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون فقال افمن يعلم انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمى فما ثم الا عالم او اعمى وقد وصف سبحانه اهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع من كتابه الوجه الثالث عشر انه سبحانه اخبر عن اولى العلم بانهم يرون ان ما انزل اليه من ربه حقا وجعل هذا ثناء عليهم واستشهادا بهم فقال تعالى ويرى الذين اوتو العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق الوجه الرابع عشر انه سبحانه امر بسؤالهم والرجوع الى أقوالهم وجعل ذلك كالشهادة منهم فقال وما ارسلنا قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فاسئلوا اهل الذكر إن
(1/91)
كنتم لا تعلمون واهل الذكر هم اهل العلم بما انزل على الانبياء الوجه الخامس عشر انه سبحانه شهد لاهل العلم شهادة في ضمنها الاستشهاد بهم على صحة ما انزل الله على رسوله فقال تعالى افغير الله ابتغى حكما وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين الوجه السادس عشر انه سبحانه سلى نبيه بايمان اهل العلم به وامره ان لا يعبأ بالجاهلين شيئا فقال تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به اولا تؤمنوا إن الذين اوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وهذا شرف عظيم لهل العلم وتحته ان اهله العالمون قد عرفوه وآمنوا به وصدقوا فسواء آمن به غيرهم اولا الوجه السابع عشر انه سبحانه مدح اهل العلم واثنى عليهم وشرفهم بان جعل كتابه آيات بينات في صدورهم وهذه خاصة ومنقبة لهم دون غيرهم فقال تعالى وكذلك انزلنا اليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وسواء كان المعنى ان القرآن مستقر في صدور الذين اوتوا العلم ثابت فيها محفوظ وهو في نفسه آيات بينات فيكون اخبر عنه بخبرين احدهما انه آيات بينات الثاني انه محفوظ مستقر ثابت في صدور الذين اوتوا العلم او كان المعنى أنه آيات بينات في صدورهم أي كونه آيات بينات معلوم لهم ثابت في صدورهم والقولان متلازمان ليسا بمختلفين وعلى التقديرين فهو مدح لهم وثناء عليهم في ضمنه الاستشهاد بهم فتأمله الوجه الثامن عشر أنه سبحانه أمر نبيه أن يسأله مزيد العلم فقال تعالى فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى اليك وحيه وقل رب زدني علما
(1/92)
وكفى بهذا شرفا للعلم ان امر نبيه ان يسأله المزيد منه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه اخبر عن رفعة درجات اهل العلم والايمان خاصة فقال تعالى يا ايها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بماتعملون خبير وقد أخبر سبحانه في كتابه برفع الدرجات في اربعة مواضع احدها هذا والثاني قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم والثالث قوله تعالى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات اولئك لهم الدرجات العلى والرابع قوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا
(1/93)
عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة فهذه اربعة مواضع في ثلاثة منها الرفعة بالدرجات لاهل الايمان الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والرابع الرفعة بالجهاد فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم والجهاد اللذين بهما قوام الدين الوجه العشرون انه سبحانه استشهد بأهل العلم والايمان يوم القيامة على بطلان قول الكفار فقال تعالى ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين اوتو العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون الوجه الحادي والعشرون انه سبحانه اخبر انهم اهل خشيته بل خصهم من بين الناس بذلك فقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور وهذا حصر لخشيته في أولى العلم وقال تعالى جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه وقد اخبر ان اهل خشيته هم العلماء فدل على ان هذا الجزاء المذكور للعلماء بمجموع النصين وقال ابن مسعود رضى الله عنه كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا الوجه الثاني والعشرون انه سبحانه اخبر عن امثاله التي يضربها لعباده يدلهم على صحة ما أخبر به ان اهل العلم هم المنتفعون بها المختصون بعلمها فقال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وفي القرآن بضعة واربعون مثلا وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول لست من العالمين الوجه الثالث والعشرون انه سبحانه ذكر مناظرة إبراهيم لابيه وقومه وغلبته لهم بالحجة وأخبر عن تفضيله بذلك ورفعه درجته بعلم الحجة فقال تعالى عقيب مناظرته لابيه وقومه في سورة الانعام وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم قال زيد بن أسلم رضى الله عنه نرفع درجات من نشاء بعلم الحجة الوجه الرابع والعشرون انه سبحانه أخبر انه خلق الخلق ووضع بيته الحرام والشهر
(1/94)
الحرام والهدى والقلائد ليعلم عباده أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فقال تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما فدل على ان علم العباد بربهم وصفاته وعبادته وحده هو الغاية المطلوبة من الخلق والامر الوجه الخامس والعشرون ان الله سبحانه امر اهل العلم بالفرح بما آتاهم وأخبر انه خير مما يجمع الناس فقال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وفسر فضل الله بالايمان ورحمته بالقرآن والايمان والقرآن هما العلم النافع والعمل الصالح والهدى ودين الحق وهما افضل علم وافضل عمل الوجه السادس والعشرون انه سبحانه شهد لمن آتاه العلم بانه قد آتاه خيرا كثيرا فقال تعالى يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا قال
(1/95)
ابن قتيبة والجمهور الحكمة إصابة الحق والعمل به وهي العلم النافع والعمل الصالح الوجه السابع والعشرون انه سبحانه عدد نعمه وفضله على رسوله وجعل من اجلها ان آتاه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم فقال تعالى وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما الوجه الثامن والعشرون انه سبحانه ذكر عباده المؤمنين بهذه النعمة وأمرهم بشكرها وأن يذكروه على إسدائها اليهم فقال تعالى كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون الوجه التاسع والعشرون انه سبحانه لما اخبر ملائكته بأنه يريد ان يجعل في الارض خليفة قالوا له اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم مالا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لاعلم لنا الا ما علتمنا كلمتناانك انت العليم الحكيم الى آخر قصة آدم وأمر الملائكة بالسجود لآدم فأبى ابليس فلعنه وأخرجه من السماء وبيان فضل العلم من هذه القصة من وجوه احدها انه سبحانه رد على الملائكة لما سألوه كيف يجعل في الارض من هم اطوع له منه فقال اني اعلم مالا تعلمون فأجاب سؤالهم بأنه يعلم من بواطن الامور وحقائقها مالا يعلمونه وهو العليم الحكيم فظهر من هذا الخليفة من خيار خلقه ورسله وأنبيائه وصالحي عباده والشهداء والصديقين والعلماء وطبقات اهل العلم والايمان من هو خير من الملائكة وظهر من ابليس من هو شر العالمين فأخرج سبحانه هذا وهذا والملائكة لم يكن لها علم لا بهذا ولا بهذا ولا بما في خلق آدم واسكانه الارض من الحكم الباهرة الثاني انه سبحانه لما اراد اظهار تفضيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عليهم بالعلم فعلمه الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء إن
(1/96)
كنتم صادقين جاء في التفسير انهم قالوا لن يخلق ربنا خلقا هو اكرم عليه منا فظنوا انهم خير وافضل من الخليفة الذي يجعله الله في الارض فلما امتحنهم بعلم ما علمه لهذا الخليفة اقروا بالعجز وجهل ما لم يعلموه فقالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم فحينئذ اظهر لهم فضل آدم بما خصه به من العلم فقال يا آدم انبئهم باسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم أقروا له بالفضل الثالث انه سبحانه لما ان عرفهم فضل آدم بالعلم وعجزهم عن معرفة ما علمه قال لهم الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فعرفهم سبحانه نفسه بالعلم وانه احاط علما بظاهرهم وباطنهم وبغيب السموات والارض فتعرف اليهم بصفة العلم وعرفهم فضل نبيه وكليمه بالعلم وعجزهم عما آتاه آدم من العلم وكفى بهذا شرفا للعلم الرابع انه سبحانه جعل في آدم
(1/97)
من صفات الكمال ما كان به افضل من غيره من المخلوقات وأراد سبحانه ان يظهر لملائكته فضله وشرفه فأظهر لهم احسن ما فيه وهو علمه فدل على ان العلم اشرف ما في الانسان وان فضله وشرفه إنما هو بالعلم ونظير هذا ما فعله بنبيه يوسف عليه السلام لما أراد اظهار فضله وشرفه على اهل زمانه كلهم اظهر للملك واهل مصر من علمه بتأويل رؤياه ما عجز عنه علماء التعبير فحينئذ قدمه ومكنه وسلم اليه خزائن الارض وكان قبل ذلك قد حبسه على ما رآه من حسن وجهه وجمال صورته ولما ظهر له حسن صورة علمه وجمال معرفته اطلقه من الحبس ومكنه في الارض فدل على ان صورة العلم عند بني آدم ابهى واحسن من الصورة الحسية ولو كانت اجمل صورة وهذا وجه مستقل في تفضيل العلم مضاف الى ما تقدم فتم به ثلاثون وجها الوجه الحادي والثلاثون انه سبحانه ذم اهل الجهل في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى ولكن اكثرهم يجهلون وقال ولكن اكثرهم لا يعلمون وقال تعالى ام تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام بل هم اضل سبيلا فلم يقتصر سبحانه على تشبيه الجهال بالانعام حتى جعلهم اضل سبيلا منهم وقال ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون اخبر ان الجهال شر الدواب عنده على اختلاف اصنافها من الحمير والسباع والكلاب والحشرات وسائر الدواب فالجهال شر منهم وليس علي دين الرسل اضر من الجهال بل اعداؤهم على الحقيقة وقال تعالى لنبيه وقد اعاذه فلاتكونن من الجاهلين وقال كليمه موسى عليه الصلاة والسلام اعوذ بالله ان اكون من الجاهلين وقال لأول رسله نوح عليه السلام إني أعظك أن تكون من الجاهلين فهذه حال الجاهلين عنده والاول حال اهل العلم عنده واخبر سبحانه عن عقوبته لاعدائه انه منعهم علم كتابه ومعرفته وفقهه فقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وأمر نبيه بالاعراض عنهم
(1/98)
فقال وأعرض عن الجاهلين واثنى على عباده بالاعراض عنهم ومتاركتهم كما في قوله وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا اعمالنا ولكم اعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وقال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وكل هذا يدل على قبح الجهل عنده وبغضه للجهل وأهله وهو كذلك عند الناس فإن كل احد يتبرا منه وإن كان فيهالوجه الثاني والثلاثون ان العلم حياة ونور والجهل موت وظلمة والشر كله سببه عدم الحياة والنور والخير كله سببه النور والحياة فإن النور يكشف عن حقائق الاشياء ويبين مراتبها والحياة هي المصححة لصفات الكمال الموجبة لتسديد الاقوال والاعمال فكلما تصرف من الحياة فهو خير كله كالحياء الذي سببه كمال حياة القلب وتصوره حقيقة القبح ونفرته منه وضده الوقاحة
(1/99)
والفحش وسببه موت القلب وعدم نفرته من القبيح وكالحياء الذي هو المطر الذي به حياة كل شيء قال تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كان ميتا بالجهل قلبه فأحياه بالعلم وجعل له من الايمان نورا يمشى به في الناس وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم اهل الكتاب ان لا يقدرون على شيء من فضل الله وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقال تعالى والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي الى صراط مستقيم فأخبر انه روح تحصل به الحياة ونور يحصل به الاضاءة والاشراف فجمع بين الاصلين الحياة والنور وقال تعالى قد جاءكم من الله نوروكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم وقال تعالى فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي انزلنا والله بما تعمل ون خبير وقال تعالى يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا اليكم نورا مبينا وقال تعالى قد انزل الله اليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات الى النور وقال تعالى الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم فضرب سبحانه مثلا لنوره الذي قذفه في
(1/100)
قلب المؤمن كما قال ابي بن كعب رضى الله عنه مثل نوره في قلب عبده المؤمن وهو نور القرآن والايمان الذي اعطاه إياه كما قال في آخر الآية نور على نور يعنى نور الايمان على نور القرآن كما قال بعض السلف يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وان لم يسمع فيها بالاثر فإذا سمع فيها بالاثر كان نورا على نور وقد جمع الله سبحانه بين ذكر هذين النورين وهما الكتاب والايمان في غير موضع من كتابه كقوله ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وقوله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضل الله الايمان ورحمته القرآن وقوله تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقد تقدمت هذه الايات وقال في آية النور نور على نور
(1/101)
وهو نور الايمان على نور القرآن وفي حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه عن النبي ان الله ضرب مثلا صراطا مستقيما وعلى كتفي الصراط داران لهما ابواب مفتحة على الابواب ستور وداع يدعو على الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو الى دار السلام ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم والابواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع احد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه رواه الترمذي وهذا لفظه والامام احمد ولفظه والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن فذكر الاصلين وهما داعي القرآن وداعي الايمان وقال حذيفة حدثنا رسول الله ان الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من الايمان ثم علموا من القرآن وفي الصحيحين من حديث ابي موسى الاشعري رضى الله عنه عن النبي مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الاترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرولا ريح لها فجعل الناس اربعة اقسام اهل الايمان والقرآن وهم خيار الناس الثاني اهل الايمان الذين لا يقرءون القرآن وهم دونهم فهؤلاء هم السعداء والاشقياء قسمان احدهما من اوتى قرآنا بلا إيمان فهو منافق والثاني من لا اوتى قرآنا ولا إيمانا والمقصود ان القرآن والايمان هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده وأنهما اصل كل خير في الدنيا والاخرة وعلمهما اجل العلوم وافضلها بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبه الا علمهما والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم الوجه الثالث والثلاثون ان الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم اكلها وأباح صيد الكلب المعلم وهذا ايضا من شرف العلم انه لا يباح إلا صيد الكلب العالم واما الكلب الجاهل فلا يحل اكل صيده فدل على شرف العلم
(1/102)
وفضله قال الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم قل احل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما امسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ان الله سريع الحساب ولولا مزية العلم والتعليم وشرفهما كان صيد الكلب المعلم والجاهل سواء الوجه الرابع والثلاثون ان الله سبحانه اخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوارة بيده وكلمه منه اليه انه رحل الى رجل عالم يتعلم منه ويزداد علما الى علمه فقال وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى ابلغ مجمع البحرين او امضى حقبا حرصا منه على لقاء هذا العالم وعلى التعلم منه فلما لقيه سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه وقال له هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا فبدأه بعد السلام بالاستئذان على متابعته وانه لا يتبعه إلا باذنه وقال على ان تعلمن مما علمت
(1/103)
رشدا فلم يجيء ممتحنا ولا متعلما وإنما جاء متعلما مستزيدا علما إلى علمه وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم فإن نبي الله وكليمه سافر ورحل حتى لقى النصب من سفره في تعلم ثلاث مسائل من رجل عالم ولما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه وطلب منه متابعته وتعليمه وفي قصتهما عبر وآيات وحكم ليس هذا موضع ذكرها الوجه الخامس والثلاثون قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ندب تعالى المؤمنين الى التفقه في الدين وهو تعلمه وانذار قومهم إذا رجعوا اليهم وهو التعليم وقد اختلف في الاية فقيل المعنى ان المؤمنين لم يكونوا لينفروا كلهم للتفقه والتعلم بل ينبغي ان ينفر من كل فرقة منهم طائفة تتفقه تلك الطائفة ثم ترجع تعلم القاعدين فيكون النفير على هذا نفير تعلم والطائفة تقال على الواحد فما زاد قالوا فهو دليل على قبول خبر الواحد وعلى هذا نفير تعلم والطائفة تقال على الواحد فما زاد قالوا فهو دليل على قبول خير الواحد وعلى هذا حملها الشافعي وجماعة وقالت طائفة اخرى المعنى وما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد كلهم بل ينبغي ان تنفر طائفة للجهاد وفرقة تقعد تتفقه في الدين فإذا جاءت الطائفة التي نفرت فقهتها القاعدة وعلمتها ما انزل من الدين والحلال والحرام وعلى هذا فيكون قوله ليتفقهوا ولينذروا للفرقة التي نفرت منها طائفة وهذا قول الاكثرين وعلى هذا فالنفير نفير جهاد على اصله فإنه حيث استعمل إنما يفهم منه الجهاد قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وأنفسكم وقال النبي لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وهذا هو المعروف من هذه اللفظة وعلى القولين فهو ترغيب في التفقه في الدين وتعلمه وتعليمه فإن ذلك يعدل الجهاد بل ربما يكون افضل منه كما سيأتي تقريره في الوجه الثامن والمائة ان شاء الله تعالى الوجه
(1/104)
السادس والثلاثون قوله تعالى والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر قال الشافعي رضى الله عنه لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم وبيان ذلك ان المراتب اربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله احداها معرفة الحق الثانية عمله به الثالثة تعليمه من لا يحسنه الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه فذكر تعالى المراتب الاربعة في هذه السورة واقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر ان كل احد في خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة اخرى وتواصوا بالحق وصى به بعضهم بعضا تعليما وارشادا فهذه مرتبة ثالثة وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة وهذانهاية الكمال فإن الكمال ان يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره وكماله باصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالايمان
(1/105)
وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه اياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل فهذه السورة على اختصارها هي من اجمع سور القرآن للخير بحذافيره والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه شافيا من كل داء هاديا الى كل خير الوجه السابع والثلاثون انه سبحانه ذكر فضله ومنته على انبيائه ورسله واوليائه وعباده بما آتاهم من العلم فذكر نعمته على خاتم انبيائه ورسله بقوله وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وقد تقدمت هذه الاية وقال في يوسف ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وكذلك تجزى المحسنين وقال في كليمه موسى ولما بلغ اشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ولما كان الذي آتاه موسى من ذلك أمرا عظيما خصه به على غيره ولا يثبت له إلا الأقوياء أولو العزم هيأه له بعد أن بلغ أشده واستوى يعني تم كلمت قوته وقال في حق المسيح يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلىوالدتك إذ ايدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وقال في حقه ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل فجعل تعليمه مما بشر به امه واقر عينها به وقال في حق داود وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال في حق الخضر صاحب موسى وفتاه فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما فذكر من نعمه عليه تعليمه وما آتاه من رحمته وقال تعالى يذكر نعمته على داود وسليمان وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فذكر النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالحكم والعلم وخص بفهم القضية احدهما وقد ذكرت الحكمين الداوودي والسليماني ووجههما ومن صار من الائمةالى هذا ومن صار الى هذا وترجيح الحكم السليماني من عدة وجوه وموافقته للقياس وقواعد الشرع في كتاب الاجتهاد والتقليد وقال
(1/106)
تعالى قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا انتم ولا آباؤكم قل الله يعني الذي انزله جعل سبحانه تعليمهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم دليلا على صحة النبوة والرسالة إذ لا ينال هذا العلم إلا من جهة الرسل فكيف يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا من فضل العلم وشرفه وأنه دليل على صحة النبوة والرسالة والله الموفق للرشاد وقال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال تعالى هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
(1/107)
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم يعني وبعث في آخرين منهم لما يلحقوا بهم وقد اختلف في هذا اللحاق المنفي فقيل هو اللحاق في الزمان أي يتأخر زمانهم عنهم وقيل هو اللحاق في الفضل والسبق وعلى التقديرين فامتن عليهم سبحانه بان علمهم بعد الجهل وهداهم بعد الضلالة ويالها من منة عظيمة فاتت المنن وجلت ان يقدر العباد لها على ثمن الوجه الثامن والثلاثون ان اول سورة انزلها الله في كتابه سورة القلم فذكر فيها ما من به على الانسان من تعليمه ما لم يعلم فذكر فيها فضله بتعليمه وتفضيله الإنسان بما علمه اياه وذلك يدل على شرف التعليم والعلم فقال تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فافتتح السورة بالامر بالقراءة الناشئة عن العلم وذكر خلقه خصوصا وعموما فقال الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم وخص الانسان من بين المخلوقات لما اودعه من عجائبه وآياته الدالة على ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وكمال رحمته وانه لا إله غيره ولا رب سواه وذكر هنا مبدا خلقه من علق لكون العلقة مبدأ الاطوار التي انتقلت اليها النطفة فهي مبدأ تعلق التخليق ثم اعاد الأمر بالقراءة مخبرا عن نفسه بأنه الاكرم وهو الافعل من الكرم وهو كثرة الخير ولا احد أولى بذلك منه سبحانه فإن الخير كله بيديه والخير كله منه والنعم كلها هو موليها والكمال كله والمجد كله له فهو الاكرم حقا ثم ذكر تعليمه عموما وخصوصا فقال الذي علم بالقلم فهذا يدخل فيه تعليم الملائكة والناس ثم ذكر تعليم الانسان خصوصا فقال علم الإنسان ما لم يعلم فاشتملت هذه الكلمات على انه معطى الموجودات كلها بجميع اقسامها فان الوجود له مراتب اربعة احداها مرتبتها الخارجية المدلول عليها بقوله خلق المرتبة الثانية الذهنية المدلول عليها بقوله علم الانسان ما لم يعلم المرتبة الثالثة والرابعة
(1/108)
اللفظية والخطية فالخطية مصرح بها في قوله الذي علم بالقلم واللفظية من لوازم التعليم بالقلم فإن الكتابة فرع النطق والنطق فرع التصور فاشتملت هذه الكلمات على مراتب الوجود كلها وانه سبحانه هو معطيها بخلقه وتعليمه فهو الخالق المعلم وكل شيء في الخارج فبخلقه وجد وكل علم في الذهن فبتعليمه حصل وكل لفظ في اللسان او خط في البنان فباقداره وخلقه وتعليمه وهذا من آيات قدرته وبراهين حكمته لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والمقصود انه سبحانه تعرف إلى عباده بما علمهم إياه بحكمته من الخط واللفظ والمعنى فكان العلم احد الادلة الدالة عليه بل من اعظمها وأظهرها وكفى بهذا شرفا وفضلا له الوجه التاسع والثلاثون انه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانا قال ابن عباس رضى الله عنه كل سلطان في القرآن فهو حجة وهذا كقوله تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الارض ان عندكم من سلطان بهذا اتقولون على الله
(1/109)
مالا تعلمون يعني ما عندكم من حجة بما قلتم ان هو الا قول على الله بلا علم وقال تعالى ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانا بل هي من تلقاء انفسكم وآبائكم وقال تعالى ام لكم سلطان مبين فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين يعني حجة واضحة فائتوا بها إن كنتم صادقين في دعواكم إلا موضعا واحدا اختلف فيه وهو قوله ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية فقيل المراد به القدرة والملك أي ذهب عني مالي وملكي فلا مال لي ولا سلطان وقيل هو على بابه أي انقطعت حجتي وبطلت فلا حجة لي والمقصود ان الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا لانها توجب تسلط صاحبها واقتداره فله بها سلطان على الجاهلين بل سلطان العلم اعظم من سلطان اليد ولهذا ينقاد الناس للحجة مالا ينقادون لليد فان الحجة تنقاد لها القلوب واما اليد فإنما ينقاد لها البدن فالحجة تأسر القلب وتقوده وتذل المخالف وان اظهر العناد والمكابرة فقلبه خاضع لها ذليل مقهور تحت سلطانها بل سلطان الجاه ان لم يكن معه علم يساس به فهو بمنزلة سلطان السباع والاسود ونحوها قدرة بلا علم ولا رحمة بخلاف سلطان الحجة فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة ومن لم يكن له اقتدار في علمه فهو اما لضعف حجته وسلطانه واما لقهر سلطان اليد والسيف له والا فالحجة ناصرة نفسها ظاهرة على الباطل قاهرة له الوجه الاربعون ان الله تعالى وصف اهل النار بالجهل واخبر انه سد عيهم طرق العلم فقال تعالى حكاية عنهم وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير فأخبروا انهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون والسمع والعقل هما اصل العلم وبهما ينال وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون فاخبر سبحانه انهم
(1/110)
لم يحصل لهم علم من جهة من جهات العلم الثلاث وهي العقل والسمع والبصر كما قال في موضع آخر صم بكم عمي فهم لا يعقلون وقال تعالى افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى وجعلنالهم سمعا وابصارا وافئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن فقد وصف اهل الشقاء كما ترى بعدم العلم وشبههم بالانعام تارة وتارة بالحمار الذي يحمل الاسفار وتارة جعلهم اضل من الانعام وتارة جعلهم شر الدواب عنده وتارة جعلهم امواتا غير احياء وتارة اخبر انهم في ظلمات الجهل والضلال وتارة اخبر ان على قلوبهم اكنة وفي آذانهم وقرا وعلى ابصارهم غشاوة وهذا كله يدل على قبح الجهل وذم اهله وبغضه لهم كما انه يحب
(1/111)
اهل العلم ويمدحهم ويثنى عليهم كما تقدم والله المستعان الوجه الحادي والاربعون ما في الصحيحين من حديث معاوية رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وهذا يدل على ان من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيرا كما ان من اراد به خير افقهه في دينه ومن فقهه في دينه فقد اراد به خيرا إذا اريد بالفقه العلم المستلزم للعمل واما ان اريد به مجرد العلم فلا يدل على ان من فقه في الدين فقد اريد به خيرا فإن الفقه حينئذ يكون شرطا لارادة الخير وعلى الاول يكون موجبا والله اعلم الوجه الثاني والاربعون ما في الصحيحين ايضا من حديث ابي موسى رضى الله عنه قال قال رسول الله ان مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث اصاب ارضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها اجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا واصاب طائفة منها اخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك راسا ولم يقبل هدى الله الذي ارسلت به شبه العلم والهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والنافع والاغذية والادوية وسائر مصالح العباد فإنها بالعلم والمطر وشبه القلوب بالاراضي التي قع عليها المطر لانها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر انواع النبات النافع كما ان القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته ثم قسم الناس الى ثلاثة اقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط احكامه واستخراج حكمه وفوائده احدها اهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه واستنبطوا وجوه الاحكام والحكم والفوائد منه فهؤلاء بمنزلة الارض التي قبلت الماء وهذا بمنزلة الحفظ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط فإنه بمنزلة انبات الكلأ والعشب
(1/112)
بالماء فهذا مثل الحفاظ الفقهاء اهل الرواية والدراية القسم الثاني اهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه فهم بمنزلة من يقرا القرآن ويحفظه ويراعي حروفه واعرابه ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله كما قال على ابن ابي طالب رضى الله عنه إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله اعظم تفاوت فرب شخص يفهم من النص حكما او حكمين ويفهم منه الآخر مائة او مائتين فهؤلاء بمنزلة الارض التي امسكت الماء للناس فانتفعوا به هذا يشرب منه وهذا يسقى وهذا يزرع فهؤلاء القسمان هم السعداء والاولون ارفع درجة واعلى قدرا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم القسم الثالث الذين لا نصيب لهم منه لا حفظا ولا فهما ولا رواية ولا دراية بل هم بمنزلة
(1/113)
الارض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء وهؤلاء هم الاشقياء والقسمان الاولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قبله ووصل اليه فهذا يعلم الفاظ القرآن ويحفظها وهذا يعلم معانيه واحكامه وعلومه والقسم الثالث لا علم ولا تعليم فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله راسا ولم يقبلوه وهؤلاء شر من الانعام وهم وقود النار فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه وشقاء من ليس من اهله وذكر اقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم وتقسم سعيدهم الى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد وفيه دلالة على ان حاجة العباد الى العلم كحاجتهم الى المطر بل اعظم وانهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الارض التي فقدت الغيث قال الامام احمد الناس محتاجون الى العلم اكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لان الطعام والشراب يحتاج اليه في اليوم مرة او مرتين والعلم يحتاج اليه بعدد الانفاس وقد قال تعالى انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي انزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم ثم شبه القلوب بالاودية فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا وقلب صغيرا إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء قليلا فقال فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا هذا مثل ضربة الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته فإنه يستخرج منها زبد الشبهات البالطة فيطفو على وجه القلب كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فقوق الماء وأخبر سبحانه انه راب يطفو ويعلو على الماء لايستقر في ارض الوادي كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطفت فلا تستقر فيه بل تجفى وترمى فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من
(1/114)
الهدى ودين الحق كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء وما يعقل عن الله امثاله إلا العالمون ثم ضرب سبحانه لذلك مثلا آخر فقال ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله يعني أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها فإنه يقذف ويلقى به ويستقر الجوهر الخالص وحده وضرب سبحانه مثلا بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة ومثلا بالنار لما فيها من الاضاءة والاشراف والاحراق فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الارض بالماء وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما يلقى فيها وتميز جيدها من زبدها كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبر والعلم قال الله تعالى وتلك
(1/115)
الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون الوجه الثالث والاربعون ما في الصحيحين ايضا من حديث سهل بن سعد رضى الله عنه ان رسول الله قال لعلي رضى الله عنه لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة اهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيرا له من حمر النعم وهي خيارها واشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس الوجه الرابع والاربعون ما روى مسلم في صحيحيه من حديث ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من دعا الى هدى كان له من الاجر مثل اجور من تبعه لا ينقص ذلك من اجورهم شيئا ومن دعا الى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا اخبر ان المتسبب الى الهدى بدعوته له مثل اجر من اهتدى به والمتسبب الى الضلالة بدعوته عليه مثل إثم من ضل به لان هذا بذل قدرته في هداية الناس وهذا بذل قدرته في ضلالتهم فنزل كل واحد منهما بمنزلة الفاعل التام وهذه قاعدة الشريعة كما هو مذكور في غير هذا الموضع قال تعالى ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون وقال تعالى وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم وهذا يدل على ان من دعا الامة إلى غير سنة رسول الله فهوعدوه حقا لانه قطع وصول اجر من اهتدى بسنته اليه وهذا من اعظم معاداته نعوذ بالله من الخذلان الوجه الخامس والاربعون ما خرجا في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها فاخبر انه لا ينبغي لاحد ان يحسد احدا يعني حسد غبطة ويتمنىمثل حاله من غير ان يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في واحدةمن هاتين الخصلتين وهي الاحسان الى الناس بعلمه او بماله وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمنى
(1/116)
مثل حاله لقلة منفعة الناس به الوجه السادس والاربعون قال الترمذي حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا سلمة بن رجاء حدثنا الوليد بن حميد حدثنا القاسم عن ابي امامة الباهلي قال ذكر لرسول الله رجلان احدهما عالم والآخر عابد فقال رسول الله فصل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله ان الله وملائكته واهل السموات والارض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير قال الترمذي هذا حديث حسن غريب سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث الخزاعي قال سمعت الفضيل بن عياض يقول عالم عامل معلم يدعى كبيرا في ملكوت السموات وهذا مروى عن الصحابة قال ابن عباس علماء هذه الامة رجلان فرجل اعطاه الله علما
(1/117)
فبذله للناس ولم يأخذ عليه صفدا ولم يشتر به ثمنا اولئك يصلى عليهم طير السماء وحيتان البحر ودواب الارض والكرام الكاتبون ورجل آتاه الله علما فضن به عن عباده واخذ به صفدا واشترى به ثمنا فذلك ياتي يوم القيامة يلجم بلجام من نار ذكره ابن عبد البر مرفوعا وفي رفعه نظر وقوله ان الله وملائكته واهل السموات والارض يصلون على معلم الناس الخير لما كان تعليمه للناس الخير سببا لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله بان جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته واهل الارض ما يكون سببا لنجاته وسعادته وفلاحه وايضا فإن معلم الناس الخير لما كان مظهرا لدين الرب واحكامه ومعرفا لهم بأسمائه وصفاته جعل الله من صلاته وصلاة أهل سمواته وأرضه عليه ما يكون تنويها به وتشريفا له وإظهارا للثناء عليه بين اهل السماءوالارض الوجه السابع والاربعون ما رواه ابو داود والترمذي من حديث ابي الدرداء رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا الى الجنة وإن الملائكة لتضع اجنحتها رضا لطالب العلم وان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الارض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ان العلماء ورثة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن اخذه اخذ بحظ وافر وقد رواه الوليد بن مسلم عن خالد بن يزيد عن عثمان ابن ايمن عن ابي الدرداء قال سمعت رسول الله يقول من غدا لعلم يتعلمه فتح الله له به طريقا الى الجنة وفرشت له الملائكة اكنافها وصلت عليه ملائكة السماء وحيتان البحر وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب والعلماء ورثة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن اخذ بالعلم اخذ بحظ وافر وموت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة نسد ونجم طمس وموت قبيلة ايسر من موت عالم وهذا حديث حسن
(1/118)
والطريق التي يسلكها الى الجنة جزاء على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصلة الى رضا ربه ووضع الملائكة اجنحتها له تواضعا له وتوقيرا وإكراما لما يحمله من ميراث النبوة ويطلبه وهو يدل على المحبة والتعظيم فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضع اجنحتها له لأنه طالب لما به حياة العالم ونجاته ففيه شبه من الملائكةوبينه وبينهم تناسب فان الملائكة انصح خلق الله وانفعهم لبني آدم وعلى ايديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى ومن نفعهم لبني آدم ونصحهم انهم يستغفرون لمسيئهم ويثنون على مؤمنيهم ويعينونهم على اعدائهم من الشياطين ويحرصون على مصالح العبد اضعاف حرصه على مصلحة نفسه بل يريدون له من خير الدنيا والاخرة ما لا يريده العبد ولا يخطر بباله كما قال بعض التابعين وجدنا الملائكة انصح خلق الله لعباده ووجدنا الشياطين اغش الخلق للعباد وقال تعالى الذين يحملون
(1/119)
العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وادخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم إنك انت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم فأي نصح للعباد مثل هذا الا نصح الانبياء فإذا طلب العبد العلم فقد سعى في اعظم ما ينصح به عباد الله فلذلك تحبه الملائكة وتعظمه حتى تضع اجنحتها له رضا ومحبة وتعظيما وقال ابو حاتم الرازي سمعت ابن ابي اويس يقول سمعت مالك بن انس يقول معنى قول رسول الله تضع اجنحتها يعني تبسطها بالدعاء لطالب العلم بدلا من الايدي وقال احمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة له حدثنا زكريا بن عبد الرحمن البصري قال سمعت احمد بن شعيب يقول كنا عند بعض المحدثين بالبصرة فحدثنا بحديث النبي ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم وفي المجلس معنا رجل من المعتزلة فجعل يستهزئ بالحديث فقال والله لاطرقن غدا نعلي بمسامير فأطأ بها أجنحة الملائكة ففعل ومشى في النعلين فجفت رجلاه جميعا ووقعت فيهما الاكلة وقال الطبراني سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي قال كنا نمشي في بعض ازقة البصرة إلى باب بعض المحدثين فاسرعنا المشي وكان معنا رجل ماجن منهم في دينه فقال ارفعوا ارجلكم عن اجنحة الملائكة لاتكسروها كالمستهزيء فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط وفي السنن والمسانيد من حديث صفوان ابن عسال بعسال قال قلت يا رسول الله إني جئت أطلب العلم قال مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم لتحف به الملائكة وتظله بأجنحتها فيركب بعضهم بعضا حتى تبلغ السماء الدنيامن حبهم لما يطلب وذكر حديث المسح على الخفين قال ابوعبد الله الحاكم اسناده صحيح وقال ابن عبد البر هو حديث صحيح حسن ثابت محفوظ مرفوع ومثله لا يقال بالرأي ففي هذا الحديث حف الملائكة له بأجنحتها الى
(1/120)
السماء وفي الاول وضعها اجنحتها له فالوضع تواضع وتوقير وتبجيل والحف بالاجنحة حفظ وحماية وصيانة فتضمن الحديثان تعظيم الملائكة له وحبها اياه وحياطته وحفظه فلو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظ الجزيل لكفى به شرفا وفضلا وقوله ان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الارض حتى الحيتان في الماء فإنه لما كان العالم سببا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع المهلكات وكان سعيه مفصورا على هذا وكانت نجاة العباد على يديه جوزي من جنس عمله وجعل من في السموات والأرض ساعيا في نجاته من اسباب الهلكات باستغفارهم له وإذا كانت الملائكة تستغفر للؤمنين فكيف لا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم وقد قيل ان من في السموات ومن في الارض المستغفرين
(1/121)
للعالم عام في الحيوانات ناطقها وبهيمها طيرها وغيره ويؤكد هذا قوله حتى الحيتان في الماء وحتى النملة في جحرها فقيل سبب هذا الاستغفار ان العالم يعلم الخلق مراعاة هذه الحيوانات ويعرفهم ما يحل منها وما يحرم ويعرفهم كيفية تناولها واستخدامها وركوبها والانتفاع بها وكيفية ذبحها على احسن الوجوه وارفقها بالحيوان والعالم اشفق الناس على الحيوان واقومهم ببيان ما خلق له وبالجملة فالرحمة والاحسان التي خلق بهما ولهما الحيوان وكتب لهما حظهما منه إنما يعرف بالعلم فالعالم معرف لذلك فاستحق ان تستغفر له البهائم والله أعلم وقوله وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب تشبيه مطابق لحال القمر والكواكب فان القمر يضيء الافاق ويمتد نوره في اقطار العالم وهذه حال العالم وأما الكوكب فنوره لا يجاوز نفسه او ما قرب منه وهذه حال العابد الذي يضيء نور عبادته عليه دون غيره وان جاوز نور عبادته غيره فإنما يجاوزه غير بعيد كما يجاوز ضوء الكوكب له مجاوزة يسيرة ومن هذا الاثر المروي إذا كان يوم القيامة يقول الله للعابد ادخل الجنة فإنما كانت منفعتك لنفسك ويقال للعالم اشفع تشفع فإنما كانت منفعتك للناس وروى ابن جريج عن عطاءعن ابن عباس رضى الله عنهما إذا كان يوم القيامة يؤتى بالعابد والفقيه فيقال للعابد ادخل الجنة ويقال للفقيه اشفع تشفع وفي التشبيه المذكور لطيفه اخرى وهو ان الجهل كالليل في ظلمته وجنسه والعلماء والعباد بمنزلة القمر والكواكب الطالعة في تلك الظلمة وفضل نور العالم فيها علىنور العابد كفضل نور القمر على الكواكب وايضا فالدين قوامه وزينته واضاءته بعلمائه وعباده فإذا ذهب علماؤه وعباده ذهب الدين كما ان السماء اضاءتها وزينتها بقمرها وكواكبها فإذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها اتاها ماتوعد وفضل علماء الدين على العباد كفضل ما بين القمر والكواكب فإن قيل كيف وقع تشبيه العالم بالقمر دون الشمس وهي اعظم نورا قيل
(1/122)
فيه فائدتان احداهما ان نور القمر لما كان مستفادا من غيره كان تشبيه العالم الذي نوره مستفاد من شمس الرسالة بالقمر اولى من تشبيهه بالشمس الثانية ان الشمس لا يختلف حالها في نورها ولا يلحقها محاق ولا تفاوت في الاضاءة واما القمر فإنه يقل نوره ويكثر ويمتليء وينقص كما ان العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلته فيفضل كل منهم في علمه بحسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه كما يكون القمر كذلك فعالم كالبدر ليلة تمه وآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وما بعدها إلى آخر مراتبه وهم درجات عند الله فإن قيل تشبيه العلماء بالنجوم أمر معلوم كقوله اصحابي كالنجوم ولهذا هي في تعبير الرؤيا عبارة عن العلماء فكيف وقع تشبيههم هنا بالقمر قيل اما تشبيه العلماء بالنجوم فإن النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكذلك العلماء والنجوم زينة للسماء
(1/123)
فكذلك العلماء زينة للآرض وهي رجوم للشياطين حائلة بينهم وبين استراق السمع لئلا يلبسوا بما يسترقونه من الوحي الوارد الى الرسل من الله على ايدي ملائكته وكذلك العلماء رجوم لشياطين الانس والجن الذي يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا فالعلماء رجوم لهذا الصنف من الشياطين ولولاهم لطمست معالم الدين بتلبيس المضلين ولكن الله سبحانه اقامهم حراسا وحفظه لدينه ورجوما لاعدائه واعداء رسله فهذا وجه تشبيههم بالنجوم وأما تشبههم بالقمر فذلك كان في مقام تفضيلهم على اهل العبادة المجردة وموازنة ما بينهما من الفضل والمعنى انهم يفضلون العباد الذين ليسوا بعلماء كما يفضل القمر سائر الكواكب فكل من التشبهين لائق بموضعه والحمد لله وقوله ان العلماء ورثة الانبياء هذا من اعظم المناقب لاهل العلم فإن الانبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه الى ورثته اذهم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما ارسلوا به الا العلماء كانوا احق الناس بميراثهم وفي هذا تنبيه على انهم اقرب الناس اليهم فإن الميراث إنا يكون لاقرب الناس الى الموروث وهذا كما انه ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة والله يختص برحمته من يشاء وفيه ايضا ارشاد وامر للأمة بطاعهم واحترامهم وتعزيزهم وتوفيرهم وإجلالهم فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة وخلفاؤهم فيهم وفيه تنبيه على ان محبتهم من الدين وبغضهم مناف للدين كما هو ثابت لموروثهم وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم قال على كرم الله وجهه ورضى عنه محبة العلماء دين يدان به وقال فيما يروى عن ربه عز وجل من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وورثة الانبياء سادات اولياء لله عز وجل وفيه تنبيه للعلماء على سلوك هدى الانبياء وطريقتهم في التبليغ من الصبر والاحتمال ومقابلة إساءة الناس اليهم بالاحسان
(1/124)
والرفق بهم واستجلابهم الى الله باحسن الطرق وبذل ما يمكن من النصيحة لهم فإنه بذلك يحصل له نصيبهم من هذا الميراث العظيم قدره الجليل خطره وفيه ايضا تنبيه لاهل العلم علىتربية الامة كما يربى الوالد ولده فيبربونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره وتحميلهم منه ما يطيقون كما يفعل الاب بولده الطفل في ايصال الغذاء اليه فإن ارواح البشر بالنسبة الى الانبياء والرسل كالاطفال بالنسبة الى آبائهم بل دون هذه النسبة بكثير ولهذا كل روح لم تربها الرسل لم تفلح ولم تصلح لصالحه كما قيل ومن لا يربيه الرسول ويسقه لبانا له قد در من ثدي قدسه فذاك لقيط ماله نسبة الولا ولا يتعدى طور ابناء جنسه وقوله ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم هذا من كمال الانبياء وعظم
(1/125)
نصحهم للأمم وتمام نعمة الله عليهم وعلى اممهم ان ازاح جميع العلل وحسم جميع المواد التي توهم بعض النفوس ان الانبياء من وجنس الملوك الذين يريدون الدنيا وملكها فحماهم الله سبحانه وتعالى من ذلك اتم الحماية ثم لما كان الغالب على الناس ان احدهم يريد الدنيا لولده من بعده ويسعى ويتعب ويحرم نفسه لولده سد هذه الذريعة عن انبيائه ورسله وقطع هذا الوهم الذي عساه ان يخالط كثيرا من النفوس التي تقول فلعله ان لم يطلب الدنيا لنفسه فهو يحصلها لولده فقال نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركنا هو صدقة فلم تورث الانبياء دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم واما قوله تعالى وورث سليمان داود فهو ميراث العلم والنبوة لا غير وهذا باتفاق اهل العلم من المفسرين وغيرهم وهذا لان داود عليه السلام كان له اولاد كثيرة سوى سليمان فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمان مختصا به وايضا فإن كلام الله يصان عن الاخبار بمثل هذا فإنه بمنزلة ان يقال مات فلان وورثه ابنه ومن المعلوم ان كل احد يرثه ابنه وليس في الاخبار بمثل هذا فائدة وايضا فإن ما قبل الاية وما بعدها يبين ان المراد بهذه الوراثة وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال قال تعالى ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داوود وإنما سيق هذا لبيان فضل سليمان وما خصه الله به من كرامته وميراثه ما كان لابيه من اعلى المواهب وهو العلم والنبوة ان هذا لهو الفضل المبين وكذلك قول زكريا عليه الصلاة والسلام وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة الى الله وإلا فلا يظن بني كريم انه يخاف عصبته ان يرثوه ماله فيسأل الله العظيم ولدا يمنعهم ميراثه ويكون احق به منهم وقد نزه الله انبياءه ورسله عن هذا وأمثاله فبعدا لمن حرف كتاب الله ورد على
(1/126)
رسوله كلامه ونسب الانبياء الى ما هم برآء منزهون عنه والحمد لله على توفيقه وهدايته ويذكر عن ابي هريرة رضى الله عنه انه مر بالسوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم فقال انتم ههنا فيما انتم فيه وميراث رسول الله يقسم في مسجده فقاموا سراعا الى المسجد فلم يجدوا فيه الا القرآن والذكر ومجالس العلم فقالوا اين ما قلت يا أبا هريرة فقال هذا ميراث محمد يقسم بين ورثته وليس بمواريثكم ودنياكم او كما قال وقوله فمن اخذه اخذ بحظ وافر اعظم الحظوظ واجداها مانفع العبد ودام نفعه له وليس هذا الا حظه من العلم والدين فهو الحظ الدائم النافع الذي إذا انقطعت الحظوظ لاربابها فهو موصول له ابد الابدين وذلك لانه موصول بالحي الذي لا يموت فلذلك لاينقطع ولا يفوت وسائر الحظوظ تعدم وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها كما قال تعالى وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءمنثورا فإن الغاية لما كانت منقطعة زائلة تبعتها اعمالهم فانقطعت
(1/127)
عنهم احوج ما يكون العامل الى عمله وهذه هي المصيبة التي لا تجبر عياذا بالله واستعانة به وافتقارا وتوكلا عليه ولا حول ولا قوة الا بالله وقوله موت العالم مصيبة لاتجبر وثلمة لا تسد ونجم طمس وموت قبيلة ايسر من موت عالم لما كان صلاح الوجود بالعلماء ولولاهم كان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا كان موت العالم مصيبة لا يجبرها الا خلف غيره له وايضا فإن العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك فموتهم فساد لنظام العالم ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم خالفا عن سالف يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده وتأمل إذا كان في الوجود رجل قد فاق العالم في الغنى والكرم وحاجتهم الى ما عنده شديدة وهو محسن اليهم بكل ممكن ثم مات وانقطعت عنهم تلك المادة فموت العالم اعظم مصيبة من موت مثل هذا بكثير ومثل هذا يموت بموته أمم وخلائق كما قيل : تعلم ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير وقال آخر فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما والوجه الثامن والاربعون ما روى الترمذي من حديث الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله فقيه اشد على الشيطان من الف عابد قال الترمذي غريب لانعرفه الا من هذا الوجه من حديث الوليد بن مسلم قلت قد رواه ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي اليقطيني حدثنا عمر بن سعيد بن سنان حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابي هريرة عن النبي قال الخطيب والاول هو المحفوظ عن روح مجاهد عن ابن عباس وما أرى الوهم وقع في هذا الحديث إلا من ابي جعفر لان عمر بن سنان عنده عن هشام بن عمار عن الوليد عن روح عن الزهري عن سعيد حديث في السماء بيت يقال له البيت المعمور حيال الكعبة وحديث ابن عباس كانا في كتاب ابن سنان عن هشام يتلو احدهما الاخر فكتب ابو جعفر
(1/128)
اسناد حديث ابي هريرة رضى الله عنه ثم عارضه لسهو اوزاغ نظره فنزل الى متن حديث ابن عباس فركب متن هذا على اسناد هذا وكل واحد منهما ثقة مأمون برئ من تعمد الغلط وقد رواه ابو احمد بن عدي عن محمد بن سعيد بن مهران حدثنا شيبان ابو الربيع السمان عن ابي الزناد عن الاعرج عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله لكل شيء دعامة ودعامة الاسلام الفقه في الدين والفقيه اشد على الشيطان من ألف عابد ولهذا الحديث علة وهو انه روى من كلام ابي هريرة وهو اشبه رواه همام بن يحيى حدثنا يزيد بن عياض حدثنا صفوان بن سليم عن سليمان عن يسار عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ما عبد الله بشيء افضل من فقه في الدين قال وقال ابو هريرة لان افقه ساعة احب الي من ان احيي ليلة اصليها حتى اصبح والفقيه اشد على الشيطان من ألف عابد ولكل شيء دعامة ودعامة الدين الفقه وقد روى باسناد فيه من لا يحتج به من حديث عاصم بن ابي النجودعن زر بن حبيش عن عمر بن الخطاب يرفعه ان الفقيه اشد على الشيطان من الف ورع وألف مجتهد والف متعبد وقال المزني روى عن ابن عباس انه قال ان الشياطين قالوا لابليس يا سيدنا مالنا نراك تفرح بموت العالم مالا تفرح بموت العابد والعالم لا نصيب منه والعابد نصيب منه قال انطلقوا فانطلقوا الى عابد فاتوه في عبادته فقالوا إنا نريد ان نسألك فانصرف فقال ابليس هل يقدر ربك ان يجعل الدنيا في جوف بيضة فقال لا أدري فقال اترونه كفر في ساعة ثم جاؤوا الى عالم في حلقته يضحك اصحابه ويحدثهم فقالوا إنا نريد ان نسألك فقال سل فقال هل يقدر ربك ان يجعل الدنيا في جوف بيضة قال نعم قالوا كيف قال يقول كن فيكون فقال أترون ذلك لا يعدو نفسه وهذا يفسد على عالما كثيرا وقد رويت هذه الحكاية على وجه آخر وإنهم سألوا العابد فقالوا هل يقدر ربك أن يخلق مثل نفسه فقال لاادري فقال اترونه لم تنفعه عبادته مع جهله وسألوا عن ذلك فقال هذه المسألة
(1/129)
محال لأنه لو كان مثله لم يكن مخلوقا فكونه مخلوقا وهو مثل نفسه مستحيل فإذا كان مخلوقا لم يكن مثله بل كان عبدا من عبيده وخلقا من خلقه فقال أترون ذلك اترون هذا يهدم في ساعة ما ابنيه في سنين اوكما قال وروى عن عبد الله بن عمرو فضل العالم على العابد سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس سبعين عاما وذلك ان الشيطان يضع البدعة فيبصرها العالم وينهى عنها والعابد مقبل على عبادة ربه لا يتوجه لها ولا يعرفها وهذا معناه صحيح فإن العالم يفسد على الشيطان ما يسعى فيه ويهدم ما يبنيه فكل ما أراد إحياء بدعة وإماتة سنة حال العالم بينه وبين ذلك فلا شيء اشد عليه من بقاء العالم بين ظهراني الامة ولا شيء احب اليه من زواله من بين اظهرهم ليتمكن من إفساد الدين وإغواء الامة وأما العابد فغايته ان يجاهده ليسلم منه في خاصة نفسه وهيهات له ذلك الوجه التاسع والاربعون ما روى الترمذي من حديث ابي هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم قال الترمذي هذا حديث حسن ولما كانت الدنيا حقيرة عند الله لاتساوي لديه جناح بعوضة كانت وما فيها في غاية البعد منه وهذا هو حقيقة اللعنة وهو سبحانه إنما خلقها مزرعة للآخرة ومعبرا اليها يتزود منها عبادة اليه فلم يكن يقرب منها إلا ما كان متضمنا
(1/130)
لاقامة ذكره ومفضيا الى محابه وهوالعلم الذي به يعرف الله ويعبد ويذكر ويثنى عليه ويمجد ولهذا خلقها وخلق اهلها كما قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون وقال الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما فتضمنت هاتان الايتان انه سبحانه إنما خلق السموات والارض وما بينهما ليعرف باسمائه وصفاته وليعبد فهذا المطلوب وما كان طريقا اليه من العلم والتعلم فهو المستثنى من اللعنة واللعنة واقعة على ما عداه إذ هو بعيد عن الله وعن محابه وعن دينه وهذا هو متعلق العقاب في الاخرة فإنه كما كان متعلق اللعنة التي تضمن الذم والبغض فهو متعلق العقاب والله سبحانه إنما يحب من عباده ذكره وعبادته ومعرفته ومحبته ولوازم ذلك وما افضى اليه وما عداه فهو مبغوض له مذموم عنده الوجه الخمسون ما رواه الترمذي من حديث ابي جعفر الرازي عن الربيع بن انس قال قال رسول الله من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع قال الترمذي هذا حديث حسن غريب رواه بعضهم فلم يرفعه وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله لان به قوام الاسلام كما ان قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد ولهذا كان الجهاد نوعين جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير والثاني الجهاد بالحجة والبيان وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الائمة وهو افضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة اعدائه قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلاتطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين وهو جهاد المنافقين ايضا فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوامعهم في الظاهر وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومعلوم ان جهاد المنافقين بالحجة والقرآن والمقصود ان
(1/131)
سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به الى الله ولهذا قال معاذ رضى الله عنه عليكم بطلب العلم فإن تعلمه لله خشية ومدارسته عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد ولهذا قرن سبحانه بين الكتاب المنزل والحديد الناصر كما قال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب واميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين كما قيل : فما هو إلا الوحي اوحدمرهف تميل ظباه اخدعا كل ما يل فهذا شفاء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيل الله فسر الصحابة رضى الله عنهم
(1/132)
قوله اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم بالامراء والعلماء فإنهم المجاهدون في سبيل الله هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بالسنتم بألسنتهم فطلب العلم وتعليمه من اعظم سبيل الله عز وجل قال كعب الاحبار طالب العلم كالغادي الرايح في سبيل الله عز وجل وجاء عن بعض الصحابة رضى الله عنهم إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد وقال سفيان بن عيينة من طلب العلم فقد بايع الله عز وجل وقال ابو الدرداء من رأى الغدو والرواح الى العلم ليس بجهاد فقد نقص في عقله ورأيه الوجه الحادي والخمسون ما رواه الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا ابو اسامة عن الاعمش عن ابي صالح عن ابي هريرة قال قال رسول الله من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا الى الجنة قال الترمذي هذا حديث حسن قال بعضهم ولم يقل في هذا الحديث صحيح لانه يقال دلس الاعمش في هذا الحديث لانه رواه بعضهم فقال حدثت عن ابي صالح والحديث رواه مسلم في صحيحه من اوجه عن الاعمش عن ابي صالح قال الحاكم في المستدرك هو صحيح على شرط البخاري ومسلم رواه عن الاعمش جماعة منهم زايدة وأبو معاوية وابن نمير وقد تقدم حديث ابي الدرداء في ذلك والحديث محفوظ وله اصل وقد تظاهر الشرع والقدر على ان الجزاء من جنس العمل فكما سلك طريقا يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك سلك الله به طريقا يحصل له ذلك وقد روى من حديث عائشة رواه ابن عدي من حديث محمد بن عبد الملك الانصاري عن الزهري عن عروة عنها مرفوعا ولفظه اوحى الله الى انه من سلك مسلكا يطلب العلم سهلت له طريقا الى الجنة الوجه الثاني الخمسون ان النبي دعا لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه ففي الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود عن النبي قال نضر الله امرا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه الى من هو افقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم اخلاص العمل لله ومناصحة ائمة
(1/133)
المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم وروى هذا الاصل عن النبي ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وجبير بن مطعم وانس بن مالك وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير قال الترمذي حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح وحديث زيد بن ثابت حديث حسن وأخرج الحاكم في صحيحه حديث جبير بن مطعم والنعمان بن بشير وقال في حديث جبير على شرط البخاري ومسلم ولو لم يكن في فضل العلم الا هذا وحده لكفى به شرفا فإن النبي دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه وهذه هي مراتب العلم اولها وثانيها سماعه وعقله فإذا سمعه وعاه بقلبه أي عقله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه
(1/134)
وكذلك عقله هو بمنزلة عقل البعير والدابة ونحوها حتى لا تشرد وتذهب ولهذا كان الوعي والعقل قدرا زائدا على مجرد إدراك المعلوم المرتبة الثالثة تعامده وحفظه حتى لاينساه فيذهب المرتبة الرابعة تبليغه وبثه في الامة ليحصل به ثمرته ومقصوده وهو بثه في الامة فهو بمنزلة الكنز المدفون في الارض الذي لا ينفق منه وهو معرض لذهابه فإن العلم ما لم ينفق منه ويعلم فإنه يوشك ان يذهب فإذا انفق منه نما وزكا على الانفاق فمن قام بهذه المراتب الاربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن فإن النضرة هي البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الايمان وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارة على الوجه ولهذا يجمع له سبحانه بين البهجة والسرور والنضرة كما في قوله تعالى فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا فالنضرة في وجوههم والسرور في قلوبهم فالنعيم وطيب القلب يظهر نضارة في الوجه كما قال تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم والمقصود ان هذه النضرة في وجه من سمع سنة رسول الله ووعاها وحفظها وبلغها فهي اثر تلك الحلاوة والبهجة والسرور الذي في قلبه وباطنه وقوله رب حامل فقه الى من هو افقه منه تنبيه على فائدة التبليغ وان المبلغ قد يكون افهم من المبلغ فيحصل له في تلك المقالة ما لم يحصل للمبلغ او يكون المعنى ان المبلغ قد يكون افقه من المبلغ فإذا سمع تلك المقالة حملها على احسن وجوهها واستنبط فقهها وعلم المراد منها وقوله ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إلى آخره اي لايحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة فإنها تنفى الغل والغش وهو فساد القلب وسخايمه فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة لانه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل والغش كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فلما اخلص لربه صرف عنه
(1/135)
دواعي السوء والفحشاء فانصرف عنه السوء والفحشاء ولهذا لما علم ابليس انه لا سبيل له على اهل الاخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والاهلاك فقال فبعزتك لاغوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فالاخلاص هو سبيل الخلاص والإسلام هو مركب السلامة والايمان خاتم الامان وقوله ومناصحة ائمة المسلمين هذا ايضا مناف للغل والغش فإن النصيحة لا تجامع الغل إذ هي ضده فمن نصح الائمة والامة فقد برئ من الغل وقوله ولزوم جماعتهم هذا ايضا مما يطهر القلب من الغل والغش فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها ويسوؤه ما يسؤوهم ويسره ما يسرهم وهذا بخلاف من انجاز عنهم واشتغل بالطعن
(1/136)
عليهم والعيب والذم لهم كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم فإن قلوبهم ممتلئة نحلا وغشا ولهذا تجد الرافضة ابعد الناس من الاخلاص اغشهم للائمة والامة واشدهم بعدا عن جماعة المسلمين فهؤلاء اشد الناس غلا وغشا بشهادة الرسول والامة عليهم وشهادتهم على انفسهم بذلك فانهم لايكونون قط الا اعوانا وظهرا على اهل الاسلام فاي عدو قام للمسلمين كانوا اعوان ذلك العدو وبطانته وهذا امر قد شاهدته الامة منهم ومن لم يشاهد فقد سمع منه ما يصم الاذان ويشجي القلوب وقوله فإن دعوتهم تحيط من ورائهم هذا من احسن الكلام وأوجزه وافخمه معنى شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم المانع من دخول عدوهم عليهم فتلك الدعوة التي هي دعوة الاسلام وهم داخلونها لما كانت سورا وسياجا عليهم اخبر ان من لزم جماعة المسلمين احاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الاسلام كما احاطت بهم فالدعوة تجمع شمل الامة وتلم شعثها وتحيط بها فمن دخل في جماعتها احاطت به وشملته الوجه الثالث والخمسون ان النبي امر بتبليغ العلم عنه ففي الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمرو قال قال رسول الله بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وقال ليبلغ الشاهد منكم الغائب روى ذلك ابو بكرة ووابصة بن معبد وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس واسماء بنت يزيد بن السكن وحجير وابو قريع وسرى بنت نبهان ومعاوية بن حيدة القشيري وعم ابي حرة وغيرهم فأمر بالتبلغ عنه لما في ذلك من حصول الهدى بالتبلغ وله اجر من بلغ عنه واجر من قبل ذلك البلاغ وكلما كثر التبلغ عنه تضاعف له الثواب فله من الاجر بعدد كل مبلغ وكل مهتد بذلك البلاغ سوى ماله من اجر عمله المختص به فكل من هدى واهتدى بتبليغه فله اجره لانه هو الداعي اليه ولو لم يكن في تبليغ العلم عنه الا حصول ما يحبه لكفى به فضلا وعلامة المحب الصادق ان يسعى في حصول محبوب محبوبه
(1/137)
ويبذل جهده وطاقته فيها ومعلوم انه لا شيء احب الى رسول الله من ايصاله الهدى الى جميع الامة فالمبلغ عنه ساع في حصول محابه فهو اقرب الناس منه واحبهم اليه وهو نائبه وخليفته في امته وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم واهله الوجه الرابع والخمسون ان النبي قدم بالفضائل العلمية في أعلا الولايات الدينية واشرفها وقدم بالعلم بالافضل على غيره فروى مسلم في صحيحه من حديث ابي مسعود البدري عن النبي يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فاقدمهم إسلاما او سنا وذكر الحديث فقدم في الامامة تفضيله العلم علىتقدم الاسلام والهجرة ولما كان
(1/138)
العلم بالقرآن افضل من العلم بالسنة لشرف معلومه على معلوم السنة قدم العلم به ثم قدم العلم بالسنة على تقدم الهجرة وفيه من زيادة العمل ماهو متميز به لكن إنما راعى التقديم بالعلم ثم بالعمل وراعى التقديم بالعلم بالافضل على غيره وهذا يدل على شرف العلم وفضله وإن اهله هم اهل التقدم الى المراتب الدينية الوجه الخامس والخمسون ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي انه قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها وتعلم معانيه وتعليمها وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود واللفظ وسيلة اليه فنعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما كما بين الغايات والوسائل الوجه السادس والخمسون ما رواه الترمذي وغيره في نسخة عمرو ابن الحارث عن دراج عن ابي الهيثم عن ابي سعيد عن النبي قال لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وهذه نسخةمعروفة رواها الناس وساق احمد في المسند أكثرها او كثيرا منها ولهذا الحديث شواهد فجعل النبي النهمة في العلم وعدم الشبع منه من لوازم الايمان واوصاف المؤمنين واخبر ان هذا لا يزال دأب المؤمن حتى دخوله الجنة ولهذا كان أئمة الاسلام إذا قيل لاحدهم الى متى تطلب العلم فيقول الى الممات قال نعيم ابن حماد سمعت عبد الله بن المبارك رضى الله عنه يقول وقد عابه قوم في كثرة طلبه للحديث فقالوا له الى متى تسمع قال إلى الممات وقال الحسين بن منصور الخصاص قلت لاحمد بن حنبل رضى الله عنه الى متى يكتب الرجل الحديث قال الى الموت وقال عبد الله بن محمد البغوي سمعت احمد بن حنبل رضى الله عنه يقول إنما اطلب العلم الى ان ادخل القبر وقال محمد بن إسماعيل الصائغ كنت اصوغ مع ابي ببغداد فمر بنا احمد بن حنبل وهو يعدو ونعلاه في يديه فأخذ ابي
(1/139)
بمجامع ثوبه فقال يا ابا عبد الله الا تستحي إلى متى تعدو مع هؤلاء قال إلى الموت وقال عبد الله بن بشر الطالقاني ارجو ان يأتيني أمر ابي والمحبرة بين يدي ولم يفارقني العلم والمحبرة وقال حميد بن محمد بن يزيد البصري جاء ابن بسطام الحافظ يسألني عن الحديث فقلت له ما اشد حرصك على الحديث فقال او ما احب ان اكون في قطار آل رسول الله وقيل لبعض العلماء متى يحسن بالمرء ان يتعلم قال ما حسنت به الحياة وسئل الحسن عن الرجل له ثمانون سنة ايحسن ان يطلب العلم قال إن كان يحسن به ان يعيش الوجه السابع والخمسون ما رواه الترمذي ايضا من حديث إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها قال الترمذي هذا
(1/140)
حديث غريب لانعرفه الا من هذا الوجه وإبراهيم ابن الفضل المديني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه وهذا ايضا شاهد لما تقدم وله شواهد والحكمة هي العلم فإذا فقده المؤمن فهو بمنزلة من فقد ضالة نفيسة من نفائسه فإذا وجدها قر قلبه وفرحت نفسه بوجدانها كذلك المؤمن إذا وجد ضالة قلبه وروحه التي هو دائما في طلبها ونشدانها والتفتيش عليها وهذا من احسن الامثلة فإن قلب المؤمن يطلب العلم حيث وجده اعظم من طلب صاحب الضالة لها الوجه الثامن والخمسون قال الترمذي حدثنا ابو كريب حدثنا خلف بن ايوب عن عوف عن ابن سيرين عن ابي هريرة رضى الله عنه عن النبي خصلتان لا يجتمعان في منافق حسن سمت وفقه في الدين قال الترمذي هذا حديث غريب ولا يعرف هذا الحديث من حديث عوف الا من حديث هذا الشيخ خلف بن أيوب العامري ولم أر احدا يروى عنه غير ابي كريب محمد بن العلاء ولا أدري كيف هو وهذه شهادة بان من اجتمع فيه حسن السمت والفقه في الدين فهو مؤمن واحرى بهذا الحديث ان يكون حقا وإن كان اسناده فيه جهالة فان حسن السمت والفقه في الدين من اخص علامات الايمان ولن يجمعهما الله في منافق فان النفاق ينافيهما وينافيانه الوجه التاسع والخمسون قال الترمذي حدثنا مسلم ابن حاتم الانصاري حدثنا ابوحاتم البصري حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري عن ابيه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال قال انس بن مالك رضى الله عنه قال رسول الله يا بني ان قدرت ان تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لاحد فافعل ثم قال يا بني وذلك من سنتي ومن احيا سنتي فقد احبني ومن احبني كان معي في الجنة وفي الحديث قصة طويلة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ومحمد بن عبد الله الانصاري صدوق وابوه ثقة وعلي بن زيد صدوق الا انه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره سمعت محمد بن بشارة يقول قال ابو الوليد قال شعبة حدثنا على بن زيد وكان رفاعا قال الترمذي ولا يعرف لسعيد من السميب عن انس رواية
(1/141)
الا هذا الحديث بطوله وقد روى عباد المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن انس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب وذاكرت به محمد بن اسمعيل فلم يعرفه ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن انس هذا الحديث ولا غيره ومات انس سنة ثلاث وتسعين وسعيد بن المسيب سنة خمس وتسعين بعده بسنتين قلت ولهذا الحديث شواهد منها ما رواه الدارمي عبد الله حدثنا محمد بن عيينة عن مروان بن معاوية الفزاري عن كثير ابن عبد الله عن ابيه عن جده ان النبي قال لبلال بن الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول الله قال اعلم يا بلال قال ما اعلم يا رسول الله قال انه من احيا سنة من سنني قد اميتت بعدي كان له من الاجر مثل من عمل بها من غير ان ينقص من اجورهم شيء ومن ابتدع
(1/142)
بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من اوزار الناس شيئا رواه الترمذي عنه وقال حديث حسن قال ومحمد بن عيينة مصيصي شامي وكثير ابن عبد الله هو ابن عمرو بن عوف المزني وفي حديثه ثلاثة اقوال لاهل الحديث منهم من يصححه ومنهم من يحسنه وهما للترمذي ومنهم من يضعفه ولا يراه حجة كالامام احمد وغيره ولكن هذا الاصل ثابت من وجوه كحديث من دعا الى هدى كان له من الاجر مثل احور من اتبعه وهو صحيح من وجوه وحديث من دل على خير فله مثل اجر فاعله وهو حديث حسن رواه الترمذي وغيره فهذا الاصل محفوظ عن النبي فالحديث الضعيف فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات فلا يضر ذكره الوجه الستون ان النبي اوصى بطلبه العلم خيرا وما ذاك الا لفضل مطلوبهم وشرفه قال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابو داود الحفري عن سفيان عن ابي هرون قال كنا نأتي ابا سعيد فيقول مرحبا بوصية رسول الله ان النبي قال ان الناس لكم تبع وان رجالا يأتونكم من اقطار الارض يتفقهون في الدين فإذا اتوكم فاستوصوا بهم خيرا حدثنا قتيبة حدثنا روح بن قيس عن ابي هرون العبدي عن ابي سعيد الخدري عن النبي قال يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون فإذا جاؤكم فاستوصوا بهم خيرا فكان ابو سعيد إذا رآنا قال مرحبا بوصية رسول الله قال الترمذي هذا حديث لانعرفه الا من حديث ابي هرون العبدي عن ابي سعيد قال ابو بكر العطار قال علي ابن المديني قال يحيى بن سعيد كان شعبة يضعف ابا هرون العبدي قال يحيى وما زال ابن عوف يروى عن ابي هرون حتى مات وأبو هرون اسمه عمارة بن جوين الوجه الحادي والستون ما رواه الترمذي من حديث ابي داود عن عبد الله بن سنحبرة عن سنحبرة عن النبي قال من طلب العلم كان كفارة لما مضى هذا الاصل لم اجد فيه الا هذا الحديث وليس بشيء فان ابا داود هو نفيع الاعمى غير ثقة ولكن قد تقدم ان العالم يستغفر له من في السموات ومن في الارض وقد رويت آثار
(1/143)
عديدة عن جماعة من الصحابة في هذا المعنى منها ما رواه الثوري عن عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عباس ان ملكا موكلا بطالب العلم حتى يرده من حيث ابداه مغفورا له ومنها ما رواه قطر بن خليفة عن ابي الطفيل عن علي ما انتعل عبد قط ولا تخفف ولا لبس ثوبا ليغدو في طلب العلم إلا غفرت ذنوبه حيث يخطو عند باب بيته وقد رواه ابن عدي مرفوعا وقال ليس يرويه عن قطر غير اسمعيل ابن يحيى التميمي قلت وقد رواه اسمعيل بن يحيى هذا عن الثوري حدثنا محمد بن ايوب الجوزجاني عن مجالد عن الشعبي عن الاسود عن عائشة مرفوعا من انتعل ليتعلم خيرا غفر له قبل ان
(1/144)
يخطو وقد رواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن قطر عن ابي الطفيل عن علي وهذه الاسانيد وان لم تكن بمفردها حجة فطلب العلم من افضل الحسنات والحسنات يذهبن السيئات فجدير ان يكون طلب العلم ابتغاء وجه الله يكفر ماضي من السيئات فقد دلت النصوص ان اتباع السيئة الحسنة تمحوها فكيف بما هو من افضل الحسنات واجل الطاعات فالعمدة على ذلك لاعلى حديث ابي داود والله اعلم وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبال تهامة فإذا سمع العلم خاف ورجع وتاب فانصرف الى منزله وليس عليه ذنب فلاتفارقوا مجالس العلماء الوجه الثاني والستون ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال خرج رسول الله فإذا في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله تعالى ويسألونه فقال كلا المجلسين إلى خير اماهؤلاء فيدعون الله وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل هؤلاء افضل بالتعليم ارسلت ثم قعد معهم الوجه الثالث والستون ان الله تبارك وتعالى يباهي ملائكته بالقوم الذين يتذاكرون العلم ويذكرون الله ويحمدونه علىما من عليهم به منه قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار حدثنا ابو نعامة عن ابي عثمان عن ابي سعيد قال خرج معاوية الى المسجد فقال م يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله عز وجل قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني لم استحلفكم تهمة لكم وما كان احد بمنزلتي من رسول الله اقل حديثا عنه مني ان رسول الله ص عليه وآله وسلم خرج على حلقة من اصحابه قال ما يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للاسلام ومن علينا بك قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني لم استحلفكم تهمة لكم انه اتاني جبريل فأخبرني ان الله تعالى يباهي بكم الملائكة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه
(1/145)
وابو نعامة السعدي اسمه عمرو بن عيسى وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدون الله بذكر اوصافه وآلائه ويثنون عليه بذلك ويذكرون حسن الإسلام ويعترفون لله بالفضل العظيم إذ هداهم له ومن عليهم برسوله وهذا اشرف علم على الاطلاق ولا يعني به الا الراسخون في العلم فإنه يتضمن معرفة الله وصفاته وافعاله ودينه ورسوله ومحبة ذلك وتعظيمه والفرح به وأحرى بأصحاب هذا العلم ان يباهي الله بهم الملائكة وقد بشر النبي الرجل الذي كان يحب سورة الاخلاص وقال احبها لانها صفة الرحمن عز وجل فقال حبك اياها ادخلك الجنة وفي لفظ آخر اخبروه ان الله يحبه فدل على ان من احب صفات الله احبه الله وأدخله الجنة والجهمية اشد الناس نفرة وتنفيرا عن صفاته ونعوت كماله يعاقبون ويذمون من
(1/146)
يذكرها ويقرؤها ويجمعها ويعتني بها ولهذا لهم المقت والذم عند الامة وعلى لسان كل عالم من علماء الاسلام والله تعالى اشد بغضا ومقتا لهم جزاء وفاقا الوجه الرابع والستون ان افضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة فالله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس وكيف لا يكون افضل الخلق عند الله من جعلهم وسائط بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وتعريف اسمائه وصفاته وأفعاله واحكامه ومراضيه ومساخطه وثوابه وعقابه وخصهم بوحيه واختصهم بتفضيله وارتضاهم لرسالته إلى عباده وجعلهم ازكى العالمين نفوسا واشرفهم اخلاقا واكملهم علوما واعمالا واحسنهم خلقة واعظمهم محبة وقبولا في قلوب الناس وبرأهم من كل وصم وعيب وكل خلق دنيء وجعل اشرف مراتب الناس بعدهم مرتبة خلافتهم ونيابتهم في اممهم فانهم يخلفونهم على منهاجهم وطريقهم من نصيحتهم للأمة وارشادهم الضال وتعليمهم الجاهل ونصرهم المظلوم واخذهم على يد الظالم وامرهم بالمعروف وفعله ونهيهم عن المنكر وتركه والدعوة الى الله بالحكمة للمستجيبين والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين والجدال بالتي هي احسن للمعاندين المعارضين فهذه حال اتباع المرسلين وورثه النبيين قال تعالى قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسواء كان المعنى أنا ومن اتبعني على بصيرة وانا ادعو الى الله او المعنى ادعو الى الله على بصيرة والقولان متلازمان فإنه لا يكون من اتباعه حقا إلا من دعا الى الله على بصيرة كما كان متبوعه يفعل فهؤلاء خلفاء الرسل حقا وورثتهم دون الناس وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به علما وعملا وهداية وارشادا وصبرا وجهادا وهؤلاء هم الصديقون وهم افضل اتباع الانبياء ورأسهم وإمامهم الصديق الاكبر ابو بكر رضى الله عنه قال الله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما
(1/147)
فذكر مراتب السعداء وهي اربعة وبدأ باعلاهم مرتبة ثم الذين يلونهم إلى آخر المراتب وهؤلاء الاربعة هم اهل الجنة الذين هم اهلها جعلنا الله منهم بمنه وكرمه الوجه الخامس والستون ان الانسان إنما يميز على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان وإلا فغيره من الدواب والسباع أكثر أكلا منه واقوى بطشا وأكثر جماعا واولادا واطول اعمارا وإنما ميز على الدواب والحيوانات بعلمه وبيانه فإذا عدم العلم بقى معه القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب وهي الحيوانية المحضة فلا يبقى فيه فضل عليهم بل قد يبقى شرا منهم كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون فهؤلاء هم الجهال ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أي ليس عندهم محل قابل للخير ولو كان محلهم قابلا للخير لاسمعهم أي
(1/148)
لافهمهم والسمع ههنا سمع فهم والا فسمع الصوت حاصل لهم وبه قامت حجة الله عليهم قال تعالى ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وقال تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بمالا يسمع الا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون وسواء كان المعنى ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع من الدواب إلا اصواتا مجردة او كان المعنى ومثل الذين كفروا حين ينادون كمثل دواب الذي ينعق بها فلا تسمع الا صوت الدعاء والنداء فالقولان متلازمان بل هما واحد وإن كان التقدير الثاني اقرب إلى اللفظ وأبلغ في المعنى فعلى التقديرين لم يحصل لهم من الدعوة إلا الصوت الحاصل للأنعام فهؤلاء لم يحصل لهم حقيقة الانسانية التي يميز بها صاحبها عن سائر الحيوان والسمع يراد به ادراك الصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به القبول والاجابة والثلاثة في القرآن فمن الاول قوله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير وهذا اصرح ما يكون في إثبات صفة السمع ذكر الماضي والمضارع واسم الفاعل سمع ويسمع وهو سميع وله السمع كما قالت عائشة رضى الله عنها الحمد لله الذي وسع سمعه الاصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله وأنا في جانب البيت وأنه ليخفى على بعض كلامها فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها والثاني سمع الفهم كقوله ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أي لافهمهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون لما في قلوبهم من الكبر والاعراض عن قبول الحق ففيهم آفتان إحداهما انهم لا يفهمون الحق لجهلهم ولو فهموه لتولوا عنه وهم معرضون عنه لكبرهم وهذا غاية النقص والعيب والثالث سمع القبول والاجابة كقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي قابلون مستجيبون ومنه قوله سماعون للكذب أي قابلون له مستجيبون لاهله ومنه قول المصلى سمع الله لمن حمده
(1/149)
أي اجاب الله حمد من حمده ودعاء من دعاه وقول النبي إذا قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم أي يجيبكم والمقصود ان الانسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيرا منه لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الانسان الجاهل الوجه السادس والستون إن العلم حاكم علىما سواه ولا يحكم عليه شيء فكل شيء اختلف في وجوده وعدمه وصحته وفساده ومنفعته ومضرته ورجحانه ونقصانه وكماله ونقصه ومدحه وذمه ومرتبته في الخير وجودته ورداءته وقربه وبعده وإفضائه إلىمطلوب كذا وعدم إفضائه وحصول المقصود به وعدم حصوله إلى سائر جهات المعلومات فإن العلم حاكم على ذلك كله فإذا حكم العلم انقطع النزاع ووجب الاتباع وهو الحاكم على الممالك والسياسات والاموال
(1/150)
والاقلام فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم وسيف بلا علم مخراق لاعب وقلم بلا علم حرمة حركةعابث والعلم مسلط حاكم على ذلك كله ولا يحكم شيء من ذلك على العلم وقد اختلف في تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء وعكسه وذكر لكل قول وجوه من التراجيح والادلة ونفس هذا النزاع دليل على تفضيل العلم ومرتبته فإن الحاكم في هذه المسئلة هو العلم فيه واليه وعنده يقع التحاكم والتخاصم والمفضل منهما من حكم له بالفضل فإن قيل فكيف يقبل حكمه لنفسه قيل وهذا ايضا دليل على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه فإن الحاكم إنما لم يسغ ان يحكم لنفسه لاجل مظنة التهمة والعلم تلحقه تهمة في حكمه لنفسه فإنه إذا حكم حكم بما تشهد العقول والنظر بصحته وتتلقاه بالقبول ويستحيل حكمه لتهمة فإنه إذا حكم بها انعزل عن مرتبته وانحط عن درجته فهو الشاهد المزكي العدل والحاكم الذي لا يجور ولا يعزل فإن قيل فماذا حكمه في هذه المسئلة التي ذكرتموها قيل هذه المسئلة كثر فيها الجدال واتسع المجال وأدلى كل منهما بحجته واستعلى بمرتبته والذي يفصل النزاع ويعيد المسالة إلىمواقع الاجماع الكلام في أنواع مراتب الكمال وذكر الافضل منهما والنظر في أي هذين الامرين اولى به واقرب اليه فهذه الاصول الثلاثة تبين الصواب ويقع بها فصل الخطاب فاما مراتب الكمال فاربع النبوة والصديقية والشهادة والولاية وقد ذكرها الله سبحانه في قوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما وذكر تعالى هؤلاء الاربع في سورة الحديد فذكر تعالى الايمان به وبرسوله ثم ندب المؤمنين الى ان تخشع قلوبهم لكتابه ووحيه ثم ذكر مراتب الخلائق شقيهم وسعيدهم فقال إن المصدقين والمصدقات واقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم اجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداءعند ربهم لهم اجرهم ونورهم والذين
(1/151)
كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب الجحيم وذكر المنافقين قبل ذلك فاستوعبت هذه الاية اقسام العباد شقيهم وسعيدهم والمقصود انه ذكر فيها المراتب الاربعة الرسالة والصديقية والشهادة والولاية فأعلا هذه المراتب النبوة والرسالة ويليها الصديقية فالصديقون هم أئمة اتباع الرسل ودرجتهم اعلا الدرجات بعد النبوة فإن جرى قلم العالم بالصديقية وسال مداده بها كان افضل من دم الشهيد الذي لم يحلقه في رتبة الصديقية وان سال دم الشهيد بالصديقية وقطر عليها كان افضل من مداد العالم الذي قصر عنها فافضلهما صديقهما فان استويا في الصديقية استويا في المرتبة والله اعلم والصديقية هي كمال الايمان بما جاء به الرسول علما وتصديقا وقياما فهي راجعة إلى نفس العلم فكل من كان اعلم بما جاء به الرسول واكمل تصديقا له كان اتم صديقية فالصديقية شجرة اصولها العلم وفروعها التصديق وثمرتها العمل فهذه كلمات
(1/152)
جامعة في مسئلة العالم والشهيد وايهما افضل الوجه السابع والستون ان النصوص النبوية قد تواترت بان افضل الاعمال إيمان بالله فهو رأس الامر والاعمال بعده على مراتبها ومنازلها والايمان له ركنان احدهما معرفة ما جاء به الرسول والعلم به والثاني تصديقه بالقول والعمل والتصديق بدون العلم والمعرفة محال فإنه فرع العلم بالشيء المصدق به فإذا العلم من الايمان بمنزلة الروح من الجسد ولاتقوم شجرة الايمان الا على ساق العلم والمعرفة فالعلم إذا اجل المطالب واسنى المواهب الوجه الثامن والستون ان صفات الكمال كلها ترجع إلى العلم والقدرة والارادة والارادة فرع العلم فإنهاتستلزم الشعور بالمراد فهي مفتقرة إلى العلم في ذاتها وحقيقتها والقدرة لا تؤثر إلا بواسطة الارادة والعلم لايفتقر في تعلقه بالمعلوم إلى واحدة منهما وأما القدرة وإلارادة فكل منها يفتقر في تعلقه بالمراد والمقدور إلى العلم وذلك يدل على فضيلته وشرف منزلته الوجه التاسع والستون ان العلم اعم الصفات تعلقا بمتعلقه واوسعها فإنه يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل والجائز والموجود والمعدوم فذات الرب سبحانه وصفاته واسماؤه معلومة له ويعلم العباد من ذلك ما علمهم العليم الخبير وأما القدرة والارادة فكل منهما خاص التعلق اما القدرة فإنما تتعلق بالممكن خاصة لابالمستحيل ولا بالواجب فهي اخص من العلم من هذا الوجه وأعم من الارادة فإن الارادة لاتتعلق الا ببعض الممكنات وهو ما أريد وجوده فالعلم اوسع وأعم وأشمل في ذاته ومتعلقه الوجه السبعون ان الله سبحانه اخبر عن اهل العلم بأنه جعلهم ائمة يهدون بأمره وياتم بهم من بعدهم فقال تعالى وجعلناهم ائمة يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا يآياتنا يوقنون وقال في موضع آخر والذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين إماما أي ائمة يقتدى بنا من بعدنا فأخبر سبحانه ان بالصبر واليقين تنال الامامة في الدين وهي ارفع
(1/153)
مراتب الصديقين واليقين هو كمال العلم وغايته فبتكميل مرتبة العلم تحصل إمامة الدين وهي ولاية آلتها العلم يختص الله بها من يشاء من عباده الوجه الحادي والسبعون ان حاجة العباد إلى العلم ضرورية فوق حاجة الجسم إلى الغذاء لان الجسم يحتاج إلى الغذاء في اليوم مرة او مرتين وحاجة الانسان إلى العلم بعدد الانفاس لان كل نفس من انفاسه فهو محتاج فيه إلى ان يكون مصاحبا لايمان او حكمة فإن فارقه الايمان او حكمة في نفس من انفاسه فقد عطب وقرب هلاكه وليس إلى حصول ذلك سبيل إلا بالعلم فالحاجة إليه فوق الحاجة إلى الطعام والشراب وقد ذكر الامام احمد هذا المعنى بعينه فقال الناس احوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب لان الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة او مرتين والعلم يحتاج اليه كل وقت الوجه الثاني والسبعون إن صاحب العلم اقل تعبا وعملا وأكثر اجرا واعتبر هذا بالشاهد فإن الصناع والإجراء يعانون
(1/154)
الاعمال الشاقة بأنفسهم والاستاذ المعلم يجلس بأمرهم وينهاهم ويريهم كيفية العمل ويأخذ اضعاف ما يأخذونه وقد اشار النبي إلى هذا المعنى حيث قال افضل الاعمال إيمان بالله ثم الجهاد فالجهاد فيه بذل النفس وغاية المشقة والايمان علم القلب وعمله وتصديقه وهو افضل الاعمال مع ان مشقة الجهاد فوق مشقته باضعاف مضاعفة وهذا لان العلم يعرف مقادير الاعمال ومراتبها وفاضلها من مفضولها وراجحها من مرجوحها فصاحبه لا يختار لنفسه الا افضل الاعمال والعامل بلا علم يظن ان الفضيلة في كثرة المشقة فهو يتحمل المشاق وإن كان ما يعانيه مفضولا ورب عمل فاضل والمفضول اكثر مشقة منه واعتبر هذا بحال الصديق فإنه افضل الامة ومعلوم ان فيهم من هو اكثر عملا وحجا وصوما وصلاة وقراءة منه قال ابو بكر بن عياش ما سبقكم ابو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه وهذا موضوع المثل المشهور من لي بمثل سيرك المدلل تمشى رويدا وتجي في الاول الوجه الثالث والسبعون ان العلم إمام العمل وقائد له والعمل تابع له ومؤتم به فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه كما قال بعض السلف من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح وألاعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له فالعمل الموافق للعلم هو المقبول والمخالف له هو المردود فالعلم هو الميزان وهو المحك قال تعالى هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا وهو العزيز الغفور قال الفضيل بن عياض هو اخلص العمل واصوبه قالوا يا ابا علي ما اخلصه واصوبه قال ان العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا فالخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة وقد قال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الاعمال سواه
(1/155)
وهو ان يكون موافقا لسنة رسول الله مرادا به وجه الله ولا يتمكن العامل من الاتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده فلولا العلم لما كان عمله مقبولا فالعلم هو الدليل على الاخلاص وهو الدليل على المتابعة وقد قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين واحسن ما قيل في تفسير الاية إنه إنما يتقبل الله عمل من اتقاه في ذلك العمل وتقواه فيه ان يكون لوجهه علىموافقة امره وهذا إنما يحصل بالعلم وإذا كان هذا منزلة العلم وموقعه علم انه اشرف شيء واجله وافضله والله أعلم الوجه الرابع والسبعون ان العامل بلا علم كالسائر بلا دليل ومعلوم ان عطب مثل هذا اقرب من سلامته
(1/156)
وان قدر سلامته اتفاقا نادرا فهو غير محمود بل مذموم عند العقلاء وكان شيخ الاسلام ابن تيمية يقول من فارق الدليل ضل السبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول قال الحسن العامل على غير علم كالسالك على غير طريق والعامل على غير علم ما يفسد اكثر مما يصلح فاطلبوا اللم طلبا لا تضروا بالعبادة واطلبوا العبادة طلبا لا تضروا بالعلم فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حى خرجوا بأسيافهم على امة محمد ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا والفرق بين هذا وبين ما قبله ان العلم مرتبته في الوجه الاول مرتبة المطاع المتبوع المقتدى به المتبع حكمه المطاع امره ومرتبته فيه فيهذا الوجه مرتبة الدليل المرشد الى المطلوب الموصل إلى الغاية الوجه الخامس والسبعون ان النبي ثبت في الصحيحين عنه انه كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدى من تشاء الى صراط مستقيم وفي بعض السنن انه كان يكبر تكبيرة الاحرام في صلاة الليل ثم يدعو بهذا الدعاء والهداية هي العلم بالحق مع قصده وإيثاره على غيره فالمهتدي هو العامل بالحق المريد له وهي اعظم نعمة لله على العبد ولهذا امرنا سبحانه ان نسأله هداية الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس فإن العبد محتاج الى معرفة الحق الذي يرضى الله في كل حركة غاهرة وباطنة فإذا عرفها فهو محتاج إلىمن يلهمه قصد الحق فيجعل إرادته في قلبه ثم إلى من يقدره على فعله ومعلوم ان ما يجهله العبد اضعاف اضعاف ما يعلمه وإن كل ما يعلم انه حق لا تطاوعه نفسه على غرادته ولو اراده لعجز عن كثير منه فهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي وبالحال والمستقبل أما الماضي فهو محتاج إلى محاسبة نفسه عليه وهل وقع على السداد فيشكر الله عليه ويستديمه ام خرج فيه عن الحق فيتوب إلى الله تعالى منه ويتسغفره
(1/157)
ويعزم على ان لا يعود وأما الهداية في الحال فهي مطلوبة منه فإنه ابن وقته فيحتاج ان يعلم حكم ما هو متلبس به من الافعال هل هو صواب ام خطأ وأما المستقبل فحاجته في الهداية اظهر ليكون سيره على الطريق وإذا كان هذا شأن الهداية علم ان العبد اشد شيء اضطرارا اليها وان ما يورده بعض الناس من السؤال الفاسد وهي انا إذا كنا مهتدين فأي حاجة بنا ان نسأل الله ان يهدينا وهل هذا الا تحصيل الحاصل افسد سؤال وابعده عن الصواب وهو دليل على ان صاحبه لم يحصل معنى الهداية ولا احاط علما بحقيقتها ومسماها فلذلك تكلف من تكلف الجواب عنه بان المعنى ثبتنا على الهداية وادمها لنا ومن احاط علما بحقية الهداية وحاجة العبد اليها علم ان الذي لم يحصل له منها اضعاف ما حصل له انه كل وقت محتاج إلىهدايةمتجددة لاسيما والله تعالىخالق افعال القلوب والجوارح فهو كل وقت محتاج ان يخلق الله له هداية
(1/158)
خاصة ثم ان لم يصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه ومعلوم ان وساوس العبد وخواطره وشهوات الغي في قلبه كل منها مانع وصول اثر الهداية اليه فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تاما فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بانفاسه وهي اعظم حاجة للعبد وذكر النبي في الدعاء العظيم القدر من اوصاف الله وربوبيته ما يناسب المطلوب فان فطر السموات والارض توسل إلى الله بهذا الوصف في الهداية للفطرة التي ابتدأ الخلق عليها فذكر كونه فاطر السموات والارض والمطلوب تعليم الحق والتوفيق له فذكر علمه سبحانه بالغيب والشهادة وان من هو بكل شيء عليم جدير ان يطلب منه عبده ان يعلمه ويرشده ويهديه وهو بمنزلة التوسل إلى الغني بغناه وسعة كرمه ان يعطى عبده شيئا من ماله والتوسل إلى الغفور بسعة مغفرته ان يغفر لعبده ويعفوه ان يعفو عنه وبرحمته ان يرحمه ونظائر ذلك وذكر ربوبيته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل وهذا والله اعلم لان المطلوب هدى يحيا به القلب وهؤلاء الثلاثة الاملاك قد جعل الله تعالى على ايديهم اسباب حياة العباد اما جبريل فهو صاحب الوحي الذي يوحيه الله إلى الانبياء وهو سبب حياة الدنيا والاخرة واما ميكائيل فهو موكل بالقطر الذي به سبب حياة كل شيء واما إسرافيل فهو الذي ينفخ في الصور فيحيى الله الموتى بنفخته فإذا هم قيام لرب العالمين والهداية لها اربع مراتب وهي مذكورة في القرآن المرتبة الاولى الهداية العامة وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والادمي لمصالحه التي بها قام امره قال الله تعالى سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى فذكر امورا اربعة الخلق والتسوية والتقدير والهداية فسوى خلقه واتقنه وأحكمه ثم قدر له اسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه اليها والهداية تعليم فذكر انه
(1/159)
الذي خلق وعلم كما ذكر نظير ذلك في أول سورة انزلها على رسوله وقد تقدم ذلك وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون انه قال لموسى فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهذه المرتبة اسبق مراتب الهداية وأعمها المرتبة الثانية هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده وهذه لا تستلزم الاهتداء التام قال تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى يعني بينا لهم ودللناهم وعرفناهم فآثروا الضلالة والعمى وقال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وهذه المرتبة اخص من الاولى وأعم من الثانية وهي هدى التوفيق والالهام قال الله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فعم بالدعوة خلقه وخص بالهداية من شاء منهم قال تعالى
(1/160)
إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء مع قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والامام وقال النبي في نشهد الحاجة من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وقال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لايهدي من يضل أي من يضله الله لايهتدي أبدا وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء واما الثانية فشرط لاموجب فلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة فإن تخلف الهدى عنها مستحيل المرتبة الرابعة الهداية في الاخرة إلى طريق الجنة والنار قال تعالى احشرواالذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم واما قول اهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله فيحتمل ان يكونوا ارادوا الهداية إلى طريق الجنة وأن يكونوا ارادوا الهداية في الدنيا التي اوصلتهم إلى دار النعيم ولو قيل إن كلا الأمرين مراد لهم وانهم حمدوا الله على هدايته لهم في الدنيا وهدايتهم إلى طريق الجنة كان احسن وابلغ وقد ضرب الله تعالى لمن لم يحصل له العلم بالحق واتباعه مثلا مطابقا لحاله فقال تعالى قل اندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على اعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له اصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين الوجه السادس والسبعون ان فضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته وتارةمن شدة الحاجة اليه وعدم الاستغناء عن وتارةمن ظهور النقص والشر بفقده وتارة من حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده لكونه محبوبا ملائما فادراكه يعقب غاية اللذة وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه وشرف علته الغائية وافضاله إلى اجل المطالب وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهر من متعلقة فإذا كان في نفسه كمالا وشرفا بقطع النظر عن متعلقاته جمع جهات الشرف والفضل في نفسه
(1/161)
ومتعلقاته ومعلوم ان هذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم فإنه أعم شيء نفعا واكثره وادومه والحاجة اليه فوق الحاجة إلى الغذاء بل فوق الحاجة إلى التنفس إذ غاية مايتصور من فقدهما فقد حياة الجسم وأما فقد العلم ففيه فقد حياة القلب والروح فلا غنى للعبد عنه طرفة عين ولهذا إذا فقد من الشخص كان شرا من الحمير بل كان شرا من الدواب عند الله ولا شيء انقص منه حينئذ وأما حصول اللذة والبهجة بوجوده فلأنه كمال في نفسه وهو ملائم غاية الملاءمة للنفوس فان الجهل مرض ونقص وهو في غاية الايذاء والايلام للنفس ومن لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفقد حسه ونفسه وما لجرح ميت إيلام فحصوله للنفس إدراك منها لغاية محبوبها واتصال به وذلك غاية لذتها وفرحتها وهذا بحسب المعلوم في نفسه ومحبة النفس له ولذتها بقربه والعلوم والمعلومات
(1/162)
متفاوته في ذلك اعظم التفاوت وابينه فليس علم النفوس بفاطرها وباريها ومبدعها ومحبته والتقرب اليه كعلمها بالطبيعة واحوالها وعوارضه وصحتها وفسادها وحركاتها وهذا بتبين بالوجه السابع والسبعين وهو ان شرف العلم تابع لشرف معلومه لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه ولشدة الحاجة إلىمعرفته وعظم النفع بها ولا ريب ان اجل معلوم وأعظمه واكبره فهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين وقيوم السموات والارضين الملك الحق المبين الموصوف بالكمال كله المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تمثيل وتشبيه في كماله ولا ريب ان العلم به وباسمائه وصفاته وافعاله اجل العلوم وافضلها ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومة إلى سائر المعلومات وكما ان العلم به اجل العلوم واشرفها فهو اصلها كلها كما ان كل موجود فهو مستند في وجوده إلى الملك الحق المبين ومفتقر اليه في تحقق ذاته وأينيته وكل علم فهو تابع للعلم به مفتقر في تحقق ذاته اليه فالعلم به اصل كل علم كما انه سبحانه رب كل شيء ومليكه وموجده ولا ريب ان كمال العلم بالسبب التام وكونه سببا يستلزم العلم بمسببه كما ان العلم بالعلة التامة ومعرفة كونها علة يستلزم العلم بمعلوله وكل موجود سوى الله فهو مستند في وجوده اليه استناد المصنوع إلى صانعه والمفعول الى فاعله فالعلم بذاته سبحانه وصفاته وافعاله يستلزم العلم بما سواه فهو في ذاته رب كل شيء ومليكه والعلم به اصل كل علم ومنشؤه فمن عرف الله عرف ما سواه ومن جهل ربه فهو لما سواه اجهل قال تعالى ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم انفسهم فتأمل هذه الاية تجد تحتها معنى شريفا عظيما وهو ان من نسى ربه انساه ذاته ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه بل نسى ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده فصار معطلا مهملا بمنزلة الانعام السائبة بل ربما كانت الانعام اخبر بمصالحها منه لبقائها هداها الذي اعطاها إياه خالقها وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها فنسى ربه
(1/163)
فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكوبه وتسعد به في معاشها ومعادها قال الله تعالى ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا فغفل عن ذكر ربه فانفرط عليه امره وقلبه فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه بل هو مشتت القلب مضيعه مفرط الامر حيران لايهتدي سبيلا والمقصود ان العلم بالله اصل كل علم وهو اصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به فالعلم به سعادة العبد والجهل به اصل شقاوته يزيده ايضاحا الوجه الثامن والسبعون انه لا شيء اطيب للعبد ولا الذ ولا اهنأ ولا انعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه ودوام ذكره والسعي في مرضاته وهذا هو الكمال الذي لاكمال للعبد بدونه وله خلق الخلق ولاجله نزل الوحي وارسلت الرسل وقامت السموات والارض ووجدت الجنة والنار ولاجله شرعت الشرائع
(1/164)
ووضع البيت الحرام ووجب حجه على الناس إقامة لذكره الذي هو من توابع محبته والرضا به وعنه ولاجل هذا امر بالجهاد وضرب اعناق من اباه وآثر غيره عليه وجعل له في الاخرة دار الهوان خالدا مخلدا وعلى هذا الامر العظيم اسست الملة ونصبت القبلة وهو قطب رحى الخلق والامر الذي مدارهما عليه ولاسبيل إلى الدخول إلى ذلك إلا من باب العلم فإن محبة الشيء فرع عن الشعور به واعرف الخلق بالله اشدهم حبا له فكل من عرف الله احبه ومن عرف الدنيا واهلها زهد فيهم فالعلم يفتح هذا الباب العظيم الذي هو سر الخلق والأمر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الوجه التاسع والسبعون ان اللذة بالمحبوب تضعف وتقوى بحسب قوة الحب وضعفه فكلما كان الحب اقوى كانت اللذة اعظم ولهذا تعظم لذة الظمآن بشرب الماء البارد بحسب شدة طلبه للماء وكذلك الجائع وكذلك من احب شيئا كانت لذته على قدر حبه إياه والحب تابع للعلم بالمحبوب ومعرفة جماله الظاهر والباطن فلذة النظر إلى الله بعد لقائه بحسب قوة حبه وإرادته وذلك بحسب العلم به وبصفات كماله فإذا العلم هو اقرب الطرق إلى اعظم اللذات وسيأتي تقرير هذا فيما بعد ان شاء الله تعالى الوجه الثمانون ان كل ما سوى الله يفتقر الى العلم لاقوام له بدونه فإن الوجود وجودان وجود الخلق ووجود الامر والخلق والأمر مصدرهما علم الرب وحكمته فكل ماضمه الوجود من خلقه وامره صادر عن علمه وحكمته فما قامت السموات والارض وما بينهما الا بالعلم ولا بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا بالعلم ولاعبد الله وحده وحمد واثنى عليه ومجد إلا بالعلم ولاعرف الحلال من الحرام إلا بالعلم ولاعرف فضل الاسلام على غيره الا بالعلم واختلف هنا في مسئلة وهي ان العلم صفة فعلية او انفعالية فقالت طائفة هو صفة فعليه لانه شرط او جزء وسبب في وجود المفعول فإن الفعل الاختياري يستدعي حياة الفاعل وعلمه وقدرته وإرادته ولا يتصور وجوده بدون هذه الصفات وقالت طائفة هو
(1/165)
انفعالي فإنه تابع للمعلوم متعلق به على ما هو عليه فإن العالم يدرك المعلوم على ما هو به فادراكه تابع له فكيف يكون متقدما عليه والصواب ان العلم قسمان علم فعلى وهو علم الفاعل المختار بما يريد ان يفعله فإنه موقوف على ارادته الموقوفة على تصوره المراد وعلمه به فهذا علم قبل الفعل متقدم عليه مؤثر فيه وعلم انفعالي وهو العلم التابع للمعلوم الذي لا تأثير له فيه كعلمنا بوجود الانبياء والامم والملوك وسائر الموجودات فإن هذا العلم لا يؤثر في المعلوم ولا هو شرط فيه فكل من الطائفتين نظرت جزئيا وحكمت كليا وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس وكلا القسمين من العلم صفة كمال وعدمه من اعظم النقص يوضحه الوجه الحادي والثمانون ان فضيلة الشيء تعرف بضده فالضد يظهر حسنه الضد وبضدها نتبين الاشياء ولا ريب ان الجهل اصل كل فساد وكل ضرر يلحق العبد في دنياه واخراه فهو نتيجة
(1/166)
الجهل والا فمع العلم التام بان هذا الطعام مثلا مسموم من اكله قطع امعاءه في وقت معين لا يقدم على اكله وان قدر انه قدم عليه لغلبة جوع او استعجال وفاة فهو لعلمه بموافقة اكله لمقصوده الذي هو احب اليه من العذاب بالجوع او بغيره وهنا اختلف في مسئلة عظيمة وهي ان العلم هل يستلزم الاهتداء ولا يتخلف عنه الهدى إلا لعدم العلم اونقصه والا فمع المعرفة الجازمة لا يتصور الضلال وانه لا يستلزم الهدى فقد يكون الرجل عالما وهو ضال على عمد هذا مما اختلف فيه المتكلمون وارباب السلوك وغيرهم فقالت فرقة من عرف الحق معرفة لا يشك فيها استحال ان لا يهتدي وحيث ضل فلنقصان علمه واحتجوا من النصوص بقوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما انزل من قبلك فشهد تعالى لكل راسخ في العلم بالايمان وبقوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وبقوله تعالى ويرى الذين اوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق وبقوله تعالى شهد الله انه لا إله الا هو والملائكة واولو العلم وبقوله تعالى افمن يعلم انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمى قسم الناس قسمين احدهما العلماء بان ما انزل اليه من ربه هوالحق والثاني العمى فدل على انه لا واسطة بينهما وبقوله تعالى في وصف الكفار صم بكم عمي فهم لا يعقلون وبقوله وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون وبقوله تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة وهذه مدارك العلم الثلاث قد فسدت عليهم وكذلك قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه واضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقوله واضله الله على علم قال سعيد بن جبير على علمه تعالى فيه قال الزجاج أي على ما سبق في علمه تعالى انه ضال قبل ان يخلقه وختم على سمعه أي طبع عليه فلم يسمع الهدى وعلى قلبه فلم يعقل الهدى وعلى بصره غشاوة فلا يبصر اسباب الهدى وهذا في
(1/167)
القرآن كثير مما يبين فيه منافاة الضلال للعلم ومنه قوله تعالى ومنهم من يستمع اليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا اللذين اوتو العلم ماذا قال آنفا اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فلو كانوا علموا ما قال الرسل لم يسألوا اهل العلم ماذا قال ولما كان مطبوعا على قلوبهم وقال تعالى والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات وقال تعالى قل آمنوا به أولا تؤمنوا أن الذين اوتو العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا فهذه شهادة من الله تعالى لاولى العلم بالايمان به وبكلامه وقال تعالى عن اهل النار وقالوا لو كنا نسمع اونعقل ما كنا في اصحاب السعير فدل على ان اهل الضلال لاسمع لهم ولا عقل وقال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون اخبر تعالى أنه لا
(1/168)
يعقل امثاله الا العالمون والكفار لا يدخلون في مسمى العالمين فهم لا يعقلونها وقال تعالى بل اتبع الذين ظلموا اهواءهم بغير علم فمن يهدي من اضل الله وقال تعالى وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله او تأتينا آية وقال تعالى قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ولو كان الضلال بجامع العلم لكان الذين لا يعلمون احسن حالا من الذين يعلمون والنص بخلافه والقرآن مملوء بسلب العلم والمعرفة عن الكفار فتارة يصفهم بانهم لايعلمون وتارة بأنهم لا يعقلون وتارة بانهم لا يشعرون وتارة بانهم لا يفقهون وتارة بأنهم لا يسمعون والمراد بالسمع المنفي سمع الفهم وهو سمع القلب لا إدراك الصوت وتارة بأنهم لا يبصرون فدل ذلك كله على ان الكفر مستلزم للجهل مناف للعلم لا يجامعه ولهذا يصف سحبانه الكفار بانهم جاهلون كقوله تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقوله تعالى وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا اعمالنا ولكم اعمالكم سلام عليكم لانبتغي الجاهلين وقوله تعالى خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين وقال النبي لما بلغ قومه من اذاه ذلك المبلغ اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون وفي الصحيحين عنه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فدل على ان الفقه مستلزم لارادة الله الخير في العبد ولا يقال الحديث دل على ان من اراد الله به خيرا فقهه في الدين ولا يدل على ان كل من فقهه في الدين فقد اراد به خيرا وبينهما فرق ودليلكم انما يتم بالتقدير الثاني والحديث لا يقتضيه لانا نقول النبي جعل الفقه في الدين دليلا وعلامة على ارادة الله بصاحبه خيرا والدليل يستلزم المدلول ولا يتخلف عنه فإن المدلول لازمه ووجود الملزوم بدون لازمه محال وفي الترمذي وغيره عنه ﷺ خصلتان لا يجتمعان في منافق حسن سمت وفقه في الدين فجعل الفقه في الدين منافيا للنفاق بل لم يكن السلف يطلقون
(1/169)
اسم الفقه الاعلى العلم الذي يصحبه العمل كما سئل سعد بن إبراهيم عن افقه اهل المدينة قال اتقاهم وسال فرقد السنجي الحسن البصري عن شيء فاجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك امك فريقد وهل رأيت بعينيك فقيها إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الاخرة البصيربدينه المداوم على عبادة ربه الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علمه الله تعالى اجرا وقال بعض السلف ان الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم مكر الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ماسواه وقال ابن مسعود رضى الله عنه كفى بخشية الله علما وبالاغترار بالله جهلا قالوا فهذا القرآن والسنة واطلاق السلف من الصحابة والتابعين يدل على ان العلم والمعرفة مستلزم للهداية وان عدم الهداية دليل على الجهل وعدم العلم قالوا ويدل عليه ان الانسان ما دام عقله معه لا يؤثر هلاك
(1/170)
نفسه على نجاتها وعذابها العظيم الدائم على نعيمها المقيم والحسن شاهد بذلك ولهذا وصف الله سبحانه اهل معصيته بالجهل في قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما قال سفيان الثوري كل من عمل ذنبا من خلق الله فهو جاهل كان جاهلا اوعالما ان كان عالما فمن اجهل منه وان كان لا يعلم فمثل ذلك وقوله ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما قال قبل الموت وقال ابن عباس رضى الله عنهما ذنب المؤمن جهل منه قال فتادة اجمع اصحاب رسول الله ان كل شيء عصى الله فيه فهو جهالة وقال السدى كل من عصى الله فهو جاهل قالوا ويدل على صحة هذا ان مع كمال العلم لاتصدر المعصية من العبد فإنه لو رأى صبيا يتطلع عليه من كوة لم تتحرك جوارحه لمواقعة الفاحشة فكيف يقع منه حال كمال العلم بنظر الله اليه ورؤيته له وعقابه على الذنب وتحريمه له وسوء عاقبته فلا بد من غفلة القلب على هذا العلم وغيبته عنه فحينئذ يكون وقومه في المعصية صادرا عن جهل وغفلة ونسيان مضاد للعلم والذنب محفوف بجهلين جهل بحقيقة الاسباب الصارفة عنه وجهل بحقيقة المفسدة المترتبة عليه وكل واحد من الجهلين تحته جهالات كثيرة فما عصى الله إلا بالجهل وما اطيع الا بالعلم فهذا بعض ما احتجت به هذه الطائفة وقالت الطائفة الاخرى العلم لا يستلزم الهداية وكثيرا ما يكون الضلال عن عمد وعلم لا يشك صاحبه فيه بل يؤثر الضلال والكفر وهو عالم بقبحه ومفسدته قالوا وهذا شيخ الضلال وداعي الكفر وإمام الفجرة إبليس عدو الله قد علم امر الله له بالسجود لادم ولم يشك فيه فخالفه وعاند الامر وباء بلعنة الله وعذابه الدائم مع علمه بذلك ومعرفته به واقسم له بعزته انه يغوى خلقه اجمعين الاعباده منهم المخلصين فكان غير شاك في الله وفي وحدانيته وفي البعث الآخر وفي الجنة والنار ومع ذلك اختار الخلود في
(1/171)
النار واحتمال لعنة الله وغضبه وطرده من سمائه وجنته عن علم بذلك ومعرفة لم يحصل لكثير من الناس ولهذا قال رب فأنظرني الى يوم يبعثون وهذا اعتراف منه بالبعث وقرار به وقد علم قسم ربه ليملأن جهنم منه ومن اتباعه فكان كفره كفر عناد محض لا كفر جهل وقال تعالى إخبارا عن قوم ثمود وأما ثمود فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى يعني بينا لهم وعرفناهم فعرفوا الحق وتيقنوه وآثروا العمى عليه فكان كفر هؤلاء عن جهل وقال تعالىحاكيا عن موسى إنه قال لفرعون لقد علمت ما انزل هؤلاء الا رب السموات والارض بصائر وإني لاظنك يا فرعون مثبورا أي هالكا على قراءة من فتح التاء وهي قراءة الجمهور وضمها الكسائي وحده وقراءة الجمهور احسن واوضح وافخم معنى وبها تقوم الدلالة ويتم الالزام بتحقق كفر فرعون وعناده ويشهد
(1/172)
لها قوله تعالى إخبارا عنه وعن قومه فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عقابة المفسدين فاخبر سبحانه ان تكذيبهم وكفرهم كان عن يقين وهو اقوى العلم ظلما منهم وعلوا لا جهلا وقال تعالى لرسوله قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون يعني انهم قد عرفوا صدقك وانك غير كاذب فيما تقول ولكن عاندوا وجحدوا بالمعرفة قاله ابن عباس رضى الله عنهما والمفسرون قال قتادة يعلمون انك رسول ولكن يجحدون قال تعالى وجحدوا بها واستقينتها انفسهم ظلماوعلوا وقال تعالى يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون يعني تكفرون بالقرآن وبمن جاء به وانتم تشهدون بصحته وبانه الحق فكفركم كفر عناد وجحود عن علم وشهود لاعن جهل وخفاء وقال تعالى عن السحرة من اليهود ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الاخرة من خلاق أي علموا من اخذ السحر وقبله لا نصيب له في الاخرة ومع هذا العلم والمعرفة فهم يشترونه ويقبلونه ويتلعمونه وقال تعالى الذين آتياناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم ذكر هذه المعرفة عن اهل الكتاب في القبلة كما في سورة البقرة وفي التوحيد كقوله في الانعام ائنكم لتشهدون انالله آلهة اخرى قل لا اشهد قل إنما هو إله واحد وانني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وفي الكتاب انه منزل من عند الله لقوله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق وقال تعالى كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين قال ابن عباس رضى الله عنهما هم قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي بعد ان كانوا قبل مبعثه مؤمنين به وشهدوا له بالنبوة وإنما كفروا بغيا وحسدا قال
(1/173)
الزجاج اعلم الله عز وجل انه لاجهة لهدايتهم لانهم قد استحقوا ان يضلوا بكفرهم لانهم كفروا بعد البينات ومعنى كيف يهديهم أي انه لا يهديهم لان القوم عرفوا الحق وشهدوا به وتيقنوه وكفروا عمدا فمن اين تأتيهم الهداية فإن الذي ترتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى انه ضال بل يظن انه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه ثم اختار الكفر والضلال عليه فكيف يهدي الله مثل هذا وقال تعالى عن اليهود فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ثم قال بئسما اشتروا به انفسهم ان يكفروا بما انزل الله بغيا ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده قال ابن عباس رضى الله عنهما لم يكن كفرهم شكا ولا اشتباها ولكن بغيا منهم حيث صارت النبوة في ولد اسماعيل ثم قال بعد ذلك ولما جاءهم رسول
(1/174)
من عند الله مصدق لمامعهم نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون فلما شبههم في فعلهم هذا بمن لا يعلم دل على انهم بنذوه عن علم كفعل من لا يعلم تقول إذا خاطبت من عصاك عمدا كانك لم تعلم ما فعلت او كانك لم تعلم بنهي إياك ومنه على احد القولين قوله تعالى فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون قال السدى يعنى محمدا واختاره الزجاج فقال يعرفون أن امر محمد حق ثم ينكرون ذلك وأول الاية يشهد لهذا القول وقال تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعهالشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب قالوا فهل بعد هذه الاية بيان فإن هذا آتاه الله آياته فانسلخ منها وآثر الضلال والغي وقصته معروفة حتى قيل إنه كان اوتى الاسم الاعظم ومع هذا فلم ينفعه علمه وكان من الغاوين فلو استلزم العلم والمعرفة الهداية لاستلزمه في حق هذا وقال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وهذا يدل على ان قولهم يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إما بهت منهم وجحود وإما نفي لايات الاقتراح والعنت ولا يجب الاتيان بها وقد وصف سبحانه ثمود بانها كفرت عن علم وبصيرة بالحق ولهذا قال وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها يعني بينة مضيئة وهذا كقوله تعالى وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وحقيقة اللفظ انها تجعل من رآها مبصرا فهي توجب له البصر فتبصره أي تجعله ذا بصر فهي موضحة مبينة يقال بصر به إذا رآه كقوله تعالى فبصرت به عن جنب وقوله بصرت بما لم يبصروا به واما ابصره فله معنيان احدهما جعله باصرا بالشيء أي ذا بصر به كاية النهار وآية ثمود والثاني بمعنى رآه كقولك ابصرت زيدا وفي حديث ابي
(1/175)
شريح العدوى احدثك قولا قال به رسول الله يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وابصرته عيناي حين تكلم به ومنه قوله تعالى فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوق يبصرون قيل المعنى ابصرهم وما يقضى عليهم من الاسر والقتل والعذاب في الاخرة فسوف يبصرونك وما يقضى لك من النصر والتأييد وحسن العاقبة والمراد تقريب المبصر من المخاطب حتى كانه نصب عينيه ورأىناظريه والمقصود ان الاية اوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلال والكفر عن علم ويقين ولهذا والله اعلم ذكر قصتهم من بين قصص سائر الامم في سورة والشمس وضحاها لانه ذكر فيها انقسام النفوس الى الزكية الراشدة المهتدية والى الفاجرة الضالة الغاوية وذكر فيها الاصلين القدر والشرع فقال فالهمها فجورها
(1/176)
وتقواها فهذا قدره وقضاؤه ثم قال قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها فهذا امره ودينه وثمود هداهم فاستحبوا العمى على الهدى فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة منمن آثر الفجور على التقوى والتدسية على التزكية والله اعلم بما أراد قالوا ويكفى في هذا اخباره تعالى عن الكفار انهم يقولون بعد ما عاينوا العذاب ووردوا القيامة وراوا ما اخبرت به الرسل يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لمانهوا عنه وإنهم لكاذبون فأبي علم ابين من علم من ورد القيامة ورأى ما فيها وذاق عذاب الاخرة ثم ورد إلى الدنيا لاختار الضلال على الهدى ولم ينفعه ما قد عاينه ورآه وقال تعالى ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ماكانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله ولكن اكثرهم يجهلون فهل بعد نزول الملائكة عيانا وتكليم الموتى لهم وشهادتهم للرسول بالصدق وحشر كل شيء في الدنيا عليهم من بيان وإيضاح للحق وهدى ومع هذا فلا يؤمنون ولا ينقادون للحق ولا يصدقون الرسول ومن نظر في سيرة رسول الله مع قومه ومع اليهود علم انهم كانوا جازمين بصدقه لا يشكون انه صادق في قوله انه رسول الله ولكن اختاروا الضلال والكفر علىالايمان قال المسور بن مخرمة رضى الله عنه لابي جهل وكان خاله أي خال هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل ان يقول مقالته التي قالها قال ابو جهل لعنه الله تعالى يا ابن اخي والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الامين ما جربنا عليه كذبا قط فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب على الله قال يا خال فلم لا تتبعونه قال يا ابن اخي تنازعنا نحن بنو هاشم الشرف فاطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا فلم تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي فمتى ندرك هذه وهذا امية بن ابي الصلت كان ينتظره يوما بيوم وعلمه عنده قبل مبعثه وقصته مع ابي سفيان لما سافرا معا معروفة
(1/177)
واخباره برسول الله ثم لما تيقنه وعرف صدقه قال لا اومن بنبي من غير ثقيف ابدا وهذا هرقل تيقن انه رسول الله ولم يشك فيه وآثر الضلال والكفر استبقاء لملكه ولما سأله اليهود عن التسع آيات البيانات فاخبرهم بها قبلوا يده وقالوا نشهد انك نبي قال فما يمنعكم ان تتبعوني قالوا إن داود عليه السلام دعا ان لا يزال في ذريته نبي وإنا نخشى أن اتبعناك ان تقتلنا يهود فهؤلاء قد تحققوا نبوته وشهدوا له بها ومع هذا فآثروا الكفر والضلال ولم يصيروا مسلمين بهذه الشهادة فقيل لا يصير الكافر مسلما بمجرد شهادة ان محمدا رسول الله حتى يشهد لله بالوحدانية وقيل يصير بذلك مسلما وقيل إن كان كفره بتكذيب الرسول كاليهود صار مسلما بذلك وإن كان كفره بالشرك مع ذلك لم يصر مسلما إلا بالشهادة بالتوحيد
(1/178)
كالنصارى والمشركين وهذه الاقوال الثلاثة في مذهب الامام احمد وغيره وعلى هذا فانما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الاسلام لان مجرد الاقرار والاخبار بصحة رسالته لا يوجب الاسلام إلا ان يلزم طاعته ومتابعته وإلا فلو قال انا اعلم انه نبي ولكن لا اتبعه ولا ادين بدينه كان من اكفر الكفار كحال هؤلاء المذكورين وغيرهم وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين وائمة السنة ان الايمان لا يكفي في قول اللسان بمجرده ولا معرفة القلب مع ذلك بل لا بد فيه من عمل القلب وهو حبه لله ورسوله وانقياده لدينه والتزامه طاعته ومتابعة رسوله وهذا خلاف من زعم ان الايمان هو مجرد معرفة القلب واقراره وفيما تقدم كفاية في إبطال هذه المقالة ومن قال ان الايمان هو مجرد اعتقاد صدق الرسول فيما جاء به وإن لم يلتزم متابعته وعاداه وابغضه وقاتله لزمه ان يكون هؤلاء كلهم مؤمنين وهذا إلزام لامحيد عنه ولهذا اضطرب هؤلاء في الجواب عن ذلك لما ورد عليهم وأجابوا بما يستحي العاقل من قوله كقول بعضهم إن إبليس كان مستهزئا ولم يكن يقر بوجود الله ولا بأن الله ربه وخالقه ولم يكن يعرف ذلك وكذلك فرعون وقومه لم يكونوا يعرفون صحة نبوة موسى ولا يعتقدون وجود الصانع وهذه فضائح نعوذ بالله من الوقوع في أمثالها ونصرة المقالات وتقليد اربابها تحمل على أكثر من هذا ونعوذ بالله من الخذلان قالوا وقد بين القرآن ان الكفر اقسام احدها كفر صادر عن جهل وضلال وتقليد الاسلاف وهو كفر أكثر الاتباع والعوام الثاني كفر جحود وعناد وقصد مخالفة الحق ككفر من تقدم ذكره وغالب ما يقع هذا النوع فيمن له رياسة علمية في قومه من الكفار او رياسة سلطانية او من له ماكل واموال في قومه فيخاف هذا على رياسته وهذا على ماله ومأكله فيؤثر الكفر على الايمان عمدا الثالث كفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول ولا يحبه ولا يبغضه ولا يواليه ولا يعاديه بل هو معرض عن متابعته
(1/179)
ومعاداته وهذان القسمان أكثر المتكلمين ينكرونهما ولا يثبتون من الكفر إلا الاول ويجعلون الثاني والثالث كفرا لدلالاته على الاول لا لأنه في ذاته كفر فليس عندهم الكفر إلا مجرد الجهل ومن تأمل القرآن والسنةوسير الانبياء في أممهم ودعوتهم لهم وما جرى لهم معهم جزم بخطأ اهل الكلام فيما قالوه وعلم ان عامة كفر الامم عن تيقن وعلم ومعرفة بصدق انبيائهم وصحة دعواهم وما جاؤا به وهذا القرآن مملوء من الاخبار عن المشركين عباد الاصنام انهم كانوا يقرون بالله وانه هو وحده ربهم وخالقهم وأن الارض وما فيها له وحده وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم وانه بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر وانزل المطر واخرج النبات والقرآن منادعليهم بذلك محتج بما أقروا به من ذلك على صحة ما دعتهم اليه رسله
(1/180)
فكيف يقال ان القوم لم يكونوا مقرين قط بان لهم ربا وخالقا وهذا بهتان عظيم فالكفر امر وراء مجرد الجهل بل الكفر الاغلظ هو ما انكره هؤلاء وزعموا انه ليس بكفر قالوا والقلب عليه واجبان لا يصيره مؤمنا الا بهما جميعا واجب المعرفة والعلم وواجب الحب والانقياد والاستسلام فكما لا يكون مؤمنا إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد لا يكون مؤمنا إذا لم يأت بواجب الحب والانقياد والاستسلام بل إذا ترك هذا الواجب مع علمه ومعرفته به كان اعظم كفرا وابعد عن الايمان من الكافر جهلا فإن الجاهل إذا عرف وعلم فهو قريب إلى الانقياد والاتباع وأما المعاند فلا دواء فيه قال تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين قالوا فحب الله ورسوله بل كون الله ورسوله احب الى العبد من سواهما لا يكون العبد مسلما الا به ولا ريب ان الحب امر وراء العلم فما كل من عرف الرسول احبه كما تقدم قالوا وهذا لحاسد يحمله بغض المحسود علىمعاداته والسعي في اذاه بكل ممكن مع علمه بفضله وعلمه وانه لا شيء فيه يوجب عداوته إلا محاسنه وفضائله ولهذا قيل الحاسد عدو للنعم والمكارم فالحاسد لم يحمله علىمعاداة المحسود جهله بفضله وكماله وإنما حمله على ذلك إفساد قصده وإرادته كما هي حال الرسل وورثتهم مع الرؤساء الذين سلبهم الرسل ووارثوهم رئاستهم الباطلة فعادوهم وصدوا النفوس عن متابعتهم ظنا ان الرياسة تبقى لهم وينفردون بها وسنة الله في هؤلاء ان يسلبهم رياسة الدنيا والاخرة ويصغرهم في عيون الخلق مقابلة لهم بنقيض قصدهم وما ربك بظلام للعبيد فهذا موارد احتجاج الفريقين وموقف اقدام الطائفتين فاجلس ايها المنصف منهما مجلس الحكومة وتوخ بعلمك وعدلك فصل هذه الخصومة فقد ادلى كل منهما بحجج لا تعارض ولاتمانع وجاء ببينات لا ترد ولا تدافع فهل عندك شيء غير هذا يحصل به فصل الخطاب وينكشف به لطالب الحق وجه
(1/181)
الصواب فيرضى الطائفتين ويزول به الاختلاف من البين وإلا فخل المطي وحاديها واعط النفوس باريها دع الهوى لأناس يعرفون به قد كابدوا الحب حتى لان اصعبه ومن عرف قدره وعرف لذي الفضل فضله فقد قرع باب التوفيق والله الفتاح العليم فنقول وبالله التوفيق كلا الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم ولا عدلت عن سنن الحق وإنما الاختلاف والتباين بينهما من عدم التوارد على محل واحد ومن اطلاق الفاظ مجملة بتفصيل معانيها يزول الاختلاف ويظهر ان كل طائفة موافقة الاخرى على نفس قولها وبيان هذا ان المقتضى قسمان
(1/182)
مقتض لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه لقصوره في نفسه بل يستلزمه استلزام العلة التامة لمعلولها ومقتض غير تام يتخلف عنه مقتضاه لقصوره في نفسه عن التمام او لفوات شرط اقتضائه او قيام مانع منع تأثيره فان اريد بكون العلم مقتضيا للاهتداء والاقتضاء التام الذي لا يتخلف عنه اثره بل يلزمه الاهتداء بالفعل فالصواب قول الطائفة الثانية وإنه لا يلزم من العلم حصول الاهتداء المطلوب وإن اريد بكونه موجبا انه صالح للاهتداء مقتض له وقد يتخلف عنه مقتضاه لقصوره او فوات شرط او قيام مانع فالصواب قول الطائفة الاولى وتفصيل هذه الجملة ان العلم بكون الشيء سببا لمصلحة العبد ولذاته وسروره قد يتخلف عنه عمله بمقتضاه لاسباب عديدة السبب الاول ضعف معرفته بذلك السبب الثاني عدم الاهلية وقد تكون معرفته به تامة لكن يكون مشروطا بزكاة المحل وقبوله للتزكية فإذا كان المحل غير زكي ولا قابل للتزكية كان كالأرض الصلدة التي لا تخالطها الماء فإنه يمتنع النبات منها لعدم اهليتها وقبولها فإذا كان القلب قاسيا حجريا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تنبت الارض الصلبة ولو اصابها كل مطر وبذر فيها كل بذر كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم وقال تعالى ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ماكانوا ليؤمنوا إلا ان يشاء الله وقال تعالى قل انظروا ماذا في السموات والارض وما تغنى الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون وهذا في القرآن كثير فإذا كان القلب قاسيا غليظا جافيا لا يعمل فيه العلم شيئاوكذلك إذا كان مريضا مهينا مائيا لا صلابة فيه ولا قوة ولا عزيمة لم يؤثر فيه العلم السبب الثالث قيام مانع وهو إما حسد أو كبر وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر وهو داء الاولين والاخرين الا من عصم الله وبه تخلف الايمان عن
(1/183)
اليهود الذين شاهدوا رسول الله وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم وهو الذيمنع عبد الله بن ابي من الايمان وبه تخلف الايمان عن ابي جهل وسائر المشركين فانهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وان الحق معه لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر وبه تخلف الايمان عن امية واضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد السبب الرابع مانع الرياسة والملك وان لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق لكن لا يمكنه ان يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته كحال هرقل واضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه واقروا بها باطنا واحبوا الدخول في دينه لكن خافوا على ملكهم وهذا داء ارباب الملك والولاية والرياسة وقل من نجا منه الا من عصم الله وهو داء فرعون وقومه ولهذا قالوا انؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون انفوا ان يؤمنوا ويتبعوا
(1/184)
موسى وهرون وينقادوا لهما وبنو إسرائيل عبيد لهم ولهذا قيل ان فرعون لما اراد متابعة موسى وتصديقه شاور هامان وزيره فقال بينا انت اله تعبد تصير عبدا تعبد غيرك فأبى العبودية واختار الرياسة والالهية المحال السبب الخامس مانع الشهوة والمال وهو الذي منع كثيرا من اهل الكتاب من الايمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير اليهم من قومهم وقد كانت كفار قريش يصدون الرجل عن الايمان بحسب شهوته فيدخلون عليه منها فكانوا يقولون لمن يحب الزنا ان محمدا يحرم الزنا ويحرم الخمر وبه صدوا الاعشى الشاعر عن الاسلام وقد فاوضت غير واحد من اهل الكتاب في الاسلام وصحته فكان آخر ما كلمني به احدهم انا لا أترك الخمر واشربها امنا فإذا اسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها وقال آخر منهم بعد ان عرف ما قلت له لي اقارب ارباب اموال وإني ان اسلمت لم يصل الي منها شيء وانا اؤمل ان ارثهم او كما قال ولا ريب ان هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار فتتفق قوة داعي الشهوة والمال وضعف داعي الايمان فيجيب داعي الشهوة والمال ويقول لا أرغب بنفسي عن آبائي وسلفي السبب السادس محبة الاهل والاقارب والعشيرة يرى انه اذا اتبع الحق وخالفهم ابعدوه وطردوه عنهم واخرجوه من بين اظهرهم وهذا سبب بقاء خلف كثير على الكفر بين قومهم واهاليهم وعشائرهم السبب السابع محبة الدار والوطن وان لم يكن له بها عشيرة ولا اقارب لكن يرى ان في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه الى دار الغربة والنوى فيضن بوطنه السبب الثامن تخيل ان في الاسلام ومتابعة الرسول إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده وذما لهم وهذا هو الذي منع ابا طالب وامثاله عن الاسلام استعظموا آباءهم واجدادهم ان يشهدوا عليهم بالكفر والضلال وان يختاروا خلاف ما اختار اولئك لانفسهم ورأوا انهم ان اسلموا سفهوا احلام اولئك وضللوا عقولهم ورموهم باقبح القبائح وهو الكفر والشرك ولهذا قال اعداء الله لابي طالب
(1/185)
عند الموت ترغب عن ملة عبد المطلب فكان آخر ما كلمهم به هو على ملة عبد المطلب فلم يدعه اعداء الله الا من هذا الباب لعلمهم بتعظيمه اباه عبد المطلب وانه انما حاز الفخر والشرف به فكيف يأتي امرا يلزم منه غاية تنقيصه وذمه ولهذا قال لولا ان تكون مسبة على بني عبد المطلب لا قررت بها عينك او كما قال وهذا شعره يصرح فيه بأنه قد علم وتحقق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه كقوله : ولقد علمت بان دين محمد من خير اديان البرية دينا لولا الملامة او حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا
(1/186)
وفي قصيدته اللامية فو الله لولا ان تكون مسبة تجر على اشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حاله من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا ان ابتنالا مكذب لدينا ولايعني بقول إلا باطل والمسبة التي زعم انها تجر على اشياخه شهادته عليهم بالكفر والضلال وتسفيه الاحلام وتضليل العقول فهذا هو الذي منعه من الاسلام بعدتيقنه السبب التاسع متابعة من يعاديه من الناس للرسول وسبقه الى الدخول في دينه وتخصصه وقربه منه وهذا القدر منع كثيرا من اتباع الهدى يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب ارضا يمشي عليها ويقصد مخالفته ومناقضته فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق واهله وان كان لا عداوة بينه وبينهم وهذا كما جرى لليهود مع الانصار فانهم كانوا اعدائهم وكانوا يتواعدونهم بخروج النبي وانهم يتبعونه ويقاتلونهم معه فلما بدرهم اليه الانصار واسلموا حملهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم السبب العاشر مانع الالف والعادة والمنشأ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة ولهذا قيل هي طبيعة ثانية فيربى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا فيتربى قلبه ونفسه عليها كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد ولا يعقل نفسه الا عليها ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وان يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال وهذا السبب وإن كان اضعف الاسباب معنى فهو اغلبها على الامم وأرباب المقالات والنحل ليس مع اكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى ان يشذ الاعادة ومربي تربى عليه طفلا لا يعرف غيرها ولا يحسن به فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة الى طبيعة ثانية فصلوات الله وسلامه على انبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وافضلهم محمد كيف غيروا عوائد الامم الباطلة ونقلوهم الى الايمان حتى استحدثوا به طبيعة ثانية خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم
(1/187)
الفاسدة ولا يعلم مشقة هذا على النفوس الا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته الى الحق فجزى الله المرسلين افضل ما جزى به احدا من العالمين إذا عرف ان المقتضى نوعان فالهدى المقتضى وحده لا يوجب الاهتداء والهدى التام يوجب الإهتداء فالاول هدى البيان الدلالة والتعليم ولهذا يقال هدى فما اهتدى والثاني هدى البيان والدلالة مع إعطاء التوفيق وخلق الارادة فهذا الهدى الذي يسلتزم الاهتداء ولا يتخلف عنه موجبه فمتى وجد السبب وانتفت الموانع لزم وجود حكمه وههنا دقيقة بها ينفصل النزاع وهي انه هل ينعطف من قيام المانع وعدم الشرط
(1/188)
على المقتضى امر يضعفه في نفسه ويسلبه اقتصاءه وقوته او الاقتضاء بحاله وإما غلب المانع فكان التاثير له ومثال ذلك في مسئلتنا انه بوجود هذه الموانع المذكورة او بعضها هل يضعف العلم حتى لا يصير مؤثرا البتة او العلم بحاله ولكن المانع بقوته غلب فكان الحكم له هذا سر المسألة وفقهها فأما الاول فلا شك فيه ولكن الشان في القسم الثاني وهو بقاء العلم بحاله والتحقيق ان الموانع تحجبه وتعميه وربما قلبت حقيقته من القلب والقرآن قد دل على هذا قال تعالى وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله اليكم فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين فعاقبهم سبحانه بازاغة قلوبهم عن الحق لما زاغوا عنه ابتداء ونظيره قوله تعالى ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولهذا قيل من عرض عليه حق فرده فلم يقبله عوقب بفساد قلبه وعقله ورأيه ومن هنا قيل لا رأي لصاحب هوى فان هواه يحمله على رد الحق فيفسد الله عليه رأيه وعقله قال تعالى فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف اخبر سبحانه ان كفرهم بالحق بعد ان علموه كان سببا لطبع الله على قلوبهم بل طبع الله عليها بكفرهم حتى صارت غلفا والغلف جمع اغلف وهو القلب الذي قد غشيه غلاف كالسيف الذي في غلافه وكل شيء في غلافه فهو اغلف وجمعه غلف يقال سيف اغلف وقوس غلفاء ورجل اغلف واقلف اذا لم يختن والمعنى قلوبنا عليها غشاوة وغطاء فلا تفقه ما تقول يا محمد ولم تع شيئا من قال ان المعنى انها غلف للعلم والحكمة أي اوعية لها فلا يحتاج الى قولك ولا تقبله استغناء بما عندهم لوجوه احدها ان غلف جمع اغلف كقلف واقلف وحمر واحمر وجرد واجرد وغلب واغلب ونظائره والاغلف من القلوب هو الداخل في الغلاف هذا هو المعروف من اللغة الثاني انه ليس من الاستعمال السائغ المشهور ان يقال قلب فلان
(1/189)
غلاف لكذا وهذا لا يكاد يوجد في شيء من نثر كلامهم ولانظمه ولا نظير له في القرآن فيحمل عليه ولا هو من التشبيه البديع المستحسن فلا يجوز حمل الاية عليه الثالث ان نظير قول هؤلاء قول الاخرين من الكفار قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه والاكنة هناه هي الغلف التي قلوب هؤلاء فيها والاكنة كالاوعية والاغطية التي تغطى المتاع ومنه الكناية لغلاف السهام الرابع ان سياق الاية لا يحسن مع المعنى الذي ذكروه ولا يحسن مقابلته بقوله بل طبع الله عليها بكفرهم وإنما يحسن مع هذا المعنى ان يسلب عنهم العلم والحكمة التي ادعوها كما قيل لهم لما ادعوا ذلك وما اوتيتم من العلم إلا قليلا وأما هنا فلما ادعوا ان قلوبهم في اغطية واغشية لاتفقه قوله قوبلوا بان عرفهم ان كفرهم ونقضهم ميثاقهم وقتلهم الانبياء كان سببا
(1/190)
لان طبع على قلوبهم ولا ريب ان القلب اذا طبع عليه اظلمت صورة العلم فيه وانطمست وربما ذهب اثرها حتى يصير السبب الذي يهتدي به المهتدون سببا لضلال هذا كما قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل ويفسدون في الارض اولئك هم الخاسرون فاخبر تعالى ان القرآن سبب لضلال هذا الصنف من الناس وهوهداه الذي هدى به رسوله وعباده المؤمنين ولهذا اخبر سبحانه إنه إنما يهتدي به من اتبع رضوان الله قال تعالى وإذا ما انزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه ايمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وهم كافرون ولا شيء اعظم فسادا لمحل العلم من صيرورته بحيث يضل بما يهتدي به فنسبته الى الهدى والعلم نسبة الفم الذي قد استحكمت فيه المرارة الى الماء العذب كما قيل : ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا واذا فسد القلب فسد إدراكه وإذا فسد الفم فسد إدراكه وكذلك اذا فسدت العين واهل المعرفة من الصيارفة يقولون ان من خاف في نقده نسى النقد وسلبه فاشتبه عليه الخالص بالزغل ومن كلام بعض السلف يهتف العلم بالعمل فان اجابه حل والا ارتحل وقال بعض السلف كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به فترك العمل بالعلم من اقوى الاسباب في ذهابه ونسيانه وايضا فإن العلم يراد للعمل فإنه يمنزلة الدليل للسائر فإذا لم يسر خلف الدليل لم ينتفع بدلالته فنزل منزلة من لم يعلم شيئا لان من علم ولم يعمل بمنزلة الجاهل الذي لا يعلم كما ان من ملك ذهبا وفضة وجاع وعرى ولم يشتر منها ما يأكل ويلبس فهو بمنزلة الفقير العادم كما قيل : ومن ترك الانفاق عند احتياجه مخافة فقر فالذي فعل الفقر والعرب تسمى الفحش والبذاء جهلا اما لكونه ثمرة الجهل فيسمى باسم سببه وموجبه وأما لان الجهل يقال في جانب
(1/191)
العلم والعمل قال الشاعر : الا لا يجهلن احد علينا فنجهل فوق جهل الحاهلينا ومن هذا قول موسى لقومه وقد قالوا اتتخذنا هزوا قال اعوذ بالله ان اكون من الجاهلين فجعل الاستهزاء بالمؤمنين جهلا ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف انه قال وإلا تصرف عني كيدهن اصب اليهن وأكن من الجاهلين ومن هذا قوله تعالى خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين ليس المراد أعراضه عمن لا علم عنده فلا يعلمه ولا يرشده وإنما المراد اعراضه عن جهل من جهل عليه فلا يقابله ولا يعاتبه قال مقاتل وعروة والضحاك وغيرهم صن نفسك عن مقابلتهم على سفههم وهذا كثير في كلامهم ومنه الحديث إذا كان صوم احدكم فلا يصخب ولا يجهل ومن هذاتسمية المعصية جهلا قال قتادة اجمع اصحاب محمد ان كل من عصى الله فهو جاهل وليس المراد انه جاهل بالتحريم إذ لو كان جاهلال لم يكن عاصيا فلا يترتب الحد في الدنيا والعقوبة في الاخرة على جاهل بالتحريم بل نفس الذنب يسمى جهلا وإن علم مرتكبه بتحريمه إما انه لا يصدر الا عن ضعف العلم ونقصانه وذلك جهل فسمى باسم سببه وإما تنزيلا لفاعله منزلة الجاهل به الثاني انهم لما ردوا الحق ورغبوا عنه عوقبوا بالطبع والرين وسلب العقل والفهم كما قال تعالى عن المنافقين ذلك بانهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون الثالث ان العلم الذي ينتفع به ويستلزم النجاة والفلاح لم يكن حاصلا لهم فسلب عنهم حقيقته والشيء قد ينتفى لنفي ثمرته والمراد منه قال تعالى في ساكن النار فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيا نفى الحياة لانتفاء فائدتها والمراد منها ويقولون لا مال إلا ما انفق ولا علم إلا ما نفع ولهذا نفى عنه سبحانه عن الكفار الاسماع والابصار والعقول لما لم ينتفعوا بها وقال تعالى وجعلنا لهم سمعا وابصارا وأفئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وقال تعالى ولقد ذرانا
(1/192)
لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولما لم يحصل لهم الهدى المطلوب بهذه الحواس كانوا يمنزلة فاقديها قال تعالى صم بكم عمى فهم لا يعقلون فالقلب يوصف بالبصر والعمى والسمع والصمم والنطق والبكم بل هذه له اصلا وللعين والاذن واللسان تبعا فإذا عدمها القلب فصاحبه اعمى مفتوح العين اصم ولا آفة باذنه ابكم وإن كان فصيح اللسان قال تعالى فإنها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فلا تنافي بين قيام الحجة بالعلم وبين سلبه ونفيه بالطبع والختم والقفل على قلوب من لا يعمل بموجب الحجة وينقاد لها قال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالاخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا فأخبر سبحانه انه منعهم فقه كلامه وهو الادراك الذي ينتفع به من فقهه ولم يكن ذلك مانعا لهم من الادراك الذي تقوم به الحجة عليهم فانهم لو لم يفهموه جملة ما ولوا على أدبارهم نفورا عند ذكر توحيد الله فلما ولوا عند ذكر التوحيد دل على انهم كانوا يفهمون الخطاب وان الذي غشى قلوبهم كالذي غشى آذانهم ومعلوم انهم لم يعدموا لاسمع جملة ويصيروا كالاصم ولذلك
(1/193)
ينفى سبحانه عنهم السمع تارة ويثبته اخرى قال الله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ومعلوم انهم قد سمعوا القرآن وأمر الرسول باسماعهم إياه وقال تعالى وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير فهذا السمع المنفي عنهم سمع الفهم والفقه والمعنى ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم سمعا ينتفعون به وهو فقهه المعنى وعقله والا فقد سمعوه سمعا تقوم به عليهم الحجة ولكن لما سمعوه مع شدة بغضه وكراهته ونفرتهم عنه لم يفهموه ولم يعقلوه والرجل إذا اشتدت كراهته للكلام ونفرته عنه لم يفهم ما يراد به فينزل منزلة من لم يسمعه قال تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون نفى عنه استطاعة السمع مع صحة حواسهم وسلامتها وإنما لفرط بغضهم ونفرتهم عنه وعن كلامه صاروا بمنزلة من لا يستطيع ان يسمعه ولا يراه وهذا استعمال معروف للخاصة والعامة يقولون لا اطيق انظر الى فلان ولا استطيع ان اسمع كلامه من بغضه ونفرته عنه وبعض الجبرية يحتج بهذه الاية وشبهها على مذهبهم ولا دلالة فيها إذ ليس المراد سلبهم السمع والبصر الذي تقوم به الحجة قطعا وإنما المراد سلب السمع الذي يترتب عليه فائدته وثمرته والقدر حق ولكن الواجب تنزيل القرآن منازله ووضع الايات مواضعها واتباع الحق حيث كان ومثل هذا إذا لم يحصل له فهم الخطاب لا يعذر بذلك لان الافة منه وهو بمنزلة من سد اذنيه عند الخطاب فلم يسمعه فلا يكون ذلك عذرا له ومن هذا قولهم قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يعنون انهم في ترك القبول منه ومحبة الاسماع لما جاء به وإيثار الاعراض عنه وشدة النفار عنه بمنزلة من لا يعقله ولا يسمعه ولا يبصر المخاطب لهم به فهذا هو الذي يقولون لا خلود في النار ولو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير ولهذا جعل ذلك مقدورا لهم وذنبا اكتسبوه فقال تعالى فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير والله تعالى
(1/194)
ينفي تارة عن هؤلاء العقل والسمع والبصر فانها مدارك العلم واسباب حصوله وتارة ينفى عنهم السمع والعقل وتارة ينفى عنهم السمع والبصر وتارة ينفى عنهم العقل والبصر وتارة ينفى عنهم وحده فنفى الثلاثة نفي لمدارك العلم بطريق المطابقة ونفى بعضها نفي له بالمطابقة والاخر باللزوم فان القلب إذا فسد فسد السمع والبصر بل اصل فسادهما من فساده وإذا فسد السمع والبصر فسد القلب فإذا اعرض عن سمع الحق وابغض قائله بحيث لا يحب رؤيته امتنع وصول الهدى الى القلب ففسد وإذا فسد السمع والعقل تبعهما فساد البصر فكل مدرك من هذه يصح بصحة الاخر ويفسد بفساده فلهذا يجيء في القرآن نفي ذلك صريحا ولزوما وبهذا التفصيل يعلم اتفاق الادلةمن الجانين وفي استدلال الطائفة الثانية بقوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم ونظائرها نظر فان الله تعالى حيث قال الذين آتيناهم الكتاب لم يكونوا إلا ممدوحين مؤمنين وإذا اراد ذمهم والأخبار عنهم بالعناد وايثار الضلال اتى بلفظ
(1/195)
الذين اوتوا الكتاب مبنيا للمفعول فالاول كقوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين اولئك يؤتون اجرهم مرتين بما صبروا الايات وكقوله تعالى افغير الله ابتغى حكما وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين فهذا في سياق مدحهم والاستشهاد بهم ليس في سياق ذمهم والاخبار بعنادهم وجحودهم كما استشهدهم في قوله تعالى قل كفى بالله شهيدا ببني وبينكم ومن عنده علم الكتاب وفي قوله فاسلألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون واختلف في الضمير في يتلونه حق تلاوته فقيل هو ضمير الكتاب الذي اوتوه قال ابن مسعود يحلون حلاله ويحرمون حرامه ويقرؤنه كما انزل ولا يحرفونه عن مواضعه قالوا وانزلت في مؤمني اهل الكتاب وقيل هذا وصف للمسلمين والضمير في يتلونه للكتاب الذي هو القرآن وهذا بعيد إذا عرف ان القرآن يأباه ولا يرد على ما ذكرنا قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون بل هذا حجة لنا ايضا لما ذكرنا فإنه أخبر في الاول عن معرفتهم برسوله ودينه وقبلته كما يعرفون ابناءهم استشهادا بهم على من كفر وثناء عليهم ولهذا ذكر المفسرون انهم عبد الله بن سلام واصحابه وخص في آخر الاية بالذم طائفة منهم فدل على ان الاولين غير مذمومين وكونهم دخلوا في جملة الاولين بلفظ المضمر لا يوجب ان يقال آتيناهم الكتاب عند الاطلاق فانهم دخلوا في هذا اللفظ ضمنا وتبعا فلا يلزم تناوله لهم قصدا واختيارا وقال تعالى في سورة الانعام قل ائنكم لتشهدون ان مع الله آلهة اخرى قل لا اشهد قل إنما هو اله واحدة وإنني برئ مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب
(1/196)
يعرفونه كما يعرفون ابناءهم قيل الرسول وصدقه وقيل المذكور هو التوحيد والقولان متلازما اذ ذلك في معرض الاستشهاد والاحتجاج على المشركين لافي معرض ذم الذين آتاهم الكتاب فإن السورة مكية والحجاج كان فيها مع اهل الشرك والسياق يدل على الاحتجاج لاذم المذكورين من اهل الكتاب واما الثاني فكقوله وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعلمون ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية ماتبعوا قبلتك فهذا شهادته سبحانه للذين اوتوا الكتاب والاول شهادته للذين آتاهم الكتاب بأنهم يؤمنون وقال تعالى يا ايها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل ان نطمس وجوها فنردها على ادبارها وقال تعالى وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم وهذا خطاب لمن لم يسلم منهم وإلا فلم يؤمر
(1/197)
ان يقول هذا لمن اسلم منهم وصدق به ولهذا لا يذكر سبحانه الذين اوتوا نصيبا من الكتاب الا بالذم ايضا كقوله الم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الاية وقال تعالى الم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون ان تضلوا السبيل وقال الم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يدعون الى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون فالاقسام اربعة الذين آتيناهم الكتاب وهذا لا يذكره سبحانه إلا في معرض المدح والذين اوتوا نصيبا من الكتاب لا يكون قط الا في معرض الذم والذين اوتوا الكتاب اعم منه فانه قد يتناولهما ولكن لا يفرد به الممدوحون قط ويا أهل الكتاب يعم الجنس كله ويتناول الممدوح منه والمذموم كقوله من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الاخر الآية وقال في الذم لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين وهذا الفصل ينتفع به جدا في أكبر مسائل اصول الاسلام وهي مسئلة الايمان واختلاف اهل القبلة فيه وقد ذكرنا فيه نكتا حسانا يتضح بها الحق في المسألة والله اعلم الوجه الثاني والثمانون ان الله سبحانه فاوت بين النوع الانساني اعظم تفاوت يكون بين المخلوقين فلا يعرف اثنان من نوع واحد بينهما من التفاوت ما بين خير البشر وشرهم والله سبحانه خلق الملائكة عقولا بلا شهوات وخلق الحيوانات ذوات شهوات بلا عقول وخلق الانسان مركبا من عقل وشهوة فمن غلب عقله شهوته كان خيرا من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله كان شرا من الحيوانات وفاوت سبحانه بينهم في العلم فجعل عالمهم معلم الملائكة كما قال تعالى يا آدم انبئهم باسمائهم وتلك مرتبة لا مرتبة فوقها وجعل جاهلهم بحيث لا يرضى الشيطان به ولا يصلح له كما قال الشيطان لجاهلهم الذي اطاعه في الكفر إني بريء منك وقال لجهلتهم الذين عصوا رسوله إني بريء منكم فلله ما أشد
(1/198)
هذا التفاوت بين شخصين احدهما تسجد له الملائكة ويعلمها مما الله علمه والاخر لا يرضى الشيطان به وليا وهذا التفاوت العظيم إنما حصل بالعلم وثمرته ولو لم يكن في العلم الا القرب من رب العالمين والالتحاق بعالم الملائكة وصحبة الملأ الاعلى لكفى به فضلا وشرفا فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به ومشروط بحصوله الوجه الثالث والثمانون ان اشرف ما في الانسان محل العلم منه وهو قلبه وسمعه وبصره ولما كان القلب هو محل العلم والسمع رسوله الذي ياتيه به والعين طليعته كان ملكا على سائر الاعضاء يأمرها فتاتمر لامره ويصرفها فتنقاد له طائعة بما خص به من العلم دونها فلذلك كان ملكها والمطاع فيها وهكذا العالم في الناس كالقلب في الاعضاء ولما كان صلاح الاعضاء بصلاح ملكها ومطاعها وفسادها بفساده كانت هذه حال الناس مع علمائهم
(1/199)
وملوكهم كما قال بعض السلف صنفان إذا صلحا صلح سائر الناس واذا فسدا فسد سائر الناس العلماء والامراء قال عبد الله بن المبارك : وهل افسد الدين الا الملو ك واحبار سوء ورهبانها ولما كان للسمع والبصر من الادراك ما ليس لغيرهما من الاعضاء كانا في أشرف جزء من الانسان وهو وجهه وكانا من افضل ما في الانسان من الاجزاء والاعضاء والمنافع واختلف في الافضل منهما فقالت طائفة منهم ابو المعالي وغيره السمع افضل قالوا لان به تنال سعادة الدنيا والاخرة فانها انما تحصل بمتابعة الرسل وقبول رسالاتهم وبالسمع عرف ذلك فان من لا سمع له لا يعلم ما جاؤا به وايضا فان السمع يدرك به اجل شيء وافضله وهو كلام الله تعالى الذي فضله على الكلام كفضل الله على خلقه وايضا فان العلوم انما تنال بالتفاهم والتخاطب ولا يحصل ذلك الا بالسمع وايضا فان مدركه اعم من مدرك البصر فانه يدرك الكليات والجزئيات والشاهد والغائب والموجود والمعدوم والبصر لا يدرك الا بعض المشاهدات والسمع يسمع كل علم فاين احدهما من الاخر ولو فرضنا شخصين احدهما يسمع كلام الرسول ولا يرى شخصه والاخر بصير يراه ولا يسمع كلامه لصممه هل كانا سواء وايضا ففاقد البصر انما يفقد ادراك بعض الامور الجزئية المشاهدة ويمكنه معرفتها بالصفة ولو تقريبا واما فاقد السمع فالذي فاته من العلم لا يمكن حصوله بحاسة البصر ولو قريبا وايضا فان ذم الله تعالى للكفار بعدم السمع في القرآن اكثر من ذمه لهم بعدم البصر بل انما يذمهم بعدم البصر تبعا لعدم العقل والسمع وايضا فان الذي يورده السمع على القلب من العلوم لا يلحقه فيه كلال ولا سآمة ولا تعب مع كثرته وعظمه والذي يورده البصر عليه يلحقه فيه الكلال والضعف والنقص وربما خشى صاحبه على ذهابه مع قلته ونزارته بالنسبة الى السمع وقالت طائفة منهم ابن قتيبة بل البصر افضل فان اعلا النعيم وافضله واعظمه لذة هو النظر الى الله في الدار الاخرة وهذا انما
(1/200)
ينال بالبصر وهذه وحدها كافية في تفضيله قالوا وهو مقدمة القلب وطليعته ورائده فمنزلته منه اقرب من منزلة السمع ولهذا كثيرا ما يقرن بينهما في الذكر بقوله فاعتبروا يا أولي الابصار فالاعتبار بالقلب والبصر بالعين وقال تعالى ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة ولم يقل واسماعهم وقال تعالى فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى قلوب يومئذ واجفة ابصارها خاشعة وقال تعالى يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور وقال في حق رسوله ما كذب الفؤاد ما رأى ثم قال ما زاغ البصر وما طغى هذا يدل على شدة الوصلة والارتباط بين القلب والبصر ولهذا يقرأ الانسان ما في قلب
(1/201)
الاخر من عينه وهذا كثير في كلام الناس نظمه ونثره وهو اكثر من ان نذكره هنا ولما كان القلب اشرف الاعضاء كان اشدها ارتباطا به واشرف من غيره قالوا ولهذا يأتمنه القلب مالا يأتمن السمع عليه بل إذا ارتاب من جهة عرض ما يأتيه به على البصر ليزكيه ام يرده فالبصر حاكم عليه مؤتمن عليه قالوا ومن هذا الحديث الذي رواه احمد في مسنده مرفوعا ليس المخبر كالمعاين قالوا ولهذا اخبر الله سبحانه موسى ان قومه افتتنوا من بعده وعبدوا العجل فلم يلحقه في ذلك ما لحقه عند رؤية ذلك ومعاينته من القاء الالواح وكسرها لفوت المعاينة على الخبر قالوا وهذا إبراهيم خليل الله يسأل ربه ان يريه كيف يحيى الموتى وقد علم ذلك بخبر الله له ولكن طلب افضل المنازل وهي طمأنينة القلب قالوا ولليقين ثلاث مراتب اولها للسمع وثانيها للعين وهي المسماة بعين اليقين وهي افضل من المرتبة الاولى واكمل قالوا وايضا فالبصر يؤدى الى القلب ويؤدي عنه فان العين مرآة القلب يظهر فيها ما يحبه من المحبة والبغض والموالاة والمعاداة والسرور والحزن وغيرها وأما الاذن فلا تؤدى عن القلب شيئا البتة وإنما مرتبتها الايصال اليه حسب فالعين اشد تعلقا به والصواب ان كلا منهما له خاصية فضل بها الاخر فالمدرك بالسمع اعم واشمل والمدرك بالبصر اتم واكمل فالسمع له العموم والشمول والبصر له الظهور والتمام وكمال الادراك واما نعيم اهل الجنة فشيئآن احدهما النظر الى الله والثاني سماع خطابه وكلامه كما رواه عبد الله بن احمد في المسند وغيره كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن اذا سمعوه من الرحمن عز وجل ومعلوم ان سلامه عليهم وخطابه لهم ومحاضرته اياهم كما في الترمذي وغيره لا يشبهها شيء قط ولا يكون اطيب عندهم منها ولهذا يذكر سبحانه في وعيد اعدائه انه لايكلمهم كما يذكر احتجابه عنهم ولا يرونه فكلامه اعلا نعيم اهل الجنة والله اعلم الوجه الرابع والثمانون ان الله سبحانه في القرآن يعدد
(1/202)
على عباده من نعمه عليهم ان اعطاهم آلات العلم فيذكر الفؤاد والسمع والابصار ومرة يذكر اللسان الذي يترجم به عن القلب فقال تعالى في سورة النعم وهي سورة النحل التي ذكر فيها اصول النعم وفروعها ومتمماتها ومكملاتها فعددنعمه فيها على عباده وتعرف بها اليهم واقتضاهم شكرها واخبر انه يتمها عليهم ليعرفوها ويذكروها ويشكروها فاولها في اصول النعم وآخرها في مكملاتها قال تعالى والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون فذكر سبحانه نعمته عليهم بان اخرجهم لا علم لهم ثم اعطاهم الاسماع والابصار والافئدة التي نالوا بها من العلم مانالوه وانه فعل بهم ذلك
(1/203)
ليشكروه وقال تعالى وجعلنا لهم سمعا وابصارا وافئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء وقال تعالى الم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فذكر هنا العينين التي يبصر بهما فيعلم المشاهدات وذكر هداية النجدين وهما طريقا الخير والشر وفي ذلك حديث مرفوع ومرسل وهو قول اكثر المفسرين وتدل عليه الاية الاخرى انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا والهداية تكون بالقلب والسمع فقد دخل السمع في ذلك لزوما وذكر اللسان والشفتين اللتين هما آلة التعليم فذكر الات العلم والتعليم وجعلها من آياته الدالة عليه وعلى قدرته ووحدانيته ونعمه التي تعرف بها الى عباده ولما كانت هذه الاعضاء الثلاثة التي هي اشرف الاعضاء وملوكها والمنصرفة فيها والحاكمة عليها خصها سبحانه وتعالى بالذكر في السؤال عنها فقال إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا فسعادة الانسان بصحة هذه الاعضاء الثلاثة وشقاوته بفسادها قال ابن عباس يسأل الله العباد فيما استعملوا هذه الثلاثة السمع والبصر والفؤاد والله تعالى اعطى العبد السمع ليسمع به اوامر ربه ونواهيه وعهوده والقلب ليعقلها ويفقهها والبصر ليرى آياته فيستدل بها على وحدانيته وربوبيته فالمقصود باعطائه هذه الالات العلم وثمرته ومقتضاه الوجه الخامس والثامنون ان انواع السعادة التي تؤثرها النفوس ثلاثة سعادة خارجية عن ذات الانسان بل هي مستعارة له من غيره يزول باسترداد العارية وهي سعادة المال والحياة فبينا المرء بها سعيدا ملحوظا بالعناية مرموقا بالابصار إذا اصبح في اليوم الواحد اذل من وتد بقاع يشج رأسه بالفهرواجي فالسعادة والفرح بهذه كفرح الاقرع بحمة ابن عمه والجمال بها كجمال المرء بثيابه وبزينته فاذا جاوز بصرك كسوته فليس وراء عبادان قرية ويحكى عن بعض العلماء انه ركب مع تجار في مركب فانكسرت بهم السفينة فاصبحوا بعدعز الغنى في ذل الفقر ووصل العالم الى البلد
(1/204)
فاكرم وقصد بانواع التحف والكرامات فلما ارادوا الرجوع الى بلادهم قالوا له هل لك الى قومك كتاب او حاجة فقال نعم تقولون لهم اذا اتخدتم مالا لا يغرق اذا انكسرت السفينة فاتخذوا العلم تجارة واجتمع رجل ذو هيئة حسنة ولباس جميل ورواء برجل عالم فجس المخاضة فلم ير شيئا فقالوا كيف رايته فقال رأيت دارا حسنة مزخرفة ولكن ليس بها ساكن السعادة الثانية سعادة في جسمه وبدنه كصحته واعتدال مزاجه وتناسب اعضائه وحسن تركيبه وصفاء لونه وقوة اعضائه فهذه الصق به من الاولى ولكن هي في الحقيقة خارجة عن ذاته وحقيقته فان الإنسان انسان بروحه وقلبه لا بجسمه وبدنه كما قيل :
(1/205)
يا خادم الجسم كم يشقى بخدمته فأنت بالروح لا بالجسم إنسان فنسبة هذه الى روحه وقلبه كنسبة ثيابه ولباسه الى بدنه فان البدن ايضا عارية للروح وآلة لها ومركب من مراكبها فسعادتها بصحته وجماله وحسنة سعادة خارجة عن ذاتها وحقيقتها السعادة الثالثة هي السعادة الحقيقية وهي سعادة نفسانية روحية قلبية وهي سعادة العلم النافع ثمرته فانها هي الباقية على تقلب الاحوال والمصاحبة للعبد في جميع اسفاره وفي دوره الثلاثة اعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار وبها يترقى معارج الفضل ودرجات الكمال اما الاولى فانها تصحبه في البقعة التي فيها ماله وجاهه والثانية تعرضه للزوال والتبدل بنكس الخلق والرد الى الضعف فلا سعادة في الحقيقة الا في هذه الثالثة التي كلما طال الامد ازدادات قوة وعلوا وإذا عدم المال والجاه فهي مال العبد وجاهه وتظهر قوتها وأثرها بعد مفارقة الروح البدن اذا انقطعت السعادتان الاوليتان وهذه السعادة لا يعرف قدرها ويبعث على طلبها الا العلم بها فعادت السعادة كلها الى العلم وما تقضيه والله يوفق من يشاء لا مانع لما اعطى ولا معطى لما منع وانما رغب اكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها وعورة طريقها ومرارة مباديها وتعب تحصيلها وانها لاتنال الا على جد من التعب فانها لاتحصل الا بالجد المحض بخلاف الاوليين فانهما حظ قد يحوزه غير طالبه وبخت قد يحوزه غير جالبه من ميراث او هبة او غير ذلك واما سعادة العلم فلا يورثك اياها الا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية وقد احسن القائل في ذلك : فقل لمرجي معالي الامور بغير اجتهاد رجوت المحالا وقال الآخر لولا المشقة ساد للناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ومن طمحت همته الى الامور العالية فواجب عليه ان يشد على محبة اطرق الدينية وهي السعادة وان كانت في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي وانها متى اكرهت النفس عليها وسيقت طائعة وكارهة اليها
(1/206)
وصبرت على لاوائها وشدتها افضت منها الى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة الى لذات الملوك فحينئذ حال صاحبها كما قيل : وكنت ارى ان قدتناهى بي الهوى الى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت اني انما كنت العب فالمكارم منوطة بالمكارة والسعادة لا يعبر اليها الا على جسر المشقة فلا تقطعمسافتها الا في سفينة الجد والاجتهاد قال مسلم في صحيحه قال يحيى بن ابي كثير لاينال العلم براحة الجسم وقد قيل من طلب الراحة ترك الراحة فيا وصل الحبيب اما اليه بغير مشقة ابدا طريق ولولا جهل الاكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف ولكن حفت بحجاب من المكاره وحجبوا عنها بحجاب من الجهل ليختص الله لها من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم الوجه السادس والثمانون ان الله تعالى خلق الموجودات وجعل لكل شيء منها كمالا يختص به هو غاية شرفه فإذا عدم كماله انتقل الى الرتبة التي دونه واستعمل فيها فكان استعماله فيها كمال امثاله فاذا عدم تلك ايضا نقل الى ما دونها ولا تعطل وهكذا ابدا حتى اذا عدم كل فضيلة صار كالشوك وكالحطب الذي لا يصلح الا للوقود فالفرس اذا كانت فيه فروسيته التامة اعد لمراكب الملوك واكرم أكرام مثله فإذا نزل عنها قليلا اعد لمن دون الملك فإن ازداد تقصيره فيها اعد لاحاد الاجناد فان تقاصر عنها جملة استعمل استعمال الحمار اما حول المدار واما لنقل الزبل ونحوه فان عدم ذلك استعمل استعمال الاغنام للذبح والاعدام كما يقال في المثل ان فرسين التقيا احدهما تحت ملك والاخر تحت الروايا فقال فرس الملك اما انت صاحبي وكنت انا وانت في مكان واحد فما الذي نزل بك الى هذه المرتبة فقال ما ذاك الا انك هملجت قليلا ونعكست انا وهكذا السيف اذا نباعما هيء له ولم يصلح له ضرب منه فاس او منشار ونحوه وهكذا الدور العظام الحسان اذا خرجت وتهدمت
(1/207)
اتخذت حظائر للغنم او الابل وغيرها وهكذا الادمي اذا كان صالحا لاصطفاء الله له برسالته ونبوته اتخذه رسولا ونبيا كما قال تعالى الله اعلم حيث يجعل رسالته فاذا كان جوهره قاصرا عن هذه الدرجة صالحا لخلافة النبوة وميراثها رشحه لذلك وبلغه اياه فإذا كان قاصرا عن ذلك قابلا لدرجة الولاية رشح لها وان كان ممن يصلح للعمل والعبادة دون المعرفة والعلم جعل من اهله حتى ينتهي الى درجة عموم المؤمنين فان نقص عن هذه الدرجة ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير اصلا استعمل حطبا ووقودا للنار وفي اثر اسرائيلي ان موسى سأل ربه عن شان من يعذبهم من خلقه فقال يا موسى ازرع زرعا فزرعه فاوحى اليه ان احصده ثم اوحى اليه ان أنسفه وذره ففعل وخلص الحب وحده والعيدان والعصف وحده فاوحى اليه اني لاجعل في النار من العباد من لا خير فيه بمنزلة العيدان والشوك التي لا يصلح الا للنار وهكذا الانسان يترقى في درجات الكمال درجة بعد
(1/208)
درجة حتى يبلغ نهاية ما يناله امثاله منها فكم بين حاله في اول كونه نطفة وبين حاله والرب يسلم عليه في داره وينظر الى وجهه بكرة وعشيا والنبي في اول امره لما جاءه الملك فقال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ وفي آخره امره بقول الله له اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي وبقوله له خاصة وانزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وحكى ان جماعة من النصارى تحدثوا فيما بينهم فقال قائل منهم ما أقل عقول المسلمين يزعمون ان نبيهم كان راعي الغنم فكيف يصلح راعي الغنم للنبوة فقال له آخر من بينهم اما هم فوالله اعقل منا فان الله بحكمته يسترعي النبي الحيوان البهيم فاذا احسن رعايته والقيام عليه نقله منه الى رعاية الحيوان الناطق حكمة من الله وتدريجا لعبده ولكن نحن جئنا الى مولود خرج من امرأة يأكل ويشرب ويبول ويبكي فقلنا هذا الهنا الذي خلق السموات والارض فامسك القوم عنه فكيف يحسن بذي همة قد ازاح الله عنه علله وعرفه السعادة والشقاوة ان يرضى بان يكون حيوانا وقد أمكنه ان يصير انسانا وبان يكون إنسانا وقد امكنه ان يكون ملكا وبأن يكون ملكا وقد امكنه ان يكون ملكا في مقعد صدق عند مليك مقتدر فتقوم الملائكة في خدمته وتدخل عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار وهذا الكمال إنما ينال بالعلم ورعايته والقيام بموجبه فعاد الامر الى العلم وثمرته والله تعالى الموفق واعظم النقص واشد الحسرة نقص القادر علىالتمام وحسرته على تقويته كما قال بعض السلف اذا كثرت طرق الخير كان الخارج منها اشد حسرة وصدق القائل : ولم ار في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام فثبت انه لا شيء اقبح بالانسان من ان يكون غافلا عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والاعمال الصالحة فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع الذين يكدرون الماء ويغلون الاسعار ان عاش عاش غير حميد وان مات مات غير فقيد فقدهم راحة
(1/209)
للبلاد والعباد ولا تبكي عليهم السماء ولا تستوحش لهم الغبراء الوجه السابع والثمانون ان القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه اذا استحكما فيه كان هلاكه وموته وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات هذان اصل داء الخلق الا من عافاه الله وقد ذكر الله تعالى هذين المرضين في كتابه اما مرض الشبهات وهو اصعبهما واقتلهما للقلب ففي قوله في حق المنافقين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقوله وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا وقال تعالى ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم فهذه ثلاثة مواضع المراد بمرض القلب فيها مرض الجهل والشبهة واما مرض
(1/210)
الشهوة ففي قوله يانساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض أي لا تلن في الكلام فيطمع الذي في قلبه فجور وزناء قالوا والمرأة ينبغي لها اذا خاطبت الاجانب ان تغلظ كلامها وتقويه ولا تلينه وتكسره فان ذلك ابعد من الريبة والطمع فيها وللقلب امراض اخر من الرياء والكبر والعجب والحسد والفخر والخيلاء وحب الرياسة والعلو في الارض وهذا مرض مركب من مرض الشبهة والشهوة فإنه لا بد فيه من تخيل فاسد وارادة باطلة كالعجب والفخر والخيلاء والكبر المركب من تخيل عظمته وفضله وإرادة تعظيم الخلق له ومحمدتهم فلا يخرج مرضه عن شهوة او شبهة او مركب منهما وهذه الامراض كلها متولدة عن الجهل ودواؤها العلم كما قال النبي في حديث صاحب الشجة الذي افتوه بالغسل فمات قتلوه قتلهم الله الا سألوا اذ لم يعلموا انما شفاء العي السؤال فجعل العي وهو عي القلب عن العلم واللسان عن النطق به مرضا وشفاؤه سؤال العلماء فأمراض القلوب اصعب من امراض الابدان لان غاية مرض البدن ان يفضي بصاحبه الى الموت وأما مرض القلب فيفضي بصاحبه الى الشقاء الابدي ولا شفاء لهذا المرض الا بالعلم ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاء لامراض الصدور وقال تعالى يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم منه وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ولهذا السبب نسبة العلماء الى القلوب كنسبة الاطباء الى الابدان وما يقال للعلماء اطباء القلوب فهو لقدر ما جامع بينهما والا فالامر اعظم فان كثيرا من الامم يستغنون عن الاطباء ولا يوجد الاطباء الا في اليسير من البلاد وقد يعيش الرجل عمره او برهة منه لا يحتاج الى طبيب واما العلماء بالله وامره فهم حياة الموجود وروحه ولا يستغنى عنهم طرفة عين فحاجة القلب الى العلم ليست كالحاجة الى التنفس في الهواء بل اعظم وبالجملة فالعلم للقلب مثل الماء للسمك اذا فقده مات فنسبة العلم الى القلب كنسبة ضوء العين اليها
(1/211)
وكنسبة سمع الاذن وكنسبة كلام اللسان اليه فإذا عدمه كان كالعين العمياء والاذن الصماء واللسان الاخرس ولهذا يصف سبحانه اهل الجهل بالعمى والصم والبكم وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها قال تعالى ومن كان في هذه اعمى فهو في الاخرة اعمى واضل سبيلا والمراد عمى القلب في الدنيا وقال تعالى ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم لانهم هكذا كانوا في الدنيا والعبد يبعث على ما مات عليه واختلف في هذا العمى في الاخرة فقيل هوعمى البصيرة بدليل اخباره تعالى عن رؤية الكفار ما في القيامة ورؤية الملائكة ورؤية النار وقيل هو عمي البصر ورجح هذا بان الاطلاق ينصرف اليه وبقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا وهذا عمي العين فان الكافر لم يكن بصيرا بحجته واجاب هؤلاء عن رؤية الكفار
(1/212)
في القيامة بأن الله يخرجهم من قبورهم الى موقف القيامة بصراء ويحشرون من الموقف الى النار عميا قاله الفراء وغيره الوجه الثامن والثمانون ان الله سبحانه بحكمته سلط على العبد عدوا عالما بطرق هلاكه واسباب الشر الذي يلقيه فيه متفننا فيها خبيرا بها حريصا عليها لايفتر يقظة ولا مناما ولا بد له من واحدة من ست ينالها منه احدها وهي غاية مراده منه ان يحول بينه وبين العلم والايمان فيلقيه في الكفر فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح فان فاتته هذه وهدى للاسلام حرص على تلو الكفر وهي البدعة وهي احب اليه من المعصية فان المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لان صاحبها يرى انه على هدى وفي بعض الاثار يقول ابليس اهلكت بني آدم بالذنوب واهلكوني بالاستغفار وبلا اله الا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الاهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لانهم يحسبون انهم يحسنون صنعا فاذا ظفر منه بهذه صيره من رعاته وامرائه فان اعجزته شغله بالعمل المفضول عما هو افضل منه ليرتج عليه الذي بينهما وهي الخامسة فان اعجزه ذلك صار الى السادسة وهي تسليط حزبه عليه يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه ويشغل قلبه عن العلم والارادة وسائر اعماله فكيف يمكن ان يحترز منه من لا علم له بهذه الامور ولا بعدوه ولا بما يحصنه منه فانه لا ينجو من عدوه الا من عرفه وعرف طريقه التي يأتيه منها وجيشه الذي يستعين به عليه وعرفت داخله ومخارجه وكيفية محاربته وبأي شيء يحاربه وبماذا يداوى جراحته وبأي شيء يستمد القوة لقتاله ودفعه وهذا كله لا يحصل الا بالعلم فالجاهل في غفلة وعمى عن هذا الامر العظيم والخطب الجسيم ولهذا جاء ذكر العدو وشأنه وجنوده ومكايده في القرآن كثيرا جدا لحاجة النفوس الىمعرفة عدوها وطرق محاربته ومجاهدته فلولا ان العلم يكشف عن هذا لما نجا من نجا منه فالعلم هو الذي تحصل به النجاة الوجه التاسع والثمانون ان اعظم الاسباب التي يحرم بها العبد خير
(1/213)
الدنيا والاخرة ولذة النعيم في الدارين ويدخل عليه عدو منها هو الغفلة المضادة للعلم والكسل المضاد للارادة والعزيمة هذان اصل بلاء العبد وحرمانه منازل السعداء وهما من عدم العلم اما الغفلة فمضادة للعلم منافية له وقد ذم سبحانه اهلها ونهى عن الكون منهم وعن طاعتهم والقبول منهم قال تعالى ولاتكن من الغافلين وقال تعالى ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل واولئك هم الغافلون وقال النبي في وصيته لنساء المؤمنين لا تغفلن فتنسين الرحمة وسئل بعض العلماء عن عشق الصور فقال قلوب غفلت عن ذكر الله فابتلاها الله بعبودية غيره فالقلب الغافل مأوى
(1/214)
الشيطان فانه وسواس خناس قد التقم قلب الغافل يقرأ عليه انواع الوساوس والخيالات الباطلة فاذا تذكر وذكر الله انجمع وانضم وخنس وتضاءل لذكر الله فهو دائما بين الوسوسة والخنس وقال عروة بن رويم ان المسيح سأل ربه ان يريه موضع الشيطان من ابن آدم فجلى له فاذا رأسه راس الحية واضع راسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا لم يذكر وضع رأسه على ثمرة قلبه فمناه وحدثه وقد روى في هذا المعنى حديث مرفوع فهو دائما يترقب غفلة العبد فيبذر في قلبه بذر الاماني والشهوات والخيالات الباطلة فيثمر كل حنظل وكل شوك وكل بلاء ولا يزال يمده بسقيه حتى يغطى القلب ويعميه واما الكسل فيتولد عنه الاضاعة والتفريط والحرمان واشد الندامة وهو مناف لاراده والعزيمة التي هي ثمرة العلم فان من علم ان كماله ونعيمه في شيء طلبه بجهده وعزم عليه بقلبه كله فإن كل احد يسعى في تكميل نفسه ولذته ولكن اكثرهم اخطأ الطريق لعدم علمه بما ينبغي ان يطلبه فالارادة مسبوقة بالعلم والتصور فتخلفها في الغالب إنما يكون لتخلف العلم والادراك وإلا فمع العلم التام بان سعادة العبد في هذا المطلب ونجاته وفوزه كيف يلحقه كسل في النهوض اليه ولهذا استعاذ النبي من الكسل ففي الصحيح عنه انه كان يقول اللهم اني اعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فاستعاذ من ثمانية اشياء كل شيئين منها قرينان والفرق بينهما ان المكروه الوارد على القلب اما ان يكون على ما مضى او لما يستقبل فالاول هو الحزن والثاني الهم وان شئت قلت الحزن على المكروه الذي فات ولا يتوقع دفعه والهم على المكروه المنتظر الذي يتوقع دفعه وتأمله والعجز والكسل قرينان فان تخلف مصلحة العبد وكماله ولذته وسروره عنه اما ان يكون مصدره عدم القدرة فهو العجز او يكون قارا عليه لكن تخلف لعدم إرادته فهو الكسل وصاحبه يلام عيه مالا يلام على العجز وقد يكون العجز ثمرة الكسل فيلام
(1/215)
عليه ايضا فكثيرا ما يكسل المرء عن الشيء الذي هو قادر عليه وتضعف عنه ارادته فيفضي به الى العجز عنه وهذا هو العجز الذي يلوم الله عليه في قول النبي ان الله يلوم على العجز وإلا فالعجز الذي لم تخلق له قدرة على دفعه ولا يدخل معجوزه تحت القدرة لا يلام عليه قال بعض الحكماء في وصيته إياك والكسل والضجر فان الكسل لا ينهض لمكرمة والضجر إذا نهض اليها لا يصبر عليها والضجر متولدعن الكسل والعجز فلم يفرده في الحديث بلفظ ثم ذكر الجبن والبخل فان الاحسان المتوقع من العبد اما بماله واما ببدنه فالبخيل مانع لنفع ماله والجبان مانع لنفع بدنه المشهور عند الناس ان البخل مستلزم الجبن من غير عكس لان من بخل بماله فهو بنفسه ابخل والشجاعة تستلزم الكرم من غير عكس لان من جاد بنفسه فهو بماله اسمح واجود وهذا الذي
(1/216)
قالوه ليس بلازم اكثره فان الشجاعة والكرم واضدادها اخلاق وغرائز قد تجمع في الرجل وقد يعطى بعضها دون بعض وقد شاهد الناس من اهل الاقدام والشجاعة والبأس من هو ابخل الناس وهذا كثيرا ما يوجد في امة الترك يكون اشجع من ليث وابخل من كلب فالرجل قد يسمح بنفسه ويضن بماله ولهذا يقاتل عليه حتى يقتل فيبدأ بنفسه دونه فمن الناس من يسمح بنفسه وماله ومنهم من يبخل بنفسه ومنهم من يسمح بماله ويبخل بنفسه وعكسه والاقسام الاربعة موجودة في الناس ثم ذكر ضلع الدين وغلبة الرجال فان القهر الذي ينال العبد نوعان احدهما قهر بحق وهو ضلع الدين والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال فصلوات الله وسلامه على من اوتي جوامع الكلم واقتبست كنوز العلم والحكمة من الفاظة والمقصود ان الغفلة والكسل اللذين هما اصل الحرمان سببهما عدم العلم فعاد النقص كله الى عدم العلم والعزيمة والكمال كله الى العلم والعزيمة والناس في هذا على اربعة اضرب الضرب الاول من رزق علما واعين على ذلك بقوة العزيمة على العمل وهذا الضرب خلاصة الخلق وهم الموصوفون في القرآن بقوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله اولى الايدي والابصار وبقوله افمن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فبالحياة تنال العزيمة وبالنور ينال العلم وأئمة هذا الضرب هم اولو العزم من الرسل الضرب الثاني من حرم هذا وهذا وهم الموصوفون بقوله إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون وبقوله ام تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام بل هم اضلوا سبيلا وبقوله انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء وقوله وما انت بمسمع من في القبور وهذا الصنف شر البرية يضيقون الديار ويغلون الاسعار وعند انفسهم انهم يعلمون ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون ويتكلمون
(1/217)
ولكن بالجهل يتكلمون ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت ويعبدون ولكن يعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق ويتفكرون ويبيتون ولكن مالا يرضى من القول يبيتون ويدعون ولكن مع الله الها آخر يدعون ويذكرون ولكن إذا ذكروا لا يذكرون ويصلون ولكنهم من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون ويكتبون ولكن يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت ايديهم وويل لهم مما يسكبون ويقولون إنما نحن مصلحون ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون فهذا الضرب ناس بالصورة وشياطين بالحقيقة وجلهم إذا فكرت فهم حمير او كلاب او ذئاب وصدق البحتري في قوله :
(1/218)
لم يبق من جل هذا الناس باقية ينالها الوهم الا هذه الصور وقال الاخر لا تخدعنك اللحاء والصور تسعة اعشار من ترى بقر في شجر السدر منهم مثل لها رواء وما لها ثمر واحسن من هذا كله قوله تعالى وإذا رأيتهم تعجبك اجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة عالمهم كما قيل فيه : زوامل للأسفار لا علم عندهم يجيدها الا كعلم الاباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا باوساقه او راح ما في الغرائر واحسن من هذا وابلغ واوجز وافصح قوله تعالى كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين الضرب الثالث من فتح له باب العلم وأغلق عنه باب العزم والعمل فهذا في رتبة الجاهل او شر منه وفي الحديث المرفوع اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ثبته ابو نعيم وغيره فهذا جهله كان خيرا له واخف لعذابه من كمله فما زاده العلم إلا وبالا وعذابا وهذا لا مطمع في صلاحه فإن التائه عن الطريق يرجى له العود اليها إذا ابصرها فإذا عرفها وحاد عنها عمدا فمتى ترجى هدايته قال تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين الضرب الرابع من رزق حظا من العزيمة والارادة ولكن قل نصيبه من العلم والمعرفة فهذا اذا وفق له الاقتداء بداع من دعاة الله ورسوله كان من الذين قال الله فيهم ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما رزقنا الله من فضله ولا احرمنا بسوء اعمالنا انه غفور رحيم الوجه التسعون ان كل صفة مدح الله بها العبد في القرآن فهي ثمرة العلم ونتيجته وكل ذم ذمه فهو ثمرة الجهل ونتيجته فمدحه بالايمان وهو راس العلم ولبه ومدحه بالعمل الصالح الذي هو ثمرة العلم النافع ومدحه بالشكر والصبر والمسارعة في
(1/219)
الخيرات والحب له والخوف منه والرجاء والانابة والحلم والوقار واللب والعقل والعفة والكرم والايثار على النفس والنصيحة لعباده والرحمة بهم والرأفة وخفض الجناح والعفو عن مسيئهم والصفح عن جانبهم وبذل الاحسان لكافتهم ودفع السيئة بالحسنة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في مواطن الصبر والرضا بالقضاء واللين للأولياء والشدة على الاعداء والصدق في الوعد والوفاء بالعهد والاعراض عن الجاهلين والقبول من الناصحين واليقين والتوكل والطمأنينة والسكينة والتواصل والتعاطف والعدل في الاقوال والافعال والاخلاق والقوة في امره والبصيرة في دينه والقيام بأداء حقه واستخراجه من المانعين له والدعوة اليه وإلى مرضاته وجنته والتحذير عن سبل اهل الضلال وتبيين طرق الغي وحال سالكيها والتواصي بالحق والتواصي بالصبر والحض على طعام المسكين وبر الوالدين وصلة الارحام وبذل السلام لكافة المؤمنين الى سائر الاخلاق المحمودة والافعال المرضية التي اقسم الله سبحانه على عظمها فقال تعالى ن والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لاجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم قالت عائشة رضى الله عنها وقد سئلت عن خلق رسول الله فقالت كان خلقه القرآن فاكتفى بذلك السائل وقال فهمت ان اقوم ولا أسال عن شيء بعدها فهذه الاخلاق ونحوها هي ثمرة شجرة العلم واما شجرة الجهل فتثمر كل ثمرة قبيحة من الكفر والفساد والشرك والظلم والبغي والعدوان والجزع والهلع والكنود والعجلة والطيش والحدة والفحش والبذاء والشح والبخل ولهذا قيل في حد البخل جهل مقرون بسوء الظن ومن ثمرته الغش للخلق والكبر عليهم والفخر والخيلاء والعجب والرياء والسمعة والنفاق والكذب واخلاف الوعد والغلظة على الناس والانتقام ومقابلة الحسنة بالسيئة والامر بالمنكر والنهي عن المعروف وترك القبول من الناصحين وحب غير الله ورجائه والتوكل عليه وإيثار رضاه على رضا الله وتقديم امره على امر
(1/220)
الله والتماوت عند حق الله والوثوق بما عند حق نفسه والغضب لها والانتصار لها فإذا انتهكت حقوق نفسه لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم بأكثر من حقه وإذا انتهكت محارم الله لم ينبض له عرق غضبا لله فلا قوة في امره ولا بصيرة في دينه ومن ثمرتها الدعوة الى سبيل الشيطان وإلى سلوك طرق البغي واتباع الهوى وايثار الشهوات على الطاعات وقيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ووأد البنات وعقوق الامهات وقطيعة الارحام وإساءة الجوار وركوب مركب الخزي والعار وبالحملة فالخير بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم والشر بمجموعه شوك يجتنى من شجرة الجهل فلو ظهرت صورة العلم للأبصار لزاد حسنها على صورة الشمس والقمر ولو ظهرت صورة الجهل لكان منظرها اقبح منظر بل كل خير في العالم فهو من آثار العلم الذي جاءت به الرسل ومسبب عنه وكذلك كل خير يكون الى قيام الساعة وبعدها في القيامة وكل شر وفساد حصل في العالم ويحصل الى قيام الساعة وبعدها في القيامة فسببه مخالفة ما جاءت به الرسل في العلم والعمل ولو لم يكن للعلم اب ومرب وسائس ووزير الا العقل الذي به عمارة الدارين وهو الذي ارشد الى طاعة الرسل وسلم
(1/221)
القلب والجوارح ونفسه اليهم وانقاد لحكمه وعزل نفسه وسلم الامر الى اهله لكفى به شرفا وفضلا وقد مدح الله سبحانه العقل وأهله في كتابه في مواضع كثيرة منه وذم من لا عقل له وأخبر انهم اهل النار الذين لا سمع لهم ولا عقل فهو آلة كل علم وميزانه الذي به يعرف صحيحه من سقيمه وراجحه من مرجوحه والمرآة التي يعرف بها الحسن من القبيح وقد قيل العقل ملك والبدن روحه وحواسه وحركاته كلها رعية له فإذا ضعف عن القيام عليها وتعهدها وصل الخلل اليها كلها ولهذا قيل من لم يكن عقله اغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه وروى انه لما هبط آدم من الجنة اتاه جبريل فقال ان الله احضرك العقل والدين والحياء لتختار واحدا منها فقال اخذت العقل فقال الدين والحياء امرنا ان لا نفارق العقل حيث كان فانحاز اليه والعقل عقلان عقل غريزة وهو اب العلم ومربيه ومتمره وعقل مكتسب مستفاد وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء واستقام له امره واقبلت عليه جيوش السعادة من كل جانب وإذا فقد احدهما فالحيوان البهيم احسن حالا منه واذا انفرد انتقص الرجل بنقصان احدهما ومن الناس من يرجح صاحب العقل الغريزي ومنهم من يرجح صاحب العقل المكتسب والتحقيق ان صاحب العقل الغريزي الذي لا علم ولا تجربة عنده آفته التي يؤتى منه الاحجام وترك انتهاز الفرصة لان عقله يعقله عن انتهاز الفرصة لعدم علمه بها وصاحب العقل المكتسب يؤتى من الاقدام فان علمه بالفرص وطرقها يلقيه على المبادرة اليها وعقله الغريزي لا يطيق رده عنه فهو غالبا يؤتى من إقدامه والاول من احجامه فإذا رزق العقل الغريزي عقلا ايمانيا مستفادا من مشكاة النبوة لا عقلا معيشيا نفاقيا يظن اربابه انهم على شيء الا انهم هم الكاذبون فانهم يرون العقل ان يرضوا الناس على طبقاتهم ويسالموهم ويستجلبوا مودتهم ومحبتهم وهذا مع انه لا سبيل اليه فهو ايثار للراحة والدعة
(1/222)
ومؤنة الاذى في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه وهو وان كان اسلم عاجلة فهو الهلك في الاجلة فإنه ما ذاق طعم الايمان من لم يوال في الله ويعاد فيه فالعقل كل العقل ما اوصل الى رضا الله ورسوله والله الموفق المعين وفي حديث مرفوع ذكره ابن عبدالبر وغيره اوحى الله الى نبي من انبياء بني اسرائيل قل لفلان العابد اما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة واما انقطاعك الي فقد اكتسبت به العز فما عملت فيما لي عليك قال وما لك على قال هل واليت في وليا او عاديت في عدوا وذكر ايضا انه اوحى الله الى جبريل ان اخسف بقرية كذا وكذا قال يا رب ان فيهم فلانا العابد قال به فابدأ انه لم يتمعر وجهه في يوما قط الوجه الحادي والتسعون حديث ابن عمر عن النبي اذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة قال
(1/223)
حلق الذكر فإن لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر فاذا اتوا عليهم صفوا بهم قال عطاء مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام كيف يشترى ويبيع ويصوم ويصلي ويتصدق وينكح ويطلق ويحج ذكره الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه وقد تقدم بيانه الوجه الثاني والتسعون ما رواه الخطيب ايضا عن ابن عمر يرفعه مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة وفي رفعه نظر الوجه الثالث والتسعون ما رواه ايضا من حديث عبدالرحمن بن عوف يرفعه يسير الفقه خير من كثير من العبادة ولا يثبت رفعه الوجه الرابع والتسعون ما رواه ايضا من حديث انس يرفعه فقيه افضل عند الله من ألف عابد وهو في الترمذي من حديث روح ابن جناح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وفي ثبوتهما مرفوعين نظر والظاهر ان هذا من كلام الصحابة فمن دونهم الوجه الخامس والتسعون ما رواه ايضا عن ابن عمر يرفعه افضل العبادة الفقه الوجه السادس والتسعون ما رواه ايضا من حديث نافع عن ابن عمر يرفعه ما عبد الله بشيء افضل من فقه في دين الوجه السابع والتسعون ما رواه عن علي انه قال العالم اعظم اجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله الوجه الثامن والتسعون ما رواه المخلص عن صاعد حدثنا القاسم بن الفضل بن بزيع حدثنا حجاج بن نصير حدثنا هلال بن عبدالرحمن الجعفي عن عطاء بن أبي ميمونة عن ابي هريرة وأبي ذرأنهما قالا باب من العلم يتعلمه احب الينا من الف ركعة تطوعا وباب من العلم نعلمه عمل به او لم يعمل احب الينا من مائة ركعة تطوعا وقالا سمعنا رسول الله يقول إذا جاء الموت طالب العالم وهو على هذه الحال مات شهيدا ورواه ابن ابي داود عن شاذان عن حجاج به قلت وشاهده ما مر من حديث الترمذي عن انس يرفعه من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع الوجه التاسع والتسعون ما رواه الخطيب ايضا عن ابي هريرة قال لان اعلم بابا من العلم في أمر او نهي احب الي من سبعين غزوة في سبيل الله وهذا ان صح فمعناه احب الي من سبعين
(1/224)
غزوة بلا علم لان العمل بلا علم فساده اكثر من صلاحه او يريد علما يتعلمه ويعلمه فيكون له اجر من عمل به الى يوم القيامة وهذا لا يحصل في الغزو المجرد الوجه المائة ما رواه الخطيب ايضا عن ابي الدرداء انه قال مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة الوجه الحادي والمائة ما رواه عن الحسن قال لان العلم بابا من العلم فاعلمه مسلما احب الي من ان يكون لي الدنيا في سبيل الله الوجه الثاني والمائة قال مكحول ما عبد الله بأفضل من الفقه الوجه الثالث والمائة قال سعيد بن المسيب ليست عبادة الله بالصوم والصلاة ولكن بالفقه في دينه وهذا الكلام يراد به امران احدهما انها ليست بالصوم والصلاة الخاليين عن العلم ولكن بالفقه الذي يعلم به كيف الصوم والصلاة والثاني انها ليست الصوم والصلاة
(1/225)
فقط بل الفقه في دينه من اعظم عباداته الوجه الرابع والمائة قال اسحاق بن عبد الله بن ابي فروة اقرب الناس من درجة النبوة العلماء واهل الجهاد والعلماء دلوا الناس على ما جاءت به الرسل وقد تقدم الكلام في تفضيل العالم على الشهيد وعكسه الوجه الخامس والمائة قال سفيان بن عيينة ارفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الرسل والعلماء الوجه السادس والمائة قال محمد بن شهاب الزهري ما عبدالله بمثل الفقه وهذا الكلام ونحوه يراد به انه ما يعبد الله بمثل ان يتعبد بالفقه في الدين فيكون نفس التفقه عبادة كما قال معاذ بن جبل عليكم بالعلم فان طلبه لله عبادة وسيأتي ان شاء الله ذكر كلامه بتمامه وقد يراد به انه ما عبد الله بعبادة افضل من عبادة يصحبها الفقه في الدين لعلم الفقيه في دينه بمراتب العبادات ومفسداتها وواجبا وسننها وما يكملها وما ينقصها وكلا المعنيين صحيح الوجه السابع والمائة قال سهل بن عبدالله التستري من أراد النظر الى مجالس الانبياء فلينظر الى مجالس العلماء وهذا لان العلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم فمجالسهم مجالس خلافة النبوة الوجه الثامن والمائة ان كثيرا من الائمة صرحوا بأن افضل الاعمال بعد الفرائض طلب العلم فقال الشافعي ليس شيء بعد الفرائض افضل من طلب العلم وهذا الذي ذكر اصحابه عنه انه مذهبه وكذلك قال سفيان الثوري وحكاه الحنفية عن ابي حنيفة واما الامام احمد فحكى عنه ثلاث روايات احداهن انه العلم فإنه قيل له أي شيء احب اليك اجلس بالليل انسخ او اصلي تطوعا قال نسخك تعلم به امور دينك فهو احب الي وذكر الخلال عنه في كتاب العلم نصوصا كثيرة في تفضيل العلم ومن كلامه فيه الناس الى العلم احوج منهم الى الطعام والشراب وقد تقدم الرواية الثانية ان افضل الاعمال بعدالفرائض صلاة التطوع واحتج لهذه الرواية بقوله واعلموا ان خير اعمالكم الصلاة وبقوله في حديث ابي ذر وقد سأله عن
(1/226)
الصلاة فقال خيرموضوع وبأنه اوصى من سأله موافقته في الجنة بكثرة السجود وهو الصلاة وكذلك قوله في الحديث الاخر عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة وبالاحاديث الدالة على تفضيل الصلاة والرواية الثالثة انه الجهاد فإنه قال لا اعدل بالجهاد شيئا من ذا يطيقه ولا ريب ان اكثر الاحاديث في الصلاة والجهاد وأما مالك فقال ابن القاسم سمعت مالكا يقول ان اقواما ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم فخرجوا على امة محمد بأسيافهم ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك قال مالك وكتب ابو موسى الاشعري الى عمر بن الخطاب انه قرا القرآن عندنا عددكذا وكذا فكتب اليه عمر ان افرض لهم من بيت المال فلما كان في العام
(1/227)
الثاني كتب اليه انه قد قرا القرآن عندنا عدد كثير لأكثر من ذلك فكتب اليه عمر ان امحهم من الديوان فاني اخاف من ان يسرع الناس في القرآن ان يتفقهوا في الدين فيتأولوه على غير تأويله وقال ابن وهب كنت بين يدي مالك بن انس فوضعت الواحي وقمت الى الصلاة فقال ما الذي قمت اليه بأفضل من الذي تركته قال شيخنا وهذه الامور الثلاثة التي فضل كل واحد من الائمة بعضها وهي الصلاة والعلم والجهاد هي التي قال فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه لولا ثلاث في الدنيا لما احببت البقاء فيها لولا ان احمل او اجهز جيشا في سبيل الله ولولا مكابدة هذا الليل ولولا مجالسة اقوام ينتقون اطايب الكلام كما ينتقى اطايب التمر لما احببت البقاء فالاول الجهاد والثاني قيام الليل والثالث مذاكرة العلم فاجتمعت في الصحابة بكمالهم وتفرقت فيمن بعدهم الوجه التاسع والمائة ما ذكره ابو نعيم وغيره عن بعض اصحاب رسول الله انه قال فضل العلم خير من نفل العمل وخير دينكم الورع وقد روى هذا مرفوعا من حديث عائشة رضى الله عنها وفي رفعه نظر وهذا الكلام هو فصل الخطاب في هذه المسئلة فإنه إذا كان كل من العلم والعمل فرضا فلا بد منهما كالصوم والصلاة فإذا كانا فضلين وهما النفلان المتطوع بهما ففضل العلم ونفله خير من فضل العبادة ونفلها لان العلم يعم نفعه صاحبه والناس معه والعبادة يختص نفعها بصاحبها ولان العلم تبقى فائدته وعلمه بعد موته والعبادة تنقطع عنه ولما مر من الوجوه السابقة الوجه العاشر بعدالمائة ما رواه الخطيب وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يحسنه صدقة وبذله لاهله قربة به يعرف الله ويعبد وبه يؤحد وبه يعرف الحلال من الحرام وتوصل الارحام وهو الانيس في الوحده والصاحب في الخلوة والدليل على السراء والمعين على الضراء والوزير عند الاخلاء والقريب عند
(1/228)
الغرباء ومنار سبيل الجنة يرفع الله به اقواما فيجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدى بهم ادلة في الخير تقتص آثارهم وترمق افعالهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتهم تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهو امه وسباع البر وانعامه والسماء ونجومها والعلم حياة القلوب من العمى ونور للأبصار من الظلم وقوة للآبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الابرار والدرجات العلى التفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام وهو إمام للعمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الاشقياء هذا الاثر معروف عن معاذ وروراه ابو نعيم في المعجم من حديث معاذ مرفوعا الى النبي ولا يثبت وحسبه ان يصل الى معاذ الوجه الحادي
(1/229)
عشر بعدالمائة ما رواه يونس بن عبدالاعلى عن ابن ابي فديك حدثني عمرو بن كثير عن ابي العلاء عن الحسن عن رسول الله قال من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الاسلام فبينه وبين الانبياء في الجنة درجة النبوة وقد روى من حديث علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي وهذا وإن كان لا يثبت اسناده فلا يبعد معناه من الصحة فإن افضل الدرجات النبوة وبعدها الصديقية وبعدها الشهادة وبعدها الصلاح وهذه الدرجات الاربع التي ذكرها الله تعالى في كتابه في قوله ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا فمن طلب العلم ليحيى به الاسلام فهو من الصديقين ودرجته بعد درجة النبوة الوجه الثاني عشر بعدالمائة قال الحسن في قوله تعالى ربنا آتنا في الدنيا حسنة هي العلم والعبادة وفي الاخرة حسنة هي الجنة وهذا من احسن التفسير فإن اجل حسنات الدنيا العلم النافع والعمل الصالح الوجه الثالث عشر بعدالمائة قال ابن مسعودعليكم بالعلم قبل ان يرفع ورفعه هلاك العلماء فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء ان يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم وإن احدا لم يولد عالما وإنما العلم بالتعلم الوجه الرابع عشر بعد المائة قال ابن عباس وابو هريرة وبعدهما احمد بن حنبل تذاكر العلم بعض ليلة احب الينا من احيائها الوجه الخامس عشر بعدالمائة قال عمر رضى الله عنه ايها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداء يحبه فمن طلب باب من العلم رداه الله بردائه فإن اذنب ذنبا استعتبه لئلا يسلبه رداءه ذلك حتى يموت به قلت ومعنى استعتاب الله عبدة ان يطلب منه ان يعتبه أي يزيل عتبه عليه بالتوبة والاستغفار والانابة فإذا اناب اليه رفع عنه عتبة فيكون قد اعتب ربه أي ازال عتبه عليه والرب تعالى قد استعتبه أي طلب منه ان يعتبه ومن هذا قول ابن مسعود وقد وقعت
(1/230)
زلزلة بالكوفة ان ربكم يستعتبكم فاعتبوه وهذا هو الاستعتاب الذين تقاه سبحانه في الاخرة في قوله فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون أي لا نطلب منهم إزالة عتبنا عليهم فإن إزالته إنما تكون بالتوبة وهي لا تنفع في الاخرة وهذا غير استعتاب العبد ربه كما في قوله تعالى فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وان يستعتبوا فماهم من المعتبين فهذا معناه ان يطلبوا إزالة عتبنا عليهم والعفو فماهم من المعتبين أي ماهم ممن يزال العتب عليهم وهذا الاستعتاب ينفع في الدنيا دون الاخرة الوجه السادس عشر بعدالمائة قال عمر رضى الله عنه موت الف عابد اهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه ووجه قول عمر ان هذا العالم يهدم على إبليس كل ما يبنيه بعلمه وإرشاده واما العابد فنفعه مقصور على نفسه الوجه السابع عشر بعدالمائة قول بعض السلف إذا اتى على يوم
(1/231)
لا ازداد فيه علما يقربني الى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم وقد رفع هذا الى رسول الله ورفعه اليه باطل وحسبه ان يصل الى واحد من الصحابة او التابعين وفي مثله قال القائل إذا مربي يوم ولم استفد هدى ولم اكتسب علما فما ذلك من عمري الوجه الثامن عشر بعدالمائة قال بعض السلف الايمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم وقد رفع هذا ايضا ورفعه باطل الوجه التاسع عشر بعدالمائة إنه في بعض الاثار بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة وقد رفع هذا ايضا وفي رفعه نظر الوجه العشرون بعدالمائة ما رواه حرب في مسائله مرفوعا الى النبي يجمع الله تعالى العلماء يوم القيامة ثم يقول يا معشر العلماء إني لم اضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم اضع علمى فيكم لاعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم وهذا وإن كان غريبا فله شواهد حسان الوجه الحادي والعشرون بعدالمائة قول ابن المبارك وقد سئل من الناس قال العلماء قيل فمن الملوك قال الزهاد قيل فمن السفلة قال الذي يأكل بدينه الوجه الثاني العشرون بعدالمائة ان من ادرك العلم لم يضره ما فاته بعد ادراكه اذ هو افضل الحظوظ والعطايا ومن فاته العلم لم ينفعه ما حصل له من الحظوظ بل يكون وبالاعليه وسببا لهلاكه وفي هذا قال بعض السلف أي شيء ادرك من فاته العلم واي شيء فاته من ادرك العلم الوجه الثالث والعشرون بعدالمائة قال بعض العارفين اليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت قالوا بلى قالوا فكذلك القلب إذا منع عنه العلم والحكمة ثلاثة ايام يموت وصدق فان العلم طعام القلب وشرابه ودواؤه وحياته موقوفة على ذلك فإذا فقد القلب العلم فهو موت لو كان لا يشعر بموته كما ان السكران الذي قد زال عقله والخائف الذي قد انتهى خوفه الى غايته والمحب والمفكر قد يبطل احساسهم بألم الجراحات في تلك الحال فإذا صحوا وعادوا الى حال الاعتدال ادركوا آلامها هكذا العبد إذا حط
(1/232)
عنه الموت احمال الدنيا وشواغلها اختص بهلاكه وخسرانه فحتام لا تصحوا وقد قرب المدى وحتام لا ينجاب عن قلبك السكر بل سوف تصحو حين ينكشف الغطا وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر فإذا كشف الغطاء وبرح الخفاء وبليت السرائر وبدت الضمائر وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور فحينئذ يكون الجهل ظلمة على الجاهلين والعلم حسرة على الباطلين الوجه الرابع والعشرون بعدالمائة قال ابو الدرداء من رأى ان الغدو الى العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله وشاهد هذا قول معاذ وقد تقدم الوجه الخامس والعشرون بعدالمائة قول ابي الدرداء ايضا لان اتعلم مسئلة احب الي من قيام ليلة الوجه السادس والعشرون
(1/233)
بعدالمائة قوله ايضا العالم والمتعلم شريكان في الاجر وسائر الناس همج لا خير فيهم الوجه السابع والعشرون بعدالمائة ما رواه ابو حاتم بن حبان في صحيحه من حديث ابي هريرة انه سمع رسول الله يقول من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا او ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ومن دخله لغير ذلك كان كالناظر الى ما ليس له الوجه الثامن والعشرون بعدالمائة ما رواه ايضا في صحيحه من حديث الثلاثة الذين انتهوا الى رسول الله وهو جالس في حلقه فأعرض احدهم واستحى الاخر فجلس خلفهم وجلس الثالث في فرجة في الحلقة فقال النبي اما احدهم فأوى الى الله فآواه الله وأما الاخر فاستيحا فاستحيا الله منه وأما الاخر فاعرض فاعرض الله عنه فلولم يكن لطالب العلم الا ان الله يؤويه اليه ولا يعرض عنه لكفى به فضلا الوجه التاسع والعشرون بعد المائة ما رواه كميل بن زياد النخعي قال اخذ علي بن ابي طالب رضى الله عنه بيدي فاخرجني ناحية الجبانة فلما اصحر جعل يتنفس ثم قال يا كميل بن زياد القلوب اوعية فخيرها اوعاها احفظ عني ما اقول لك الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئؤوا بنور العلم ولم يلجئوا الى ركن وثيق العلم خير من المال العلم يحرسك وانت تحرس المال العلم يكزكوا على الانفاق وفي رواية على العمل والمال تنقصه النفقة العلم حاكم والمال محكوم عليه ومحبة العلم دين يدان بها العلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد وفاته وصنيعة المال تزول بزواله مات خزان الاموال وهم احياء والعلماء باقون ما بقي الدهر اعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة هاه هاه إن ههنا علما واشار بيده الى صدره لو اصبت له حملة بل اصبته لقنا غير مأمون عليه يستعمل آلة الدين للدنيا يستظهر حجج الله على كتابه وبنعمه على عباده او منقادا لاهل الحق لا بصير له في احبائه ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لاذاو لا
(1/234)
ذاك او منهوما للذات سلس القياد للشهوات او مغرى بجمع الاموال والادخار ليسا من دعاة الدين اقرب شبها بهم الانعام السائمة لذلك يموت العلم بموت حامليه اللهم بك لن تخلو الارض من قائم لله بحجته لكيلا تبطل حجج الله وبنياته اولئك الاقلون عددا الاعظمون عند الله قيلا بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها الى نظرائهم ويزرعوها في قلوب اشابههم هجم بهم العلم على حقيقة الامر فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وانسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان ارواحها معلقة بالملأ الاعلى اولئك خلفاء الله في ارضه ودعاته الى دينه هاه هاه شوقا الى رؤيتهم واستغفر الله لي ولك اذا شئت فقم ذكره ابو نعيم في الحلية وغيره قال ابو بكر الخطيب هذا حديث حسن من احسن الاحاديث معنى واشرفها لفظا وتقسيم امير
(1/235)
المؤمنين للناس في اوله تقسيم في غاية الصحة ونهاية السداد لان الانسان لا يخلو من احد الاقسام التي ذكرها مع كمال العقل وإزاحة العلل اما ان يكون عالما او متعلما او مغفلا للعلم وطلبه اليس بعالم ولا طالب له فالعالم الرباني هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد وقد دخل في الوصف له بانه رباني وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لاهله ويمنع وصفه بما خالفها ومعنى الرباني في اللغة الرفيع الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه وعلى ذلك حملوا قوله تعالى لولا ينهاهم الربانيون وقوله كونوا ربانيين قال ابن عباس حكماء فقهاء وقال ابو رزين فقهاء علماء وقال ابو عمر الزاهد سالت ثعلبا عن هذا الحرف وهو الرباني فقال سألت ابن الاعرابي فقال إذا كان الرجل عالما عاملا معلما قيل له هذا رباني فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له رباني قال ابن الانباري عن النحويين ان الربانيين منسوبون الى الرب وان الالف والنون زيدتا للمبالغة في النسب كما تقول لحياني وجبهاني إذا كان عظيم اللحية والجبهة واما المتعلم على سبيل النجاة فهو الطالب بتعلمه والقاصد به نجاته من التفريط في تضييع الفروض الواجبة عليه والرغبة بنفسه عن احمالها واطراحها والانفة من مجانسة البهائم ثم قال وقد نفى بعض المتقدمين عن الناس من لم يكن من اهل العلم واما القسم الثالث فهم المهملون لانفسهم الراضون بالمنزلة الدنية والحال الخسيسة التي هي في الحضيض الاسقط والهبوط الاسفل التي لا منزلة بعدها في الجهل ولا دونها في السقوط وما احسن ما شبههم بالهمج الرعاع وبه يشبه دناة الناس واراذلهم والرعاع المتبدد المتفرق وللناعق الصائح وهو في هذا الموضع الراعي يقال نعق الراعي بالغنم ينعق اذا صاح بها ومنه قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بمالا يسمع الا دعاءا ونداءا صم بكم عمي فهم لا يعقلون ونحن نشير الى بعض ما في هذا الحديث من الفوائد فقوله رضى
(1/236)
الله عنه القلوب اوعية يشبه القلب بالوعاء والاناء والوادي لانه وعاء للخير والشر وفي بعض الاثار ان لله في ارضه آنية وهي القلوب فخيرها ارقها واصلبها واصفاها فهي اواني مملوءة من الخير واواني مملوة من الشر كما قال بعض السلف قلوب الابرار تغلى بالبر وقلوب الفجار تغلى بالفجور وفي مثل هذا قيل في المثل وكل إناء بالذي فيه ينضح وقال تعالى انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها شبه العلم بالماء النازل من السماء والقلوب في سعتها وضيقها بالاودية فقلب كبير واسع يسع علما كثيرا كواد كبير واسع يسع ماءا كثيرا وقلب صغير ضيق يسع علما قليلا كواد صغير ضيق يسع ماءا قليلا ولهذا قال النبي لا تسموا العنب الكرم فإن الكرم قلب المؤمن فانهم كانوايسمون شجر العنب الكرم لكثرة منافعه وخيره والكرم كثيرة الخير والمنافع فأخبرهم ان قلب
(1/237)
المؤمن اولى بهذه التسمية لكثرة ما فيه من الخير والمنافع وقوله فخيرها اوعاها يراد به اسرعها وعيا واثبتها وعيا ويراد به ايضا احسنها وعيا فيكون حسن الوعي الذي هو إيعاء لما يقال له في قلبه هو سرعته وكثرته وثباته والوعاء من مادة الوعي فإنه آلة ما يوعى فيه كالغطاء والفراش والبساط ونحوها ويوصف بذلك القلب والاذن كقوله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية قال قتادة اذن سمعت وعقلت عن الله ما سمعت وقال الفراء لتحفظها كل اذن فتكون عظة لمن يأتي بعد فالوعي توصف به الاذن كما يوصف به القلب يقال قلب واع وأذن واعية لما بين الاذن والقلب من الارتباط فالعلم يدخل من الاذن الى القلب فهي بابه والرسول الموصل اليه العلم كما ان اللسان رسوله المؤدى عنه ومن عرف ارتباط الجوارح بالقلب علم ان الاذن احقها ان توصف بالوعي وانها إذا وعت وعي القلب وفي حديث جابر في المثل الذي ضربته الملائكة للنبي ولأمته وقول الملك له اسمع سمعت اذنك وعقل قلبك فلما كان القلب وعاءا والاذن مدخل ذلك الوعاء وبابه كان حصول العلم موقوفا على حسن الاستماع وعقل القلب والعقل هو ضبط ما وصل الى القلب وإمساكه حتى لايتفلت منه ومنه عقل البعير والدابة والعقال لما يعقل به وعقل الانسان يسمى عقلا لانه يعقله عن اتباع الغي والهلاك ولهذا يسمى حجرا لانه يمنع صاحبه كما يمنع الحجر ما حواه فعقل الشيء اخص من علمه ومعرفته لان صاحبه يعقل ما علمه فلا يدعه يذهب كما تعقل الدابة التي يخاف شرودها وللادراك مراتب بعضها اقوى من بعض فاولها الشعور ثم الفهم ثم المعرفة ثم العلم ثم العقل ومرادنا بالعقل المصدر لا القوة الغريزية التي ركبها الله في الانسان فخير القلوب ما كان واعيا للخير ضابطا له وليس كالقلب القاسي الذي لايقبله فهذا قلب حجري ولا كالمائع الاخرق الذي يقبل ولكن لا يحفظ ولا يضبط فتفهيم الاول كالرسم في الحجر وتفهيم الثاني
(1/238)
كالرسم على الماء بل خير القلوب ما كان لينا صلبا يقبل بلينه ما ينطبع فيه ويحفظ صورته بصلابته فهذا تفهيمه كالرسم في الشمع وشبهه وقوله الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة همج رعاع هذا تقسيم خاص للناس وهو الواقع فإن العبد إما ان يكون قد حصل كماله من العلم والعمل اولا فالاول العالم الرباني والثاني اما ان تكون نفسه متحركة في طلب ذلك الكمال ساعية في إدراكه اولا والثاني هو المتعلم على سبيل النجاة الثالث وهو الهمج الرعاج فالاول هو الواصل والثاني هو الطالب والثالث هو المحروم والعالم الرباني قال ابن عباس رضى الله عنهما هو المعلم اخذه من التربية أي يربى الناس بالعلم ويربيهم به كما يربى الطفل ابوه وقال سعيد بن جبير هو الفقيه العليم الحكيم قال سيبويه زادوا الفا ونونا في الرباني إذا ارادوا تخصيصا بعلم الرب تبارك وتعالى كما قالوا أشعر اني ولحياني ومعني قول سيبويه رحمه الله ان هذا العالم لما نسب الى علم الرب تعالى الذي بعث به رسوله
(1/239)
وتخصص به نسب اليه دون سائر من علم علما قال الواحدي فالرباني على قوله منسوب الى الرب على معنى التخصيص بعلم الرب أي يعلم الشريعة وصفات الرب تبارك وتعالى وقال المبرد الرباني الذي يرب العلم ويرب الناس به أي يعلمهم ويصلحهم وعلى قوله فالرباني من رب يرب ربا أي يربيه فهو منسوب الى التربية ويربى علمه ليكمل ويتم بقيامه عليه وتعاهده إياه كما يربى صاحب المال ماله يربي الناس به كما يربى الاطفال اولياؤهم وليس هذا من قوله وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فالربيون هنا الجماعات باجماع المفسرين قيل إنه من الربة بكسر الراء وهي الجماعة قال الجوهري الربي واحد الربيين وهم الالوف من الناس قال تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما اصابهم ولا يوصف العالم بكونه ربانيا حتى يكون عاملا بعمله معلما له فهذا قسم والقسم الثاني متعلم على سبيل نجاة أي قاصدا بعلمه النجاة وهو المخلص في تعلمه المتعلم ما ينفعه العامل بما علمه فلا يكون المتعلم على سبيل نجاة الا بهذه الامور الثلاثة فإنه إن تعلم ما يضره ولاينفعه لم يكن على سبيل نجاة وإن تعلم ما ينتفع به لا للنجاة فكذلك وإن تعلمه ولم يعمل به لم يحصل له النجاة ولهذا وصفه بكونه على السبيل اي على الطريق التي تنجيه وليس حرف على وما عمل فيه متعلقا بمتعلم إلا على وجه التضمين أي مفتش متطلع على سبيل نجاته فهذا في الدرجة الثانية وليس ممن تعلمه ليمارى به السفهاء او يجارى به العلماء او يصرف وجوه الناس اليه فإن هذا من اهل النار كما جاء في الحديث وثبته ابو نعيم ايضا قوله من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه الا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد رائحة الجنة قال وثبت ايضا قوله اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فهؤلاء ليس فيهم من هو على سبيل نجاة بل على سبيل الهلكة نعوذ بالله من الخذلان القسم الثالث المحروم المعرض فلا عالم ولا متعلم
(1/240)
بل همج رعاع والهمج من الناس حمقاؤهم وجهلتهم واصله من الهمج جمع همجة وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والدواب واعينها فشبه همج الناس به والهمج ايضا مصدر قال الراجز : قد هلكت جارتنا من الهمج وان تجع تأكل عتودا او ثلج والهمج هنا مصدر ومعناه سوء التدبير في أمر المعيشة وقولهم همج هامج مثل ليل لايل والرعاع من النساء الحمقى الذين لايعتد بهم وقوله اتباع كل ناعق أي من صاح بهم ودعاهم تبعوه سواء دعاهم الى هدى او الى ضلال فانهم لا علم لهم بالذي يدعون اليه احق هو ام باطل فهم مستجيبون لدعوته وهؤلاء من اضر الخلق على الاديان فإنهم الاكثرون عددا الاقلون
(1/241)
عند الله قدرا وهم حطب كل فتنة بهم توقد ويشب ضرامها فإنها يهتز لها اولو الدين ويتولاها الهمج الرعاع وسمى داعيهم ناعقا تشبيها لهم بالانعام التي ينعق بها الراعي فتذهب معه اين ذهب قال تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع الا دعاءا ونداءا صم بكم عمي فهم لا يعقلون وهذا الذي وصفهم به امير المؤمنين هو من عدم علمهم وظلمة قلوبهم فليس لهم نور ولا بصيره يفرقون بها بين الحق والباطل بل الكل عندهم سواء وقوله رضى الله عنه يميلون مع كل ريح وفي رواية مع كل صائح شبه عقولهم الضعيفة بالغصن الضعيف وشبه الاهوية والاراء بالرياح والغصن يميل مع الري حيث مالت وعقول هؤلاء تميل مع كل هوى وكل داع ولو كانت عقولا كاملة كانت كالشجرةالكبيرة التي لاتتلاعب بها الرياح وهذا بخلاف المثل الذي ضربه النبي للمؤمنين بالخامة من الزرع تفيئه الريح مرة وتقيمه اخرى والمنافق كشجرة الارز التي لا تقطع حتى تستحصد فإن هذا المثل ضرب للمؤمن وما يلقاه من عواصف البلاء والاوجاع والاوجال وغيرها فلا يزال بين عافية وبلاء ومحنة ومنحة وصحة وسقم وأمن وخوف وغير ذلك فيقع مرة ويقوم اخرى ويميل تارة ويعتدل اخرى فيكفر عنه بالبلاء ويمحص به ويخلص من كدره والكافر كله خبث ولا يصلح الا للوقود فليس في إصابته في الدنيا بانواع البلاء من الحكمة والرحمة ما في اصابة المؤمن فهذه حال المؤمن في الابتلاء واما مع الاهواء ودعاة الفتن والضلال والبدع فكما قيل : تزول الجبال الراسيات وقلبه على العهد لا يلوى ولا يتغير وقوله رضى الله عنه لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا الى ركن وثيق بين السبب الذي جعلهم بتلك المثابة وهو انه لم يحصل لهم من العلم نور يفرقون به بين الحق والباطل كما قال تعالى يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به وقال تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في
(1/242)
الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقوله تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور الاية وقوله ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فإذا عدم القلب هذا النور صار بمنزلة الحيران الذي لا يدري اين يذهب فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يؤم كل صوت يسمعه ولم يسكن قلوبهم من العلم ما تمتنع به من دعاة الباطل فإن الحق متى استقر في القلب قوى به وامتنع مما يضره ويهلكه ولهذا سمى الله الحجة العلمية سلطانا وتقدم قدم ذلك فالعبد يؤتى من ظلمة بصيرته ومن ضعف قلبه فاذا
(1/243)
استقر فيه العلم النافع استنارت بصيرته وقوى قلبه وهذان الاصلان هما قطب السعادة اعني العلم والقوة وقد وصف بهما سبحانه المعلم الاول جبريل صلوات الله وسلامه عليه فقال إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى وقال تعالى في سورة التكوير إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين فوصفه بالعلم والقوة وفيه معنى احسن من هذا وهو الاشبه بمراد على رضى الله عنه وهو ان هؤلاء ليسوا من اهل البصائر الذين استضاؤا بنور العلم ولا لجئوا الى عالم مستبصر فقلدوه ولا متبعين لمستبصر فإن الرجل اما ان يكون بصيرا او اعمى متمسكا ببصير يقوده او اعمى يسير بلا قائد وقوله رضى الله عنه العلم خير من المال العلم يحرسك وانت تحرس المال يعني ان العلم يحفظ صاحبه ويحميه من مواردالهلكة ومواقع العطب فإن الانسان لا يلقى نفسه في هلكة إذا كان عقله معه ولا يعرضها لمتلف إلا إذا كان جاهلا بذلك لا علم له به فهو كمن يأكل طعاما مسموما فالعالم بالسم وضرره يحرسه علمه ويمتنع به من اكله والجاهل به يقتله جهله فهذا مثل حراسة العلم للعالم وكذا الطبيب الحاذق يمتنع بعلمه عن كثير ما يجلب له الامراض والاسقام وكذا العالم بمخاوف طريق سلوكه ومعاطبها يأخذ حذره منها فيحرسه علمه من الهلاك وهكذا العالم بالله وبامره وبعدوه ومكائده ومداخله على العبد يحرسه علمه من وساوس الشيطان وخطراته والقاء الشك والريب والكفر في قلبه فهو بعلمه يمتنع من قبول ذلك فعلمه يحرسه من الشيطان فكلما جاء ليأخذه صاح به حرس العلم والايمان فيرجع خاسئا خائبا واعظم ما يحرسه من هذا العدو المبين العلم والايمان فهذا السبب الذي من العبد والله من وراء حفظه وحراسته وكلاءته فمتى وكله الى نفسه طرفة عين تخطفه عدوه قال بعض العارفين اجمع العارفون على ان التوفيق ان لا يكلك الله الى نفسك واجمعوا على ان الخذلان ان يخلى بينك وبين نفسك وقوله العلم يزكوا على الانفاق والمال تنقصه النفقة
(1/244)
العالم كلما بذل علمه للناس وانفق منه تفجرت بنابيعه فازداد كثرة وقوة وظهورا فيكتسب بتعليمه حفظ ما علمه ويحصل له به علم ما لم يكن عنده وربما تكون المسئلة في نفسه غير مكشوفة ولا خارجة من حيز الاشكال فإذا تكلم بها وعلمها اتضحت له واضاءت وانفتح له منها علوم اخر وايضا فإن الجزاء من جنس العمل فكما علم الخلق من جهالتهم جزاه الله بان كلمة من جهالته كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي انه قال في حديث طويل وان الله قال لي انفق انفق عليك وهذا يتناول نفقة العلم اما بلفظه وإما بتنبيهه وإشارته وفحواه ولزكاء العلم ونحوه طريقان احدهما تعليمه والثاني العمل به فإن العمل به ايضا ينميه ويكثره ويفتح لصاحبه ابوابه وخباياه وقوله والمال تنقصه النفقة لا ينافي قول النبي ما نقصت صدقة من مال فإن المال إذا تصدقت منه وانفقت ذهب ذلك القدر
(1/245)
وخلفه غيره وأما العلم فكالقبس من النار لو اقتبس منها العالم لم يذهب منها شيء بل يزيد العلم بالاقتباس منه فهو كالعين التي كلما اخذ منها قوى ينبوعها وجاش معينها وفضل العلم على المال يعلم من وجوه احدها ان العلم ميراث الانبياء والمال ميراث الملوك والاغنياء والثاني ان العلم يحرس صاحبه وصاحب المال يحرس ماله والثالث ان المال تذهبه النفقات والعلم يزكوا على النفقة الرابع ان صاحب المال إذا مات فارقه ماله والعلم يدخل معه قبره الخامس ان العلم حاكم على المال والمال لا يحكم على العلم السادس ان المال يحصل للمؤمن والكافر والبر والفاجر والعلم النافع لا يحصل الا للمؤمن ز السابع ان العالم يحتاج اليه الملوك فمن دونهم وصاحب المال إنما يحتاج اليه اهل العدم والفاقة الثامن ان النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله وذلك من كمالها وشرفها والمال يزكيها ولا يكمله ولا يزيدها صفة كمال بل النفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عليه فحرصها على العلم عين كمالها وحرصها على المال عين نقصها التاسع ان المال يدعوها الى الطغيان والفخر والخيلاء والعلم يدعوها إلى التوضع والقيام بالعبودية فالمال يدعوها الى صفات الملوك والعلم يدعوها الى صفات العبيد العاشر ان العلم جاذب موصل لها الى سعادتها التي خلقت لها والمال حجاب بينها وبينها الحادي عشر ان غني العلم اجل من غني المال فإن غني المال غنى بامر خارجي عن حقيقة الانسان لو ذهب في ليلة اصبح فقيرا معدما وغني العلم لا يخشى عليه الفقر بل هو في زايدة ابدا فهو الغني العالي حقيقة كما قيل غنيت بلا مال عن الناس كلهم وان الغني العالي عن الشيء لا به الثاني عشر ان المال يستعبد محبه وصاحبه فيجعله عبدا له كما قال النبي تعس عبد الدينار والدرهم الحديث والعلم يستعبده لربه وخالقه فهو لا يدعوه إلا الى عبودية الله وحده الثالث عشر ان احب العلم وطلبه اصل كل طاعة وحب الدنيا والمال وطلبه اصل كل
(1/246)
سيئة الرابع عشر ان قيمة الغني ماله وقيمة العالم علمه فهذا متقوم بماله فإذا عدم ماله عدمت قيمته وبقي بلا قيمة والعالم لاتزول قيمته بل هي فيضاعف وزيادة دائما الخامس عشر ان جوهر المال من جنس جوهر البدن وجوهر العلم من جنس جوهر الروح كما قال يونس بن حبيب علمك من روحك ومالك من بدنك والفرق بين الامرين كالفرق بين الروح والبدن السادس عشر ان العالم لو عرض عليه بحظه من العلم الدنيا بما فيها لم يرضها عوضا من علمه والغني العاقل إذا رأى شرف العلم وفضله وابتهاجه بالعلم وكماله به يود لو ان له علمه بغناه اجمع السابع عشر انه ما اطاع الله احد قط الا بالعلم وعامة من يعصيه إنما يعصيه بالمال الثامن عشر ان العالم يدعو الناس الى الله بعلمه وحاله وجامع المال يدعوهم الى الدنيا بحاله وماله التاسع عشر ان غنى المال قد يكون سبب هلاك صاحبه كثيرا فإنه معشوق النفوس فإذا رأت من يستأثر بمعشوقها عليها سعت في هلاكه كما هو الواقع وأما غنى
(1/247)
العلم فسبب حياة الرجل وحياة غيره به والناس إذا راوا من يستأثر عليهم به ويطلبه احبوه وخدموه واكرموه العشرون إن اللذة الحاصلة من غنى إما لذة وهمية وإما لذة بهيمية فإن صاحبه التذ بنفس جمعه وتحصيله فتلك لذة وهمية خيالية وان التذ بانفاقه في شهواته فهي لذة بهيمية واما لذة العلم فلذة عقلية روحانية وهي تشبه لذة الملائكة وبهجتها وفرق ما بين اللذتين الحادي والعشرون ان عقلاء الامم مطبقون على ذم الشره في جمع المال الحريص عليه وتنقصه والازراء به ومطبقون على تعظيم الشره في جمع العلم وتحصيله ومدحه ومحبته ورؤيته بعين الكمال الثاني والعشرون انهم مطبقون على تعظيم الزاهد في المال المعرض عن جمعه الذي لا يلتفت اليه ولا يجعل قلبه عبدا له ومطبقون على ذم الزاهد في العلم الذي لا يلتفت اليه ولا يحرص عليه الثالث والعشرون ان المال يمدح صاحبه بتخليه منه وإخراجه والعلم إنما يمدح يتخليه به واتصافه به الرابع والعشرون ان غنى المال مقرون بالخوف والحزن فهو حزين قبل حصوله خائف بعد حصوله وكلما كان اكثر كان الخوف اقوى وغني العلم مقرون بالامن والفرح والسرور الخامس والعشرون ان الغنى بماله لا بد ان يفارقه غناه ويتعذب ويتألم بمفارقته والغنى بالعلم لا يزول ولا يتعذب صاحبه لا يتألم فلذة الغنى بالماللذة زائلة منقطعة يعقبها الالم ولذة الغنى بالعلم لذة باقية مستمرة لا يلحقها الم السادس والعشرون ان استلذاذ النفس وكمالها بالغني استكمال بعارية مؤداة فتجملها بالمال تجمل بثوب مستعار لا بد ان يرجع الى مالكه يوما ما واما تجملها بالعلم وكمالها به فتجمل بصفة ثابتة لها راسخة فيها لا تفارقها السابع والعشرون ان الغني بالمال هو عين فقر النفس والغنى بالعلم هو عين فقر النفس والغنى بالعلم هو غناها بالحقيقي فغناها بعلمها هو الغني غناها بمالها هو الفقر الثامن والعشرون ان من قدم وأكرم لماله إذا زال ماله زال تقديمه وإكرامه ومن قدم وأكرم
(1/248)
لعلمه لا يزداد الا تقديما وإكراما التاسع والعشرون ان تقديم الرجل لماله هو عين ذمه فانه نداء عليه بنقصه وانه لولا ماله لكان مستحقا للتأخر والاهانة واما تقديمه وإكرامه لعلمه فإنه عين كماله إذ هو تقديم له بنفسه وبصفته القائمة به لا بأمر خارج عن ذاته الوجه الثلاثون ان طالب الكمال بغنى المال كالجامع بين الضدين فهو طالب مالا سبيل له اليه وبيان ذلك ان القدرة صفة كمال وصفة الكمال محبوبة بالذات والاستغناء عن الغير ايضا صفة كمال محبوبة بالذات فإذا مال الرجل بطبعه الى السخاوة والجود وفعل المكرمات فهذا كمال مطلوب للعقلاء محبوب للنفوس وإذا التفت الى ان ذلك يقتضى خروج المال من يده وذلك يوجب نقصه واحتياجه الى الغير وزوال قدرته نفرت نفسه عن السخاء والكرم والجود واصطناع المعروف وظن ان كماله في إمساك المال وهذه البلية امر ثابت لعامة الخلق لا ينكفون عنها فلأجل ميل الطبع الى حصول المدح والثناء والتعظيم بحب الجود والسخاء
(1/249)
والمكارم ولأجل فوت القدرة الحاصلة بسبب اخراجه والحاجة المنافية لكمال الغنى يحب ابقاء ماله ويكره السخاء والكرم والجود فيبقى قلبه واقفا بين هذين الداعيين يتجاذبانه ويعتور ان عليه فيبقى القلب في مقام المعارضة بينهما فمن الناس من يترجح عنده جانب البذل والجود والكرم فيؤثره على الجانب الاخر ومنهم من يترجح عنده جانب الامساك وبقاء القدرة والغني فيؤثره فهذان نظران للعقلاء ومنهم من يبلغ به الجهل والحماقة الى حيث يريد الجمع بين الوجهين فيعد الناس بالجود والسخاء والمكارم طمعا منه في فوزه بالمدح والثناء على ذلك وعند حضور الوقت لا يفي بما قال فيستحق الذم ويبذل بلسانه ويمسك بقلبه ويده فيقع في أنواع القبائح والفضائح وإذا تأملت احوال اهل الدنيا من الاغنياء رأيتهم تحت اسر هذه البلية وهم غالبا يبكون ويشكون وأما غنى العلم فلا يعرض له شيء من ذلك بل كلما بذله ازداد ببذلة فرحا سرورا وابتهاجا وإن فاتته لذة اهل الغنى وتمتعهم باموالهم فهم ايضا قد فاتتهم لذة اهل العلم وتمتعهم بعلومهم وابتهاجهم بها فمع صاحب العلم من اسباب اللذة ما هو اعظم واقوى وادوم من لذة الغنى وتعبه في تحصيله وجمعه وضبطه اقل من تعب جامع المال فجمعه والمه دون المه كما قال تعالى للمؤمنين تسلية لهم بما ينالهم من الالم والتعب في طاعته ومرضاته ولا تهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما الحادي والثلاثون ان اللذة الحاصلة من المال والغنى إنما هي حال تجدده فقط واما حال دوامه فإما ان تذهب تلك اللذة وإما ان تنقص ويدل عليه ان الطبع يبقى طالبا لغنى آخر حريصا عليه فهو يحاول تحصيل الزيادة دائما فهو في فقر مستمر غير منقض ولو ملك خزائن الارض ففقره وطلبه وحرصه باق عليه فإنه احد المنهومين اللذين لا يشبعان فهو لا يفارقه الم الحرص والطلب وهذا بخلاف غنى العلم والإيمان فان لذته في
(1/250)
حال بقائه مثلها في حال تجدده بل ازيد وصاحبها وان كان لا يزال طالبا للمزيد حريصا عليه فطلبه وحرصه مستصحب للذة الحاصل ولذة المرجو المطلوب ولذة الطلب وابتهاجه فرجه به الثاني والثلاثون ان غني المال يستدعي الانعام على الناس والاحسان اليهم فصاحبه اما ان يسد على نفسه هذا الباب واما ان يفتحه عليه فان سده على نفسه اشتهر عند الناس بالبعد من الخير والنفع فأبغضوه وذموه واحتقروه وكل من كان بغيضا عند الناس حقيرا لديهم كان وصول الافات والمضرات اليه اسرع من النار في الحطب اليابس ومن السيل في منحدره وإذا عرف من الخلق انهم يمقتونه ويبغضونه ولا يقيمون له وزنا تألم قلبه غاية التألم واحضر الهموم والغموم والاحزان وان فتح باب الاحسان والعطاء فإنه لايمكنه ايصال الخير والاحسان الى كل احد فلا بد من إيصاله الى البعض وإمساكه عن البعض وهذا
(1/251)
يفتح عليه باب العداوة والمذمة من المحروم والمرحوم اما المحروم فيقول كيف جاد على غيري وبخل علي واما المرحوم فإنه يلتذ ويفرح بما حصل له من الخير والنفع فيبقى طامعا مستشرفا لنظيره على الدوام وهذا قد يتعذر غالبا فيفضى ذلك الى العداوة الشديدة والمذمة ولهذا قيل اتق شر من احسنت اليه وهذه الافات لا تعرض في غنى العلم فإن صاحبه يمكنه بذله للعالم كلهم واشتراكهم فيه والقدر المبذول منه باق لاخذه لا يزول بل يتجربه فهو كالغني إذا اعطى الفقير رأس مال يتجربه حتى يصير غنيا مثله الوجه الثالث والثلاثون ان جمع المال مقرون بثلاثة انواع من الافات والمحن نوع قبله ونوع عند حصوله ونوع بعدمفارقته فأما النوع الاول فهو المشاق والانكاد والالام التي لا يحصل الا بها واما النوع الثاني فمشقة حفظه وحرساته حراسته وتعلق القلب به فلا يصبح الا مهموما ولا يمسي الا مغموما فهو بمنزلة عاشق مفرط المحبة قد ظفر بمعشوقتهوالعيون من كل جانب ترمقه والالسن والقلوب ترشقه فأي عيش ولذة لمن هذه حاله وقد علم ان اعداءه وحساده لا يفترون عن سعيهم في التفريق بينه وبين معشوقه وإن لم يظفروا هم به دونه ولكن مقصودهم ان يزيلوا اختصاصه به دونهم فإن فازوا به والا استووا في الحرمان فزال الاختصاص المؤلم للنفوس ولو قدروا على مثل ذلك مع العالم لفعلوه ولكنهم لما علموا انه لا سبيل الى سلب علمه عمدوا الى جحده وانكاره ليزيلوا من القلوب محبته وتقديمه والثناء عليه فإن بهر علمه وامتنع عن مكابرة الجحود والانكار رموه بالعظائم ونسبوه الى كل قبيح ليزيلوا من القلوب محبته ويسكنوا موضعها النفرة عنه وبغضه وهذا شغل السحرة بعينه فهؤلاء سحرة بالسنتهم فإن عجزوا له عن شيء من القبائح الظاهرة رموه بالتلبيس والتدليس والدوكرة والرياء وحب الترفع وطلب الجاه وهذا القدر من معاداة اهل الجهل والظلم للعلماء مثل الحر والبرد لا بد منه فلا ينبغي لمن له مسكة عقل ان يتأذى به إذ
(1/252)
لا سبيل له الى دفعه بحال فليوطن نفسه عليه كما يوطنها على برد الشتاء وحر الصيف والنوع الثالث من آفات الغنى ما يحصل للعبد بعد مفارقته من تعلق قلبه به وكونه قد حيل بينه وبينه والمطالبة بحقوقه والمحاسبة على مقبوضه ومصروفه من اين اكتسبه وفيما ذا انفقه وغنى العلم والايمان مع سلامته من هذه الافات فهو كفيل بكل لذة وفرحة وسرور ولكن لا ينال الا على جسر من التعب والصبر والمشقة الرابع والثلاثون ان لذة الغني بالمال مقرونة بخلطة الناس ولو لم يكن الا خدمه وازواجه وسراريه واتابعه إذ لو انفرد الغني بماله وحده من غير ان يتعلق بخادم او زوجه او احد من الناس لم يكمل انتفاعه بماله ولا التذاذه به وإذا كان كمال لذته بغناه موقوفا على اتصاله بالغير فذلك منشأ الافات والالام ولو لم يكن الا اختلاف الناس وطبائعهم وارادتهم فقبيح هذا حسن ذاك ومصلحة ذاك مفسدة
(1/253)
هذا ومنفعة هذا مضرة ذاك وبالعكس فهو مبتلى بهم فلا بد من وقوع النفرة والتباغض والتعادي بينهم وبينه فان ارضاءهم كلهم محال وهو جمع بين الضدين وارضاء بعضهم واسخاط غيره سبب الشر والمعاداة وكلما طالت المخالطة ازدادت اسباب الشر والعداوة وقويت وبهذا السبب كان الشر الحاصل من الاقارب والعشراء اضعاف الشر الحاصل من الاجانب والبعداء وهذه المخالطة انما حصلت من جانب الغني بالمال اما إذا لم يكن فيه فضيلة لهم فانهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته فيستريح من اذى الخلطة والعشرة وهذه الافات معدودة في الغنى بالعلم الخامس والثلاثون ان المال لا يراد لذاته وعينه فإنه لا يحصل بذاته شيء من المنافع اصلا فإنه لا يشبع ولا يروى ولا يدفء ولا يمتع وإنما يراد لهذه الاشياء فإنه لما كان طريقا اليها اريد ارادة الوسائل ومعلوم ان الغايات اشرف من الوسائل فهذه الغايات اذا اشرف منه وهي مع شرفها بالنسبة اليه ناقصة دنيئة وقد ذهب كثير من العقلاء الى انها لا حقيقة لها وانما هي دمع الالم فقط فإن لبس الثياب مثلا إنما فائدته دفع التألم بالحر والبرد والريح وليس فيها لذة زائدة على ذلك وكذلك الاكل إنما فائدته دفع الم الجوع ولهذا لو لم يجد الم الجوع لم يستطب الاكل وكذلك الشرب مع العطش والراحة مع التعب ومعلوم ان في مزاولة ذلك وتحصيله الما وضررا ولكن ضرره وألمه اقل من ضرر ما يدفع به وألمه فيحتمل الانسان اخف الضررين دفعا لاعظمهما وحكى عن بعض العقلاء انه قيل له وقد تناول قدحا كريها من الدواء كيف حالك معه قال اصبحت في دار بليات ادافع آفات بآفات وفي الحقيقة فلذات الدنيا من المآكل والمشارب واللبس والمسكن والمنكح من هذا الجنس واللذة التي يباشرها الحس ويتحرك لها الجسد وهي الغاية المطلوبة له من لذة المنكح والمأكل شهوتي البطن والفرج ليس لهما ثالث البتة الا ما كان وسيلة اليهما وطريقا الى تحصيلهما وهذه اللذة منغصة من وجوه عديدة منها ان تصور
(1/254)
زوالها وانقضائها وفنائها يوجب تنغصها ومنها انها ممزوجة بالافات ومعجونة بالالام محتاطة بالمخاوف وفي الغالب لاتفي الامها بطيبها كما قيل : قايست بين جمالها وفعالها فإذا الملاحة بالقباحة لاتفي ومنها ان الاراذل من الناس وسقطهم يشاركون فيها كبراءهم وعقلاءهم بل يزيدون عليهم فيها اعظم زيادة وافحشها فنسبتهم فيها الى الافاضل كنسبة الحيوانات البهيمةاليهم فمشاركة الاراذل وأهل الخسة والدناءة فيها زيادتهم على العقلاء فيها مما يوجب النفرة والاعراض عنها وكثير من الناس حصل له الزهد في المحبوب والمعشوق منها بهذه الطريق هذا كثير في أشعار الناس ونثرهم كما قيل
(1/255)
سأترك حبها من غير بغض ولكن لكثرة الشركاء فيه إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتيه وتجتنب الاسود ورودماء إذا كان الكلاب يلغن فيه وقيل لزاهد ما الذي زهدك في الدنيا فقال خسة شركائها وقلة وفائها وكثرة جفائها وقيل لاخر في ذلك فقال ما مددت يدي الى شيء منها إلا وجدت غيري قد سبقني اليه فاتركه له ومنها ان الالتذاذ بموقعها إنما هو بقدر الحاجة اليها والتألم بمطالبة النفس لتناولها وكلما كانت شهوة الظفر بالشيء اقوى كانت اللذة الحاصلة بوجوده اكمل فلما لم تحصل تلك الشهوة لم تحصل تلك اللذة فمقدار اللذة الحاصلة في الحال مساو لمقدار الحاجة والالم والمضرة في الماضي وحينئذ يتقابل اللذة الحاصلة والالم المتقدم فيتساقطان فتصير اللذة كانها لم توجد ويصير بمنزلة من شق بطن رجل ثم خاطه وداواه بالمراهم او بمنزلة من ضربه عشرة اسواط واعطاه عشرة دراهم ولا تخرج لذات الدنيا غالبا عن ذلك ومثل هذا لا يعد لذة ولا سعادة ولا كمالا بل هو بمنزلة قضاء الحاجة من البول والغائط فإن الانسان يتضرر بثقله فإذا قضى حاجته استراح منه فاما ان يعد ذلك سعادة وبهجة ولذة مطلوبة فلا ومنها ان هاتين اللذتين اللتين هما اثر اللذات عند الناس ولا سبيل الى نيلهما الا بما يقترن بهما قبلهما وبعدهما من مباشرة القاذورات والتالم الحاصل عقبيهما مثل لذة الاكل فإن العاقل لو نظر الى طعامه حال مخالطته ريقه وعجنه به لنفرت نفسه منه ولو سقت تلك اللقمة من فيه لنفر طبعه من اعادتها اليه ثم ان لذته به إنما تحصل في مجرى نحو الاربع الاصابع فإذا فصل عن ذلك المجرى زال تلذذه به فإذا استقر في معدته وخالطه الشراب وما في المعدة من الاجزاء الفضلية فإنه حينئذ يصير في غاية الخسة فإن زاد على مقدار الحاجة اورث الادواء المختلفة علىتنوعها ولولا ان بقاءه موقوف على تناوله لكان تركه والحالة هذه اليق به كما قال بعضهم : لولا قضاءه جرى نزهت انملتي عن
(1/256)
ان تلم بمأكول ومشروب وأما لذة الوقاع قدرها ابين من ان نذكر آفاته ويدل عليه ان اعضاء هذه اللذة هي عورة الانسان التي يستحيا من رؤيتها وذكرها وسترها امر فطر الله عليه عباده ولا تتم لذة المواقعة الا بالاطلاع عليها وإبرازها والتلطخ بالرطوبات المستقذرة المتولدة منها ثم إن تمامها إنما يحصل بانفصال النطفة وهي اللذة المقصودة من الوقاع وزمنها يشبه الان الذي لا ينقسم فصعوبة تلك المزاولة والمحاولة والمطاولة والمراوضة والتعب لاجل لذة لحظة كمد الطرف فأين مقايسة بين هذه اللذة وبين التعب في طريق تحصيلها وهذا يدل على ان هذه
(1/257)
اللذة ليست من جنس الخيرات والسعادات والكمال الذي خلق له العبد ولا كمال له بدونه بل ثم امروراء ذلك كله قد هيء له العبد وهو لا يفعلن له لغفلته عنه وإعراضه عن التفتيش على طريقه حتى يصل اليه يسوم نفسه مع الانعام السائمة : قد هيؤك لأمر لو فطنت له فاربأ نفسك ان ترعى مع الهمل وموقع هذه اللذات من النفس كموقع لذة البراز من رجل احتبس في موضع لا يمكنه القيام الى الخلاء وصارمضطرا اليه فإنه يجد مشقة شديدة وبلاء عظيما فإذا تمكن منالذهاب الى الخلاء وقدر على دفع ذلك الخبيث المؤذي وجد لذة عظيمة عند دفعه وإرساله ولا لذة هناك الا راحته من حمل ما يؤذيه حمله فعلم ان هذه اللذات إما ان تكون دفع آلام وإما ان تكون لذات ضعيفة خسيسة مقترنة بآفات ترى مضرتها عليه وهذا كما يعقب لذة الوقاع من ضعف القلب وخفقان الفؤاد وضعف القوى البدنية والقلبية وضعف الارواح واستيلاء العفونة على كل البدن واسرع الضعف والخور اليه واستيلاء الاخلاط عليه لضعف القوة عن دفعها وقهرها ومما يدل على ان هذه اللذات ليست خيرات وسعادات وكمالا ان العقلاء من جميع الامم مطبقون على ذم من كانت هي نهمته وشغله ومصرف همته وإرادته والإزراء به وتحقير شأنه والحاقه بالبهائم ولايقيمون له وزنا ولو كانت خيرات وكمالا لكان من صرف اليها همته اكمل الناس ومما يدل على ذلك ان القلب الذي قد وجه قصده وإرادته الى هذه اللذات لا يزال مستغرقا في الهموم والغموم والاحزان وما يناله من اللذات في جنب هذه الالام كقطرة في مجركما قيل سروره وزن حبة وحزنه قنطار فإن القلب يجرى مجرى مرآة منصوبة على جدار وذلك الجدار ممر لانواع المشتهيات والملذوذات والمكروهات وكلما مر به شيء من ذلك ظهر فيه أثره فإن كان محبوبا مشتهيا مال طبعه اليه فإن لم يقدر على تحصيله تألم وتعذب بفقده وإن قدر على تحصيله تالم في طريق الحصول بالتعب والمشقة ومنازعة الغير له ويتألم حال حصوله خوفا من فراقه
(1/258)
وبعد فراقه خوفا على ذهابه وإن كان مكروها له ولم يقدر على دفعه تألم بوجوده وإن قدر على دفعه اشتغل بدفعه ففاتته مصلحة راجحة الحصول فيتالم لفواتها فعلم ان هذا القلب ابدا مستغرق في بحار الهموم والغموم والاحزان وإن نفسه تضحك عليه وترضيه بوزن ذرة من لذته فيغيب بها عن شهوده القناطير من المه وعذابه فإذا حيل بينه وبين تلك اللذة ولم يبق له اليها سبيل تجرد ذلك الالم واحاط به واستولى عليه من كل جهاته فقل ما شئت في حال عبد قد غيب عنه سعده وحظوظه وافراحه واحضر شقوته وهمومه وغمومه واحزانه وبين العبد وبين هذه الحال ان ينكشف الغطاء ويرفع الستر وينجلى الغبار ويحصل
(1/259)
ما في الصدور فإذا كانت هذه غاية اللذات الحيوانية التي هي غاية جمع الاموال وطلبها فما الظن بقدر الوسيلة وأما غنى العلم والايمان فدائم اللذة متصل الفرحة مقتض لانواع المسرة والبهجة لايزول فيحزن ولا يفارق فيؤلم بل اصحابه كما قال الله تعالى فيهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون السادس والثلاثون ان غنى المال يبغض الموت ولقاء الله فإنه لحبه لماله يكره مفارقته ويحب بقاءه ليتمتع به كما شهد به الواقع وأما العلم فإنه يحبب للعبد لقاء ربه ويزهده في هذه الحياة النكدة الفانية السابع والثلاثون ان الاغنياء يموت ذكرهم بموتهم والعلماء يموتون ويبقى ذكرهم كما قال امير المؤمنين في هذا الحديث مات خزان الاموال وهم احياء والعلماء باقون ما بقي الدهر فخزان الاموال احياء كاموات والعلماء بعدموتهم اموات كأيحاء الثامن والثلاثون ان نسبة العلم الى الروح كنسبة الروح الى البدن فالروح ميتة حياتها بالعلم كما ان الجسد ميت حياته بالروح فالغني بالمال غايته ان يزيد في حياة البدن واما العلم فهو حياة القلوب والارواح كما تقدم تقريره التاسع والثلاثون ان القلب ملك البدن والعلم زينته وعدته وماله وبه قوام ملكه والملك لا بد له من عدد وعدة ومال وزينة فالعلم هو مركبه وعدته وجماله واما المال فغايته ان يكون زينة وجمالا للبدن إذا انفقه في ذلك فإذا خزنه ولم ينفقه لم يكن زينة ولا جمالا بل نقصا ووبالا ومن المعلوم ان زينة الملك به وما به قوام ملكه اجل وافضل من زينة رعيته وجمالهم فقوام القلب بالعلم كما ان قوام الجسم بالغذاء الوجه الاربعون ان القدر المقصود من المال هو ما يكفي العبد ويقيمه ويدفع ضرورته حتى يتمكن من قضاء جهازه ومن التزوج لسفره الى ربه عزوجل فإذا زادعلى ذلك شغله وقطعه عن السفر وعن قضاء جهازه وتعبية زاده فكان ضرره عليه أكثر من مصلحته وكلما ازاداد غناه به ازداد تثبطا وتخلفا عن التجهز لما امامه وأما العلم النافع فكلما
(1/260)
ازداد منه ازداد في تعبية الزاد وقضاء الجهاز واعداد عدة المسير والله الموفق وبه الاستعانة ولا حول ولا قوة الا به فعدة هذا السفر هو العلم والعمل وعدة الاقامة جمع الاموال والادخار ومن اراد شيئا هيأ له عدته قال تعالى ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين قوله محبة العلم او العالم دين يدان بها لان العلم ميراث الانبياء والعلماء ورثتهم فمحبة العلم واهله محبة لميراث الانبياء وورثتهم وبغض العلم وأهله بغض لميراث الانبياء وورثتهم فمحبة العلم من علامات السعادة وبغض العلم من علامات الشقاوة وهذا كله إنما هو في علم الرسل الذي جاؤا به وورثوه للامة لا في كل ما يسمى علما وايضا فإن محبة العلم تحمل على تعلمه واتباعه وذلك هو الدين وبغضه ينهى عن تعلمه واتباعه
(1/261)
وذلك هو الشقاء والضلال وايضا فإن الله سبحانه عليم يحب كل عليم وإنما يضع علمه عند من يحبه فمن احب العلم واهله فقد احب ما احب الله وذلك مما يدان به قوله العلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد مماته يكسبه ذاك أي يجعله كسبا له ويورثه إياه ويقال كسبه ذلك عزا وطاعة واكسبه لغتان ومنه حديث خديجة رضى الله عنها إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم روى بفتح التاء وضمها ومعناه تكسب المال والغنى هذا هو اصواب وقالت ائفة من رواه بضمها فذلك من اكسبه مالا وعزا ومن رواه بفتحها فمعناه تكسب انت المال المعدوم بمعرفتك وحذقك بالتجارة ومعاذ الله من هذا الفهم وخديجة اجل قدرا من تكلمها بهذا في هذا المقام العظيم ان تقول لرسول الله ابشر فوالله لا يخزيك الله إنك تكسب الدرهم والدينار وتحسن التجارة ومثل هذه التحريفات انما تذكر لئلا يغتربها في تفسير كلام الله ورسولهوالمقصود ان قوله العلم يكسب العالم الطاعة في حياته أي يجعله مطاعا لان الحاجة الى العلم عامة لكل احد للملوك فمن دونهم فكل احد محتاج إلى طاعة العالم فإنه يامر بطاعة الله ورسوله فيجب على الخلق طاعته قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم وفسر اولى الامر بالعلماء قال ابن عباس هم الفقهاء والعلماء اهل الدين الذين يعلمون الناس دينهم اوجب الله تعالى طاعتهم وهذا قول مجاهد والحسن والضحاك احدى الروايتين عن الامام احمد وفسروا بالامراء وهو قول ابن زيد احدى الروايتين عن ابن عباس وأحمد والاية تتناولها جميعا فطاعة ولاة الامر واجبة إذا امروا بطاعة الله ورسوله وطاعة العلماء كذلك فالعالم بما جاء به الرسول العامل به اطوع في اهل الارض من كل احد فإذا مات احيا الله ذكره ونشر له في العالمين احسن الثناء فالعالم بعد وفاته ميت وهو حي بين الناس والجاهل في حياته حي وهو ميت بين الناس كما قيل وفي الجهل
(1/262)
قبل الموت موت لأهله واجسامهم قبل القبور قبور وارواحهم فيوحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور وقال الاخر قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس اموات وقال آخر وما دام ذكر العبد بالفضل باقيا فذلك حى وهو في الترب هالك ومن تأمل احوال ائمة الاسلام كأئمة الحديث والفقه كيف هم تحت التراب وهم في العالمين كانهم احياء بينهم لم يفقدوا منهم الا صورهم والا فذكرهم وحديثهم والثناء عليهم غير منقطع وهذه هي الحياة حقا حتى عد ذلك حياة ثانية كما قال المتنبي ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته ما فاته وفضول العيش اشغال قوله وصنيعة المال تزول بزواله يعني ان كل صنيعة صنعت للرجل من اجل ماله من إكرام ومحبة وخدمة وقضاء حوائج وتقديم واحترام وتولية وغير ذلك فإنها إنما هي مراعاة لما له فإذا زال ماله وفارقه زالت تلك الضائع كلها حتى إنه ربما لا يسلم عليه من كان يدأب في خدمته ويسعى في مصالحه وقد اكثر الناس من هذا المعنى في اشعارهم وكلامهم وفي مثل قولهم من ودك لأمر ملك عند انقضائه قال بعض العرب ومن هذا ما قيل إذا اكرمك الناس لمال او سلطان فلا يعجبنك ذلك فإن زوال الكرامة يزوالهما ولكن ليعجبك ان اكرموك لعلم او دين وهذا امر لا ينكر في الناس حتى انهم ليكرمون الرجل لثيابه فإذا نزعها لم ير منهم تلك الكرامة وهو هو قال مالك بلغني ان أبا هريرة دعى الى وليمة فأتى فحجب فرجع فلبس غير تلك الثياب فادخل فلما وضع الطعام ادخل كمه في الطعام فعوتب في ذلك فقال إن هذه الثباب هي التي ادخلت فهي تأكل حكاه ابن مزين الطليطلي في كتابه وهذا بخلاف صنيعة العلم فانها لا تزول ابدا بل كل مآلها في زيادة مالم يسلب ذلك العالم علمه وضيعه العلم والدين اعظم من صنيعة المال لانها تكون بالقلب واللسان والجوارح فهي صادرة عن حب وإكرام لاجل ما أودعه الله تعالى أياه من علمه وفضله به على غيره وايضا فصنيعة العلم تابعة لنفس
(1/263)
العالم وذاته وصنيعة المال تابعة لماله المنفصل عنه وايضا فصنيعة المال صنيعة معاوضة وصنيعه العلم والدين صنيعة حب وتقرب وديانة وايضا فصنيعه المال تكون مع البر والفاجر والمؤمن والكافر واما صنيعة العلم والدين فلا تكون الا مع اهل ذلك وقد يراد من هذا ايضا معنى آخر وهو ان من اصطنعت عنده صنيعة بمالك إذا زال ذلك المال وفارقه عدمت صنيعتك عنده واما من اصطنعت اليه صنيعة علم وهدى فإن تلك ا لصنيعة لا تفارقه ابدا بل ترى في كل وقت كأنك اسديتها اليه حينئذ قوله مات خزان الاموال وهم احياء تقدم بيانه وكذا قوله والعلماء باقون ما بقي الدهر وقوله اعيانهم مفقودة وامثالهم في القلوب موجودة المراد بامثالهم صورهم العلمية ووجودهم المثالي أي وان فقدت ذواتهم فصورهم وامثالهم في القلوب لا تفارقها وهذا هو الوجود الذهني العلمي لان محبة الناس لهم واقتداءهم بهم وانتفاعهم بعلومهم
(1/264)
يوجب ان لا يزالوا نصب عيونهم وقبلة قلوبهم فهم موجودون معهم وحاضرون عندهم وان غابت عنهم اعيانهم كما قيل ومن عجب اني احن اليهم واسال عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين اضلعي وقال آخر ومن عجب ان يشكو البعد عاشق وهل غاب عن قلب المحب حبيب خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب قوله آه إن ها هنا علما واشار الى صدره يدل على جواز اخبار الرجل بما عنده من العلم والخير ليقتبس منه ولينتفع به ومنه قول يوسف الصديق عليه السلام اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم فمن اخبر عن نفسه بمثل ذلك ليكثر به ما يحبه الله ورسوله من الخير فهو محمود وهذا غير من اخبر بذلك ليتكثر به عند الناس ويتعظم وهذا يجازيه الله بمقت الناس له وصغره في عيونهم والاول يكثره في قلوبهم وعيونهم وإنما الاعمال بالنيات وكذلك إذا اثنى الرجل على نفسه ليخلص بذلك من مظلمة وشر او ليستوفى بذلك حقا له يحتاج فيه الى التعريف بحاله او ليقطع عنه اطماع السفلة فيه اوعند خطبته الى من لا يعرف حاله و الاحسن في هذا ان يوكل من يعرف به وبحاله فإن لسان ثناء المرء على نفسه قصير وهو في الغالب مذموم لما يقترن به من الفخر والتعاظم ثم ذكر اصناف حملة العلم الذين لايصلحون لحمله وهم اربعة احدهم من ليس هو بمأمون عليه وهو الذي اوتى ذكاء وحفظا ولكن مع ذلك لم يؤت زكاء فهو يتخذ العلم الذي هو آلة الدين آلة الدنيا يستجلبها به ويتوسل بالعلم اليها ويجعل البضاعة التي هي متجر الاخرة متجر الدنيا وهذا غير امين على ما حمله من العلم ولا يجعله الله إماما فيه قط فإن الامين هو الذي لاغرض له ولا إرادة لنفسه الا اتباع الحق وموافقته فلا يدعو الى إقامة رياسته ولا دنياه وهذا الذي قد اتخذ بضاعة الاخرة ومتجرها متجرا للدنيا قد خان الله وخان عباده وخان دينه فلهذا قال غير مأمون عليه وقوله يستظهر بحجج الله على كتابه
(1/265)
وبنعمه على عباده هذه صفة هذا الخائن إذا انعم الله عليه استظهر بتلك النعمة على الناس وإذا تعلم علما استظهر به على كتاب الله ومعنى استظهاره بالعلم على كتاب الله تحكيمه عليه وتقديمه وإقامته دونه وهذه حال كثير ممن يحصل له علم فإنه يستغنى به ويستظهر به ويحكمه ويجعل كتاب الله تبعا له يقال استظهر فلان على كذا بكذا أي ظهر عليه به وتقدم وجعله وراء ظهره وليست هذه حال العلماء فإن العالم حقا يستظهر بكتاب الله على كل ما سواه فيقدمه ويحكمه ويجعله عيارا على غيره مهيمنا عليه كما جعله الله تعالى كذلك فالمستظهر به موفق سعيد والمستظهر عليه مخذول شقي فمن استظهر على الشيء فقد جعله خلف ظهره مقدما عليه ما استظهر به وهذا حال من اشتغل بغير كتاب الله عنه واكتفى بغيره منه وقدم غيره واخره والصنف الثاني من حملة العلم المنقاد الذي لم يثلج له صدره ولم يطمئن به قلبه بل هو ضعيف البصيرة فيه لكنه منقاد لأهله وهذه حال اتباع الحق من مقلديهم وهؤلاء وإن كانوا على سبيل نجاة فليسوا من دعاة الدين وإنما هم من مكثري وسواد الجيش لا من امرائه وفرسانه والمنقاد منفعل من قاده يقوده وهو مطاوع الثلاثي واصله منقيد كمكتسب ثم اعلت الياء الفا لحركتها بعد فتحة فصارمن قادت تقول قدته فانقاد أي لم يمتنع والاحناء جميع حنو بوزن علم وهي الجوانب والنواحي والعرب تقول ازجر احناء طيرك أي امسك نواحي خفتك وطيشك يمينا وشمالا واماما وخلفا قال لبيد فقلت ازدجر احناء طيرك واعلمن بانك ان قدمت رجلك عاثر والطير هنا الخفة والطيش وقوله ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة هذا لضعف علمه وقلة بصيرته إذا وردت على قلبه ادنى شبهة قدحت فيه الشك والريب بخلاف الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد امواج البحر ما ازالت يقينه ولا قدحت فيه شكا لانه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة والشبهة وارد يرد
(1/266)
على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه بل يقوى علمه ويقينه بردها ومعرفة بطلانها ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة فان تداركها والا تتابعت على قلبه امثالها حتى يصير شاكا مرتابا والقلب يتوارده جيشان من الباطل جيش شهوات الغي وجيش شبهات الباطل فأيما قلب صغا اليها وركن اليها تشربها وامتلأ بها فينضح لسانه وجوارحه بموجبها فإن اشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والايرادات فيظن الجاهل ان ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه وقال لي شيخ الاسلام رضى الله عنه وقد جعلت اورد عليه غيرادا بعد إيراد لات جعل قلبك للايرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح الا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فاذا اشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات او كما قال فما اعلم اني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك وإنا سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها فانها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل وأكثر الناس اصحاب حسن ظاهر فينظر الناظر فيما البسته من اللباس فيعتقد صحتها واما صاحب العلم واليقين
(1/267)
فانه لا يغتر بذلك بل يجاوز نظره الى باطنها وماتحت لباسها فينكشف له حقيقتها ومثال هذا الدرهم الزائف فإنه يغتر به الجاهل بالنقد نظرا الى ما عليه من لباس الفضة والناقد البصير يجاوز نظره الى ما وراء ذلك فيطلع على زيفه فاللفظ الحسن الفصيح هو للشبهة بمنزلة اللباس من الفضة على الدرهم الزائف والمعنى كالنحاس الذي تحته وكم قد قتل هذا الاعتذار من خلق لا يحصيهم الا الله وإذا تأمل العاقل الفطن هذا القدر وتدبره رأى اكثر الناس يقبل المذهب والمقالة بلفظ ويردها بعينها بلفظ آخر وقد رايت انا من هذا في كتب الناس ما شاء الله وكم رد من الحق بتشنيعه بلباس من اللفظ قبيح وفي مثل هذا قال ائمة السنة منهم الامام احمد وغيره لا نزيل عن الله صفة من صفاته لاجل شناعة شنعت فهؤلاء الجهمية يسمون إثبات صفات الكمال لله من حياته وعلمه وكلامه وسمعه وبصره وسائر ما وصف به نفسه تشبيها وتجسيما ومن اثبت ذلك مشبها فلا ينفر من هذا المعنى الحق لاجل هذه التسمية الباطلة الا العقول الصغيرة القاصرة خفافيش البصائر وكل اهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم احسن ما يقدرون عليه من الالفاظ ومقالة مخالفيهم اقبح ما يقدرون عليه من الالفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الالفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى تقول هذا جنى النحل تمدحه وان نشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فإذا اردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق او باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ثم اعط النظر حقه ناظرا بعين الانصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة اصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا الا من اراد الله كرامته وارتضاه لقبول
(1/268)
الحق وقد قيل : وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما ان عين السخط تبدي المساويا وقال آخر نظروا بعين عداوة لو انها عين الرضا الاستحسنوا ما استقبحوا فإذا كان هذا في نظر العين الذي يدرك الحسوسات ولا يتمكن من المكابرة فيها فما الظن بنظر القلب الذي يدرك المعاني التي هي عرضة المكابرة والله المستعان على معرفة الحق وقبوله ورد الباطل وعدم الاغترار به وقوله بأول عارض من شبهة هذا دليل ضعف عقله ومعرفته اذ تؤثر فيه البداآت ويستفز باوائل الامور بخلاف الثابت التام العاقل فإنه لا تستفزه البداآت ولا تزعجه وتقلقله فان الباطل له دهشة وروعة في اوله فإذا ثبت له القلب رد على عقبيه والله يحب من عنده العلم والاناة فلا يعجل بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه فالعلجة والطيش من الشيطان فمن ثبت عند صدمة البداآت استقبل امره بعلم وجزم ومن لم يثبت لها استقبله بعجله وطيش وعاقبته الندامة وعاقبة الاول حمدامره ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها وهي الفوت فإنه لا يخاف من التثبيت الا الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم تم امره ولهذا في الدعاء الذي وراه الامام احمد والنسائي عن النبي اللهم اني اسالك الثبات في الامر والعزيمة على الرشد وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح وما اتى العبد الا من تضييعهما او تضييع احدهما فما اتى احد الا من باب العجلة والطيش واستفزاز البداآت له أو من باب التهاون والتمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات اولا والعزيمة ثانيا افلح كل الفلاح والله ولي التوفيق الصنف الثالث رجل نهمته في نيل لذته فهو منقاد لداعي الشهوة اين كان ولا ينال درجة وراثة النبوة مع ذلك ولا ولا ينال العلم الا بهجر اللذات وتطليق الراحة قال مسلم في صحيحه قال يحيى بن أبي كثير لا ينال العلم براحة الجسم وقال إبراهيم الحربي اجمع عقلاء كل امة ان النعيم لا يدرك بالنعم ومن آثر
(1/269)
الراحة فاتته الراحة فما لصاحب اللذات وما لدرجة وراثة الانبياء فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد فان العلم صناعة القلب وشغله فما لم تتفرغ لصناعته وشغله لم تنلها وله وجهة واحدة فإذا وجهت وجهته الى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم ومن لم يغلب لذة إدراكه العلم وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم ابدا فإذا صارت شهوته في العلم ولذته في كل إدراكه رجى له ان يكون من جملة اعلة ولذة العلم لذة عقلية روحانية من جنس لذة الملائكة ولذة شهوات الاكل والشراب والنكاح لذة حيوانية يشارك الانسان فيها الحيوان ولذة الشروالظلم والفساد والعلوى في الارض شيطانية يشارك صاحبها فيها ابليس وجنوده وسائر اللذات تبطل بمقارفة الروح البدن الا لذة العلم والايمان فإنها تكمل بعد المفارقة لان البدن وشواغله كان ينقصها ويقللها ويحجبها فإذا انطوت الروح عن البدن التذت لذة كاملة بما حصلته من العلم النافع والعمل الصالح فمن طلب اللذة العظمى وآثر النعيم والمقيم فهو في العلم والايمان اللذين بهما كمال سعادة الانسان وايضا فإن تلك اللذات سريعة الزوال وإذا انقضت اعقبت هما وغما وألا يحتاج صاحبها ان يداويه بمثلها دفعا للألمه وربما كان معاودته لها مؤلما له كريها اليه لكن يحمله عليه مدواة ذلك الغم والهم فأين هذا من لذة العلم ولذة الايمان بالله ومحبته والاقبال عليه والتنعم بذكره فهذه هي اللذة الحقيقية
(1/270)
الصنف الرابع من حرصه وهمته في جمع الاموال وتثميرها وادخارها فقد صارت لذته في ذلك وفتى بها عما سواه فلا يرى شيئا اطيب له مما هو فيه فمن اين هذا ودرجة العلم فهؤلاء الاصناف الاربعة ليسوا من دعاة الدين ولا من ائمة العلم ولا من طلبته الصادقين في طلبه ومن تعلق منهم بشيء منه فهو من المتسلقين عليه المتشبهين بحملته وأهله المدعين لوصاله المبتونين من حباله وفتنة هؤلاء فتنة لكل مفتون فان الناس يتشبهون بهم لما يظنون عندهم من العلم ويقولون لسنا خيرا منهم ولا نرغب بأنفسنا عنهم فهم حجة لكل مفتون ولهذا قال فيهم بعض الصحابة الكرام احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون وقوله اقرب شبها بهم الانعام السائمة وهذا التشبيه مأخوذ من قوله تعالى ان هم كالأنعام بل هم اضل سبيلا فما اقصر سبحانه على تشبيههم بالانعام حتى جعلهم اضل سبيلا منهم والسائمة الراعية وشبه امير المؤمنين هؤلاء بها لان همتهم في سعي الدنيا وحطامها والله تعالى يشبه اهل الجهل والغي تارة بالانعام وتارة بالحمر وهذا تشبيه لمن تعلم علما ولم يعقله ولم يعمل به فهو كالحمار الذي يحمل اسفارا وتارة بالكلب وهذا لمن انسلخ عن العلم واخلد الى الشهوات والهوى وقوله كذلك يموت العلم بموت حامليه هذا من قول النبي في حديث عبد الله بن عمر وعائشة رضى الله عنهم وغيرهما ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا رواه البخاري في صحيحه فذهاب العلم إنما هو بذهاب العلماء قال ابن مسعود يوم مات عمر رضى الله عنه اني لاحسب تسعة اعشار العلم اليوم قد ذهب وقد تقدم قول عمر رضى الله عنه موت الف عابد اهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه وقوله اللهم بلى لن تخلو الارض من مجتهد قائم لله بحجج الله ويدل عليه الحديث الصحيح عن النبي لا
(1/271)
تزال طائفة من امتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امر الله وهم على ذلك ويدل عليه ايضا مارواه الترمذي عن قتيبة حدثنا حماد بن يحيى الابح عن ثابت عن انس قال قال رسول الله مثل امتي مثل المطر لا يدرى اوله خير ام آخره قال هذا حديث حسن غريب ويروى عن عبدالرحمن بن مهدي انه كان يثبت حماد بن يحيى الابح وكان يقول هو من شيوخنا وفي الباب عن عمار وعبد الله بن عمرو فلو لم يكن في اواخر الامة قائم بحجج الله مجتهد لم يكونوا موصوفين بهذه الخيرية وايضا فإن هذه الامة اكمل الامم وخير امة اخرجت للناس ونبيها خاتم النبيين لا نبي بعده فجعل الله العلماء فيها كلما هلك عالم خلقه عالم لئلا تطمس معالم الدين وتخفى اعلامه وكان بنو اسرائيل كلما هلك نبي خلفه نبي فكانت تسوسهم الانبياء والعلماء لهذه الامة كالانبياء في بني اسرائيل وأيضا ففي الحيدث الاخر يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين
(1/272)
وانتحال المبطلين وتاويل الجاهلين وهذا يدل على انه لا يزال محمولا في القرون قرنا بعد قرن وفي صحيح ابي حاتم من حديث الخولاني قال قال رسول الله لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته وغرس الله هم اهل العلم والعمل فلو خلت الارض من عالم خلت من غرس الله ولهذا القول حجج كثيرة لها موضع آخر وزاد الكذابون في حديث على إما ظاهرا مشهورا وإما خفيا مستورا وظنوا ان ذلك دليل لهم على القول بالمنتظر وكلن هذه الزيادة من وضع بعض كذا بيهم والحديث مشهور عن علي لم يقل احد عنه هذه المقالة الا كذاب وحجج اله لا تقوم بخفي مستور لا يقع العالم له على خبر ولا ينتفعون به في شيء اصلا فلا جاهل يتعلم منه ولا ضال يهتدي به ولا خائف يأمن به ولا ذليل يتعزز به فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص ولا يسمع منه كلمة ولا يعلم له مكان ولا سيما على أصول القائلين به فإن الذي دعاهم الى ذلك انهم قالوا لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله فيالله العجب أي لطف حصل بهذا المعدوم لا المعصوم وأي حجة اثبتم للخلق على ربهم باصلكم الباطل فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط الى لقائه والاهتداء به فهل في تكليف مالا يطاق ابلغ من هذا وهل في العذر والحجة ابلغ من هذا فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه وكنتم في ذلك كما قيل : المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار ولكن ابي الله الا ان يفضح من تنقص بالصحابة الاخيار وبسادة هذه الامة وان يرى الناس عورته ويغريه بكشفها ونعوذ بالله من الخذلان ولقد احسن القائل : ما آن للسرداب ان يلد الذي حملتموه بزعمكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فانكم ثلثتم العنقاء والغيلانا ولقد بطلت حجج استودعها مثل هذا الغائب وضاعت اعظم ضياع فانتم ابطلتم حجج الله من حيث زعمتم حفظها وهذا تصريح من امير المؤمنين رضى الله عنه بان حامل حجج الله في الارض بحيث يؤديها عن الله
(1/273)
ويبلغها الى عباده مثله رضى الله عنه ومثل إخوانه من الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم الى يوم القيامة وقوله لكيلا تبطل حجج الله وبيناته أي لكيلا تذهب من بين يدي الناس وتبطل من صدورهم والا فالبطلان محال عليها لانها ملزوم ما يستحيل عليه البطلان فإن قيل فما الفرق بين الحجج والبينات قيل الفرق بينهما ان الحجج هي الادلة العلمية التي يعقلها القلب وتسمع بالاذن قال تعالى في مناظرة إبراهيم لقومه وتبيين بطلان ما هم عليه بالدليل العلمي وتلك حجتنا آتيناهم إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء قال ابن زيد بعلم الحجة وقال تعالى فان حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعني وقال
(1/274)
تعالى والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم والحجة هي اسم لما يحتج به من حق وباطل قال تعالى لئلا يكون للناس علكيم حجة الا الذين ظلموا منهم فانهم يحتجون عليكم بحجة باطلة فلا تخشوهم واخشوني وقال تعالى واذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم الا ان قالوا ائتوا بآبائنا ان كنتم صادقين والحجة المضافة الى الله هي الحق وقد تكون الحجة بمعنى المخاصمة ومنه قوله تعالى فلذلك فادع واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءهم وقل آمنت بما انزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا اعمالنا ولكم اعمالكم لا حجة بيننا وبينكم أي قد وضح الحق واستبان وظهر فلا خصومة بيننا بعد ظهوره ولا مجادلة فان الجدال شريعة موضوعة للتعاون على إظهار الحق فإذا ظهر الحق ولم يبق به خفاء فلا فائدة في الخصومة والجدال على بصيرة مخاصمة المنكر ومجادلته عناء لا غنى فيه هذا معنى هذه الاية وقد يقع في وهم كثير من الجهال ان الشريعة لا احتجاج فيها وان المرسل بها صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يحتج على خصومه ولا يجادلهم ويظن جهال المنطقيين وفروخ اليونان ان الشريعة خطاب للجمهور ولا احتجاج يها فيوان الانبياء دعوا الجمهور بطريق الخطابة والحجج للخواص وهم اهل البرهان يعنون نفوسهم ومن سلك طريقتهم وكل هذا من جهلهم بالشريعة والقرآن فإن القرآن مملوء من الحجج والادلة والبراهين في مسائل التوحيد واثبات الصانع والمعاد وإرسال الرسل وحدوث العالم فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلا صحيحا على ذلك الا وهو في القرآن بافصح عبارة واوضح بيان وأتم معنى وابعده عن الايرادات والاسئلة وقد اعترف بهذا حذاق المتكلمين من المتقدمين والمتأخرين قال ابو حامد في اول الاحياء فإن قلت فلم لم تورد في اقسام العلم الكلام والفلسفة وتبين انهما مذمومان او ممدوحان فاعلم ان حاصل ما يشتمل عليه الكلام من الادلة التي ينتفع بها فالقرآن
(1/275)
والاخبار مشتملة عليه وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه واما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل بنقل المقالات التي اكثرها ترهات وهذا يانات تزدريها الطباع وتمجها الاسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الاول ولكن تغير الان حكمه إذا حدثت البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة لفقت لها شبها ورتبت لها كلاما مؤلفا فصار ذلك المحظور بحكم الضرورة مأذونا فيه وقال الرازي في كتابه اقسام اللذات لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلا ولا تشفى عليلا ورايت اقرب الطرق طريقة القرآن اقرا في الاثبات اليه يصعدالكلم الطيب الرحمن على العرش استوى واقرا في النفي ليس كمثله شيء ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وهذا الذي اشار اليه بحسب مافتح له من
(1/276)
دلالة القرآن بطريق الخبر وإلا فدلالته البرهانية العقلية التي يشير اليها ويرشد اليها فتكون دليلا سمعيا عقليا امر تميز به القرآن وصار العالم به من الراسخين في العلم وهو العلم الذي يطمئن اليه القلب وتسكن عنده النفس ويزكو به العقل وتستنير به البصيرة وتقوى به الحجة ولا سبيل لاحد من العالمين الى قطع من حاج به بل من خاصم به فلجت حجته وكسر شبهة خصمه وبه فتحت القلوب واستجيب لله ولرسوله ولكن اهل هذا العلم لاتكاد الاعصار تسمح منهم الا بالواحد بعد الواحد فدلالة القرآن سمعية عقلية قطعية يقينية لا تعترضها الشبهات ولا تتداولها الاحتمالات ولا ينصرف القلب عنها بعد فهمها ابدا وقال بعض المتكلمين افنيت عمري في الكلام اطلب الدليل وانا لاأزداد الا بعدا عن الدليل فرجعت الى القرآن اتدبره واتفكر فيه واذا انا بالدليل حقا معي وانا لا أشعر به فقلت والله ما مثلي الا كما قال القائل : ومن العجائب والعجائب جمة قرب الحبيب وما اليه وصول كالعيش في البيداء يقتلها الظما ولاماء فوق ظهورها محمول قال فلما رجعت الى القرآن إذا هو الحكم والدليل ورأيت فيه من ادلة الله وحججه وبراهينه وبيناته ما لو جمع كل حق قاله المتكلمون في كتبهم لكانت سورة من سور القرآن وافية بمضمونه مع حسن البيان وفصاحة اللفظ وتطبيق المفصل وحسن الاحتراز والتنبيه على مواقع الشبه والارشاد الى جوابها وإذا هو كما قيل بل فوق ما قيل : كفى وشفى ما في الفؤاد فلم يدع لذي ارب في القول جدا ولا هزلا وجعلت جيوش الكلام بعد ذلك تفد الى كما كانت وتتزاحم في صدري ولا ياذن لها القلب بالدخول فيه ولا تلقى منه إقبالا ولا قبولا فترجع على ادبارها والمقصود ان القرآن مملوء بالاحتجاج وفيه جميع انواع الادلة والاقيسة الصحيحة وأمر الله تعالى رسوله فيه بإقامة الحجة والمجادلة فقال تعالى وجادلهم بالتي هي احسن وقال ولا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي احسن وهذه
(1/277)
مناظرات القرآن مع الكفار موجودة فيه وهذه مناظرات رسول الله واصحابه لخصومهم وإقامة الحجج عليهم لا ينكر ذلك الا جاهل مفرط في الجهل والمقصود الفرق بين الحجج والبينات فنقول الحجج الادلة العلمية والبيانات جمع بينة وهي صفة في الاصل يقال آية بينة وحجة بينة والبينة اسم لكل ما يبين الحق من علامة منصوبة او أمارة او دليل علمي قال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبيانات وانزلنا معهم الكتاب والميزان فالبينات الايات التي اقامها الله دلالة على صدقهم من المعجزات والكتاب هو الدعوة وقال تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومقام إبراهيم آية جزئية مرئية بالابصار
(1/278)
وهو من آيات الله الموجودة في العالم ومنه قول موسى لفرعون وقومه قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني اسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها ان كنت من الصادقين فالقى عصاه وكان القاء العصا وانقلابها حية هو البينة وقال قوم هود يا هود ما جئتنا ببينة يريدون آية الاقتراح والا فهو قد جاءهم بما يعرفون به انه رسول الله اليهم فطلب الاية بعد ذلك تعنت واقتراح لا يكون لهم عذر في عدم الاجابة اليه وهذه هي الايات التي قال الله تعالى فيها وما منعنا ان نرسل بالايات الا ان كذب بها الاولون فعدم اجابته سبحانه اليها إذ طلبها الكفار رحمة منه واحسان فانه جرت سنته التي لا تبديل لها انهم اذا طلبوا الاية واقترحوها واجيبوا ولم يؤمنوا عولجوا بعذاب الاستئصال فلما علم سبحانه ان هؤلاء لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية لم يجبهم الى ما طلبوا فلم يعمهم بعذاب لما اخرج من بنيهم واصلابهم من عبادة المؤمنين وان اكثرهم آمن بعد ذلك بغير الايات التي اقترحوها فكان عدم إنزال الايات المطلوبة من تمام حكمة الرب ورحمته واحسانه بخلاف الحجج فانها لم تزل متتابعة يتلو بعضها بعضا وهي كل يوم في مزيد وتوفي رسول الله وهي اكثر ما كانت وهي باقية الى يوم القيامة وقوله اولئك الاقلون عددا الاعظمون عند الله قدرا يعني هذا الصنف من الناس اقل الخلق عددا وهذا سبب غربتهم فانهم قليلون في الناس والناس على خلاف طريقهم فلهم نبأ وللناس نبأ قال النبي بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء فالمؤمنون قليل في الناس والعلماء قليل في المؤمنين وهؤلاء قليل في العلماء وإياك ان تغتر بما يغتر به الجاهلون فانهم يقولون لو كان هؤلاء على حق لم يكونوا اقل الناس عددا والناس على خلافهم فاعلم ان هؤلاء هم الناس ومن خالفهم فمشبهون بالناس وليسوا بناس فما الناس الا اهل الحق وإن كانوا اقلهم عددا قال ابن مسعود لا يكن احدكم إمعة يقول انا مع الناس ليوطن احدكم
(1/279)
نفسه على ان يؤمن ولو كفر الناس وقد ذم سبحانه الاكثرين في غير موضع كقوله وان تطع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله وقال وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال وقليل من عبادي الشكور وقال وان كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وقال بعض العارفين انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب مت بداء الهوى والا فخاطر واطرق الحي والعيون نواظر لا تخف وحشة الطريق اذا سر ت وكن في خفارة الحق سائر وقوله بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها الى نظرائهم ويزرعوها في قلوب اشباههم وهذا لان الله سبحانه ضمن حفظ حجه وبيناته واخبر رسول الله انه
(1/280)
لا تزال طائفة من امته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم الى قيام الساعة فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب من اهلهم الله لذلك وارتضاهم فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الاض وفي الاثر المشهور لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم بطاعته وكان من دعاء بعض من تقدم اللهم اجعلني من غرسك الذين تستعملهم بطاعتك ولهذا ما اقام الله لهذا الدين من يحفظه ثم قبضه اليه الا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة اما في قلوب امثاله واما في كتب ينتفع بها الناس بعده وبهذا وبغيره فضل العلماء العباد فإن العالم إذا زرع علمه عند غيره ثم مات جرى عليه اجره وبقي له ذكره وهو عمر ثان وحياة اخرى وذلك احق ما تنافس فيه المتنافسون ورغب فيه الراغبون وقوله هجم بهم العلم على حقيقة الامر فاستلانوا ما استوعره المترفون وانسوا مما استوحش منه الجاهلون الهجوم على الرجل الدخول عليه بلا استئذان ولما كانت طريق الاخرة وعرة على أكثر الخلق لمخالفتها لشهواتهم ومباينتها لارادتهم ومألوفاتهم قل سالكوها وزاهدهم فيها قلة علمهم اوعدمه بحقيقة الامر وعاقبة العباد ومصيرهم وما هيئوا له وهيء لهم فقل علمهم بذلك واستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الاخلاص والتقوى وتوعرت عليهم الطريق وبعدت عليهم الشقة وصعب عليهم مرتقي عقابها وهبوط اوديتها وسلوك شعابها فاخلدوا الى الدعة والراحة وآثروا العاجل على الاجل وقالوا عيشنا اليوم نقد وموعودنا نسيئة فنظروا الى عاجل الدنيا واغمضوا العيون عن آجلها ووقفوا مع ظاهرها ولم يتأملوا باطنها وذاقوا حلاوة مباديها وغاب عنهم مرارة عواقبها ودر لهم ثديها فطاب لهم الارتضاع واشتغلوا به عن التفكر في الفطام ومرارة الانقطاع وقال مغترهم بالله وجاحدهم لعظمته وربوبيته متمثلا في ذلك خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به وأما القائمون لله بحجته
(1/281)
خلفاء نبيه في امته فانهم لكمال علمهم وقوته نفد بهم الى حقيقة الامر وهجم بهم عليه فعاينوا ببصائرهم ما عشيت عنه بصائر الجاهلين فاطمأنت قلوبهم به وعملوا على الوصول اليه لما باشرها من روح اليقين رفع لهم علم السعادة فشمروا اليه واسمعهم منادي الايمان النداء فاستبقوا اليه واستيقنت انفسهم ما وعدهم به ربهم فزهدوا فيما سواه ورغبوا فيما لديه علموا ان الدنيا دار ممر لا دار مقر ومنزل عبور لا مقعد حبور وانها خيال طيف او سحابة صيف وان من فيها كراكب قال تحت ظل شجرة ثم راح عنها وتركها وتيقنوا انها احلام نوم او كظل زائل : ان اللبيب بمثلها لا يخدع
(1/282)
وان وصفها صدق في وصفها اذ يقول ارى اشقياء الناس لا يسأمونها على انهم فيها عراة وجوع اراها وان كانت تحب فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع فرحلت عن قلوبهم مدبرة كما ترحلت عن اهلها موليه واقبلت الآخرة الى قلوبهم مسرعة كما اسرعت الى الخلق مقبلة فامتطوا ظهور العزائم وهجروا لذة المنام وما ليل المحب بنائم علموا طول الطريق وقلة المقام في منزل التزود فسارعوا في الجهاز وجد بهم السير الى منازل الاحباب فقطعوا المراحل وطووا المفاوز وهذا كله من ثمرات اليقين فان القلب إذا استيقن ما امامه من كرامة الله وما اعد لاوليائه بحيث كأنه ينظر اليه من وراء حجاب الدنيا ويعلم انه إذا زال الحجاب رأى ذلك عيانا زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون ولان له ما استوعره المترفون وهذه المرتبة هي اول مراتب اليقين وهي علمه وتيقنه وهي الكشاف المعلوم للقلب بحيث يشاهده ولا يشك فيه كانكشاف المرئي للبصر ثم يليها المرتبة الثانية وهي مرتبة عين اليقين ونسبتها الى العين كنسبة الاول الى القلب ثم تليها المرتبة الثالثة وهي حق اليقين وهي مباشرة المعلوم وإدراكه الادراك التام فالاولى كعلمك بان في هذا الوادي ماء والثاني كرؤيته والثالثة كالشرب منه ومن هذا ما يروى في حديث حارثة وقول النبي كيف اصبحت يا حارثة قال اصبحت مؤمنا حقا قال إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها فاسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكاني انظر الى عرش ربي بارزا وكاني انظر الى اهل الجنة بتزاورون فيها والى اهل النار يتعاوون فيها فقال عبد نور الله قلبه فهذا هو هجوم العلم بصاحبه على حقيقة الامر ومن وصل الى هذا استلان ما يستوعره المترفون وأنس مما يشتوحش منه الجاهلون ومن لم يثبت قدم إيمانه على هذه الدرجة فهو إيمان ضعيف وعلامة هذا انشراح الصدر لمنازل الايمان وانفساحه وطمأنينة القلب لأمر الله والانابة الى ذكر الله ومحبته والفرح بلقائه والتجافي
(1/283)
عن دار الغرور كما في الاثر المشهور إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قيل وما علامة ذلك قال التجافي عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله وهذه هي الحال التي كانت تحصل للصحابة عند النبي إذا ذكرهم الجنة والنار كما في الترمذي وغيره من حديث الجريري عن ابي عثمان النهدي عن حنظلة الاسدي وكان من كتاب النبي انه مر بأبي بكر رضى الله عنه وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة فقال نافق حنظلة يا ابا بكر نكون عند رسول الله يذكرنا بالجنة والنار كانا رأى عين فإذا رجعنا إلى الازواج والضيعة نسينا كثيرا قال فوالله إنا لكذلك انطلق بنا الى رسول الله فانطلقنا فلما رآه رسول الله قال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا
(1/284)
رأى عين فإذا رجعنا عافسنا الازواج والضيعة ونسينا كثيرا قال فقال رسول الله لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ساعة وساعة قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي الترمذي ايضا نحوه من حديث ابي هريرة والمقصود ان الذي يهجم بالقلب على حقيقة الايمان ويلين له ما يستوعره غيره ويؤنسه بما يستوحش منه سواء العلم التام والحب الخالص والحب تبع للعلم يقوى بقوته ويضعف بضعفه والمحب لا يستوعر طريقا توصله الى محبوبه ولا يستوحش فيها وقوله صحبوا الدنيا بابدان ارواحها معلقة بالملأ الاعلى وفي رواية بالمحل الاعلى الروح في هذا الجسد بدار غربة ولها وطن غيره فلا تستقر الا في وطنها وهي جوهر علوي مخلوق من مادة علوية وقد اضطرت الى مساكنة هذا البدن الكثيف فهي دائما تطلب وطنها في المحل الاعلى وتحن اليه حنين الطير الى اوكارها وكل روح ففيها ذلك ولكن لفرط اشتغالها بالبدن وبالمحسوسات المالوفة اخلدت الى الارض ونسيت معلمها ووطنها الذي لا راحة لها في غيره فإنه لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه والدنيا سجنه حقا فلهذا تجدالمؤمن بدنه في الدنيا وروحه في المحل الاعلى وفي الحديث المرفوع إذا نام العبد وهو ساجد باهي الله به الملائكة فيقول انظروا الى عبدي بدنه في الارض وروحه عندي رواه تمام وغيره وهذا معني قول بعض السلف القلوب جوالة فقلب حول الحشر وقلب يطوف مع الملائكة حول العرش فأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيسها في أعماق البدن واشتغالها بملاذه وانقطاعها عن ملاحظة ما خلقت له وهيئت له وعن وطنها ومحلها ومحل انسها ومنزل كرامتها ولكن سكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الالم والعذاب فإذا صحت من سكرها وافاقت من غمرتها اقبلت عليها جيوش الحسرات من كل جانب فحينئذ تتقطع حسرات على ما فاتها من كرامة الله وقربه والانس به والوصول الى وطنها الذي لا راحة لها الا فيه كما
(1/285)
قيل : صحبتك اذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي الومها ولو تنقلت الروح في المواطن كلها والمنازل لم تستقر ولم تطمئن الا في وطنها ومحلها الذي خلقت له كما قيل : نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب الا للحبيب الاول كم منزل في الارض يألفه الفتى وحنينه ابدا لاول منزل وإذا كانت الروح تحن ابدا الى وطنها من الارض مع قيام غيره مقامه في السكنى وكثيرا ما يكون غير وطنها احسن واطيب منه وهي دائما تحن اليه مع انه لا ضرر عليها ولا عذاب في مفارقته الى مثله فكيف بحنينها الى الوطن الذي في فراقها له عذابها وآلامها وحسرتها التي لاتنقضي فالعبد
(1/286)
المؤمن في هذه الدار سبي من الجنة الى دار التعب والعناء ثم ضرب عليه الرق فيها فكيف يلام على حنينه الى داره التي سبى منها وفرق بينه وبين من يحب وجمع بينه وبين عدوه فروحه دائما معلقة بذلك الوطن وبدنه في الدنيا ولى من ابيات في ذلك وحي على جنات عن فانها منازلك الاولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود الى اوطاننا ونسلم وكلما اراد منه العدو نسيان وطنه وضرب الذكر عنه صفحا وايلافه وطنا غيره ابت ذلك روحه وقلبه كما قيل : يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار اين حل منها فهو في دار غربة كما قال النبي كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل ولكنها غربة تنقضى ويصير الى وطنه ومنزله وانما الغربة التي لا يرجى انقطاعها فهي غربة في دار الهوان ومفارقة وطنه الذي كان قد هيء واعد له وامر بالتجهيز اليه والقدوم عليه فابى الا اغترابه عنه ومفارقته له فتلك غربة لا يرجى ايابها ولا يجبر مصابها ولا تبادر الى انكار كون البدن في الدنيا والروح في الملأ الاعلى فللروح شأن والبدن شأن والنبي كان بين اظهر اصحابه وهو عند ربه يطعمه ويسقيه فبدنه بينهم وروحه وقلبه عند ربه وقال ابو الدرداء اذا نام العبدعرج بروحه الى تحت العرش فان كان طاهرا اذن لها بالسجود وان لم يكن طاهرا لم يؤذن لها بالسجود فهذه والله أعلم هي العلة التي امر الجنب لاجلها ان يتوضأ إذا أراد النوم وهذا الصعود إنما كان لتجرد الروح عن البدن بالنوم فإذا تجردت بسبب آخر حصل لها من الترقي والصعود بحسب ذلك التجرد وقد يقوى الحب بالمحب حتى لا يشاهد منه بين الناس الا جسمه وروحه في موضع آخر عند محبوبه وفي هذا من شاعار الناس وحكاياتهم ما هو معروف وقوله اولئك خلفاء الله في ارضه ودعائه الى دينه هذا حجة احد القولين في انه يجوز ان يقال فلان خليفة الله في ارضه واحتج اصحابه ايضا بقوله تعالى للملائكة إني جاعل في
(1/287)
الارض خليفة واحتجوا بقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف في الارض وهذا خطاب لنوع الانسان وبقوله تعالى امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض وبقول موسى لقومه عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون ويقول النبي ان الله ممكن لكم في الارض ومستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء واحتجوا بقول الراعي يخاطب ابا بكر رضي الله عنه : خليفة الرحمن انام معشر حنفاء نسجد بكرة واصيلا
(1/288)
عرب نرى لله في اموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا ومنعت طائفة هذا الاطلاق وقالت لا يقال لاحد انه خليفة الله فإن الخليفة انما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره والله تعالى شاهد غير غائب قريب غير بعيد راء وسامع فمحال ان يخلفه غيره بل هو سبحانه الذي يخلف عبده المؤمن فيكون خليفته كما قال النبي في حديث الدجال ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجه دونكم وان يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مؤمن والحديث في الصحيح وفي صحيح مسلم ايضا من حديث عبد الله بن عمرو ان رسول الله كان يقول اذا سافر اللهم انت الصاحب في السفر والخليفة في الاهل والحضر الحديث وفي الصحيح ان النبي قال اللهم اغفر لابي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في اهله فالله تعالى هو خليفة العبد لان العبد يموت فيحتاج الى من يخلفه في اهله قالوا ولهذا انكر الصديق رضى الله عنه على من قال له يا خليفة الله قال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله وحسبي ذلك قالوا وأما قوله تعالى اني جاعل في الارض خليفة فلا خلاف ان المراد به آدم وذريته وجمهور اهل التفسير من السلف والخلف على انه جعله خليفة عمن كان قبله في الارض قيل عن الجن الذين كانوا سكانها وقيل عن الملائكة الذين سكنوها بعدالجن وقصتهم مذكورة في التفاسير وأما قوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف في الارض فليس المراد به خلائف عن الله وانما المراد به انه جعلكم يخلف بعضكم بعضا فكلما هلك قرن خلفه قرن إلى آخر الدهر ثم قيل ان هذا خطاب لامة محمد خاصة أي جعلكم خلائف من الامم الماضية فهلكوا وورثتم انتم الارض من بعدهم ولا ريب ان هذا الخطاب للامة والمراد نوع الانسان الذي جعل الله اباهم خليفة عمن قبله وجعل ذريته يخلف بعضهم بعضا الى قيام الساعة ولهذا جعل هذا آية من آياته كقوله تعالى امن يجيب المضطر أذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض واما قول موسى لقومه ويستخلفكم في الارض فليس ذلك استخلافا
(1/289)
عنه وانما هو استخلاف عن فرعون وقومه اهلكهم وجعل قوم موسى خلفاء من بعدهم وكذا قول النبي ان الله مستخلفكم في الارض أي من الامم التي تهلك وتكونون انتم خلفاء من بعدهم قالوا واما قول الراعي فقول شاعر قال قصيدة في غيبة الصديق لا يدري ابلغت ابا بكر ام لا ولو بلغته فلا يعلم انه اقره على هذه اللفظة ام لا قلت ان اريد بالاضافة الى الله انه خليفة عنه فالصواب قول الطائفة المانعة منها وان اريد بالاضافة ان الله استخلفه عن غيره ممن كان قله قبلهفهذا لا يمتنع فيه الاضافة وحقيقتها خليفة الله الذي جعله الله خلفا عن غيره وبهذا يخرج الجواب عن قول امير المؤمنين اولئك خلفاء الله في ارضه فان قيل هذا لامدح فيه لان هذا
(1/290)
الاستخلاف عام في الامة وخلافة الله التي ذكرها امير المؤمنين خاصة بخواص الخلق فالجواب ان الاختصاص المذكور افاد اختصاص الاضافة فالاضافة هنا للتشريف والتخصيص كما يضاف اليه عباده كقوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا ونظائرهما ومعلوم ان كل الخلق عباد له فخلفاء الارض كالعباد في قوله والله بصير بالعباد وما الله يريد ظلما للعباد وخلفاء الله في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ونظائره وحقيقة اللفظة ان الخليفة هو الذي يخلف الذاهب أي يجيء بعده يقال خلف فلان فلانا واصلها خليف بغير هاء لانها فعيل بمعنى فاعل كالعليم والقدير فدخلت التاء للمبالغة في الوصف كراوية وعلامة ولهذا جمع جمع فعيل فقيل خلفاء كشريف وشرفاء وكريم وكرماء ومن راعي لفظه بعد دخول التاء عليه جمعة معه على فعائل فقال خلائف كعقيلة وعقائل وظريفة وظرائف وكلاهما ورد به القرآن هذا قول جماعة من النحاة والصواب ان التاء إنما دخلت فيها للعدل عن الوصف الى الاسم فإن الكلمة صفة في الاصل ثم اجريت مجرى الاسماء فالحقت التاء لذلك كما قالوا نطيحة بالتاء فإذا اجروها صفة قالوا شاة نطيح كماي يقولون كف خضيب والا فلا معنى للمبالغة في خليفة حتى تلحقها تاء المبالغة والله اعلم وقوله ودعته الى دينه الدعاة جمع داع كقاض قضاة ورام ورماة وإضافتهم الى اليه للاختصاص أي الدعاة المخصوصون به الذين يدعون الى دينه وعبادته ومعرفته ومحبته وهؤلاءهم خواص خلق الله وافضلهم عند الله منزلة وأعلاهم قدرا يدل على ذلك الوجه الثلاثون بعد المائة وهو قوله تعالى ومن احسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين قال الحسن هو المؤمن اجاب الله في دعوته ودعا الناس الى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته فهذا حبيب الله هذا ولي الله فمقام الدعوة الى الله افضل مقامات العبد قال تعالى وانه لما قام عبدالله
(1/291)
يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمتسجيب القابل الذكي الذي لا يعاندالحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الامر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي احسن هذا هو الصحيح في معنى هذه الاية لا ما يزعم اسير منطق اليونان ان الحكمة قياس البرهان وهي دعوة الخواص والموعظة الحسنة قياس الخطابة وهي دعوة العوام والمجادلة بالتي هي احسن القياس الجدلي وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلم المقدمات وهذا باطل وهو مبني على اصول
(1/292)
الفلسفة وهو مناف لاصول المسلمين وقواعدالدين من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها وقال تعالى قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني قال الفراء وجماعة ومن اتبعني معطوف على الضمير في ادعو يعني ومن اتبعني يدعو الى الله كما ادعو وهذا قول الكلبي قال حق على كل من اتبعه ان يدعو الى ما دعا اليه ويذكر بالقرآن والموعظة ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة قال ابن الانباري ويجوز ان يتم الكلام عند قوله الى الله ثم يبتديء بقوله على بصيرة انا ومن اتبعني فيكون الكلام على قوله جملتين اخبر في اولاهما انه يدعو الى الله وفي الثانية بانه من اتباعه على بصيرة والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من اتباعه حقا حتى يدعو الى ما دعا اليه وقول الفراء احسن واقرب الى الفصاحة والبلاغة واذا كانت الدعوة الى الله اشرف مقامات العبد واجلها وافضلها فهي لا تحصل الا بالعلم الذي يدعو به واليه بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم الى حد يصل اليه السعي ويكفي هذا في شرف العلم ان صاحبه يحوز به هذا المقام والله يؤتي فضله من يشاء الوجه الحادي والثلاثون بعدالمائة انه لو لم يكن من فوائد العلم الا انه يثمر اليقين الذي هو اعظم حياة القلب وبه طمأنينه وقوته ونشاطه وسائر لوازم الحياة ولهذا مدح الله سبحانه اهله في كتابه واثنى عليهم بقوله وبالاخرة هم يوقنون وقوله تعالى كذلك نفصل الايات لقوم يوقنون وقوله في حق خليله إبراهيم وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين وذم من لا يقين عنده فقال إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وفي الحديث المرفوع من حديث سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن خيثمة عن عبد الله بن مسعوديرفعه لا ترضين احدا بسخط الله ولا تحمدن احدا على فضله ولا تذمن احدا على ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يردة عنك كراهية كاره وان الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة والفرح في
(1/293)
الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط فإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورا وانتفى عنه كل ريب وشك وعوفي من امراضه القاتلة وامتلأ شكرا لله وذكرا له ومحبة وخوفا فحبي عن بينة واليقين والمحبة هما ركنا الايمان وعليهما ينبني وبهما قوامه وهما يمدان سائر الاعمال القلبية والبدنية وعنهما تصدر وبضعفهما يكون ضعف الاعمال وبقوتهما قوتها وجميع منازل السائرين ومقامات العارفين إنما تفتح بهما وهما يثمران كل عمل صالح وعلم نافع وهدى مستقيم قال شيخ العارفين الجيد اليقين هو استقرار العلم الذي لاينقلب ولا يتحول ولا يتغير في القلب وقال سهل حرام على قلب ان يشم رائحة اليقين وفيه سكون الى غير الله وقيل من علاماته الالتفات الى الله في كل زلة والرجوع اليه في كل امر والاستعانة به في كل حال وارادة وجهه بكل حركة ويكون
(1/294)
وقال السرى اليقين السكون عند جولان الموارد في صدرك ليتقنك ان حركتك فيها لاتنفعك ولا ترد عنك مقضيا قلت هذا إذا لم تكن الحركة مأمورا بها فإذا كانت مأمورا بها فاليقين في بذل الجهد فيها واستفراغ الوسع وقيل إذا استكمل العبد حقيقة اليقين صار البلاء عنده نعمة والمحنة منحة فالعلم اول درجات اليقين ولهذا قيل العلم يستعملك واليقين يحملك فاليقين افضل مواهب الرب لعبده ولا تثبت قدم الرضاء الا على درجة اليقين قال تعالى اما اصاب من مصيبة الا باذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال ابن مسعود هو و العبد تصيبه المصيبة فيعلم انها من الله فيرضى ويسلم فلهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم الا بيقينه قال في الصحاح اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت الامر يقنا واستيقنت وايقنت وتيقنت كله بمعنى واحد وأنا على يقين منه وإنما صارت الياء واوا فيموقن للضمة قبلها وإذا صغرتها رددته لى الاصل فقلت مييقن وربما عبروا عن الظن بالقين وبالظن عن اليقين قال : تحسب هواس وأيقن اني بها مفتد من واحد لا أغامره يقول تشمم الاسد ناقتي يظن انني افتدى بها منه وأستحيي نفسي فأتركها له ولا اقتحم المهالك لمقاتلته قلت هذاموضع اختلف فيه اهل اللغة والتفسير هل يستعمل اليقين في موضع الظن والظن في موضع اليقين فرأى ذلك طائفة منهم الجوهري وغيره واحتجوا بسوى ما ذكر بقوله تعالى الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم وأنهم اليه راجعون ولو شكوا في ذلك لم يكونوا موقنين فضلا عن ان يمدحوا بهذا المدح وبقوله قال الذين يظنون انهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله وبقوله تعالى ورأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها وبقول الشاعر فقلت لهم ظنوا بالفي مقاتل سراتهم في الفارسي المسرد أي استيقنوا بهذا العدد وأبي ذلك طائفة وقالوا لا يكون اليقين الا للعلم واما الظن فمنهم من وافق على انه يكون الظن في موضع اليقين
(1/295)
واجابوا عما احتج به من جوز ذلك بان قالوا هذه المواضع التي زعمتم ان الظن وقع فيها موقع اليقين كلها على بابها فإنا لم نجد ذلك الا في علم بمغيب ولم تجدهم يقولون لمن راى الشيء اظنه ولمن ذاقه اظنه وإنما يقال لغائب قدعرف بالسمع والعلم فإذا صار الى المشاهدة امتنع الى اطلاق الظن عليه قالوا وبين العيان والخبر مرتبة متوسطة باعتبارها اوقع على العلم بالغائب الظن لفقد الحال التي تحصل المدركة بالمشاهدة وعلى هذاخرجت سائر الادلة التي ذكرتموها ولا يرد على هذا قوله ورأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها لان الظن انما وقع على مواقعتها وهي غيب حال الرؤية فإذا واقعوها لم يكن ذلك ظنا بل حق يقين قالوا وأما قول الشاعر وايقن انني بها مفتد فعلى بابه لانه ظن ان الاسد لتيقنه شجاعته
(1/296)
وجراءته موقن بان الرجل يدع له ناقته يفتدى بها من نفسه قالوا وعلى هذا يخرج معنى الحديث نحن احق بالشك من إبراهيم وفيه اجوبة لكن بين العيان والخير رتبة طلب إبراهيم زوالها بقوله ولكن ليطمئن قلبي فعبرعن تلك الرتبة بالشك والله اعلم الوجه الثاني والثلاثون بعد المائة ما رواه ابو يعلى الموصلي في مسنده من حديث انس بن مالك يرفعه الى النبي قال طلب العلم فريضة على كل مسلم وهذا وان كان في سنده حفص بن سليمان وقد ضعف فمعناه صحيح فأن الايمان فرض على كل واحد وهو ماهية مركبة من علم وعمل فلا يتصور وجود الايمان الا بالعلم والعمل ثم شرائع الاسلام واجبة على كل مسلم ولا يمكن اداؤها الا بعدمعرفتها والعلم بها والله تعالى اخرج عباده من بطون امهاتهم لا يعلمون شيئا فطلب العلم فريضة على كل مسلم وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على العباد كلهم الا بالعلم وهل ينال العلم الا بطلبه ثم إن العلم بالمفروض تعلمه ضربان ضرب منه فرض عين لا يسع مسلما جهله وهو انواع النوع الاول علم اصول الايمان الخمسة الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فإن من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الايمان ولايستحق اسم المؤمن قال الله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين وقال ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا ولما سأل جبريل رسول الله عن الايمان فقال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر قال صدقت فالايمان بهذه الاصول فرع معرفتها والعلم بها النوع الثاني علم شرائع الاسلام واللازم منها علم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها النوع الثالث علم المحرمات الخمسة التي اتفقت عليها الرسل والشرائع والكتب الالهية وهي المذكورة في قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق
(1/297)
وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله مالا تعلمون فهذه محرمات على كل واحد في كل حال على لسان كل رسول لا تباح قط ولهذا اتى فيها بانما المفيدة للحصر مطلقا وغيرها محرم في وقت مباح في غيره كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه فهذه ليست محرمة على الاطلاق والدوام فلم تدخل تحت التحريم المحصور المطلق النوع الرابع علم احكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصا وعموما والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف احوال الناس ومنازلهم فليس الواجب على الامام مع رعيته كالواجب على الرجل مع اهله وجيرته وليس الواجب على من نصب نفسه لانواع التجارات من تعلم احكام البياعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري الا ما تدعو الحاجة اليه وتفصيل هذه الجملة لا ينضبط بحد لاختلاف الناس في اسباب العلم الواجب وذلك يرجع
(1/298)
الى ثلاثة اصول اعتقاد وفعل وترك فالواجب في الاعتقاد مطابقته للحق في نفسه والواجب في العمل معرفته وموافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختيارية للشرع امرا وإباحة والواجب في الترك معرفة موافقة الكف والسكون لمرضات الله وان المطلوب منه إبقاء هذا الفعل على عدمه المستصحب فلا يتحرك في طلبه او كف النفس عن فعله على الطريقتين وقد دخل في هذه الجملة علم حركات القلوب والابدان وأما فرض الكفاية فلا اعلم فيه ضابطا صحيحا فان كل احد يدخل في ذلك ما يظنه فرضا فيدخل بعض الناس في ذلك علم الطب وعلم الحساب وعلم الهندسة والمساحة وبعضهم يزيد على ذلك علم اصول الصناعة كالفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة ونحوها وبعضهم يزيدعلى ذلك علم المنطق وربما جعله فرض عين وبناه على عدم صحة إيمان المقلد وكل هذا هوس وخبط فلا فرض إلا ما فرضه الله ورسوله فيا سبحان الله هل فرض الله على كل مسلم ان يكون طبيبا حجاما حاسبا مهندسا او حائكا او فلاحا او نجارا او خياطا فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين وإنما يخالفه في سقوطه بفعل البعض ثم على قول هذا القائل يكون الله قد فرض على كل احد جملة هذه الصنائع والعلوم فإنه ليس واحد منها فرضا على معين والآخر على معين آخر بل عموم فرضيتها مشتركة بين العموم فيجب على كل احد ان يكون حاسبا حائكا خياطا نجارا فلاحا طبيبا مهندسا فان قال المجموع فرض على المجموع لم يكن قولك إن كل واحد منها فرض كفاية صحيحا لان فرض الكفاية يجب على العموم واما المنطق فلو كان علما صحيحا كان غايته ان يكون كالمساحة والهندسة ونحوها فكيف وباطله اضعاف حقه وفساده وتناقض اصوله واختلاف مبانيه توجب مراعاتها الذهن ان يزيغ في فكره ولا يؤمن بهذا الا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه لعقل الصريح واخبر بعض من كان قد قرأه وعني به انه لم يزل متعجبا من فساد اصوله وقواعده ومبانيها لصريح المعقول وتضمنها
(1/299)
لدعاوي محضة غير مدلول عليها وتفريقه بين متساوين وجمعه بين مختلفين فيحكم على الشيء بحكم وعلىنظيره بضد ذلك الحكم او يحكم على الشيء بحكم ثم يحكم علىمضاده او مناقضه به قال الى ان سالت بعض رؤسائه وشيوخ اهله عن شيء من ذلك فانكر فيه ثم قال هذا علم قد صقلته الاذهان ومرت عليه من عهد القرون الاوائل او كما قال فينبغي ان نتسلمه من اهله وكان هذا من افضل ما رأيت في المنطق قال الى ان وقفت على رد متكلمي الاسلام عليه وتبيين فساده وتناقضه فوقفت على مصنف لابي سعيد السيرافي النحوي في ذلك وعلى رد كثير من اهل الكلام والعربية عليهم كالقاضي ابي بكر بين الطيب والقاضي عبدالجبار والجبائي وابنه وابي المعالي وابي القاسم الانصاري
(1/300)
وخلق لا يحصون كثرة ورايت استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الاشكال ومخالفتها ما كان ينقدح لي كثير منه ورايت آخر من تجرد للرد عليهم شيخ الاسلام قدس الله روحه فإنه اتى في كتابيه الكبير والصغير بالعجب العجاب وكشف اسرارهم وهتك استارهم فقلت في ذلك : واعجبا لمنطق اليونان كم فيه من إفك ومن بهتان مخبط لجيد الاذهان ومفسد لفطرة الانسان مضطرب الاصول والمباني على شفا هار بناه الباني احوج ما كان اليه العاني يخونه في السر والاعلان يمشي به اللسان في الميدان مشي مقيد على صفوان متصل العثار والتواني كأنه السراب بالقيعان بدا لعين الظميء الحيراني فأمه بالظن والحسبان يرجو شفاء غلة الظمآن فلم يجد ثم سوى الحرمان فعاد بالخيبة والخسران يقرع سن نادم حيران قد ضاع منه العمر في الاماني وعاين الخفة في الميزان وما كان من هوس النفوس بهذه المنزلة فهو بان يكون جهلا اولى منه بان يكون علما تعلمه فرض كفاية او فرض عين وهذا الشافعي واحمد وسائر ائمة الاسلام وتصانيفهم وسائر ائمة العربية وتصانيفهم وائمة التفسير وتصانيفهم لمن نظر فيها هل راعوا فيها حدود المنطق واوضاعه وهل صح لهم علمهم بدونه ام لا بل هم كانوا اجل قدرا واعظم عقولا من ان يشغلو افكارهم بهذيان المنطقيين وما دخل المنطق على علم الا افسده وغير اوضاعه روشوش قواعده ومن الناس من يقول ان علوم العربية من التصريف والنحو واللغة والمعاني والبيان ونحوها تعلمها فرض كفاية لتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها ومن الناس من يقول تعلم اصول الفقه فرض كفاية لانه العلم الذي يعرف به الدليل ومرتبته وكفية الاستدلال وهذه الاقوال وان كانت اقرب الى الصواب من القول الاول فليس وجوبها عاما على كل احد ولا في كل وقت وإنما يجيب وجوب الوسائل في بعض الازمان وعلى بعض الاشخاص بخلاف الفرض الذي يعم وجوبه كل احد وهو علم الايمان وشرائع الاسلام فهذا هو الواجب واما ما عداه
(1/301)
فإن توقفت معرفته عليه فهو من باب مالا يتم الواجب الا به ويكون الواجب منه القدر الموصل اليه دون المسائل التي هي فضلة لا يفتقر معرفة الخطاب وفهمه اليها فلا يطلق القول بان علم العربية واجب على الاطلاق اذ الكثير منه ومن مسائله وبحوثه لا يتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها وكذلك اصول الفقه القدر الذي يتوقف فهم الخطاب عليه منه يجب معرفته دون المسائل المقررة والابحاث التي هي فضلة فكيف يقال ان تعلمها واجب وبالجملة فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والاعمال إذا توقف على شيء منها كان ذلك الشيء واجبا وجوب الوسائل ومعلوم ان ذلك التوقف يختلف باختلاف الاشخاص والازمان والالسنة والاذهان فليس لذلك حد مقدر والله اعلم الوجه الثالث والثلاثون بعدالمائة ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابي هريرة يرفعه الى النبي قال سأل موسى ربه عن ست خصال كان يظن انها له خالصة والسابعة لم يكن موسى يحبها قال يا رب أي عبادك اتقى قال الذي يذكر ولا ينسى قال فأي عبادك اهدى قال الذي تتبع الهدى قال فأي عبادك احكم قال الذي يحكم للناس ما يحكم لنفسه قال أي عبادك اعلم قال عالم لا يشبع من العلم يجمع علم الناس الى علمه قال فأي عبادك اعز قال الذي اذا قدر عفا قال فأي عبادك اغني قال الذي يرضى بما اوتى قال فاي عبادك افقر قال صاحب منقوص فأخبر في هذا الحديث ان اعلم عباده الذي لا يشبع من العلم فهو يجمع علم الناس الى علمه لنهمته في العلم وحرصه عليه ولا ريب ان كون العبد اعظم عباد الله من اعظم اوصاف كماله وهذا هو الذي حمل موسى على الرحلة الى عالم الارض ليعلمه مما علمه الله هذا وهو كليم الرحمن وأكرم الخلق على الله في زمانه وأعلم الخلق فحمله حرصه ونهمته في العلم على الرحلة الى العالم الذي وصف له فلولا ان العلم اشرف ما بذلت فيه المهج وانفقت فيه الانفاس لاشتغل موسى عن الرحلة الى الخضر بما هو بصدده من امر الامة وعن مقاساة النصب والتعب في
(1/302)
رحلته وتلطفه للخضر في قوله هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا فلم ير اتباعه حتى استاذنه في ذلك واخبره انه جاء متعلما مستفيدا فهذا النبي الكريم كان عالما بقدر العلم واهله صلوات الله وسلامه عليه الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة ان الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمحبته وإيثار مرضاته المستلزمة لمعرفته ونصب للعباد علما لا كمال لهم الا به وهو ان تكون حركاتهم كلها موافقة على وفق مرضاته ومحبته ولذلك ارسل رسله وانزل كتبه وشرع شرائعه فكمال العبد الذي لا كمال له الا به ان تكون حركاته موافقه لما يحبه الله منه ويرضاه له ولهذا جعل اتباع رسوله دليلا على محبته قال تعالى قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم فالمحب الصادق يرى خيانة منه لمحبوبه ان يتحرك بحركة اختيارية في غير مرضاته وإذا فعل فعلا مما ابيح له بموجب طبيعته وشهوته تاب منه كما يتوب من الذنب ولا يزال هذا الأمر يقوى عنده حتى تنقلب
(1/303)
مباحاته كلها طاعات فيحتسب نومه وفطره وراحته كما يحتسب قومته وصومه واجتهاده وهو دائما بين سراء يشكر الله عليها وضراء يصبر عليها فهو سائر إلى الله دائما في نومه ويقظنه قال بعض العلماء الاكياس عاداتهم عبادات الحمقي والحمقى عباداتهم عادات وقال بعض السلف حبذا نوم الأكياس وفطرهم يغبنون به سهر الحمقى وصومهم فالمحب الصادقان نطق نطق لله وبالله وان سكت سكت لله وان تحرك فبأمر الله وان سكن فسكونه استعانة على مرضات الله فهو لله وبالله ومع الله ومعلوم ان صاحب هذا المقام احوج خلق الله الى العلم فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها ولا السكون المحبوب له من غيره الا بالعلم فليست حاجته الى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته ولانه في نفسه صفة كمال بل حاجته اليه كحاجته الى ما به قوام نفسه وذاته ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه وانه من لم يطلب العلم لم يفلح حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة قال ذو النون وقد سئل من السفلة فقال من لا يعرف الطريق الى الله تعالى ولا يتعرفه وقال ابو يزيد لو نظرتم الى الرجل وقد اعطى من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلات تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الامر والنهي وحفظ الحدود ومعرفة الشريعة وقال ابو حمزة البزاز من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق الا متابعة الرسول في أقواله وأفعاله واحواله وقال محمد بن الفضل الصوفي الزاهد ذهاب الاسلام على يدي اربعة اصناف من الناس صنف لا يعملون بما يعلمون وصنف يعملون بما لا يعلمون وصنف لا يعملون ولا يعلمون وصنف يمنعون الناس من التعلم قلت الصنف الاول من له علم بلا عمل فهو اضر شيء على العامة فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة والصنف الثاني العابد الجاهل فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله احذروا فتنة العالم الفاجر
(1/304)
والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فان الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم فإذا كان العلماء فجرة والعباد جهلة عمت المصيبة بهما وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة والصنف الثالث الذين لا علم لهم ولا عملوإنما هم كالانعام السائمة والصنف الرابع نواب ابليس في الارض وهم الذي يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين فهؤلاء اضر عليهم من شياطين الجن فانهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه فهؤلاء الاربعة اصناف هم الذين ذكرهم هذا العارف رحمة الله عليه وهؤلاء كلهم على شفا جرف هار وعلى سبيل الهلكة وما يلقى العالم الداعي الى الله ورسوله ما يلقاه من الاذى والمحاربة الا على ايديهم والله يستعمل من يشاء في سخطه كما يستعمل من يحب في مرضاته إنه بعباده خبير بصير ولا ينكشف سر هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم فعاد الخير بحذافيره الى العلم وموجبه والشر
(1/305)
بحذافيره الى الجهل وموجبه الوجه الخامس والثلاثون بعد المائة ان الله سبحانه جعل العلماء وكلاء وامناء على دينه ووحيه وارتضاهم لحفظه والقيام به والذب عنه وناهيك بها منزلة شريفة ومنقبة عظيمة قال تعالى ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين وقد قيل ان هؤلاء القوم هم الانبياء وقيل اصحاب رسول الله وقيل كل مؤمن هذه امهات الاقوال بعد اقوال متفرعة عن هذه كقول من قال هم الانصار او المهاجرون والانصار او قوم من ابناء فارس وقال آخرون هم الملائكة قال ابن جرير واولى هذه الاقوال بالصواب انهم الانبياء الثمانية عشر الذين سماهم في الايات قبل هذه الاية قال وذلك ان الخبر في الايات قبلها عنهم مضى وفي التي بعدها عنهم ذكر فما يليها بان يكون خبرا عنهم اولى واحق بان يكون خبرا عن غيرهم فالتأويل فإن يكفر قومك من قريش يا محمد بآياتنا وكذبوا بها وجحدوا حقيقتها فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وانبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذبون بها ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها قلت السورة مكية والاشارة بقوله هؤلاء الى من كفر به من قومه اصلا ومن عداهم تبعا فيدخل فيها كل من كفر بما جاء به من هذه الامة والقوم الموكلون بها هم الانبياء اصلا والمؤمنون بهم تبعا فيدخل كل من قام بحفظها والذنب عنها والدعوة اليها ولا ريب ان هذا للأنبياء اصلا وللمؤمنين بهم تبعا واحق من دخل فيها من اتباع الرسول خلفاؤه في امته وورثته فهم الموكلون بها وهذا ينظم في الاقوال التي قيلت في الاية واما قول من قال انهم الملائكة فضعيف جدا لا يدل عليه السياق وتاباه لفظه قوما إذ الغالب في القرآن بل المطرد تخصيص القوم ببني آدم دون الملائكة وأما قول إبراهيم لهم قوم منكرون فإنما قاله لما ظنهم من الانس
(1/306)
وايضا فلايقتضيه فخامة المعنى ومقصوده ولهذا لو اظهر ذلك وقيل فإن يكفر بها كفار قومك فقد وكلنا بها الملائكة فإنهم لا يكفرون بها لم نجد منه من التسلية وتحقير شأن الكفرة بها وبيان عدم تأهلهم لها والانعام عليهم وإيثار غيرهم من اهل الايمان الذين سبقت لهم الحسنى عليهم لكونهم احق بها وأهلها والله أعلم حيث يضع هداه ويختص به من يشاء وايضا فإن تحت هذه الاية إشارة وبشارة يحفظها وأنه لا ضيعة عليها وان هؤلاء وإن ضيعوها ولم يقبلوها فإن لها قوما غيرهم يقبلونها ويحفظونها ويرعونها ويذبون عنها فكفر هؤلاء بها لا يضيعها ولا يذهبها ولا يضرها شيئا فإن لها اهلا ومستحقا سواهم فتأمل شرف هذا المعنى وجلالته وما تضمنه من تحريض عباده المؤمنين على المبادرة اليها والمسارعة الى
(1/307)
قبولها وما تحته من تنبيههم على محبته لهم وإيثاره إياهم بهذه النعمة على اعدائه الكافرين وما تحته من احتقارهم وازدرائهم وعدم المبالاة والاحتفال بهم وإنكم وان تؤمنوا بها فعبادي المؤمنون بها الموكلون بها سواكم كثير كما قال تعالى قل آمنوا به اولا تؤمنوا إن الذين اوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا يوقولن سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وإذا كان للملك عبيد قدعصوره وخالفوا امره ولم يلتفتوا الى عهده وله عبيد آخرون سامعون له مطيعون قابلون مستجيبون لامره فنظر اليهم وقال ان يكفر هؤلاء نعمى ويعصوا امري ويضيعو عهدي فإن لي عبيدا سواهم وهم انتم تطيعون امري وتحفظون عهدي وتودون حقي فإن عبيده المطيعين يجدون في انفسهم من الفرح والسرور والنشاط وقوة العزيمة ما يكون موجبا لهم المزيد من القيام بحق العبودية والمزيد من كرامة سيدهم ومالكهم وهذا امر يشهد به الحس والعيان واما توكيلهم بها فهو يتضمن توفيقهم للايمان بها والقيام بحقوقها ومراعاتها والذب عنها والنصيحة لها كما يوكل الرجل غيره بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه وبها الاولى متعلقة بوكلنا وبها الثانية متعلقة بكافرين والباء في بكافرين لتأكيد النفي فإن قلت فهل يصح ان يقال لاحد هؤلاء المؤكلين انه وكيل الله بهذا المعنى كما يقال ولي الله قلت لا يلزم من إطلاق فعل التوكل المقيد بأمر ما إن يصاغ منه اسم فاعل مطلق كما انه لا يلزم من اطلاق فعل الاستخلاف المقيد ان قال خليفة الله لقوله ويستخلفكم في الارض وقوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم فلا يوجب هذا الاستخلاف ان يقال لكل منهم انه خليفة الله لانه استخلاف مقيد ولما قيل للصديق يا خليفة الله قال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله وحسبي ذلك ولكن يسوغ ان يقال هو وكيل بذلك كما قال تعالى فقد وكلنا بها قوما والمقصود ان هذا التوكيل
(1/308)
خاص بمن قام بها علما وعملا وجهادا لاعدائها وذبا عنها ونفيا لتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وايضا فهو توكيل رحمة وإحسان وتوفيق واختصاص لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجة اليه ولهذا قال بعض السلف فقد وكلنا بها قوما يقول رزقناها قوما فلهذا لا يقال لمن رزقها ورحم بها انه وكيل لله وهذا بخلاف اشتقاق ولي الله من الموالاة فانها المحبة والقرب فكما يقال عبدالله وحبيبه يقال وليه والله تعالى يوالي عبده إحسانا اليه وجبرا له ورحمه بخلاف المخلوق فإنه يوالي المخلوق لتعززه به وتكثره بموالاته لذل العبد وحاجته واما العزيز الغني فلا يوالي احدا من ذل ولا حاجة قال تعالى وقل الحمد لله الذي
(1/309)
لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا فلم ينف الولي نفيا عاما مطلقا بل نفى ان يكون له ولي من الذل واثبت في موضع آخر ان له اولياء بقوله الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله الله ولي الذين آمنوا فهذا موالاة رحمة وإحسان وجبر والموالاة المنفية موالاة حاجة وذل يوضح هذا الوجه السادس والثلاثون بعدالمائة وهو ما روى عن النبي من وجوه متعددة انه قال يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتاويل الجاهلين فهذا الحمل المشار اليه في هذا الحديث هو التوكل المذكور في الاية فأخبر ان العلم الذي جاء به يحمله عدول امته من كل خلف حتى لا يضيع ويذهب وهذا يتضمن تعديله لحمله العلم الذي بعث به وهو المشار اليه في قوله هذا العلم فكل من حمل العلم المشار اليه لا بد وان يكون عدلا ولهذا اشتهر عندالامة عدالة نقلته وحملته اشتهارا لا يقبل شكا ولا امتراء ولا ريب ان من عدله رسول الله لا يسمع فيه جرح فالائمة الذين اشتهروا عند الامة بنقل العلم النبوي وميراثه كلهم عدول بتعديل رسول الله ولهذا لا يقبل قدح بعضهم في بعض وهذا بخلاف من اشتهر عندالامة جرحه والقدح فيه كأئمة البدع ومن جرى مجراهم من المتهمين في الدين فانهم ليسوا عندالامة من حملة العلم فما حمل علم رسول الله الا عدل ولكن قد يغلط في مسمى العدالة فيظن ان المراد بالعدل من لا ذنب له وليس كذلك بل هو عدل مؤتمن على الدين وإن كان منه ما يتوب الى الله منه فإن هذا لا ينافي العدالة كما لا ينافي الايمان والولاية فصل وهذا الحديث له طرق عديدة منها ما رواه ابن عدي عن موسى
(1/310)
ابن اسماعيل بن موسى بن جعفر عن ابيه عن جده جعفر بن محمد عن ابيه عن علي عن النبي ومنها ما رواه العوام بن حوشب عن شهر بن حوشب عن معاذ عن النبي ص ذكره الخطيب وغيره ومنها ما رواه ابن عدي من حديث الليث بن سعد عن يزيد بن ابي حبيب عن سالم عن ابن عمر عن النبي ومنها ما رواه محمد بن جرير الطبري من حديث ابن ابي كريمة عنم عاذ ابن رفاعة السلامي عن ابي عثمان النهدي عن اسامة بن زيد عن النبي ومنها ما رواه حماد بن يزيد عن بقية بن الوليد عن معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري قال قال رسول الله قال الدارقطني حدثنا احمد بن الحسن بن زيد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا مثنى ابن بكر ومبشر وغيرهما من اهل العلم كلهم يقولون حدثنا معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن
(1/311)
عن النبي يعني ان المحفوظ من هذا الطريق مرسل لان إبراهيم هذا لا صحبة له وقال الخلال في كتاب العلل قرأت على زهير بن صالح بن احمد حدثنا مهنا قال سالت احمد عن حديث معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين فقلت لاحمد كأنه موضوع قال لا هو صحيح فقلت ممن سمعته انت فقال من غير واحد قلت من هم قال حدثني به مسكين الا انه يقول عن معاذ عن القاسم بن عبدالرحمن قال احمد ومعاذ بن رفاعة لا بأس به ومنها ما رواه ابو صالح حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن مسعود قال سمعت النبي يقول يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ومنها مارواه ابو احمد بن عدي من حديث زريق بن عبدالله الالهاني عن القاسم بن عبدالرحمن عن ابي امامة الباهلي قال قال رسول الله رواه عنه بقية ومنها ما رواه بن عدي ايضا من طريق مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابي حازم عن ابي هريرة قال قال رسول الله ومنها ما رواه تمام في فوائده من حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابي الخير عن ابي قبيل عن عبد الله بن عمرو وابي هريرة رواه عنه خالد بن عمرو ومنها ما رواه القاضي اسماعيل من حديث علي بن مسلم البلوي عن ابي صالح الاشعري عن أبي هريرة عن النبي الوجه السابع والثلاثون بعدالمائة ان بقاء الدين والدنيا في بقاء العلم وبذهاب العلم تذهب الدنيا والدين فقوام الدين والدنيا انما هو بالعلم قال الاوزاعي قال ابن شهاب الزهري الاعتصام بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا فنعش العلم ثبات الدين والدنيا وذهاب العلم ذهاب ذل كله وقال ابن وهب اخبرني يزيد عن ابن شهاب قال بلغنا عن رجال من اهل العلم انهم كانوا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا فنعش العلم ثبات الدين والدنيا وذهاب العلم ذهاب ذلك كله الوجه الثامن والثلاثون
(1/312)
بعدالمائة ان العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة مالا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما فالعلم يزيد الشريف شرفا ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن ابي الطفيل ان نافع بن عبدالحارث اتى عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على اهل مكة فقال له عمر من استخلفت على اهل الوادي قال استخلفت عليهم ابن ابزي فقال من ابن ابزي فقال رجل من موالينا فقال عمر استخلفت عليهم مولى فقال إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض فقال عمر اما أن نبيكم قد قال إن الله يرفع بهذا الكتاب اقواما ويضع به آخرين قال ابو العالية كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير فتغامز بي قريش ففطن لهم ابن عباس فقال كذا هذا العلم يزيد الشريف شرفا ويجلس المملوك على الاسرة
(1/313)
وقال إبراهيم الحربي كان عطاء ابن ابي رباح عبيدا اسود لامرأة من مكة وكان انفه كأنه بالاقة قال وجاء سليمان بن عبدالملك امير المؤمنين الى عطاء هو وابناه فجلسوا اليه وهو يصلي فلما صلى انفتل اليهم فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه اليهم ثم قال سليمان لابنيه قوما فقاما فقال يا بني تنيا في طلب العلم فإني لا انسى ذلنا بين يدي هذا العبد الاسود قال الحربي وكان محمد بن عبد الرحمن الا وقص عنقه داخل في بدنه وكان منكباه خارجين كأنهما زجان فقالت امه يا بني لا تكون في مجلس قوم الا كنت المضحوك منه المسخور به فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك فولى قضاء مكة عشرين سنة قال وكان الخصم إذا جلس اليه بين يديه يرعد حتى يقوم قال ومرت به امرأة وهو يقول اللهم اعتق رقبتي من النار فقالت له يا ابن اخي واي رقبة لك وقال يحيى ابن اكثم قال الرشيدي ما انبل المراتب قلت ما انت فيه يا امير المؤمنين قال فتعرف اجل مني قلت لا قال لكني اعرفه رجل في حلقه يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله قال قلت يا أمير المؤمنين اهذا خير منك وانت ابن عم رسول الله وولي عهد المؤمنين قال نعم ويلك هذا خير مني لان اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت ابدا ونحن نموت ونفني والعلماء باقون ما بقي الدهر وقال خيثمة بن سليمان سمعت ابي الخناجر يقول كنا في مجلس ابن هارون والناس قد اجتمعوا إليه فمر امير المؤمنين فوقف علينا في المجلس وفي المجلس الوف فالتفت الى اصحابه وقال هذا الملك وفي تاريخ بغداد للخطيب حدثني ابو النجيب عبد الغفار ابن عبدالواحد قال سمعت الحسن بن علي المقري يقول سمعت أبا الحسن بن فارس يقول سمعت الاستاذ ابن العميد يقول ما كنت اظن ان في الدنيا حلاوة الذ من الرياسة والوزارة التي انا فيها حتى شهدت مذاكرة سليمان ابن ايوب بن احمد الطبراني وابي بكر الجعابي بحضرتي فكان الطبراني يغلب بكثرة حفظه وكان الجعابي يغلب الطبراني بفطنته وزكا اهل
(1/314)
بغداد حتى ارتفعت اصواتهم ولا يكاد احدهما يغلب صاحبه فقال الجعابي عندي حديث ليس في الدنيا الا عندي فقال هاته فقال حدثنا ابو خليف حدثنا سليمان بن ايوب وحدث بالحديث فقال الطبراني انبأنا سليمان بن ايوب ومني سمع ابو خليفة فاسمع مني حتى يعلو اسنادك فإنك تروي عن ابي خليفة عني فخجل الجعابي وغلبه الطبراني قال ابن العميد فوددت في مكاني ان الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فرح الطبراني لاجل الحديث او كما قال وقال المزني سمعت الشافعي يقول من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل مقداره ومن تعلم اللغة رق طبعه ومن تعلم الحساب جزل رأيه ومن كتب الحديث قويت حجته ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه وقد روى هذا الكلام عن الشافعي من وجوه متعددة وقال سفيان الثوري من ارادالدنيا والاخرة فعليه بطلب العلم وقال عبد
(1/315)
الله بن داود سمعت سفيان الثوري يقول ان هذا الحديث عز فمن اراد به الدنيا وجدها ومن اراد به الاخرة وجدها وقال النضر بن شميل من اراد ان يشرف في الدنيا والاخرة فليتعلم العلم وكفى بالمرء سعادة ان يوثق به في دين الله ويكون بين الله وبين عباده وقال حمزة بن سعيد المصري لما حدث ابو مسلم اللخمي اول يوم حدث قال لابنه كم فضل عندنا من اثمان غلاتنا قال ثلاثمائة دينار قال فرقها على اصحاب الحديث والفقراء شكرا ان أباك اليوم شهد علي رسول الله فقبلت شهادته وفي كتاب الجليس والانيس لأبي الفرج المعافي بن زكرياء الجريري حدثنا محمد بن الحسين بن دريد حدثنا ابو حاتم عن العتبي عن ابيه قال ابتنى معاوية بالابطح مجلسا فجلس عليه ومعه ابنه قرظة فإذا هو بجماعة على رحال لهم وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى : من يساجلني يساجل ما جدا يملأ الدلو الى عقد الكرب قال من هذا قالوا عبدالله بن جعفر قال خلوا له الطريق ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى : بينما يذكرنني ابصرتني عند قيد الميل يسعى بي الاغر قلن تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر قال من هذا قالوا عمر بن ابي ربيعة قال خلوا له الطريق فليذهب قال ثم اذا هوبجماعة وإذا فيهم رجل يسئل فيقال له رميت قبل ان احلق وحلقت قبل ان ارمي في اشياء اشكلت عليهم من مناسك الحج فقال من هذا قالوا عبدالله بن عمر فالتفت الى ابنه قرظة وقال هذا وابيك الشرف هذا والله شرف الدنيا والاخرة وقال سفيان بن عيينة ارفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده وهم الانبياء والعلماء وقال سهل التستري من أراد ان ينظر الى مجالس الانبياء فلينظر الى مجالس العلماء يجيء الرجل فيقول يا فلان ايش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا فيقول طلقت امرأته ويجيء آخر فيقول حلفت بكذا وكذا فيقول ليس يحنث بهذا القول وليس هذا الا لنبي او عالم فاعرفوا لهم ذلك الوجه التاسع والثلاثون بعدالمائة
(1/316)
ان النفوس الجاهلة التي لاعلم عندها قد البست ثوب الذل والازراء عليها والتنقص بها اسرع منه الى غيرها وهذا امر معلوم عند الخاص والعام قال الاعمش اني لارى الشيخ لا يروى شيئا من الحديث فاشتهى ان الطمه وقال معاوية سمعت الاعمش يقول من لم يطلب الحديث اشتهى ان أضعفه بنعليوقال هشام بن علي سمعت الاعمش يقول إذا رايت الشيخ لم يقرا القرآن ولم يكتب الحديث فاصفع له فإنه من شيوخ القمراء قال ابو صالح قلت لابي جعفر ما شيوخ القمراء قال شيوخ دهريون يجتمعون في ليالي القمر يتذاكرون أيام الناس ولا يحسن احدهم ان يتوضأ للصلاة وقال المزني كان الشافعي إذا رأى شيخا سأله عن الحديث والفقه فإن كان عنده شيء وإلا قال له لا جزاك الله خيرا عن نفسك ولا عن الاسلام قد
(1/317)
ضيعت نفسك وضيعت الاسلام وكان بعض خلفاء بني العباس يلعب بالشطرنج فاستاذن عليه عمه فاذن له وغطى الرقعة فلما جلس قال له يا عم هل قرأت القرآن قال قال هل كتبت شيئا من السنة قال لا قال فهل نظرت في الفقه واختلاف الناس قال لا قال فهل نظرت في العربية وايام الناس قال لا قال فقال الخليفة اكشف الرقعة ثم اتم اللعب وزال احتشامه وحياؤه منه وقال له ملاعبه يا أمير المؤمنين تكشفها ومعنا من تحتشم منه قال اسكت فما معنا احد وهذا لان الانسان انما تميز عن سائ الحيوانات بما خص به من العلم والعقل والفهم فإذا عدم ذلك لم يبق فيه الا القدر المشترك بينه وبين سائر الحيوانات وهي الحيوانية البهيمية ومثل هذا لا يستحي منه الناس ولا يمنعون بحضرته وشهوده مما يستحيا منه من اولى الفضل والعلم الوجه الاربعون بعدالمائة ان كل صاحب بضاعة سوى العلم إذا علم ان غير بضاعته خير منها زهد في بضاعته ورغب في الاخرى وود انها له عوض بضاعته الا صاحب بضاعة العلم فإنه ليس يحب ان له يحظه منها حظ اصلا وكان سفيان الثوري إذا رأى الشيخ لم يكتب الحديث قال لاجزاك الله عن الاسلام خيرا قال ابو جعفر الطحاوي كنت عند احمد بن ابي عمران فمر بنا رجل من بني الدنيا فنظرت اليه وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة فقال لي كأني بك قد فكرت فيما اعطى هذا الرجل من الدنيا قلت له نعم قال هل ادلك على خلة هل لك ان يحول الله اليك ما عنده من المال ويحول اليه ما عندك من العلم فتعيش انت غنيا جاهلا ويعيش هو عالما فقيرا فقلت ما اختار ان يحول الله ما عندي من العلم الى ما عنده فالعلم غنى بلا مال وعز بلا عشيرة وسلطان بلا رجال وفي ذلك قيل : العلم كنز وذخر لا نفاد له نعم القرين إذا ما صاحب صحبا قد يجمع المرء مالا ثم يحرمه عما قليل فيلقى الذل والحربا وجامع العلم مغبوط به ابدا ولا يحاذر منه الفوت والسلبا يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه لا تعدلن به درا ولا ذهبا
(1/318)
الوجه الحادي والاربعون بعدالمائة ان الله سبحانه اخبر انه يجزى المحسنين اجرهم باحسن ما كانواي يعملون واخبر سبحانه انه يجزى على الاحسان بالعلم وهذا يدل على انه من احسن الجزاء اما المقام الاول ففي قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم اسوا الذي عملوا ويجزيهم اجرهم باحسن الذي كانوايعملون وهذا يتناول الجزاءين الدنيوي والاخروي واما المقام الثاني ففي قوله تعالى ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين قال الحسن من احسن عبادة الله في شيبته لقاه الله الحكمة عند كبر سنه وذلك قوله ولما بلغ اشده آتيناه
(1/319)
حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ومن هذا قال بعض العلماء تقول الحكمة من التمسني فلم يجدني فليعمل باحسن ما يعلم وليترك اقبح ما يعلم فإذا فعل ذلك فإنا معه وإن لم يعرفني الوجه الثاني والاربعون بعدالمائة ان الله سبحانه جعل العلم للقلوب كالمطر للارض فكما انه لا حياة للارض الا بالمطر فكذلك لا حياة للقلب الا بالعلم وفي الموطأ قال لقمان لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فان الله تعالى يحيى القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيى الارض بوابل المطر ولهذا فإن الأرضإنا تحتاج الى المطر في بعض الاوقات فإذا تتابع عليها احتاجت الى انقطاعه واما العلم فيحتاج اليه بعدد الانفاس ولاتزيده كثرته الا صلاحا ونفعا الوجه الثالث والاربعون بعد المائة ان كثيرا من الاخلاق التي لا تحمد في الشخص بل يذم عليها تحمد في طلب العلم كالملق وترك الاستحياء والذل والتردد الى ابواب العلماء ونحوها قال ابن قتيبة جاء في الحديث ليس الملق من اخلاق المؤمنين الا في طلب العلم وهذا اثر عن بعض السلف وقال ابن عباس ذللت طالبا فعززت مطلوبا وقال وجدت عامة علم رسول الله عند هذا الحي من الانصار إن كنت لاقيل عند باب احدهم ولو شئت اذن لي ولكن ابتغى بذلك طيب نفسه وقال ابو اسحاق قال على كلمات لو رحلتم المطي فيهن لافنيتموهن قبل ان تدركوا مثلهن لايرجون عبد الا ربه ولا يخافن الا ذنبه ولا يستحيي من لاي علم ان يتعلم ولا يستحيي إذا سئل عما لا يعلم ان يقول لا أعلم واعلموا ان منزلة الصبر من الايمان كمنزلة الراس من الجسد فإذا ذهب الراس ذهب الجسد وإذا ذهب البصر ذهب الايمان ومن كلام بعض العلماء لاينال العلم مستحي ولا متكبر هذا يمنعه حياؤه من التعلم وهذا يمنعه كبره وإنما حمدت هذه الاخلاق في طلب العلم لانها طريق الى تحصيله فكانت من كمال الرجل ومفضية الى كماله ومن كلام الحسن من استتر عن طلب العلم بالحياء لبس للجهل سرباله فاقطعوا سرابيل بالحياء فانه
(1/320)
من رؤية وجهه رق علمه وقال الخليل منزلة الجهل بين الحياء والانفة ومن كلام على رضى الله تعالى عنه قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان وقال إبراهيم لمنصور سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الاكياس وكذلك سؤال الناس هو عيب ونقص في الرجل وذلة تنافي المروءة الا في العلم فإنه عين كماله ومروءته وعزه كما قال بعض اهل العلم خير خصال الرجل السؤال عن العلم وقيل إذا جلست الى عالم فسل تفقها لاتعنتا وقال رية بن العجاج اتيت النسابة البكري فقال من انت قلت انا ابن العجاج قال قصرت وعرفت لعلك كقوم ان سكت لم يسلوني وان تكلمت لم يعوا عني قلت ارجو ان لا اكون كذلك قال ما اعداء المروءة قلت تخبرني قال بنوعم السوء ان رأوا حسنا ستروه وإن رأوا سيئا اذاعوه ثم قال إن للعلم آفة ونكدا وهجنة فآفته
(1/321)
نسيانه ونكده الكذب فيه وهجنته نشره عندغير اهله وانشد ابن الاعرابي : ما اقرب الاشياء حين يسوقها قدروا بعدها إذا لم تقدر فسل الفقيه تكن فقيها مثله من يسع في علم بذل يمهر فتدبر العلم الذي تفتى به لا خير في علم بغير تدبر ولقد يجد المرء وهو مقصر ويخيب جدالمرء غير مقصر ذهب الرجال المقتدي بفعالهم والمنكرون لكل امر منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضا ليدفع معور عن معور وللعلم ست مراتب اولها حسن السؤال الثانية حسن الانصات والاستماع الثالثة حسن الفهم الرابعة الحفظ الخامسة التعليم السادسة وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده فمن الناس من يحرمه لعدم حسن سؤاله أما لانه لا يسال بحال او يسال عن شيء وغيره اهم اليه منه كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها ويدع مالا غنى له عن معرفته وهذه حال كثير من الجهال المتعلمين ومن الناس من يحرمه لسوء انصاته فيكون الكلام والممارات آثر عنده وأحب اليه من الانصاب وهذه آفة كامنة في اكثر النفوس الطالبة للعلم وهي تمنعهم علما كثيرا ولو كان حسن الفهم ذكر ابن عبدالبر عن بعض السلف انه قال من كان حسن الفهم رديء الاستماع لم يقم خيره بشره وذكر عبدالله بن احمد في كتاب العلل له قال كان عروة بن الزبير يحب مماراة ابن عباس فكان يخزن علمه عنه وكان عبيد الله بن عبدالله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزا وقال ابن جريج لم أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به وقال بعض السلف إذا جالست العالم فكن على ان تسمع احرص منك على ان تقول وقد قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد فتأمل ما تحت هذه الالفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد ابواب العلم والهدى وكيف ينغلق باب العلم عنه من اهمالها وعدم مراعاتها فإنه سبحانه أمر عباده ان يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم
(1/322)
القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية ومرور الايات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورها على من لا بصر له فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فإنه يراها ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه الا بأمرين احدهما ان يحضره ويشهده لما يلقى اليه فإن كان غائبا عنه مسافرا في الاماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به فإذا احضره اشهده لم ينتفع الا بان يلقى سمعه ويصغى بكليته الى مايوعظ به ويرشد اليه وها هنا ثلاثة
(1/323)
امور احدها سلامة القلب وصحته وقبوله الثاني احضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق الثالث القاء السمع وأصغاؤه والاقبال على الذكر فذكر الله تعالى الامور الثلاثة في هذه الاية قال ابن عطية القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله والمعنى لمن كان له قلب واع ينتفع به قال وقال الشبلي قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين وقوله او القى السمع وهو شهيد معناه صرف سمعه الى هذه الانباء الواعظة واثبته في سمعه فذلك القاء له عليها ومنه قوله والقيت عليك محبة مني أي اثبتها عليك وقوله وهو شهيد قال بعض المتأولين معناه وهو شاهد مقبل على الامر غير معرض عنه ولا مفكر في غير ما يسمع قال وقال قتادة هي إشارة إلى اهل الكتاب فكأنه قال ان هذه العبر لتذكرة لمن له فهم فتدبر الأمر او لمن سمعها من اهل الكتاب فشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني اسرائيل قال فشهيد على التأويل الاول من المشاهدة وعلى التاويل الثاني من الشهادة وقال الزجاج معنى من كان له قلب من شرف قلبه الى التفهم الا ترى ان قوله صم بكم عمي انهم لم يستمعوا استماع مستفهم مسترشد فجعلوا بمنزلة من لم يسمع كما قال الشاعر اصم عما ساءه سميع ومعنى او القى السمع استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع والعرب تقول الق الى سمعك أي استمع مني وهو شهيد أي قلبه فيما يسمع وجاء في التفسير انه يعني به اهل الكتاب الذين عندهم صفة النبي فالمعنى او القى السمع وهو شهيد اشاهد ان صفة النبي في كتابه وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة وذكر ان شهيدا فيه بمعنى شاهد أي مخبر وقال صاحب الكشاف لمن كان له قلب واع لان من لا يعي قلبه فكانه لا قلب له والقاء السمع والاصغاء وهو شهيد أي حاضر بفطنته لان من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب او هو مؤمن شاهد على صحته وانه وحي من الله وهو بعض الشهداء في قوله لتكونوا شهداء على الناس وعن قتادة وهو شاهد على صدقه من اهل الكتاب لوجود نعته عنده فلم
(1/324)
يختلف في ان المراد بالقلب القلب الواعي وان المراد بالقاء السمع إصغاؤه وإقباله على المذكر وتفريغ سمعه له واختلف في الشهيد على اربعة اقوال احدها انه من المشاهدة وهي الحضور وهذا اصح الاقوال ولا يليق بالاية غيره الثاني انه شهيد من الشهادة وفيه على هذه ثلاثة اقوال احدها انه شاهد على صحة ما معه من الايقان الثاني انه شاهد من الشهداء على الناس يوم القيامة الثالث انه شهادة من الله عنده على صحة نبوة رسول الله بما علمه من الكتب المنزلة والصواب القول الاول فإن قوله وهو شهيد جملة حالية والواو فيها واو الحال أي القى السمع في هذه الحال وهذا يقتضى ان يكون حال القائه السمع شهيدا
(1/325)
وهذا هو من المشاهدة والحضور ولو كان المراد به الشهادة في الاخرة او الدنيا لما كان لتقييدها بالقاء السمع معنى اذ يصير الكلام ان في ذلك لاية لمن كان له قلب او القي السمع حال كونه شاهدا بما معه في التوراة او حال كونه شاهدا يوم القيامة ولا ريب ان هذا ليس هو المراد بالاية وايضا فالاية عامة في كل من له قلب والقى السمع فكيف يدعى تخصيصها بمؤمني اهل الكتاب الذين عندهم شهادة من كتبهم على صفة النبي وأيضا فالسورة مكية والخطاب فيها لا يجوز ان يختص بأهل الكتاب ولا سيما مثل هذا الخطاب الذي علق فيه حصول مضمون الاية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع فكيف يقال هي في اهل الكتاب فإن قيل المختص بهم قوله وهو شهيد فهذا افسد وافسد لان قوله وهو شهيد يرجع الضمير فيه الى جملة من تقدم وهو من له قلب او القى السمع فكيف يدعى عوده الى شيء غايته ان يكون بعض المذكور اولا ولا دلالة في اللفظ عليه وأيضا فإن المشهود به محذوف ولا دلالة في اللفظ عليه فلو كان المراد به وهو شاهد بكذا لذكر المشهود به إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه وهذا بخلاف ما إذا جعل من الشهود وهو الحضور فإنه لايقتضى مفعولا مشهودا به ليتم الكلام بذكره وحده وايضا فإن الاية تضمنت تقسيما وترديدا بين قسمين احدهما من كان له قلب والثاني من القى السمع وحضر بقلبه ولم يغب فهو حاضر القلب شاهده لا غائبه وهذا والله اعلم سر الاتيان باو دون الواو لأن المنتفع بالايات من الناس نوعان احدهما ذو القلب الواعي الزكي الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه ولا يحتاج الى ان يستجلب قلبه ويحضره ويجمعه من مواضع شتاته بل قلبه واع زكي قابل للهدى غير معرض عنه فهذا لا يحتاج الا الى وصول الهدى اليه فقط لكمال استعداه وصحة فطرته فإذا جاءه الهدى سارع قلبه الى قبوله كانه كان مكتوبا فيه فهو قد أدركه مجملا ثم جاء الهدى بتفصيل ما شهد قلبه بصحته مجملا وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل كما
(1/326)
هي حال الصديق الاكبر رضي الله عنه والنوع الثاني من ليس له هذا الاستعداد والقبول فإذا ورد عليه الهدى اصغى اليه بسمعه واحضر قلبه وجمع فكرته عليه وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله وهذه طريقة اكثر المستجيبين ولهم نوع ضرب الامثال وإقامة الحجج وذكر المعارضات والاجوبة عنها والاولون هم الذين يدعون بالحكمة وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة فهؤلاء نوعا المستجيبين واما المعارضون المدعون للحق فنوعان نوع يدعون بالمجادلة بالتي هي احسن فان استجابوا وإلا فالمجادلة فهؤلاء لا بد لهم من جدال او جلاد ومن تأمل دعوة القرآن وجدها شاملة لهؤلاء الاقسام متناولة لها كلها كما قال تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن فهؤلاء المدعوون بالكلام واما اهل الجلاد فهم الذين امر الله قتالهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله واما من فسر الاية
(1/327)
بأن المراد بمن كان له قلب هو المستغنى بفطرته عن علم المنطق وهو المؤيد بقوة قدسية ينال بها الحد الاوسط بسرعة فهو لكمال فطرته مستغن عن مراعات اوضاع المنطق والمراد بمن القى السمع وهو شهيد من ليست له هذه القوة فهو محتاج الى تعلم المنطق ليوجب له مراعاته وإصغاؤه اليه ان لا يزيغ في فكره وفسر قوله ادع الى سبيل ربك بالحكمة انها القياس البرهاني والموعظة الحسنة القياس الخطابي وجادلهم بالتي هي احسن القياس الجدلي فهذا ليس من تفاسير الصحابة ولا التابعين ولا احد من ائمة التفسير بل ولا من تفاسير المسلمين وهو تحريف لكلام الله تعالى وحمل له على اصطلاح المنطقية المبخوسة الحظ من العقل والايمان وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية وغلاة الاسماعيلية لما يفسرونه من القرآن وينزلونه على مذاهبهم الباطلة والقرآن بريء من ذلك كله منزه عن هذه الاباطيل والهذيانات وقد ذكرنا بطلان ما فسر به المنطقيون هذه الاية التي نحن فيها والاية الاخرى في موضع آخر من وجوه متعددة وبينا بطلانه عقلا وشرعا ولغة وعرفا وأنه يتعالى كلام الله عن حمله على ذلك وبالله التوفيق والمقصود بيان حرمان العلم من هذه الوجوه الستة احدها ترك السؤال الثاني سوء الانصات وعدم القاء السمع الثالث سوء الفهم الرابع عدم الحفظ الخامس عدم نشره وتلعيمه فإن من خزن علمه ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه جزاء من جنس عمله وهذا أمر يشهد به الحس والوجود السادس عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه فإذا اهمل العمل به نسيه قال بعض السلف كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف ايضا العلم يهتف بالعمل فإن اجابه حل والا ارتحل فالعمل به من اعظم اسباب حفظه وثباته وترك العمل به أضاعه له فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم
(1/328)
نورا تمشون به وأما قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله فليس من هذا الباب بل هما جملتان مستقلتان طلبية وهي الامر بالتقوى وخبرية وهي قوله تعالى ويعلمكم الله أي والله يعلمكم ما تتقون وليست جوابا للأمر بالتقوى ولو أريد بها الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو فكان يقول واتقوا الله يعلمكم او إن تتقوه يعلمكم كما قال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا فتدبره الوجه الرابع والاربعون بعد المائة ان الله سبحانه نفى التسوية بين العالم وغيره كما نفى التسوية بين الخبيث والطيب وبين الاعمى والبصير وبين النور والظلمة وبين الظل والحرور وبين اصحاب الجنة واصحاب النار وبين الابكم العاجز الذي لا يقدر على شيء ومن يامر بالعدل وهو على صراط مستقيم وبين المؤمنين والكفار وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الارض وبين المتقين
(1/329)
والفجار فهذه عشرة مواضع في القرآن نفى فيها التسوية بين هؤلاء الاصناف وهذا يدل على ان منزلة العالم من الجاهل كمنزلة النور من الظلمة والظل من الحرور والطيب من الخبيث ومنزلة كل واحد من هذه الاصناف مع مقابلة وهذا كاف في شرف العلم وأهله بل إذا تأملت هذه الاصناف كلها ووجدت نفي التسوية بينها راجعا الى العلم وموجبه فيه وقع التفضيل وانتفت المساواة الوجه الخامس والاربعون بعدالمائة ان سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا او يذبحه إنما نجا منه بالعلم واقدم عليه في خطابه له بقوله احطت بما لم تحط به خبرا وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم ومن هذا الحكاية المشهورة ان بعض اهل العلم سئل عن مسالة فقال لا اعلمها فقال احد تلامذته انا اعلم هذه المسألة فغضب الاستاذ وهم به فقال له ايها الاستاد لست اعلم من سليمان بن داود ولو بلغت في العلم ما بلغت ولست انا اجهل من الهدهد وقد قال لسليمان احطت بما لم تحط به فلم يعتب عليه ولم يعنفه الوجه السادس والاربعون بعدالمائة إن من نال شيئا من شرف الدنيا والآخرة فإنما ناله بالعلم وتامل ما حصل لادم من تميزه على الملائكة واعترافهم له بتعليم الله له الاسماء كلها ثم ما حصل له من تدارك المصيبة والتعويض عن سكنى الجنة بما هو خير له منها بعلم الكلمات التي تلقاها من ربه وما حصل ليوسف من التمكين في الارض والعزة والعظمة بعلمه بتعبير تلك الرؤيا ثم علمه بوجوه استخراج اخيه من إخوته بما يقرون به ويحكمون هم به حتى ال الامر الى ما آل اليه من العز والعاقبة الحميدة وكمال الحال التي توصل اليها بالعلم كما اشار اليها سبحانه في قوله كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك إلا ان يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم جاء في تفسيرها نرفع درجات من نشاء بالعلم كما رفعنا درجة
(1/330)
يوسف على اخوته بالعلم وقال في إبراهيم وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء فهذه رفعة بعلم الحجة والاول رفعة بعلم السياسة وكذلك ما حصل للخضر بسبب علمه من تلمذة كليم الرحمن له وتلطفه معه في السؤال حتى قال هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا وكذلك ما حصل لسليمان من علم منطق الطير حتى وصل الى ملك سبأ وقهر ملكتهم واحتوى على سرير ملكها ودخولها تحت طاعته ولذلك قال يايها الناس علمنا منطق الطير واوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وكذلك ما حصل لداود من علمه نسج الدروع من الوقاية من سلاح الاعداء وعدد سبحانه هذه النعمة بهذا العلم على عباده فقال وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل انتم شاكرون وكذلك ما حصل للمسيح من علم الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ما رفعه الله
(1/331)
به اليه وفضله وكرمه وكذلك ما حصل لسيد ولد آدم من العلم الذي ذكره الله به نعمة عليه فقال وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما الوجه السابع والاربعون بعدالمائة ان الله سبحانه اثنى على إبراهيم خليله بقوله تعالى إن إبراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه فهذه اربع انواع من الثناء افتتحها بأنه امة والامة هو القدوة الذي يؤتم به قال ابن مسعود والامة المعلم للخير وهي فعلة من الائتمام كقدوة وهو الذي يقتدي به والفرق بين الامة والامام من وجهين احدهما ان الامام كل ما يؤتم به سواء كان بقصده وشعوره اولا ومنه سمى الطريق إماما كقوله تعالى وإن كان اصحاب الايكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين أي بطريق واضح لا يخفى على السالك ولا يسمى الطريق امة الثاني ان الامة فيه زيادة معنى وهو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل بحيث بقي فيها فردا وحده فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره فكأنه باين غيره باجتماعها فيه وتفرقها او عدمها في غيره ولفظ الامة يشعر بهذا المعنى لما فيه من الميم المضعفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها وكذلك ضم اوله فإن الضمة من الواو ومخرجها ينضم عند النطق بها وأتى بالتاء الدالة على الوحدة كالغرفة واللقمة ومنه الحديث إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده فالضم والاجتماع لازم لمعنى الامة ومنه سميت الامة التي هي آحاد الامم لانهم الناس المجتمعون على دين واحد او في عصر واحد الثاني قوله قانتا لله قال ابن مسعود القانت المطيع والقنوت يفسر باشياء كلها ترجع الى دوام الطاعة الثالث قوله حنيفا والحنيف المقبل على الله ويلزم هذا المعنى ميله عما سواه فالميل لازم معنى الحنيف لا انه موضوعه لغة الرابع قوله شاكرا لانعمه والشكر للنعم مبني على ثلاثة اركان الاقرار بالنعمة وإضافتها الى المنعم بها وصرفها في مرضاته
(1/332)
والعمل فيها بما يجب فلا يكون العبد شاعرا إلا بهذه الاشياء الثلاثة والمقصود انه مدح خليله باربع صفات كلها ترجع الى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره فعاد الكمال كله الى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق اليه الوجه الثامن والاربعون بعدالمائة قوله سبحانه عن المسيح انه قال اني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا اينما كنت قال سفيان بن عيينة جعلني مباركا اينما كنت قال معلما للخير وهذا يدل على ان تعليم الرجل الخير هو البركة التي جعلها الله فيه فإن البركة حصول الخير ونماؤه ودوامه وهذا في الحقيقة ليس إلا في العلم الموروث عن الانبياء وتعليمه ولهذا سمى سبحانه كتابه مباركا كما قال تعالى وهذا ذكر مبارك انزلناه وقال كتاب انزلناه اليك مبارك ووصف رسوله بأنه مبارك كما في قول المسيح وجعلني مباركا اينما كنت فبركة كتابه ورسوله هي سبب ما يحصل بهما من العلم والهدى والدعوة الى الله الوجه التاسع والاربعون
(1/333)
بعد المائة ما في الصحيح عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي انه قال إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له رواه مسلم في الصحيح وهذا من اعظم الادلة على شرف العلم وفضله وعظم ثمرته فإن ثوابه يصل الى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به فكأنه حي لم ينقطع عمله مع ماله من حياة الذكر والثناء فجريان اجره عليه إذا انقطع عن الناس ثواب اعمالهم حياة ثانية وخص النبي هذه الاشياء الثلاثة بوصول الثواب الى الميت لانه سبب لحصولها والعبد إذا باشر السبب الذي يتعلق به الامر والنهي يترتب عليه مسببه وإن كان خارجا عن سعيه وكسبه فلما كان هو السبب في حصول هذا الولد الصالح والصدقة الجارية والعلم النافع جرى عليه ثوابه واجره لتسببه فيه فالعبد إنما يثاب على ما باشره او على ما تولد منه وقد ذكر تعالى هذين الاصلين في كتابه في سورة براءة فقال ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا بغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع اجر المسحنين فهذه الامور كلها متولدات عن افعالهم غير مقدوره لهم وإنما المقدور لهم اسبابها التي باشروها ثم قال ولا ينتفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون فالنفقة وقطع الوادي افعال مقدورة لهم وقال في القسم الاول كتب لهم به عمل صالح إلا ان المتولد حاصل عن شيئين افعالهم وغيرها فليست افعالهم سببا مستقلا في حصول المتولد بل هي جزء من اجزاء السبب فيكتب لهم من ذلك ما كان مقابلا لافعالهم وايضا فإن الظمأ والنصب وغيظ العدو ليس من أفعالهم فلا يكتب لهم نفسه ولكن لما تولد عن افعالهم كتب لهم به عمل صالح واما القسم الاخر وهو الافعال المقدورة نفسها كالانفاق وقطع الوادي فهو عمل صالح فيكتب لهم نفسه إذ هو مقدور لهم حاصل بارادتهم وقدرتهم فعاد الثواب الى
(1/334)
الافعال المقدورة والمتولد عنها وبالله التوفيق الوجه الخمسون بعدالمائة ما ذكره ابن عبدالبر عن عبدالله بن داود قال إذا كان يوم القيامة عزل الله تبارك وتعالى العلماء عن الحساب فيقول ادخلوا الجنة على ما كان فيكم إني لم اجعل علمي فيكم الا لخير اردته بكم قال ابن عبدالبر وزاد غيره في هذا الخبر أن الله يحبس العلماء يوم القيامة في زمرة واحدة حتى يقضي بين الناس ويدخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار ثم يدعو العلماء فيقول يا معشر العلماء أني لم اضع حكمتي فيكم وانا اريد ان اعذبكم قد علمت انكم تخلطون من المعاصي ما يخلط غيركم فسترتها عليكم وغفرتها لكم وإنما كنت اعبد بفتياكم وتعليمكم عبادي ادخلوا الجنة بغير حساب ثم قال لا معطي لما منع ولا مانع لما اعطى قال وروى نحو هذا
(1/335)
المعنى باسناد متصل مرفوع وقد روى حرب الكرماني في مسائله نحوه مرفوعا وقال إبراهيم بلغني انه إذا كان يوم القيامةتوضع حسنات الرجل في كفه وسئياته في الكفة الأخرىفتشيل حسناته فإذا يئس فظن انها النار جاء شيء مثل السحاب حتى يقع من حسناته فتشيل سيئاته قال فيقال له اتعرف هذا من عملك فيقول لا فيقال هذا ما علمت الناس من الخير فعمل به من بعدك فإن قيل فقواعدالشرع تقتضي ان يسامح الجاهل بما لا يسامح به العالم وانه يغفر له مالا يغفر للعالم فإن حجة الله عليه اقوم منها على الجاهل وعلمه بقبح المعصية وبغض الله لها وعقوبته عليها اعظم من علم الجاهل ونعمة الله عليه بما اودعه من العلم اعظم من نعمته على الجاهل وقد دلت الشريعة وحكم الله على ان من حبي بالانعام وخص بالفضل والاكرام ثم اسام نفسه مع ميل الشهوات فارتعها في مراتع الهلكات وتجرأ على انتهاك الحرمات واستخف بالتبعات والسيئات انه يقابل من الانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته وعلى هذا جاء قوله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ولهذا كان حد الحر ضعف حدالعبد في الزنا والقذف وشرب الخمر لكمال النعمة على الحر ومما يدل على هذا الحديث المشهور الذي اثبته ابو نعيم وغيره عن النبي انه قال اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه قال بعض السلف يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل ان يغفر للعالم ذنب وقال بعضهم ايضا إن الله يعافي الجهال مالا يعا4في لللعماء الجواب ان هذا الذي ذكرتموه حق لا ريب فيه ولكن من قواعدالشرع والحكمة ايضا ان من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الاسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه لا يحمل ادنى خبث ومن هذا قول النبي لعمر وما يدريك لعل الله اطلع على اهل بدر
(1/336)
فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وهذا هو المانع له من قتل من حس عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم فأخبر انه شهد بدرا فدل على ان مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتب اثره عليه ماله من المشهد العظيم فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ماله من الحسنات ولما حض النبي على الصدقة فأخرج عثمان رضى الله عنه تلك الصدقة العظيمة قال ماضر عثمان ما عمل بعدها وقال لطلحة لما تطاطأ للنبي حتى صعد على ظهره الى الصخرة اوجب طلحة وهذا موسى كلم الرحمن عز وجل القى الالواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له القاها على الارض حتى تكسرت ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الاسراء في النبي وقال شاب بعث بعدي يدخل الجنة من امته اكثر مما يدخلها من امتي واخذ بلحية
(1/337)
هارون وجره اليه وهو نبي الله وكل هذا لم ينقص من قدرة شيئا عند ربه وربه تعالى يكرمه ويحبه فإن الامر الذي قام به موسى والعدو الذي برز له والصبر الذي صبره والاذى الذي اوذيه في الله امر لا تؤثر فيه امثال هذه الامور ولا تغير في وجهه ولا تخفض منزلته وهذا امر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم ان من له الوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها حتى انه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه فيغلب داعي الشكر لداعي العقوبة كما قيل : وإذا الجيب اتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع وقال آخر : فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فافعاله اللاتي سررن كثير والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته فايهما غلب كان التأثير له فيفعل باهل الحسنات الكثيرة والذين آثروا محابه ومراضيه وغلبتهم دواعي طبعهم احيانا من العفو والمسامحة مالا يفعله مع غيرهم وايضا فان العالم إذا زل فإنه يحسن اسراع الفيئة وتدارك الفارط ومداواة الجرح فهو كالطبيب الحاذق البصير بالمرض وأسبابه وعلاجه فإن زواله علىيده اسرع من زواله على يد الجاهل وأيضا فإن معه من معرفته بأمر الله وتصديقه بوعده ووعيده وخشيته منه ازرائه على نفسه بارتكابه وإيمانه بأن الله حرمه وان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به الى غير ذلك من الامور المحبوبة للرب ما يغمر الذنب ويضعف اقتضائه ويزيل اثره بخلاف الجاهل بذلك او اكثره فإنه ليس معه الا ظلمة الخطيئة وقبحها واثارها المردية فلا يستوى هذا وهذا وهذا فصل الخطاب في هذا الموضع وبه يتبين ان الامرين حق وانه لا منافاة بينهما وان كل واحد من العالم والجاهل إنما زاد قبح الذنب منه عى الاخر بسبب جهله وتجرد خطيئته عما يقاومها ويضعف تاثيرها ويزيل اثرها فعاد القبح في الموضعين الى الجهل وما يستلزمه وقلته وضعفه الى العلم وما يستلزمه وهذا دليل ظاهر على شرف العلم وفضله وبالله التوفيق الوجه الحادي
(1/338)
والخمسون بعدالمائة ان العالم مشتغل بالعلم والتعليم لا يزال في عبادة فنفس تعلمه وتعليمه عبادة قال ابن مسعود لايزال الفقيه يصلى قالوا وكيف يصلى قال ذكر الله على قلبه ولسانه ذكره ابن عبدالبر وفي حديث معاذ مرفوعا وموقوفا تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح وقدتقدم والصواب انه موقوف وذكر ابن عبدالبر عن معاذ مرفوعا لان تغدو فتتعلم بابا من ابواب العلم خير لك من ان تصلي مائة ركعة وهذا لا يثبت رفعه وقال ابن وهب كنت عند مالك بن انس فحانت صلاة الظهر او العصر وانا اقرأ عليه وانظر في العلم بين يديه فجمعت كتبي وقمت لاركع فقال لي مالك ما هذا فقلت اقوم الى الصلاة فقال ان هذا لعجب ما الذي قمت اليه افضل من الذي كنت فيه إذا صحت فيه النية وقال الربيع سمعت الشافعي يقول طلب العلم افضل من الصلاة النافلة وقال سفيان الثوري
(1/339)
ما من عمل افضل من طلب العلم إذا صحت فيه النية وقال رجل للمعافي بن عمران ايما احب الليل اقوم اصلي اليك كله او اكتب الحديث فقال حديث تكتبه احب الي من قيامك من اول الليل إلى آخره وقال ايضا كتابة حديث واحد احب الي من قيام ليلة وقال ابن عباس تذاكر العلم بعض ليلة احب الي من إحيائها وفي مسائل اسحاق بن منصور قلت لاحمد بن حنبل قوله تذاكر العلم بعض ليلة احب الي من إحيائها أي علم اراد قال هو العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم قلت في الوضوء والصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا قال نعم قال اسحاق وقال لي اسحاق بن راهويه هو كما قال احمد وقال ابو هريرة لان اجلس ساعة فاتفقه في ديني احب الي من احياء ليلة الى الصباح وذكر ابن عبدالبر من حديث ابي هريرة يرفعه لكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه وما عبد الله بشيء افضل من فقه في الدين الحديث وقد تقدم وقال محمد بن علي الباقر عالم ينتفع بعلمه افضل من الف عابد وقال ايضا رواية الحديث وبثه في الناس افضل من عبادة الف عابد ولما كان طلب العلم والبحث عنه وكتابته والتفتيش عليه من عمل القلب والجوارح كان من افضل الاعمال ومنزلته من عمل الجوارح كمنزله اعمال القلب من الاخلاص والتوكل والمحنة والانابة والخشية والرضا ونحوها من الاعمال الظاهرة فإن قيل فالعلم إنما هو وسيلة الى العمل ومراد له والعمل هو الغاية ومعلوم ان الغاية اشرف من الوسيلةفكيف تفضل الوسائل على غاياتها قيل كل من العلم والعمل ينقسم قسمين منه ما يكون وسيلة ومنه ما يكون غاية فليس العلم كله وسيلة مرادة لغيرها فإن العلم بالله واسمائه وصفاته هو اشرف العلوم على الاطلاق وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته قال الله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما فقد اخبر سبحانه انه خلق السموات والأرض ونزل الامر بينهن ليعلم عباده انه بكل
(1/340)
شيء عليم وعلى كل شيء قدير فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة وقال تعالى فاعلم انه لا اله الا الله فالعلم بوحدانيته تعالى وأنه لا إله الا هو مطلوب لذاته وان كان لا يكتفى به وحده بل لا بد معه من عبادته وحده لا شريك له فهما امران مطلوبان لانفسهما ان يعرف الرب تعالى باسمائه وصفاته وأفعاله واحكامه وان يعبد بموجبها ومقتضاها فكما ان عبادته مطلوبة مرادة لذاتها فكذلك العلم به ومرفته وايضا فإن العلم من افضل انواع العبادات كما تقدم تقريره فهو متضمن للغاية الوسيلة وقولكم ان العمل غاية اما ان تريدوا به العمل الذي يدخل فيه عمل القلب والجوارح او العمل المختص بالجوارح فقط فإن اريد الاول فهو حق وهو يدل على ان العلم غاية مطلوبة لانه من اعمال القلب كما تقدم وان اريد به الثاني وهو عمل الجوارح فقط فليس بصحيح فإن اعمال القلوب مقصودة
(1/341)
ومراده لذاتها بل في الحقيقة اعمال الجوارح وسيلة مرادة لغيرها فإن الثواب والعقاب والمدح والذم وتوابعها هو للقلب اصلا وللجوارح تبعا وكذلك الاعمال المقصودة بها اولا صلاح القلب واستقامته وعبوديته لربه ومليكه وجعلت اعمال الجوارح تابعة لهذا المقصود مرادة وان كان كثير منها مرادا لاجل المصلحة المترتبة عليه فمن اجلها صلاح القلب وزكاه وطهارته واستقامته فعلم ان الاعمال منها غاية ومنها وسيلة وان العلم كذلك وايضا فالعلم الذي هو وسيلة الى العمل فقط إذا تجرد عن العمل لم ينتفع به صاحبه فالعمل اشرف منه وأما العلم المقصود الذي تنشأ ثمرته المطلوبة منه من نفسه فهذا لا يقال ان العمل المجرد اشرف منه فكيف يكون مجرد العبادة البدنية افضل من العلم بالله واسمائه وصفاته وأحكامه في خلقه وامره ومن العلم بأعمال القلوب وآفات النفوس والطرق التي تفسد الاعمال وتمنع وصولها من القلب الى الله والمسافات التي بين الاعمال والقلب وبين القلب والرب تعالى وبما تقطع تلك المسافات الى غير ذلك من علم الايمان وما يقويه وما يضعفه فكيف يقال ان مجرد التعبد الظاهر بالجوارح افضل من هذا العلم بل من قام بالامرين فهو اكمل وإذا كان في احدهما فضل ففضل هذا العلم خير من فضل العبادة فاذ كان في العبد فضلة عن الواجب كان صرفها الى العلم الموروث عن الانبياء افضل من صرفها الى مجرد العبادة فهذا فصل الخطاب في هذه المسئلة والله اعلم الوجه الثاني والخمسون بعدالمائة ما رواه الامام احمد والترمذي من حديث ابي كبشة الانماري قال قال رسول الله انما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي في ماله ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا باحسن المنازل عند الله ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو ان لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الاجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ولا يتقي فيه ربه ولا يصل في
(1/342)
رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأسوا المنازل عند الله ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو ان لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء حديث صحيح صححه الترمذي والحاكم وغيرهما فقسم النبي اهل الدنيا أربعة اقسام خيرهم من اوتي علما ومالا فهو محسن الى الناس وإلى نفسه بعلمه وماله ويليه في المرتبة من اوتي علما ولم يؤت مالا وان كان اجرهما سواء فذلك إنما كان بالنية والا فالمنفق المتصدق فوقه بدرجة الانفاق والصدقة والعالم الذي لا مال له إنما ساواه في الاجر بالنية الجازمة المقترن بها مقدورهما وهو القول المجرد الثالث من اوتي مالا ولم يؤت علما فهذا اسوأ الناس منزلة عند الله لان ماله طريق الى هلاكه فلو عدمه لكان خيرا له فإنه اعطى ما يتزود به الى الجنة فجعله زادا له الى النار الرابع من لم يؤت مالا
(1/343)
ولا علما ومن نيته انه لو كان له مال لعمل فيه بمعصية الله فهذا يلي الغني الجاهل في المرتبة ويساويه في الوزر بنيته الجازمة المقترن بها مقدورها وهو القول الذي لم يقدر على غيره فقسم السعداء قسمين وجعل العلم والعمل بموجبه سبب سعادتهما وقسم الاشقياء قسمين وجعل الجهل وما يترتب عليه سبب شقاوتهما فعادت السعادة بجملتها الى العلم وموجبه والشقاوة بجملتها الى الجهل وثمرته الوجه الثالث والخمسون بعد المائة ما ثبت عن بعض السلف انه قال تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة وسال رجل أم الدرداء بعد موته عن عبادته فقالت كان نهاره اجمعه في بادية التفكر وقال الحسن تفكر ساعة خير من قيام ليلة وقال الفضل التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك وقيل لابراهيم إنك تطيل الفكرة فقال الفكرة مخ العقل وكان سفيان كثيرا ما يتمثل : إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة وقال الحسن في قوله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق قال أمنعهم التفكر فيها وقال بعض العارفين لو طالعت قلوب المتقين بفكرها الى ما قدر في حجب الغيب من خير الاخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش ولم تقر لهم فيها عين وقال الحسن طول الوحدة أتم للفكرة وطول الفكرة دليل على طريق الجنة وقال وهب ما طالت فكرة احد قط الا علم وما علم امرؤ قط الا عمل وقال عمر بن عبدالعزيز الفكرة في نعم الله من افضل العبادة وقال عبد الله بن المبارك لبعض اصحابه وقد رآه مفكرا اين بلغت قال الصراط وقال بشر لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه وقال ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب وقال ابو سليمان الفكر في الدنيا حجاب عن الاخرة وعقوبة لاهل الولاية والفكرة في الاخرة تورث الحكمة وتجلي القلوب وقال ابن عباس التفكر في الخير يدعو الى العمل به وقال الحسن ان اهل العلم لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر والفكر على الذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة ومن كلام
(1/344)
الشافعي استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكرة وهذا لان الفكرة عمل القلب والعبادة عمل الجوارج والقلب اشرف من الجوارح فكان عمله اشرف من عمل الجوارح وايضا فالتفكر يوقع صاحبه من الايمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد فان التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الامور وظهورها له وتميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة مفضولها من فاضلها واقبحها من قبيحها ومعرفة اسبابها الموصلة اليها وما يقاوم تلك الاسباب ويدفع موجبها والتمييز بين ما ينبغي السعي في تصحيله وبين ما ينبغي السعي في دفع اسبابه والفرق بين الوهم والخيال المانع لاكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد امكانها وبين السبب المانع حقيقة فيشتغل به دون الاول فما قطع
(1/345)
العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والاجلة قاطع اعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة وعزم صادق يميز به بين الوهم والحقيقة وكذلك إذا فكر في عواقب الامور وتجاوز فكره مباديها وضعها مواضعها وعلم مراتبها فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة فتجاوز فكره لذته وفرح النفس به الى سوء عاقبته وما يترتب عليه من الالم والحزن الذي لا يقاوم تلك اللذة والفرحة ومن فكر في ذلك فإنه لا يكاد يقدم عليه وكذلك إذا ورد على قلبه وارد الراحة والدعة والكسل والتقاعد عن مشقة الطاعات وتعبها حتى عبر بفكره الى ما يترب عليها من اللذات والخيرات والافراح التي تغمر تلك الالام التي في مباديها بالنسبة الى كمال عواقبها وكلما غاص فكره في ذلك اشتد طلبه لها وسهل عليه معاناتها استقبلها بنشاط وقوة وعزيمة وكذلك إذا فكر في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور ونظر الى غاية ذلك بعين فكره استحى من عقله ونفسه ان يكون عبدا لذلك كما قيل : لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه وكذلك إذا فكر في آخر الاطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس اشباه الانعام وما يصير امرها اليه عند خروجها ارتفعت همته عن صرفها الى الاعتناء بها وجعلها معبود قلبه الذي اليه يتوجه وله يرضى ويغضب ويسعى ويكدح ويوالي ويعادي كما جاء في المسند عن النبي انه قال إن الله جعل طعام ابن آدم مثل الدنيا وإن قزحه ملحه فإنه يعلم الى ما يصير او كما قال فإذا وقع فكره على عاقبة ذلك وآخر امره وكانت نفسه حرة ابيه ربأبها ان يجعلها عبدا لما آخره انتن شيء واخبثه وافحشه فصل إذا عرف هذا فالفكر هو احضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما
(1/346)
معرفة ثالثة ومثال ذلك إذا احضر في قلبه العاجلة وعيشها وتعيمها وما يقترن به من الافات وانقطاعه وزواله ثم احضر في قلبه الاخرة ونعيمها ولذته ودوامه وفضله علىنعيم الدنيا وجزم بهذين العلمين اثمر له ذلك علما ثالثا وهو ان الاخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولىعند كل عاقل بايثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة ثم له في معرفة الاخرة حالتان احداهما ان يكون قد سمع ذلك من غيره من غير ان يباشر قلبه برد اليقين به ولم يفض قلبه الى مكافحة حقيقة الاخرة وهذا حال أكثر الناس فيتجاذبه داعيان احدهما داعي العاجلة وايثارها وهو أقوى الداعيين عنده لانه مشاهد له محسوس وداعي الاخرة وهو اضعف الداعيين عنده لانه داع عن سماع
(1/347)
لم يباشر قلبه اليقين به ولا كافحه حقيقته العلمية فإذا ترك العاجلة للاخرة تريه نفسه بانه قد ترك معلوما لمظنون اومتحققا لموهوم فلسان الحال ينادي عليه لا ادع ذرة منقودة لدرة موعودة وهذه الافة هي التي منعت النفوس من الاستعداد للاخرة وان يسعى لها سعيها وهي من ضعف العلم بها وتيقنها وإلا فمع الجزم التام الذي لا يخالج القلب فيه شك لا يقع التهاون بها وعدم الرغبة فيها ولهذا لو قدم لرجل طعام في غاية الطيب واللذة وهو شديد الحاجة اليه ثم قيل له إنه مسموم فإنه لا يقدم عليه لعلمه بأن سوء ما تجنى عاقبة تناوله تربو في المضرة على لذة اكله فما بال الايمان بالاخرة لا يكون في قلبه بهذه المنزلة ماذاك الا لضعف شجرة العلم والايمان بها في القلب وعدم استقرارها فيه وكذلك اذا كان سائرا في طريق فقيل له إن بها قطاعا ولصوصا يقتلون من وجدوه ويأخذون متاعه فانه لا يسلكها الا على احد وجهين اما ان لا يصدق المخبر وإما ان يثق من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم والاف فمع تصديقه للخبر تصديقا لا يتمارى فيه وعلمه من نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم فإنه لا يسلكها ولو حصل له هذان العلمان فيما يرتكبه من ايثار الدنيا وشهواتها لم يقدم على ذلك فعلم ان إيثاره للعاجلة وترك استعداده للاخرة لا يكون قط مع كمال تصديقه وإيمانهابدا الحالة الثانية ان يتيقن ويجزم جزما لا شك فيه بأن له دارا غير هذه الدار ومعادا له خلق وان هذه الدار طريق الى ذلك المعاد ومنزل من منازل السائرين اليه ويعلم مع ذلك انها باقية ونعيمها وعذابها لا يزول ولا نسبة لهذا النعيم والعذاب العاجل اليه إلا كما يدخل الرجل اصبعه في اليم ثم ينزعها فالذي تعلق بها منه هو كالدنيا بالنسبة الى الاخرة فيثمر له هذا العلم ايثار الاخرة وطلبها والاستعداد التام لها وان يسعى لها سعيها وهذا يسعى تفكرا وتذكرا ونظرا وتأملا واعتبارا وتدبرا واستبصارا وهذه معان متقاربة تجتمع في شيء
(1/348)
وتتفرق في آخر ويسمى تفكرا لانه استعمال الفكرة في ذلك واحضاره عنده ويسمى تذكرا لانه احضار للعلم الذي يجب مراعاته بعد ذهوله وغيبته عنه ومنه قوله تعالى ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ويسمى نظرا لانه التفات بالقلب الى المنظور فيه ويسمى تأملا لانه مراجعة للنظر كرة بعدكرة حتى يتجلى له وينكشف لقلبه ويسمى اعتبارا وهو افتعال من العبور لانه يعبر منه الى غيره فيعبر من ذلك الذي قد فكر فيه الى معرفة ثالثة وهي المقصود من الاعتبار ولهذا يسمى عبرة وهي على بناء الحالات كالجلسة والركبة والقتلة ايذانا بأن هذا العلم والمعرفة قد صار حالا لصاحبه يعبر منه الى المقصود به وقال الله تعالى ان في ذلك لعبرة لمن يخشى وقال إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار ويسمى تدبرا لانه نظر في ادبار الامور وهي اواخرها وعواقبها ومنه تدبر القول وقال
(1/349)
تعالى افلم يدبروا القول افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وتدبر الكلام ان ينظر في اوله وآخره ثم يعيد نظره مره بعد مرة ولهذا جاء على بناء التفعل كالتجرع والتفهم والتبين وسمى استبصارا وهو استفعال من التبصر وهو تبين الامر وانكشافه وتجليه للبصيرة وكل من التذكر والتفكر له فائدة غير فائدة الاخر فالتذكر يفيد تكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه ويثبت ولا ينمحي فيذهب اثره من القلب جملة والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب فالتفكر يحصله والتذكر يحفظه ولهذا قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر علىالتذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة فالتفكر والتذكر بذار العلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه كما قال بعض السلف ملاقاة الرجال تلقيح لالبابها فالمذاكرة بها لقاح العقل فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر فإنه لا بد من تفكر وعلم يكون نتيجته الفكر وحال يحدث للقلب من ذلك العلم فإن كل من عمل شيئا من المحبوب او المكروه لا بد ان يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه وتلك الحال توجب له إرادة وتلك الارادة توجب وقوع العمل فها هنا خمسة امور الفكر وثمرته العلم وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب وثمرة ذلك الارادة وثمرتها العلم فالفكر إذا هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه وانه من افضل اعمال القلب وانفعها له حتى قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة الى حياة اليقظة ومن المكاره الى المحاب ومن الرغبة والحرص الى الزهد والقناعة ومن سجن الدنيا الى فضاء الاخرة ومن ضيق الجهل الى سعة العلم ورحبه ومن مرض الشهوة والاخلاد الى هذه الدار الى شفاء الانابة الى الله والتجافي عن دار الغرور ومن مصيبة العمى والصمم والبكم الى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه ومن امراض
(1/350)
الشبهات الى برد اليقين وثلج الصدور وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر وكذلك اصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة فإن الشيطان يصادف ارض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حب الافكار الردية فيتولد منه الارادات والعزوم فيتولد منها العمل فإذا صادف ارض القلب مشغولة ببذر الافكار النافعة فيما خلق له وفيما امر به وفيم هيء له واعد له من النعيم المقيم او العذاب الاليم لم يجد لبذره موضعا وهذا كما قيل : اتاني هواها قبل ان اعرف الهوى فصادف قلبا فارغا فتمكنا فان قيل فقد ذكرتم الفكر ومنفعته وعظم تأثيره في الخير والشر فما متعلقه الذي
(1/351)
ينبغي ان يوقع عليه ويجرى فيه فانه لا يتم المقصود منه الا بذكر متعلقه الذي يقع الفكر فيه والا ففكر بغير متفكر فيه محال قيل مجرى الفكر ومتعلقه اربعة امور احدها غاية محبوبة مرادة الحصول الثاني طريق موصلة الى تلك الغاية الثالث مضرة مطلوبة الاعدام مكروهة الحصول الرابع الطريق المفضي اليها الموقع عليها فلا تتجاوز افكار العقلاء هذه الامور الاربعة وأي فكر تخطاها فهو من الافكار الردية والخيالات والاماني الباطلة كما يتخيل الفقير المعدم نفسه من اغنى البشر وهو يأخذ ويعطي وينعم ويحرم وكما يتخيل العاجز نفسه من اقوى الملوك وهو يتصرف في البلاد والرعية ونظير ذلك من افكار القلوب الباطولية التي من جنس افكار السكران والمحشوش والضعيف العقل فالافكار الردية هي قوت الانفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة فإنها قد قنعت بالخيال ورضيت بالمحال ثم لا تزال هذه الافكار تقوى بها وتتزايد حتى توجب لها آثارا ردية ووساوس وأمراضا بطيئة الزوال وإذا كان الفكر النافع لا يخرج عن الاقسام الاربعة التي ذكرناها فله ايضا محلان ومنزلان احدهما هذه الدار والاخر دار القرار فأبناء الدنيا الذين ليس لهم في الاخرة من خلاق عمروا بيوت افكارهم بتلك الاقسام الاربعة في هذه الدار فأثمرت لهم افكارهم فيها ما اثمرت ولكن إذا حقت الحقائق وبطلت الدنيا وقامت الاخرة تبين الرابح من المغبون وخسر هنالك المبطلون وأبناء الاخرة الذين خلقوا لها عمروا بيوت افكارهم على تلك الاقسام الاربعة فيها ونحن نفصل ذلك بعون الله وفضله فنقول كل طالب لشيء فهو محب له مؤثر لقربه ساع في طريق تحصيله متوصل اليه بجهده وهذا يوجب له تعلق افكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته التي يحب لاجلها وتعلقها بما يناله به من الخير والفرح والسرور ففكره في حال محبوبه دائر بين الجمال والاجمال والحسن والاحسان فكلما قويت محبته ازداد هذا الفكر وقوى وتضاعف حتى يستغرق اجزاء القلب فلا يبقى فيه
(1/352)
فضل لغيره بل يصير بين الناس بقالبه وقلبه كله في حضرة محبوبه فإن كان هذا المحبوب هو المحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له ولا يحب غيره إلا تبعا لمحبته فهو اسعد المحبين به وقد وضع الحب موضعه وتهيأت نفسه لكمالها الذي خلقت له والذي لا كمال لها بدونه بوجه وان كانت تلك المحبة لغيره من المحبوبات الباطلة المتلاشية التي تفنى وتبقى حزازات القلوب بها على حالها فقد وضع المحبة في غير موضعها وظلم نفسه اعظم ظلم واقبحه وتهيأت بذلك نفسه لغاية شقائها والمها وإذا عرف هذا عرف ان تعلق المحبة بغير الاله الحق هو عين شقاء العبد وخسرانه فافكفاره المتعلقة بها كلها باطلة وهي مضرة عليه في حياته وبعدموته والمحب الذي قد ملك المحبوب افكار قلبه لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه او بنفسه ثم فكره في محبوبه لا يخرج عن حالتين
(1/353)
احداهما فكرته في جماله واوصافه والثانية فكرته في افعاله واحسانه وبره ولطفه الدالة على كمال صفاته وان تعلق فكره بنفسه لم يخرج ايضا عن حالتين اما ان نفكر في اوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها ويسقطه من عينه فهو دائما يتوقع بفكره عليها ليتجنبها ويبعد منها والثانية ان يفكر في الصفات والاخلاق والافعال التي تقربه منه وتحببه اليه حتى يتصف بها فالفكرتان الاولتان توجب له زيادة محبته وقوتها وتضاعفها والفكرتان الاخرتان توجب محبة محبوبه له واقباله عليه وقربه منه وعطفه عليه وايثاره على غيره فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الافكار الاربعة فالفكرة الاولى والثانية تتعلق بعلم التوحيد وصفات الاله المعبود سبحانه وأفعاله والثالثة والرابعة تتعلق بالطريق الموصلة اليها وقواطعها وآفاتها وما يمنع من السير فيها اليه فتفكره في صفات نفسه يميز له المحبوب لربه منها من المكروه له وهذه الفكرة توجب ثلاثة امور احدها ان هذا الوصف هل هو مكروه مبغوض لله ام لا الثاني هل العبد متصف به ام لا والثالث إذا كان متصفا به فما طريق دفعه والعافية منه وان لم يكن متصفا به فما طريق حفظ الصحة بوقائه على العافية والاحتراز منه وكذلك الفكرة في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثة امور احدها ان هذه الصفة هل هي محبوبة لله مرضية له ام لا الثاني هل العبد متصف بها ام لا الثالث انه إذا كان متصفا بها فما طريق حفظها ودوامها وان لم يكن متصفا بها فما طريق اجتلائها والتخلق بها ثم فكرته في الافعال على هذين الوجهين ايضا سواء ومجاري هذه الافكار ومواقعها كثيرة جدا لاتكاد تنضبط وانا يحصرها ستة اجناس الطاعات الظاهرة والباطنة والمعاصي الظاهرة والباطنة والصفات والاخلاق الحميدة والاخلاق والصفات الذميمة فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسه وافعالها واما الفكرة في صفات المعبود وأفعاله واحكامه فتوجب له التمييز بين الايمان والكفروالتوحيد والشرك والاقرار
(1/354)
والتعطيل وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو اهله من الجلال والاكرام ومجاري هذه الفكرة تدبر كلامه وما تعرف به سبحانه الى عباده على السنة رسله من اسمائه وصفاته وأفعاله وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه وتدبر ايامه وافعاله في اوليائه واعدائه التي قصها على عباده واشهدهم اياها ليستدلوا بها على انه الههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة الا له ويستدلوا بها على انه على كل شيء قدير وانه بكل شيء عليم وانه شديد العقاب وانه غفور رحيم وانه العزيز الحكيم وانه الفعال لما يريد وانه الذي وسع كل شيء رحمة وعلما وان أفعاله كلها دائرة بين الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك وهذه الثمرة لا سبيل الى تحصيلها إلا بتدبر كلامه والنظر في آثار أفعاله وإلى هذين الاصلين ندب عباده في القرآن فقال في
(1/355)
الاصل الاول افلا يتدبرون القرآن افلم يدبروا القول كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون كتاب فصلت اياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون وقال في الاصل الثاني قل انظروا ماذا في السموات والارض ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ان في السموات والارض لايات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون او لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ومن آياته ان خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون الى قوله ومن آياته ان تقوم السماء والارض بامره ونوع سبحانه الايات في هذه السور فجعل خلق السموات والارض واختلاف لغات الامم والوانهم آيات للعالمين كلهم لاشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته وجعل خلق الازواج التي تسكن اليها الرجال والقاء المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون فإن سكون الرجل الى امرأته وما يكون بينهما من المودة والتعاطف والتراحم امر باطن مشهود بعين الفكرة والبصيرة فمتى نظر بهذه العين الى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك دلة فكره على انه الاله الحق المبين الذي أقرت الفطر بربوبيته والاهيته وحكمته ورحمته وجعل المنام بالليل والنهار للتصرف في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون وهو سمع الفهم وتدبر هذه الايات وارتباطها بما جعلت آية له مما اخبرت به الرسل من حياة العباد بعد موتهم وقيامهم من قبورهم كما احياهم
(1/356)
سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرف في معاشهم فهذه الاية إنما ينتفع بها من سمع ما جاءت به الرسل واصغى اليه واستدل بهذه الاية عليه وجعل إراءتهم البرق وأنزل الماء من السماء وإحياء الارض به آيات لقوم يعقلون فإن هذه امور مرتبة بالابصار مشاهدة بالحس فإذا نظر فيها ببصر قلبه وهو عقله استدل بها على وجود الرب تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته إمكان ما اخبر به من حياة الخلائق بعد موتهم كما احيا هذه الارض بعدموتها وهذه امور لاتدرك إلا ببصر القلب وهو العقل فإن الحس دل على الاية والعقل دل على ما جعلت له آية فذكر سبحانه الاية المشهودة بالبصر والمدلول عليه المشهود بالعقل فقال ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحي به الارض بعدموتها أن في ذلك لايات لقوم يعقلون فتبارك
(1/357)
الذي جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء لما في الصدور وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين واحوال العاملين ومقامات العارفين وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والانابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الاحوال التي بها حياة القلب وكماله وكذلك يزجر عن جميع الصفات والافعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى الى حصول الايمان وذوق حلاوة القرآن وهذه كانت عادة السلف يردد احدهم الاية الى الصباح وقد ثبت عن النبي انه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله إن تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك انت العزيز الحكيم فقراءة القرآن بالتفكر هي اصل صلاح القلب ولهذا قال ابن مسعود لاتهذوا القرآن هذا الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب لا يكن هم احدكم آخر السورة وروى ابو ايوب عن ابي جمرة قال قلت لابن عباس اني سريع القراءة إني اقرا القرآن في ثلاث قال لان اقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها احب الي من ان اقرأ القرآن كما تقرأ والتفكر في القرآن نوعان تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه وتفكر في معاني ما دعا عباده الى التفكر فيه فالاول تفكر في الدليل القرآني والثاني تفكر في الدليل العياني الاول ففكر في آياته المسموعة والثاني تفكر في آياته المشهودة ولهذا انزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به لا لمجرد تلاوته مع الاعراض عنه قال الحسن البصري انزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا فصل وإذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده الى الفكر فيه
(1/358)
اوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته واحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه فبهذا تعرف الى عباده وندبهم الى التفكر في آياته ونذكر لذلك امثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه يستدل بها على غيرها فمن ذلك خلق الانسان وقدندب سبحانه الى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى فلينظر الانسان مم خلق وقوله تعالى وفي انفسكم افلا تبصرون وقال تعالى يايها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعدعلم
(1/359)
شيئا وقال تعالى ايحسب الانسان ان يترك سدى الم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والانثى اليس ذلك بقادر على ان يحيى الموتى وقال تعالى الم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين الى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون وقال او لم ير الانسان انا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقال ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين وهذا كثير في القرآن يدعو العبد الى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره إذ نفسه وخلقه من اعظم الدلائل على خالقه وفاطره واقرب شيء الى الانسان نفسه وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الاعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال الله تعالى قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم اماته فاقبره ثم إذا شاء انشره فلم يكرر سبحانه على اسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا لنتكلم بها فقط ولا لمجرد تعريفنا بذلك بل لامر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب واليه جرى ذلك الحديث فانظر الان الى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وانتنت كيف استخرجها رب الارباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها الى ان ساقها الى مستقرها ومجمعها وكيف جمع سبحانه بين الذكر والانثى والقى المحبة بينهما وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة الى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه وساقهما من
(1/360)
اعماق العروق والاعضاء وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده ولا برد بحمده ولا عارض يصل اليه ولا آفة تتسلط عليه ثم قلب تلك ا لنطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب الى سواد ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها وانظر كيف قسم تلك الاجزاء المتشابهة المتساوية الى الاعصاب والعظام والعروق والاوتار واليابس واللين وبين ذلك ثم كيف ربط بعضها ببعض اقوى رباط وأشده وابعده عن الانحلال وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا وجعلها حاملة له مقيمة له فاللحم قائم بها وهي محفوظة به وكيف صورها فاحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والانف وسائر
(1/361)
المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤسهما بالاصابع ثم قسم الاصابع بالانامل وركب الاعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والامعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن وعمادا له وكيف قدرها ربه وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحنى والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوف وكيف ركب بعضها في بعض فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الانثى ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط وكيف اختلفت اشكالها باختلاف منافعها كالاضراس فإنها لما كانت آلة للطحن جعلت عريضة ولما كانت الاسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة ولما كان الانسان محتاجا الى الحركة بجملة بدنه وببعض اعضائه للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظما واحدا بل عظاما متعددة وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه وكيف شد اسر تلك المفاصل والاعضاء وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات انبتها من احد طرفي العظم والصق احد طرفي العظم بالطرف الاخر كالرباط له ثم جعل في احد طرفي العظم زوائد خارجة عنه وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها فإذا أراد العبد ان يحرك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه وتأمل كيفية خلق الراس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الاشكال والمقادير والمنافع وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الادراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس وجعل حاسة البصر في مقدمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة لو فقدت طبقة من تلك الطبقات
(1/362)
السبع او زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الابصار ثم اركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا وهو إنسان العين بقدر العدسة يبصر به ما بين المشرق والمغرب والارض والسماء وجعلهمن العين بمنزلة القلب من الاعضاء فهوملكها وتلك الطبقات والاجفان والاهداب خدم له وحجاب وحراس فتبارك الله احسن الخالقين فانظر كيف حسن شكل العينين وهيئتها ومقدارهما ثم جملهما بالاجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة فهما يتلقيان عن العين الاذى والقذا والغبار ويكنانهما من البارد المؤذي والحار المؤذي ثم غرس في اطراف تلك الاجفان الاهداب جمالا وزينة ولمنافع اخر وراء الجمال والزينة ثم اودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والارض ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب وقد
(1/363)
اودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السموات مع اتساع اكنافها وتباعد اقطارها وشق له السمع وخلق الاذن احسن خلقه وابلغها في حصول المقصود منها فجعلها مجوفة كالصدفة لتجمع الصوت فتؤديه الى الصماخ وليحس بدبيب الحيوان فيها فيبادر الى اخراجه وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدته ثم تؤديه الى الصماخ ومن حكمة ذلك ان يطول به الطريق على الحيوان فلا يصل الى الصماخ حتى يستيقظ او ينتبه لامساكه وفيه ايضا حكم غير ذلك ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه ان جعل ماء الاذن مرا في غاية المرارة فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا الى باطن الاذن بل إذا وصل اليه اعمل الحيلة في رجوعه وجعل ماء العينين ملحا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا وجعل ماء الفم عذبا حلوا ليدرك به طعوم الاشياء على ما هي عليه إذ لو كان على غير هذه الصفة لاحالها الى طبيعته كما ان من عرض لفمه المرارة استمر طعم الاشياء التي ليست بمرة كما قيل ومن يك ذا فم مر مريض يجدمرا به الماء الزلالا ونصب سبحانه قصبة الانف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه وفتح فيه المنخرين وحجز بينهما بحاجز واودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها انواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة وليستنشق به الهواء فيوصله الى القلب فيتروح به ويتغذى به ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الاذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها ويقطع مجراها وجعله سبحانه مصبا تنحدر اليه فضلات الدماغ فتجتمع فيه ثم تخرج منه واقتضت حكمته ان جعل اعلاه ادق من اسفله لان اسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسهولة ولانه يأخذ من الهواء ملأه ثم يتصاعد في مجراه قليلا حتى يصل الى القلب وصولا لا يضره ولا يزعجه ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة فإنه لما كان قصبة ومجرى
(1/364)
ساترا لما يتحدر فيه من فضلات الراس ومجرى النفس الصاعد منه جعل في وسطه حاجزا لئلا يفسد بما يجرى فيه فيمنع نشقه للنفس بل إما ان تعتمد الفضلات نازلة من احد المنفذين في الغالب فيبقى الاخر للتنفس وإما ان يجرى فيهما فينقسم فلا ينسد الانف جملة بل يبقى فيه مدخل للتنفس وايضا فإنه لما كان عضوا واحدا وحاسة واحدة ولم يكن عضوين وحاستين كالاذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما فإنه ربما اصيبت احداهما اوعرضت لها آفة تمنعها من كمالها فتكون الاخرى سالمة فلا تتعطل
(1/365)
منفعة هذا الحس جملة وكان وجود انفين في الوجه شيئا ظاهرا فنصب فيه انفا واحدا وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجرى مجرى تعدد العينين والاذنين في المنفعة وهو واحد فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين وشق سبحانه للعبد الفم في احسن موضع واليقه به واودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول عجائبه فأودعه اللسان الذي هو احد آياته الدالة عليه وجعله ترجمانا لملك الاعضاء مبينا مؤديا عنه كما جعل الاذن رسولا مؤديا مبلغا اليه فهي رسوله وبريده الذي يؤدي اليه الاخبار واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد واقتضت حكمته سبحانه ان جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالاذن والعين والانف لان تلك الاعضاء لما كانت تؤدي من الخارج اليه جعلت بارزة ظاهرة ولما كان اللسان مؤديا منه الى الخارج جعل له سترا مصونا لعدم الفائدة في إبرازه لانه لا يأخذ من الخارج الى القلب وأيضا فلأنه لما كان اشرف الاعضاء بعدالقلب ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره ضرب عليه سرادق تستره وتصونه وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر وايضا فإنه من الطف الاعضاء والينها واشدها رطوبة وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به فلو كان بارزا صارعرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف ولغير ذلك من الحكم والفوائد ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الاسنان التي هن جمال له وزينة وبها قوام العبد وغذاؤه وجعل بعضها ارحاء للطحن وبعضها آلة للقطع فاحكم اصولها وحدد رؤسها وبيض لونها ورتب صفوفها متساوية الرؤس متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا واحاط سبحانه على ذلك حائطين واودعهما من المنافع والحكم ما اودعهما وهما الشفتان فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهماوجعلهما غطاء للفم وطبقا له وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام ونهاية له كما جعل اقصى الحلق بداية له واللسان وما جاوره وسطا
(1/366)
ولهذا كان اكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة واقتضت حكمته ان جعل الشفتين لحما صرفا لا عظم فيه ولا عصب ليتمكن بهما من مص الشراب ويسهل عليه فتحهما وطبقهما وخص الفك الاسفل بالتحريك لان تحريك الاخف احسن ولانه يشتمل على الاعضاء الشريفة فلم يخاطر بها في الحركة وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الاشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة واللين والطول والقصر فاختلفت بذلك الاصوات اعظم اختلاف ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الاعمى لتمييزه بين الاشخاص بأصواتهم كما يميز البصير بينهم بصورهم والاشتباه العارض بين الاصوات كالاشتباه العارض بين الصور وزين سبحانه الرأس بالشعر وجعله لباسا له لاحتياجه اليه وزين الوجه بما
(1/367)
انبت فيه من الشعور المختلفة الاشكال والمقادير فزينه بالحاجبين وجعلهما وقاية لما يتحدر من بشرة الراس الى العينين وقوسهما وأحسن خطهما وزين أجفاف العينين بالاهداب وزين الوجه ايضا باللحية وجعلها كمالا ووقارا ومهابة لرجل زين الشفتين بما انبت فوقهما من الشارب وتحتهما من العنفقة وكذلك خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه فطولهما يحيث يصلان الى ما شاء من بدنه وعرض الكف ليتمكن به من القبض والبسط وقسم فيه الاصابع الخمس وقسم كل اصبع بثلاث انامل والابهام باثنتين ووضع الاصابع الاربعة في جانب والابهام في جانب لتدور الابهام على الجميع فجاءت على احسن وضع صلحت به للقبض والبسط ومباشرة الاعمال ولو اجتمع الاولون والاخرون على ان يستنبطوا بدقيق افكارهم وضعا آخر للاصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا اليه سبيلا فتبارك من لو شاء لسواها وجعلها طبقا واحدا كالصفيحة فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحة وانواع تصرفاته ودقيق الصنائع والخط وغير ذلك فإن بسط اصابعه كانت طبقا يضع عليه ما يريد وان ضمها وقبضها كانت دبوسا وآلة للضرب وان جعلها بين الضم والبسط كانت مغرفة له يتناول بها وتمسك فيها ما يتناوله وركب الاظفار على رؤسها زينة لها وعمادا ووقاية وليلتقط بها الاشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الاصابع وجعلها سلاحا لغيره من الحيوان والطير وآلة لمعاشه وليحك الانسان بها بدنه عند الحاجة فالظفر الذي هو أقل الاشياء وأحقرها لو عدمه الانسان ثم ظهرت به حكة لاشتدت حاجته اليه ولم يقم مقامه شيء في حك بدنه ثم هدى اليد الى موضع الحك حتى تمتد اليه ولو في النوم والغفلة من غير حاجة الى طلب ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك الا بعد تعب ومشقة ثم انظر الى الحكمة البالغة في جعل عظام اسفل البدن غليظة قوية لانها اساس له وعظام اعاليه دونها في الثخانة والصلابة لانها محمولة ثم انظر كيف جعل الرقبة مركبا للرأس
(1/368)
وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات ثم طبق بعضها على بعض وركب كل خرزة تركيبا محكما متقنا حتى صارت كأنها خرزة واحدة ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر ثم ركب الظهر من أعلاه الى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة مركبة بعضها في بعض هي مجمع اضلاعه والتي تمسكها ان تنحل وتنفصل ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض فوصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتفين بعظام العضدين والعضدين بالذراعين والذراعين بالكف والاصابع وانظر كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والراس كسوة من اللحم تناسبها والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالاصابع والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين فهو مركب على ثلاثمائة وستين عظما مائتان وثمانية وأربعون مفاصل وباقيها صغار حشيت خلال المفاصل فلو زادت عظما واحدا لكان مضرة على الانسان
(1/369)
يحتاج الى قلعة ولو نقصت عظما واحدا كان نقصانا يحتاج الى جبره فالطبيب ينظر في هذه العظام وكيفية تركيبها ليعرف وجه العلاج في جبرها والعارف ينظر فيها ليستدل بها على عظمة باريها وخالقها وحكمته وعلمه ولطفه وكم بين النظرين ثم انه سبحانه ربط تلك الاعضاء والاجزاء بالرباطات فشد بها اسرها وجعلها كالاوتاد تمسكها وتحفظها حتى بلغ عددها الى خمسمائة وتسعة وعشرين رباطا وهي مختلفة في الغلظ والدقة والطول والقصر والاستقامة والانحناء بحسب اختلاف مواضعها ومحالها فجعل منها اربعة وعشرين رباطا آلة لتحريك العين وفتحها وضمها وإبصارها لو نقضت منهن رباطا واحدا اختل امر العين وهكذا لكل عضو من الاعضاء رباطات هن له كالالات التي بها يتحرك ويتصرف ويفعل كل ذلك صنع الرب الحكيم وتقدير العزيز العليم في قطرة ماء مهين فويل للمكذبين وبعدا للجاحدين ومن عجائب خلقه انه جعل في الراس ثلاث خزائن نافذا بعضها الى بعض خزانة في مقدمه وخزانة في وسطه وخزانة في آخره واودع تلك الخزائن من أسراره ما اودعها من الذكر والفكر والتعقل ومن عجائب خلقه ما فيه من الامور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب والكبد والطحال والرئة والامعاء والمثانة وسائر ما في بطنه من الالات العجيبة والقوى المتعددة المختلفة المنافع فأما القلب فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن والمستخدم لها فهو محفوف بها محشود مخدوم مستقر في الوسط وهو اشرف اعضاء البدن وبه قوام الحياة وهو منبع الروح الحيواني والحرارة الغريزية وهو معدن العقل والعلم والحلم والشجاعة والكرم والصبر والاحتمال والحب والارادة والرضا والغضب وسائر صفات الكمال فجميع الاعضاء الظاهرة والباطنة وقواها انما هي جند من اجناد القلب فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات فإن رأت شيئا أدته اليه ولشدة الارتباط الذي بينها وبينه إذا استقر فيه شيء ظهر فيها فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه كما ان اللسان ترجمانه
(1/370)
المؤدي للسمع ما فيه ولهذا كثيرا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث كقوله أن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا وقوله وجعلنا لهم سمعا وابصارا وأفئدة وقوله صم بكم عمي وقد تقدم ذلك وكذلك يقرن بين القلب والبصر كقوله ونقلب افئدتهم وابصارهم وقوله في حق رسوله محمد ما كذب الفؤاد وما رأى ثم قال ما زاغ البصر وما طغى وكذلك الاذن هي رسوله المؤدى اليه وكذلك اللسان ترجمانه وبالجملة فسائر الاعضاء خدمه وجنوده وقال النبي الا ان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد إلا وهي القلب وقال ابو هريرة القلب ملك والاعضاء جنوده فان طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وجعلت الرئة له كالمروحة تروح عليه دائما لانه اشد الاعضاء
(1/371)
حرارة بل هو منبع الحرارة واما الدماغ وهو المخ فإنه جعل باردا واختلف في حكمة ذاك فقالت طائفة إنما كان الدماغ بارد التبريد الحرارة التي في القلب ليردها عن الافراط الى الاعتدال وردت طائفة هذا وقالت لو كان كذلك لم يكن الدماغ بعيدا عن القلب بل كان ينبغي ان يحيط به كالرئة او يكون قريبا منه في الصدر ليكسر حرارته قالت الفرقة الاولى بعدالدماغ من القلب لا يمنع ما ذكرناه من الحكمة لانه لو قرب منه لغلبته حرارة القلب بقوتها فجعل البعد بينهما بحيث لا يتفاسدان وتعتدل كيفية كل واحد منهما بكيفية الاخر وهذا بخلاف الرئة فإنها آلة للترويح على القلب لم تجعل لتعديل حرارته وتوسطت فرقة أخرى وقالت بل المخ حار لكنه فاتر الحرارة وفيه تبريد بالخاصية فإنه مبدأ للذهن ولهذا كان الذهن يحتاج الى موضع ساكن قار صاف عن الاقذار والكدر خال من الجلبة والزجل ولذلك يكون جودة الفكر والتذكر واستخراج الصواب عند سكون البدن وفتور حركاته وقلة شواغله ومزعجاته ولذلك لم يصلح لها القلب وكان الدماغ معتدلا في ذلك صالحا له ولذلك تجود هذه الافعال في الليل وفي المواضع الخالية وتفسد عند التهاب نار الغضب والشهوة وعند الهم الشديد ومع التعب والحركات القوية البدنية والنفسانية وهذا بحث متصل بقاعدة اخرى وهي ان الحواس والعقل هل مبدؤها القلب والدماغ فقالت طائفة مبدؤها كلها القلب وهي مرتبطة به وبينه وبين الحواس منافذ وطرق قالوا وكل واحد من هذه الاعضاء التي هي آلات الحواس له اتصال بالقلب بأعصاب وغير ذلك وهذه الاعصاب تخرج من القلب الى ان تأتي الى كل واحد من هذه الاجسام التي فيها هذه الحواس قالوا فالعين إذا ابصرت شيئا أدته بالالة التي فيها الى القلب لان هذه الالة متصلة منها الى القلب والسمع إذا احس صوتا اداه الى القلب وكذلك كل حاسة ثم اوردوا على انفسهم سؤالا فقالوا ان قيل كيف يجوز ان يكون عضو واحد على ضروب من الامتزاج يمده عدة حواس مختلفة
(1/372)
وأجسام هذه الحواس مختلفة وقوة كل حاسة مخالفة لقوة الحاسة الاخرى واجابوا عن ذلك بأن جميع العروق التي في البدن كلها متصلة بالقلب إما بنفسها وإما بواسطة فما من عرق ولا عضو الاوله اتصال بالقلب اتصالا قريبا او بعيدا قالوا وينبعث منه في تلك العروق والمجاري الى كل عضو ما بناسبه ويشاكله فينبعث منه الى العينين ما يكون منه حس البصر وإلى الاذنين ما يدرك به المسموعات وإلى اللحم ما يكون منه حس اللمس وإلى الانف ما يكون به حس الشم وإلى اللسان ما يكون به حس الذوق وإلى كل ذي قوة ما يمد قوته ويحفظها فهو المعد لهذه الاعضاء والحواس والقوى ولهذا كان الراي الصحيح انه اول الاعضاء تكوينا قالوا ولا ريب ان مبدأ القوة العاقلة منه وإن كان قد خالف في ذلك آخرون وقالوا بل العقل
(1/373)
في الرأس فالصواب ان مبدأه ومنشأه من القلب وفروعه وثمرته في الراس والقرآن قد دل على هذا بقوله افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقال ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ولم يرد بالقلب هنا مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات بل المراد ما فيه من العقل واللب ونازعهم في ذلك طائفة اخرى وقالوا مبدأ هذه الحواس إنما هو الدماغ وانكروا ان يكون بين القلب والعين والاذن والانف اعصاب او عروف وقالوا هذا كذب على الخلقة والصواب التوسط بين الفريقين وهو ان القلب تنبعث منه قوة الى هذه الحواس وهي قوة معنوية لا تحتاج في وصولها اليه الى مجار مخصوصة واعصاب تكون حاملة لها فإن وصول القوى الى هذه الحواس والاعضاء لا يتوقف الاعلى قبولها واستعداها وامداد القلب لا على مجار وأعصاب وبهذا يزول الالتباس في هذا المقام الذي طال فيه الكلام وكثر فيه النزاع والخصام والله اعلم وبه التوفيق للصواب والمقصود التنبيه على أقل القليل من وجوه الحكمة التي في خلق الانسان والامر اضعاف اضعاف ما يخطر بالبال او يجرى فيه المقال وإنما فائدة ذكر هذه الشذرة التي هي كل شيء بالنسبة الى ما وراءها التنبيه وإذا نظر العبد الى غذائه فقط في مدخله ومستقره ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب كيف جعلت له آلة يتناول بها ثم باب يدخل منه ثم آلة تقطعه صغارا ثم طاحون يطحنه ثم اعين بماء يعجنه ثم جعل له مجرى وطريقا الى جانب النفس ينزل هذا ويصعد هذا فلا يلتقيان مع غاية القرب ثم جعل له حوايا وطرقا توصله الى المعدة فهي خزانته وموضع اجتماعه ولها بابان باب اعلى يدخل منه الطعام وباب اسفل يخرج منه تفله والباب الاعلى اوسع من الاسفل إذ الاعلى مدخل للحاصل والاسفل مصرف للضار منه والاسفل منطبق دائما ليستقر الطعام في موضعه فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح الى انقضاء الدفع ويسمى البواب لذلك والاعلى يسمى فم المعدة والطعام ينزل الى المعدة متكيمسا فإذا
(1/374)
استقر فيها انماع وذاب ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية بل ربما تزيد على حرارة النار ينضج بها الطعام فيها كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به ولذلك يذيب ما هو مستحجر كالحصا وغيره حتى يتركه مائعا فإذا أذابته علا صفوه الى فوق ورس كدره الى اسفل ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن يبعث فيها معلوم كل عضو وقوامه بحسب استعداه وقبوله فيبعث اشرف ما في ذلك والطفه واخفه الى الارواح فيبعث الى البصر بصرا والى السمع سمعا والى الشم شما والى كل حاسة بحسبها فهذا الطف ما يتولد عن الغذاء ثم ينبعث منه الى الدماغ ما يناسبه في اللطافة والاعتدال ثم ينبعث من الباقي الى الاعضاء في تلك المجاري بحسبها وينبعث منه الى العظام والشعر والاظفار ما يغذيها ويحفظها فيكون الغذاء داخلا الى المعدة من طرق ومجار وخارجا منها الى الاعضاء من طرق ومجار هذا وارد اليها وهذا صادر عنها حكمة بالغة ونعمة سابغة ولما كان الغذاء إذا استحال في المعدة استحال دما ومرة سوداء ومرة صفراء وبلغما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى ان جعل لكل واحد من هذه الاخلاط مصرفا ينصب اليه ويجتمع فيه ولا ينبعث الى الاعضاء الشريفة الا أكمله فوضع المرارة مصبا للمرة الصفراء ووضع الطحال مقرا للمرة السوداء والكبد تمتص اشرف ما في ذلك وهو الدم ثم تبعثه الى جميع البدن من عرق واحد ينقسم على مجار كثيرة يوصل الى كل واحد من الشعور والاعصاب والعظام والعروق ما يكون به قوامه ثم إذا نظرت الى ما فيه من القوى الباطنة والظاهرة المختلفة في انفسها ومنافعها رايت العجب العجاب كقوة سمعه وبصره وشمه وزوقه ولمسه وحبه وبغضه ورضاه وغضبه وغير ذلك من القوى المتعلقة بالادراك والارادة وكذلك القوى المتصرفة في غذائه كالقوة المنضجة له وكالقوة الماسكة له والدافعة له الى الاعضاء والقوة الهاضمة له بعد اخذ الاعضاء حاجتها منه الى غير ذلك من عجائب خلقته الظاهرة والباطنة
(1/375)
فصل فارجع الان الى النطفة وتأمل حالها اولا وما صارت اليه ثانيا وأنه لو اجتمع الانس والجن على ان يخلقوا لها سمعا او بصرا او عقلا او قدرة او علما او روحا بل عظما واحدا من اصغر عظامها بل عرقا من ادق عروقها بل شعرة واحدة لعجزوا عن ذلك بل ذلك كله آثار صنع الله الذي اتقن كل شيء في قطرة من ماء مهين فمن هذا صنعه في قطرة ماء فكيف صنعه في ملكوت السموات وعلوها وسعتها واستدارتها وعظم خلقها وحسن بنائها وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها ومقاديرها واشكالها وتفاوت مشارقها ومغاربها فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة بل هي احكم خلقا واتقن صنعا واجمع العجائب من بدن الانسان بل لا نسبة لجميع ما في الارض الى عجائب السموات قال الله تعالى أأنتم اشد خلقا ام السماء بناها رفع سمكها فسواها وقال تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الى قوله لايات لقوم يعقلون فبدأ بذكر خلق السموات وقال تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب وهذا كثير في القرآن فالارض والبحار والهواء وكل ما تحت السموات بالاضافة الى السموات كقطرة في بحر ولهذا قل ان تجيء سورة في القرآن الا وفيها ذكرها إما إخبارا عن عظمها وسعتها وإما اقساما بها وإما دعاء الى النظر فيها وإما ارشادا للعباد ان يستدلوا بها على عظ
(1/376)
بانيها ورافعها وإما استدلالا منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيمة وإما استدلالا منه بربوبيته لها على وحدانيته وأنه الله الذي لا إله الا هو وإما استدلالا منه بحسنها واستوائها والتئام اجزائها وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها فكم من قسم في القرآن بها كقوله والسماء ذات البروج والسماء والطارق والسماء وما بناها والسماء ذات الرجع والشمس وضحاها والنجم إذا هوى والنجم الثاقب فلا اقسم بالخنس وهي الكواكب التي تكون خنسا عند طلوعها جوار في مجراها ومسيرها كنسا عند غروبها فاقسم بها في أحوالها الثلاثة ولم يقسم فيكتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر وهو سبحانه يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لتضمنه الايات والعجائب الدالة عليه وكلما كان اعظم آية وأبلغ في الدلالة كان إقسامه به اكثر من غيره ولهذا يعظم هذا القسم كقوله فلا اقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وأظهر القولين انه قسم بمواقع هذه النجوم التي في السماء فإن اسم النجوم عند الاطلاق إنما ينصرف اليها وأيضا فإنه لم تجر عادته سبحانه باستعمال النجوم في آيات القرآن ولا في موضع واحد من كتابه حتى تحمل عليه هذه الاية وجرت عادته باستعمال النجوم في الكواكب في جميع القرآن وأيضا فإن نظير الاقسام بمواقعها هنا إقسامه بهوى النجم في قوله والنجم إذاهوى وايضا فإن هذا قول جمهور اهل التفسير وايضا فإنه سبحانه يقسم بالقرآن نفسه لا بوصوله إلى عباده هذه طريقة القرآن قال الله تعالى ص والقرآن ذي الذكر يس والقرآن الحكيم ق والقرآن المجيد حم والكتاب المبين ونظائره والمقصود انه سبحانه إنما يقسم من مخلوقاتهبما هو من آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته وقد اثنى سبحانه في كتابه على المتفكرين في خلق
(1/377)
السموات والارض وذم المعرضين عن ذلك فقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وتأمل خلق هذا السقف الاعظم مع صلابته وشدته ووثاقته من دخان وهو بخار الماء قال الله تعالى وبنينا فوقكم سبعا شدادا وقال تعالى أأنتم اشد خلقا ام السماء بناها رفع سمكها فسواها وقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا فانظر الى هذا البناء العظيم الشديد الواسع الذي رفع سمكه اعظم ارتفاع وزينه باحسن زينة وأودعه العجائب والايات وكيف ابتدأ خلقه من بخار ارتفع من الماء وهو الدخان فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد موحد لقد تعرف الى خلقه بأنواع التعرفات ونصب لهم الدلالات واوضح لهم الايات البينات ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي بينة وان الله يسمع عليم فارجع البصر الى السماء وانظر فيها وفي كواكبها ودورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها
(1/378)
في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ولا تغير في سيرها بلت جري في منازل قد رتبت لها بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص الى ان يطويها فاطرها وبديعها وانظر الى كثرت كواكبها واختلاف الوانها ومقاديرها فبعضها يميل الى الحمرة وبعضها الى البيضا وبعضها الى اللون الرصاصي ثم انظر الى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها لا تتعداه ولا تقصر عنه ولولا طلوعها وغروبهالما عرف الليل والنهار ولا المواقيت ولاطبق الظلام على العالم او الضياء ولم يتميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة وكيف قدر لها السميع العليم سفرينمتباعدين احدهما سفرها صاعدة الى اوجها والثاني سفرها هابطة الى حضيضها تنتقل في منازل هذا السفر منزلة منزلة حتى تبلغ غايتها منه فاحدث ذلك السفر بقدرة الرب القادر اختلاف الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع فإذا انخفض سيرها عن وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ وإذا كانت بين المسافتين اعتدل الزمان وقامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الاربعةواختلفت بسببها الاقوات واحوال النبات والوانه ومنافع الحيوان والاغذية وغيرها وانظر الى القمر وعجائب آياته كيف يبديه الله كالخيط الدقيق ثم يتزايد نوره ويتكامل شيئا فشيئا كل ليلة حتى ينتهي الى ابداره وكماله وتمامه ثم يأخذ في النقصان حتى يعود الى حالته الاولى ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم فتميزت به الاشهر والسنين وقام حساب العالم مع ما في ذلك من الحكم والايات والعبر التي لا يحصيها الا الله وبالجملة فما من كوكب من الكواكب الا وللرب تبارك وتعالى في خلقه حكم كثيرة ثم في مقداره ثم في شكله ولونه ثم في موضعه من السماء وقربه من وسطها وبعده وقربه من الكوكب الذي يليه وبعده منه وإذا اردت معرفة ذلك على سبيل الاجمال فقسه باعضاء بدنك واختلافها وتفاوت
(1/379)
اما بين المتجاورات منها وبعد ما بين المتباعدات وأشكالها ومقاديرها وتفاوت منافعا وما خلقت له وأين نسبة ذلك الى عظم السموات وكواكبها وآياتها وقد اتفق أرباب الهيئة على ان الشمس بقدر الارض مائة مرة ونيفا وستين مرة والكواكب التي نراها كثير منها اصغرها بقدر الارض وبهذا يعرف ارتفاعها وبعدها وفي حديث ابي هريرة الذي رواه الترمذي ان بين الارض والسماء مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماءين كذلك وانت ترى الكوكب كانه لا يسير وهو من اول جزء من طلوعه الى تمام طلوعه يكون فلكه قد طلع بقدر مسافة الارض مائة مرة او اكثر وذلك بعد لحظة واحدة لان الكوكب إذا كان بقدر الارض مائة مرة مثلا ثم سار في اللحظة من موضع الىموضع فقد قطع بقدر مسافة الارض مائة مرة وزيادة في لحظة من اللحظات وهكذا يسير على الدوام والعبد غافل عنه وعن آياته وقال بعضهم إذا تلفظت بقولك لا نعم فبين اللفظتين تكون الشمس قد قطعت من الفلك مسيرة خمسمائة عام ثم انه سبحانه امسك السموات مع عظمها وعظم ما فيها وثبتها من غير علاقة من فوقها ولا عمد من تحتها الله الذي خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الارض رواسي ان تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فاروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين فصل والنظر في هذه الايات وامثالها نوعان نظر اليها بالبصر الظاهر
(1/380)
فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها وهذا نظر يشارك الانسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود بالأمر الثاني ان يتجاوز هذا الى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له ابواب السماء فيجول في اقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والارضين السبع بالنسبة اليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير والامر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها الا ربها ومليكها فينزل الامر باحياء قوم وإماتة آخرين وإعزاز قوم وإذلال آخرين واسعاد قوم وشقاوة آخرين وإنشاء ملك وسلب ملك وتحويل نعمة من محل الى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها من جبر كسر وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة الملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف العدوان فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها ولا يتبرم بالحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عان لعزته فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها الى يوم المزيد فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من اعظم آيات الله وعجائب صنعه فياله من سفر ما أبركه واروحه واعظم ثمرته وربحه واجل منفعته واحسن عاقبته سفر هو حياة الارواح ومفتاح السعادة وغنيمته العقول والالباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب
(1/381)
فصل وإذا نظرت الى الارض وكيف خلقت رأيتها من اعظم آيات فاطرها وبديعها خلقها سبحانه فراشا ومهادا وذللها لعباده وجعل فيه ارزاقهم واقواتهم ومعايشهم وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم وارساها بالجبال فجعلها اوتادا تحفظها لئلا تميد بهم ووسع اكنافها ودحاها فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها وجعلها كفاتا للاحياء تضمهم على ظهرها ما داموا احياء وكفاتا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا فظهرها وطن للاحياء وبطنها وطن للاموات وقد اكثر تعالى من ذكر الارض في كتابه ودعا عباده الى النظر اليها والتفكر في خلقها فقال تعالى والارض فرشناها فنعم الماهدون الله الذي جعل لكم الارض قرارا الذي جعل لكم الارض فراشا افلا ينظرون الى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت وإلى ارض كيف سطحت ان في السموات والارض لايات للؤمنين وهذا كثير في القرآن فانظر اليها وهي ميتة هامدة خاشعة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت فتحركت وربت فارتفعت واخضرت وانبتت من كل زوج بهيج فاخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر بهيج للناظرين كريم للمتناولين فأخرجت الاقوات على اختلافها وتباين مقاديرها واشكالها والوانها ومنافعها والفواكه والثمار وانواع الادوية ومراعي الدواب والطير ثم انظر قطعها المتجاورات وكيف ينزل عليها ماء واحدا فتنبت الازواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل والرائحة والطعم والمنفعة واللقاح واحد والام واحدة كما قال تعالى وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فكيف كانت هذه الاجنة المختلفة مودعة في بطن هذه الام وكيف كان حملها من لقاح واحد صنع الله الذي اتقن كل شيء لا إله إلا هو ولولا ان هذا من اعظم آياته لما نبه عليه عباده وهداهم الى التفكير فيه قال الله تعالى وترى الارض هامدة فإذا
(1/382)
انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ذلك بان الله هو الحق وانه يحيي الموتى وانه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فجعل النظر في هذه الاية وما قبلها من خلق الجنين دليلا على هذه النتائج الخمس مستلزما للعلم بها ثم انظر كيف احكم جوانب الارض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها وكيف رفعها وجعلها اصلب اجزاء الارض لئلا تضمحل علىتطاول السنين وترادف الامطار والرياح بل اتقن صنعها واحكم وضعها واودعها من المنافع والمعادن والعيون ما اودعها ثم هدى الناس الى استخراج تلك المعادن منها والهمهم كيف يصنعون منها النقود والحليوالزينة واللباس والسلاح وآلة المعاش على اختلافها ولولا هدايته سبحانه لهم الى ذلك لما كان لهم علم شيء منه ولا قدرة عليه ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والارض يدرك بحس اللمس عند هبوبه يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجرى بين السماء والارض والطير مختلفة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه
(1/383)
وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب امواج البحر فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذكر الانثى بالحمل وتسمى رياح الرحمة المبشرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقع ورياح العذاب العاصف والقاصف وهما في البحر والعقيم والصرصر وهما في البر وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيما وأودعه عذابا اليما وجعله نقمة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرا ونحسا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه وهي مختلفة في مهابها فمنها صبا ودبور وجنوب وشمال وفي منفعتها وتاثيرها اعظم اختلاف فريح لينة رطبة تغذى النبات وابدان الحيوان واخرى تجففه واخرى تهلكه وتعطبه وأخرى تشده وتصلبه وأخرى توهنه وتضعفه ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها فريح تثير السحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذى النبات ولما كانت الرياح مختلفة في مهابها وطبائعها جعل لكل ريح ريحا مقابلتها تكسر سورتها وحدتها ويبقى لينها ورحمتها فرياح الرحمة متعددة وأما ريح العذاب فإنه ريح واحدة ترسل من وجه واحد لاهلاك ما ترسل باهلاكه فلاتقوم لها ريح اخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء يدمر كل ما اتى عليه وتأمل حكمة القرآن وجلالته وفصاحته كيف طرد هذا في البر وأما في البحر فجاءت ريح الرحمة فيه بلفظ الواحد كقوله تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان فإن السفن إنما تسير بالريح الواحدة التي تأتي من وجه واحد فإذا اختلفت الرياح على السفن وتقابلت لم يتم سيرها فالمقصود منها في البحر خلاف المقصود منها في البر إذ المقصود في البحر ان تكون واحدة طيبة لا يعارضها شيء فأفردت هنا وجمعت في البر ثم انه سبحانه اعطى
(1/384)
هذا المخلوق اللطيف الذي يحركه اضعف المخلوقات ويخرقه من الشدة والقوة والباس ما يقلق به الاجسام الصلبة القوية الممتنعة ويزعجها عن اماكنها ويفتتها ويحملها على متنه فانظر اليه مع لطافته وخفته إذا دخل في الزق مثلا وامتلأ به ثم وضع عليه الجسم الثقيل كالرجل وغيره وتحامل عليه ليغمسه في الماء لم يطق ويضع الحديد الصلب الثقيل على وجه الماء فيرسب فيه فامتنع هذا اللطيف من قهر الماء له ولم يمتنع منه القوي الشديد وبهذه الحكمة امسك الله سبحانه السفن على وجه الماء مع ثقلها وثقل ما تحويه وكذلك كل مجوف حل فيه الهواء فإنه لا يرسب فيه لان الهواء يمتنع من الغوس في الماء فتتعلق به السفينة المشحونة الموقرة فتأمل كيف استجار هذا الجسم الثقيل العظيم بهذا اللطيف الخفيف وتعلق به حتى امن من الغرق وهذا كالذي يهوى في قليب فيتعلق بذيل رجل قوي شديد يمتنع عن السقوط في القليب فينجو بتعلقه به فسبحان من علق هذا
(1/385)
المركب العظيم الثقيل بهذا الهواء اللطيف من غير علاقة ولاعقدة تشاهد ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والارض كيف ينشئه سبحانه بالرياح فتثيره كسيفا ثم يؤلف بينه ويضم بعضه الى بعض ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح ثم يسوقه على متونها الى الارض المحتاجة اليه فإذا علاها واستوى عليها اهراق ماءه عيها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه اقلع عنها وفارقها فهي روايا الارض محمولة على ظهور الرياح وفي الترمذي وغيره ان النبي لما رأى السحاب قال هذه روايا الارض يسوقها الله الى قوم لا يشكرونه ولا يذكرونه فالسحاب حامل رزق العباد وغيرهم التي عليها ميرتهم وكان الحسن إذا رأى السحاب قال في هذا والله رزقكم ولكنكم تحرموه بخطاياكم وذنوبكم وفي الصحيح عن النبي قال بينا رجل بفلاة من الارض إذ سمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فمر الرجل مع السحابة حتى اتت على حديقة فلما توسطتها افرغت فيها ماءها فإذا برجل معه مسحاة يسحي الماء بها فقال ما اسمك يا عبد الله قال فلان للاسم الذي سمعه في السحابة وبالجملة فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء وهو مع لينه ورخاوته حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى ان يأذن له ربه وخالقه في ارسال ما معه من الماء فيرسله وينزله منه مقطعا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته فيرش السحاب الماء على الارض رشا ويرسله قطرات مفصلة لاتختلط قطرة منها باخرى ولا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمزج بها بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الارض قطرة قطرة قد عينت كل قطرة منها لجزء من الارض لا تتعداه إلى غيره فلو اجتمع الخلق كلهم على ان يخلقوا منها قطرة واحدة او يحصوا عدد القطر
(1/386)
في لحظة واحدة لعجزوا عنه فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقا للعباد والدواب والطير والذر والنمل يسوقه رزقا للحيوان الفلاني في الارض الفلانية بجانب الجبل الفلاني فيصل اليه على شدة من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا ثم كيف اودعه في الارض ثم اخرج به انواع الاغذية والادوية والاقوات فهذا النبات يغذي وهذا يصلح الغذاء وهذا ينفذه وهذا يضعف وهذا اسم قاتل وهذا شفاء من السم وهذا يمرض وهذا دواء من المرض وهذا يبرد وهذا يسخن وهذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من اعماق العروق وهذا إذا حصل فيها ولد الصفراء واستحال اليها وهذا يدفع البلغم والسوداء وهذا يستحيل
(1/387)
اليهما وهذا يهيج الدم وهذا يسكنه وهذا ينوم وهذا يمنع النوم وهذا يفرح وهذا يجلب الغنم الى غير ذلك من عجائب النبات التي لا تكاد تخلو ورقة منه ولاعرق ولا ثمرة من منافع تعجز عقول البشر عن الاحاطة بها وتفصيلها وانظر الى مجاري الماء في تلك العروق الرقيقة الضئيلة الضعيفة التي لا يكاد البصر يدركها إلا بعد تحديقه كيف يقوى قسره واجتذابه من مقره ومركزه الى فوق ثم ينصرف في تلك المجاري بحسب قبولها وسعتها وضيقها ثم تتفرق وتتشعب وتدق الى غاية لا ينالها البصر ثم انظر الى تكون حمل الشجرة ونقلته من حال الى حال كتنقل احوال الجنين المغيب عن الابصار ترى العجب العجاب فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين بينا تراها حطبا قائما عاريا لا كسوة عليها إذ كاسها ربها وخالقها من الزهر احسن كسوة ثم سلبها تلك السكوة وكساها من الورق كسوة هي اثبت من الاولى ثم اطلع فيها حملها ضعيفا ضئيلا بعد ان اخرج ورقها صيانة وثوبا لتلك الثمرة الضعيفة لتستجب به من الحر والبرد والافات ثم ساق الى تلك الثمار رزقها وغذاها في تلك العروق والمجاري فتغذت به كما يتغذى الطفل بلبان امه ثم رباها ونماها شيئا فشيئا حتى استوت وكملت وتناهى ادراكها فأخرج ذلك الجني اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء هذا وكم لله من آية في كل ما يقع الحس عليه ويبصره العباد وما لايبصرونه تفنى الاعمار دون الاحاطة بها وجميع تفاصيلها فصل ومن آياته سبحانه تعالى الليل والنهار وهما من اعجب آياته
(1/388)
وبدائع مصنوعاته ولهذا يعيد ذكرهما في القرآن ويبديه كقوله تعالى ومن آياته الليل والنهار وقوله وهو الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وقوله عز وجل وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون وقوله عز وجل الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا وهذا كثير في القرآن فانظر الى هاتين الايتين وما تضمنتاه من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته كيف جعل الليل سكنا ولباسا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات وتأوى الحيوانات الى بيوتها والطير الى اوكارها وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب حتى إذا اخذت منه النفوس راحتها وسباتها وتطلعت الى معايشها وتصرفها جاء فالق الاصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه وخرجت الطيور من اوكارها فياله من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الاكبر وتكرره ودوام مشاهدة النفوس له بحيث صار عادةومألفا منعها من الاعتبار به والاستدلال به على النشأة الثانية وإحياء الحلق بعد موتهم ولا ضعف في قدرة القادر التام القدرة ولا قصور في حكمته ولا في علمه ويوجب تخلف ذلك ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهذا ايضا من اياته الباهرة ان يعمى عن هذه الايات الواضحة البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها ولا يبصرها لمن هو واقف في الماء الى حلقه وهويستغيث من العطش وينكر وجود الماء وبهذا وأمثاله يعرف الله عز وجل ويشكر ويحمد ويتضرع اليه ويسأل فصل ومن آياته وعجائب مصنوعاته البحار المكتنفة لاقطار الارض التي هي
(1/389)
خلجان من البحر المحيط الاعظم بجميع الارض حتى ان المكشوف من الارض والجبال والمدن بالنسبة الى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم وبقية الارض مغمورة بالماء ولولا امساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الارض وعلاها كلها هذا طبع الماء وهذا حار عقلاء الطبيعيين في سبب بروز هذا الجزء من الارض مع اقتضاء طبيعة الماء للعلو عليه وإن يغمره ولم يجدوا ما يحيلون عليه ذلك إلا الاعتراف بالعناية الازلية والحكمة الالهية التي اقتضت ذلك العيش الحيوان الارضي في الارض وهذا حق ولكنه يوجب الاعتراف بقدرة الله وإرادته ومشيئته وعلمه وحكمته وصفات كماله ولا محيص عنه وفي مسند الامام احمد عن النبي انه قال ما من يوم الا والبحر يستأذن ربه ان يغرق بني آدم وهذا احدالاقوال في قوله عز وجل والبحر المسجور انه المحبوس حكاه ابن عطية وغيره قالوا ومنه ساجور الكلب وهي القلادة من عود او حديد التي تمسكه وكذلك لولا ان الله يحبس البحر ويمسكه لفاض على الارض فالارض في البحر كبيت في جملة الارض واذا تأملت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف اجناسها وأشكالها ومقاديرها ومنافعها ومضارها وألوانها حتى ان فيها حيوانا امثال الجبال لا يقوم له شيء وحتى ان فيه من الحيوانات ما يرى ظهورها فيظن انها جزيرة فينزل الركاب عليها فتحس بالنار إذا اوقدت فتتحرك فيعلم انه حيوان وما من صنف من اصناف حيوان البر إلا وفي البحر امثاله حتى الانسان والفرس والبعير واصنافها وفيه اجناس لا يعهد لها نظير في البر اصلا هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان فترى اللؤلؤة كيف اودعت في كن كالبيت لها وهي الصدفة تكنها وتحفظها ومنه اللؤلؤ المكنون وهو الذي في صدفه لم تمسه الايدي وتأمل كيف نبت المرجان في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر هذا مع ما فيه من العنبر واصناف النفائش
(1/390)
التي يقذفها البحر وتستخرج منه ثم انظر الى عجائب السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخره بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخرها الله لاجرائها فإذا حبس عنها القائد والسائق ظلت راكدة على وجه الماء قال الله تعالى ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لايات لكل صبار شكور وقال الله تعالى الله الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون فما اعظمها من آية وابينها من دلالة ولهذا يكرر سبحانه ذكرها في كتابه كثيرا وبالجملة فعجائب البحر وآياته اعظم وأكثر من ان يحصيها الا الله سبحانه وقال الله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية فصل ومن آياته سبحانه خلق الحيوان على اختلاف صفاته واجناسه
(1/391)
واشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه ومنه الماشي على اربع ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب ومنه ما سلاحه الاسنان ومنه ما سلاحه الصياصي وهي القرون يدافع بها عن نفسه من يروم اخذه ومنه ما اعطى منها قوة يدفع بها عن نفسه لم يحتج الى سلاح كالاسد فإن سلاحه قوته ومنه ما سلاحه في ذرقه وهو نوع من الطير إذا دنا منه من يريد اخذه ذرق عليه فأهلكه ونحن نذكر هنا فصولا منثورة من هذا الباب مختصرة وإن تضمنت بعض التكرار وترك الترتيب في هذا المقام الذي هو من اهم فصول الكتاب بل هو لب هذا القسم الاول ولهذا يكرر في القرآن ذكر آياته ويعيدها ويبديها ويأمر عباده بالنظر فيها مرة بعد أخرى فهو من اجل مقاصد القرآن قال الله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والارض وقال تعالى إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب وقال تعالى افلا ينظرون الى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الارض كيف سطحت وقال الله تعالى اولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وقال تعالى ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فاتى تؤفكون فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الايات لقوم يفقهون وهو الذي انزل من السماء ماء فاخرجنا به نبات
(1/392)
كل شيء فأخرجنا منه خضرا فنخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من اعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره إذا اثمر وينعه فأمر سبحانه بالنظر اليه وقت خروجه وإثماره ووقت نضجه وإدراكه يقال اينعت الثمار إذا نضجت وطابت لان في خروجه من بين الحطب والورق آية باهرة وقدرة بالغة ثم في خروجه من حدالعفوصة واليبوسة والمرارة والحموضة الى ذلك اللون المشرق الناصع والطعم الحلو اللذيذ الشهي لايات لقوم يؤمنون وقال بعض السلف حق على الناس ان يخرجوا وقت إدراك الثمار وينعها فينظروا اليها ثم تلي انظروا الى ثمره إذا اثمر وينعه ولو اردنا نستوعب ما في آيات الله المشهورة من العجائب والدلالات الشاهدة لله بان الله الذي لا إله إلا هو الذي ليس كمثله شيء وإنه الذي لا أعظم منه ولا أكمل منه ولا ابر ولا ألطف لعجزنا نحن والاولون والاخرون عن معرفة أدنى عشر معشار ذلك ولكن مالا يدرك جميعه لا ينبغي ترك التنبيه على بعض ما يستدل به على ذلك وهذا حين الشروع في الفصول فصل تامل العبرة في موضع هذا العالم وتاليف أجزائه ونظمها على احسن
(1/393)
نظام وأدلة على كمال قدرة خالقه وكمال علمه وكمال حكمته وكمال لطفه فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج اليه فالسماء سقفه المرفوع عليه والارض مهاد وبساط وفراش ومستقر للساكن والشمس والقمر سرجان يزهران فيه والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمنتقل في طرق هذه الدار والجواهر والمعادنمخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له وضروب النبات مهيأ لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والامتعة والالات ومنها الحرس الذي وكل بحرس الانسان يحرسه وهو نائم وقاعد مما هو مستعد لاهلاكه وأذاه فلولا ما سلط عليه من ضده لم يقر للانسان قرار بينهم وجعل الانسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه المتصرف بفعله وأمره ففي هذا اعظم دلالة واوضحها على ان العالم مخلوق لخالق حكيم قدير عليم قدره احسن تقدير ونظمه احسن نظام وان الخالق له يستحيل ان يكون اثنين بل الاله واحد لا إله إلا هو تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا وإنه لو كان في السموات والارض إله غير الله لفسد امرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما وإذا كان البدن يستحيل ان يكون المدبر له روحان متكافئان متساويان ولو كان كذلك لفسد وهلك مع إمكان ان يكون تحت قهر ثالث هذا من المحال في اوائل العقول وبداية الفطر فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ما اتخذ الله من ولدوما كان معه من اله إذا لذهب
(1/394)
كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فهذان برهانان يعجز الاولون والاخرون ان يقدحوا فيهما بقدح صحيح او ياتوا بأحسن منهما ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهما ولولا خشية الاطالة لذكرنا تقديرهما وبيان ما تضمناه من السر العجيب والبرهان الباهر وسنفرد إن شاء الله كتاب مستقلا لادلة التوحيد فصل فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها من اعظم الايات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوا كالنار ولا تهبط نازلة كالاجسام الثقيلة ولا عمد تحتها وعلاقة فوقها بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والارض ان تزولا ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو احسن الالوان واشدها موافقة للبصر وتقوية له حتى ان من اصابه شيء اضر ببصره يؤمر بادمان النظر الى الخضرة وما قرب منها الى السواد وقال الاطباء ان من كل بصره فإنه من دوائه ان يديم الاطلاع الى اجانة خضراء مملؤءة ماء فتأمل كيف جعل اديم السماء بهذا اللون ليمسك الابصار المتقلبة فيه ولا ينكأ فيها بطول مباشرتها له هذا بعض فوائد هذا اللون والحكمة فيه اضعاف ذلك فصل ثم تأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لاقامة دولتي
(1/395)
الليل والنهار ولولا طلوعهما لبطل امر العالم وكيف كان الناس يسعون في معائشهم ويتصرفون في امورهم والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور ثم تأمل الحكمة في غروبهما فإنه لولا غروبهما لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع فرط الحاجة الى السبات وجموم الحواس وانبعاث القوى الباطنة وظهور سلطانها في النوم المعين على هضم الطعام وتنفيذ الغذاء الى الاعضاء ثم لولا الغروب لكانت الارض تحمي بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات فصارت تطلع وقتا بمنزلة السراج يرفع لاهل البيت ليقضوا حوائجهم ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدؤا وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين بهما تمام مصالح العالم وقد اشار تعالى الى هذا المعنى ونبه عباده عليه بقوله عز وجل قل ارأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار
(1/396)
سرمدا الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه افلا تبصرون خص سبحانه النهار بذكر البصر لانه محله وفيه سلطان البصر وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لان سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار لانه وقت هدوء الاصوات وخمود الحركات وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع فقوله افلا تسمعون راجع إلى قوله قل ارايتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء به وقوله أفلا تبصرون راجع الى قوله قل أرايتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة وقال تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد ان يذكر او أراد شكورا فذكر تعالى خلق الليل والنهار وإنهما خلفة أي يخلف احدهما الاخر لا يجتمع معه ولو اجتمع معه لفاتت المصلحة بتعاقبهما واختلافهما وهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار كون كل واحد منهما يخلف الاخر لا يجامعه ولا يحاذيه بل يغشى احدهما صاحبه فيطلبه حثيثا حتىيزيله عن سلطانه ثم يجيء الاخر عقيبه فيطلبه حثيثا حتى يهزمه ويزيله عن سلطانه فهما دائما يتطالبان ولا يدرك احدهما صاحبه
فصل ثم تأمل بعد ذلك احوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لاقامة
(1/397)
هذه الازمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه فلو كان صيفا كله لفاتت منافع مصالح الشتاء ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف وكذلك لو كان ربيعا كله او خريفا كله ففي الشتاء تغور الحرارة في الاجواف وبطون الارض والجبال فتتولد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الارض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الابدان وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر ويتحرك الحيوان للتناسل وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الابدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء وتغور البرودة وتهرب الى الاجواف ولهذا تبرد العيون والابار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الاطعمة الغليظة لانها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون فلما جاء الصيف خرجت الحرارة الى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا يتنقل الحيوان وهلة واحدة من الحر الشديد الى البرد الشديد فيجد اذاه ويعظم ضرره فإذا انتقل اليه بتدريج وترتب لم يصعب عليه فإنه عند كل جزء يستعد لقبول ما هو اشد منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول حكمة بالغة وآية باهرة وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف ينتقل فيه الحيوان من برد هذا الى حر هذا بتدريج وترتيب فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين فصل ثم تأمل حال الشمس والقمر وما اودعاه من النور والاضاءة وكيف
(1/398)
جعل لهما بروجا ومنازل ينزلانها مرحلة بعد مرحلة لاقامة دولة السنة وتمام مصالح حساب العالم الذي لا غناء لهم في مصالحهم عنه فبذلك يعلم حساب الاعمار والاجال المؤجلة للديون والاجارات والمعاملات والعدد وغير ذلك فلولا حلوك الشمس والقمر في تلك المنازل وتنقلهما فيها منزلة بعدمنزلة لم يعلم شيء من ذلك وقد نبه تعالى على هذا في غير موضع من كتابه كقوله هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون وقال تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب فصل ثم تأمل الحكمة في طلوع الشمس على العالم كيف قدره العزيز العليم سبحانه فإنها لو كانت تطلع في موضع من السماء فتقف فيه ولا تعدوه لما وصل شعاعها الى كثير من الجهات لان ظل احد جوانب كرة الارض يحجبها عن الجانب الاخر وكان يكون الليل دائما سرمدا على من لم تطلع عليهم والنهار سرمدا على من هي طالعة عليهم فيفسد هؤلاء وهؤلاء فاقتضت الحكمة الالهية والعناية الربانية ان قدر طلوعها من اول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من الافق الغربي ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي الى الغرب فتشرق على ما استتر عنها في اول النهار فيختلف عندهم الليل والنهار فتنتظم مصالحهم فصل ثم تأمل الحكمة في مقادير الليل والنهار تجدها على غاية
(1/399)
المصلحة والحكمة وان مقدار اليوم والليلة لو زاد على ما قدر عليه او نقص لفاتت المصلحة واختلفت الحكمة بذلك بل جعل مكيالها اربعة وعشرين ساعة وجعلا يتقارضان الزيادة والنقصان بينهما فما يزيد في احدهما من الاخر يعود الاخر فيسترده منه قال الله تعالى يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وفيه قولان احدهما ان المعنى يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك وضياء هذا في مكان ظلمة الاخر فيدخل كل واحد منهما في موضع صاحبه وعلى هذا فهي عامة في كل ليل ونهار والقول الثاني انه يزيد في احدهما ما ينقصه من الاخر فما ينقص منه يلج في الاخر لا يذهب جملة وعلى هذا فالاية خاصة ببعض ساعات كل من الليل والنهار في غير زمن الاعتدال فهي خاصة في الزمان وفي مقدار ما يلج في احدهما من الاخر وهو في الاقاليم المعتدلة غاية ما تنتهي الزيادة خمس عشرة ساعة فيصير الاخر تسع ساعات فإذا زاد على ذلك انحرف ذلك الاقليم في الحرارة او البرودة الى ان ينتهي الى حد لايسكنه الانسان ولا يتكون فيه النبات وكل موضع لا تقع عليه الشمس لا يعيش فيه حيوان ولا نبات لفرط برده ويبسه وكل موضع لاتفارقه كذلك لفرط حره ويبسه والمواضع التي يعيش فيها الحيوان والنبات هي التي تطلع عليها الشمس وتغيب وأعدلها المواضع التي تتعاقب عليها الفصول الاربعة ويكون فيها اعتدالان خريفين وربيعين فصل ثم تأمل إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل والحكمة في ذلك
(1/400)
فإن الله تعالى اقتضت حكمته خلق الظلمة لهدو الحيوان وبرد الهواء على الابدان والنبات فتعادل حرارة الشمس فيقوم النبات والحيوان فلما كان ذلك مقتضى حكمته شاب الليل بشيء من الانوار ولم يجعله ظلمة داجية حندسا لا ضوء فيه اصلا فكان لا يتمكن الحيوان فيه من شيء من الحركة ولا لأعمال ولما كان الحيوان قد يحتاج في الليل الى حركة ومسير وعمل لايتهيأ له بالنهار لضيق النهار او لشدة الحر او لخوفه بالنهار كحال كثير من الحيوان جعل في الليل من اضواء الكواكب وضوء القمر ما يتأتى معه اعمال كثيرة كالسفر والحرث وغير ذلك من اعمال اهل الحروث والزروع فجعل ضوء القمر بالليل معونة للحيوان على هذه الحركات وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض مع نقص ضوئه عن الشمس لئلا يستوى الليل والنهار فتفوت حكمة الاختلاف بينهما والتفاوت الذي قدره العزيز العليم فتأمل الحكمة البالغة والتقدير العجيب الذي اقتضى ان اعان الحيوان على دولة الظلام بجند من النور يستعين به على هذه الدولة المظلمة ولم يجعل الدولة كلها ظلمة صرفا بل ظلمة مشوبة بنور رحمة منه وإحسانا فسبحان من اتقن ما صنع واحسن كل شيء خلقه فصل ثم تأمل حكمته تبارك وتعالى في هذه النجوم وكثرتها وعجيب خلقها وأنها زينة للسماء وأدلة يهتدي بها في طرق البر والبحر وما جعل فيها من الضوء والنور بحيث
(1/401)
يمكننا رؤيتها مع البعد المفرط ولولا ذلك لم يحصل لنا الاهتداء والدلالة ومعرفة المواقيت ثم تأمل تسخيرها منقادة بامر ربها تبارك وتعالى جارية على سنن واحد اقتضتحكمته وعلمه ان لا تخرج عنه فجعل منها البروج والمنازل والثوابت والسيارة والكبار والصغار والمتوسط والابيض الازهر والابيض الاحمر ومنها ما يخفى على الناظر فلا يدركه وجعل منطقة البروج قسمين مرتفعة ومنخفضة وقدر سيرها تقديرا واحدا ونزل الشمس والقمر والسيارات منها منازلها فمنها ما يقطعها في شهر واحد وهو القمر ومنها ما يقطعها في عام ومنها ما يقطعها في عدة اعوام كل ذلك موجب الحكمة والعناية وجعل ذلك اسباب لما يحدثه سبحانه في هذا العالم فيستدل بها الناس على تلك الحوادث التي تقارنها كمعرفتهم بما يكون مع طلوع الثريا إذا طلعت وغروبها إذا سقطت من الحوادث التي تقارنها وكذلك غيرها من المنازل والسيارات ثم تأمل جعله سبحانه بنات نعش وما قرب منها ظاهرة لا تغيب لقربها من المركز ولما في ذلك من الحكمة الالهية وانها بمنزلة الاعلام التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر فهم ينظرون اليها وإلى الجدي والفرقدين كل وقت ارادوا فيهتدون بها حيث شاؤا فصل ثم تأمل اختلاف سير الكواكب وما فيه من العجائب كيف تجد بعضها لا
(1/402)
يسير إلا مع رفقته لا يفرد عنهم سيره ابدا بل لا يسيرون الا جميعا وبعضها يسير سيرا مطلقا غير مقيد برفيق ولا صاحب بل إذا اتفق له مصاحبته في منزل وافقه فيه ليلة وفارقه الليلة الاخرى فبينا تراه ورفيقه وقرينه إذ رايتهما مفترقين متابعدين كأنهما لم يتصاحبا قط وهذه السيارة لها في سيرها سيران مختلفان غاية الاختلاف سير عام يسير بها فلكها وسير خاص تسير هي في فلكها كما شبهوا ذلك بنملة تدب على رحى ذات الشمال والرحى تأخذ ذات اليمين فللنملة في ذلك حركتان مختلفتان الى جهتين متاينتين احداهما بنفسها والاخرى مكرهة عليها تبعا للرحى تجذبها الى غير جهة مقصدها وبذلك يجعل التقديم فيها كل منزلة الى جهة الشرق ثم يسير فلكها وبمنزلتها الى جهة الغرب فسل الزنادقة والمعطلة أي طبيعة اقتضت هذا واي فلك اوجبه وهلا كانت كلها راتبه او منتقلة او على مقدار واحد وشكل واحد وحركة واحدة وجريان واحد وهل هذا الا صنع من بهرت العقول حكمته وشهدت مصنوعاته ومتبدعاته بانه الخالق البارئ المصور الذي ليس كمثله شيء احسن كل شيء خلقه واتقن كل ما صنعه وانه العليم الحكيم الذي خلق فسوى وقدر فهدى وان هذه احدى آياته الدالة عليه وعجائب مصنوعاته الموصلة للأفكار إذا سافرت فيها اليه وأنه خلق مسخر مربوب مدبر ان ربكم الله الذي خلق السموات
(1/403)
والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين فإن قلت فما الحكمة في كون بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا قيل إنها لوكانت كلها راتبة لبطلت الدلالة والحكم التي نشأت من تنقلها في منازلها ومسيرها في بروجها ولو كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف بها ولا رسم يقاس عليها لانه إنما يقاس مسير المتنقلة منها بالراتب كما يقاس مسير السائرين على الارض بالمنازل التي يمرون عليها فلو كانت كلها بحال واحدة لاختلط نظامها ولبطلت الحكم والفوائد والدلالات التي في اختلافها ولتشبث المعطل بذلك وقال لو كان فاعلها ومبدعها مختارا لم تكن على وجه واحد وأمر واحد وقدر واحد فهذا الترتيب والنظام الذي هي عليه من ادل الدلائل على وجود الخالق وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته فصل ثم تامل هذا الفلك الدوار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه وكيف يدور
(1/404)
على هذا العالم هذا الدوران الدائم الى آخر الاجل على هذا الترتيب والنظام وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الارض من اصناف الحيوان والنبات وهل يخفى على ذي بصيرة ان هذا ابداع المبدع الحكيم وتقدير العزيز العليم ولهذا خاطب الرسل امتهم مخاطبة من لا شك عنده في الله وإنما دعوهم الى عبادته وحده لا ألى الاقرار به فقالت لهم أفي الله شك فاطر السموات والارض فوجوده سبحانه وربوبيته وقدرته اظهر من كل شيء على الاطلاق فهو اظهر للبصائر من الشمس للابصار وابين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجدوده فما ينكره الا مكابر بلسانه وقلبه وعقله وفطرته وكلها تكذبه قال تعالى الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وانهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون وفي الارض قطع متجاورات الاية وقال تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات للمؤمنين وفي خلقكم واما يبث من دابة إلى قوله وآياته يؤمنون وقال تعالى خلق السموات بغير عمد ترونها والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وبث فيها من كل دابة الى قوله في ضلال مبين وقال تعالى خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون الى قوله افمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وتأمل كيف وحد سبحانه الاية من قوله هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب الى آخرها وختمها باصحاب الفكرة فاما
(1/405)
توحيد الاية فلأن موضع الدلالة واحد وهو الماء الذي انزله من السماء فاخرج به كلما ذكره من الارض وهو على اختلاف انواعه لقاحه واحد وأمه واحدة فهذا نوع واحد من آياته وأما تخصيصه ذلك بأهل الفكر فلأن هذه المخلوقات التي ذكرها من الماء موضع فكر وهو نظر القلب وتامله لا موضع نظر مجرد بالعين فلا ينتفع الناظر بمجرد رؤية العين حتى ينتقل منه الى نظر القلب في حكمة ذلك وبديع صنعه والاستدلال به على خالقه وباريه وذلك هو الفكر بعينه واما قوله تعالى في الاية التي بعدها ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فجمع الايات لانها تضمنت الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وهي آيات متعددة مختلفة في انفسها وخلقها وكيفياتها فإن إظلام الجو لغروب الشمس ومجيء الليل الذي يلبس العالم كالثوب ويسكنون تحته آية باهرة ثم ورد جيش الضياء يقدمه بشير الصباح فينهزم عسكر الظلام وينتشر الحيوان وينكشط ذلك اللباس بجملته آية اخرى ثم في الشمس التي هي آية النهار آية أخرى وفي القمر الذي هو آية الليل آية اخرى وفي النجوم آيات أخر كما قدمناه هذا مع ما يتبعها من الايات المقارنة لها من الرياح واختلافها وسائر ما يحدثه الله بسببها آيات أخر فالموضع موضع جمع وخص هذه الايات بأهل العقل لانها اعظم مما قبلها وأدل وأكبر والاولى كالباب لهذه فمن استدل بهذه الايات واعطاها حقها من الدلالة استحق من الوصف ما يستحقه صاحب الفكر وهو العقل ولأن منزله المنزلة العقل بعد منزلة الفكر فلما دلهم بالاية الاولى على الفكر نقلهم بالاية الثانية التي هي اعظم منها الى العقل الذي هو فوق الفكر فتأمله فأما قوله في الاية الثالثة إن في ذلك لاية لقوم يذكرون فوحد الاية وخصها بأهل التذكر فأما توحيدها فكتوحيد الاولى سواء فإن ما ذرأ في الارض على اختلافه من الجواهر والنبات والمعادن والحيوان كله في محل واحد فهو نوع من انواع آياته وإن تعددت أصنافه وانواعه واما تخصيصه اياها بأهل
(1/406)
التذكر فطريقة القرآن في ذلك ان يجعل آياته للتبصر والتذكر كما قال تعالى في سورة ق والارض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب فالتبصرة التعقل والتذكرة التذكر والفكر باب ذلك ومدخله فإذا فكر تبصر وإذا تبصر تذكر فجاء التذكير في الاية لترتيبه على العقل المرتب على الفكر فقدم الفكر إذ هو الباب والمدخل ووسط العقل إذ هو ثمرة الفكر ونتيجته وأخر التذكر إذ هو المطلوب من الفكر والعقل فتأمل ذلك حق التأمل فإن قلت فما الفرق بين التذكر والتفكر فإذا تبين الفرق ظهرت الفائدة قلت التفكر والتذكر اصل الهدى والفلاح وهما قطبا السعادة ولهذا وسعنا الكلام في التفكر في هذا الوجه لعظم المنفعة وشدة الحاجة اليه قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها اسماع وابصار فاعلم ان التفكر طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من امر هو حاصل
(1/407)
منها هذا حقيقته فإنه لو لم يكن ثم مراد يكون موردا للفكر استحال الفكر لان الفكر بغير متعلق متفكر فيه محال وتلك المواد هي الامور الحاصلة ولو كان المطلوب بها حاصلا عنده لم يتفكر فيه فإذا عرف هذا فالمتفكر ينتقل من المقدمات والمبادي التي عنده الى المطلوب الذي يريده فإذا ظفر به وتحصل له تذكر به وابصر مواقع الفعل والترك وما ينبغي ايثاره وما ينبغي اجتنابه فالتذكر هو مقصود التفكر وثمرته فإذا تذكر عاد بتذكرة على تفكره فاستخرج ما لم يكن حاصلا عنده فهو لا يزال يكرر بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره ما دام عاقلا لان العلم والارادة لا يقفان على حد بل هو دائما سائر بن العلم والارادة وإذا عرفت معنى كون آيات الرب تبارك وتعالى تبصرة وذكرى يتبصر بها من عمى القلب ويتذكر بها من غفلته فان المضاد للعلم اما عمى القلب وزواله بالتبصر وإما غفلته وزواله بالتذكر والمقصود تنبيه القلب من رقدته بالاشارة الى شيء من بعض آيات الله ولو ذهبنا نتتبع ذلك لنفذ الزمان ولم نحط بتفصيل واحدة من آياته على التمام ولكن مالا يدرك جملة لا يترك جملة واحسن ما انفقت فيه الانفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه والانتقال منها الى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته فلذلك عقدنا هذه الكتاب على هذين الاصلين إذ هما افضل ما يكتسبه العبد في هذه الدار فصل فسل المعطل الجاحد ما تقول في دولاب دائر على نهر قد احكمت
(1/408)
آلاته وأحكم تركيبه وقدرت ادواته احسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ولا في صورته وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل انواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها وفي تلك الحديقة من يلم شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به ويقسمه هكذا على الدوام اترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا قيم ولا مدبر أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان وما الذي يفتيك به وما الذي يرشدك اليه ولكن من حكمة العزيز الحكيم ان خلق قلوبا عميا لا بصائر لها فلا ترى هذه الايات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية كما خلق اعينا لا أبصار لها والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره وهي لا تراها فما ذنبها ان انكرتها وجحدتها فهي تقول في ضوء النهار هذا ليل ولكن اصحاب الاعين لا يعرفون شيئا ولقد احسن القائل وهبني قلت هذا الصبح ليل ايعمى العالمون عن الضياء فصل ثم تأمل الممسك للسموات والارض الحافظ لهما ان تزولا او تقعا او يتعطل بعض ما فيهما افترى من الممسك لذلك ومن القيم بأمره ومن المقيم له فلو تعطل بعض آلات هذا الدولاب العظيم والحديقة العظيمة من كان يصلحه وماذا كان عند الخلق كلهم من الحيلة في رده كما كان فلو امسك عنهم قيم السموات والارض الشمس فجعل عليهم الليل سرمدا من الذي كان يطلعها عليهم ويأتيهم بالنهار ولو حبسها في الافق ولم يسيرها فمن ذا الذي كان يسيرها وياتيهم بالليل ولو ان السماء والارض زالتا فمن ذا الذي كان يمسكها من بعده فصل ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد وقيام الحيوان
(1/409)
والنبات عليهما وفكر في دخول احدهما على الاخر بالتدريح والمهلة حتى يبلغ نهايته ولو دخل عليه مفاجاة الأضر ذلك بالابدان وأهلكها وبالنبات كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة الى مكان مفرط في البرودة ولولا العناية والحكمةوالرحمة والاحسان لما كان ذلك فإن قلت هذا التدريج والمهلة إنما كان لابطاء سير الشمس في ارتفاعها وانخفاضها قيل لك فما السبب في ذلك الانخفاض والارتفاع فإن قلت السبب في ذلك بعدالمسافة من مشارقها ومغاربها قيل لك فما السبب في بعد المسافة ولا تزال المسالة متوجهة عليك كما عينت سببا حتى تفضي بك الى احد امرين إما مكابرة ظاهرة ودعوى ان ذلك اتفاق من غير مدبر ولا صانع وإما الاعتراف برب العالمين والاقرار بقيوم السموات والارضين والدخول في زمرة اولى العقل من العالمين ولن تجد بين القسمين واسطة ابدا فلا تتعب ذهنك بهذيانات الملحدين فانها عند من عرفها من هوس الشياطين وخيالات المبطلين وإذا طلع فجر الهدى واشرقت النبوة فعساكر تلك الخيالات والوساوس في أول المنهزمين والله متم نوره ولو كره الكافرون فصل ثم تأمل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور فانها لو كانت ظاهرة ابدا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة ولو كانت كامنة لا تظهر ابدا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها فاقتضت حكمة العزيز العليم ان جعلها مخزونة في الاجسام يخرجها ويبقيها الرجل عند حاجته اليها فيمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه فلا يزال حابسها ما احتاج الى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت باذن ربها وفاطرها فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها فسبحان من سخرها وانشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع
(1/410)
والسلامة من الضرر قال تعالى أفرايتم النار التي تورون الى قوله فسبح باسم ربك العظيم فسبحان ربنا العظيم لقد تعرف الينا بآياته وشفانا ببيناته واغنانا بها عن دلالات العالمين فاخبر سبحانه انه جعلها تذكرة بنار الاخرة فنستجير منها ونهرب اليه منها ومتاعا للمقوين وهم المسافرون النازلون بالقواء والقواء هي الارض الخالية وهم احوج الى الانتفاع بالنار للاضاءة والطبخ والخبز والتدفي والانس وغير ذلك فصل ثم تأمل حكمته تعالى في كونه خص بها الانسان دون غيره من الحيوانات فلا حاجة بالحيوان اليها بخلاف الانسان فإنه لو فقدها لعظم الداخل عليه في معاشه ومصالحه وغيره من الحيوانات لا يستعملها ولايتمتع بها وننبه من مصالح النار على خلة صغيرة القدر عظيمة النفع وهي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به من حوائجهم ما شاؤا من ليلهم ولو هذه الخلة لكان الناس نصف اعمارهم بمنزلة اصحاب القبور فمن كان يستطيع كتابة او خياطة او صناعة او تصرفا في ظلمة الليل الداجي وكيف كانت تكون حال من عرض له وجع في وقت من الليل فاحتاج الى ضياء او دواء او استخراج دم او غير ذلك ثم انظر الى ذلك النور المحمول في ذبالة المصباح على صغر جوهره كيف يضيء ما حولك كله فترى به القريب والبعيد ثم انظر الى انه لو اقتبس منه كل من يفرض او يقدر من خلق الله كيف لا يفنى ولا ينفذ ولا يضعف وأما منافع النار في انضاج الاطعمة والادوية وتجفيف مالا ينتفع الا بجفافه وتحليل مالا ينتفع الا بتلحيله وعقد مالا ينتفع الا بعقده وتركيبه فأكثر من ان يحصى ثم تأمل ما اعطيته النار من الحركة الصاعدة بطبعها الى العلو فلولا المادة تمسكها لذهبت صاعدة كما ان الجسم الثقيل لولا الممسك يمسكه لذهب نازلا فمن اعطى هذا القوة التي يطلب بها الهبوط الى مستقره واعطى هذه القوة التي تطلب بها الصعود الى مستقرها وهل ذلك الا بتقدير العزيز العليم
(1/411)
فصل ثم تامل هذا الهواء وما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الابدان والممسك لها من داخل بما تستنشق منه ومن خارج بما تباشر به من روحه فتتغذى به ظاهرا وباطنا وفيه تطرد هذه الاصوات فتحملها وتؤديها للقريب والبعيد كالبريد والرسول الذي شأنه حمل الاخبار والرسائل وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع الى موضع فتأتي العبد الرائحة من حيث تهب الريح وكذلك تأتيه الاصوات وهو ايضا الحامل للحر والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات وتأمل منفعة الريح وما يجري له في البر والبحر وما هيئت له من الرحمة
(1/412)
والعذاب وتأمل كم سخر للسحاب من ريح حتى امطر فسخرت له المثيرة اولا فتثيره بين السماء والارض ثم سخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الراوية ثم سخرت له المؤلفة فتؤلف بين كسفه وقطعه ثم يجتمع بعضها الى بعض فيصير طبقا واحدا ثم سخرت له اللاقحة بمنزلة الذكر الذي يلقح الانثى فتلقحه بالماء ولولاها لكان جهاما لا ماء فيه ثم سخرت له المزجية التي تزجيه وتسوقه الى حيث أمر فيفرغ ماءه هنالك ثم سخرت له بعد اعصاره المفرقة التي تبثه وتفرقه في الجو فلا ينزل مجتمعا ولو نزل جملة لأهلك المساكن والحيوان والنبات بل تفرقه فتجعله قطرا وكذلك الرياح التي تلقح الشجر والنبات ولولاها لكانت عقيما وكذلك الرياح التي تسير السفن ولولاها لوقفت على ظهر البحر ومن منافعها انها تبرد الماء وتضرم النار التي يراد اضرامها وتجفف الاشياء التي يحتاج الى جفافها وبالجملة فحياة ما على الارض من نبات وحيوان بالرياح فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوي النبات ومات الحيوان وفسدت المطاعم وأنتن العالم وفسد الا ترى اذا ركدت الرياح كيف يحدث الكرب والغم الذي لو دام لأتلف النفوس واسقم الحيوان وامرض الاصحاء وانهك المرضى وافسد الثمار وعفن الزرع واحدث الوباء في الجو فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته ولطفه ونعمته كما قال النبي في الرياح إنها من روح الله تأتي بالرحمة وتنبه للطيفة في هذا الهواء وهي ان الصوت اثر يحدث عند اصطكاك الاجرام وليس نفس الاصطكاك كما قال ذلك من قاله ولكنه موجب الاصطكاك وقرع الجسم للجسم او قلعة عنه فسببه قرع او قلع فيحدث الصوت فيحمله الهواء ويؤديه الى ما مع الناس فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنهار وتحدث الاصوات العظيمة من حركاتهم فلو كان اثر هذه الحركات والاصوات يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه ولعظم الضرر به واشتدت مؤنته واحتاج الناس الى محوه من
(1/413)
الهواء والاستبدال به اعظم من حاجتهم الى استبدال الكتاب المملوء كتابة فان ما يلقى من الكلام في الهواء اضعاف ما يوضع في القرطاس فاقتضت حكمة العزيز الحكيم ان جعل هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم يمحي باذن ربه فيعود جديدا نقيا لا شيء فيه فيحمل ما حمل كل وقت فصل ثم تأمل خلق الارض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والامتعة ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدوهم والتمكن من اعمالهم ولو كان رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوا ولا ثبت لهم عليها بناء ولا امكنهم عليها صناعة
(1/414)
ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة وكيف كانوا يتهنون بالعيش والارض ترتج من تحته واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم الى ترك منازلهم والهرب عنها وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وقوله تعالى الله الذي جعل لكم الارض قرارا وقوله الله الذي جعل لكم الارض مهدا وفي القراءة الاخرى مهادا وفي جامع الترمذي وغيره من حديث انس بن مالك عن النبي قال لما خلق الله الارض جعلت تميد فخلق الجبال عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال فقالوا يا رب هل من خلقك شيء اشد من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الحديد قال نعم النار قالوا يا رب فهل من خلقك شيء اشد من النار قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شيء اشد من الريح قال نعم ابن آدم يتصدق صدقة بيمينه يخفيها عن شماله ثم تأمل الحكمة البالغة في ليونة الارض مع يبسها فانها لو افرطت في اللين كالطين لم يستقر عليها بناء ولا حيوان ولا تمكنا من الانتفاع بها ولو افرطت في اليبس كالحجر لم يمكن حرثها ولا زرعها ولا شقها وفلحها ولا حفر عيونها ولا البناء عليها فنقصت عن يبس الحجارة وزادت على ليونة الطين فجاءت بتقدير فاطرها على احسن ما جاء عليه مهاد للحيوان من الاعتدال بين اللين واليبوسة فتهيأ عليها جميع المصالح فصل ثم تأمل تأمل الحكمة البالغة في ان جعل مهب الشمال عليها ارفع
(1/415)
من مهب الجنوب وحكمة ذلك ان تتحدر المياه على وجه الارض فتسقيها وترويها ثم تفيض فتصب في البحر فكما ان الباني إذا رفع سطحا رفع احد جانبيه وخفض الاخر ليكون مصبا للماء ولو جعله مستويا لقام عليه الماء فافسده كذلك جعل مهب الشمال في كل بلد ارفع من مهب الجنوب ولولا ذلك لبقي الماء واقفا على وجه الارض فمنع الناس من العمل والانتفاع وقطع الطرق والمسالك واضر بالخلق افيحسن عند من له مسكة من عقل ان يقول هذا كله اتفاق من غير تدبير العزيز الحكيم الذي اتقن كل شيء فصل ثم تأمل الحكمة العجيبة في الجبال الذي يحسبها الجاهل الغافل فضلة في الارض لا حاجة اليها وفيها من المنافع مالا يحصيه الا خالقها وناصبها وفي حديث إسلام ضمام بن ثعلبة قوله للنبي بالذي نصب الجبال واودع فيها المنافع آلله امرك بكذا وكذا قال اللهم نعم فمن منافعها ان الثلج يسقط عليها فيبقى في قللها حاصلا لشراب الناس الى حين نقاذه وجعل
(1/416)
فيها ليذوب اولا فأولا فتجيء منه السيول الغزيرة وتسيل منه الانهار والاودية فينبت في المروج والوهاد والربا ضروب النبات والفواكه والادوية التي لا يكون مثلها في السهل والرمل فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الارض فانحل جملة وساح دفعة فعدم وقت الحاجة اليه وكان في انحلاله جملة السيول التي تهلك ما مرت عليه فيضر بالناس ضررا لا يمكن تلافيه ولا دفعه لاذيته من منافعها ما يكون في حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل التي منزلة الحصون والقلاع وهي ايضا اكنان للناس والحيوان ومن منافعها ما ينحت من احجارها للأبينة على اختلاف اصنافها والارحية وغيرها ومن منافعها ما يوجد فيها من المعادن على اختلاف اصنافها من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزبرجد والزمرد واضعاف ذلك من انواع المعادن الذي يعجز البشر عن معرفتها على التفصيل حتى ان فيها ما يكون الشيء اليسير منه تزيد قيمته ومنفعته على قيمة الذهب باضعاف مضاعفة وفيها من المنافع مالا يعلمه الا فاطرها ومبدعها سبحانه ومن منافعها ايضا انها ترد الرياح العاصفة وتكسر حدتها فلا تدعها تصدم ما تحتها ولهذا فالساكنون تحتها في امان من الرياح العظام المؤذية ومن منافعها ايضا انها ترد عنهم السيول إذا كانت في مجاريها فتصرفها عنهم ذات اليمين وذات الشمال ولولاها خربت السيول في مجاريها ما مرت به فتكون لهم بمنزلة السد والسكن ومن منافعها انها أعلام يستدل بها في الطرقات فهي منزلة الادلة المنصوبة المرشدة الى الطرق ولهذا سماها الله أعلاما فقال ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام فالجواري هي السفن والاعلام الجبال واحدها علم قالت الخنساء وأن صخرا لتأتم الهداة به كانه علم في راسه نار فسمى الجبل علما من العلامة والظهور ومن منافعها ايضا ما ينبت فيها من العقاقير والادوية التي لا تكون في السهول والرمال كما ان ما ينبت في السهول والرمال لا ينبت مثله في الجبال وفي كل
(1/417)
من هذا وهذا منافع وحكم لا يحيط به الا الخلاق العليم ومن منافعها انها تكون حصونا من الاعداء يتحرز فيها عباد الله من اعدائهم كما يتحصنون بالقلاع بل تكون أبلغ وأحصن من كثير من القلاع والمدن ومن منافعها ما ذكره الله تعالى في كتابه ان جعلها للأرض اوتادا تثبتها ورواسي بمنزلة مراسي السفن واعظم بها من منفعة وحكمة هذا وإذا تأملت خلقتها العجيبة البديعة على هذا الوضع وجدتها في غاية المطابقة للحكمة فانها لو طالت واستدفت كالحائط لتعذر الصعود عليها والانتفاع بها وسترت عن الناس الشمس والهواء فلم يتمكنوا من الانتفاع بها ولو بسطت على وجه الارض لضيقت عليهم المزارع والمساكن ولملأت السهل ولما حصل لهم بها الانتفاع من التحصن والمغارات والاكنان ولما سترت عنهم الرياح ولما حجبت السيول
(1/418)
ولو جعلت مستديرة شكل الكرة لم يتمكنوا من صعودها ولما حصل لهم بها الانتفاع التام فكان اولى الاشكال والاوضاع بها واليقها واوقعها على وفق المصلحة هذا الشكل الذي نصبت عليه ولقد دعانا الله سبحانه في كتابه الى النظر فيها وفي كيفية خلقها فقال أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت فخلقها ومنافعها من اكبر الشواهد على قدره باريها وفاطرها وعلمه وحكمته ووحدانيته هذا مع انها تسبح بحمده وتخشع له وتسجد وتشقق وتهبط من خشيته وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها على شدتها وعظم خلقها من الامانة إذ عرضها عليها واشفقت من حملها ومنها الجبل الذي كلم الله عليه موسى كليمه ونجيه ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك ومنها الجبل الذي حبب الله رسوله واصحابه اليه واحبه رسول الله وأصحابه ومنها الجبلان اللذان جعلهما الله سورا على نبيه وجعل الصفا في ذيل احدهما والمروة في ذيل الاخر وشرع لعباده السعي بينهما وجعله من مناسكهم وتعبداتهم ومنها جبل الرحمة المنصوب عليه ميدان عرفات فلله كم به من ذنب مغفور وعثرة مقالة وزلة معفو عنها وحاجة مقضية وكربة مفروجة وبلية مرفوعة ونعمة متجددة وسعادة مكتسبة وشقاوة ممحوة كيف وهو الجبل المخصوص بذلك الجمع الاعظم والوفد الاكرم الذين جاؤا من كل فج عميق وقوفا لربهم مستكينين لعظمته خاشعين لعزته شعثا غبرا حاسرين عن رؤسهم يستقبلوله عثراتهم ويسألونه حاجاتهم فيدنو منهم ثم يباهي بهم الملائكة فلله ذاك الجبل وما ينزل عليه من الرحمة والتجاوز عن الذنوب العظام ومنها جبل حراء الذي كان رسول الله يخلو فيه بربه حتى اكرمه الله برسالته وهو في غارة فهو الجبل الذي فاض منه النور على اقطار العالم فإنه ليفخر على الجبال وحق له ذلك فسبحان من اختص برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرجال فجعل منها جبالا هي مغناطيس القلوب كأنها مركبة منه فهي تهوى اليها كلما ذكرتها
(1/419)
=======================
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
مفتاح دار السعادة 2
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مفتاح دار السعادة
وتهفو نحوها كما اختص من الرجال من خصه بكرامته وأتم عليه نعمته ووضع عليه محبته منه فأحبه وحببه الى ملائكته وعباده المؤمنين ووضع له القبول في الارض بينهم وإذا تأملت البقاع وجدتها تشقى كما تشقى الرجال وتسعد فدع عنك الجبل الفلاني وجبل بني فلان وجبل كذا خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل هذا وانها لتعلم ان لها موعدا ويما تنسف فيها نسفا وتصير كالعهن من هوله وعظمه فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له وكانت ام الدرداء رضى الله عنها إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لمن معها اسمعت الجبال ما وعدها ربها فيقال ما اسمعها فتقول ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا امتا فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته وقد اخبر عنها فاطرها باريها انه لو انزل عليها كلامه لخشعت ولتصدعت من خشية الله في عجبا من مضغة لحم اقسى من هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويذكر الرب تبارك وتعالى فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب فليس بمستنكر على الله عز وجل ولا يخالف حكمته ان يخلق لها نارا تذيبها إذ لم تلن بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه فمن لم يلن لله في هذه الدار قلبه ولم ينب اليه ولم يذبه بحبه والبكاء من خشيته فليتمتع قليلا فان امامه الملين الاعظم وسيرد الى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم فصل ولما اقتضت حكمته تبارك وتعالى ان جعل من الارض السهل والوعر
(1/420)
والجبال والرمل لينتفع بكل ذلك في وجهه ويحصل منه ما خلق له وكانت الارض بهذه المثابة لزم من ذلك ان صارت كالأم التي تحمل في بطنها انواع الاولاد من كل صنف ثم تخرج الى الناس والحيوان من ذلك ما اذن لها فيه ربها ان تخرجه اما بعلمهم وإما بدونه ثم يرد اليها ما خرج منها وجعلها سبحانه كفاتا فلأحياء ما داموا على ظهرها فإذا ماتوا استودعتهم في بطنها فكانت كفاتا لهم تضمهم على ظهرها احياء وفي بطنها امواتا فإذا كان يوم الوقت المعلوم وقد اثقلها الحمل وحان وقت الولادة ودنو المخاض اوحى اليها ربها وفاطرها ان تضع حملها وتخرج اثقالها فتخرج الناس من بطنها الى ظهرها وتقول رب هذا ما استودعتني وتخرج كنوزها باذنه تعالى ثم تحدث اخبارها وتشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير وشر فصل ولما كانت الرياح تجول فيها وتدخل في تجاويفها وتحدث فيها الابخرة وتخفق الرياح ويتعذر عليها المنفذ اذن الله سبحانه لها في الاحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازال العظام فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والانابة والاقلاع عن معاصيه والتضرعاليه والندم كما قال بعض السلف وقد زلزلت الارض ان ربكم يستعتبكم وقال عمر بن الخطاب وقد زلزلت المدينة فخطبهم ووعظهم وقال لئن عادت لا اساكنكم فيها فصل ثم تأمل حكمة الله عز وجل في عزة هذين النقدين الذهب والفضة وقصور خيرة العالم عما حاولوا من صنعتهما والتشبه بخلق الله اياهما مع شدة حرصهم وبلوغ اقصى جهدهم واجتهادهم في ذلك فلم يظفروا بسوى الصنعة ولو مكنوا ان يصنعوا مثل ما خلق الله من ذلك لفسد امر العالم واستفاض الذهب والفضة في الناس حتى صار
(1/421)
كالسعف والفخار وكانت تتعطل المصلحة التي وضعا لاجلها وكانت كثرتهما جدا سبب تعطل الانتفاع بهما فانه لا يبقى لهما قيمة ويبطل كونهما قيما لنفائس الاموال والمعاملات وارزاق المقاتلة ولم يتسخر بعض الناس لبعض إذ يصير الكل ارباب ذهب وفضة فلو اغنى خلقه كلهم لأفقرهم كلهم فمن يرضى لنفسه بامتهانها في الصنائع التي لا قوام للعالم الا بها فسبحان من جعل عزتهما سبب نظام العالم ولم يجعلهما في العزة كالكبريت الاحمر الذي لا يوصل اليه فتفوت المصلحة بالكلية بل وضعهما وانبتهما في العالم بقدر اقتضه حكمته ورحمته ومصالح عباده وقرأت بخط الفاضل جبريل بن روح الانباري قال اخبرني بعض من تداول المعادن انهم اوغلوا في طلبها الى بعض نواحي الجبل فانتهوا الى موضع وإذا فيه امثال الجبال من الفضة ومن دون ذلك واد يجرى متصلبا بماء غزير لا يدرك ولا حيلة في عبوره فانصرفوا الى حيث يعملون ما يعبرون به فلما هيئوه وعادوا راموا طريق النهر فما وقفوا له على اثر ولا عرفوا الى اين يتوجهون فانصرفوا آيسين وهذا احد ما يدل على بطلان صناعة الكيمياء وانها عند التحقيق زغل وصبغة لا غير وقد ذكرنا بطلانها وبينا فسادها من اربعين وجها في رسالة مفردة والمقصود ان حكمة الله تعالى اقتضت عزة هذين الجوهرين وقتلهما بالنسبة الى الحديد والنحاس والرصاص لصلاح امر الناس واعتبر ذلك بأنه إذا ظهر الشيء الظريف المستحسن مما يحدثه الناس من الامتعة كان نفيسا عزيزا ما دام فيه قلة وهو مرغوب فيه فإذا فشى وكثر في ايدي الناس وقدر عليه الخاص والعام سقط عندهم وقلت رغباتهم فيه ومن هذا قول القائل نفاسه الشيء من عزته ولهذا كان ازهد الناس في العالم اهله وجبرانه وارغبهم فيه البعداء عنه
فصل وتأمل الحكمة البديعة في تيسيره سبحانه على عباده ما هم احوج
(1/422)
اليه وتوسيعه وبذلك بذلهفكلما كانوا احوج اليه كان اكثر واوسع وكلما استغنوا عنه كان اقل وإذا توسطت الحاجة توسط وجوده فلم يكن بالعام ولا بالنادر على مراتب الحاجات وتفاوتها فاعتبر هذا بالاصول الاربعة التراب والماء والهواء والنار وتأمل سعة ما خلق الله منها وكثرته فتأمل سعة الهواء وعمومه ووجوده بكل مكان لأن الحيوان مخلوق في البر لايمكنه الحياة إلا به فهو معه أينما كان وحيث كان لانه لا يستغنى عنه لحظه واحدة ولولا كثرته وسعته وامتداده في اقطار العالم لاختنق العالم من الدخان والبخار المتصاعد المنعقد فتأمل حكمة ربك في ان سخر له الرياح فإذا تصاعد الى الجو احالته سحابا او ضبابا فأذهبت عن العالم شره وأذاه فسل الجاحد من الذي دبر هذا التدبير وقدر هذا التقدير وهل يقدر العالم كلهم لو اجتمعوا ان يحيلوا ذلك ويقلبوه سحابا او ضبابا او يذهبوه عن الناس ويكشفوه عنهم ولو شاء ربه تعالى لحبس عنه الرياح فاختنق على وجه الارض فأهلك ما عليها من الحيوان والناس فصل ومن ذلك سعة الارض وامتدادها ولولا ذلك لضاقت عن مساكن الانس
(1/423)
والحيوان وعن مزارعهم ومراعيهم ومنابت ثمارهم واعشابهم فان قلت فما حكمة هذه القفار الخالية والفلوات الفارغة الموحشة فاعلم ان فيها معايش مالا يحصيه الا الله من الوحوش والدواب وعليها ارزاقهم وفيها مطردهم ومنزلهم كالمدن والمساكن للانس وفيها مجالهم ومرعاهم ومصيفهم ومشتهاهم ثم فيها بعد متسع ومتنفس للناس ومضطرب إذا احتاجوا الى الانتقال والبدو والاستبدال بالاوطان فكم من بيداء سملق صارت قصورا وجنانا ومساكن ولولا سعة الارض وفسحها لكان اهلها كالمحصورين والمحبوسين في أماكنهم لا يجدون عنها انتقالا إذا فدحهم ما يزعجهم عنها ويضطرهم الى النقلة منها وكذلك الماء لولا كثرته وتدفقه في الاودية والانهار لضاق عن حاجة الناس اليه ولغلب القوى الضعيف واستبد به دونه فيحصل الضرر وتعظم البلية مع شدة حاجة جميع الحيوان اليه من الطير والوحوش والسباع فاقتضت الحكمة ان كان بهذه الكثرة والسعة في كل وقت وأما النار فقد تقدم ان الحكمة اقتضت كموتها متى شاء العبد اوراها عند الحاجة فهي وان لم تكن مبثوثة في كل مكان فانها عتيدة حاصلة متى احتيج اليها واسعة لكل ما يحتاج اليه منها غير انها مودعة في أجسام جعلت معادن لها للحكمة التي تقدمت فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الارض من علو ليعم
(1/424)
بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما اتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر وفي ذلك فساد فاقتضت حكمته ان سقاها من فوقها فينشيء سبحانه السحاب وهي روايا الارض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الانثى ولهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الامطار وإذا بعدت من البحر قل مطرها وفي هذا المعنى يقول الشاعر يصف السحاب شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئبج وفي الموطأ مرفوعا وهو احد الاحاديث الاربعة المقطوعة إذا نشأت سحابة بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة فالله سبحانه ينشيء الماء في السحاب إنشاء تارة يقلب الهواء ماء وتارة يحمله الهواء من البحر فيلقح به السحاب ثم ينزل منه على الارض للحكم التي ذكرناها ولو انه ساقه من البحر الى الارض جاريا على ظهرها لم يحصل عموم السقي الا بتخريب كثير من الارض ولم يحصل عموم السقي لأجزائها فصاعدة سبحانه الى الجو بلطفه وقدرته ثم انزله على الارض بغاية من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها فأنزله ومعه رحمته على الارض فصل ثم تأمل الحكمة البا لغة في إنزاله بقدر الحاجة حتى إذا اخذت
(1/425)
الارض حاجتها منه وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها اقلع عنها واعقبه بالصحو فهما اعني الصحو والغيم يعتقبان على العالم لما فيه صلاحه ولو دام احدهما كان فيه فساده فلو توالت الامطار لاهلكت ما علي الارض ولو زادت على الحاجة افسدت الحبوب والثمار وعفنت الزروع والخضروات وأرخت الابدان وحشرت الهواء فحدثت ضروب من الامراض وفسد اكثر المآكل وتقطعت المسالك والسبل ولو دام الصحو لجفت الابدان وغيض الماء وانقطع معين العيون والابار والانهار والاودية وعظم الضرر واحتدم الهواء فيبس ما على الارض وجفت الابدان وغلب اليبس واحدث ذلك ضروبا من الامراض عسرة الزوال فاقتضت حكمة اللطيف الخبير ان عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم فاعتدل الامر وصح الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الاخر واستقام امر العالم وصلح فصل ثم تأمل الحكمة الالهية في اخراج الاقوات والثمار والحبوب
(1/426)
والفواكه متلاحقة شيئا بعد شيء متتابعة ولم يخلقها كلها جملة واحدة فانها لو خلقت كذلك على وجه الارض ولم تكن تنبت على هذه السوق والاغصان لدخل الخلل وفاتت المصالح التي رتبت على تلاحقها وتتابعها فإن كل فصل واوان يقتضى من الفواكه والنبات غير ما يتقضيه الفصل الاخر فهذا حار وهذا بارد وهذا معتدل وكل في فصله موافق للمصلحة لا يليق به غير ما خلق فيه ثم انه سبحانه خلق تلك الاقوات مقارنة لمنافع اخر من العصف والخشب والورق والنور والعسف والكرب وغيرها من منافع النبات والشجر غير الاقوات كعلف البهائم وأداة الابنية والسفن والرحال والاواني وغيرها ومنافع النور من الادوية والمنظر البهيج الذي يشوق الناظرين وحسن مرائي الشجر وخلقتها البديعة المشاهدة لفاطرها ومبدعها بغاية الحكمة واللطف ثم إذا تأملت إخراج ذلك النور البهي من نفس ذلك الحطب ثم الورق الاخضر ثم اخراج تلك الثمار على اختلاف أنواعها وأشكالها ومقاديرها وألوانها وطعومها وروائحها ومنافعها وما يراد منها ثم تأمل اين كانت مستودعة في تلك الخشبة وهاتيك العيدان وجعلت الشجرة لها كالام
(1/427)
فهل كان في قدرة الاب العاجز الضعيف إبراز هذا التصوير العجيب وهذا التقدير المحكم وهذه الاصباغ الفائقة وهذه الطعوم اللذيذة والروائح الطيبة وهذه المناظر العجيبة فسل الجاحد من تولى تقدير ذلك وتصيره وإبرازه وترتيبه شيئا فشيئا وسوق الغذاء اليه في تلك العروق اللطاف التي يكاد البصر يعجز عن إدراكها وتلك المجاري الدقاق فمن الذي تولى ذلك كله ومن الذي اطلع لها الشمس وسخر لها الرياح وأنزل عليها المطر ودفع عنها الافات وتامل تقدير اللطيف الخبير فإن الاشجار لما كانت تحتاج الى الغذاء الدائم كحاجة الناس وسائر الحيوان ولم يكن لها قوة أفواه كافواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اصولها مركوزة في الارض ليسرع بها الغذاء وتمتصه من اسفل الثرى فتؤديه الى أغصانها فتؤديه الاغصان الى الورق والثمر كل له شرب معلوم لا يتعداه يصل اليه في مجاري وطرق قد احكمت غاية الاحكام فتأخذ الغذاء من اسفل فتلقمه بعروقها كما يلتقم الحيوان غذاءه بفمه ثم تقسمه على حملها بحسب ما يحتمله فتعطى كل جزء منه بحسب ما يحتاج اليه لا تظلمه ولا تزيده على قدر حاجته فسل الجاحد من اعطاها هذا ومن هداها اليه ووضعه فيها فلو اجتمع الاولون والاخرون هل كانت قدرتهم وإرادتهم تصل الى تربية ثمرة واحدة منها هكذا باشارة او نصاعة او حيلة او مزاولة وهل ذلك الا من صنع من شهدت له مصنوعاته دلت عليه آياته كما قيل : فواعجبا كيف يعصى الاله ام كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكه وتسكينه ابدا شاهد وفي كل شيء له آية تدل على انه واحد فصل ثم تأمل إذا نصبت خيمة او فسطاطا كيف تمده من كل جانب
(1/428)
بالاطناب ليثبت فلا يسقط ولا يتعوج هكذا تجد النبات والشجر له عروق ممتدة في الارض منتشرة الى كل جانب لتمسكه وتقيمه وكلما انتشرت أعاليه امتدت عروقه واطنابه من اسفل في الجهات ولولا ذلك كيف كانت تثبت هذه النخيل الطوال الباسقات والدوح العظام على الرياح العواصف وتأمل سبق الخلق الالهية للصناعة البشرية حتى يعلم الناس نصب الخيم والفساطيط من خلقه للشجر والنبات لان عروقها اطناب لها كأطناب الخيمة واغصان الشجر يتخذ منها الفساطيط ثم يحاكى بها الشجرة فصل ثم تأمل الحكمة في خلق الورق فإنك ترى في الورقة الواحدة من جملة العروق الممتدة فيها المبثوثة فيها ما يبهر الناظر فمنها غلاظ ممتدة في الطول والعرض ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجبا لو كان مما يتولى البشر صنع مثله بأيديهم لما فرغوا من ورقة في عام كامل ولاحتاجوا فيه الى آلات وحركات وعلاج تعجز قدرتهم عن تحصيله فبث الخلاق العليم في أيام قلائل من ذلك ما يملأ الارض سهلها وجبالها بلا آلات ولا معين ولا معالجة ان هي إلا ارادته النافذة في كل شيء وقدرته التي لا يمتنع منها شيء إنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون فتأمل الحكمة في تلك العروق المتخللة الورقة باسرها لتسقيها وتوصل اليها المادة فتحفظ عليها حياتها ونضارتها بمنزلة العروق المبثوثة في الابدان التي توصل الغذاء الى كل جزء منه وتأمل ما في العروق الغلاظ من إمساكها الورق بصلابتها ومتانتها لئلا تتمزق وتضمحل فهي بمنزلة الاعصاب لبدن الحيوان فتراها قد أحكمت صنعتها ومدت العروق في طولها وعرضها لتتماسك فلا يعرض لها التمزق فصل ثم تأمل حكمة اللطيف الخبير في كونها جعلت زينة للشجر وسترا
(1/429)
ولباسا للمثرة ووقاية لها من الافات التي تمنع كمالها ولهذا إذا جردت الشجرة عن ورقها فسدت الثمرة ولم ينتفع بها وانظر كيف جعلت وقاية لمنبت الثمرة الضعيفة من اليبس فإذا ذهبت الثمرة بقي الورق وقاية لتلك الافنان الضعيفة من الحر حتى إذا طفئت تلك الجمرة ولم يضر الافنان عراها من ورقها وسلبها إياه لتكتسى لباسا جديدا احسن منه فتباركا لله رب العالمين الذي يعلم مساقط تلك الاوراق ومنابتها فلا تخرج منها ورقة الا باذنه ولا تسقط الا بعلمه ومع هذا فلو شاهدها العبادعلى كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والافنان والاشجار لشاهدوا من جمالها امرا آخر ولراوا خلقتها بعين اخرى ولعلموا انها لشأن عظيم خلقت وأنها لم تخلق سدى قال تعالى والنجم والشجر يسجدان فالنجم ما ليس له ساق من النبات والشجر ماله ساق وكلها ساجدة لله مسبحة بحمده وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ولعلك ان تكون ممن غلظ حجابه فذهب الى ان التسبيح دلالتها على صانعها فقط فاعلم ان هذا القول يظهر بطلانه من اكثر من ثلاثين وجها قد ذكرنا اكثرها في موضع آخر وفي أي لغة تسمى الدلالة على الصانع تسبيحا وسجودا وصلاة وتاويبا وهبوطا من خشيته كما ذكر تعالى ذلك في كتابه فتارة يخبر عنها بالتسبيح وتارة بالسجود وتارة بالصلاة كقوله تعالى والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه افترى يقبل عقلك ان يكون معنى الاية قد علم الله دلالته عليه وسمى تلك الدلالة صلاة وتسبيحا وفرق بينهما وعطف احدهما على الاخر وتارة يخبر عنها بالتأويب كقوله يا جبال اوبي معه وتارة يخبر عنها بالتسبيح الخاص بوقت دون وقت كالعشى والاشراق أفترى دلالتها على صانعها إنما يكون في هذين الوقتين وبالجملة فبطلان هذا القول اظهر لذوي البصائر من ان يطلبوا دليلا على بطلانه والحمد لله فصل ثم تأمل حكمته سبحانه في إبداع العجم والنوى في جوف الثمرة وما
(1/430)
في ذلك من الحكم والفوائد التي منها انه كالعظم لبدن الحيوان فهو يمسك بصلابته رخاوة الثمرة ورقتها ولطافتها ولولا ذلك لشدخت وتفسخت ولأسرع اليها الفساد فهو بمنزلة العظم ولاثمرة بمنزلة اللحم الذي يكسوه الله عز وجل العظام ومنها ان في ذلك بقاء المادة وحظفها إذ ربما تعطلت الشجرة او نوعها فخلق فيها ما يقوم مقامها عند تعطلها وهو النوى الذي يغرس فيعود مثلها ومنها ما في تلك الحبوب من أقوات الحيوانات وما فيها من المنافع والادهان والادوية والاصباغ وضروب اخر من المصالح التي يتعلمها الناس وما خفي عليهم منها اكثر فتأمل الحكمة في اخراجه سبحانه هذه الحبوب لمنافع فيها وكسوتها لحما لذيذا شهيا يتكفه به ابن آدم ثم تأمل هذه الحكمة البديعة في ان جعل للثمرة الرقيقة اللطيفة التي يفسدها الهواء والشمس غلافا يحفظها وغشاء يواريها كالرمان والجوز واللوز ونحوه وأما مالا يفسد إذا كان بارزا فجعل له اول خروجه غشاء يواريه لضعفه ولقلة صبره على الحر فإذا اشتد وقوى تفتق عن ذلك الغشاء وضحى للشمس والهواء كطلع النخل وغيره فصل ثم تأمل خلقه الرمان وماذا فيه من الحكم والعجائب فإنك ترى داخل
(1/431)
الرمانة كأمثال القلال شحما متراكما في نواحيها وترى ذلك الحب فيها مرصوفا رصفا ومنضودا نضدا لاتمكن الايدي ان تنضده وترى الحب مقسوما اقساما وفرقا وكل قسم وفرقة منه ملفوفا بلفائف وحجب منسوجة اعجب نسج والطفه وأدقه على غير منوال الا منوال كن فيكون ثم ترى الوعاء المحكم الصلب قد اشتمل على ذلككله وضمه احسن ضم فتأمل هذه الحكمة البديعة في الشحم المودع فيها فإن الحب لا يمد بعضه بعضا إذ لو مد بعضه بعضا لاختلط وصار حبة واحدة فجعل ذلك الشحم خلاله ليمده بالغذاء والدليل عليه انك ترى اصول الحب مركوزة في ذلك الشحم وهذا بخلاف حب العنب فإنه استغنى عن ذلك بان جعل لكل حبة مجرى تشرب منه فلا تشرب حق اختها بل يجرى الغذاء في ذلك العرق مجرى واحدا ثم ينقسم منه في مجاري الحبوب كلها فينبعث منه في كل مجرى غذاء تلك الحبة فتبارك الله احسن الخالقين ثم انه لف ذلك الحب في تلك الرمانة بتلك اللفائف ليضمه ويمسكه فلا يضطرب ولايتبدد ثم غشى فوق ذلك بالغشاء الصلب صونا له وحفظا وممسكا له باذن الله وقدرته فهذا قليل من كثير من حكمة هذه الثمرة الواحدة ولايمكننا ولاغيرنا استقصاء ذلك ولو طالت الايام واتسع الفكر ولكن هذا منبه على ما وراءه واللبيب يكتفى ببعض ذلك وأما من غلبت عليه الشقاوة وكأين من آية في السموات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون غافلون عن موضع الدلالة فيها فصل ثم تأمل هذا الريع والنماء الذي وضعه الله في الزرع حتى صارت
(1/432)
الحبة الواحدة ربما انبتت سبعمائة حبة ولو انبتت الحبة حبة واحدة مثلها لا يكون في الغلة متسع لما يرد في الارض من الحب وما يكفي الناس ويقوت الزارع الى إدراك زرعه فصار الزرع بريع هذا الريع ليفي بما يحتاج اليه للقوت والزراعة وكذلك ثمار الاشجار والنخيل وكذلك ما يخرج مع الاصل الواحد منها من الصنوان ليكون لما يقطعه الناس ويستعلمونه في مآربهم خلفا فلاتبطل المادة عليهم ولا تنقص ولو ان صاحب بلد من البلاد أراد عمارته لاعطى اهله ما يبذرونه فيهم وما يقيتهم الى استواء الزرع فاقتضت حكمة اللطيف الخبير ان اخرج من الحبة الواحدة حبات عديدة لبقيت الخارج الناس ويدخرون منه ما يزرعون فصل ثم تأمل الحكمة في الحبوب كالبر والشعير ونحوهما كيف يخرج الحب مدرجا في قشور على رؤسها امثال الاسنة فلا يتمكن جند الطير من افسادها والعبث فيها فإنه لو صادف الحب بارزا لا صوان عليه ولا وقاية تحول دونه لتمكن منه كل التمكن فأفسدوا عاب وعاث وأكب عليه أكلا ما استطاع وعجز ارباب الزرع عن رده فجعل اللطيف الخبير عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطير منه مقدار قوته ويبقى اكثره للانسان فإنه اولى به لانه هو الذي كدح فيه وشقى به وكان الذي يحتاج اليه اضعاف حاجة الطير فصل ثم تأمل الحكمة الباهرة في هذه الاشجار كيف تراها في كل عام لها حمل ووضع فهي دائما في حمل وولادة فإذا اذن لها ربها في الحمل احتبست الحرارة الطبيعية في داخلها واختبأت فيها ليكون فيها حملها في الوقت المقدر لها فيكون ذلك الوقت بمنزلة وقت العلوق ومبدأ
(1/433)
تكوين النطف فتعمل المادة في اجوافها عملها وتهيئها للعلوق حتى إذا آن وقت الحمل دب فيها الماء فلانت اعطافها وتحركت للحمل وسرى الماء في افنانها وانتشرت فيها الحرارة والرطوبة حتى إذا آن وقت الولادة كسيت من سائر الملابس الفاخرة من النور والورق ما تتبخر فيه وتميس به وتفخر على العقيم فإذا ظهرت اولادها وبان للناظر حملها علم حينئذ كرمها وطيبها من لؤمها وبخلها فتولى تغذية ذلك الحمل من تولى غذاء الاجنحة في بطون امهاتها وكساها الاوراق وصانها من الحر والبرد فإذا تكامل الحمل وآن وقت الفطام تدلت اليك أفنانها كأنما تناولك ثمرة درها فإذا قابلتها رايت الافنان كأنها تلقاك بأولادها وتحييك وتكرمك بهم وتقدمهم اليك حتى كأن منا ولا يناولك إياهم بيده ولا سيما قطوف جنات النعيم الدانية التي يتناولها المؤمن قائما وقاعدا ومضطجعا وكذلك ترى الرياحين كأنها تحييك بانفاسها وتقابلك بطيب رائحتها وكل هذا إكراما لك وعناية بأمرك وتخصيصا لك وتفضيلا على غيرك من الحيوانات أفيجمل بك الاشتغال بهذه النعم عن المنعم بها فكيف إذا استعنت بها على معاصيه وصرفتها في مساخطه فكيف إذا جحدته واضفتها الى غيره كما قال وتجعلون رزقكم انكم تكذبون فجدير بمن له مسكة من عقل ان يسافر بفكره في هذه النعم والالاء ويكرر ذكرها لعله يوقفه على المراد منها ماهو ولأي شيء خلق ولماذا هيء وأي امر طلب منه على هذه النعم كما قال تعالى واذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون فذكر آلائه تبارك وتعالى ونعمه على عبده سبب الفلاح والسعادة لان ذلك لا يزيده الا محبة لله وحمدا وشكرا وطاعة وشهود تقصيره بل تفريطه في القليل مما يجب لله عليه ولله در القائل : قد هيؤك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك ان ترعى مع الهمل فصل ثم تأمل الحكمة في شجرة اليقطين والبطيخ والجزر كيف لما اقتضت
(1/434)
الحكمة ان يكون حمله ثمارا كبارا جعل نباته منبسطا على الارض إذ لو انتصب قائما كما ينتصب الزرع لضعفت قوته عن حمل هذه الثمار الثقيلة ولنقصت قبل أدراكها وانتهائها الى غاياتها فاقتضت حكمة مبدعها وخالقها ان بسطه ومده على الارض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه الارض فترى العرق الضعيف الدقيق من ذلك منبسطا على الارض وثماره مبثوثة حواليه كأنها حيوان قد اكتنفها اجراؤها فهي ترضعهم ولما كان شجر اللوبيا والباذنجان والباقلاء وغيرها مما يقوى على حمل ثمرته انتبه الله منتصبا قائما على ساقه إذ لا يلقى من حمل ثماره مؤنة ولا يضعف عنه ثم تأمل كيف اقتضت الحكمة الالهية موافات اصناف الفواكه والثمار للناس بحسب الوقت المشاكل لها المقتضى لها فتوافيهم كموافاة الماء للظمآن فتتلقاها الطبيعة بانشراح واشتياق منتظرة لقدومها كانتظار الغائب للغائب فلو كان نبات الصيف انما يوافي في الشتاء لصادف من الناس كراهية واستثقالا بوروده مع ما كان فيه من المضرة للابدان والاذى لها وكذلك لو وافى ما في ربيعها في الخريف او ما في خريفها في الربيع لم يقع من النفوس ذلك الموقع ولا استطابته واستلذته ذلك الالتذاذ ولهذا تجد المتأخر منها عن وقته مملولا محلول الطعم ولا يظن ان هذا لجريان العادة المجردة بذلك فإن العادة إنما جرت به لانه وفق الحكمة والمصلحة التي لا يخل بها الحكيم الخبير فصل ثم تأمل هذه النخلة التي هي احدى آيات الله تجد فيها من
(1/435)
الايات والعجائب ما يبهرك فإنه لما قدر ان يكون فيه اناث تحتاج الى اللقاح جعلت فيها ذكور تلقحها بمنزلة الحيوان واناثه ولذلك اشتد شبهها من بين سائر الاشجار بالانسان خصوصا بالمؤمن كما مثله النبي وذلك من وجوه كثيرة احدها ثبات اصلها في الارض واستقراره فيها وليست بمنزلة الشجرة التي اجتثت من فوق الارض مالها من قرار الثاني طيب ثمرتها وحلاوتها وعموم المنفعة بها كذلك المؤمن طيب الكلام طيب العمل فيه المنفعة لنفسه ولغيره الثالث دوام لباسها وزينتها فلا يسقط عنها صيفا ولا شتاء كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافي ربه تعالى الرابع سهولة تناول ثمرتها وتيسره اما قصيرها فلا يحوج المتناول ان يرقاها واما باسقها فصعوده سهل بالنسبة الى صعودالشجر الطوال وغيرها فتراها كأنها قد هيئت منها المراقي والدرج الى اعلاها وكذلك المؤمن خيره سهل قريب لمن رام تناوله لا بالغر ولا باللئيم الخامس ان ثمرتها من انفع ثمار العالم فإنه يؤكل رطبه فاكهة وحلاوة ويابسه يكون قوتا وادما وفاكهة ويتخذ منه الخل والناطف والحلوى ويدخل في الادوية والاشربة وعموم المنفعة به وبالعنب فوق كل الثمار وقد اختلف الناس في ايهما انفع وافضل وصنف الجاحظ في المحاكمة بينهما مجلدا فأطال فيها الحجاج والتفضيل من الجانبين وفصل النزاع في ذلك ان النخل في معدنه ومحل سلطانه افضل من العنب وأعم نفعا واجدى على اهله كالمدينة والحجاز والعراق والعنب في معدنه ومحل سلطانه افضل وأعم نفعا واجدى على أهله كالشام والجبال والمواضع الباردة التي لا تقبل النخيل وحضرت مرة في مجلس بمكة فيه من أكابر البلد فجرت هذه المسئلة وأخذ بعض الجماعة الحاضرين يطنب في تفضيل النخل
(1/436)
وفوائده وقال في أثناء كلامه ويكفي في تفضيله انا نشتري بنواه العنب فكيف يفضل عليه ثمر يكون نواه ثمنا له وقال آخر من الجماعة قد فصل النبي النزاع في هذه المسئلة وشفى فيها بنهيه عن تسمية شجر العنب كرما وقال الكرم قلب المؤمن فاي دليل ابين من هذا واخذوا يبالغون في تقرير ذلك فقلت للأول ما ذكرته من كون نوى التمر ثمنا للعنب فليس بدليل فإن هذا له اسباب احدها حاجتكم الى النوى للعلف فيرغب صاحب العنب فيه لعلف ناضحه وحمولته الثاني ان نوى العنب لا فائدة فيه ولا يجتمع الثالث ان الاعناب عندكم قليلة جدا والتمر اكثر شيء عندكم فيكثر نواه فيشترى به الشيء اليسير من العنب وأما في بلاد فيها سلطان العنب فلا يشترى بالنوى منه شيء ولا قيمة لنوى التمر فيها وقلت لمن احتج بالحديث هذا الحديث من حجج فضل العنب لانهم كانوا يسمونه شجرة الكرم لكثرة منافعه وخيره فإنه يؤكل رطبا ويابسا وحلوا وحامضا وتجنى منه أنواع الاشربة والحلوى والدبس وغير ذلك فسموه كرما لكثرة خيره فأخبرهم النبي ان قلب المؤمن احق منه بهذه التسمية لكثرة ما اودع الله فيه من الخير والبركة والرحمة واللين والعدل والاحسان والنصح وسائر انواع البر والخير التي وضعها الله في قلب المؤمن فهو احق بأن يسمى كرما من شجر العنب ولم يرد النبي ابطال ما في شجر العنب من المنافع والفوائد وان تمسيته كرما كذب وانها لفظة لا معنى تحتها كتسمية الجاهل عالما والفاجر برا والبخيل سخيا الا ترى انه لم ينف فوائد شجر العنب وإنما اخبر عنه ان قلب المؤمن اغزر فوائد واعظم منافع منها هذا الكلام او قريب منه جرى في ذلك المجلس وأنت إذا تدبرت قول النبي الكرم قلب المؤمن وجدته مطابقا لقوله في النخلة مثلها مثل المسلم فشبه النخلة بالمسلم في حديث ابن عمر وشبه المسلم بالكرم في الحديث الاخر ونهاهم ان يخصوا شجر العنب باسم الكرم دون قلب المؤمن وقد قال بعض الناس في هذا معنى آخر وهو انه نهاهم عن
(1/437)
تسمية شجر العنب كرما لانه يقتنى منه ام الخبائث فيكره ان يسمى باسم يرغب النفوس فيها ويحضهم عليها من باب سد الذرائع في الالفاظ وهذا لا بأس به لولا ان قوله فإن الكرم قلب المؤمن كالتعليل لهذا النهي والاشارة الى انه اولى بهذه التسمية من شجر العنب ورسول الله اعلم بما اراد من كلامه فالذي قصده هو الحق وبالجملة فالله سبحانه عدد على عباده من نعمه عليهم ثمرات النخيل والاعناب فساقها فيما عدده عليهم من نعمه والمعنى الاول اظهر من المعنى الاخر إن شاء الله فإن أم الخبائث تتخذ من كل ثمر كالنخيل كما قال تعالى ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وقال انس نزل تحريم الخمر وما بالمدينة من شراب الاعناب شيء وإنما كان شراب القوم الفضيخ المتخذ من التمر فلو كان نهيه عن تسمية شجر العنب
(1/438)
كرما لاجل المسكر لم يشبه النخلة بالمؤمن لان المسكر يتخذ منها والله اعلم الوجه السادس من وجوه التشبيه ان النخلة اصبر الشجر على الرياح والجهد وغيرها من الدوح العظام تميلها الريح تارة وتقلعها تارة وتقصف افنانها ولا صبر لكثير منها على العطش كصبر النخلة فكذلك المؤمن صبور على البلاء لا تزعزعه الرياح السابع ان النخلة كلها منفعة لا يسقط منها شيء بغير منفعة فثمرها منفعة وجذعها فيه من المنافع مالا يجهل للأبنية والسقوف وغير ذلك وسعفها تسقف به البيوت مكان القصب ويستر به الفرج والخلل وخوصها يتخذ منه المكاتل والزنابيل وأنواع الانية والحصر وغيرها وليفها وكربها فيه من المنافع ما هومعلوم عند الناس وقد طابق بعض الناس هذه المنافع وصفات المسلم وجعل لكل منفعة منها صفة في المسلم تقابلها فلما جاء الى الشوك الذي في النخلة جعل بإزائه من المسلم صفة الحدة على أعداء الله واهل الفجور فيكون عليهم في الشدة والغلظة بمنزلة الشوك وللمؤمنين والمتقين بمنزلة الرطب حلاوة ولينا اشداء على الكفار رحماء بينهم الثامن انها كلما اطال عمرها ازداد خيرها وجاد ثمرها وكذلك المؤمن إذا طال عمره ازداد خيره وحسن عمله التاسع ان قلبها من اطيب القلوب واحلاه وهذا امر خصت به دون سائر الشجر وكذلك قلب المؤمن من ايطب القلوب العاشر انها لايتعطل نفعها بالكلية ابدا بل إن تعطلت منها منفعه ففيها منافع اخر حتى لو تعطلت ثمارها سنة لكان للنسا في سعفها وخوصها وليفها وكربها منافع وهكذا المؤمن لا يخلو عن شيء من خصال الخير قط ان اجدب منه جانب من الخير اخصب منه جانب فلا يزال خيره مأمولا وشره مأمونا في الترمذي مرفوعا الى النبي خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره فهذا فصل معترض ذكرناه استطرادا للحكمة في خلق النخلة وهيئتها فلنرجع اليه فتأمل خلقة الجذع الذي لها كيف هو تجده كالمنسوج من خيوط ممدودة كالسدا وأخرى معترضة
(1/439)
كاللحمة كنحو المنسوج باليد وذلك لتشتد وتصلب فلا تتقصف من حمل الحيوان الثقيل وتصبر على هز الرياح العاصفة ولبثها في السقوف والجسور والاواني وغير ذلك مما يتخذ منها وهكذا سائر الخشب وغيرها إذا تأملته شبه النسج ولا تراه مصمتا كالحجر الصلد بل ترى بعضه كأنه داخل بعضا طولا وعرضا كتداخل اجزاء اللحم بعضها في بعض فإن ذلك امتن له وأهيأ لما يراد منه فإنه لو كان مصمتا كالحجارة لم يمكن ان يستعمل في الالات والابواب والاواني والامتعة والاسرة والتوابيت وما اشبهها ومن بديع الحكمة في الخشب ان جعل يطفو على الماء وذلك للحكمة البالغة إذ لولا ذلك لما كانت هذه السفن تحمل امثال الجبال من الحمولات والامتعة وتمخر البحر مقبلة ومدبرة ولولا ذلك لما تهيأ للناس هذه المرافق لحمل هذه التجارات العظيمة والامتعة الكثيرة ونقلها من بلد الى بلد من حيث لو نقلت في البر لعظمت المؤنة في نقلها وتعذر على الناس كثير من مصالحهم فصل ثم تأمل احوال هذه العقاقير والادوية التي يخرجها الله من
(1/440)
الارض وما خص به كل واحد منها وجعل عليه من العمل والنفع فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة القاتلة لو احتسبت وهذا يستخرج المرة السوداء وهذا يستخرج المرة الصفراء وهذا يحلل الاورام وهذا يسكن الهيجان والقلق وهذا يجلب النوم ويعيده إذا اعوزه الانسان وهذا يخفف البدن إذا وجد الثقل وهذا يفرح القلب إذا تراكمت عليه الغموم وهذا يجلو البلغم ويكشطه وهذا يحد البصر وهذا يطيب النكهة وهذا يسكن هيجان الباءة وهذا يهيجها وهذا يبرد الحرارة ويطفئها وهذا يقتل البرودة ويهيج الحرارة وهذا يدفع ضرر غيره من الادوية والاغذية وهذا يقاوم بكيفيته كيفية غيره فيعتدلان فيعتدل المزاج بتناولهما وهذا يسكن العطش وهذا يصرف الرياح الغليظة ويطردها وهذا يعطي اللون إشراقا ونضارة وهذا يزيد في أجزاء البدن بالسمن وهذا ينقص منها وهذا يدبغ المعدة وهذا يجلوها ويغسلها الى أضعاف ذلك مما لا يحصيه العباد فسل المعطل من جعل هذه المنافع والقوى في هذه النباتات والحشائش والحبوب والعروق ومن اعطى كل منها خاصيته ومن هدى العباد بل الحيوان الى تناول ما ينفع منه ترك ما يضر ومن فطن لها الناس والحيوان البهيم وبأي عقل وتجربة كان يقف على ذلك ويعرف ما خلق له كما زعم من قل نصيبه من التوفيق لولا انعام الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهب ان الانسان فطن لهذه الاشياء بذهنه وتجاربه وفكره وقياسه فمن الذي فطن لها البهائم في اشياء كثيرة منها مالا يهتدي اليها الانسان حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحه ببعض تلك العقاقير من النبات فيبرأ فمن الذي جعله يقصد ذلك النبات دون غيره وقد شوهد بعض الطير يحتقن عند الحصر بماء البحر فيسهل عليه الخارج وبعض الطير يتناول اذا اعتل شيئا من النبات فتعود صحته وقد ذكر الاطباء في مبادئ الطب في كتبهم من هذا عجائب فسل المعطل من الهمها ذلك ومن ارشدها اليه ومن دلها عليه افيجوز ان يكون هذا من غير مدبر عزيز حكيم وتقدير عزيز
(1/441)
عليم وتقدير لطيف خبير بهرت حكمته العقول وشهدت له الفطر بما استودعها من تعريفه بأنه الله الذي لا إله إلا هو الخالق البارئ المصور الذي لا تنبغي العبادة الا له وإنه لو كان معه في سمواته وارضه اله سواه لفسدت السموات والارض واختل نظام الملك فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ولعلك ان تقول ما حكمة هذا النبات المبثوث في الصحارى والقفار والجبال التي لا انيس بها ولا ساكن وتظن انه فضلة لا حاجة اليه ولا فائدة في خلقه وهذامقدار عقلك ونهاية علمك فكم لباريه وخالقه فيه من حكمة وآية من طعم أوحش وطير ودواب مساكنها حيث لاتراها تحت الارض وفوقها فذلك بمنزلة مائدة نصبها الله لهذه الطيور والدواب تتناول منها كفايتها ويبقى الباقي كما يبقى الرزق الواسع الفاضل عن الضيف لسعة رب الطعام وغناه التام وكثرة إنعامه فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في اعطائه سبحانه بهيمة الانعام
(1/442)
الاسماع والابصار ليتم تناولها لمصالحها ويكمل انتفاع الانسان بها إذ لو كانت عمياء او صماء لم يتمكن من الانتفاع بها ثم سلبها العقول على كبر خلقها التي للانسان ليتم تسخيره اياها فيقودها ويصرفها حيث شاء ولو اعطيت العقول على كبر خلقها لامتنعت من طاعته واستعصت عليه ولم تكن مسخرة له فأعطيت من التمييز والادراك ما تتم به مصلحتها ومصلحة من ذلك له وسلبت من الذهن والعقل ما ميز به عليها الانسان وليظهر ايضا فضيلة التمييز والاختصاص ثم تأمل كيف قادها وذللها على كبر اجسامها ولم يكن يطيقها لولا تسخيره قال الله تعالى وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين أي مطيقين ضابطين وقال تعالى او لم يروا انا خلقنا لهم مما عملت ايدينا انعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون فترى البعير على عظم خلقته يقوده الصبي الصغير ذليلا منقادا ولو ارسل عليه لسواه بالارض ولفصله عضوا عضوا فسل المعطل من الذي ذلله وسخره وقاده على قوته لبشر ضعيف من اضعف المخلوقات وفرغ بذلك التسخير النوع الانساني لمصالح معاشه ومعاده فإنه لو كان يزاول من الاعمال والاحمال ما يزاول الحيوان لشغل بذلك عن كثير من الاعمال لانه كان يحتاج مكان الجمل الواحد الى عدة أناسى يحملون اثقاله وحمله ويعجزون عن ذلك وكان ذلك يستفرغ اوقاتهم ويصدهم عن مصالحهم فأعينوا بهذه الحيوانات مع مالهم فيها من المنافع التي لا يحصيها الا الله من الغذاء والشراب والدواء واللباس والامتعة والالات والاواني والركوب والحرث والمنافع الكثيرة والجمال فصل ثم تأمل الحكمة في خلق الات البطش في الحيوانات من الانسان وغيره فالانسان لما خلق مهيئا لمثل هذه الصناعات من البناء والخياطة والكتابة وغيرها خلق له كف
(1/443)
مستدير منبسط واصابع يتمكن بها من القبض والبسط والطي والنشر والجمع والتفريق وضم الشيء الى مثله والحيوان البهيم لما لم يتهيأ لتلك الصنائع لم يخلق له تلك الاكف والاصابع بل لما قدر ان يكون غذاء بعضها من صيده كالسباع خلق له اكف لطافه مدمجة ذوات براثن ومخالب تصلح لاقتتاص الصيد ولا تصلح للصناعات هذا كله في أكلة اللحم من الحيوان واما اكله النبات فلما قدر انها لاتصطاد ولا صنعة لها خلق لبعضها اظلافا تقيها خشونة الارض إذا جالت في طلب المرعي ولبعضها حوافر ململمة مقعرة كأخمص القدم لتنطبق على الارض وتهيأ للركوب والحمولة ولم يخلق لها براثن ولا انيابا لان غذاءها لا يحتاج الى ذلك فصل ثم تأمل الحكمة في خلقة الحيوان الذي يأكل اللحم من البهائم
(1/444)
كيف جعلت له اسنان حداد وبراثن شداد واشداق مهرونة وافواه واسعة واعينت بأسلحة وأدوات تصلح للصيد والاكل ولذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير حداد ومخالب كالكلاليب ولهذا حرم النبي كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير لضرره وعدوانه وشره والمغتذى شبيه بالغاذيفلو اغتذى بها الانسان لصار فيه من اخلاقها وعدوانها وشرها ما يشابهها به فحرم على الامة اكلها ولم يحرم عليهم الضبع وان كان ذا ناب فإنه ليس من السباع عند احد من الامم والتحريم إنما كان لما تضمن الوصفين ان يكون ذا ناب وان يكون من السباع ولا يقال هذا ينتقض بالسبع إذا لم يكن له ناب لان هذا لم يوجد أبدا فصلوات الله وسلامه على من اوتي جوامع الكلم فأوضح الاحكام وبين الحلال والحرام فانظر حكمة الله عز وجل في خلقه وامره فيما خلقه وفيما شرعه تجد مصدر ذلك كله الحكمة البالغة التي لا يختل نظامها ولا ينخرم ابدا ولا يختل اصلا ومن الناس من يكون حظه من مشاهدة حكمة الامر اعظم من مشاهدة حكمة الخلق وهؤلاء خواص العباد الذين عقلوا عن الله امره ودينه وعرفوا حكمته فيما احكمه وشهدت فطنهم وعقولهم ان مصدر ذلك حكمة بالغة واحسان ومصلحة اريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم وهم في ذلك درجات لا يحصيها الا الله ومنهم من يكون حظه من مشاهدة حكمة الخلق اوفر من حظه من حكمة الامر وهم أكثر الاطباء الذين صرفوا افكارهم الى استخراج منافع النبات والحيوان وقواها وما تصلح له مفردة ومركبة وليس لهم نصيب في حكمة الامر إلا كما للفقهاء من حكمة الخلق بل اقل من ذلك ومنهم من فتح عليه بمشاهدة الخلق والأمر بحسب استعداده وقوته فرأى الحكمة الباهرة التي بهرت العقول في هذا وهذا فإذا نظر الى خلقه وما فيه من الحكم ازداد إيمانا ومعرفة وتصديقا بما جاءت
(1/445)
به الرسل واذا نظر الى امره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازداد ايمانا ويقينا وتسليما لاكمن حجب بالصنعة عن الصانع وبالكواكب عن مكوكبها فعمى بصره وغلظ عن الله حجابه ولو اعطى علمه حقه لكان من اقوى الناس إيمانا لانه اطلع من حكمة الله وباهر آياته وعجائب صنعته الدالة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خفي عن غيره ولكن من حكمة الله ايضا ان سلب كثيرا من عقول هؤلاء خاصيتها وحجبها عن معرفته واوقفها عند ظاهر من العلم بالحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون لدناءتها وخستها وحقارتها وعدم اهليتها لمعرفته ومعرفة اسمائه وصفاته واسرار دينه وشرعه والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهذا باب لا يطلع الخلق منه على ماله نسبة الى الخافي عنهم منه ابدا بل علم الاولين والاخرين منه كنقرة العصفور من البحر ومع هذا فليس ذلك بموجب للاعراض عنه والياس منه بل يستدل العاقل بما ظهر له منه على ما وراءه فصل ثم تأمل اولا ذوات الاربع من الحيوان كيف تراها تتبع امهاتها
(1/446)
مستقلة بأنفسها فلاتحتاج الى الحمل والتربية كما يحتاج اليه اولاد الانس فمن اجل انه ليس عند امهاتها ما عند امهات البشر من التربية والملاطفة والرفق والالات المتصلة والمنفصلة اعطاها اللطيف الخبير النهوض والاستقلال بانفسها على قرب العهد بالولادة ولذلك ترى افراخ كثير من الطير كالدجاج والدراج والفتخ يدرج ويلقط حين يخرج من البيضة وما كان منها ضعيف النهوض كفراخ الحمام واليمام اعطى سبحانه امهاتها من فضله العطف والشفقة والحنان ما تمج به الطعم في أفواه الفراخ من حواصلها فتخبأه في اعز مكان فيها ثم تسوقه من فيها الى افواه الفراخ ولا تزال بها كذلك حتىي ينهض الفرخ ويستقل بنفسه وذلك كله من حظها وقسمها الذي وصل اليها من الرحمة الواحدة من المائة فإذا استقل بنفسه وامكنه الطيران لم يزل به الابوان يعالجانه اتم معالجة والطفها حتى يطير من وكره ويسترزق لنفسه وياكل من حيث يأكلان وكأنهما لم يعرفاه ولا عرفهما قط بل يطردانه عن الوكر ولا يدعانه وأقواتهما وبينهما بل يقولان له بلسان يفهمه اتخذ لك وكرا وقوتا فلا وكر لك عندنا ولا قوت فسل المعطل اهذا كله عن اهمال ومن الذي الهمها ذلك ومن الذي عطفها على الفراخ وهي صغار احوج ما كانت اليها ثم سلب ذلك عنها إذ استغنت الفراخ رحمة بالامهات تسعى في مصالحها إذ لو دام لها ذلك لا ضربها وشغلها عن معاشها لا سيما مع كثرة ما يحتاج اليه اولادها من الغذاء فوضع فيها الرحمة والايثار
(1/447)
والحنان رحمة بالفراخ وسلبها إياها عند استغنائها رحمه بالامهات افيجوز ان يكون هذا كله بلا تدبير مدبر حكيم ولا عناية ولا لطف منه سبحانه وتعالى لقد قامت أدلة ربوبيته وبراهين الهيته وشواهد حكمته وآيات قدرته فلا يستطيع العقل لها جحودا إن هي الا مكابرة باللسان من كل جحود كفور أفي الله شك فاطر السموات والأرض وإنما يكون الشك فيما تخفي ادلته وتشكل براهينه فاما من له في كل شيء محسوس او معقول آية بل آيات مؤدية عنه شاهدة له بأنه الله الذي لا اله إلا هو رب العالمين فكيف يكون فيه شك فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في قوائم الحيوان كيف اقتضت ان يكون زوجا لا فردا اما اثنتين وإما اربعا ليتهيأ له المشي والسعي وتتم بذلك مصلحته إذ لو كانت فردا لم يصلح لذلك لان الماشي ينتقل ببعض قوائمه ويعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على الاخرى وذو الاربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين وذلك من خلاف لأنه لو كان ينقل قائمتين من جانب ويعتمد على قائمتين من الجانب الاخر لم يثبت على الارض حال نقله قوائمه ولكان مشيه نقرا كنقر الطائر وذلك مما يؤذيه ويتبعه لنقل بدنه بخلاف الطائر ولهذا إذا مشى الانسان كذلك قليلا اجهده وشق عليه بخلاف مشية الطبيعي الذي هو له فاقتضت الحكمة تقديم نقل اليمنى من يديه مع اليسرى من رجليه واقرار يسرى اليدين ويمنى الرجلين ثم نقل الاخريين كذلك وهذا أسهل ما يكون من المشي واخفه على الحيوان فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في ان جعل ظهور الدواب مبسوطة كأنها
(1/448)
سقف على عمد القوائم ليتهيأ ركوبها وتستقر الحمولة عليها ثم خولف هذا في الابل فجعل ظهورها مسنمة معقودة كالقبو لما خصت به من فضل القوة وعظم ما تحمله والاقباء تحمل اكثر مما تحمل السقوف حتى قيل إن عقد الاقباء إنما اخذ من ظهور الابل وتأمل كيف لما طول قوائم البعير طول عنقه ليتناول المرعي من قيام فلو قصرت عنقه لم يمكنه ذلك مع طول قوائمه وليكون ايضا طول عنقه موازنا للحمل على ظهره إذا استقل به كما ترى طول قصبة القبان حتى قيل إن القبان إنما عمل من خلقه الجمل من طول عنقه وثقل ما يحمله ولهذا تراه يمد عنقه إذا استقل بالحمل كأنه يوازنه موازنه فصل ثم تأمل الحكمة في كون فرج الدابة جعل بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضرابها ولو جعل في اسفل بطنها كما جعل للمرأة لم يتمكن الفحل من ضرابها الا على الوجه الذي تجامع به المرأة وقد ذكر في كتب الحيوان ان فروج الفيلة في اسفل بطنها فإذا كان وقت الضراب ارتفع ونشز وبرز للفحل فيتمكن من ضرابها فلما جعل في الفيلة على خلاف ما هو في سائر البهائم خصت بهذه الخاصية عنها ليتهيأ الامر الذي به دوام النسل فصل ثم تأمل كيف كسيت اجسام الحيوان البهيمي هذه الكسوة من الشعر
(1/449)
والوبر والصوف وكسيت الطيور الريش وكسى بعض الدواب من الجلد ما هو في غاية الصلابة والقوة كالسلحفاة وبعضها من الريش ما هو كالاسنة كل ذلك بحسب حاجاتها الى الوقاية من الحر والبرد والعدو الذي يريد اذاها فانها لما لم يكن لها سبيل الى اتخاذ الملابس واصطناع الكسوة والات الحرب اعينت بملابس وكسوة لا تفارقها وآلات وأسلحة تدفع بها عن نفسها وأعينت باظلاف واخفاف وحوافر لما عدمت الاحذية والنعال فمعها حذاؤها وسقاؤها وخص الفرس والبغل والحمار بالحوافر لما خلق للركض والشد والجرى وجعل لها ذلك ايضا سلاحا عند انتصافها من خصمها عوضا عن الصياصي والمخالب والانياب والبرائن فتأمل هذا اللطف والحكمة فإنها لما كانت بهائم خرصا لا عقول لها ولا أكف ولا اصابع مهيأة للانتفاع والدفاع ولاحظ لها فيما يتصرف فيه الادميون من النسج والغزل ولطف الحيلة جعلت كسوتها من خلقتها باقية عليها ما بقيت لا تحتاج الى الاستبدال بها وأعطيت آلات واسلحة تحفظ بها انفسها كل ذلك لتتم الحكمة التي اريدت بها ومنها وأما الانسان فإنه ذو حيلة وكف مهيئة للعمل فهي تغزل وتنسج ويتخذ لنفسه الكسوة ويستبدل بها حالا بعد حال وله في ذلك صلاح من جهات عديدة منها ان يستريح إذا خلع كسوته إذا شاء ويلبسها إذا شاء ليس كالمضطر الى حمل كسوة ومنها انه يتخذ لنفسه ضروبا من الكسوة للصيف وضروبا للشتاء فإن كسوة الصيف لاتليق بالشتاء وكسوة الشتاء لا تليق بالصيف فيتخذ لنفسه في كل فصل كسوة موافقة ومنها انه يجعلها تابعة لشهوته وإرادته ومنها انه يتلذذ بأنواع الملابس كما يتلذذ بأنواع المطاعم فجعلت كسوته متنوعة تابعة لاختياره كما جعلت مطاعمه كذلك فهو يكتسى ما يشاء من انواع الملابس المتخذة من النبات تارة كالقطن والكتان ومن الحيوان تارة كالوبر والصوف والشعر ومن الدود تارة كالحرير والابريسم ومن المعادن تارة كالذهب والفضة فجعلت كسوته متنوعة لتتم لذته وسروره وابتهاجه وزينته بها
(1/450)
ولذلك كانت كسوة اهل الجنة منفصلة عنهم كما هي في الدنيا ليست مخلوقة من اجسامهم كالحيوان فدل على ان ذلك اكمل واجل وأبلغ في النعمة ومنها إرادة تمييزه عن الحيوان في ملبسه كما ميزه عنه في مطعمه ومسكنه وبيانه وعقله وفهمه ومنها اختلاف الكسوة واللباس وتباينه بحسب تباين احواله وصنائعه وجربه وسلمه وظعنه وإقامته وصحته ومرضه ونومه ويقظته ورفاهيته فلكل حال من هذه الاحوال لباس وكسوة تخصها لا تليق الا بها فلم يجعل كسوته في هذه الاحوال كلها واحدة لا سبيل الى الاسبتدال بها فهذا من تكريمه وتفضيله على سائر الحيوان فصل ثم تأمل حكمة عجيبة جعلت للبهائم والوحوش والسباع والدواب على
(1/451)
كثرتها لا يرى منها شيء وليس شيئا قليلا فتخفى لقلتها بل قد قيل انها أكثر من الناس واعتبر ذلك بما تراه في الصحارى من اسراب الظباء والبقر والوعول والذئاب والنمور وضروب الهوام على اختلافها وسائر دواب الارض وانواع الطيور التي هي اضعاف اضعاف بني آدم لا تكاد ترى منها شيئا ميتا لا في كناسة ولا في أوكاره ولا في مساقطه ولا في مراعيه بطرقه وموارده ومناهله ومعاقله ومعاصمه الا ما عدا عليه عاد إما افترسه سبع او رماه صائد او عدا عليه عاد اشغله واشغل بني جنسه عن احراز جسمه وإخفاء جيفته فدل ذلك على انها إذا احست بالموت ولم تغلب على انفسها كمنت حيث لا يوصل الى اجسامها وقبرت جيفها قبل نزول البين بها ولولا ذلك لامتلأت الصحارى بجيفها وافسدت الهواء بروائحها فعاد ضرر ذلك بالناس وكان سبيلا الى وقوع الوباء وقد دل على هذا قوله تعالى في قصة ابني آدم فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة اخيه قال يا ويلتي اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة اخي فأصبح من النادمين وأما ما جعل عيشه بين الناس كالانعام والدواب فلقدره الانسان على نقله واحتياله في دفع اذيته منع مما جعل في الوحوش كالسباع فتأمل هذا الذي حار بنو آدم فيه وفيما يفعلون به كيف جعل طبعا في البهائم وكيف تعلموه من الطير وتأمل الحكمة في ارسال الله تعالى لابن آدم الغراب المؤذن اسمه بغربة القاتل من اخيه وغربته هو من رحمة الله تعالى وغربته من ابيه وأهله واستيحاشه منهم واستيحاشهم منه وهو من الطيور التي تنفر منها الانس ومن نعيقها وتستوحش بها فأرسل اليه مثل هذا الطائر حتى صار كالمعلم له والاستاذ وصار بمنزلة المتعلم والمستند ولا تنكر حكة هذا الباب وارتباط المسميات فيه بأسمائها فقد قال النبي إذا بعثتم الى بريدا فابعثوه حسن الاسم حسن الوجه وكان يسأل عن اسم الارض إاذ نزلها واسم الرسول إذا جاء اليه ولما جاءهم سهيل ابن عمرو يوم الحديبية قال
(1/452)
قد سهل امركم ولما اراد تغيير اسم حزن بسهل قال لم يزل معنى اسمه فيه وفي زريته ولما سأل عمر بن الخطاب الرجل عن اسمه واسم ابيه وداره ومنزله فاخبره انه جمرة بن شهاب وان داره بالحرقة وان مسكنه منها ذات لظى قال له ادرك بيتك فقد احترق فكان كما قال وشواهد هذا الباب اكثر من ان نذكر هاها هنا وهذا باب لطيف المنزع شديد المناسبة بين الاسماء والمسببات وكثيرا ما اولع الناس قديما وحديثا بنعيق الغراب واستدلالهم به على البين والاغتراب وينسبونه الى الشؤم وينفرون منه وينفر منهم فكان جديرا ان يرسل هذا الطائر الى القاتل من ابني آدم دون غيره من الطيور فكأنه صورة طائره الذي ألزمه في عنقه وطارعنه من عمله ولا تظن ان ارسال الغراب وقع اتفاقا خاليا من الحكمة فإنك اذا خفي عليك وجه الحكمة فلا تنكرها واعلم ان خفاءها من لطفها وشرفها ولله تعالى فيما يخفى وجه الحكمة فيه على البشر الحكم الباهرة المتضمنة للغايات المحمودة فصل ثم تأمل الحكمة الباهرة في وجه الدابة كيف هو فانك ترى العينين
(1/453)
فيه شاخصتين امامها لتبصر ما بين يديها اتم من بصر غيرها لانها تحرس نفسها وراكبها فتتقى ان تصدم حائطا او تتردى في حفرة فجعلت عيناها كعيني المنتصب القامة لانها طليعة وجعل فوها مشقوقا في اسفل الخطم لتتمكن من العض والقبض على العلف إذ لو كان فوقها في مقدم الخطم كما انه من الانسان في مقدم الذقن لما استطاعت ان تتناول به شيئا من الارض الا ترى الانسان لا تناول الطعام بفيه لكن بيده فلمالم تكن الدابة تتناول طعامها بيدها جعل خطمها مشقوقا من أسفله لتضعه على العلف ثم تقضمه واعينت بالجحفلة وهي لها كالشفة للانسان لتلتقم بها ما قرب منها وما بعد وقد اشكلت منفعة الذنب على بعض الناس ولم يهتد اليها وفيه منافع عديدة فمنها انه بمنزلة الطبق على الدبر والغطاء على حياها يواريهما ويسترهما ومنها ان بين الدبر ومراق البطن من الدابة له وضر يجتمع عليه الذباب والبعوض فيؤذي الدابة فجعل اذنابها كالمذاب لها والمراوح تطرد به ذلك ومنها ان الدابة نستريح الى تحريحكه وتصريفه يمنة ويسرة فإنه لما كان قيامها على الاربع بكل جسمها وشغلت قدماها بحمل البدن عن التصرف والتقلب كان لها في تحريك الذنب راحة وعسى ان يكون فيها حكم اخر تقصر عنها افهام الخلق ويزدريها السابع إذا عرضت عليه فإنه لا يعرف موقعها الا في وقت الحاجة فمن ذلك ان الدابة تربض في الوحل فلا يكون شيء اعون على رفعها من الاخذ بذنبها فصل ثم تأمل شفر الفيل وما فيه من الحكم الباهرة فإنه يقوم له مقام اليد في تناول العلف
(1/454)
والماء وإيرادهما الى جوفه ولولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من الاشياء من الارض لانه ليست له عنق يمدها كسائر الانعام فلما عدم العنق اخلف عليه مكانه الخرطوم الطويل ليسد مسده وجعل قادرا على سدله ورفعه وثنيه والتصرف به كيف شاء وجعل وعاء اجوف لين الملمس فهو يتناول به حاجته ويحمله ما أراد الى جوفه ويحبس فيه ما يريد ويكيد به إذا شاء ويعطى ويتناول إذا أراد فسل المعطل من الذي عوضه ومن اخلف عليه مكان العضو الذي منعه ما يقوم له مقامه وينوب منابه غير الرؤوف الرحيم بخلقه المتكفل بمصالحهم اللطيف بهم وكيف يتأتى ذلك مع الاهمال وخلو العالم عن قيمة وبارئه ومبدعه وفاطره لا إله إلا هو العزيز الحكيم فإن قلت فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الانعام وما الحكمة في ذلك قيل والله أعلم بحكمته في مصنوعاته لان رأسه واذنيه امر هائل عظيم وحمل ثقيل فلو كان ذا عنق كسائر الاعناق لانهدت رقبته بثقله ووهنت بحمله فجعل راسه ملصقا بجسمه لئلا يناله منه شيء من الثقل والمؤنة وخلق له مكان العنق هذا المشفر الطويل يتناول به غذاءه ولما طالت عنق البعير للحكمة في ذلك صغر رأسه بالنسبة الى عظم جثته لئلا يؤذيه ثقله ويوهن عنقه فسبحان من فاتت حكمه عدالعادين وحصر الحاصرين فصل ثم تأمل خلق الزرافة واختلاف اعضائهم وشبهها باعضاء جميع
(1/455)
الحيوان فراسها راس فرس وعنقها عنق بعير وأظلافها أظلاف بقرة وجلدها جلد نمر حتى زعم بعض الناس ان لقاحها من فحول شتى وذكروا ان اصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء ينزو بعضها على بعض فتنزو المستوحشة على السائمة فتنتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أناس شتى وما أرى هذا القائل إلا كاذبا عليها وعلى الخلقة إذ ليس في الحيوان صنف يلقح صنفا آخر فلا الجمل يلقح البقر ولا الثور يلقح الناقة ولا الفرس يلقحهما ولا يلقحانه ولا الوحوش يلقح بعضها بعضا ولا الطيور وإنما يقع هذا نادرا فيما يتقارب كالبقر الوحشي والاهلي والضأن والمعز والفرس والحمار والذئب والضبع فيتولد من ذلك البغل والسمع والعسبار وقول الفقهاء هل تجب الزكاة في المتولد من الوحشي والاهلي فيه وجهان هذا إنما يتصور في واحد واثنتين وثلاثة يكمل بها النصاب فأما نصاب كله متولد من الوحشي والاهلي فلا وجود لذلك والاحكام المتعلقة بهذه المتولدات تذكر في الزكاة وجزاء الصيد والاضاحي والاحوط يتغلب في كل باب ففي الاضاحي يتغلب عدم الاجزاء وفي الاحرام والحرم يتغلب وجوب الجزاء وفي الاطعمة يتغلب جانب التحريم وفي الزكاة اختلاف مشهور وسئل شيخنا ابو
(1/456)
العباس بن تيمية قدس الله روحه عن حمار نزا على فرس فأحبلها فهل يكون لبن الفرس حلالا او حراما فأجاب بأنه حلال ولا حكم للفحل في اللبن في هذا الموضع بخلاف الاناسي لان لبن الفرس حادث من العلف فهو تابع للحمها ولم يسر وطيء الفحل إلى هذا اللبن فإنه لا حرمة هناك تنتشر بخلاف لبن الفحل في الاناسي فإنه تنتشر به حرمة الرضاع ولا حرمة هنا تنتشر من جهة الفحل لا الى الولد خاصة فإنه يتكون منه ومن الام فغلب عليه التحريم وأما اللبن فلم يتكون بوطئه وإنما تكون من العلف فلم يكن حراما هذا بسط كلامه وتقريره والمقصود ابطال زعم ان هذه الحيوانات المختلفة يلقح بعضها بعضا عند الموارد فتتكون الزرافة وإنه كاذب عليها وعلى الابداع والذي يدل على كذبه انه ليس الخارج من بين ما ذكرنا من الفرس والحمار والذئب والضبع والضأن والمعز عضو من كل واحد من ابيه وأمه كما يكون للزرافة عضو من الفرس وعضو من الجمل بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كما نشاهده في البغل فإنك ترى راسه وأذنيه وكفله وحوافره وسطا بين اعضاء ابيه وامه مشتقة منهما حتى تجد سجيحه كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار فهذا يدل على ان الزرافة ليست بنتاج آباء مختلفة كما زعم هذا الزاعم بل من خلق عجيب ووضع بديع من خلق الله الذي أبدعه آية دلالة على قدرته وحكمته التي لا يعجزها شيء ليرى عباده انه خالق اصناف الحيوان كلها كما يشاء وفي أي لون شاء فمنها المتشابه الخلقة المتناسب الاعضاء ومنها المختلف التركيب والشكل والصورة كما يرى عباده قدرته التامة في خلقه لنوع الانسان على الاقسام الاربعة الدالة على انه مخلوق بقدرته ومشيئته تابع لها فمنه ما خلق من غير اب ولا أم وهو أبو النوع الانساني ومنه ما خلق من ذكر بلا انثى وهي امهم التي خلقت من ضلع آدم ومنه ما خلق من انثى بلا ذكر وهو المسيح ابن مريم ومنه ما خلق من ذكر وانثى وهو سائر النوع الانساني فيرى عباده آياته ويتعرف
(1/457)
اليهم بآلائه وقدرته وأنه إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون واما طول عنق الزرافة وما لها فيه من المصلحة فلأن منشأها ومرعاها كما ذكر المعتنون بحالها ومساكنها في غياض ذوات اشجار شاهقة ذاهبة طولا فأعينت بطول العنق لتتناول اطراف الشجر الذي هناك وثمارها وهذا ما وصلت اليه معرفتهم وحكمة اللطيف الخبير فوق ذلك واجل منه فصل ثم تأمل هذه النملة الضعيفة وما اعطيته من الفطنة او لحيلة في جمع القوت وادخاره وحفظه ودفع الافة عنه فإنك ترى في ذلك عبرا وآيات فترى جماعة النمل إذا أرادت إحراز
(1/458)
القوت خرجت من اسرابها طالبة له فإذا ظفرت به اخذت طريقا من اسرابها اليه وشرعت في نقله فتراها رفقتين رفقة حاملة تحمله الى بيوتها سربا ذاهبا ورفقة خارجة من بيوتها اليه لاتخالط تلك في طريقها بل هما كالخيطين بمنزلة جماعة الناس الذاهبين في طريق والجماعة الراجعين من جانبهم فإذا ثقل عليها حمل الشيء من تلك اجتمعت عليه جماعة من النمل وتساعدت على حملة بمنزلة الخشبة والحجر الذي تتساعد الفئة من الناس عليه فإذا كان الذي ظفر به منهن وحدة ساعدها رفقتها عليه الى بيتها وخلوا بينها وبينه وإن كان الذي صادفه جماعة تساعدن عليه ثم تقاسمنه على باب البيت ولقد اخبر بعض العارفين انه شاهد منهن يوما عجبا قال رايت نملة جاءت الى شق جرادة فزاولته فلم تطق حمله من الارض فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل قال فرفعت ذلك الشق من الارض فلما وصلت النملة برفقتها الى مكانه دارت حوله ودرن معها فلم يجدن شيئا فرجعن فوضعته ثم جاءت فصادفته فزاولته فلم تطق رفعه فذهبت غير بعيد ثم جاءت بهن فرفعته فدرن حول مكانه فلم يجدن شيئا فذهبت فوضعته فعادت فجاءت بهن فرفعته فدرن حول المكان فلما لم يجدن شيئا تحلقن حلقة وجعلن تلك النملة في وسطها ثم تحاملن عليها فقطعنها عضوا عضوا وأنا انظر ومن عجيب امر الفطنة فيها إذا نقلت الحب إلى مساكنها كسرته لئلا ينبت فإن كان مما ينبت الفلقتان منه كسرته اربعا فإذا اصابه ندا وبلل وخافت عليه الفساد اخرجته للشمس ثم ترده الى بيوتها ولهذا ترى في بعض الاحيان حبا كثيرا على أبواب مساكنها مكسرا ثم تعود عن قريب فلا ترى منه واحدة ومن فطنتها انها لا تتخذ قريتها إلا على نشر من الارض لئلا يفيض عليها السيل فيغرقها فلا ترى قرية نمل في بطن واد ولكن في أعلاه وما ارتفع عن السيل منه ويكفي في فطنتها ما نص الله عز وجل في كتابه من قولها لجماعة النمل وقد رأت سليمان عليه الصلاة والسلام وجنوده يا ايها النمل ادخلوا
(1/459)
مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوه وهم لايشعرون فتكلمت بعشرة انواع من الخطاب في هذه النصيحة النداء والتنبيه والتسمية والامر والنص والتحذير والتخصيص والتفهيم والتعميم والاعتذار فاشتملت نصيحتها مع الاختصار على هذه الانواع العشرة ولذلك اعجب سلميان قولها وتبسم ضاحكا منه وسال الله ان يوزعه شكر نعمته عليه لما سمع كلامها ولا تستبعد هذه الفطنة من امة من الامم تسبح بحمد ربها كما في الصحيح عن النبي قال نزل نبي من الانبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرجه ثم احرق قرية النمل فأوحى الله إليه من اجل ان لدغتك نملة احرقت امة من الامم تسبح فهلا نملة واحدة فصل ومن عجيب الفطنة في الحيوان ان الثعلب إذا اعوزه الطعام ولم
(1/460)
يجد صيدا تماوت ونفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا فيقع عليه ليأكل منه فيثب عليه الثعلب فيأخذه ومن عجيب الفطنة في هذه الذبابة الكبيرة التي تسمى اسد الذباب فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه يسكن مليا حتى كأنه موات لا حراك فيه فإذا رأى الذباب قد اطمأن وغفل عنه دب دبيبا رفيقا حتى يكون منه بحيث يناله ثم يثب عليه فيأخذه ومن عجيب حيل العنكبوت انه ينسج تلك الشبكة شركا للصيد ثم يكمن في جوفها فإذا نشب فيها البرغش والذباب وثب عليه وامتص دمه فهذا يحكى صيد الاشراك والشباك والاول يحكى صيد الكلاب والفهود ولا تزدرين العبرة بالشيء الحقير من الذرة والبعوض فإن المعنى النفيس يقتبس من الشيء الحقيروالازدراء بذلك ميراث من الذين استنكرت عقولهم ضرب الله تعالى في كتابه المثل بالذباب والعنكبوت والكلب والحمار فأنزل الله تعالى إن الله لا يستحي ان يضرب مثلا ما بعوضه فما فوقها فما أغزر الحكم وأكثرها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرها وكم من دلالة فيها على الخالق ولطفه ورحمته وحكمته فسل المعطل من الهمها هذه الحيل والتلطف في اقتناص صيدها الذي جعل قوتها ومن جعل هذه الحيل فيها بدل ما سلبها من القوة والقدرة فأغناها ما اعطاها من الحيلة عما سلبها من القوة والقدرة سوى اللطيف الخبير فصل ثم تأمل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدر بان يكون طائرا في
(1/461)
الجو خفف جسمه وادمج خلقته واقتصر به من القوائم الاربع على اثنتين ومن الاصابع الخمس على اربع ومن مخرج البول والزبل على واحد يجمعهما جميعا ثم خلق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجه فيه كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشق الماء بسرعة وتنفذ فيه وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران وكسى جسمه كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله ولما قدر ان يكون طعامه اللحم والحب يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الاسنان وخلق له منقار صلب يتناول به طعامه فلا يتفسخ من لقط الحب ولا يتعقف من نهش اللحم ولما عدم الاسنان وكان يزدرد الحب صحيحا واللحم غريضا اعين بفضل حرارة في الجوف تطحن الحب وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ والذي يدلك على قوة الحرارة التي اعين بها انك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن الانسان صحيحا وينطبخ في جوف الطائر حتى لا يرى له اثر ثم اقتضت الحكمة ان جعل يبيض بيضا ولا يلد ولادة لئلا يثقل عن الطيران فإنه لو كان مما يحمل ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل لأثقله وعاقه عن النهوض والطيران وتأمل الحكمة في كون الطائر المرسل السائح في الجو يلهم صبر نفسه اسبوعا او اسبوعين باختياره قاعدا على بيضه حاضنا له ويحتمل مشقة الحبس ثم إذا خرج فراخه تحمل مشقة الكسب وجمع الحب في حوصلته وبزق فراخه وليس بذي روية ولا فكرة في عاقبة امره ولا يؤمل في فراخه ما يؤمل الانسان في ولده من العون والرفد وبقاء الذكر فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلة لا يعلمها هو ولا يفكر فيها من دوام النسل وبقائه فصل ثم تأمل خلقة البيضة وما فيها من المخ الاصفر الخاثر والماء الابيض الرقيق فبعضه ينشأ منه الفرخ وبعضه يغتذى منه إلى ان يخرج من البيضة وما في ذلك من الحكمة فإنه لما كان نشو الفرخ في تلك البشرة المنخفضة التي لا نفاذ فيها للواصل من خارج جعل معه في جوف البيضة من الغذاء ما يكتفي به الى خروجه
(1/462)
فصل وتأمل الحكمة في حوصلة الطائر وما قدرت له فإن في مسلك الطعام الى القابضة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا فلو كان الطائر لا يلتقط حبة ثانية حتى تصل الاولى الى جوفه لطال ذلك عليه فمتى كان يستوفي طعامه وإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة امامه ليوعى فيها ما ازدرد من الطعم بسرعة ثم ينقل الى القابضة على مهل وفي الحوصلة ايضا خصلة اخرى فإن من الطير ما يحتاج الى ان يزق فراخه فيكون رده الطعم من قرب ليسهل عليه فصل ثم تأمل هذه الالوان والاصباغ والوشى التي تراها في كثير من الطير كالطاووس والدراج وغيرهما التي لو خطت بدقيق الاقلام ووشيت بالايدي لم يكن هذا فمن اين في الطبيعة المجردة هذا التشكيل والتخطيط والتلوين والصبغ العجيب البسيط والمركب الذي لو اجتمعت الخليقة على ان يحاكوه لتعذر عليهم فتأمل ريش الطاووس كيف هو فإنك تراه كنسج الثوب الرفيع من خيوط رفاع جدا قد ألف بعضها الى بعض كتأليف الخيط الى الخيط بل الشعرة الى الشعرة ثم ترى النسج إذا مددته ينفتح قليلا قليلا ولا ينشق ليتداخلهالهواء فينقل الطائر إذا طار فترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه ذلك الثوب التي كهيئة الشعر ليمسكه بصلابته وهو القصبة التي تكون في وسط الريشة وهو مع ذلك اجوف يشتمل على الهواء فيحمل الطائر فأي طبيعة فيها هذه الحكمة والخبرة واللطف ثم لو كان ذلك في الطبيعة كما يقولون لكانت من ادل الدلائل واعظم البراهين على قدرة مبدعها ومنشئها وعلمه وحكمته فإنه لم يكن ذلك لها من نفسها بل إنما هو لها ممن خلقها وأبدعها فما كذبه المعطل هو احد البراهين والايات التي على مثله يزداد إيمان المؤمنين وهكذا آيات الله يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء فصل تأمل هذا الطائر الطويل الساقين وأعرف المنفعة في طول ساقيه
(1/463)
فإنه يرعى أكثر مرعاه في ضحضاح الماء فتراه يركز على ساقيه كانه دست فوق مركب ويتأمل ما دب في الماء فإذا رأى شيئا من حاجته خطا خطوا رفيقا حتى يتناوله ولو كان قصير القائمتين كان إذا خطا نحو الصيد ليأخذه لصق بطنه بالماء فيثيره ويذعر الصيد منه فيفر فخلف له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسدعليه مطلبه وكل طائر فله نصيب من طول الساقين والعنق ليمكنه تناول الطعم من الارض ولو طال ساقاه وقصرت عنقه لم يمكنه ان يتناول شيئا من الارض وربما اعين مع عنقه بطول المناقير ليزداد مطلبه سهولة عليه وامكانا ثم تأمل هذه العصافير كيف تطلب اكلها بالنهار كله فلا هي تفقده ولا هي تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة والطلب في الجهات والنواحي فسبحان الذي قدره ويسره كيف لم يجعله ممايتعذر عليها إذا التمسته ويفوتها إذا قعدت عنه وجعلها قادرة عليه في كل حين واوان بكل ارض ومكان حتى من الجدران والاسطحة والسقوف تناوله بالهوينا من السعي فلا يشاركها فيه غير بني جنسها من الطير ولو كان ماتقتات به يوجد معدا مجموعا كله كانت الطير تشاركها فيه وتغلبها عليه وكذلك لو وجدته معدا مجموعا لاكبت عليه بحرص ورغبة فلا تقلع عنه وإن شبعت حتى تبشم وتهلك وكذلك الناس لو جعل طعامهم معدا لهم بغير سعي ولا تعب ادى ذلك الى الشره والبطنة ولكثر الفساد وعمت الفواحش والبغي في الارض فسبحان اللطيف الخبير الذي لم يخلق شيئا سدى ولا عبثا وانظر في هذه الطير التي لا تخرج الا بالليل كالبوم والهام والخفاش فإن أقواتها هيئت لها في الجو لا من الحب ولا من اللحم بل من البعوض والفراش وأشبابهما مما تلقطه من الجو فتاخذ منه بقدر الحاجة ثم تأوى الى بيوتها فلا تخرج الى مثل ذلك الوقت بالليل وذلك ان هذه الضروب من البعوض والفراش وأشباههما مبثوثة في الجو لا يكاد يخلوا منها موضع منه واعتبر ذلك بان نضع سراجا بالليل في سطح او عرصه الدار فيجتمع عليه من هذا
(1/464)
الضرب شيء كثير وهذا الضرب من الفراش ونحوها ناقص الفطنة ضعيف الحيلة ليس في الطير اضعف منه ولا اجهل وفيما يرى من تهافته في النار وانت تطرده عنها حتى يحرق نفسه دليل على ذلك فجعل معاش هذه الطيور التي تخرج بالليل من هذا الضرب فتقتات منه فإذا أتى النهار انقطعت الى اوكارها فالليل لها بمنزلة النهار لغيرها من الطير ونهارها بمنزلة ليل غيرها ومع ذلك فساق لها الذي تكفل بارزاق الخلق رزقها وخلقه لها في الجو ولم يدعها بلا رزق مع ضعفها وعجزها وهذه إحدى الحكم والفوائد في خلق هذه الفراش والجنادب والبعوض فكم فيها من رزق لامة تسبح بحمد ربها ولولا ذلك لانتشرت وكثرتحتى اضرت بالناس ومنعتهم القرار فانظر الى عجيب تقدير الله وتدبيره كيف اضطر العقول الى ان شهدت بربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وان ذلك الذي تشاهده ليس باتفاق ولا بإهمال من سائر وجوه الادلة التي لا تتمكن الفطر من جحدها اصلا وإذ قد جرى الكلام الى الخفاش فهو من الحيوانات العجيبة الخلقة بين خلقة الطيور وذوات الاربع وهو الى ذوات الاربع اقرب فإنه ذو اذنين ناشزتين واسنان ودبر وهو يلد ولدا ويرضع ويمشي على اربع وكل هذه صفة ذوات الاربع وله جناحان يطير بهما مع الطيور ولما كان بصره يضعف عن نور الشمس كان نهاره كليل غيره فإذا غابت الشمس انتشر ومن ذلك سمى ضعيف البصر اخفش والخفش ضعف البصر ولما كان كذلك جعل قوته من هذه الطيور الضعاف التي لا تطير الا بالليل وقد زعم بعض من تكلم في الحيوان انه ليس يطعم شيئا وإنما غذاؤه من النسيم البارد فقط وهذا كذب عليه وعلى الخلقة لانه يبول وقد تكلم الفقهاء في بوله هل هو نجس لانه بول غير مأكول او نجس معفو عن يسيره لمشقة التحرز منه على قولين هما روايتان عن احمد وبعض الفقهاء لا ينجس بوله بحال وهذا اقيس الاقوال إذ لا نص فيه ولا يصح قياسه على الابوال النجسة لعدم الجامع المؤثر ووضوح الفرق وليس هذا موضع استيفاء الحجج في هذه
(1/465)
المسئلة من الجانبين والمقصود انه لو كان لا ياكل شيئا لم يكن له اسنان اذ لا معنى للاسنان في حق من لا ياكل شيئا ولهذا لما عدم الطفل الرضيع الاكل لم يعط الاسنان فلما كبر واحتاج للغذاء اعين عليه بالاسنان التي تقطعه والاضراس التي تطحنه وليس في الخليقة شيء مهمل ولا عن الحكمة بمعطل ولا شيء لا معنى له واما الحكم والمنافع في خلق الخفاش فقد ذكر منها الاطباء في كتبهم ما انتهت اليه معرفتهم حتى ان بوله يدخل في بعض الاكحال فإذا كان بوله الذي لا يخطر بالبال فيه منفعة البتة فما الظن بجملته ولقد اخبر بعض من اشهد بصدقة انه رأى رخلا وهو طائر معروف قد عشش في شجرة فنظر الى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه فاتحة فاها لتبتلعه فبينما هو يضطرب في حيلة النجاة منها إذ وجد حسكة في العش فحملها فالقاها في فم الحية فلم تزل تلتوى حتى ماتت فصل ثم تأمل احوال النحل وما فيها من العبر والايات فانظر اليها
(1/466)
والى اجتهادها في صنعة العسل وبنائها البيوت المسدسة التي هي من اتم الاشكال واحسنها استدارة واحكمها صنعا فإذا انضم بعضها الى بعض لم يكن بينها فرجة ولا خلل كل هذا بغير مقياس ولا آله ولا بيكار وتلك من اثر صنع الله وإلهامه إياها وايحائه اليها كما قال تعالى واوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا الى قوله لايات لقوم يتفكرون فتأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها اتخذت بيوتها في هذه الامكنة الثلاثة في الجبال الشقفان وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون أي بيبنون العروش وهي البيوت فلا يرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتة وتامل كيف اكثر بيوتها في الجبال والشقفان وهو البيت المقدم في الاية ثم في الاشجار وهي من اكثر بيوتها ومما يعرش الناس واقل بيوتها بينهم حيث يعرشون وأما في الجبال والشجر فبيوت عظيمة يؤخذ منها من العسل الكثير جدا وتامل كيف اداها حسن الامتثال الى ان اتخذت البيوت او لا فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمار ثم آوت الى بيوتها لان ربها سبحانه امرها باتخاذ البيوت اولا ثم بالاكل بعد ذلك ثم إذا اكلت سلكت سبل ربها مذللة لا يستوعز عليها شيء ترعى ثم تعود ومن عجيب شأنها أن لها اميرا يسمى اليعسوب لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به فهي مؤتمره لامره سامعة له مطيعه وله عليها تكليف وأمر ونهى وهي رعية له منقادة لامره متبعة لرايه يدبرها كما يدبر الملك امر رعيته حتى إنها إذا آوت الا بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الاخرى ولا تتقدم عليها في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم كما يفعل الامير إذا انتهى بعسكره الى معبر ضيق لا يجوزه الا واحد واحد ومن تدبر احوالها وسياساتها وهدايتها واجتماع شملها وانتظام امرها وتدبير ملكها وتفويض كل عمل الى واحد منها يتعجب منها كل العجب ويعلم ان هذا ليس في مقدورها ولا هو من
(1/467)
ذاتها فإن هذه اعمال محكمة متقنة في غاية الاحكام والاتقان فإذا نظرت الى العامل رأيته من أضعف خلق الله أجهله بنفسه وبحاله وأعجزه عن القيام بمصلحته فضلا عما يصدر عنه من الامور العجيبة ومن عجيب امرها ان فيها أميرين لا يجتمعان في بيت واحد ولا يتأمران على جمع واحد بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا احد الاميرين وقطعوه واتفقوا على الامير الواحد من غير معاداة بينهم ولا أذى من بعضهم لبعض بل يصيرون يدا واحدة وجندا واحدا فصل ومن اعجب امرها مالا يهتدي له اكثر الناس ولايعرفونه وهو
(1/468)
النتاج الذي يكون لها هل هو على وجه الولادة والتوالد او الاستحالة فقل من يعرف ذلك او يفطن له وليس نتاجها على واحد من هذين الوجهين وإنما نتاجها بأمر من اعجب العجيب فإنها إذا ذهبت الى المرعي أخذت تلك الاجزاء الصافية التي علىالورق من الورد والزهر والحشيش وغيره وهي الطل فتمصها وذلك مادة العسل ثم انها تكبس الاجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها كالعدسة فتملأ بها المسدسات الفارغة من العسل ثم يقوم يعسوبها على بيته مبتدئا منه فينفخ فيه ثم يطوف على تلك البيوت بيتا بيتا وينفخ فيها كلها فتدب فيها الحياة بإذن الله عز وجل فتتحرك وتخرج طيورا بإذن الله وتلك احدى الايات والعجائب التي قل من يتفطن لها وهذا كله من ثمرة ذلك الوحي الالهي افادها واكسبها هذا التدبير والسفر والمعاش و البناء والنتاج فسل المعطل من الذي اوحى اليها امرها وجعل ما جعل في طباعها ومن الذي سهل لها سبله ذللا منقادة لا تستعصي عليها ولا تستوعرها ولا تضل عنها على بعدها ومن الذي هداها لشأنها ومن الذي أنزل لها من الطل ما إذا جنته ردته عسلا صافيا مختلفا الوانه في غاية الحلاوة واللذاذة والمنفعة من بين ابيض يرى فيه الوجه اعظم من رؤيته في المرآة وسمه لي من جاء به وقال هذا افخر ما يعرف الناس من العسل وأصفاه وأطيبه فإذا طعمه الذ شيء يكون من الحلوى ومن بين احمر واخضر ومورد واسود وأشقر وغير ذلك من الالوان والطعوم المختلفة فيه بحسب مراعيه ومادتها وإذا تأملت ما فيه من المنافع والشفاء ودخوله في غالب الادوية حتى كان المتقدمون لا يعرفون السكر ولا هو مذكور في كتبهم اصلا وإنما كان الذي يستعملونه في الادوية هو العسل وهو المذكور في كتب القوم ولعمر الله أنه لانفع من السكر وأجدى واجلى للاخلاط وأقمع لها واذهب لضررها واقوى للمعدة واشد تفريحا للنفس وتقوية للأرواح وتنفيذا للدواء وإعانة له على استخراج الداء من اعماق البدن ولهذا لم يجيء في
(1/469)
شيء من الحديث قط ذكر السكر ولا كانوا يعرفونه اصلا ولو عدم من العالم لما احتاج اليه ولو عدم العسل لاشتدت الحاجة اليه وإنما غلب على بعض المدن استعمال السكر حتى هجروا العسل واستطابوه عليه ورأوه اقل حدة وحرارة منه ولم يعلموا ان من منافع العسل ما فيه من الحدة والحرارة فإذا لم يوافق من يستعمله كسرها بمقابلها فيصير انفع له من السكر وسنفرد إن شاء الله مقالة نبين فيها فضل العسل على السكر4 من طرق عديدة لا تمنع وبراهين كثيرة لاتدفع ومتى رايت السكر يجلو بلغما ويذيب خلطا او يشفى من داء وإنما غايته بعض التنفيذ للدواء الى العروق للطافته وحلاوته وأما الشفاء الحاصل من العسل فقد حرمه الله كثيرا من الناس حتى صاروا يذمونه ويخشون غائلته من حرارته وحدته ولا ريب ان كونه شفاء وكون القرآن شفاء والصلاة شفاء وذكر الله والاقبال عليه شفاء امر لا يعم الطبائع والانفس فهذا كتاب الله هو الشفاء النافع وهو اعظم الشفاء وما اقل المستشفين به بل لا يزيد الطبائع الرديئة رداءة ولا يزيد الظالمين الا خسارا وكذلك ذكر الله والاقبال عليه والانابة اليه والفزع الى الصلاة كم قد شفي به من عليل وكم قد عوفي به من مريض وكم قام مقام كثير من الادوية التي لا تبلغ قريبا من مبلغه في الشفاء وأنت ترى كثيرا من الناس بل اكثرهم لا نصيب لهم من الشفاء بذلك اصلا ولقد رايت في بعض كتب الاطباء المسلمين في ذكر الادوية المفردة ذكر الصلاة ذكرها في باب الصاد وذكر من منافعها في البدن التي توجب الشفاء وجوها عديدة ومن منافعها في الروح والقلب وسمعت شيخنا ابا العباس بن تيمية رحمه الله يقول وقد عرض له بعض الالم فقال له الطبيب اضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر فقال الستم تزعمون ان النفس إذا قويت وفرحت اوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع العارض فإنه عدوها فإذا قويت عليه قهرته فقال له الطبيب بلى فقال إذا اشتغلت نفسي بالتوجه
(1/470)
والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت فأوجب ذلك دفع العارض هذا او نحوه من الكلام والمقصود ان ترك كثير من الناس الاستشفاء بالعسل لا يخرجه عن كونه شفاء كما ان ترك اكثرهم الاستشفاء بالقرآن من امراض القلوب لا يخرجه عن كونه شفاء لها وهو شفاء لما في الصدور وإن لم يستشف به اكثر المرضى كما قال تعالى يا ايها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فعم بالموعظة والشفاء وخص بالهدى والمعرفة فهو نفسه شفاء استشفى به او لم يستشف به ولم يصف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل فهما الشفاآن هذا شفاء القلوب من امراض غيها وضلالها وأدواء شبهاتها وشهواتها وهذا شفاء للأبدان من كثير من اسقامها واخلاطها وآفاتها ولقد اصابني ايام مقامي بمكة اسقام مختلفة ولا طبيب هناك ولا أدوية كما في غيرها من المدن فكنت استشفى بالعسل وماء زمزم ورايت فيهما من الشفاء امرا عجيبا وتأمل اخباره سبحانه وتعالى عن القرآن بأنه نفسه شفاء وقال عن السعل فيه شفاء للناس وما كان نفسه شفاء ابلغ مما جعل فيه شفاء وليس هذا موضع استقصاء فوائدالعسل ومنافعه فصل ثم تأمل العبرة التي ذكرها الله عز وجل في الانعام وما سقانا
(1/471)
من بطونها من اللبن الخالص السائغ الهنيء المريء الخارج من بين الفرث والدم فتأمل كيف ينزل الغذاء من أفواهها الى المعدة فينقلب بعضه دما باذن الله وما يسرى في عروقها واعضائها وشحومها ولحومها فإذا ارسلته العروق في مجاريها الى جملة الاجزاء قلبه كل عضو او عصب وغضروف وشعر وظفر وحافر الى طبيعته ثم يبقى الدم في تلك الخزائن التي له إذ به قوام الحيوان ثم ينصب ثقله الى الكرش فيصير زبلا ثم ينقلب باقية لبنا صافيا ابيض سائغا للشاربين فيخرج من بين الفرث والدم حتى إذا انهكت الشاة او غيرها حلبا خرج الدم مشوبا بحمرة فصفى الله سبحانه الالطف من الثفل بالطبخ الاول فانفصل الى الكبد وصار دما وكان مخلوطا بالاخلاط الاربعة فأذهب الله عز وجل كل خلط منها الى مقره وخزانته المهيأة له من المرارة والطحال والكلية وباقي الدم الخالص يدخل في اوردة الكبد فينصب من تلك العروق الى الضرع فيقلبه الله تبارك وتعالى من صورة الدم وطبعه وطعمه الى صورة اللبن وطبعه وطعمه فاستخرج من الفرث والدم فسل المعطل الجاحد من الذي دبر هذا التدبير وقدر هذا التقدير واتقن هذا الصنع ولطف هذا اللطف سوى اللطيف الخبير فصل ثم تأمل العبرة في السمك وكيفية خلقته وأنه خلق غير ذي قوائم
(1/472)
لانه لا يحتاج الى المشي إذ كان مسكنه الماء ولم يخلق له رئة لان منفعة الرئة التنفس والسمك لم يحتج اليه لانه ينغمس في الماء وخلقت له عوض القوائم اجنحة شدادي يقذف بها من جانبيه كما يقذف صاحب المركب بالمقاذيف من جانبي السفينة وكسى لجده قسورا متداخلة كتداخل الجوشن ليقيه من الافات واعين بقوة الشم لان بصره ضعيف والماء يحجبه فصار يشم الطعام من بعد فيقصده وقد ذكر في بعض كتب الحيوان ان من فيه الى صماخه منافذ فهو يصب الماء فيها بفيه ويرسله من صماخيه فيتروح بذلك كما يأخذ الحيوان النسيم البارد بأنفه ثم يرسله ليتروح به فإن الماء للحيوان البحري كالهواء للحيوان البري فهما بحران احدهما الطف من الاخر بحر هواء يسبح فيه حيوان البر وبحر ماء يسبح فيه حيوان البحر فلو فارق كل من الصنفين بحره الى البحر الاخر مات فكما يختنق الحيوان البري في الماء يختق الحيوان البحري في الهواء فسبحان من لايحصى العادون آياته ولا يحيطون بتفصيل آية منها على الانفراد بل ان علموا فيها وجها جهلوا منها اوجها فتأمل الحكمة البالغة في كون السمك اكثر الحيوان نسلا ولهذا ترى في وف السمكة الواحد من البيض مالا يحصى كثرة وحكمة ذلك ان يتسع لما
(1/473)
يغتذى به من اصناف الحيوان فإن اكثرها يأكل السمك حتى السباغ لانها في حافات الاجام جاثمة تعكف على الماء الصافي فإذا تعذر عليها صيدالبر رصدت السمك فاختطفته فلما كانت السباع تأكل السمك والطير تأكله والناس تأكله والسماك الكبار تأكله ودواب البر تأكله وقد جعله الله سبحانه غذاء لهذه الاصناف اقتضت حكمته ان يكون بهذه الكثرة ولو رأى العبد ما في البحر من ضروب الحيوانات والجواهر والاصناف التي لا يحصيها الا الله ولا يعرف الناس منها إلا الشيء القليل الذي لانسبة له اصلا الى ما غاب عنهم لرأي العجب ولعلم سعة ملك الله وكثرة جنوده التي لايعلمها إلا هو وهذا الجراد نثرة حوت من حيتان البحر ينثره من منخريه وهو جند من جنود الله ضعيف الخلقة عجيب التركيب فيه خلق سبع حيوانات فإذا رايت عساكره قد اقبلت ابصرت جندا لا مرد له ولا يحصى منه عدد ولا عدة فلو جمع الملك خيله ورجله ودوابه وسلاحه ليصده عن بلاده لما أمكنه ذلك فانظر كيف ينساب على الارض كالسيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته ويسد وجه السماء بأجنحته ويبلغ من الجو الى حيث لا يبلغ طائر اكبر جناحين منه فسل المعطل من الذي بعث هذا الجند الضعيف الذي لا يستطيع ان يرد عن نفسه حيوانا رام اخذه بلية على العسكر اهل القوة والكثرة والعدد والحيلة فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه بل ينظرون اليه يستبد بأقواتهم دونهم ويمزقها كل ممزق ويذر الارض قفرا منها وهم لا يستطيعون ان يردوه ولا يحولوا بينه وبينها وهذا من حكمته سبحانه ان يسلط الضعيف من خلقه الذي لا مؤنة له على القوى فينتقم به منه وينزل به ما كان يحذره منه حتى لايستطيع لذلك ردا ولاصرفا قال الله تعالى ونزيد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون فواحسرتاه على استقامه مع الله وايثار لمرضاته في كل حال يمكن
(1/474)
به الضعيف المستضعف حتى يرى من استضعفه انه اولى بالله ورسوله منه ولكن اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم ان يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبغي عليه فذنوبه من اعظم اسباب الرحمة في حق ظالمة كما ان المسؤل إذا رد السائل فهو في خفارة كذبه ولو صدق السائل لما أفلحمن رده وكذلك السارق وقاطع الطريق في خفارة منع اصحاب الاموال حقوق الله فيها ولو ادوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم وهذا ايضا باب عظيم من حكمة الله يطلع الناظر فيه على أسرار من أسرار التقدير وتسليط العالم بعضهم على بعض وتمكين الجناة والبغاة فسبحان من له في كل شيء حكمة
(1/475)
بالغة وآية باهرة حتى ان الحيوانات العادية على الناس في اموالهم وارزاقهم وابدانهم تعيش في خفارة ما كسبت ايديهم ولولا ذلك لم يسلط عليهم منها شيء ولعل هذا الفصل الاستطرادي انفع لمتأمله من كثير من الفصول المتقدمة فإنه إذا اعطاه حقه من النظر والفكر عظم انتفاعه به جدا والله الموفق ويحكى ان بعض اصحاب الماشية كان يشوب اللبن ويبيعه على انه خالص فارسل الله عليه سيلا فذهب بالغنم فجعل يعجب فاتى في منامه فقيل له اتعجب من اخذ السيل غنمك انه تلك القطرات التي شبت بها البن اجتمعت وصارت سيلا فقس على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك تعلم حينئذ ان الله قائم بالقسط وانه قائم على كل نفس بما كسبت وانه لا يظلم مثقال ذرة والاثر الاسرائيلي معروف ان رجلا كان يشوب الخمر ويبيعه على انه خالص فجمع من ذلك كيس ذهب وسافر به فركب البحر ومعه قرد له فلما نام اخذ القرد الكيس وصعد به الى اعلى المركب ثم فتحه فجعل يلقيه دينارا في الماء ودينارا في المركب كأنه يقول له بلسان الحال ثمن الماء صار الى الماء ولم يظلمك وتأمل حكمة الله عز وجل في حبس الغيث عن عباده وابتلائهم بالقحط إذا منعو الزكاة وحرموا المساكين كيف جوزوا على منع ما للمساكين قبلهم من القوت بمنع الله مادة القوت والرزق وحبسها عنهم فقال لهم بلسان الحال منعتم الحق فمنعتم الغيث فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قبلكم وتأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والايمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه فصدهم عنه كما صدوا عباده صدا بصد ومنعا بمنع وتأمل حكمته تعالى في محق اموال المرابين وتسليط المتلفات عليها كما فعلوا باموال الناس ومحقوها عليهم واتلفوها بالربا جوزوا اتلافا باتلاف فقل ان ترى مرابيا إلا وآخرته الى محق وقلة وحاجة وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه كيف يسلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم
(1/476)
سواء وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا الى ان تطوى الارض ويعيدها كما بدأها وتأمل حكمته تعالى في ان جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس اعمالهم بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم فإن ساتقاموا استقامت ملوكهم وإن عدلوا عدلت عليهم وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق ونحلوا بها عليهم وإن اخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم اخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف وكلما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة فعمالهم ظهرت في صور اعمالهم وليس في الحكمة الالهية ان يولى على الاشرار الفجار الا من يكون من جنسهم ولما كان الصدر الاول خيار
(1/477)
القرون وابرها كانت ولاتهم كذلك فلما شابوا شابت لهم الولاة فحكمه الله تأبى ان يولي علينا في مثل هذه الازمان مثل معاوية وعمر بن عبدالعزيز فضلا عن مثل ابي بكر وعمر بل ولاتنا على قدرنا وولاة من قبلنا على قدرهم وكل من الامرين موجب الحكمة ومقتضاها ومن له فطنه إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الالهية سائرة في القضاء والقدر ظاهرة وباطنة فيه كما في الخلق والامر سواء فإياك ان تظن بظنك الفاسدان شيئا من اقضيته واقداره عار عن الحكمة البالغة بل جميع اقضيته تعالى وأقداره واقعة على اتم وجوه الحكمة والصواب ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها كما ان الابصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس وهذه العقول الضعاف إذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت ونطقت وقالت كما ان الخفاش إذا صادفه ظلام الليل طار وسار خفافيش اعشاها النهار بضوئه ولازمها قطع من الليل مظلم وتأمل حكمته تبارك وتعالى في عقوبات الامم الخالية وتنويعها عليهم بحسب تنوع جرائمهم كما قال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم إلى قوله يظلمون وتأمل حكمته تعالى في مسخ من مسخ من الامم في صور مختلفة مناسبة لتلك الجرائم فإنها لما مسخت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمة البالغة ان جعلت صورهم على صورها لتتم المناسبة ويكمل الشبه وهذا غاية الحكمة واعتبر هذا بمن مسخوا قردة وخنازير كيف غلبت عليهم صفات هذه الحيواات واخلاقها وأعمالها ثم إن كنت من المتوسمين فاقرأ هذه النسخة من وجوه اشباههم ونظرائهم كيف تراها بادية عليها وإن كانت مستورة بصورة الانسانية فاقرا نسخة القردة من صرو اهل المكر والخديعة والفسق الذين لا عقول لهم بل هم اخف الناس عقولا واعظمهم مكرا وخداعا وفسقا فإن لم تقرا نسخة القردة من وجوهم فلست من المتوسمين واقرا نسخة الخنازير من صور اشبهاهم ولا سيما اعداء خيار خلق الله بعدالرسل وهم اصحاب رسول
(1/478)
الله فإن هذه النسخة ظاهرة على وجوه الرافضة يقرأها كل مؤمن كاتب وغير كاتب وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه فإن الخنزير اخبث الحيوانات واردؤها طباعا ومن خاصيته انه يدع الطيبات فلا يأكلها ويقوم الانسان عن رجيعة فيبادر اليه فتأمل مطابقة هذا الوصف لاعداء الصحابة كيف تجده منطبقا عليهم فإنهم عمدوا الى اطيب خلق الله واطهرهم فعادوهم وتبرؤوا منهم ثم والواكل عدو لهم من النصارى واليهود والمشركين فاستعانوا في كل زمان على حرب المؤمنين الموالين لاصحاب رسول الله بالمشركين والكفار وصرحوا بأنهم خير منهم فاي شبه ومناسبة اولى بهذا الضرب من الخنازير فإن لم تقرأ هذه
(1/479)
النسخة من وجوههم فلست من المتوسمين واما الاخبار التي تكاد تبلغ حد التواتر بمسخ من مسخ منهم عند الموت خنزيرا فأكثر من ان تذكر ها هنا وقد أفرد لها الحافظ بن عبدالواحد المقدسي كتابا وتأمل حكمته تعال في عذاب الامم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا اطول اعمارا واعظم قوى واعتى على الله وعلى رسوله فلما تقاصرت الاعمار وضعفت القوى رفع عذاب الاستئصال وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين فكانت الحكمة في كل واحد من الامرين ما اقتضته في وقته وتأمل حكمته تبارك وتعالى في إرسال الرسل في الامم واحدا بعد واحد كلما مات واحد خلفه آخر لحاجتها الى تتابع الرسل والانبياء لضعف عقولها وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق فلما انتهت النبوة الى محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه ارسله الى اكمل الامم عقولا ومعارف واصحها اذهانا واغزرها علوما وبعثه باكمل شريعة ظهرت في الارض منذ قامت الدنيا الى حين مبعثه فأغنى الله لامة بكمال رسولها وكمال شريعته وكمال عقولها وصحة اذهانها عن رسول يأتي بعده اقام له من امته ورثة يحفظون شريعته ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم فلم يحتاجوا معه الى سول آخر ولا نبي ولا محدث ولهذا قال انه قد كان قبلكم في الامم محدثون فإن يكن في امتي احد فعمر فجزم بوجود المحدثين في الامم وعلق وجوده في امته بحرف الشرط وليس هذا بنقصان في الامة على من قبلهم بل هذا من كمال امته على من قبله فإنها لكمالها وكمال نبيها وكمال شريعته لا تحتاج الى محدث بل إن وجد فهو صالح للمتابعة والاستشهاد لا انه عمدة لانها في غنية بما بعث الله به نبيها عن كل منام او مكاشفة او الهام او تحديث واما من قبلها فللحاجة الى ذلك جعل فيهم المحدثون ولا تظن ان تخصيص عمر رضى الله عنه بهذا تفضيل له علي ابي بكر الصديق بل هذا من اقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما
(1/480)
تلقاه من تحديث اوغيره فالذي يتلقاه من مشاكة النبوة اتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع واعطه حقه من المعرفة وتامل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بانه الحكيم الخبير وان رسول الله اكمل خلقه واكملهم شريعة وان امته اكمل الامم وهذا فصل معترض وهو انفع فصول الكتاب ولولا الاطالة لوسعنا فيه المقال واكثرنا فيه من الشواهد والامثال ولقد فتح الله الكريم فيه الباب وارشد فيه الى الصواب وهو المرجو لتمام نعمته ولا قوة الا بالله العلي العظيم فصل فاعد الان النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية من الذي دبرك بالطف
(1/481)
التدبير وانت جنين في بطن امك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضرر فمن الذي اجرى اليك من دم الام ما يغذوك كما يغذو الماء النبات وقلب ذلك الدم لبنا ولم يزل يغذيك به في اضيق المواضع وابعدها من حيلة التكسب والطلب حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوى اديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء وصلبت عظامك على مباشرة الايدي والتقلب على الغبراء هاج الطلق بأمك فازعجك الى الخروج إيما ازعاج الى عالم الابتلاء فركضك الرحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمك قط ولم يشتمل عليك فيما بعد ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وضعت نطفة وبين هذا الدفع والطرد والاخراج وكان مبتهجا بحملك فصار يستغيث ويعج الى ربك من ثقلك فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت ثم ضمه عليك حتى حفظت وكملت ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه فلو تأملت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب فمن الذي اوحى اليه ان يتضايق عليك وانت نطفة حتى لاتفسد هناك واوحى اليه ان يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليما الى ان خرجت فريدا وحيدا ضعيفا لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال احوج خلق الله واضعفهم وافقرهم فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن امك الى خزانتين معلقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها ثم ساقه الى تينك الخزانتين الطف سوق على مجار وطرق قد تهيأت له فلا يزال واقفا في طرقه ومجاريه حتىتستوفي ما في الخزانة فيجرى وينساق اليك فهو بئر لاتنقطع مادتها ولا تنسد طرقها يسوقها اليك في طرق لا يهتدي اليها الطواف ولا يسلكها الرجال فمن رققه لك وصفاه واطاب طعمه وحسن لونه واحكم طبخه اعدل احكام لا بالحار المؤذي ولا بالبارد الردي ولا المر ولا المالح ولا الكريه الرائحة بل قلبه الى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن فوافاك
(1/482)
في أشد اوقات الحاجة اليه على حين ظمأ شديد وجوع مفرط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع فتجد الثدي المعلق كالاداوة قدتدلى اليك وأقبل بدره عليك ثم جعل في راسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك فلا يضيق عنها ولا تتعب بالتقامها ثم نقب لك في راسها نقبا لطيفا بحسب احتمالك ولم يوسعه فتختنق باللبن ولم يضيقه فتمصه بكلفة بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك فمن عطف عليك قلب الام ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنا ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها فإذا احست منك بأدنى صوت او بكاء قامت اليك وآثرتك علىنفسها على عدد الانفس منقادة اليك بغير قائد ولا سائق الا قائد الرحمة وسائق
(1/483)
الحنان تود لو ان كل ما يؤلمك بجسمها وانه لم يطرقك منه شيء وان حياتها تزاد في حياتك فمن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوى بدنك واتسعت امعاؤك وخشنت عظامك واحتجت الى غذاء اصلب من غذائك ليشتد به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آله القطع والطحن فنصب لك أسنانا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها فمن الذي حبسها عنك ايام رضاعك رحمة بأمك لطفا بها ثم اعطاكها ايام اكلك رحمة بك وأحسانا اليك ولطفا بك فلو انك خرجت من البطن ذا سن وناب وناجذ وضرس كيف كان حال امك بك ولو انك منعتها وقت الحاجة اليها كيف كان حالك بهذه الاطعمة التي لا تسيغها الا بعد تقطيعها وطحنها وكلما ازددت قوة وحاجة الى الاسنان في اكل المطاعم المختلفة زيد لك في تلك الالات حتى تنتهي الى النواجذ فتطيق نهش اللحم وقطع الخبز وكسر الصلب ثم إذا ازددت قوة زيد لك فيها حتى تنتهي الى الطواحين التي هي آخر الاضراس فمن الذي ساعدك بهذه الالات وانجدك بها ومكنك بها من ضروب الغذاء ثم انه اقتضت حكمته ان اخرجك من بطن امك لا تعلم شيئا بل غبيا لا عقل ولا فهم ولا علم وذلك من رحمته بك فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة بل كنت تتمزق وتتصدع بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريح شيئا فشيئا فلا يصادفك ذلك وهلة واحدة بل يصادفك يسيرا يسيرا حتى يتكامل فيك واعتبر ذلك بأن الطفل إذا سبي صغيرا من بلده ومن بين ابويه ولا عقل له فإنه لا يؤلمه ذلك علما كان اقرب الى العقل كان اشق عليه واصعب حتى إذا كان عاقلا فلاتراه إلا كالواله الحيران ثم لو ولدت عاقلا فهيما كحالك في كبرك تنغصت عليك حياتك اعظم تنغيص وتنكدت اعظم تنكيد لانك ترى نفسك محمولا رضيعا معصبا بالخرق مربطا بالقمط مسجونا في المهد عاجزا ضعيفا عما يحاوله الكبير فكيف كان يكون عيشك مع تعلقك التام في هذه الحالة ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل بل تكون انكد خلق
(1/484)
الله واثقلهم واعنتهم واكثرهم فضولا وكان دخولك هذا العالم وانت غبي لا تعقل شيئا ولا تعلم ما فيه اهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير فتلقى الاشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئا فشيئا حتى تالف الاشياء وتتمرن عليها وتخرج من التأمل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحسن التصرف فيها والتدبير لها والاتقان لها وفي ذلك وجوه أخر من الحكمة غير ما ذكرناه فمن هذا الذي هو قيم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والاراب والالات في وقت حاجتك لا يقدمها عن وقتها ولا يؤخرها عنه ثم انه اعطاك الاظفار
(1/485)
وقت حاجتك اليها لمنافع شتى فإنها تعين الاصابع وتقويها فإن اكثر العمل لما كان برؤوس الاصابع وعليها الاعتماد اعينت بالاظافر قوة لها مع ما فيها من منفعة حك 2الجسم وقشط الاذى الذي لا يخرج باللحم عنه الى غير ذلك من فوائدها ثم جملك بالشعر على الراس زينة ووقاية وصيانة من الحر والبرد إذ هو مجمع الحواس ومعدن الفكر والذكر وثمرة العقل تنتهي اليه ثم خص الذكر بأن جمل وجهه باللحية وتوابعها وقارا وهيبة له وجمالا وفصلا له عن سن الصبا وفرقا بينه وبين الاناث وبقيت الانثى على حالها لما خلقت له من استمتاع الذكر بها فبقى وجهها على حاله ونضارته ليكون اهيج للرجل على الشهوة وأكمل للذة الاستمتاع فالماء واحد الجوهر واحد والوعاء واحد واللقاح واحد فمن الذي اعطى الذكر الذكورية والانثى الانوثية ولا تلتفت الى ما يقوله الجهلة من الطبائعيين في سبب الاذكار والايناث وإحالة ذلك على الامور الطبيعية التي لاتكاد تصدق في هذا الموضع الا اتفاقا وكذبه اكثر من صدقها وليس استناد الاذكار والايناث الا الى محض المرسوم الالهي الذي يلقيه الىملك التصوير حين يقول يا رب ذكر ام انثى شقى ام سعيد فما الرزق فما الاجل فيوحي ربك ما يشاء ويكتب الملك فإذا كان للطبيعة تأثيرا في الاذكار والايناث فلها تاثير في الرزق والاجل والشقاوة والسعادة وإلا فلا أذ مخرج الجميع ما يوحيه الله الى الملك ونحن لا ننكر ان لذلك اسبابا اخر ولكن تلك من الاسباب التي استأثر الله بها دون البشر قال الله تعالى لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور الى قوله قدير فذكر اصناف النساء الاربعة مع الرجال احدها من تلد الاناث فقط الثانية من تلد الذكور فقط الثالثة من تلد الزوجين الذكر والانثى وهو معنى التزويج هنا ان يجعل ما يهب له زوجين ذكرا او انثى الرابعة العقيم التي لا تلد اصلا ومما يدل على ان سبب الاذكار والايناث لا يعلمه البشر ولا
(1/486)
يدرك بالقياس والفكر وإنما يعلم بالوحي ما روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان قال كنت عند النبي فجاء حبر من احبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت الا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به اهله فقال رسول الله ان أسمي محمد الذي سماني به اهلي قال اليهودي جئت أسالك فقال رسول الله أينفعك شيء إن حدثتك قال اسمع بأذني فنكت رسول الله بعود معه فقال سل فقال اليهودي اين يكون الناس يوم تبدل الارض غير الارض والسموات فقال رسول الله هم في الظلمة دون الجسر قال فمن اول الناس إجازة قال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة فقال زيادة كبد حوت ذي النون قال فما غذاؤهم على أثرها قال
(1/487)
ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من اطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين تسمى سلسبيلا قال صدقت وجئت أسالك عن شيء لايعلمه الا نبي او رجل او رجلان قال ينفعك ان حدثتك قال اسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل ابيض وماء المرأة اصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة اذكر بإذن الله وإن علا مني المرأة مني الرجل اثني بإ ذن الله قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال رسول الله لقد سالني عن هذا الذي سالني عنه ومالي علم به حتى أتاني الله به والذي دل عليه العقل والنقل ان الجنين يخلق من الماءين جميعا فالذكر يقذف ماءه في رحم الانثى وكذلك هي تنزل ماءها الى حيث ينتهي ماؤه فيلتقى الماآن على امر قد قدره الله وشاءه فيخلق الولد بينهما جميعا وايهما غلب كان الشبه له كما في صحيح البخاري عن حميد عن انس قال بلغ عبدالله بن سلام قدوم النبي فاتاه فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبي قال ما أول اشراط الساعة وما اول طعام يأكله اهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى ابيه ومن أي شيء ينزع الى أخواله فقال رسول الله اخبرني بهن آنفا جبريل فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقال رسول الله اما اول اشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق الى المغرب واما اول طعام ياكله اهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرأة وسبقها ماؤه كان الشبه له وإن سبقت كان الشبه لها فقال اشهد انك رسول الله وذكر الحديث وفي الصحيحين عن ام سلمة قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت قال نعم إذا رأت الماء الاصفر فضحكت ام سلمة فقالت او تحتلم المراة فقال رسول الله فيم يشبهها الولد فهذه الاحاديث الثلاثة تدل على ان الولد يخلق من الماءين وان الاذكار والايناث يكون بغلبة احد الماءين وقهره للآخروعلوه عليه وان الشبه يكون بالسبق فمن سبق ماؤه الى الرحم كان
(1/488)
الشبه له وهذه امور ليس عند أهل الطبيعة ما يدل عليها ولا تعلم الا بالوحي وليس في صناعتهم ايضا ما ينافيها على ان في النفس من حديث وبان ما فيها وأنه يخاف ان لا يكون احد رواته حفظه كما ينبغي وأن يكون السؤال إنما وقع فيه عن الشبه لا عن الاذكار والايناث كما سأل عنه عبدالله بن سلام ولذلك لم يخرجه البخاري وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن ابي بكر عن انس عن النبي قال ان الله وكل بالرحم ملكا فيقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا اراد ان يخلقها قال يا رب اذكر ام انثى شقي ام سعيد فما الرزق فما الاجل فيكتب كذلك في بطن امه أفلا ترى كيف أحال بالاذكار والايناث على مجرد المشيئة وقرنه بما لاتأثير للطبيعة فيه من الشقاوة والسعادة والرزق والاجل ولم يتعرض الملك لكتبه الذي للطبيعة فيه مدخل اولا ترى عبد الله بن سلام لم يسأل الا عن الشبه الذي يمكن الجواب عنه ولم يسال عن الاذكار والايناث مع انه ابلغ من الشبه والله اعلم وان كان رسول الله قد قاله فهو عين الحق وعلى كل تقدير فهو يبطل ما زعمه بعض الطبائعيين من معرفة اسباب الاذكار والايناث والله اعلم فصل فانظر كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والانثى جميعا على وفق
(1/489)
الحكمة فجعلت في حق الذكر آلة ناشزة تمتد حتى توصل المنى الى قعر الرحم بمنزلة من يناول غيره شيئا فهو يمد يده اليه حتى يوصله إياه ولأنه يحتاج الى ان يقذف ماءه في قعر الرحم وأما الانثى فجعل لها وعاء مجوف لانها تحتاج الى ان تقبل ماء الرجل وتمسكه وتشتمل عليه فأعطيت آلة تليق بها ثم لما كان ماء الرجل ينحدر من اجزاء الجسد رقيقا ضعيفا لا يخلق منه الولد جعل له الانثيان وعاء يطبخ فيهما ويحكم انضاجه ليشتد وينعقد ويصير قابلا لان يكون مبدأ للتخليق ولم تحتج المرأة الى ذلك لان رقة مائها ولطفاته إذا مازج غلظ ماء الرجل وشدته قوى به واستحكم ولو كان الماآن رقيقان ضعيفان لم يتكون الولد منهما وخص الرجل بآلة النضج والطبخ لحكم منها ان حرارته اقوى والانثى باردة فلو اعطيت تلك الالة لم يستحكم طبخ الماء وانضاجه فيها ومنها ان ماءها لا يخرج عن محله بل ينزل من بين ترائبها الى محله ومنها انها لما كانت محلا للجماع اعطيت من الالة ما يليق بها فلو اعطيت آلة الرجل لم تحصل لها اللذة والاستمتاع ولكانت تلك الالة معطلة بغير منفعة فالحكمة التامة فيما وجدت خلقة كل منهما عليه فصل فارجع الان الى نفسك وكرر النظر فيك فهو يكفيك وتأمل اعضاءك
(1/490)
وتقدير كل عضو منها للأرب والمنفعة المهيأ لها فاليدان للعلاج والبطش والاخذ والاعطاء والمحاربة والدفع والرجلان لحمل البدن والسعي والركوب وانتصاف القامة والعينان للاهتداء والجمال والزينة والملاحة ورؤية ما في السموات والارض وآياتهما وعجائبهما والفم للغذاء والكلام والجمال وغير ذلك والانف للنفس وإخراج فضلات الدماغ وزينة للوجه واللسان للبيان والترجمة عنك والاذنان صاحبتا الاخبار تؤديانها اليك واللسان يبلغ عنك والمعدة خزانة يستقر فيها الغذاء فتنضجه وتطبخه وتصلحه اصلاحا آخر وطبخا آخر غير الاصلاح والطبخ الذي توليته من خارج فأنت تعاني إنضاجه وطبخه وإصلاحه حتى تظن انه قد كمل وانه قد استغنى عن طبخ آخر وانضاج آخر وطباخه الداخل ومنضجه يعاني من نضجه وطبخه مالا تهتدي اليه ولا تقدر عليه فهو يوقد عليه نيرانا تذيب الحصى وتذيب مالا تذيبه النار وهي في الطف موضع منك لا تحرقك ولا تلتهب وهي اشد حرارة من النار وإلا فما يذيب هذه الاطعمة الغليظة الشديدة جدا حتى يجعلها ماء ذائبا وجعل الكبد للتخليص واخذ صفو الغذاء والطفه ثم رتب منها مجاري
(1/491)
وطرقا يسوق بها الغذاء الى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظفر وجعل المنازل والابواب لادخال ما ينفعك وإخراج ما يضرك وجعل الاوعية المختلفة خزائن تحفظ مادة حياتك فهذه خزانة للطعام وهذه خزانة للحرارة وهذه خزائن للدم وجعل منها خزائن مؤديات لئلا تختلط بالخزائن الاخر فجعل خزائن للمرة السوداء وأخرى للمرة الصفراء وأخرى للبول وأخرى للمنى فتأمل حال الطعام في وصوله الى المعدة وكيف يسرى منها في البدن فإنه إذا استقر فيها اشتملت عليه وانضمت فتطبخه وتجيد صنعته ثم تبعثه الى الكبد في مجار دقاق وقد جعل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاء رقيقا كالمصفات الضيقة الابخاش تصفية فلا يصل الى الكبد منه شيء غليظ خشن فينكؤها لان الكبد رقيقة لا تحمل الغليظ فإذ قبلته الكبد انفذته الى البدن كله في مجار مهيأ قلة بمنزلة المجاري المعدة للماء ليسلك في الارض فيعمها بالسقي ثم يبعث ما بقي من الخبث والفضول الى مغايض ومصارف قد اعدت لها فما كان من مرة صفراء بعثت به الى المرارة وما كان من مرة سوداء بعثت به الى الطحال وما كان من الرطوبة المائية بعثت به الى المثانة فمن ذا الذي تولى ذلككله وأحكمه ودبره وقدره احسن تقدير وكأني بك ايها المسكين تقول هذا كله من فعل الطبيعة وفي الطبيعة عجائب واسرار فلو أراد الله ان يهديك لسالت نفسك بنفسك وقلت اخبريني عن هذه الطبيعة اهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الافعال العجيبة ام ليست كذلك بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه فإن قالت لك بل هي ذات قائمة بنفسها لها العلم التام والقدرة والارادة والحكمة فقل لها هذا هو الخالق البارئ المصور فلم تسمينه طبيعية ويا لله من ذكر الطبائع ومن يرغب فيها فهلا سميته بما سمى به نفسه على السن رسله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى وإن قالت تلك بل الطبيعة عرض محمول مفتقر الى حامل وهذا كله فعلها بغير علم منها
(1/492)
ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور اصلا وقد شوهد من آثارها ما شوهد فقل لها هذا مالا يصدقه ذو عقل سليم كيف تصدر هذه الافعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممن لا عقل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور وهل التصديق بمثل هذا إلا دخول في سلك المجانين والمبرسمين ثم قل لها بعد ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم ان مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها فمن ربها ومبدعها وخالقها ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك فهي إذا من ادل الدلائل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته فلم يجد عليك تعطيلك رب العالم وجحدك لصفاته وأفعاله الا مخالفتك العقل والفطرة ولو حاكمناك الى الطبيعة لرايناك انك خارج عن موجبها فلا انت مع موجب العقل ولا الفطرة ولا الطبيعة ولا الانسانية اصلا وكفى بذلك جهلا وضلالا فإن رجعت الى العقل وقلت لا يوجد حكمة الا من حكيم قادر عليم ولا تدبير
(1/493)
متقن الا من صانع قادر مختار مدبر عليم بما يريد قادر عليه لا يعجزه ولا يؤؤده قيل لك فإذا اقررت ويحك بالخلاق العظيم الذي لا اله غيره ولا رب سواه فدع تسميته طبيعة اوعقلا فعالا او موجبا بذاته وقل هذا هو الله الخالق البارئ المصور رب العالمين وقيوم السموات والارضين ورب المشارق والمغارب الذي احسن كل شيء خلقه واتقن ما صنع فمالك جحدت اسماءه وصفاته وذاته اضفت صنيعه الى غيره وخلقه الى سواه مع انك مضطر الى الاقرار به إضافة الابداع والخلق والربوبية والتدبير اليه ولا بد والحمد لله رب العالمين على انك لو تأملت قولك طبيعة ومعنى هذه اللفظة لدلك على الخالق الباريء لفظها كما دل العقول عليه معناها لان طبيعة فعيلة بمعنى مفعولة أي مطبوعة ولا يحتمل غيرهذا البتة لانها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه ومعلوم ان طبيعة من غير طابع لها محال فقد دل لفظ الطبيعة على البارئ تعالى كما دل معناها عليه والمسلمون يقولون ان الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب وهي سنته في خليقته التي اجراها عليه ثم انه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء فيسلبها تاثيرها إذا اراد ويقلب تأثيرها الى ضده إذا شاء ليرى عباده أنه وحده الخالق البارئ المصور وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء وإنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش اليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر ملخوقاته فكيف يحسن بمن له حظ من انسانية اوعقل ان ينسى من طبعها وخلقها ويحيل الصنع والابداع عليها ولم يزل الله سبحانه يسلبها قوتها ويحيلها ويقلبها الى ضد ما جعلت له حتى يرى عباده انها خلقه وصنعه مسخرة بامره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين فصل فاعد النظر في نفسك وتأمل حكمة اللطيف الخبير في تركيب البدن
(1/494)
ووضع هذه الاعضاء مواضعها منه واعدادها لما اعدت له وإعداد هذه الاوعية المعدة لحمل الفضلات وجمعها لكيلا تنتشر في البدن فتفسده ثم تأمل الحكمة البالغة في تنميتك وكثرة اجزائك من غير تفكيك ولا تفصيل ولو ان صائغا اخذ تمثالا من ذهب او فضة او نحاس فأراد ان يجعله اكبر مما هو هل كان يمكنه ذلك الا بعد ان يكسره ويصوغه صياغة اخرى والرب تعالى ينمي جسم الطفل واعضاءه الظاهرة والباطنة وجميع اجزائه وهو باق ثابت على شكله وهيئته لا يتزايل ولا ينفك ولا ينقص وأعجب من هذا كله تصويره في الرحم حيث لاتراه العيون ولا تلمسه الايدي ولا تصل اليه الالات فيخرج بشرا سويا مستوفيا لكل ما فيه مصلحته وقوامه من عضو وحاسة وآلة من الاحشاء والجوارح والحوامل والاعصاب والرباطات والاغشية والعظام المختلفة الشكل والقدر والمنفعة والموضع الى غير ذلك من اللحم والشحم والمخ وما في ذلك من دقيق التركيب ولطيف الخلقة وخفي الحكمة وبديع الصنعة كل هذا صنع الله احسن الخالقين في قطرة من ماء مهين وما كرر عليك في كتابه مبدأ خلقك وإعادته ودعاك الى التفكير فيه إلا لما بك من العبرة والمعرفة ولا تستطل هذا الفصل وما فيه من نوع تكرار يشتمل على مزيد فائدة فإن الحاجة اليه ماسة والمنفعة عظيمة فانظر الىبعض ما خصك به وفضلك به على البهائم المهملة إذ خلقك على هيئة تنتصب قائما وتستوي جالسا وتستقبل الاشياء ببدنك وتقبل عليها بجملتك فيمكنك العمل والصلاح والتدبير ولو كنت كذوات الاربع المكبوبة على وجهها لم يظهر لك فضيلة تمييز واختصاص ولم يتهيأ منك ما تهيأ من هذه النسبة فصل قال الله تعالى ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر
(1/495)
ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم الاية فسبحان من البسه خلع الكرامة كلها من العقل والعلم والبيان والنطق والشكل والصورة الحسنةوالهيئة الشريفة والقد المعتدل واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر واقتناص الاخلاق الشريفة الفاضلة من البر والطاعة والانقياد فكم بين حاله وهو نطفة في داخل الرحم مستودع هنا وبين حاله والملك يدخل عليه في جنات عدن فتبارك الله احسن الخالقين فالدنيا قرية والمؤمن رئيسها والكل مشغول به ساع في مصالحه والكل قد اقيم في خدمته وحوائجه فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون له والملائكة الموكلون به يحفظونه والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه والافلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب ازمنته واوقاته وإصلاح رواتب اقواته والعالم الجوي مسخر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره وما اودع فيه والعالم السفلي كله مسخر له مخلوق لمصالحه ارضه وجباله وبحاره وأنهاره وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه وكل ما فيه كما قال تعالى الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره الى قوله يتكفرون وقال تعالى الله الذي خلق السموات والارض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الى قوله كفار فالسائر في معرفة آلاء الله وتأمل حكمته وبديع صفاته اطول باعا وأملأ صواعا من اللصيق بمكانه المقيم في بلد عادته وطبعه راضيا بعيش بني جنسه لا يرضى لنفسه إلا ان يكون واحدا منهم يقول لي اسوة بهم وهل انا الا من ربيعة او مضر وليست نفائس البضائع الا لمن امتطى غارب الاغتراب وطوف في الافاق حتى رضى من الغنيمة بالاياب فاستلان ما استوعره البطالون وأنس بما استوحش منه الجاهلون فصل فاعد النظر في نفسك وحكمة الخلاق العليم في خلقك وانظر الى
(1/496)
الحواس التي منها تشرف على الاشياء كيف جعلها الله في الراس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الاشياء ولم تجعل في الاعضاء التي تمتهن كاليدين والرجلين فتتعرض للافات بمباشرة الاعمال والحركات ولاجعلها في الاعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر عليك التلفت والاطلاع على الاشياء فلما لم يكن لها في شيء من هذه الاعضاء موضع كان الراس اليق المواضع بها وأجملها فالراس صومعة الحواس ثم تأمل الحكمة في ان جعل الحواس خمسا في مقابلة المحسوسات الخمس ليلقى خمسا بخمس كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بحاسة فجعل البصر في مقابلة المبصرات والسمع في مقابلة الاصوات والشم في مقابلة أنواع الروائح المختلفات والذوق في مقابلة الكيفيات المذوقات واللمس في مقابلة الملموسات فأي محسوس بقي بلا حاسة ولو كان في المحسوسات شيء غير هذه لاعطاك له حاسة سادسة ولما كان ما عداها إنما يدرك بالباطن اعطاك الحواس الباطنة وهي هذه الاخماس التي جرت عليها السنة العامة والخاصة حيث يقولون في المفكر المتأمل ضرب اخماسه في أسداسه فأخماسه حواسه الخمس واسداسه جهانه الست وأرادوا بذلك انه جذبه القلب وسار به في الاقطار والجهات حتى قلب حواسه الخمس في جهاته ألست وضربها فيها لشدة فكره فصل ثم اعينت هذه الحواس بمخلوقات اخر منفصلة عنها تكون واسطة في
(1/497)
احساسها فاعينت حاسة البصر بالضياء والشعاع فلولاه لم ينتفع الناظر ببصره فلو منع الضياء والشعاع لم تنفع العين شيئا واعينت حاسة السمع بالهواء يحمل الاصوات في الجو ثم يلقيها الى الاذن فتحويه ثم تقلبه الىالقوة السامعة ولولا الهواء لم يسمع الرجل شيئا واعينت حاسة الشم بالنسيم اللطيف يحمل الرائحة ثم يؤديها اليها فتدركها فلولا هو لم تشم شيئا واعينت حاسة الذوق بالريق المتحلل في الفم تدرك القوة الزائقة به طعوم الاشياء ولهذا لم يكن له طعم لا حلو ولا حامض ولا مالح ولا حريف لانه كان يحيل تلك الطعوم الى طعمه ولا يحصل به مقصوده واعينت حاسة اللمس بقوة جعلها الله فيها تدرك بها الملموسات ولم تحتج الى شيء من خارج بخلاف غيرها من الحواس بل تدرك الملموسات بلا واسطة بينها وبينها لانها إنما تدركها بالاجتماع والملامسة فلم تحتج الىواسطة فصل ثم تأمل حال من عدم البصر وما يناله من الخلل في أموره فإنه
(1/498)
لا يعرف موضع قدمه ولا يبصر ما بين يديه ولا يفرق بين الالوان والمناظر الحسنة من القبيحة ولا يتمكن من استفادة علم من كتاب يقرأه ولايتهيأ له الاعتبار والنظر في عجائب ملك الله هذا مع انه لا يشعر بكثير من مصالحه ومضاره فلا يشعر بحفرة يهوى فيها ولا بحيوان يقصده كالسبع فيتحرز له ولا بعدو يهوى نحوه ليقتله ولا يتمكن من هرب ان طلب بل هو ملق السلم لمن رامه باذى ولولا حفظ خاص من الله له قريب من حفظ الوليد وكلاءته لكان عطبه اقرب من سلامته فإنه بمنزلة لحم على وضم ولذلك جعل الله ثوابه إذا صبر واحتسب الجنةومن كمال لطفه ان عكس نوربصره الى بصيرته فهو اقوى الناس بصيرة وحدسا وجمع عليه همه فقلبه مجموع عليه غير مشتت ليهنأ له العيش وتتم مصلحته ولا يظن انه مغموم حزين متاسف هذا حكم من ولد اعمى فأما من اصيب بعينيه بعدالبصر فهو بمنزلة سائر اهل البلاء المنتقلين من العافية الى البلية فالمحنة عليه شديدة لانه قد حيل بينه وبين ما الفه من المرائي والصور ووجوه الانتفاع ببصره فهذا له حكم آخر وكذلك من عدم السمع فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة ويعدم لذة المذاكرة ونغمة الاصوات الشجية وتعظم المؤنة علىالناس في خطابه ويتبرمون به ولا يسمع شيئا من اخبار الناس واحاديثهم فهو بينهم شاهد كغائب وحي كميت وقريب كبعيد وقد اختلف النظار في ايهما اقرب الى الكمال واقل اختلالا لاموره الضرير او الاطرش وذكروا في ذلك وجوها وهذا مبني على اصل آخر وهو أي الصفتين اكمل صفة السمع او صفة البصر وقد ذكرنا الخلاف فيهما فيما تقدم من هذا الكتاب وذكرنا اقوال الناس وأدلتهم والتحقيق في ذلك فأي الصفتين كانت اكمل فالضرر بعدمها اقوى والذي يليق بهذا الموضع ان يقال عادم البصر اشدهما ضررا وأسلمهما دينا واحمدهما عاقبة وعادم السمع اقلهما ضررا في دنياه واجهلهما بدينه واسوا عاقبة فإنه إذا عدم السمع عدم المواعظ والنصائح وانسدت عليه ابواب العلوم النافعة
(1/499)
وانفتحت له طرق الشهوات التي يدركها البصر ولا يناله من العلم ما يكفه عنها فضرره في دينه اكثر وضرر الاعمى في دنياه اكثر ولهذا لم يكن في الصحابة اطرش وكان فيهم جماعة اضراء وقل ان يبتلى الله اولياءه بالطرش ويبتلى كثيرا منهم بالعمى فهذا فصل الخطاب في هذه المسئلة فمضرة الطرش في الدين ومضرة العمى في الدنيا والمعافى من عافاه الله منهما ومتعه بسمعه وبصره وجعلهما الوارثين منه فصل وأما من عدم البيانين بيان القلب وبيان اللسان فذلك بمنزلة الحيوانات البهيمة بل هي احسن حالا منه فإن فيها ما خلقت له من المنافع والمصالح التي تستعمل فيها وهذا يجهل كثيرا مما تهتدي اليه البهائم ويلقى نفسه فيما تكف البهائم انفسها عنه وان عدم بيان اللسان دون بيان القلب ومن عدم خاصة الانسان وهي النطق اشتدت المؤمنة به وعليه وعظمت حسرته وطال تأسفه على رد الجواب ورجع الخطاب فهو كالمقعد الذي يرى ما هو محتاج اليه ولا تمتد اليه يده ولا رجله فكم لله على عبده من نعمة سابغة فيهذه الاعضاء والجوارح والقوى والمنافع التي فيه فهو لا يلتفت اليها ولا يشكر الله عليها ولو فقد شيئا منها لتمنى انه له بالدنيا وما عليها فهو يتقلب في نعم الله بسلامة اعضائه وجوارحه وقواه وهو عار من شكرها ولوعرضت عليه الدنيا ما فيها بزوال واحدة منها لابي المعاوضة وعلم انها معاوضة غبن ان الانسان لظلوم كفور فصل ثم تأمل حكمته في الاعضاء التي خلقت فيك آحادا ومثنى وثلاث
(1/500)
ورباع وما في ذلك من الحكم البالغة فالراس واللسان والانف والذكر خلق كل منهما واحدا فقط إذلا مصلحة في كونه اكثر من ذلك الا ترى انه لو اضيف الى الراس راس آخر لاثقلا بدنه من غير حاجة اليه لان جميع الحواس التي يحتاج اليها مجتمعة في رأس واحد ثم ان الانسان كان ينقسم براسه قسمين فإن تكلم من احدهما وسمع به وابصر وشم وذاق بقي الاخر معطلا لا أرب فيه وإن تكلم وابصر وسمع بهما معا كلاما واحدا وسمعا واحدا وبصرا واحدا كان الاخر فضله لا فائدة فيه وإن اختلف إدراكهما اختلفت عليه احواله وإدراكاته وكذلك لو كان له لسانان في فم واحد فإن تكلم بهما كلاما واحدا كان احدهما ضائعا وان تكلم باحدهما دون الاخر فكذلك وان تكلم بهما معا كلامين مختلفين خلط على السامع ولم يدر باي الكلامين يأخذ وكذلك لو كان له هنوان وفمان لكان مع قبح الخلقة احدهما فضلة لا منفعة فيه وهذا بخلاف الاعضاء التي خلقت مثنى كالعينين والاذنين والشفتين واليدين والرجلين والساقين والفخذين والوركين والثديين فإن الحكمة فيها ظاهرة والمصلحة بينه والجمال والزينة عليها بادية فلو كان الانسان بعين واحدة لكان مشوه الخلقة ناقصها وكذلك الحاجبان وأما اليدان والرجلان والساقان والفخذان فتعددهما ضروري للانسان لا تتم مصلحته الا بذلك الا ترى من قطعت احدى يديه او رجليه كيف تبقى حاله وعجزه فلو ان النجار والخياط والحداد والخباز والبناء واصحاب الصنائع التي لا تتأتى الا باليدين شلت يد احدهما لتعطلت عليه صنعته فاقتضت الحكمة
(2/1)
ان اعطى من هذا الضرب من الجوارح والاعضاء اثنين اثني وكذلك اعطى شفتين لانه لا تكمل مصلحته إلا بهما وفيهما ضروب عديدة من المنافع ومن الكلام والذوق وغطاء الفم والجمال والزينة والقبلة وغير ذلك وأما الاعضاء الثلاثة فهي جوانب انفه وحيطانه وقد ذكرنا حكمة ذلك فيما تقدم واما الاعضاء الرباعية فالكعاب الاربعة التي هي مجمع القدمين والممسكة لهما وبهما قوة القدمين وحركتهما وفيهما منافع الساقين وكذلك اجفان العينين فيها من الحكم والمنافع انها غطاء للعينين ووقاية لهما وجمال وزينة وغير ذلك من الحكم فاقتضت الحكمة البالغة ان جعلت الاعضاء على ما هي عليه من العدد والشكل والهيئة فلو زادت او نقصت لكان نقصا في الخلقة ولهذا يوجد في النوع الانساني من زائد في الخلقة وناقص منها ما يدل على حكمة الرب تعالى وأنه لو شاء لجعل خلقه كلهم هكذا وليعلم الكامل الخلقة تمام النعمة عليه وانه خلق خلقا سويا معتدلا لم يزد في خلقه مالا يحتاج اليه ولم ينقص منه ما يحتاج اليه كما يراه في غيره فهو اجدر ان لم يزداد شكرا وحمدا لربه ويعلم ان ذلك ليس من صنع الطبيعة وإنما ذلك صنع الله الذي اتقن كل شيء خلقه وانه يخلق ما يشاء فصل من اين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الانسان
(2/2)
بين صورهم فقل ان يرى اثنان متشابهان من كل وجه وذلك من اندر ما في العالم بخلاف اصناف الحيوان كالنعم والوحوش والطير وسائر الدواب فإنك ترى السرب من الظباء والثلة من الغنم والذود من الابل والصوار من البقر تتشابه حتى لا يفرق بين واحد منهما وبين الاخر إلا بعد طول تأمل او بعلامة ظاهرة والناس مختلفة صورهم وخلقتهم فلا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة وخلقة واحدة بل ولا صوت واحد وحنجرة واحدة والحكمة البالغة في ذلك ان الناس يحتاجون الى ان يتعارفوا بأعينهم وحلاهم لما يجرى بينهم من المعاملات فلولا الفرق والاختلاف في الصور لفسدت احوالهم وتشت نظامهم ولم يعرف الشاهد من المشهود عليه ولا المدين من رب الدين ولا البائع من المشتري ولا كان الرجل يعرف عرسه من غيرها للاختلاط ولا هي تعرف بعلها من غيره وفي ذلك اعظم الفساد والخلل فمن الذي ميز بين حلاهم وصورهم واصواتهم وفرق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف فسل المعطل اهذا فعل الطبيعة وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع وأين قول الطبائعيين ان فعلها متشابه لانها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف افعالها فكيف يجمع المعطل بين هذا وهذا فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وربما وقع في النوع الانساني تشابه بين اثنين لا يكاد يميز بينهما فتعظم عليهم المؤنة في معاملتهما وتشتد الحاجة الى تمييز المستحق منهما والمؤاخذ بذنبه ومن عليه الحق وإذا كان هذا يعرض في التشابه في الاسماء كثيرا ويلقى الشاهد والحاكم من ذلك ما يلقى فما الظن لو وضع التشابه في الخلقة والصورة ولما كان الحيوان البهيم والطير والوحوش لا يضرها هذا التشابه شيئا لم تدع الحكمة الى الفرق بين كل زوجين منها فتبارك الله احسن الخالقين الذي وسعت حكمته كل شيء فصل ثم تأمل لم صارت المرأة والرجل إذا ادركا اشتركا في نبات
(2/3)
العانة ثم ينفرد الرجل عن المرأة باللحية فإن الله عز وجل لما جعل الرجل قيما على المرأة وجعلها كالخول له والعاني في يديه ميزه عليها بما فيه له المهانة والعز والوقار والجلالة لكماله وحاجته الى ذلك ومنعتها المرأة لكمال الاستمتاع بها والتلذذ لتبقى نضارة وجهها وحسنه لا يشينه الشعر واشتراكا في سائر الشعور للحكمة والمنفعة التي فيها فصل ثم تأمل هذا الصوت الخارج من الحلق وتهيئة آلاته والكلام وانتظامه والحروف ومخارجها وأدواتها ومقاطعها واجراسها تجد الحكمة الباهرة في هواء ساذج يخرج من الجوف فيسلك في أنبوبة الحنجرة حتى ينتهي الى الحلق واللسان والشفتين والاسنان فيحدث له هناك مقاطع ونهايات وأجراس يسمع له عند كل مقطع ونهاية جرس مبين منفصل عن الاخر يحدث بسببه الحرف فهو صوت واحد ساذج يجرى في قصبة واحدة حتى ينتهي الى مقاطع وحدود تسمع له منها تسعة وعشرين حرفا يدور عليها الكلام كله امره ونهيه وخبره واستخباره ونظمه ونثرة وخطبه ومواعظه وفضوله فمنه المضحك ومنه المبكي ومنه المؤيس ومنه المطمع ومنه المخوف ومنه المرجي والمسلى والمحزن والقابض للنفس والجوارح والمنشط لها والذي يسقم الصحيح ويبرئ السقيم ومنه ما يزيل النعم ويحل النقم ومنه ما يستدفع به البلاء ويستجلب به النعماء وتستمال به القلوب ويؤلف به بين المتباغضين ويوالي به بين المتعاديين ومنه ما هو بضد ذلك ومنه الكلمة التي لا يلقى لها صاحبها بالا يهوى بها في النار ابعد ما بين المشرق والمغرب والكلمة التي لا يلقى لها بالا صاحبها يركض بها في أعلا عليين في جوار رب العالمين فسبحان من أنشأ ذلك كله من هواء ساذج يخرج من الصدر لا يدري ما يراد به ولا أين ينتهي ولا أين مستقره هذا الى ما في ذلك من اختلاف الالسنة واللغات التي لا يحصيها الا الله فيجتمع الجمع من الناس من بلاد شتى فيتكلم كل منهم بلغته
(2/4)
فتسمع لغات مختلفة كلاما منتظما مؤلفا ولا يدري كل منهم ما يقول الاخر واللسان الذي هو جارحة واحد في الشكل والمنظر وكذلك الحلق والاضراس والشفتان والكلام مختلف متفاوت اعظم تفاوت فالاية في ذلك كالاية في الارض التي تسقى بماء واحد وتخرج مع ذلك من انواع النبات والازهار والحبوب والثمار تلك الانواع المختلفة المتباينة ولهذا اخبر الله سبحانه في كتابه ان في كل منهما آيات فقال ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف السنتكم والونكم إن في ذلك لايات للعالمين وقال وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد الاية فانظر الان في الحنجرة كيف هي كالأنبوب لخروج الصوت واللسان والشفتان والاسنان لصياغة الحروف والنغمات الا ترى ان من سقطت اسنانه لم يقم الحروف التي تخرج منها ومن اللسان ومن سقطت شفته كيف لم يقم الراء واللام ومن عرضت له آفة في حلقه كيف لم يتمكن من الحروف الحلقية وقد شبه اصحاب التشريح مخرج الصوت بالمزمار والرئة بالزق الذي ينفخ فيه من تحته ليدخل الريح فيه والفضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت من الحنجرة بالاكف التي تقبض على الزق حتى يخرج الهواء في القصب والشفتين والاسنان التي تصوغ الصوت حروفا ونغما بالاصابع التي تختلف على المزمار فتصوغه الحانا والماقطع التي ينتهي اليها الصوت بالابخاش التي في القصبة حتى قيل ان المزمار إنما اتخذ على مثال ذلك من الانسان فإذا تعجبت من الصناعة التي تعملها اكف الناس حتى تخرج منها تلك الاصوات فما احراك بطول التعجب من الصناعة الالهية التي اخرجت تلك الحروف والاصوات من اللحم والدم والعروق والعظام ويا بعد ما بينهما ولكن المألوف المعتاد لا يقع عند النفوس موقع التعجب فإذا رأت مالا نسبة له اليه اصلا الا انه غريب عندها تلقته بالتعجب وتسبيح الرب تعالى وعندها من آياته العجيبة الباهرة ما هو اعظم من ذلك مما لا يدركه القياس ثم تأمل
(2/5)
اختلاف هذه النغمات وتباين هذه الاصوات مع تشابه الحناجر والحلوق والالسنة والشفاة والاسنان فمن الذي ميز بينها أتم تمييز مع تشابه محالها سوى الخلاق العليم فصل وفي هذه الالات مآرب اخرى ومنافع سوى منفعة الكلام ففي الحنجرة مسلك النسيم البارد الذي يروح على الفؤاد بهذا النفس الدائم المتتابع وفي اللسان منفعة الذوق فتذاق به الطعوم وتدرك لذتها ويميز بها بينها فيعرف حقيقة كل واحد منها وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام وان يلوكه ويقلبه حتى يسهل مسلكه في الحلق وفي الاسنان من المنافع ما هو معلوم من تقطيع الطعام كما تقدم وفيها إسناد الشفتين وإمساكهما
(2/6)
عن الاسترخاء وتشويه الصورة ولهذا ترى من سقطت اسنانه كيف تسترخي شفتاه وفي الشفتين منافع عديدة يرشف بها الشراب حتى يكون الداخل منه الى حلقه بقدر فلا يشرق به الشارب ثم هما باب مغلق على الفم الذي اليه ينتهي اليه ما يخرج من الجوف ومنه يبتدي ما يلج فهي فهما عطاء وطابق عليه يفتحهما البواب متى شاء ويغلقهما إذا شاء وهما ايضا جمال وزينة للوجه وفيهما منافع اخرى سوى ذلك وانظر الى من سقطت شفتاه ما اشوه منظره وقد بان ان كل واحد من هذه الاعضاء يتصرف الى وجوه شتى من المنافع والمآرب والمصالح كما تتصرف الاداة الواحدة في اعمال شتى هذا ولو رأيت الدماغ وكشف لك عن تركيبه وخلقه لرايت العجب العجاب وتكشف لك عن تركيب يحار فيه العقل قد لف بحجب وأغشيه بعضها فوق بعض لتصونه عن الاعراض وتحفظه عن الاضطراب ثم اطبقت عليه الجمجمة بمنزلة الخوذة وبيضة الحديد لتقيه حد الصدمة والسقطة والضربة التي تصل اليه فتتلقاها تلك البيضة عنه بمنزلة الخوذة التي على راس المحارب ثم جللت تلك الجمجمة بالجلد الذي هو فروة الراس يستر العظم من البروز للمؤذيات ثم كسيت تلك الفروة حلة من الشعر الوافر وقاية لها وسترا من الحر والبرد والاذى وجمالا وزينة له فسل المعطل من الذي حصن الدماغ هذا التحصين وقدره هذا التقدير وجعله خزانة اودع فيها من المنافع والقوى والعجائب ما اودعه ثم احكم سد تلك الخزانة وحصنها اتم تحصين وصانها اعظم صيانة وجعلها معدن الحواس والادراكات ومن الذي جعل الاجفان على العينين كالغشاء والاشفار كالاشراج والاهداب كالرفوف فوف عليها إذا فتحت ومن الذي ركب طبقاتها المختلفة طبقة فوق طبقة حتى بلغت عدد السموات سبعا وجعل لكل طبقة منفعة وفائدة فلو اختلت طبقة منها لاختل البصر ومن شقهما في الوجه احسن شق واعطاهما احسن شكل وأودع الملاحة فيهما وجعلهما مرآة للقلب وطليعة وحارسا للبدن ورائدا يرسله كالجند في مهماته فلا يتعب ولا يعيا على كثرة
(2/7)
ظعنه وطول سفره ومن اودع النور الباصر فيه في قدر جرم العدسة فيرى فيه السموات والارض والجبال والشمس والقمر والبحار والعجائب من داخل سبع طبقات وجعلهما في أعلا الوجه بمنزلة الحارس على الرابية العالية ربيتة للبدن ومن حجب الملك في الصدور وأجلسه هناك على كرسي المملكة واقام جند الجوارح والاعضاء والقوى الباطنة والظاهرة في خدمته وذللها له فهي مؤتمرة إذا امرها منتهية إذا نهاها سامعة له مطيعةتكدح وتسعى في مرضاته فلا تستطيع منه خلاصا ولا خروجا عن امره فمنها رسوله ومنها بريده ومنها ترجمانه ومنها اعوانه وكل منها على عمل لا يتعداه ولا يتصرف في غير عمله حتى إذا أراد الراحة أوعز اليها بالهدو والسكون ليأخذ الملك راحته فإذا استيقظ من منامه قامت جنوده بين يديه على اعمالها وذهبت حيث وجهها دائبة لا تفتر فلو شاهدته في محل ملكه والاشغال والمراسيم صادرة عنه وواردة والعساكر في خدمته والبرد تتردد بينه وبين جنده ورعيته لرأيت له شأنا عجيبا فماذا فات الجاهل الغافل من العجائب والمعارف والعبر التي لا يحتاج فيها الى طول الاسفار وركوب القفار قال تعالى وفي الارض آيات للموقنين وفي انفسكم افلا تبصرون فدعا عباده الى التفكر في أنفسهم والاستدلال بها على فاطرها وباريها ولولا هذا لم نوسع الكلام في هذا الباب ولا أطلنا النفس الى هذه الغاية ولكن العبرة بذلك حاصلة والمنفعة عظيمة والفكرة فيه مما يزيد المؤمن ايمانا فكم دون القلب من حرس وكم له من خادم وكم له من عبيد ولا يشعر به ولله ما خلق له وهيأ له واريد منه وأعد له من الكرامة والنعيم او الهوان والعذاب فأما على سرير الملك في مقعد صدق عند مليك مقتدر ينظر الى وجه ربه ويسمع خطابه وإما اسير في السجن الاعظم بين اطباق النيران في العذاب الاليم فلو عقل هذا السلطان ما هيأ له لضن بملكه ولسعى في الملك الذي لاينقطع ولا يبيد ولكنه ضربت عليه حجب الغفلة ليقضى الله امرا كان مفعولا
(2/8)
فصل ومن جعل في الحلق منفذين احدهما للصوت والنفس الواصل الى الرئة والاخر للطعام والشراب وهو المريء الواصل الى المعدة وجعل بينهما حاجزا يمنع عبور احدهما في طريق الاخر فلو وصل الطعام من منفذ النفس الى الرئة لاهلك الحيوان ومن جعل الرئة مروحة للقلب تروح عليه لا تنى ولا تفتر لكيلا تنحصر الحرارة فيه فيهلك ومن جعل المنافذ لفضلات الغذاء وجعل لها اشراجا تقبضها لكيلا تجرى جريا دائما فتفسد على الانسان عيشه ويمنع الناس من مجالسه بعضهم بعضا ومن جعل المعدة كأشد ما يكون من العصب لانها هيئت لطبخ الاطعمة وانضاجها فلو كانت لحما غضا لانطبخت هي ونضجت فجعلت كالعصب الشديد لتقوى على الطبخ والانضاج ولا تنهكها النار التي تحتها ومن جعل الكبد رقيقة ناعمة لانها هيئت لقبول الصفو اللطيف من الغذاء والهضم وعمل هو الطف من عمل المعدة ومن حصن المخ اللطيف الرقيق في انابيب صلبة من العظام ليحفظها ويصونها فلا تفسد ولا تذوب ومن جعل الدم السيال محبوسا محصورا في العروق بمنزلة الماء في الوعاء ليضبط فلا يجري ومن جعل الاظفار على اطراف الاصابع وقاية لها وصيانة من الاعمال والصناعات ومن جعل داخل الاذن مستويا كهيئة الكوكب ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي الى السمع الداخل وقد انكسرت حدة الهواء فلا ينكؤه وليتعذر على الهواء النفوذ اليه قبل ان يمسك وليمسك
(2/9)
ما عساه ان يغشاها من القذى والوسخ ولغير ذلك من الحكم ومن جعل على الفخذين والوركين من اللحم اكثر مما على سائر الاعضاء ليقيها من الارض فلا تألم عظامها من كثرة الجلوس كما يألم من قد نحل جسمه وقل لحمه من طول الجلوس حيث لم يحل بينه وبين الارض حائل ومن جعل ماء العينين ملحا يحفظها من الذوبان وماء الاذن مرا يحفظها من الذباب والهواء والبعوض وماء الفم عذبا يدرك به طعوم الاشياء فلا يخالطها طعم غيرها ومن جعل باب الخلاء في الانسان في استر موضع كما ان البناء الحكيم بجعل موضع التخلى في استر موضع في الدار وهكذا منفذ الخلاء من الانسان في استر موضع ليس بارزا من خلفه ولا ناشزا بين يديه بل مغيب في موضع غامض من البدن يلتقى عليه الفخذان بما عليهما من اللحم متواريا فإذا جاء وقت الحاجة وجلس الانسان لها برز ذلك المخرج للآرض ومن جعل الاسنان حدادا لقطع الطعام وتفصيله والاضراس عراضا لرضه وطحنه ومن سلب الاحساس الحيواني الشعور والاظفار التي في الادمي لانها قد تطول وتمتد وتدعو الحاجة الى اخذها وتخفيفها فلو اعطاها الحس لالمته وشق عليه اخذ ما شاء منها ولو كانت تحس لوقع الانسان منها في إحدى البليتين اما تركها حتى تطول وتفحش وتثقل عليه وأما مقاساة الالم والوجع عند اخذها ومن جعل باطن الكف غير قابل لانبات الشعر لانه لو اشعر لتعذر على الانسان صحة اللمس ولشق عليه كثير من الاعمال التي تباشر بالكف ولهذه الحكمة لم يكن هن الرجل قابلا لانباته لانه يمنعه من الجماع ولما كانت المادة تقتضي إنباته هناك نبت حول هن الرجل والمرأة ولهذه الحكمة سلب عن الشفتين وكذا باطن الفم وكذا ايضا القدم اخمصها وظاهرها لانها تلاقي التراب والوسخ والطين والشوك فلو كان هناك شعر لأذى الانسان جدا وحمل من الارض كل وقت ما يثقل الانسان وليس هذا للانسان وحده بل ترى البهائم قد جللها الشعر كلها واخليت هذه المواضع منه لهذه الحكمة افلا ترى الصنعة
(2/10)
الالهية كيف سلبت وجوه الخطأ والمضرة وجاءت بكل صواب وكل منفعةوكل مصلحة ولما اجتهد الطاعنون في الحكمة العائبون للخلقة فيما يطعنون به عابوا الشعور تحت الاباط وشعر العانة وشعر باطن الانف وشعر الركبتين وقالوا أي حكمة فيها واي فائدة وهذا من فرط جهلهم وسخافة عقولهم فإن الحكمة لا يجب ان تكون بأسرها معلومة للبشر ولا أكثرها بل لا نسبة لما علموه الى ما جهلوه فيها لو قيست علوم الخلائق كلهم بوجوه حكمة الله تعالى في خلقه وأمره الى ما خفي عنهم منها كانت كنقرة عصفور في البحر وحسب الفطن اللبيب ان يستدل بما عرف منها على ما لم يعرف ويعلم الحكمة فيما جهله منها مثلها فيما علمه بل اعظم وادق وما مثل هؤلاء الحمقى النوكي الا كمثل رجل لاعلم له بدقائق الصنائع
(2/11)
والعلوم من البناء والهندسة والطب بل ولاحياكة والخياطة والنجارة إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على اربابها في شيء من الاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم فخفيت عليه فجعل كل ما خفي عليه منها شيء قال هذا لا فائدة فيه وأي حكمة تقتضيه هذا مع ان ارباب الصنائع بشر مثله يمكنه ان يشاركهم في صنائعهم ويفوقهم فيها فما الظن بمن بهرت حكمته العقول الذي لا يشاركه مشارك في حكمته كما لايشاركه في خلقه فلا شريك له بوجه فمن ظن ان يكتال حكمته بمكيال عقله او يجعل عقله عيارا عليها فما ادركه اقربه وما لم يدركه نفاه فهو من اجهل الجاهلين ولله في كل ما خفي على الناس وجه الحكمة فيه حكم عديدة لاتدفع ولا تنكر فاعلم الان ان تحت منابت هذه الشعور من الحرارة والرطوبة ما اقتضت الطبيعة إخراج هذه الشعور عليها الا ترى ان العشب ينبتفي مستنقع المياه بعد نضوب الماء عنها لما خصت به من الرطوبة ولهذا كانت هذه المواضع من ارطب مواضع البدن وهي اقبل لنبات الشعر وأهيأ فدفعت الطبيعة تلك الفضلات والرطوبات الى خارج فصارت شعرا ولو حبست في داخل البدن لاضرته وآذت باطنه فخروجها عين مصلحة الحيوان واحتباسها إنما يكون لنقص وآفة فيه وهذا كخروج دم الحيض من المرأة فإنه عين مصلحتها وكمالها ولهذا يكون احتباسه لفساد في الطبيعة ونقص فيها الا ترى ان من احتبس عنه شعر الرأس واللحية بعد إبانه كيف تراه ناقص الطبيعة ناقص الخلقة ضعيف التركيب فإذا شاهدت ذلك في الشعر الذي عرفت بعض حكمته فمالك لاتعتبره في الشعر الذي خفيت عليك حكمته ومن جعل الريق يجري دائما الى الفم لا ينقطع عنه ليبل الحلق واللهوات ويسهل الكلام ويسيغ الطعام قال بقراط الرطوبة في الفم مطية الغذاء فتأمل حالك عند ما يجف ريقك بعض الجفاف ويقل ينبوع هذه العين التي لا يستغنى عنه فصل ثم تأمل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الاطفال وما لهم فيه
(2/12)
من المنفعة فإن الاطباء والطبائعيين شهدوا منفعة ذلك وحكمته وقالوا في أدمغة الاطفال رطوبة لو بقيت في أدمغتهم لاحدثت احداثا عظيمة فالبكاء يسيل ذلك ويحدره من ادمغتهم فتقوى ادمغتهم وتصح وايضا فإن البكاء والعياط يوسع عليه مجاري النفس ويفتح العروق ويصابها ويقوى الاعصاب وكم للطفل من منفعة ومصلحة فيما تسمعه من بكائه وصراخه فإذا كانت هذه الحكمة في البكاء الذي سببه ورود الالم المؤذي وأنت لا تعرفها ولا تكاد تخطر ببالك فهكذا ايلام الاطفال فيه وفي اسبابه وعواقبه الحميدة من الحكم ما قد خفي على اكثر الناس واضطرب عليهم الكلام في حكمه اضطراب الارشية وسلكوا في هذا الباب مسالك فقالت
(2/13)
طائفة ليس الا محض المشيئة العارية عن الحكمة والغاية المطلوبة وسدوا على انفسهم هذا الباب جملة وكلما سئلوا عن شيء اجابوا بلا يسال عما يفعل وهذا من اصدق الكلام وليس المراد به نفي حكمته تعالى وعواقب افعاله الحميدة وغاياتها المطلوبة منها وإنما المراد بالاية إفراده بالالهية والربوبية وإنه لكمال حكمته لا معقب لحكمه ولا يعترض عليه بالسؤال لانه لا يفعل شيئا سدى ولا خلق شيئا عبثا وإنما يسأل عن فعله من خرج عن الصواب ولم يكن فيه منفعة ولا فائدة الا ترى الى قوله ام اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون كيف ساق الاية في الانكار على من اتخذ من دونه آلهة لا تساويه فسواها به مع اعظم الفرق فقوله لا يسأل عما يفعل اثبات لحقيقة الالهية وإفراده له بالربوبية والالهية وقوله وهم يسألون في صلاح تلك الالهة المتخذة للالهية فإنهامسئولة مربوبة مدبرة فكيف يسوى بينها وبينه مع اعظم الفرقان فهذا الذي سيق له الكلام فجعلها الجبرية ملجأ ومعقلا في إنكار حكمته وتعليل أفعاله بغاياتها المحمودة وعواقبها السديدة والله الموفق للصواب وقالت طائفة الحكمة في ابتلائهم تعويضهم في الاخرة بالثواب التام فقيل لهم قد كان يمكن ايصال الثواب اليهم بدون هذا الايلام فأجابوا بأن توسط الايلام في حقهم كتوسط التكاليف في حق المكلفين فقيل لهم فهذا ينتقض عليكم بإيلام اطفال الكفار فأجابوا بأنا لا نقول انهم في النار كما قاله من قاله من الناس والنار لا يدخلها احد الا بذنب وهؤلاء لا ذنب لهم وكذا الكلام معهم في مسئلة الاطفال والحجاج فيها من الجانبين بما ليس هذا موضعه فأورد عليهم مالا جواب لهم عنه وهو إيلام اطفالهم الذين قدر بلوغهم وموتهم على الكفر فإن هذا لا تعويض فيه قطعا ولا هو عقوبة على الكفر فإن العقوبة لا تكون سلفا وتعجيلا فحاروا في هذا الموضع واضطربت
(2/14)
اصولهم ولم يأتوا بما يقبله العقل وقالت طائفة ثالثة هذا السؤال لو تأمله مورده لعلم انه ساقط وأن تكلف الجواب عنه الزام مالا يلزم فإن هذه الالام وتوابعها وأسبابها من لوازم النشأة الانسانية التي لم يخلق منفكا عنها فهي كالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب والهم والغم والضعيف والعجز فالسؤال عن حكم الحاجة الى الاكل عند الجوع والحاجة الى الشرب عند الظمأ والى النوم والراحة عند التعب فإن هذه الالام هي من لوازم النشأة الانسانية التي لا ينفك عنها الانسان ولا الحيوان فلو تجرد عنها لم يكن انسانا بل كان ملكا او خلقا آخر وليست آلام الاطفال باصعب من آلام البالغين لكن لما صارت لهم عادة سهل موقعها عندهم وكم بين ما يقاسيه الطفل ويعانيه البالغ العاقل وكل ذلك من مقتضى الانسانية وموجب الخلقة فلو لم يخلق كذلك لكان خلقا آخر فيرى
(2/15)
ان الطفل اذا جاع او عطش او برد او تعب قد خص من ذلك بما لم يمتحن به الكبير فإيلامه بغير ذلك من الاوجاع والاسقام كإيلامه بالجوع والعطش والبرد والحردون ذلك او فوقه وما خلق الانسان بل الحيوان الا على هذه النشأة قالوا فإن سأل سائل وقال فلم خلق كذلك وهلا خلق خلقة غير قابلة للألم فهذا سؤال فاسد فإن الله تعالى خلقه في عالم الابتلاء والامتحان من مادة ضعيفة فهي عرضة للآفات وركبة تركيبا معرضا للأنواع من الالام وجعل فيه الاخلاط الاربعة التي لا قوام له إلا بها ولا يكون الا عليها وهي لا محالة توجب امتزاجا واختلاطا وتفاعلا يبغى بعضها على بعض بكيفيته تارة وبكميته تارة وبهما تارة وذلك موجب للالام قطعا ووجود الملزوم بدون لازمه محال ثم انه سبحانه ركب فيه من القوى والشهوة والارادة ما يوجب حركته الدائبة وسعيه في طلب ما يصلحه دفع ما يضره بنفسه تارة وبمن يعينه تارة فاحوج النوع بعضه الى بعض فحدث من ذلك الاختلاط بينهم وبغى بعضهم على بعض فحدث من ذلك الالام والشرور بنحو ما يحدث من امتزاج اخلاطه واختلاطها وبغى بعضها على بعض والالام لا تتخلف عن هذا الامتزاج ابدا الا في دار البقاء والنعيم المقيم لا في دار الابتلاء والامتحان فمن ظن ان الحكمة في ان تجعل خصائص تلك الدار في هذه فقد ظن باطلا بل الحكمة التامة البالغة اقتضت ان تكون هذه الدار ممزوجة عافيتها ببلائها وراحتها بعنائها ولذتها بآلامها وصحتها بسقمها وفرحها بغمها فهي دار ابتلاء تدفع بعض آفاتها ببعض كما قال القائل : اصبحت في دار بليات ادفع آفات بآفات ولقد صدق فإنك إذا فكرت في الاكل والشرب واللباس والجماع والراحة وسائر ما يستلذ به رأيته يدفع بها ما قابله من الالام والبليات افلا تراك تدفع بالاكل الم الجوع وبالشرب الم العطش وباللباس الم الحر والبرد وكذا سائرها ومن هنا قال بعض العقلاء ان لذاتها لنا هي دفع الالام لا غير فاما اللذات الحقيقية فلها دار
(2/16)
اخرىومحل آخر غير هذه فوجود هذه الالام واللذات الممتزجة المختلطة من الادلة على المعاد وأن الحكمة التي اقتضت ذلك هي اولى باقتضاء دارين دار خالصة للذات لا يشوبها الم ما ودار خالصة للالام لا يشوبها لذة ما والدار الاولى الجنةوالدار الثانية النار أفلا ترى كيف دلك ذلك مع ما انت مجبول عليه في هذه النشأة من اللذة والالم على الجنة والنار ورايت شواهدهما وأدلة وجودهما من نفسك حتى كأنك تعاينهما عيانا وانظر كيف دل العيان والحس والوجود على حكمة الرب تعالى وعلى صدق رسله فيما اخبروا به من الجنة والنار فتأمل كيف قاد النظر في حكمة الله الى شهادة العقول والفطر بصدق رسله وما اخبروا
(2/17)
به تفصيلا يدل عليه العقل مجملا فأين هذا من مقام من اداء علمه الى المعارضة بين ما جاءت به الرسل وبين شواهد العقل وأدلته ولكن تلك العقول كادها باريها ووكلها الى انفسها فحلت بها عساكر الخذلان من كل جانب وحسبك بهذا الفصل وعظيم منفعته من هذا الكتاب والله المحمود المسؤل تمام نعمته فهذه كلمات مختصرة نافعة في مسألة إيلام الاطفال لعلك لا تظفر بها في أكثر الكتب فارجع الان الى نفسك وفكر في هذه الافعال الطبيعية التي جعلت في الانسان وما فيها من الحكمة والمنفعة وما جعل لكل واحد منها في الطبع المجرد والداعي الذي يقتضيه ويستحثه فالجوع يستحث الاكل ويطلبه لما فيه من قوام البدن وحياته ومماته والكرى يقتضى النوم ويستحثه لما فيه من راحة البدن والاعضاء واجمام القوى وعودها الىقوتها جديدة غير كالة والشبق يقتضي الجماع الذي به دوام النسل وقضاءالوطر وتمام اللذة فتجد هذه الدواعي تستحث الانسان لهذه الامور وتتقاضاها منه بغير اختياره وذلك عين الحكمة فإنه لو كان الانسان إنما يستدعي هذه المستحثات إذا اراد لأوشك ان يشتغل عنها بماي يعروه من العوارض مدة فينحل بدنه ويهلك ويترامى الى الفساد وهو لا يشعر كما إذا احتاج بدنه الى شيء من الدواء والصلاح فدافعه وأعرض عنه حتى إذا استحكم به الداء اهلكه فاقتضت حكمة اللطيف الخبير ان جعلت فيه بواعث ومستحثات تؤزه ازا الى ما فيه قوامه وبقاؤه ومصلحته وترد عليه بغير اختياره ولا استدعائه فجعل لكل واحد من هذه الافعال محرك من نفس الطبيعة يحركه ويحدوه عليه ثم انظر الى ما يعطيه من القوى المختلفة التي بها قوامه فأعطى القوة الجاذبة الطالبة المستحثة التي تقتضي معلومها من الغذاء فتأخذه ويورده على الاعضاء بحسب قبولها ثم اعطى القوة الممسكة التي تمسك الطعام وتحبسه ريثما تنضجه الطبيعة وتحكم طبخه وتهيؤه لمصارفه وتبعثه لمستحقه ثم اعطى القوة الهاضمة التي تصرفه في البدن وتهضمه عن المعدة ثم اعطى
(2/18)
القوة الدافعة وهي التي تدفع ثقله ومالا منفعة فيه فتدفعه وتخرجه عن البدن لئلا يؤذيه وينهكه فمن اعطاك هذه القوة عند شدة حاجتك اليها ومن جعلها خادما لك ومن اعطاها افعالها واستعمل كل واحد منها على غير عمل الاخر ومن الف بينها على تباينها حتى اجتمعت في شخص واحد ومحل واحد ولو عادى بينها كان بعضها يذهب بعضا فمن كان يحول بينه وبين ذلك فلولا القوة الجاذبة كيف كنت متحركا لطلب الغذاء الذي به قوام البدن ولولا الممسكة كيف كان الطعام يذهب في الجوف حتى تهضمه المعدة ولولا الهاضمة كيف كان يطبخ حتى يخلص منه الصفو الى سائر اجزاء البدن وأعماقه ولولا الدافعة كيف كان الثقل المؤذي القاتل لو انحبس يخرج اولا فأولا فيستريح البدن فيخف
(2/19)
وينشط فتأمل كيف وكلت هذه القوة بك والقيام بمصالحك فالبدن كدار اللملك فيها حشمه وخدمه قد وكل بتلك الدار اقواما يقومون بمصالحها فبعضهم لاقتضاء حوائجها وإيرادها عليها وبعضهم لقبض الوارد وحظفه وخزنه الى ان يهيأ ويصلح وبعضهم يقبضه فيهيؤه ويصلحه ويدفعه الى اهل الدار ويفرقه عليهم بحسب حاجاتهم وبعضهم لمسح الدار وتنظيفها وكنسها من المزابل والاقذارفالملك هو الملك الحق المبين جل جلاله والدار انت والحشم والخدم الاعضاء والجوارح والقوام عليها هذه القوى التي ذكرناها تنبيه فرق بين نظر الطبيب والطبائعي في هذه الامور فنظرهما فيهامقصور على النظر في حفظ الصحة ودفع السقم فهو ينظر فيهامن هذه الجهة فقط وبين نظر المؤمن العارف فيها فهو ينظر فيها من جهة دلالتها على خالقها وباريها وماله فيها من الحكم البالغة والنعم السابغة والالاء التي دعا العباد الى شكرها وذكرها تنبيه ثم تأمل حكمة الله عز وجل في الحفظ والنسيان الذي خص به نوع الانسان وماله فيهما من الحكم وما للعبد فيهما من المصالح فإنه لولا القوة الحافظة التي خص بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها ولم يعرف ماله وما عليه ولا ما اخذ ولا ما اعطى ولا ما سمع ورأى ولا ما قال ولا ما قيل له ولا ذكر من احسن اليه ولا من اساء اليه ولا من عامله ولا من نفعه فيقرب منه ولا من ضره فينأى عنه ثم كان لايهتدي الى الطريق الذي سلكه اول مرة ولو سلكه مرارا ولا يعرف علما ولو درسه عمره ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع ان يعتبر شيئا على ما مضى بل كان خليقا ان ينسلخ من الانسانية اصلا فتأمل عظيم المنفعة عليك في هذه الخلال وموقع الواحدة منها فضلا عن جميعهن ومن اعجب النعم عليه نعمة النسيان فإنه لولا النسيان لما سلا شيئا ولا انقضت له حسرة ولا تعزى عن مصيبة ولا مات له حزن ولا بطل له حقد ولا تمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الافات ولا رجا غفلة عدو ولا نقمة من حاسد فتأمل نعمة الله في
(2/20)
الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادهما وجعله في كل واحد منهما ضربا من المصلحة تنبيه ثم تأمل هذا الخلق الذي خص به الانسان دون جميع الحيوان وهو خلق الحياء الذي هو من افضل الاخلاق واجلها واعظمها قدرا واكثرها نفعا بل هو خاصة الانسانية فمن لا حياء فيه ليس معه من الانسانية الا اللحم والدم وصورتهم الظاهرة كما انه ليس معه من الخير شيء ولولا هذاالخلق لم يقر الضيف ولم يوف بالوعد ولم يؤد امانة ولم يقض لاحد حاجة ولا تحرى الرجل الجميل فآثره والقبيح فتجنبه ولا ستر له عورة ولا امتنع من فاحشة وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئا من الامور المفترضة عليه ولم يرع لمخلوق
(2/21)
حقا ولم يصل له رحما ولا بر له والدا فإن الباعث على هذه الافعال إما ديني وهو رجاء عاقبتها الحميدةوإما دنيوي علوي وهو حياء فاعلها من الخلق قد تبين انه لولا الحياء إما من الخالق او من الخلائق لم يفعلها صاحبها وفي الترمذي وغيره مرفوعا استحيوا من الله حق الحياء قالوا وما حق الحياء قال ان تحفظ الراس وما حوى والبطن وما وعى وتذكر المقابر والبلى وقال إذا لم تستح فاصنع ما شئت وأصح القولين فيه قول ابي عبيد والاكثرين انه تهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم وقوله كلوا وتمتعوا قليلا وقالت طائفة هو إذن وإباحة والمعنى إنك اذا اردت ان تفعل فعلا فانظر قبل فعله فإن كان مما يستحيا فيه من الله ومن الناس فلا تفعله وإن كان مما لا يستحيا منه فافعله فإنه ليس بقبيح وعندي ان هذا الكلام صورة صرة الطلب ومعناه معنى الخبر وهو في قوة قولهم من لا يستحى صنع ما يشتهى فليس بإذن ولا هو مجرد تهديد وإنما هو في معنى الخبر والمعنى ان الرادع عن القبيح إنما هو الحياء فمن لم يستح فإنه يصنع ماشاء وإخراج هذا المعنى في صيغة الطلب لنكته بديعة جدا وهي ان للانسان آمرين وزاجرين آمروزاجر من جهة الحياء فإذا اطاعه امتنع من فعل كل ما يشتهي وله آمر وزاجر من جهة الهوى والطبيعة فمن لم يطع آمر الحياء وزاجره اطاع آمر الهوى والشهوة ولا بد فإخراج الكلام في قالب الطلب يتضمن هذا المعنى دون ان يقال من لا يستحي صنع ما يشتهي تنبيه ثم تأمل نعمة الله على الانسان بالبيانين البيان النطقي والبيان الخطي وقد اعتد بهما سبحانه في جملة من اعتد به من نعمه علىالعبد فقال في أول سورة انزلت على رسول الله اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق إقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها وكيف تضمنت مراتب الوجودات الاربعة بأوجز لفظ واوضحه واحسنه فذكر أولا عموم الخلق وهو إعطاءالوجود
(2/22)
الخارجي ثم ذكر ثانيا خصوص خلق الانسان لانه موضع العبرة والاية فيه عظيمةومن شهوده عما فيه محض تعدد النعم وذكر مادة خلقه ها هنا من العلقة وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها إما مادة الاصل وهو التراب والطين او الصلصال الذي كالفخار او مادة الفرع وهو الماء المهين وذكر في هذا الموضع اول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو الى العلقة ثم ذكر ثالثا التعليم بالقلم الذي هو من اعظم نعمه على عباده إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس وبه تقيد اخبار الماضين للباقين اللاحقين ولولا الكتابة لانقطعت اخبار بعض الازمنة عن بعض ودرست السنن وتخبطت الاحكام ولم يعرف
(2/23)
الخلف مذاهب السلف وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنمايعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع كالأوعية التي تحفظ الامتعة من الذهاب والبطلان فنعمة الله عن وجل بتعليم القلم بعد القرآن من اجل النعم والتعليم به وإن كان مما يخلص اليه الانسان بالفطنةوالحيلة فإنه الذي بلغ به ذلك وأوصله اليه عطية وهبها الله منه وفضل اعطاه الله إياه وزيادة في خلقه وفضله فهو الذي علمه الكتابة وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم فإن علمه فتعلم كما انه علمه الكلام فتكلم هذا ومن اعطاه الذهن الذي يعي به واللسان الذي يترجم به والبنان الذي يحط به ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات ومن الذي انطق لسانه وحرك بنانه ومن الذي دعم البنان بالكف ودعم الكف بالساعد فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعلم بالقلم فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد امسكت القلم وهو جماد وضعته على القرطاس وهو جماد فتولد من بينهما انواع الحكم واصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر وجوابات المسائل فمن الذي اجرى فلك المعاني على قلبك ورسمها في ذهنك ثم اجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشا عجيبا معناه اعجب من صورته فتقضى به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك وترسله الى الاقطار النائية والجهات المتباعدة فيقوم مقامك ويترجم عنك ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك ويجدي عليك مالا يجدي من ترسله سوى من علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم والتعليم بالقلم يتسلزم المراتب الثلاثة مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي فقد دل التعليم بالقلم على انه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب ودل قوله خلق على انه يعطى الوجود العيني فدلت هذه الايات مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها على ان مراتب الوجود بأسرها مسندة اليه
(2/24)
تعالى خلقا وتعليما وذكر خلقين وتلعيمين خلقا عاما وخلقا خاصا وتعليما خاصا وتعليما عاما وذكر من صفاته ها هنا اسم الاكرم الذي فيه كل خير وكل كمال فله كل كمال وصفا ومنه كل خير فعلا فهو الاكرم في ذاته وأوصافه وأفعاله وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه لا من حاجة دعته الى ذلك وهو الغني الحميد وقوله تعالى الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان دلت هذه الكلمات على إعطائه سبحانه مراتب الوجود بأسرها فقوله خلق الانسان إخبار عن الايجاد الخارجي العيني وخص الانسان بالخلق لما تقدم وقوله علم القرآن إخبار عن إعطاء الوجود العلمي الذهني فإنما تعلم الانسان القرآن بتعليمه كما انه إنما صار إنسانا بخلقه فهو الذي خلقه وعلمه ثم قال علمه البيان والبيان يتناول مراتب راتب ثلاثة كل منها يسمى بيانا احدها البيان الذهني الذي يميز فيه بين المعلومات الثاني البيان
(2/25)
اللفظي الذي يعبر به عن تلك المعلومات ويترجم عنها فيه لغيره الثالث البيان الرسمي الخطي الذي يرسم به تلك الالفاظ فيتبين الناظر معانيها كما يتبين للسامع معاني الالفاظ فهذا بيان للعين وذاك بيان للسمع والاول بيان للقلب وكثيرا ما يجمع سبحانه بين هذه الثلاثة كقوله ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا وقوله والله اخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون ويذم من عدم الانتفاع بها في اكتساب الهدى والعلم النافع كقوله صم بكم عمي وقوله ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة وقد تقدم بسط هذا الكلام تنبيه ثم تأمل حكمة اللطيف الخبير فيما اعطى الانسان علمه بما فيه صلاح معاشه ومعاده ومنع عنه علم مالا حاجة له به فجهله به لا يضر وعلمه به لا ينتفع به انتفاعا طائلا ثم يسر عليه طرق ما هو محتاج اليه من العلم اتم تيسير وكلما كانت حاجته اليه من العلم اعظم كان تيسيره اياه عليه اتم فاعطاه معرفة خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه والاقرار به ويسر عليه طرق هذه المعرفة فليس في العلوم ما هو اجل منها ولا اظهر عند العقل والفطرة وليس في طرق العلوم التي تنال بها أكثر من طرقها ولا أدل ولا ابين ولا اوضح فكلما تراه بعينك او تسمعه بأذنك اوتعقله بقلبك وكلما يخطر ببالك وكلما نالته حاسة من حواسك فهو دليل على الرب تبارك وتعالى فطرق العلم بالصانع فطرية ضرورية ليس في العلوم اجلي منها وكل ما استدل به على الصانع فالعلم بوجوده اظهر من دلالته ولهذا قالت الرسل لاممهم افي الله شك فخاطبوهم مخاطبة من لا ينبغي ان يخطر له شك ما في وجود الله سبحانه ونصب من الادلة على وجوده وحدانيته وصفات كماله الادلة على اختلاف انواعها ولا يطيق حصرها إلا الله ثم ركز ذلك في الفطرة ووضعه في العقل جملة ثم بعث الرسل مذكرين به ولهذا يقول تعالى فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وقوله
(2/26)
فذكر إن نفعت الذكرى وقوله إنما انت مذكر وقوله فما لهم عن التذكرة معرضين وهو كثير في القرآن ومفصلين لما في الفطرة والعقل العلم به جملة فانظر كيف وجد الاقرار به وبتوحيده وصفات كماله ونعوت جلاله وحكمته في خلقه وأمره المقتضية إثبات رسالة رسله ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإسائته مودعا في الفطرة مركوزا فيها فلو خليت على ما خلقت عليه لم يعرض لها ما يفسدها ويحولها ويغيرها عما فطرت عليه ولأقرت بوحدنيه ووجوب شكره وطاعته وبصفاته وحكمته في أفعاله وبالثواب والعقاب ولكنها لما فسدت وانحرفت عن المنهج الذي خلقت
(2/27)
عليه انكرت ما انكرت وجحدت ما جحدت فبعث الله رسله مذكرين لاصحاب الفطر الصحيحة السليمة فانقادوا طوعا واختيارا ومحبة وإذعانا بما جعل من شواهد ذلك في قلوبهم حتى ان منهم من لم يسأل عن المعجزة والخارق بل علم صحة الدعوة من ذاتها وعلم انها دعوة حق برهانها فيها ومعذرين ومقيمين البينة على اصحاب الفطر الفاسدة لئلا نحتج على الله بأنه ما ارشدها ولا هداها فيحق القول عليها بإقامة الحجة فلا يكون سبحانه ظالما لها بتعذيبها واشقائها وقد بين ذلك سبحانه في قوله إن هو الا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فتأمل كيف ظهرت معرفة الله والشهادة له بالتوحيد واثبات اسمائه وصفاته ورسالة رسله والبعث للجزاء مسطورة مثبتة في الفطر ولم يكن ليعرف بها انها ثابتة في فطرته فلما ذكرته الرسل ونبهته رأى ما أخبروه به مستقرا في فطرته شاهدا به عقله بل وجوارحه ولسان حاله وهذا اعظم ما يكون من الايمان وهو الذي كتبه سبحانه في قلوب اوليائه وخاصته فقال اولئك كتب في قلوبهم الايمان فتدبر هذا الفصل فإنه من الكنوز في هذا الكتاب وهو حقيق بأن تثنى عليه الخناصر ولله الحمد والمنه والمقصود ان الله سبحانه اعطى العبد من هذه المعارف وطرقها ويسرها عليه ما لم يعطه من غيرها لعظم حاجته في معاشه ومعاده اليها ثم وضع في العقل من الاقرار بحسن شرعه ودينه الذي هو ظله في ارضه وعدله بين عباده ونوره في العالم مالوا اجتمعت عقول العالمين كلهم فكانوا على عقل اعقل رجل واحد منهم لما امكنهم ان يقترحوا شيئا احسن منه ولا اعدل ولا اصلح ولا انفع للخليقة في معاشها ومعادها فهو اعظم آياته واوضح بيناته وأظهر حججه على انه الله الذي لا إله إلا هو وإنه المتصف بكل كمال المنزه عن كل عيب ومثال فضلا عن ان يحتاج الى إقامة شاهد من خارج عليه بالادلة والشواهد لتكثير طرق الهدى وقطع المعذرة وإزاحة العلة والشبهة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي
(2/28)
عن بينه وان الله لسميع عليم فأثبت في الفطرة حسن العدل والانصاف والصدق والبر والاحسان والوفاء بالعهد والنصيحة للخلق ورحمة المسكين ونصر المظلوم ومواساة اهل الحاجة والفاقة وأداء الامانات ومقابلة الاحسان بالاحسان والاساءة بالعفو والصفح والصبر في مواطن الصبر والبذل في مواطن البذل والانتقام في موضع الانتقام والحلم في موضع الحلم والسكينة والوقار والرأفة والرفق والتؤدة وحسن الاخلاق وجميل المعاشرة مع الاقارب والاباعد وستر العورات وإقالة العثرات والايثار عند الحاجات واغاثة اللهفات وتفريج الكربات والتعاون على انواع الخير والبر والشجاعة والسماحة والبصيرة والثبات والعزيمة والقوة في الحق واللين لاهله والشدة على اهل الباطل والغلظة عليهم والاصلاح بين الناس والسعي في إصلاح ذات البين وتعظيم من يستحق التعظيم وإهانة من يستحق الاهانةوتنزيل الناس منازلهم وأعطاء كل ذي حق حقه وأخذ ما سهل عليهم وطوعت به انفسهم من الاعمال والاموال والاخلاق ولارشاد ضالهم وتعليم جاهلهم واحتمال جفوتهم واستواء قريبهم وبعيدهم في الحق فأقربهم اليه اولاهم بالحق وان كان بعيدا و ابعدهم عنه ابعدهم من الحق وان كان حبيبا قريبا الى غير ذلك من معرفة العقل الذي وضعه بينهم في المعاملات والمناكحات والجنايات وما اودع في فطرهم من حسن شكره وعبادته وحده لا شريك له وان نعمه عليهم توجب بذل قدرتهم وطاقتهم في شكره والتقرب اليه وإيثاره على ما سواه واثبت في الفطر علمها بقبيح اضداد ذلك ثم بعث رسله في الامر بما اثبت في الفطر حسنه وكماله والنهي عما اثبت فيها قبحه وعيبه وذمه فطابقت الشريعة المنزلة للفطرة المكلمة مطابقة التفصيل بجملته وقامت وشواهد دينه في الفطرة تنادي للايمان حي على الفلاح وصدعت تلك الشواهد والايات دياجي ظلم الاباء كما صدع الليل ضوء الصباح وقبل حاكم الشريعة شهادة العقل والفطرة لما كان الشاهد غير متهم ولا معرض للجراح
(2/29)
فصل وكذلك اعطاهم من العلوم المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجاتهم كعلم الطب والحساب وعلم الزراعة والغراس وضروب الصنائع واستنباط المياه وعقد الابنية وصنعة السفن واستخراج المعادن وتهيئتها لما يراد منها وتركيب الادوية وصنعة الاطعمة ومعرفة ضروب الحيل في صيد الوحش والطير ودواب الماء والتصرف في وجوه التجارات ومعرفة وجوه المكاسب وغير ذلك مما فيه قيام معايشهم ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك مما ليس في شأنهم ولا فيه مصلحة لهم ولا نشأتهم قابلة له كعلم الغيب وعلم ما كان وكل ما يكون والعلم بعدد القطر وامواج البحر وذرات الرمال ومساقط الاوراق وعدد الكواكب ومقاديرها وعلم ما فوق السموات وما تحت الثرى وما في لجج البحار واقطار العالم وما يكنه الناس في صدورهم وما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد الى سائر ما عزب عنهم علمه فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه وبخس من التوفيق حظه ولم يحصل الا على الجهل المركب والخيال الفاسد في أكثر امره وجرت سنة الله وحكمته ان هذا الضرب من الناس اجهلهم بالعلم النافع وأقلهم صوابا فترى عند من لا يرفعون به رأسا من الحكم والعلم الحق النافع مالا يخطر ببالهم اصلا وذلك من حكمة الله في خلقه وهوالعزيز الحكيم ولا يعرف هذا الا من اطلع على ما عند القوم من انواع الخيال وضروب المحال وفنون الوساوس والهوى والهوس والخبط وهم يحسبون انهم على شيء إلا انهم هم الكاذبون فالحمد لله الذي من على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين فصل ومن حكمته سبحانه ما منعهم من العلم علم الساعة ومعرفة آجالهم
(2/30)
وفي ذلك من الحكمة البالغة مالا يحتاج الى نظر فلو عرف الانسان مقدار عمره فإن كان قصير العمر لميتهنأ بالعيش وكيف يتهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت فلولا طول الامل لخربت الدنيا وأنما عمارتها بالامال وإن كان طويل العمر وقد تحقق ذلك فهو واثق بالبقاء فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد ويقول إذا قرب الوقت احدثت توبة وهذا مذهب لا يرتضيه الله تعالى عز وجل من عباده ولا يقبله منهم ولا تصلح عليه احوال العالم ولا يصلح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبق في علمه فلو ان عبدا من عبيدك عمل على ان يستحضك اعواما ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن انه صائر اليك لم تقبل منه ولم يفز لديك بما يفوز به من همه رضاك وكذا سنة الله عز وجل ان العبد إذا عاين الانتقال الى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا اقلاع قال تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر احدهم الموت قال إني تبت الان وقوله فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا باسنا سنة الله التي خلت في عباده والله تعالى إنما يغفر للعبد إذا كان وقوع الذنب منه على وجه غلبة الشهوة وقوة الطبيعة فيواقع الذنب مع كراهته له من غير إصرار في نفسه فهذا ترجى له مغفرة الله وصفحه وعفوه لعلمه تعالى بضفعه وغلبة شهوته له وأنه يرى كل وقت مالا صبر له عليه فهو إذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خاضع لربه خائف مختلج في صدره شهوة النفس الذنب وكراهة الايمان له فهو يجيب داعي النفس تاره وداعي الايمان تارات فاما من بنى امره على ان لا يقف عن ذنب ولا يقدم خوفا ولا يدع لله شهوة وهو فرح مسرور يضحك ظهرا لبطن إذ ظفر بالذنب فهذا الذي يخاف عليه ان يحال بينه وبين التوبة ولا يوفق لها فإنه من معاصيه وقبائحه على نقد عاجل يتقاضاه سلفا وتعجيلا ومن توبته وإيابه ورجوعه إلى الله على دين مؤجل الى انقضاء الاجل
(2/31)
وإنما كان هذا الضرب من الناس يحال بينهم وبين التوبة غالبا لان النزوع عن اللذات والشهوات الى مخالفة الطبع والنفس والاستمرار على ذلك شديد على النفس صعب عليها اثقل من الجبال ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك ضعف البصيرة وقلة النصيب من الايمان فنفسه لا تطوع له ان يبيع نقدا بنسيئة ولا عاجلا بآجل كما قال بعض هؤلاء وقد سئل ايما احب اليك درهم اليوم او دينار غدا فقال لا هذا ولا هذا ولكن ربع درهم من اول امس فحرام على هؤلاء ان يوفقوا للتوبة إلا ان يشاء الله فإذا بلغ
(2/32)
العبد حد الكبر وضعفت بصيرته ووهت قواه وقد اوجبت له تلك الاعمال قوة في غيه وضعفا في إيمانه صارت كالملكة له بحيث لا يتمكن من تركها فإن كثرة المزاولات تعطى الملكات فتبقى للنفس هيئة راسخة وملكة ثابتة في الغي والمعاصي وكلما صدر عنه واحد منها اثرا أثرا زائدا على اثر ما قبله فيقوى الاثران وهلم جرا فيهجم عليه الضعف والكبر ووهن القوة على هذه الحال فينتقل الى الله بنجاسته واوساخه وادرانه لم يتطهر للقدوم على الله فما ظنه بربه ولو انه تاب وأناب وقت القدرة والامكان لقبلت توبته ومحيت سيئاته ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون ولا شيء اشهى لمن انتقل الى الله على هذه الحال من التوبة ولكن فرط في أداء الدين حتى نفذ المال ولو أداه وقت الامكان لقبله ربه وسيعلم المسرف والمفرط أي ديان ادان وأي غريم بتقاضاه ويوم يكون الوفاء من الحسنات فإن فنيت فيحمل السيئات فبان ان من حكمة الله ونعمه على عباده ان ستر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ اعمارهم فلا يزال الكيس يترقب الموت وقد وضعه بين عينيه فينكف عما يضره في معاده ويجتهد فيما ينفعه ويسر به عند القدوم فإن قلت فها هو مع كونه قد غيب عنه مقدار اجله وهو يترقب الموت في كل ساعة ومع ذلك يقارف الفواحش وينتهك المحارم فأي فائدة وحكمة حصلت بستر اجله عنه قيل لعمر الله ان الامر كذلك وهو الموضع الذي حير الالباب والعقلاء وافترق الناس لاجله فرقا شتى ففرقة انكرت الحكمة وتعليل افعال الرب جملة وقالوا بالجبر المحض وسدوا على انفسهم الباب وقالوا لا تعلل افعال الرب تعالى ولاهي مقصود بها مصالح العباد وإنما مصدرها محض المشيئة وصرف الارادة فأنكروا حكمة الله في امره ونهيه وفرقة نفت لاجله القدر جملة وزعموا ان أفعال العباد غير مخلوقة لله حتى يطلب لها وجوه الحكمة وإنما هي خلقهم وابداعهم فهي واقعة بحسب جهلهم وظلمهم وضعفهم فلا يقع على السداد والصواب الا اقل القليل منها فهاتان الطائفتان متقابلتان
(2/33)
اعظم تقابل فالأولى غلت في الجبر وانكار الحكم المقصودة في أفعال الله والثانية غلت في القدر واخرجت كثيرا من الحوادث بل اكثرها عن ملك الرب وقدرته وهدى الله اهل السنة الوسط لما اختلفوا فيه من الحق باذنه فأثبتوا لله عز وجل عموم القدرة والمشيئة وأنه تعالى ان يكون في مسلكه مالا يشاء او يشاء مالا يكون وأن اهل سمواته وارضه اعجز واضعف من ان يخلقوا مالا يخلقه الله او يحدثوا مالا يشاء بل ما شاء الله كان ووجد وجوده بمشيئته وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده لعدم المشيئة له وانه لا حول ولا قوة الا به ولا تتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة الا بإذنه ومع ذلك فله في كل ما خلق وقضى وقدر وشرع من الحكم البالغة والعواقب الحميدة ما اقتضاه كمال حكمته وعلمه وهو العليم الحكيم فما خلق شيئا ولا قضاه ولا شرعه الا لحكمة بالغة وان تقاصرت عنها عقول البشر فهو الحكيم القدير فلا تجحد حكمته كمالا تجحد قدرته
(2/34)
والطائفة الاولى جحدت الحكمة والثانية جحدت القدرة والامة الوسط اثبتت له كمال الحكمة وكمال القدرة فالفرقة الاولى تشهد في المعصية مجرد المشيئة والخلق العاري عن الحكمة وربما شهدت الجبر وأن حركاتهم بمنزلة حركات الاشجار ونحوها والفرقة الثانية تشهد في المعصية مجرد كونها فاعلة محدثة مختارة هي التي شاءت ذلك بدون مشيئة الله والامة الوسط تشهد عز الربوبية وقهر المشيئة ونفوذها في كل شيء وتشهد مع ذلك فعلها وكسبها واختيارها وايثارها شهواتها على مرضات ربها فيوجب الشهود الاول لها سؤال ربها والتذلل والتضرع له ان يوفقها لطاعته ويحول بينها وبين معصيته وان يثبتها على دينه ويعصمها بطواعيته ويوجب الشهود الثاني لها اعترافها بالذنب وإقرارها به على نفسها وأنها هي الظالمة المستحقة للعقوبة وتنزيه ربها عن الظلم وان يعذبها بغير استحقاق منها او يعذبها على ما لم تعمله فيجتمع لها من الشهودين شهود التوحيد والشرع والعدل والحكمة وقد ذكرنا في الفتوحات القدسية مشاهد الخلق في مواقعة الذنب وانها تنتهي الى ثمانية مشاهد احدها المشهد الحيواني البهيمي الذي شهود صاحبه مقصور على شهوات لذته به فقط وهو في هذا المشهد مشارك لجميع الحيوانات وربما يزيد عليها في اللذة وكثرة التمتع والثاني مشهد الجبر وان الفاعل فيه سواه والمحرك له غيره ولا ذنب له هو وهذا مشهد المشركين واعداء الرسل الثالث مشهد القدر وهو انه هو الخالق لفعله المحدث له بدون مشيئة الله وخلقه وهذا مشهد القدرية المجوسية الرابع مشهد اهل العلم والايمان وهو مشهد القدر والشرع يشهد فعله وقضاء الله وقدره كما تقدم الخامس مشهد الفقر والفاقة والعجز والضعف وانه إن لم يعنه الله ويثبته ويوفقه فهو هالك والفرق بين مشهد هذا ومشهد الجبرية ظاهر السادس مشهد التوحيد وهو الذي يشهد فيه إنفراد الله عز وجل بالخلق والابداع ونفوذ المشيئة وان الخلق اعجز من ان يعصوه بغير مشيئته والفرق بين هذا
(2/35)
المشهد وبين المشهد الخامس ان صاحبه شاهد لكمال فقره وضعفه وحاجته وهذا شاهد لتفرد الله بالخلق والابداع وأنه لا حول ولا قوة الا به السابع مشهد الحكمة وهو ان يشهد حكمة الله عز وجل في قضائه وتخليته بين العبد والذنب ولله في ذلك حكم تعجز العقول عن الاحاطة بها وذكرنا منها في ذلك الكتاب قريبا من اربعين حكمة وقد تقدم في اول هذا الكتاب التنبيه على بعضها الثامن مشهد الاسماء والصفات وهو ان يشهد ارتباط الخلق والامر والقضاء والقدر بأسمائه تعالى وصفاته وان ذلك موجبها ومقتضاها فأسماؤه الحسنى اقتضت ما اقتضته من التخلية بين العبد وبين الذنب فإنه الغفار التواب العفو الحليم وهذه اسماء تطلب آثارها وموجباتها ولا بد فلو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وهذا المشهد والذي قبله اجل هذه المشاهد واشرفها وارفعها قدرا
(2/36)
وهما لخواص الخليفة فتأمل بعد ما بينهما وبين المشهد الاول وهذان المشهدان يطرحان العبد على باب المحبة ويفتحان له من المعارف والعلوم امورا لا يعبر عنها وهذا باب عظيم من ابواب المعرفة قل من استفتحه من الناس وهو شهود الحكمة البالغة في قضاء السيئات وتقدير المعاصي وإنما استفتح الناس باب الحكم في الاوامر والنواهي وخاضوا فيها واتوا بما وصلت اليه علومهم واستفتحوا ايضا بابها في المخلوقات كما قدمناه وأتوا فيه بما وصلت اليه قواهم واما هذا الباب فكما رأيت كلامهم فيه فقل ان ترى لاحدهم فيه ما يشفى او يلموكيف يطلع على حكمة هذا الباب من عنده ان اعمال العباد ليست مخلوقة لله ولا داخلة تحت مشيئته اصلا وكيف يتطلب لها حكمة او يثبتها ام كيف يطلع عليها من يقول هي خلق الله ولكن افعاله غير معللة بالحكم ولا يدخلها لام تعليل اصلا وإن جاء شيء من ذلك صرف الى لام العاقبة لا الى لام العلة والغاية فأما إذا جاءت الباء في افعاله صرفت الى باء المصاحبة لا الى باء السببية وإذا كان المتكلمون عند الناس هم هؤلاء الطائفتان فإنهم لا يرون الحق خارجا عنهما ثم كثير من الفضلاء يتحير إذا رأى بعض اقوالهم الفاسدة ولا يدرى أين يذهب ولما عربت كتب الفلاسفة صار كثير من الناس إذا رأى اقوال المتكلمين الضعيفة وقد قالوا إن هذا هو الذي جاء به الرسول قطع القنطرة وعدي الى ذلك البر وكل ذلك من الجهل القبيح والظن الفاسد ان الحق لا يخرج عن اقوالهم فما اكثر خروج الحق عن اقوالهم وما اكثر ما يذهبون في المسائل التي هي حق وصواب الى خلاف الصواب والمقصود ان المتكلمين لو اجمعوا على شيء لم يكن اجماعهم حجة عند احد من العلماء فكيف إذا اختلفوا والمقصود ان مشاهدة حكمة الله في اقضيته واقداره التي يجربها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي من الطف ما تكلم فيه الناس وأدقه واغمضه وفي ذلك حكم لا يعلمها إلا الحكيم العليم سبحانه ونحن نشير الى بعضها فمنها أنه
(2/37)
سبحانه يحب التوابين حتى انه من محبته لهم يفرح بتوبة احدهم اعظم من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامه وشرابه في الارض الدوية المهلكة إذا فقدها وايس منها وليس في أنواع الفرح أكمل ولا اعظم من هذا الفرح كما سنوضح ذلك ونزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله ولولا المحبة التامة للتوبة ولأهلها لم يحصل هذا الفرح ومن المعلوم ان وجود المسبب بدون سببه ممتنع وهل يوجد ملزوم بدون لازمه او غاية بدون وسيلتها وهذا معنى قول بعض العارفين ولو لم تكن التوبة احب الاشياء اليه لما ابتلى بالذنب اكرم المخلوقات عليه فالتوبة هي غاية كمال كل آدمي وإنما كان كمال ابيهم بها فكم بين حالة وقد قيل له إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى وبين قوله ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى فالحال الاولى حال أكل وشرب وتمتع والحال الاخرى حال اجتباء واصطفاء وهداية فيما بعد ما بينهما ولما كان كماله بالتوبة كان كمال بنيه ايضا بها كما قال تعالى ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات فكمال الادمي في هذه الدار بالتوبة النصوح وفي الاخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة وهذا الكمال مرتب على كماله الاول والمقصود انه سبحانه لمحبته التوبة وفرحة بها يقتضي على عبده بالذنب ثم إن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة وإن كان ممن غلبت عليه شقاوته اقام عليه حجة عدله وعاقبة بذنبه فصل ومنها انه سبحانه يجب ان يتفضل عليهم ويتم عليهم نعمه ويريهم
(2/38)
مواقع بره وكرمه فلمحبته الافضال والانعام ينوعه عليهم اعظم الانواع واكثرها في سائر الوجوه الظاهرة والباطنة ومن اعظم انواع الاحسان والبر ان يحسن الى من اساء ويعفو عمن ظلم ويغفر لم اذنب ويتوب على من تاب اليه ويقبل عذر من اعتذر اليه وقدندب عباده الى هذه الشيم الفاضلة والافعال الحميدة وهو أولى بها منهم واحق وكان له في تقدير اسبابها من الحكم والعواقب الحميدة ما يبهر العقول فسبحانه وبحمده وحكى بعض العارفين انه قال طفت في ليلة مطيرة شديدة الظلمة وقد خلا الطواف وطابت نفسي فوقفت عند الملتزم ودعوت الله فقلت اللهم اعصمني حتى لا اعصيك فهتف بي هاتف انت تسألني العصمة وكل عبادي يسألوني العصمة فإذا عصمتهم فعلى من اتفضل ولمن اغفر قال فبقيت ليلتي الى الصباح استغفر الله حياء منه هذا ولو شاء الله عز وجل ان لا يعصي في الارض طرفة عين لم يعص ولكن اقتضت مشيئيه ما هوموجب حكمته سبحانه فمن اجهل بالله ممن يقول انه يعصي قسرا بغير اختياره وميشيئته سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا فصل ومنها انه سبحانه له الاسماء الحسنى ولكل اسم من اسمائه اثر من الاثار في الخلق والامر لا بد من ترتبه عليه كترتب المرزوق والرزق على الرازق وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الراحم وترتب المرئيات والمسموعات على السميع والبصير ونظائر ذلك في جميع الاسماء فلو لم يكن في عباده من يخطيء ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه لم يظهر اثر اسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب وما جرى مجراها وظهور اثر هذه الاسماء ومتعلقاتها في الخليقة كظهور آثار سائر الاسماء الحسنى ومتعلقاتها فكما ان اسمه الخالق يقتضي مخلوقا والبارئ يقتضي مبروا والمصوريقتضي مصورا ولا بد فأسماؤه الغفار التواب تقتضي مغفورا له ما يغفره له وكذلك من يتوب
(2/39)
عليه وامورا يتوب عليه من اجلها ومن يحكم عنه ويعفو عنه وما يكون متعلق الحلم والعفو فإن هذه الامور متعلقة بالغير ومعانيها مستلزمة لمتعلقاتها وهذا باب اوسع من ان يدرك واللبيب يكتفي منه باليسير وغليظ الحجاب في واد ونحن في واد وان كان اثل الواد يجمع بيننا فغير خفي شيجه من خزامه فتأمل ظهور هذين الاسمين اسم الرزاق واسم الغفار في الخليقة ترى وما يعجب العقول وتأمل آثارهما حق التأمل في اعظم مجامع الخليقة وانظر كيف وسعهم رزقه ومغفرته ولولا ذلك لما كان له من قيام اصلا فلكل منهم نصيب من الرزق والمغفرة فإما متصلا بنشاته الثانية إما مختصا بهذه النشأة فصل ومنه انه سبحانه يعرف عباده عزه في قضائه وقدره ونفوذ مشيئته وجريان حكمته وأنه لا محيص للعبد عما قضاه عليه ولا مفر له منه بل هو في قبضة مالكه وسيده وأنه عبده وابن عبده وابن امته ناصيته بيده ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه فصل ومنها انه يعرف العبد حاجته إلى حفظه له ومعونته وصيانته وانه كالوليد الطفل في حاجته الى من يحفظه ويصونه فإن لم يحفظه مولاه الحق ويصونه ويعينه فهو هالك ولا بد وقد مدت الشياطين ايديها اليه من كل جان بتريد تمزيق حاله كله إفاسد شأنه كله وإن مولاه وسيده إن وكله الى نفسه وكله الى ضيعة وعجز وذنب وخطيئة وتفريط فهلاكه أدنى اليه من شراك نعله فقد أجمع العلماء بالله على ان التوفيق ان لا يكل الله العبد الى نفسه واجمعوا على ان الخذلان ان يخلى بينه وبين نفسه فصل ومنها انه سبحانه يستجلب من عبده بذلك ما هو من اعظم أسباب
(2/40)
السعادة له من استعاذته واستعانته به من شر نفسه وكيد عدوه ومن انواع الدعاء والتضرع والابتهال والانابة والفاقة والمحبة والرجاء والخوف وانواع من كمالات العبد تبلغ نحو المائة ومنها مالا تدركه العبارة وإنما يدرك بوجوده فيحصل للروح بذلك قرب خاص لم يكن يحصل بدون هذه الاسباب ويجد العبد من نفسه كأنه ملقى على باب مولاه بعد ان كان نائيا عنه وهذا الذي أثمر له ان الله يحب التوابين وهو ثمرة لله افرح بتوبة عبده واسرار هذا الوجه يضيق عنها القلب واللسان وعسى ان يجيئك في القسم الثاني من الكتاب ما تقر به عينك ان شاء الله تعالى فكم بين عبادة يدل صاحبها على ربه بعبادته شامخ بأنفه كلما طلب منه اوصافالعبد قامت صور تلك الاعمال في نفسه فحجبته عن معبوده والهه وبين عبادة من قد كسر الذل قلبه كل الكسر واحرق ما فيه من الرعونات والحماقات والخيالات فهو لا يرى نفسه إلا مسيئا كما لا يرى ربه إلا محسنا فهو لايرضى ان يرى نفسه طرفة عين قد كسر ازدراؤه على نفسه قلبه وذلل لسانه وجوارحه وطأطأ منه ما ارتفع من غيره فقلبه واقف بين يدي ربه وقوف ناكس الراس خاشع خاضع غاض البصر خاشع الصوت هادئ الحركات قد سجد بين يديه سجدة الى الممات فلو لم يكن من ثمرة ذلك القضاء والقدر إلا هذا وحده لكفى به حكمة والله المستعان فصل ومنها انه سبحانه يستخرج بذلك من عبده تمام عبوديته فإن تمام
(2/41)
العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد واكمل الخلق عبودية اكملهم ذلا لله وانقيادا وطاعة والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل فهو ذليل لعزه وذليل لقهره وذليل لربوبيته فيه وتصرفه وذليل لاحسانه اليه وانعامه عليه فإن من احسن اليك فقد استعبدك وصار قبلك معبدا له وذليلا تعبد له لحاجته اليه على مدى الانفاس في جلب كل ما ينفعه ودفع كل ما يضره وهنا نوعان من انواع التذلل والتعبد لهما اثر عجيب يقتضيان من صاحبهما من الطاعة والفوز مالا يقتضيه غيرهما احدهما ذل المحبة وهذا نوع آخر غير ما تقدم وهو خاصة المحبة ولبها بل روحها وقوامها وحقيقتها وهو المراد على الحقيقة من العبد لو فطن وهذا يستخرج من قلب المحب من انواع التقرب والتودد والتملق والايثار والرضا والحمد والشكر والصبر والتندم وتحمل العظائم مالا يستخرجه الخوف وحده ولا الرجاء وحده كما قال بعض الصحابة إنه ليستخرج محبته من قلبي من طاعته مالا يستخرجه خوفه او كما قال فهذا ذل المحبين الثاني ذل المعصية فإذا انضاف هذا الى هذا هناك فنيت الرسوم وتلاشت الانفس واضمحلت القوى وبطلت الدعاوى جملة وذهبت الرعونات وطاحت الشطحانات ومحيي من القلب واللسان انا وانا واستراح المسكين من شكاوى الصدود والاعراض والهجر وتحرد الشهودان فلم يبق الاشهود العز والجلال الشهود المحض الذي تفرد به ذو الجلال والاكرام الذي لا يشاركه احد من خلقه في ذرة من ذراته وشهود الذل والفقر المحض من جميع الوجوه بكل اعتبار فيشهد غاية ذله وانكساره وعزة محبوبه وجلاله وعظمته وقدرته وغتاه فإذا تجرد له هذان الشهودان ولم يبق ذرة من ذرات الذل والفقر والضرورة الى ربه الا شاهدها فيه بالفعل وقد شهد مقابلها هناك فلله أي مقام اقيم فيه هذا القلب إذ ذاك وأي قرب حظي به وأي نعيم ادركه واي روح باشره فتأمل الان موقع الكسرة التي حصلت له بالمعصية في هذا
(2/42)
الموطن ما اعجبها وما اعظم موقعها كيف جاءت فمحقت من نفسه الدعاوي والرعونات وانواع الاماني الباطلة ثم اوجبت له الحياء والخجل من صالح ما عمل ثم اوجبت له استكثار قليل ما يرد عليه من ربه لعلمه بأن قدره اصغر من ذلك وأنه لا يستحقه واستقلال أمثال الجبال من عمله الصالح بأن سيئاته وذنوبه تحتاج من المكفرات والماحيات الى أعظم من هذا فهو لا يزال محسنا وعند نفسه المسيء المذنب متكسرا ذللا خاضعا لا يرتفع له رأس ولا ينقام له صدر وإنما ساقه إلى هذا الذل والذي اورثه إياه مباشرة الذائب فأي شيء انفع له من هذا الدواء لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الاجسام بالعلل ونكتة هذا الوجه ان العبد متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بانفه وتعاظمت نفسه وظن انه وأنه أي عظيما فإذا ابتلى بالذنب تصاغرت اليه نفسه وذل وخضع وتيقن انه وأنه أي عبدا ذليلا فصل ومنها ان العبد يعرف حقيقة نفسه وأنها الظالمة وان ما صدر منها من شر فقد صدر من اهله ومعدنه إذ الجهل والظلم منبع الشر كله وان كل ما فيها من خير وعلم وهدى وإنابة وتقوى فهو من ربها تعالى هو الذي زكاها به وأعطاها إياه لا منها فإذا لم يشأ تزكية العبد تركه مع دواعي ظلمه وجهله فهو تعالى الذي يزكى من يشاء من النفوس فتزكو وتأتي بأنواع الخير والبر ويترك تزكية من يشاء منها فتأتي بأنواع الشر والخبث وكان من دعاء النبي اللهم آت نفسي تقوها وزكها انت خير من زكاها انت وليها ومولاها فإذا ابتلى الله العبد بالذنب عرف نفسه ونقصها فرتب له على ذلك التعريف حكم ومصالح عديدة منها انه يانف من نقصها ويجتهد في كمالها ومنها أنه يعلم فقرها دائما إلى من يتولاها ويحفظها ومنها انه يستريح ويريح العباد من الرعونات والحماقات التي ادعاها اهل الجهل في انفسهم من قدم او اتصال بالقديم او اتحاد به او حلول فيه اوغير ذلك من المحالات فلولا ان هؤلاء غاب عنهم شهودهم لنقص انفسهم وحقيقتها لم يقعوا فيما وقعوا فيه
(2/43)
فصل ومنها تعريفه سبحانه عبده سعة حلمه وكرمه في ستره عليه وأنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يطب له معهم عيش ابدا ولكن جلله بستره غشاه بحلمه وقيض له من يحفظه وهو في حالته تلك بل كان شاهدا وهو يبارزه بالمعاصي والاثام وهو مع ذلك يحرسه بعينه التي لاتنام وقد جاء في بعض الاثار يقول الله تعالى انا الجواد الكريم من اعظم مني جودا وكرما عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلوهم في منازلهم فأي حلم اعظم من هذا الحلم وأي كرم اوسع من هذا الكرم فلولا حلمه وكرمه ومغفرته لما استقرت السموات والارض في أماكنها وتأمل قوله تعالى ان الله يمسك السموات والارض ان تزولا ولئن زالتا إن امسكهما من احد من بعده الاية هذه الاية تقتضي الحلم والمغفرة فلولا حلمه ومغفرته لزالتا عن اماكنهما ومن هذا قوله تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ان دعوا للرحمن ولدا فصل ومنها تعريفه عبده انه لا سبيل له إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته وانه رهين بحقه فإن لم يتغمده بعفوه ومغفرته وإلا فهو من الهالكين لا محالة فليس احد من خلقه إلا وهو محتاج الى عفوه ومغفرته كما هو محتاج الى فضله ورحمته فصل ومنها تعريفه عبده كرمه سبحانه في قبول توبته ومغفرته له على ظلمه واساءته فهو الذي جاد عليه بان وفقه للتوبة والهمه إياها ثم قبلها منه فتاب عليه اولا وآخرا فتوبة العبد محفوفة بتوبة قبلها عليه من الله إذنا وتوفيقا وتوبة ثانية منه عليه قبولا ورضا فله الفضل في التوبة والكرم اولا وآخرا لا إله إلا هو فصل ومنها إقامة حجة عدله على عبده ليعلم العبد ان لله عليه الحجة
(2/44)
البالغة فإذا اصابه ما اصابه من المكروه فلا يقال من اين هذا ولا من اين اتيت ولا باي ذنب اصبت فما أصاب العبد من مصيبة قط دقيقة ولا جليلة الا بما كسبت يداه وما يعفو الله عنه اكثر ومانزل بلاء قط الا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة ولهذا وضع الله المصائب والبلايا والمحن رحمة بين عباده يكفر بها من خطاياهم فهي من اعظم نعمه عليهم وان كرهتها انفسهم ولا يدري العبد أي النعمتين عليه اعظم نعمته عليه فيما يكره او نعمته عليه فيما يحب وما يصيب المؤمن من هم ولا وصب ولا اذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه وإذا كان للذنوب عقوبات ولا بد فكلما عوقب به العبد من ذلك قبل الموت خير له مما بعده وايسر وأسهل بكثير فصل ومنها ان يعامل العبد بني جنسه في إسائتهم اليه وزلاتهم معه بما يحب ان يعامله الله به في اساءته وزلاته وذنوبه فإن الجزاء من جنس العمل فمن عفا عفى الله عنه ومن سامح اخاه في إساءته اليه سامحه الله في سيئاته ومن أغضي وتجاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى عليه ولا تنس حال الذي قبضت الملائكة روحه فقيل له هل عملت خيرا هل عملت حسنة قال ما اعلمه قيل تذكر قال كنت ابايع الناس فكنت انظر الموسر واتجاوز عن المعسر او قال كنت امر فتياني ان يتجاوزوا في السكة فقال الله نحن احق بذلك منك وتجاوز الله عنه فالله عز وجل يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل به العبد الناس في ذنوبهم فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو انفع الاشياء له فصل ومنها انه إذا عرف هذا فاحسن الى من اساء اليه ولم يقابله
(2/45)
بإساءته إساءة مثلها تعرض بذلك لمثلها من ربه تعالى وأنه سبحانه يقال اساءته وذنوبه باحسانه كما كان هو يقابل بذلك اساءة الخلق اليه والله اوسع فضلا وأكرم واجزل عطاء فمن احب ان يقابل الله إساءته بالاحسان فليقابل هو إساءة الناس اليه بالاحسان ومن علم ان الذنوب والاساءة لازمة للانسان لم تعظم عنده اساءة الناس اليه فليتأمل هو حاله مع الله كيف هي مع فرط احسانه اليه وحاجته هو الى ربه وهو هكذا له فإذا كان العبد هكذا لربه فكيف ينكران يكون الناس له بتلك المنزلة ومنها انه يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم ويتفرج بطانه ويزول عنه ذلك الحصر والضيق والانحراف واكل بعضه بعضا ويستريح العصاة من دعائه عليهم وقنوطه منهم وسؤال الله ان يخسف بهم الارض ويسلط عليهم البلاء فإنه حينئذ يرى نفسه واحدا منهم فهو يسأل الله لهم ما يسأله لنفسه وإذا دعا لنفسه بالتوبة والمغفرة ادخلهم معه فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه ويخاف على نفسه اكثر مما يخاف عليهم فأين هذا منحاله الاولى وهو ناظر اليهم بعين الاحتقار والازدراء لا يجد في قلبه رحمة لهم ولا دعوة ولا يرجو لهم نجاة فالذنب في حق مثل هذا من اعظم اسباب رحمته مع هذا فيقيم امر الله فيهم طاعة لله ورحمة بهم وإحسانا اليهم إذ هوعين مصالحتهم لا غلظة ولا قوة ولا فظاظة فصل ومنها ان يخلع صولة الطاعة من قلبه وينزع عنه رداء الكبر والعظمة الذي ليس له ويلبس ردءا الذل والانكسار والفقر والفاقة فلو دامت تلك الصولة والعزة في قلبه لخيف عليه ما هو من اعظم الافات كما في الحديث لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو اشد من ذلك العجب او كما قال فكم بين آثار العجب والكبر وصولة الطاعة وبين آثار الذل والانكسار كما قيل يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك فقد استخرج منك داء العجب والبست رداء العبودية يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها
(2/46)
فلك خلقتها ولكن انزل الى دار المجاهدة وابذر بذر العبودية فإذا كمل الزرع واستحصد فتعال فاستوفه لا يوحشنك ذاك العتب ان له لطفا يريك الرضا في حالة الغضب فبينما هو لابس ثوب الاذلال الذي لا يليق بمثله تداركه ربه برحمته فنزعه عنه والبسه ثوب الذل الذل لا يليق بالعبد غيره فما لبس العبد ثوبا اكمل عليه ولا احسن ولا ابهى من ثوب العبودية وهوثوب المذلة الذي لا عزله بغيره فصل ومنها ان لله عز وجل على القلوب انواعا من العبودية من الخشية والخوف والاشفاق وتوابعها من المحبة والانابة وابتغاء الوسيلة اليه وتوابعها وهذه العبوديات لها اسباب تهيجها وتبعث عليها فكلما قيضه الرب تعالى لعبده من الاسباب الباعثة على ذلك المهيجة له فهو من اسباب رحمته له ورب ذنب قد هاج لصاحبه من الخوف والاشفاق والوجل ولانابة والمحبة والايثار والفرار الى الله مالا يهيجه له كثير من الطاعات وكم من ذنب كان سببا لاستقامة العبد وفراره الى الله وبعده عن طرق الغي وهو بمنزلة من خلط فأحس بسوء مزاجه وكان عنده اخلاط مزمنة قاتلة وهو لا يشعر بها فشرب دواء ازال تلك الاخلاط العفنة التي لو دامت لترامت به الى الفساد والعطب وان من تبلغ رحمته ولطفه وبره بعبده هذا المبلغ وما هو اعجب والطف منه لحقيق بان يكون الحب كله له والطاعات كلها له وان يذكر فلا ينسى ويطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر فصل ومنها انه يعرف العبد مقدار نعمة معافاته وفضله في توفيقه له
(2/47)
وحفظه إياه فإنه من تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار النعمة فلو عرف اهل طاعة الله انهم هم المنعم عليهم في الحقيقة وان الله عليهم من الشكر اضعاف ما على غيرهم وان تسودوا التراب ومضغوا الحصى فهم اهل النعمة المطلقة وان من خلى الله بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه وهان عليه وان ذلك ليس من كرامته على ربه وان وسع الله عليه في الدنيا ومد له من اسبابها فإنهم اهل الابتلاء على الحقيقة فإذا طالبت العبد نفسه بما تطالبه من الحظوظ والاقسام وأرته انه في بلية وضائقة تداركه الله برحمته وابتلاه ببعض الذنوب فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم الى ما طلبته نفسه من الحظوظ فحينئذ يكون اكثر أمانيه وآماله العود الى حالة وان يمنعه الله بعافيته فصل ومنها ان التوبة توجب للتائب آثارا عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدونها فتوجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه عبوديات أخر فإنه إذا تاب الى الله تقبل الله توبته فرتب له على ذلك القبول انواعا من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها بل يزال يتقلب في بركتها وآثارها مالم ينقضها ويفسدها فصل ومنها ان الله سبحانه يحبه ويفرح بتوبته اعظم فرح وقد تقرر ان الجزاء من جنس العمل فلا ينسى الفرحة التي يظفر بها عند التوبة النصوح وتامل كيف تجدالقلب يرقص فرحا وأنت لا تدري بسبب ذلك الفرح ما هو وهذا امر لا يحس به الا حيي القلب وأما ميت القلب فإنما يجد الفرح عند ظفره بالذنب ولا يعرف فرحا غيره فوازن إذا بين هذين الفرحين وانظر ما يعقبه فرح الظفر بالذنب من انواع الاحزان والهموم والغموم والمصائب فمن يشتري فرحة ساعة بغم الابدو انظر ما يعقبه فرح الظفر بالطاعة والتوبة النصوح من الانشراح الدائم والنعيم وطيب العيش ووازن بين هذا وهذا ثم اختر ما يليق بك ويبسابك وكل يعمل على شاكلته وكل امرئ يصبو الى ما يناسبه
(2/48)
فصل ومنها انه إذا شهد ذنوبه ومعاصيه وتفريطه في حق ربه استكثر القليل من نعم ربه عليه ولا قليل منه لعلمه ان الواصل اليه فيها كثير على مسيء مثله واستقل الكثير من عمله لعلمه بان الذي ينبغي ان يغسل به نجاسته واوضاره واوساخه اضعاف ما اتي به فهو دائما مستقل لعلمه كائنا ما كان مستكثر لنعمة الله عليه وإن دقت وقدتقدم التنبيه على هذا الوجه وهو من الطف الوجوه فعليك بمراعاته فله تأثير عجيب ولو لم يكن في فوائدالذنب إلا هذا لكفى به فأين حال هذا من حال من لا يرى لله عليه نعمة إلا ويرى انه كان ينبغي ان يعطي ما هو فوقها وأجل منها وانه لايقدر ان يتكلم وكيف يعاند القدر وهو مظلوم مع الرب لا ينصفه ولا يعطيه مرتبته بل هو مغرى بمعاندته لفضله وكماله وانه كان ينبغي له ان ينال الثريا ويطأ بأخمصه هنالك ولكنه مظلوم مبخوس الحظ وهذا الضرب من ابغض الخلق الى الله وأشدهم مقتا عنده وحكمة الله تقتضي انهم لا يزالون في سفال فهم بين عتب على الخالق وشكوى له وذل لخلقه وحاجة اليهم وخدمة لهم اشغل الناس قلوبا بارباب الولايات والمناصب ينتظرون ما يقذفون به اليهم من عظامهم وغسالة ايديهم واوانيهم وأفرغ الناس قلوبا عن معاملة الله والانقطاع اليه والتلذذ بمناجاته والطمأنينة بذكره وقرة العين بخشيته والرضاء به فعياذا بالله من زوال نعمته وتحول عافيته وفجأة نقمته ومن جميع سخطه فصل ومنها ان الذنب يوجب لصاحبه التقيظ والتحرز من مصائد عدوه ومكامنه ومن اين يدخل عليه اللصوص والقطاع ومكامنهم ومن اين يخرجون عليه وفي أي وقت يخرجون فهو قد استعد لهم وتأهب وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم فلو انه مر عليهم على غرة وطمأنينه لم يأمن ان يظفروا به ويجتاحوه جملة فصل ومنها ان القلب يكون ذاهلا عن عدوه معرضا عنه مشتغلا ببعض
(2/49)
مهماته فإذا اصابه سهم من عدوه استجمعت له قوته وحاسته وحميته وطلب بثاره إن كان قلبه حرا كريما كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء بل تراه بعدها هائجا طالبا مقداما والقلب الجبان المهين إذا جرح كالرجل الضعيف المهين إذا جرح ولى هاربا والجراحات في اكتافه وكذلك الاسد إذا جرح فإنه لا يطاق فلا خير فيمن لا مروءة له يطلب اخذ ثاره من اعدى عدوه فما شيء اشفى للقلب من اخذه بثاره من عدوه ولاعدو اعدى له من الشيطان فإن كان قلبه من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في اخذ الثأر وغاظ عدوه كل الغيظ واضناه كما جاء عن بعض السلف ان المؤمن لينضى شيطانه كما ينضى احدكم بعيره في سفره فصل ومنها ان مثل هذا يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم والطبيب الذي عرف المرض مباشرة وعرف دواءه وعلاجه احذق واخبر من الطبيب الذي إنما عرفه وصفا هذا في أمراض الابدان وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها وهذا معنى قول بعض الصوفية اعرف الناس بالافات اكثرهم آفات وقال عمر بن الخطاب إنما تنقض عرى الاسلام عروة عروة إذا نشأ فيالاسلام من لا يعرف الجاهلية ولهذا كان الصحابة اعرف الامة بالاسلام وتفاصيله وابوابه وطرقه وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهادا لاعدائه وتكلما بأعلامهبالامة وتحذيرا من خلافه لكمال علمهم بضده فجاءهم الإسلام وكل خصلة منه مضادة لكل خصلة مما كانوا عليه فازدادوا له معرفة وحبا وفيه جهادا بمعرفتهم بضده وذلك بمنزلة من كان في حصر شديد وضيق ومرض وفقر وخوف ووحشة فقيض الله له من نقله منه الى فضاء وسعة وأمن وعافية وغنى وبهجة وسرور فإنه يزداد سروره وغبطته ومحبته بما نقل اليه بحسب معرفته بما كان فيه وليس حال هذا كمن ولد في الارمن والعافية والغنى والسرور فإنه لم يشعر بغيره وربما قيضت له اسباب تخرجه عن
(2/50)
ذلك الى ضده وهو لا يشعر وربما ظن ان كثيرا من اسباب الهلاك والعطب تفضي به الى السلامة والامن والعافية فيكون هلاكه على يدي نفسه وهو لا يشعر وما اكثر هذا الضرب من الناس فإذا عرف الضدين وعلم مباينة الطرفين وعرف اسباب الهلاك على التفصيل كان احرى ان تدوم له النعمة مالم يؤثر اسباب زوالها على علم وفي مثل هذا قال القائل عرفت الشر لا للشر لكن لتقوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه وهذه حال المؤمن يكون فطنا حاذقا اعرف الناس بالشر وأبعدهم منه فإذا تكلم في الشر واسبابه ظننته من شر الناس فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من ابر الناس والمقصود ان من بلى بالافات صار من اعرف الناس بطرقها وامكنه ان يسدها على نفسه وعلى من استنصحه من الناس ومن لم يستنصحه فصل ومنها انه سبحانه يذيق عبده الم الحجاب عنه والعبد وزوال ذلك
(2/51)
الانس والقرب ليمتحن عبده فإن اقام على الرضا بهذه الحال ولم يجد نفسه تطالبه حالها الاول مع الله بل اطمأنت وسكنت الى غيره علم انه لا يصلح فوضعه في مرتبته التي تليق به وإن استغاث استغاثة الملهوف وتقلق تقلق المركوب ودعا دعاء المضطر وعلم انه قد فاتته حياته حقا فهو يهتف بربه ان يردعليه حياته ويعيد عليه مالا حياة له بدونه علم انه موضع لما اهل له فرد عليه احوج ما هو اليه فعظمت به فرحته وكملت به لذته وتمت به نعمته واتصل به سروره وعلم حينئذ مقداره فعض عليه بالنواجذ وثنى عليه الخناصر وكان حاله كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الارض المهلكة إذا وجدها بعد معاينة الهلاك فما اعظم موقع ذلك الوجدان عنده ولله اسرار وحكم ومنبهات وتعريفات لا تنالها عقول البشر فقل لغليظ القلب ويحك ليس ذا بعشك فادرج طالبا عشك البالي ولا تك ممن مد باعا الى جنا فقصر عنه قال ذا ليس بالحالي فالعبد إذا بلى بعد الانس بالوحشة وبعد القرب بنار البعاد اشتاقت نفسه الى لذة تلك المعاملة فحنت وانت وتصدعت وتعرضت لنفحات من ليس لها منه عوض ابدا ولا سيما إذا تذكرت بره ولطفه وحنانه وقربه فإن هذه الذكرى تمنعها القرار وتهيج منها البلابل كما قال القائل وقد فاته طواف الوادع فركب الاخطار ورجع اليه ولما تذكرت المنازل بالحمى ولم يقض لي تسليمة المتزود تيقنت ان العيش ليس بنافعي إذا انا لم انظر اليها بموعد وان استمر اعراضها ولم تحن الى معهدها الاول ولم تحس بفاقتها الشديدة وضرورتها الى مراجعة قربها من ربها فهي ممن إذا غاب لم يطلب وإذا ابق لم يسترجع وإذا جنى لم يتعتب وهذه هي النفوس التي لم تؤهل لما هنالك وبحسب المعترض هذا الحرمان فإنه يكفيه وذلك ذنب عقابه فيه فصل ومنها ان الحكمة الالهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الانسان
(2/52)
وهاتان القوتان فيه بمنزلة صفاته الذاتية لا ينفك عنهماوبهما وقعت المحنةوالابتلاء وعرض لنيل الدرجات العلى واللحاق بالرفيق الاعلى والهبوط الى اسفل سافلين فهاتان القوتان لا يدعان العبد حتى ينيلانه منازل الابرار او يضعانه تحت اقدام الأشرار ولن يجعل الله من شهوته مصروفة الى ما اعد له في دار النعيم وغضبه حمية لله ولكتابه ولرسوله ولدينه كمن جعل شهوته مصروفة في هواه وامانيه العاجلة وغضبه مقصور على حظه ولو انتهكت محارم الله وحدوده وعطلت شرائعه وسننه بعد ان يكون هو ملحوظا بعين الاحترام والتعظيم والتوقير ونفوذ الكلمة وهذه حال اكثر الرؤساء اعاذنا الله منها فلن يجعله الله هذين الصنفين في دار واحدة فهذا صعد بشهوته وغضبه الى اعلى عليين وهذا هوى بهما الى أسفل سافلين والمقصود ان تركيب الانسان على هذا الوجه هوغاية الحكمة ولا بد ان يقتضي كل واحد من القوتين اثره فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي فلا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما ولو لم يخلقا في الانسان لم يكن انسانا بل كان ملكا فالترتب من موجبات الانسانية كما قال النبي كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فأما من اكتنفته العصمة وضربت عليه سرادقات الحفظ فهم اقل افراد النوع الانساني وهم خلاصته ولبه فصل ومنها ان الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرا انساه رؤية طاعاته
(2/53)
ورفعها من قلبه ولسانه فإذا ابتلى بالذنب جعله نصب عينيه ونسى طاعاته وجعل همه كله بذنبه فلا يزال ذنبه امامه ان قام او قعد او غدا او راح فيكون هذا عين الرحمة في حقه كما قال بعض السلف ان العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة ويعمل الحسنة فيدخل بها النارقالوا وكيف ذلك قال يعمل الخطيئة فلاتزال نصب عينيه كلما ذكرها بكى وندم وتاب واستغفر وتضرع وأناب الى الله وذل له وانكسر وعمل لها اعمالا فتكون سبب الرحمة في حقه ويعمل الحسنة فلاتزال نصب عينيه يمن بها ويراها ويعتد بها على ربه وعلى الخلق ويتكبر بها ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه ويجلونه عليها فلا تزال هذه الامور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار فعلامة السعادة ان تكون حسنات العبد خلف ظهره وسيئاته نصب عينيه وعلامة الشقاوة ان يجعل حسناته نصب عينيه وسيئاته خلف ظهره والله المستعان فصل ومنها ان شهود العبد ذنوبه وخطاياه موجب له ان لا يرى لنفسه على احد فضلا ولا له على احد حقا فإنه يشهد عيوب نفسه وذنوبه فلا يظن انه خير من مسلم يؤمن بالله ورسوله ويحرم ما حرم الله ورسوله وإذا شهد ذلك من نفسه لم يرلها على الناس حقوقا من الاكرم يتقاضاهم اياها ويذمهم على ترك القيام بها فإنها عنده اخس قدرا واقل قيمة من ان يكون له بها على عباد الله حقوق يجب عليهم مراعاتها اوله عليهم فضل يستحق ان يكرم ويعظم ويقدم لاجلها فيرى ان من سلم عليه او لقيه بوجه منبسط فقد احسن اليه وبذل له مالا يستحقه فاستراح هذا في نفسه وأراح الناس من شكايته وغضبه على الوجود واهله فما اطيب عيشه وما انعم باله وما اقرعينه واين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق شاكيا ترك قيامهم بحقه ساخطا عليهم وهم عليه اسخط فصل ومنها انه ويوجب له الامساك عن عيوب الناس والفكر فيها فإنه في
(2/54)
شغل بعيب نفسه فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس هذا من علامة الشقاوة كما ان الاول من امارات السعادة ومنها انه إذا وقع في الذنب شهد نفسه مثل اخوانه الخطائين وشهد ان المصيبة واحدة والجميع مشتركون في الحاجة بل في الضورروة الى مغفرة الله وعفوه ورحمته فكما يحب ان يستغفر له اخوه المسلم كذلك هو ايضا ينبغي ان يستغفر لاخيه المسلم فيصير هجيراه رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات وقد كان بعض السلف يستحب لكل احد ان يداوم على هذا الدعاء كل يوم سبعين مرة فيجعل له منه وردا لا يخل به وسمعت شيخنا يذكره وذكر فيه فضلا عظيما لا احفظه وربما كان من جملة اوراده التي لا يخل بها وسمعته يقول ان جعله بين السجدتين جائز فإذا شهدالعبد ان اخوانه مصابون بمثل ما اصيب به محتاجون الى ما هو محتاج اليه لم يمتنع من مساعدتهم الا لفرط جهل بمغفرة الله وفضله وحقيق بهذا ان لا يساعد فإن الجزاء من جنس العمل وقد قال بعض السلف إن الله لما عتب علىالملائكة بسبب قولهم اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وامتحن هاروت وماروت بما امتحنهما به جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبني آدم وتدعوالله لهم فصل ومنها انه إذا شهدنفسه مع ربه مسيئا خاطئا مفرطا مع فرط إحسان
(2/55)
الله اليه في كل طرفة عين وبره به ودفعه عنه وشدة حاجته الى ربه وعدم استغنائه عنه نفسا واحدا وهذه حاله معه فكيف يطمع ان يكون الناس معه كما يحب وان يعاملوه بمحض الاحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة وكيف يطمع ان يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد ولا يعصونه لا يخلون بحقوقه وهو مع ربه ليس كذلك وهذا يوجب له ان يستغفر لمسيئهم ويعفو عنه ويسامحه ويغضي عن الاستقصاء في طلب حقه فهذه الاثمار ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كونه رحمة في حقه ومن اجتنى منه اضدادها واوجبت له خلاف ما ذكرناه فهي والله علامة الشقاوة وأنه من هوانه على الله وسقوطه من عينه خلى بينه وبين معاصيه ليقيم عليه حجة عدله فيعاقبه باستحقاقه وتتداعى السيئات في حق مثل هذا وتتألف فيتولد من الذنب الواحد ما شاء الله من المتالف والمعاطب التي يهوى بها في دركات العذاب والمصيبة كل المصيبة الذنب الذي يتولد من الذنب ثم يتولد من الاثنين ثالث ثم تقوى الثلاثة فتوجب رابعا وهلم جرا ومن لم يكن له فقه نفس في هذا الباب هلك من حيث لا يشعر فالحسنات والسيئات آخذ بعضها برقاب بعض يتلو بعضها بعضا ويثمر بعضها بعض قال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنةبعدها وإن من عقاب السيئة السيئة بعدها وهذا اظهر عند الناس من ان تضرب له الامثال وتطلب له الشواهد والله المستعان فصل وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم
(2/56)
به الى اجل الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوايعبرون اليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل الى عبورهم الى الجنة إلا عليه وكان ذلك الابتلاء ولامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة فصورته صورة ابتلاء وامتحان وباطنه فيه الرحمة والنعمة فكم لله من نعمة جسيمة ومنه عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان فتأمل حال ابينا آدم وما آلت اليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة ولولا تلك المحنة التي جرت عليه وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك لما وصل الى ما وصل اليه فكم بين حالته الاولى وحالته الثانية في نهايته وتأمل حال ابينا الثاني نوح وما آلت اليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها حتى اقر الله عينه واغرق اهل الارض بدعوته وجعل العالم بعده من ذريته وجعله خامس خمسة وهم اولو العزم الذين هم افضل الرسل وأمر رسوله ونبيه محمدا ان يصبر كصبره واثنى عليه بالشكر فقال إنه كان عبدا
(2/57)
شكورا فوصفه بكمال الصبر والشكر ثم تأمل حال ابينا الثالث إبراهيم إمام الحنفاء وشيخ الانبياء وعمود العالم وخليل رب العالمين من بني آدم وتأمل ما آلت اليه محنته وصبره وبذله نفسه لله وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه ونصره دينه الىان اتخذه الله خليلا لنفسه وامر رسوله وخليله محمدا ان يتبع ملته وأنبهك على خصلة واحدة مما اكرمه الله به في محنته بذبح ولده فإن الله تبارك وتعالى جازاه على تسليمه ولده لأمر الله بان بارك في نسله وكثرة حتى ملأ السهل والجبل فإن الله تبارك وتعالى لا يتكرم عليه احد وهو اكرم الاكرمين فمن ترك لوجهه امرا او فعله لوجهه بذل الله له اضعاف ما تركه من ذلك الامر اضعافا مضاعفة وجازاه باضعاف ما فعله لاجله اضعافا مضاعفة فلما أمر إبراهيم بذبح ولده فبادر لامر الله ووافق عليه الولد أباه رضاء منهما وتسليما وعلم الله منهما الصدق والوفاء فداه بذبح عظيم واعطاهما ما اعطاهما من فضله وكان من بعض عطاياه ان بارك في ذريتهما حتى ملؤا الارض فإن المقصود بالولد إنما هو التناسل وتكثير الذرية ولهذا قال إبراهيم رب هب لي من الصالحين وقال رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي فغاية ما كان يحذر ويخشى من ذبح ولده انقطاع نسله فلما بذل ولده لله وبذل الولد نفسه ضاعف الله له النسل وبارك فيه وكثر حتى ملؤا الدنيا وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة وأخرج منهم محمدا وقد ذكر ان داود عليه السلام اراد ان يعلم عدد بني إسرائيل فأمر بإحضارهم وبعث لذلك نقباء وعرفاء وامرهم ان يرفعوا اليه ما بلغ عددهم فمكثوا مدة لا يقدرون على ذلك فأوحى الله إلى داود ان قد علمت اني وعدت أباك إبراهيم لما أمرته بذبح ولده فبادر الى طاعة امري ان أبارك له في ذريته حتى يصيروا في عدد النجوم واجعلهم بحيث لا يحصى عددهم وقد اردت ان يحصى عددا قدرت انه لا يحصى وذكر باقي الحديث فجعل من نسله هاتين الامتين العظيمتين اللتين لا يحصى عددهم الا
(2/58)
الله خالقهم ورازقهم وهم بنو إسرائيل وبنو إسمايعل هذا سوى ما أكرمه الله به من رفع الذكر والثناء الجميل على السنة جميع الامم وفي السموات بين الملائكة فهذا من بعض ثمرة معاملته فتبا لمن عرفه ثم عامل غيره ما اخسر صفقته وما اعظم حسرته فصل ثم تأمل حال الكليم موسى عليه السلام وما آلت اليه محنته وفتونه من اول ولادته الى منتهى امره حتى كلمه الله تكليما وقربه منه وكتب له التوراة بيده ورفعه الى اعلى السموات واحتمل له مالا يحتمل لغيره فإنه رمى الالواح على الارض حتىتكسرت اخذ بلحية نبي الله هارون وجره اليه ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينه وخاصم ربه ليلة الاسراء في شأن رسول الله وربه يحبه على ذلك كله ولا سقط شيء منه من عينه ولا سقطت منزلته عنده بل هو الوجيه عند الله القريب ولولا ماتقدم له من السوابق وتحمل الشدائد والمحن العظام في الله ومقاسات الامر الشديد بين فرعون وقومه ثم بنى إسرائيل وما آذوه به وما صبر عليهم لله لم يكن ذلك ثم تأمل حال المسيح وصبره على قومه واحتماله في الله وما تحمله منهم حتى رفعه الله إليه وطهره من الذين كفروا وانتقم من اعدائه وقطعهم في الارض ومزقهم كل ممزق وسلبهم ملكهم وفخرهم الى آخر الدهر فصل فإذا جئت الىالنبي وتأملت سيرته مع قومه وصبره في الله
(2/59)
واحتماله مالم يحتمله نبي قبله وتلون الاحوال عليه من سلم وخوف وغني وفقر وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه وتركه لله وقتل احبابه واوليائه بين يديه واذى الكفار له بسائر انواع الاذى من القول والفعل والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان وهو مع ذلك كله صابر على امر الله يدعو الى الله فلم يؤذ نبي ما أوذي ولم يحتمل في الله ما احتمله ولم يعط نبي ما اعطيه فرفع الله له ذكره وقرن اسمعه باسمه وجعله سيدالناس كلهم وجعله اقرب الخلق اليه وسيلة واعظمهم عنده جاها واسمعهم عنده شفاعة وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته وهي مما زاده الله بها شرفا وفضلا وساقه بها الى أعلا المقامات وهذا حال ورثته من بعده الامثل فالأمثل كل له نصيب من المحنة يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له ومن لا نصيب له من ذلك فحظه من الدنيا حظ من خلق لها وخلقت له وجعل خلاقه ونصيبه فيها فهو يأكل منها رغدا ويتمتع فيها حتى يناله نصيبه من الكتاب يمتحن اولياء الله وهو في دعة وخفض عيش ويخافون وهو آمن ويحزنون وهو في اهله مسرور له شأن ولهم شأن وهو في واد وهم في واد همه ما يقيم به جاهه ويسلم به ماله وتسمع به كلمته لزم من ذلك ما لزم ورضى من رضى وسخط من سخط وهمهم إقامة دين الله وإعلاء كلمته وإعزاز اوليائه وان تكون الدعوة له وحده فيكون هو وحده المعبود لا غيره ورسوله المطاع لا سواه فلله سبحانه من الحكم في ابتلائه انبياءه ورسله وعباده المؤمنين ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته وهل وصل من وصل الى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء كذا المعالي إذا ما رمت ندركها فاعبر اليها على جسر من التعب والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما ابدا الى يوم الدين ورضى الله عن اصحاب رسول الله اجمعين فصل وإذا تأملت الحكمة الباهرة في هذا الدين القويم والملة الحنيفية والشريعة المحمدية التي لا
(2/60)
تنال العبارة كمالها ولا يدرك الوصف حسنها ولا تقترح عقول العقلاء ولو اجتمعت وكانت على اكمل عقل رجل منهم فوقها وحسب العقول الكاملة الفاضلة ان ادركت حسنها وشهدت بفضلها وانه ما طرق العالم شريعة اكمل ولا اجل ولا اعظم منها فهي نفسها الشاهد والمشهود له والحجة والمحتج له والدعوى والبرهان ولو لم يأت الرسول ببرهان عليها لكفى بها برهانا وآية وشاهدا على انها من عند الله وكلها شاهدة له بكمال العلم وكمال الحكمة وسعة الرحمةوالبر والاحسان والاحاطة بالغيب والشهادة والعلم بالمباديء والعواقب وأنها من اعظم نعم الله التي انعم بها على عباده فما انعم عليهم بنعمة اجل من ان هداهم لها وجعلهم من اهلها وممن ارتضاهم لها فلهذا امتن على عباده بان هداهم لها قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال معرفا لعباده ومذكرا لهم عظيم نعمته عليهم مستدعيا منهم شكره على ان جعلهم من اهلها اليوم اكملت لكم دينكم الاية وتأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال والنعمة التي اسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين وإضافة الدين اليهم إذ هم القائمون به المقيمون له وأضاف النعمة اليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم فهي نعمته حقا وهم قابلوها واتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص وأنه شيء خصوا به دون الامم وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والاحاطة فجاء اتممت في مقابلة أكملت وعليكم في مقابلة لكم ونعمتي في مقابلة دينكم
(2/61)
واكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله ورضيت لكم الاسلام دينا وكان بعض السلف الصالح يقول ياله من دين لو ان له رجالا وقد ذكرنا فصلا مختصرا في دلالة خلقه على وحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه الحسنى واردنا ان نختم به القسم الاول من الكتاب ثم راينا ان نتبعه فصلا في دلالة دينه وشرعه على وحدانيته وعلمه وحكمته ورحمته وسائر صفات كماله إذ هذا من أشرف العلوم التي يكتسبها العبد في هذه الدار ويدخل بها الى الدار الاخرة وقد كان الاولى بنا الامساك عن ذلك لان ما يصفه الواصفون منه وتنتهي اليه علومهم هو كما يدخل الرجل اصبعه في اليم ثم ينزعها فهو يصف البحر بما يعلق على إصبعه من البلل وأين ذلك من البحر فيظن السامع ان تلك الصفة احاطت بالبحر وإنما هي صفة ما علق بالاصبع منه وإلا فالأمر اجل وأعظم وأوسع من ان تحيط عقول البشر بأدنى جزء منه وماذا عسى ان يصف به الناظر الى قرص الشمس من ضوئها وقدرها وحسنها وعجائب صنع الله فيها ولكن قد رضى الله من عباده بالثناء عليه وذكر آلائه وأسمائه وصفاته وحكمته وجلاله مع انه لايحصى ثناء عليه ابدا بل هو كما اثنى على نفسه فلا يبلغ مخلوق ثناء عليه تبارك وتعالى ولا وصف كتابه ودينه بما ينبغي له بل لا يبلغ احد من الامة ثناء على رسوله كما هو اهل ان يثني عليه بل هو فوق ما يثنون به عليه ومع هذا ان الله تعالى يحب ان يحمد ويثني عليه وعلى كتابه ودينه ورسوله فهذه مقدمة اعتذار بين يدي القصور والتقصير من راكب هذا البحر الاعظم والله عليم بمقاصد العباد دنياهم وهو اولى بالعذر والتجاوز فصل وبصائر الناس في هذا النور الباهر تنقسم الى ثلاثة اقسام احدها
(2/62)
من عدم بصيرة الايمان جملة فهو لا يرى من هذا الصنف الا الظلمات والرعد والبرق فهو يجعل اصبعيه في اذنه من الصواعق ويده على عينه من البرق خشية ان يخطف بصره ولا يجاوز نظره ما وراء ذلك من الرحمةواسباب الحياة الابدية فهذا القسم هو الذي لم يرفع بهذا الدين رأسا ولم يقبل هدى الله الذي هدى به عباده ولو جاءته كل آية لانه ممن سبقت له الشقاوة وحقت عليه الكلمة ففائدة إنذار هذا إقامة الحجة عليه ليعذب بذنبه لا بمجرد علم الله فيه القسم الثاني اصحاب البصيرة الضعيفة الخفاشية الذين نسبة ابصارهم الى هذا النور كنسبة ابصار الخفاش الى جرم الشمس فهم تبع لابائهم واسلافهم دينهم دين العادة والمنشأ وهم الذين قال فيهم امير المؤمنين على بن ابي طالب او منقادا للحق لا بصيره له في إصابة فهؤلاء إذا كانوا منقادين لاهل البصائر لا يتخالجهم شك ولا ريب فهم على سبيل نجاة القسم الثالث وهو خلاصة الوجود ولباب بني آدم وهم اولو البصائر النافذة الذين شهدت بصائرهم هذا النور المبين فكانوا منه على بصيرة ويقين ومشاهدة لحسنه وكماله بحيث لو عرض على عقولهم ضده لراوه كالليل البهم الاسود وهذا هو المحك والفرقان بينهم وبين الذين قبلهم فإن اولئك بحسب داعيهم ومن يقرن بهم كما قال فيهم علي بن ابي طالب اتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا الى ركن وثيق هذا علامة من عدم البصيرة فإنك تراه يستحسن الشيء وضده ويمدح الشيء ويذمه بعينه إذا جاء في قالب لا يعرفه فيعظم طاعة الرسول ويرى عظيما مخالفته ثم هو من اشد الناس مخالفة له ونفيا لما اثبته ومعاداة للقائمين بسنته وهذا من عدم البصيرة فهذا القسم الثالث إنما عملهم على البصائر وبها تفاوت مراتبهم في درجات الفضل كما قال بعض السلف وقد ذكر السابقين فقال إنما كانوا يعملون على البصائر وما اوتي احد افضل من بصيرة في دين الله ولو قصر في العمل قال تعالى واذكر عبادنا إبراهيم
(2/63)
وإسماعيل وإسحق ويعقوب اولي الايدي والابصار قال ابن عباس اولي القوة في طاعة الله والابصار في المعرفة في امر الله وقال قتادة ومجاهد اعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين واعلم الناس ابصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وتحت كل من هذه الاقسام انواع لا يحصى مقادير تفاوتها إلا الله إذا عرف هذا فالقسم الاول لا ينتفع بهذا الباب ولا يزداد به الا ضلالة والقسم الثاني ينتفع منه بقدر فهمه واستعداده والقسم الثالث واليهم هذا الحديث يساق وهم اولو الالباب الذين يخصهم الله في كتابه بخطاب التنبيه والارشاد وهم المرادون على الحقيقة بالتذكرة قال تعالى وما يتذكر لا اولو الالباب فصل قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربا قادرا حليما عليما رحيما
(2/64)
كاملا في ذاته وصفاته لا يكون إلا مريدا للخير لعباده مجريا لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن واستقباح القبيح وما جبل طباعهم عليه من إيثار النافع لهم المصلح لشأنهم وترك الضار المفسد لهم وشهدت هذه الشريعة له بأنه احكم الحاكمين وأرحم الراحمين وانه المحيط بكل شيء علما وإذا عرف ذلك فليس من الحكمة الالهية بل ولا الحكمة في ملوك العالم انهم يسوون بين من هو تحت تدبيرهم في تعريفهم كلما يعرفه الملوك وإعلامهم جميع ما يعلمونه واطلاعهم على كل ما يجرون عليه سياساتهم في انفسهم وفي منازلهم حتى لا يقيمو في بلد فيها إلا اخبروا من تحت ايديهم بالسبب في ذلك والمعنى الذي قصدوه منه ولا يأمرون رعيتهم بأمر ولا يضربون عليهم بعثا ولا يسوسونهم سياسة إلا اخبروهم بوجه ذلك وسببه وغايته ومدته بل لا تتصرف بهم الاحوال في مطاعمهم وملابسهم ومراكبهم إلا اوقفوهم على أغراضهم فيه ولا شك ان هذا مناف للحكمة والمصلحة بين المخلوقين فكيف بشأن رب العالمين واحكم الحاكمين الذي لا يشاركه في علمه ولا حكمته احد ابدا فحسب العقول الكاملة ان تستدل بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها وتعلم ان له حكمة في كل ما خلقه وأمر به وشرعه وهل تقتضي الحكمة ان يخبر الله تعالى كل عبد من عباده بكل ما يفعله ويوقفهم على وجه تدبيره في كل ما يريده وعلى حكمته في صغير ما ذرأ وبرأ من خليقته وهل في قوى المخلوقات ذلك بل طوى سبحانه كثيرا من صنعه وأمره عن جميع خلقه فلم يطلع على ذلك ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا والمدبر الحكيم من البشر إذا ثبتت حكمته وابتغاؤه الصلاح لمن تحت تدبيره وسياسته كفا في ذلك تتبع مقاصده فيمن يولي ويعزل وفي جنس ما يأمر به وينهي عنه وفي تدبيره لرعيته
(2/65)
وسياسته لهم دون تفاصيل كل فعل من افعاله اللهم إلا ان يبلغ الامر في ذلك مبلغا لا يوجد لفعله منفذ ومساغ في المصلحة اصلا فحينئذ يخرج بذلك عن استحاق اسم الحكيم ولن يجد احد في خلق الله ولا في أمره ولا واحدا من هذا الضرب بل غاية ما تخرجه نفس المتعنت امور يعجز العقل عن معرفة وجوهها وحكمتها وأما ان ينفى ذلك عنها فمعاذ الله إلا ان يكون ما اخرجه كذب على الخلق الامر فلم يخلق الله ذلك ولا شرعة وإذا عرف هذا فقد علم ان رب العالمين احكم الحاكمين والعالم بكل شيء والغني عن كل شيء والقادر على كل شيء ومن هذا شأنه لم تخرج أفعاله وأوامره قط عن الحكمة والرحمة والمصلحة وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وابداعه وامره وشرعه فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام ان تضمنته حكمة بالغة وإن لم يعرفوا تفصيلها وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به فيكفيهم في ذلك الاسناد إلى الحكمة البالغة العامة الشاملة التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم هذا وأن الله تعالى بني امور عباده على ان عرفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما وهذا مطرد في الاشياء اوصولها وفروعها فأنت إذا رايت الرجلين مثلا أحدهما اكثر شعرا من الاخر أو اشد بياضا او احد ذهنا لامكنك ان تعرف من جهة السبب الذي اجرى الله عليه سنة الخلقية وجه اختصاص كل واحد منهما بما اختص به وهكذا في اختلاف الصور والاشكال ولكن لو اردت ان تعرف ماذا كان شعر هذا مثلا يزيد على شعر الاخر بعدد معين او المعنى الذي فضله به في القدر المخصوص والتشكيل المخصوص ومعرفة القدر الذي بينهما من التفاوت وسببه لما أمكن ذلك اصلا وقس على هذا جميع المخلوقات من الرمال والجبال والاشجار ومقادير الكواكب وهيآتها وإذا كان لا سبيل الى معرفة هذا في الخلق بل يكفي فيه العلة العامة والحكمة الشاملة فهكذا في الامر يعلم ان جميع ما امر به متضمن لحكمة بالغة واما تفاصيل اسرار المأمورات
(2/66)
والمنهيات فلا سبيل الى علم البشرية ولكن يطلع الله من شاء من خلقه على ما شاء منه فاعتصم بهذا الاصل تم الجزء الاول من كتاب مفتاح دار السعادة ويليه الجزء الثاني واوله فصل حاجة الناس الى الشريعة ضرورية تم تصحيحه سميرة أبو عفيفة مرتين |2 | فصل مفتاح دار السعادة حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها إلا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة وأما أهل البدو كلهم وأهل الكفور كلهم وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب وهم أصح أبدانا وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب ولعل أعمارهم متقاربة وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم وجعل لكل قوم عادة وعرفا في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء حتى أن كثيرا من أصول الطب إنما أخذت عن عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم وأما الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية فمبناها على الوحي المحض والحاجة إلى التنفس فضلا عن الطعام والشراب لأن غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن وتعطل الروح عنه وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة وهلاك الأبدان وشتان بين هذا وهلاك البدن بالموت فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول والقيام به والدعوة إليه والصبر عليه وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسم
فصل الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسنها في
(2/67)
العقول ولو وقعت على غير ما هي عليه لخرجت عن الحكمة والمصلحة والرحمة بل من المحال أن تأتي بخلاف ما أتت به ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وكيف يجوز ذو العقل أن ترد شريعة أحكم الحاكمين بضد ما وردت به فالصلاة قد وضعت على أكمل الوجوه وأحسنها التي تعبد بها الخالق تبارك وتعالى عباده من تضمنها للتعظيم له بأنواع الجوارح من نطق اللسان وعمل اليدين والرجلين والرأس وحواسه وسائر أجزاء البدن كل يأخذ لحظه من الحكمة في هذه العبادة العظيمة المقدار مع أخذ الحواس الباطنة بحظها منها وقيام القلب بواجب عبوديته فيها فهي مشتملة على الثناء والحمد والتمجيد والتسبيح والتكبير وشهادة الحق والقيام بين يدي الرب مقام العبد الذليل الخاضع المدبر المربوب ثم التذلل له في هذا المقام والتضرع والتقرب إليه بكلامه ثم انحناء الظهر ذلا له وخشوعا واستكانة ثم استواؤه قائما ليستعد لخضوع أكمل له من الخضوع
(2/68)
الأول وهو السجود من قيام فيضع أشرف شيء فيه وهو وجهه على التراب خشوعا لربه واستكانة وخضوعا لعظمته وذلا لعزته قد انكسر له قلبه وذل له جسمه وخشعت له جوارحه ثم يستوي قاعدا يتضرع له ويتذلل بين يديه ويسأله من فضله ثم يعود إلى حاله من الذل والخشوع والاستكانة فلا يزال هذا دأبه حتى يقضى صلاته فيجلس عند إرادة الانصراف منها مثنيا على ربه مسلما على نبيه وعلى عباده ثم يصلى على رسوله ثم يسأل ربه من خيره وبره وفضله فأي شيء بعد هذه العبادة من الحسن وأي كمال وراء هذا الكمال وأي عبودية أشرف من هذه العبودية فمن جوز عقله أن ترد الشريعة بضدها من كل وجه في القول والعمل وأنه لا فرق في نفس الأمر بين هذه العبادة وبين ضدها من السخرية والسب والبطر وكشف العورة والبول على الساقين والضحك والصفير وأنواع المجون وأمثال ذلك فليعز عقله وليسأل الله أن يهبه عقلا سواه وأما حسن الزكاة وما تضمنته من مواساة ذوي الحاجات والمسكنة والخلة من عباد الله الذين يعجزون عن إقامة نفوسهم ويخاف عليهم التلف إذا خلاهم الأغنياء وأنفسهم وما فيها من الرحمة والإحسان والبر والطهرة وإيثار أهل الإيثار والاتصاف بصفة الكرم والجود والفضل والخروج من سماةأهل الشح والبخل والدناءة فأمر لا يسريب عاقل في حسنه ومصلحته وأن الآمر به أحكم الحاكمين وليس يجوز في العقل ولا في الفطرة البتة أن ترد شريعة من الحكيم العليم بضد ذلك أبدا وأما الصوم فناهيك به من عبادة تكف النفس عن شهواتها وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين فإن النفس إذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم فإذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشيطان وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها محبة له وإيثارا لمرضاته وتقربا إليه فيدع الصائم أحب الأشياء إليه وأعظمها لصوقا بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه فهو عبادة ولا تتصور حقيقتها إلا بترك الشهوة لله فالصائم يندع طعامه
(2/69)
وشرابه وشهواته من أجل ربه وهذا معنى كون الصوم له تبارك وتعالى وبهذا فسر النبي هذه الإضافة في الحديث فقال يقول الله تعالى كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها قال الله إلا الصوم فأنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلى حتى أن الصائم ليتصور بصورة من لا حاجة له في الدنيا إلا في تحصيل رضى الله وأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسر الشهوة وتقمع النفس وتحي القلب وتفرحه وتزهد في الدنيا وشهواتها وترغب فيما عند الله وتذكر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم وأنهم قد أخذوا بنصيب من عيشهم فتعطف قلوبهم عليهم ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا له شكرا وبالجملة فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور فما استعان أحد على تقوى الله وحفظ حدوده
(2/70)
واجتناب محارمه بمثل الصوم فهو شاهد لمن شرعه وأمر به بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه إنما شرعه إحسانا إلى عباده ورحمة بهم ولطفا بهم لا بخلا عليهم برزقه ولا مجرد تكليف وتعذيب خال من الحكمة والمصلحة بل هو غاية الحكمة والرحمة والمصلحة وإن شرع هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم ورحمته بهم 0 وأما الحج فشأن آخر لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم وشأنه أجل من أن تحيط به العبارة وهو خاصة هذا الدين الحنيف حتى قيل في قوله تعالى حنفاء لله غير مشركين أي حجاجا وجعل الله بيته الحرام قياما للناس فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه فلو ترك الناس كلهم الحج سنة لخرت السماء على الأرض هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس فالبيت الحرام قيام العالم فلا يزال قياما ما زال هذا البيت محجوجا فالحج هو خاصة الحنيفة ومعونة الصلاة وسر قول العبد لا إله إلا الله فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إلى بيته ومحل كرامته ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم لبيك اللهم لبيك إجابة محب لدعوة حبيبه ولهذا كان للتلبية موقع عند الله وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى فهو لا يملك نفسه أن يقول لبيك لبيك حتى ينقطع نفسه 0 وأما أسرار ما في هذه العبادة من الإحرام واجتناب العوائد وكشف الرأس ونزع الثياب المعتادة والطواف والوقوف بعرفة ورمى الجمار وسائر شعائر الحج فمما شهدت بحسنه العقول السليمة والفطر المستقيمة وعلمت بأن الذي شرع هذه لا حكمة فوق حكمته وسنعود أن شاء الله إلى الكلام في ذلك موضعه 0 وأما الجهاد فناهيك به من عبادة هي سنام العبادات وذروتها وهو المحك والدليل المفرق بين المحب والمدعى فالمحب قد بذل مهجته وماله لربه وإلهه متقربا إليه ببذل أعز ما بحضرته يود لو أن له بكل شعرة نفسا يبذلها في حبه ومرضاته ويود أن لو قتل فيه ثم أحي ثم قتل ثم أحي فهو
(2/71)
يفدي ثم قتل بنفسه حبيبه وعبده ورسوله ولسان حاله يقول 0 يفديك بالنفس صب لو يكون له أعز من نفسه شيء فذاك به فهو قد سلم نفسه وماله لمشتريها وعلم أنه لا سبيل إلى أخذ السلعة إلا ببذل ثمنها إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وإذا كان من المعلوم المستقر عند الخلق أن علامة المحبة إلا له وكل محبة الصحيحة بذل الروح والمال في مرضات المحبوب فالمحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له وكل محبة سوى محبته فالمحبة له باطلة أولى بأن يشرع لعباده الجهاد الذي هو غاية ما يتقربون به إلى إلههم وربهم وكانت قرابين من قبلهم من الأمم في ذبائحهم وقرابينهم تقديم أنفسهم للذبح في الله مولاهم الحق فأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة ولهذا ادخرها الله لأكمل الأنبياء وأكمل الأمم عقلا وتوحيدا ومحبة لله 0
(2/72)
وأما الضحايا والهدايا فقربان إلى الخالق سبحانه تقوم مقام الفدية عن النفس المستحقة للتلف فدية وعوضا وقربانا إلى الله وتشبها بإمام الحنفاء وإحياء لسنته أن فدى الله ولده بالقربان فجعل ذلك في ذريته باقيا أبدا وأما الإيمان والنذور فعقود يعقدها العبد على نفسه يؤكد بها ما ألزم به نفسه من الأمور بالله ولله فهي تعظيم للخالق ولأسمائه ولحقه وأن تكون العقود به وله وهذا غاية التعظيم فلا يعقد بغير اسمه ولا لغير القرب إليه بل أن حلف فباسمه تعظيما وتبجيلا وتوحيدا وإجلالا وأن نذر فله توحيدا وطاعة ومحبة وعبودية فيكون هو المعبود وحده والمستعان به وحده 0 وأما المطاعم والمشارب والملابس والمناكح فهي داخلة فيما يقيم الأبدان ويحفظها من الفساد والهلاك وفيما يعود ببقاء النوع الإنساني ليتم بذلك قوام الأجساد وحفظ النوع فيتحمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض ويقوى على حملها وأدائها ويتمكن من شكر مولى الأنعام ومسديه وفرق في هذه الأنواع بين المباح والمحظور والحسن والقبيح والضار والنافع والطيب والخبيث فحرم منها القبيح والخبيث والضار وأباح منها الحسن والطيب والنافع كما سيأتي إن شاء الله وتأمل ذلك في المناكح فإن من المستقر في العقول والفطر أن قضاء هذا الوطر في الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات والجدات مستقبح في كل عقل مستهجن في كل فطرة ومن المحال أن يكون المباح من ذلك مساويا للمحظور في نفس الأمر ولا فرق بينهما إلا مجرد التحكم بالمشيئة سبحانك هذا بهتان عظيم وكيف يكون في نفس الأمر نكاح الأم واستفراشها مساويا لنكاح الأجنبية واستفراشها وإنما فرق بينهما محض الآمر وكذلك من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساويا للخبز والماء والفاكهة ونحوها وإنما الشارع فرق بينهما فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث لا يكون مساويا لأخذه بالقهر والغلبة
(2/73)
والغصب والسرقة والجناية حتى يكون إباحة هذا وتحريم هذا راجعا إلى محض الأمر والنهى المفرق بين المتماثلين وكذلك الظلم والكذب والزور والفواحش كالزنا واللواط وكشف العورة بين الملأ ونحو ذلك كيف يسوغ عقل عاقل أنه لا فرق قط في نفس الأمر بين ذلك وبين العدل والإحسان والعفة والصيانة وستر العورة وإنما الشارع يحكم بإيجاب هذا وتحريم هذا وهذا مما لو عرض على العقول السليمة التي لم تدخل ولم يمسها ميل للمثالات الفاسدة وتعظيم أهلها وحسن الظن بهم لكانت أشد إنكارا له وشهادة ببطلانه من كثير من الضروريات وهل ركب الله في فطرة عاقل قط أن الإحسان والإساءة والصدق والكذب والفجور والعفة والعدل والظلم وقتل النفوس وانجاءها بل السجود لله وللصنم سواء في نفس الأمر لا فرق بينهما وإنما
(2/74)
الفرق بينهما الأمر المجرد وأي جحد للضروريات أعظم من هذا وهل هذا إلا بمنزلة من يقول أنه لا فرق بين الرجيع والبول والدم والقيء وبين الخبز واللحم والماء والفاكهة والكل سواء في نفس الأمر وإنما الفرق بالعوائد فأي فرق بين مدعى هذا الباطل وبين مدعى ذلك الباطل وهل هذا إلا بهت للعقل والحس والضرورة والشرع والحكمة وإذا كان لا معنى عندهم للمعروف إلا ما أمر به فصار معروفا بالأمر ولا للمنكر إلا ما نهى عنه فصار منكرا بنهيه فأي معنى لقوله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال يأمرهم بما يأمرهم به وينهاهم عما ينهاهم عنه وهذا كلام ينزه عنه آحاد العقلاء فضلا عن كلام رب العالمين وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول وتقر بحسنه الفطر فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض على العقول السليمة أنكرته أشد الإنكار كما أن ما أمر به إذا عرض على العقل السليم قبله أعظم قبول وشهد بحسنه كما قال بعض الأعراب وقد سئل بم عرفت أنه رسول الله فقال ما أمر بشيء فقال العقل ليته ينهى عنه ولا نهى عن شيء فقال ليته أمر به فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء وقد اقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته ولو كان جهة كونه معروفا ومنكرا هو الأمر المجرد لم يكن فيه دليل بل كان يطلب له الدليل من غيره ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه وشواهد نبوته ومن لم يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول له ولضده صفات أوجبت قبحه ونفور العقل عنه فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة وجعلها مستدلا عليه فقط ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى ويحل لهم
(2/75)
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فهذا صريخ في أن الحلال كان طيبا قبل حله وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم لوجهين اثنين أحدهما أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل فإنه بمنزلة أن يقال يحل لهم ما بحل ويحرم عليهم ما يحرم وهذا أيضا باطل فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل فكساه بأحلاله طيبا آخر فصار منشأ طيبه من الوجهين معا فتأمل هذا الموضع حق
(2/76)
التأمل يطلعك على أسرار الشريعة ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين أن ترد بخلاف ما وردت به وأن الله تعالى يتنزه عن ذلك كما يتنزه عن سائر مالا يليق به ومما يدل على ذلك قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول فتعلق التحريم بها لفحشها فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق يدل على أنه هو العلة المقتضية له وهذا دليل في جميع هذه الآيات التي ذكرناها فدل على أنه حرمها لكونها فواحش وحرم الخبيث لكونه خبيثا وأمر بالمعروف لكونه معروفا والعلة يجب أن تغاير المعلول فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهيا عنه وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما كانت العلة عين المعلول وهذا محال فتأمله وكذا تحريم الإثم والبغي دليل على أن هذا وصف ثابت له قبل التحريم ومن هذا قوله تعالى ولا تقربوا الزنا أنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه ولكان بمنزلة أن يقال لا تقربوا الزنا فإنه يقول لكم لا تقربوه أو فإنه منهي عنه وهذا محال من وجهين أحدهما أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة والثاني أنه تعليل للنهي بالنهي ومن ذلك قوله تعالى ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم كتابا فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة
(2/77)
بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل وهذا هو فصل الخطاب وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي وأحسنوا في رد ذلك عليهم واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد
(2/78)
قوله ولا الظفر عليه أصلا فانه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له وليس مع النفاة قط دليل واحد صحيح على نفي الحسن والقبح العقليين وإن الأفعال المتضادة كلها في نفس الأمر سواء لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي وكل أدلتهم على هذا باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى وليس مع المعتزلة دليل واحد صحيح قط يدل على إثبات العذاب على مجرد القبح العقلي قبل بعثة الرسل وأدلتهم على ذلك كلها باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى ومما يدل على ذلك أيضا أنه سبحانه يحتج على فساد مذهب من عبد غيره بالأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول ويجعل ما ركبه في العقول من حسن عبادة الخالق وحده وقبح عبادة غيره من أعظم الأدلة على ذلك وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر ههنا ولولا أنه مستقر في العقول والفطر حسن عبادته وشكره وقبح عبادة غيره وترك شكره لما احتج عليهم بذلك أصلا وإنما كانت الحجة في مجرد الأمر وطريقة القرآن صريحة في هذا كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون فذكر سبحانه أمرهم بعبادته وذكر اسم الرب مضافا إليهم لمقتضى عبوديتهم لربهم ومالكهم ثم ذكر ضروب أنعامه عليهم بإيجادهم وإنما من قبلهم وجعل الأرض فراشا لهم يمكنهم الاستقرار عليها والبناء والسكنى وجعل السماء بناء وسقفا فذكر أرض العالم وسقفه ثم ذكر إنزال مادة أقواتهم ولباسهم وثمارهم منبها بهذا على استقرار حسن عبادة من هذا شأنه وتشكره الفطر والعقول وقبح الإشراك به وعبادة غيره ومن هذا قوله تعالى حاكيا عن صاحب ياسين أنه قال لقومه محتجا عليهم بما تقر به فطرهم وعقولهم ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون فتأمل هذا الخطاب كيف تجد تحته أشرف
(2/79)
معنى وأجله وهو أن كونه سبحانه فاطرا لعباده يقتضي عبادتهم له وأن من كان مفطورا مخلوقا فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه ولا سيما إذا كان مرده إليه فمبدأه منه ومصيره إليه وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته ثم احتج عليهم بما تقر به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره وإنها أقبح شيء في العقل وأنكره فقال أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين أفلا تراه كيف لم يحتج عليهم بمجرد الأمر بل احتج عليهم بالعقل الصحيح ومقتضى الفطرة ومن هذا قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدرهإن الله لقوي عزيز فضرب لهم
(2/80)
سبحانه مثلا من عقولهم يدلهم على قبح عبادتهم لغيره وإن هذا أمر مستقر قبحه وهجنته في كل عقل وإن لم يرد به الشرع وهل في العقل أنكر وأقبح من عبادة من لو اجتمعوا كلهم لم يخلقوا ذبابا واحدا وإن يسلبهم الذباب شيئا لم يقدروا على الانتصار منه واستنقاذ ما سلبهم إياه وترك عبادة الخلاق العليم القادر على كل شيء الذي ليس كمثله شيء أفلا تراه كيف احتج عليهم بما ركبه في العقول من حسن عبادته وحده وقبح عبادة غيره وقال تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا هذا مثل ضربه الله لمن عبده وحده فسلم له ولمن عبد من دونه آلهة فهم شركاء فيه متشاكسون عسرون فهل يستوى في العقول هذا وهذا وقد أكثر تعالى من هذه الأمثال ونوعها مستدلا بها على حسن شكره وعبادته وقبح عبادة غيره ولم يحتج عليهم بنفس الأمر بل بما ركبه في عقولهم من الإقرار بذلك وهذا كثير في القرآن فمن تتبعه وجده وقال تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا فذكر توحيده وذكر المناهي التي نهاهم عنها والأوامر التي أمرهم بها ثم ختم الآية بقوله كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها أي مخالفة هذه الأوامر وارتكاب هذه المناهي سيئة مكروهة لله فتأمل قوله سيئة عند ربك مكروها أي أنه سيء في نفس الأمر عند الله حتى لو لم يرد به تكليف لكان سيئه في نفسه عند الله مكروها له وكراهته سبحانه له لما هو عليه من الصفة التي اقتضت أن كرهه ولو كان قبحه إنما هو مجرد النهي لم يكن مكروها لله إذ لا معنى للكراهة عندهم إلا كونه منهيا عنه فيعود قوله كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها إلى معنى كل ذلك نهى عنه عند ربك ومعلوم إن هذا غير مراد من الآية وأيضا فإذا وقع ذلك منهم فهو عند النفاة للحسن والقبح محبوب لله مرضى له لأنه إنما وقع بإرادته والإرادة عندهم هي المحبة لا فرق بينهما والقرآن صريح في أن هذا كله قبيح عند الله مكروه مبغوض له
(2/81)
وقع أو لم يقع وجعل سبحانه هذا البغض والقبح سببا للنهي عنه ولهذا جعله علة وحكمة للأمر فتأمله والعلة غير المعلول وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط دل ذلك على أن في نفس الأمر قسطا وأن الله سبحانه أنزل كتابه وأنزل الميزان وهو العدل ليقوم الناس بالقسط أنزل الكتاب لأجله والميزان فعلم أن في نفس الأمر ما هو قسط وعدل وحسن ومخالفته قبيحة وأن الكتاب والميزان نزلا لأجله ومن ينفي الحسن والقبح يقول ليس في نفس الأمر ما هو عدل حسن وإنما صار قسطا وعدلا بالأمر فقط ونحن لا ننكر أن الأمر كساه حسنا وعدلا إلى حسنه وعدله في نفسه فهو في نفسه قسط حسن وكساه الأمر حسنا آخر يضاعف به كونه عدلا حسنا فصار ذلك ثابتا له من الوجهين جميعا ومن هذا قوله تعالى وذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا
(2/82)
عليها آباءنا والله امرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون فقوله قل إن الله لا يأمر بالفحشاء دليل على أنها في نفسها فحشاء وأن الله لا يأمر بما يكون كذلك وانه يتعالى ويتقدس عنه ولو كان كونه فاحشة إنما علم بالنهي خاصة كان بمنزلة أن يقال إن الله لا يأمر بما ينهى عنه وهذا كلام يصان عنه آحاد العقلاء فكيف بكلام رب العالمين ثم أكد سبحانه هذا الإنكار بقوله قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين فأخبر انه يتعالى عن الأمر بالفحشاء بل أوامره كلها حسنة في العقول مقبولة في الفطر فإنه أمر بالقسط لا بالجور وبإقامة الوجوه له عند مساجده لا لغيره وبدعوته وحده مخلصين له الدين لا بالشرك فهذا هو الذي يأمر به تعالى لا بالفحشاء أفلا تراه كيف يخبر بحسن ما يأمر به ويحسنه وينزه نفسه عن الأمر بضده وأنه لا يليق به تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا فاحتج سبحانه على حسن دين الإسلام وإنه لا شيء أحسن منه بأنه يتضمن إسلام الوجه لله وهو إخلاص القصد والتوجه والعمل له سبحانه والعبد مع ذلك محسن آت بكل حسن لا مرتكب للقبح الذي يكرهه الله بل هو مخلص لربه محسن في عبادته بما يحبه ويرضاه وهو مع ذلك متبع لملة إبراهيم في محبته لله وحده وإخلاص الدين له وبذل النفس والمال في مرضاته ومحبته وهذا احتجاج منه على أن دين الإسلام أحسن الأديان بما تضمنه مما تستحسنه العقول وتشهد به الفطر وأنه قد بلغ الغاية القصوى في درجات الحسن والكمال وهذا استدلال بغير الأمر المجرد بل هو دليل على أن ما كان كذلك فحقيق بأن يأمر به عباده ولا يرضى منهم سواه ومثل هذا قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين فهذا احتجاج بما ركب في العقول والفطر لأنه لا قول للعبد أحسن من هذا القول وقال
(2/83)
تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم مع كونه طيبات أحلت لهم فأي شيء أصرح من هذا حيث أخبر سبحانه بأنه حرمه عليهم مع كونه طيبا في نفسه فلو لا أن طيبه أمر ثابت له بدون الأمر لم يكن ليجمع الطيب والتحريم وقد أخبر تعالى أنه حرم عليهم طيبات كانت حلالا عقوبة لهم فهذا تحريم عقوبة بخلاف التحريم على هذه الأمة فإنه تحريم صيانة وحماية ولا فرق عند النفاة بين الأمرين بل الكل سواء فإنه سبحانه أمر عباده بما أمرهم به رحمة منه وإحسانا وإنعاما عليهم لآن صلاحهم في معاشهم وأبدانهم وأحوالهم وفي معادهم ومآلهم إنما هو بفعل ما أمروا به وهو في ذلك بمنزلة الغذاء الذي لا قوام للبدن إلا به بل أعظم وليس مجرد تكليف وابتلاء كما يظنه كثير من الناس ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة وحمية لهم إذ لا بقاء لصحتهم ولا حفظ لها إلا بهذه الحمية فلم يأمرهم حاجة منه إليهم وهو الغنى الحميد ولا حرم عليهم
(2/84)
ما حرم بخلا منه عليهم وهو الجواد الكريم بل أمره ونهيه عين حظهم وسعادتهم العاجلة والآجلة ومصدر أمره ونهيه رحمته الواسعة وبره وجوده وإحسانه وإنعامه فلا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وعلمه ووقوع أفعاله على وفق المصلحة والرحمة والحكمة وقال تعالى أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون فأخبر سبحانه أن الحق لو اتبع أهواء العباد فجاء شرع الله ودينه بأهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ومعلوم أن عند النفاة يجوز أن يرد شرع الله ودينه بأهواء العباد وأنه لا فرق في نفس الأمر بين ما ورد به وبين ما تقتضيه أهواؤهم إلا مجرد الأمر وإنه لو ورد بأهوائهم جاز وكان تعبدا ودينا وهذه مخالفة صريحة للقرآن وإنه من المحال أن يتبع الحق أهوائهم وأن أهواءهم مشتملة على قبح عظيم لو ورد الشرع به لفسد العالم أعلاه وأسفله وما بين ذلك ومعلوم أن هذا الفساد إنما يكون لقبح خلاف ما شرعه الله وأمر به ومنافاته لصلاح العالم علويه وسفليه وإن خراب العالم وفساده لازم لحصوله ولشرعه وأن كمال حكمة الله وكمال علمه ورحمته وربو بيته يأبى ذلك ويمنع منه ومن يقول الجميع في نفس الأمر سواء يجوز ورود التعبد بكل شيء سواء كان من مقتضى أهوائهم أو خلافها 0 ومثل هذا قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش أي لو كان في السموات والأرض آلهة تعبد غير الله لفسدتا وبطلتا ولم يقل أرباب بل قال آلهة والإله هو المعبود المألوه وهذا يدل على أنه من الممتنع المستحيل عقلا أن يشرع الله عبادة غيره أبدا وإنه لو كان معه معبود سواه لفسدت السماوات والأرض فقبح عبادة غيره قد استقر في الفطر والعقول وأن لم يرد النبي عنه شرع بل العقل يدل على أنه أقبح القبيح على الإطلاق وأنه من المحال أن يشرعه
(2/85)
الله قط فصلاح العالم في أن يكون الله وحده هو المعبود وفساده وهلاكه في أن يعبد معه غيره ومحال أن يشرع لعباده ما فيه فساد العالم وهلاكه بل هو المنزه عن ذلك 0 فصل وقد أنكر تعالى على من نسب إلى حكمته التسوية بين المختلفين كالتسوية بين الأبرار والفجار فقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى أم حسب الذين اجتر حوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فدل على أن هذا حكم سيء قبيح ينزه الله عنه ولم ينكره سبحانه من جهة أنه أخبر بأنه لا يكون وإنما أنكره من جهة قبحه في نفسه وإنه حكم
(2/86)
سيء يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله ووقوع أفعاله كلها على السداد والصواب والحكمة فلا يليق به أن يجعل البر كالفاجر ولا المحسن كالمسيء ولا المؤمن كالمفسد في الأرض فدل على أن هذا قبيح في نفسه تعالى الله عن فعله 0 ومن هذا أيضا إنكاره سبحانه على من جوز أن يترك عباده سدى فلا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم وأن هذا الحسبان باطل والله متعال عنه لمنافاته لحكمته وكماله كما قال تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدى قال الشافعي رضى الله عنه أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب والقولان واحد لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهى فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهى في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى احكم الحاكمين 0 ومثله وقوله تعالى أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم فنزه نفسه سبحانه وباعدها عن هذا الحسبان وأنه يتعالى عنه ولا يليق به لقبحه ولمنافاته لحكمته وملكه وإلهيته أفلا ترى كيف ظهر في العقل الشهادة بدينه وشرعه وبثوابه وعقابه وهذا يدل على إثبات المعاد بالعقل كما يدل على إثباته بالسمع وكذلك دينه وأمره وما بعث به رسله هو ثابت في العقول جملة ثم علم بالوحي فقد تطابقت شهادة العقل والوحي على توحيده وشرعه والتصديق بوعده ووعيده وأنه سبحانه دعا عباده على ألسنة رسله إلى ما وضع في العقول حسنه والتصديق به جملة فجاء الوحي مفصلا مبينا ومقررا ومذكرا لما هو مركوز في الفطر والعقول ولهذا سأل هرقل أبا سفيان في جملة ما سأله من أدلة النبوة وشواهدها عما يأمر به النبي فقال بم يأمركم قال يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف فجعل ما يأمر به من أدلة نبوته فأن أكذب الخلق وأفجرهم من أدعى النبوة وهو كاذب
(2/87)
فيها على الله وهذا محال أن يأمر إلا بما يليق بكذبه وفجوره وافترائه فدعوته تليق به وأما الصادق البار الذي هو أصدق الخلق وأبرهم فدعوته لا تكون إلا أكمل دعوة وأشرفها وأجلها وأعظمها فإن العقول والفطر تشهد بحسنها وصدق القائم بها فلو كانت الأفعال كلها سواء في نفس الأمر لم يكن هناك فرقان بين ما يجوز أن يدعو إليه الرسول ومالا يجوز أن يدعو إليه إذ العرف وضده إنما يعلم بنفس الدعوة والأمر والنهي وكذلك مسئلة النجاشي لجعفر وأصحابه عما يدعو إليه الرسول فدل على أنه من المستقر في العقول والفطر انقسام الأفعال إلى قبيح وحسن في نفسه وأن الرسل تدعو إلى حسنها وتنهى عن قبيحها وأن ذلك من آيات صدقهم وبراهين رسالتهم وهو أولى وأعظم عند أولي الألباب والحجى من مجرد خوارق
(2/88)
العادات وإن كان انتفاع ضعفاء العقول بالخوارق في الإيمان أعظم من انتفاعهم بنفس الدعوة وما جاء به من الإيمان فطرق الهداية متنوعة رحمة من الله بعباده ولطفا بهم لتفاوت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم فمنهم من يهتدي بنفس ما جاء به وما دعا إليه من غير أن يطلب منه برهانا خارجا عن ذلك كحال الكمل من الصحابة كالصديق رضي الله عنه ومنهم من يهتدي بمعرفته بحاله وما فطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال وأن عادة الله أن لا يخزي من قامت به تلك الأوصاف والأفعال لعلمه بالله ومعرفته به وإنه لا يخزي من كان بهذه المثابة كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها له إبشر فوالله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضعيف وتعين على نوائب الحق فاستدلت بمعرفتها بالله وحكمته ورحمته على أن من كان كذلك فإن الله لا يخزيه ولا يفضحه بل هو جدير بكرامة الله واصطفائه ومحبته وتوبته وهذه المقامات في الإيمان عجز عنها أكثر الخلق فاحتاجوا إلى الآيات والخوارق والآيات المشهودة بالحس فآمن كثير منهم عليها وأضعف الناس إيمانا من كان إيمانه صادرا من المظهر ورؤية غلبته للناس فاستدلوا بذلك المظهر والغلبة والنصرة على صحة الرسالة فأين بصائر هؤلاء من بصائر من آمن به وأهل الأرض قد نصبوا له العداوة وقد ناله من قومه ضروب الأذى وأصحابه في غاية قلة العدد والمخافة من الناس ومع هذا فقلبه ممتلىء بالإيمان واثق بأنه سيظهر على الأمم وأن دينه سيعلو كل دين وأضعف من هؤلاء إيمانا من إيمانه إيمان العادة والمربا والمنشأ فإنه نشأ بين أبوين مسلمين وأقارب وجيران وأصحاب كذلك فنشأ كواحد منهم ليس عنده من الرسول والكتاب إلا اسمهما ولا من الدين إلا ما رأى عليه أقاربه وأصحابه فهذا دين العوائد وهو أضعف شيء وصاحبه بحسب من يقترن به فلو قيض له من يخرجه عنه لم يكن عليه كلفة في الانتقال عنه والمقصود أن خواص الأمة ولبابها لما شهدت
(2/89)
عقولهم حسن هذا الدين وجلالته وكماله وشهدت قبح ما خالفه ونقصه ورداءته خالط الإيمان به ومحبته بشاشة قلوبهم فلو خير بين أن يلقى في النار وبين أن يختار دينها غيره لاختار أن يقذف في النار وتقطع أعضاؤه ولا يختار دينا غيره وهذا الضرب من الناس هم الذين استقرت أقدامهم في الإيمان وهم أبعد الناس عن الارتداد عنه وأحقهم بالثبات عليه إلى يوم لقاء الله ولهذا قال هرقل لأبي سفيان أيرتد أحد منهم عن دينه سخطة له قال لا قال فكذلك الإيمان إذ خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد والمقصود أن الداخلين في الإسلام المستدلين على أنه من عند الله لحسنه وكماله وأنه دين الله الذي لا يجوز أن يكون من عند غيره هم خواص الخلق والنفاة سدوا على أنفسهم هذا الطريق فلا يمكنهم سلوكه فصل وتحقيق هذا المقام بالكلام في مقامين أحدهما في الأعمال خصوصا
(2/90)
ومراتبها في الحسن والقبح والثاني في الموجودات عموما ومراتبها في الخير والشر أما المقام الأول فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خالصة أو راجحة واما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة واما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها فهذه أقسام خمسة منها أربعة تأت بها الشرائع فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به مقتضية له وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة ولراجحه أو تكميلهما بحسب الإمكان وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلهما بحسب الإمكان فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة وتنازع الناس هنا في مسئلتين المسئلة الأولى في وجود المصلحة الخالصة والمفسدة الخالصة فمنهم من منعه وقال لا وجود له قال لأن المصلحة هي النعيم واللذة وما يفضي إليه والمفسدة هي العذاب والألم وما يفضي إليه قالوا والمأمور به لا بد أن يقترن به ما يحتاج معه إلى الصبر على نوع من الألم وإن كان فيه لذة سرور وفرح فلا بد من وقوع أذى لكن لما كان هذا مغمورا بالمصلحة لم يلتفت إليه ولم تعطل المصلحة لأجله فترك الخير الكثير الغالب لآجل الشر القليل المغلوب شر كثير قالوا وكذلك الشر المنهي عنه إنما يفعله الإنسان لإن له فيه غرضا ووطرا ما وهذه مصلحة عاجلة له فإذا نهى عنه وتركه فأتت عليه مصلحته ولذته العاجلة وإن كانت مفسدته أعظم من مصلحته بل مصلحته مغمورة جدا في جنب مفسدته كما قال تعالى في الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما فالربا والظلم والفواحش والسحر وشرب الخمر وإن كانت شرورا ومفاسد ففيها منفعة ولذة لفاعلها ولذلك يؤثرها ويختارها وإلا فلو تجردت مفسدتها من كل وجه لما أثرها العاقل ولا فعلها أصلا ولما كانت خاصة العقل النظر إلى العواقب والغايات كان أعقل الناس أتركهم لما ترجحت مفسدته في العاقبة وإن كانت فيه لذة ما ومنفعة يسيرة بالنسبة إلى
(2/91)
مضرته ونازعهم آخرون وقالوا القسمة تقتضي إمكان هذين القسمين والوجود يدل على وقوعهما فإن معرفة الله ومحبته والإيمان به خير محض من كل وجه لا مفسدة فيها بوجه ما قالوا ومعلوم أن الجنة خير محض لا شر فيها أصلا وإن النار شر محض لا خير فيه أصلا وإذا كان هذان القسمان موجودان في الآخرة فما المخل بوجودهما في الدنيا قالوا أيضا فالمخلوقات كلها منها ما هو خير محض لا شر فيه أصلا كالأنبياء والملائكة ومنها هو شر محض لا خير فيه أصلا كإبليس والشياطين ومنها ما هو خير وشر وأحدهما غالب على الآخر فمن الناس من يغلب خيره على شره ومنهم من
(2/92)
يغلب شره على خيره فهكذا الأعمال منها ما هو خالص المصلحة وراجحها وخالص المفسدة وراجحها هذا في الأعمال كما أن ذلك في العمال قالوا وقد قال تعالى في السحرة ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فهذا دليل على أنه مضرة خالصة لا منفعة فيها إما لأن بعض أنواعه مضرة خالصة لا منفعة فيها بوجه فما كل السحر يحصل غرض الساحر بل يتعلم مائة باب منه حتى يحصل غرضه باب والباقي مضرة خالصة وقس على هذا فهذا من القسم الخالص المفسدة وإما لأن المنفعة الحاصلة للساحر لما كانت مغمورة مستهلكة في جنب المفسدة العظيمة فيه جعلت كلا منفعته فيكون من القسم الراجح المفسدة وعلى القولين فكل مأمور به فهو راجح المصلحة على تركه وإن كان مكروها للنفوس قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرا لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون فبين أن الجهاد الذي أمروا به وإن كان مكروها للنفوس شاقا عليها فمصلحته راجحة وهو خير لهم وأحمد عاقبة وأعظم فائدة من التقاعد عنه وإيثار البقاء والراحة فالشر الذي فيه مغمور بالنسبة إلى ما تضمنه من الخير وهكذا كل منهي عنه فهو راجح المفسدة وإن كان محبوبا للنفوس موافقا للهوى فمضرته ومفسدته أعظم مما فيه من المنفعة وتلك المنفعة واللذة مغمورة مستهلكة في جنب مضرته كما قال تعالى وإثمهما أكبر من نفعهما وقال وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرا لكم وفصل الخطاب في المسئلة إذا أريد بالمصلحة الخالصة أنها في نفسها خالصة من المفسدة لا يشوبها مفسدة فلا ريب في وجودها وإن أريد بها المصلحة التي لا يشوبها مشقة ولا أذى في طريقها والوسيلة إليها ولا في ذاتها فليست بموجودة بهذا الإعتبار إذ المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وإن من آثر الراحة فاتته الراحة وإن
(2/93)
بحسب ركوب الأهوال وإحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة فلا فرحة لمن لا هم له ولا لذة لمن لا صبر له ولا نعيم لمن لا شقاء له ولا راحة لمن لا تعب له بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان ولا قوة إلا بالله وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلا كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل كما قال المتنبي : وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام وقال ابن الرومي : قلب يظل على أفكاره وئد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب وقال مسلم في صحيحه قال يحيى بن أبي كثير لا ينال العلم براحة البدن ولا ريب عند كل عاقل أن كمان الراحة بحسب التعب وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام فأما في هذه الدار فكلا ولما وبهذا التفصيل يزول النزاع في المسئلة وتعود مسئلة وفاق
فصل وأما المسئلة الثانية وهي ما تساوت مصلحته ومفسدته فقد اختلف
(2/94)
في وجوده وحكمه فاثبت وجوده قوم ونفاه آخرون والجواب أن هذا القسم لا وجود له إن حصره التقسيم بل التفصيل إما أن يكون حصوله أولى بالفاعل وهو راجح المصلحة وإما أن يكون عدمه أولى به وهو راجح المفسدة وأما فعل يكون حصوله أولى لمصلحته وعدمه أولى به لمفسدته وكلاهما متساويان فهذا مما لم يقم دليل على ثبوته بل الدليل يقتضي نفيه فإن المصلحة والمفسدة والمنفعة والمضرة واللذة والألم إذا تقابلا فلا بد أن يغلب أحدهما الآخر فيصير الحكم للغالب وأما أن يتدافعا ويتصادما بحيث لا يغلب أحدهما الآخر فغير واقع فإنه إما أن يقال يوجد الأثران معا وهو محال لتصادمها في المحل الواحد وإما أن يقال يمتنع وجود كل من الأثرين وهو ممتنع لأنه ترجيح لأحد الجائزين من غير مرجح وهذا المحال إنما نشأ من فرض تدافع المؤثرين وتصادمهما فهو محال فلا بد أن يقهر أحدهما صاحبه فيكون الحكم له فإن قيل ما المانع من أن يمتنع وجود الأثرين قولكم أنه محال لوجود مقتضيه إن أردتم به المقتضى السالم عن المعارض فغير موجود وإن أردتم المقتضى المقارن لوجود المعارض فتخلف أثره عنه غير ممتنع والمعارض قائم ههنا في كل منهما فلا يمتنع تخلف الأثرين فالجواب أن المعارض إذا كان قد سلب تأثير المقتضى في موجبه مع قوته وشدة اقتضائه لأثره ومع هذا فقد قوى على سلبه قوة التأثير والاقتضاء فلان يقوى على سلبه قوة منعه لتأثيره هو في مقتضاه وموجبه بطريق الأولى ووجه الأولوية أن اقتضاءه لأثره اشد من منعه تأثير غير فإذا قوى على سلبه للأقوى فسلبه للأضعف أولى وأحرى فإن قيل هذا ينتقض بكل مانع يمنع تأثير العلة في معلولها وهو باطل قطعا قيل لا ينتقض بما ذكرتم والنقض مندفع فإن العلة والمانع ههنا لم يتدافعا ويتصادما ولكن المانع أضعف العلة فبطل تأثيرها فهو عائق لها عن الاقتضاء وأما في مسئلتنا فالعلتان متصادمتان متعارضتان كل منهما تقتضي أثرها فلو بطل أثرهما لكانت كل واحدة مؤثرة
(2/95)
غير مؤثرة غالبة مغلوبة مانعة ممنوعة وهذا يمتنع وهو دليل يشبه دليل التمانع وسر الفرق أن العلة الواحدة إذا قارنها مانع منع تأثيرها لم تبق مقتضية له بل المانع عاقها عن اقتضائها وهذا غير ممتنع وأما العلتان المتمانعتان اللتان كل منهما مانعة للأخرى من تأثيرها فإن تمانعهما وتقابلهما يقتضي إبطال كل واحدة منهما للأخرى وتأثيرها فيها وعدم تأثيرها معا وهو جمع بين النقيضين لأنها إذا بطلت لم تكن مؤثرة وإذا لم تكن مؤثرة لم تبطل غيرها فتكون كل منهما مؤثرة غير مؤثرة باطلة غير باطلة وهذا محال فثبت أنهما لا بد أن تؤثر إحداهما في الأخرى بقوتها فيكون الحكم لها فإن قيل فما تقولون فيمن توسط أرضا مغصوبة ثم بدا له في التوبة فإن أمرتموه باللبث فهو محال وإن أمرتموه بقطعها والخروج من الجانب الآخر فقد أمرتموه بالحركة والتصرف في ملك الغير وكذلك إن أمرتموه بالرجوع فهو حركة منه وتصرف في ارض الغصب فهذا قد تعارضت فيه المصلحة والمفسدة فما الحكم في هذه الصورة وكذلك من توسط بين فئة مثبتة بالجراح منتظرين للموت وليس له انتقال إلا على أحدهم فإن أقام على من هو فوقه قتله وان انتقل إلى غيره قتله فقد تعارضت هنا مصلحة النقلة ومفسدتها على السواء وكذلك من طلع عليه الفجر وهو مجامع فإن أقام أفسد صومه وان نزع فالنزع من الجماع والجماع مركب من الحركتين فهاهنا أيضا قد تضادت العلتان وكذلك أيضا إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين هم بعدد المقاتلة ودار الأمر بين قتل الترس وبين الكف عنه وقتل الكفار المقاتلة المسلمين فهاهنا أيضا قد تقابلت المصلحة والمفسدة على السواء وكذلك أيضا إذا ألقى في مركبهم نار وعاينوا الهلاك بها فان أقاموا احترقوا وان لجؤا إلى الماء هلكوا بالغرق وكذلك الرجل إذا ضاق عليه الوقت ليلة عرفة ولم يبق منه إلا ما يسع قدر صلاة العشاء فان اشتغل بها فاته الوقوف وان اشتغل بالذهاب إلى عرفة فاتته الصلاة فهاهنا تحد
(2/96)
تعارضت المصلحتان والمفسدتان على السواء وكذلك الرجل إذا استيقظ قبل طلوع الشمس وهو جنب ولم يبق من الوقت إلا ما يسع قدرالغسل أو الصلاة بالتيمم فان اغتسل فاتته مصلحة الصلاة في الوقت وإن صلى بالتيمم فاتته مصلحة الطهارة فقد تقابلت المصلحة والمفسدة وكذلك إذا اغتلم البحر بحيث يعلم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان لتخف بهم السفينة فان ألقوا شطرهم كان فيه مفسدة وان تركوهم كان فيه مفسدة فقد تقابلت المفسدتان والمصلحتان على السواء وكذلك لو أكره رجل على إفساد درهم من درهمين متساويين أو إتلاف حيوان من حيوانين متساويين أو شرب قدح من قدحين متساويين أو وجد كافرين قويين في حال المبارزة لا يمكنه إلا قتل أحدهما أو قصد المسلمين عدوان متكافئان من كل وجه في القرب والبعد والعدد والعداوة فانه في هذه الصور كلها تساوت المصالح والمفاسد ولا يمكنكم ترجيح أحد من المصلحتين ولا أحد من المفسدتين ومعلوم أن هذه حوادث لا تخلو من حكم لله فيها وأما ما ذكرتم من امتناع تقابل المصلحة والمفسدة على السواء فكيف عليكم إنكاره وأنتم تقولون بالموازنة وإن من الناس من تستوي حسناته وسيئاته فيبقى في الأعراف بين الجنة والنار لتقابل مقتضى الثواب والعقاب في حقه فان حسناته
(2/97)
قصرت به عن دخول النار وسيئاته قصرت به عن دخول الجنة وهذا ثابت عن الصحابة حذيفة ابن اليمان وابن مسعود وغيرهما فالجواب من وجهين مجمل ومفصل وأما المجمل فليس في شيء مما ذكرتم دليل على محل النزاع فان مورد النزاع أن تتقابل المصلحة والمفسدة وتتساويا فيتدافعا ويبطل أثرهما وليس في هذه الصور شيء كذلك وهذا يتبين بالجواب التفصيلي عنها صورة فأما من توسط أرضا مغصوبة فإنه مأمور من حين دخل فيها بالخروج منها فحكم الشارع في حقه المبادرة إلى الخروج وان استلزم ذلك حركة في الأرض المغصوبة فإنها حركة تتضمن ترك الغصب فهي من باب مالا خلاص عن الحرام إلا به وان قيل إنها واجبة فوجوب عقلي لزومي لا شرعي مقصود فمفسدة هذه الحركة مغمورة في مصلحة تفريغ الأرض والخروج عن الغصب وإذا قدر تساوي الجواب بالنسبة إليه فالواجب القدر المشترك وهو الخروج من أحدها وعلى كل تقدير فمفسدة هذه الحركة مغمورة جدا في مصلحة ترك الغصب فليس مما نحن فيه بسبيل وأما مسئلة من توسط بين قتلى لا سبيل له إلى المقام أو النقلة إلا بقتل أحدهم فهذا ليس مكلفا في هذه الحال بل هو في حكم الملجأ والملجأ ليس مكلفا اتفاقا فإنه لا قصد له ولا فعل وهذا ملجأ من حيث أنه لا سبيل له إلى ترك النقلة عن واحد إلا إلى الآخر فهو ملجأ إلى لبثه فوق واحد ولا بد ومثل هذا لا يوصف فعله بإباحة ولا تحريم ولا حكم من أحكام التكليف لأن أحكام التكليف منوطة بالاختيار فلا تتعلق بمن لا اختيار له فلو كان بعضهم مسلما وبعضهم كافرا مع اشتراكهم في العصمة فقد قيل يلزمه الانتقال إلى الكافر أو المقام عليه لأن قتله أخف مفسدة من قتل المسلم ولهذا يجوز قتل من لا يقتله في المعركة إذا تترس بهم الكفار فيرميهم ويقصد الكفار وأما من طلع عليه الفجر وهو مجامع فالواجب عليه النزع عينا ويحرم عليه استدامة الجماع واللبث وإنما اختلف في وجوب القضاء والكفارة عليه على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد
(2/98)
وغيره أحدها عليه القضاء والكفارة وهذا اختيار القاضي أبي يعلي والثاني لا شيء عليه وهذا اختيار شيخنا وهو الصحيح والثالث عليه القضاء دون الكفارة وعلى الأقوال كلها فالحكم في حقه وجوب النزع والمفسدة التي في حركة النزع مفسدة مغمورة في مصلحة إقلاعه ونزعه فليست المسئلة من موارد النزاع وأما إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتلة فانه لا يجوز رميهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من مصلحة حفظ الأسارى فحينئذ يكون رمي الأسارى ويكون من باب دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما فلو انعكس الامر وكانت مصلحة الاسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم فهذا الباب مبني على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما وتحصيل أعظم لمصلحتين بتفويت أدناهما فان فرض الشك وتساوي الأمران لم يجز رمي الأسرى لأنه
(2/99)
على يقين من قتلهم وعلى ظن وتخمين من قتل أصحابه وهلاكهم ولو قدر أنهم تيقنوا ذلك ولم يكن في قتلهم استباحة ببضه الإسلام وغلبة العدو على الديار لم يجز أن يقي نفوسهم بنفوس الأسرى كما لا يجوز للمكره على قتل المعصوم أن يقتله ويقي نفسه بنفسه بل الواجب عليه أن يستسلم للقتل ولا يجعل النفوس المعصومة وقاية لنفسه وأما إذا ألقى في مركبهم نار فانهم يفعلون ما يرون السلامة فيه وان شكوا هل السلامة في في مقامهم أو في وقوعهم في الماء أو تيقنوا الهلاك في الصورتين أو غلب على ظنهم غلبة متساوية لا يترجح أحد طرفيها ففي الصور الثلاث قولان لأهل العلم وهما روايتان منصوصتان عن أحد إحداهما أنهم يخيرون بين الأمرين لأنهما موتتان قد عرضتا لهم فلهم أن يختاروا أيسرهما عليهم إذ لا بد من أحدهما وكلاهما بالنسبة إليهم سواء فيخيرون بينهما والقول الثاني أن يلزمهم المقام ولا يعينون على أنفسهم لئلا يكون موتهم بسبب من جهتهم وليتمحص موتهم شهادة بأيدي عدوهم وأما الذي ضاق عليه وقت الوقوف بعرفة والصلاة فإن الواجب في حقه تقوى الله بحسب الإمكان وقد اختلف في تعيين ذلك الواجب على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره أحدها أن الواجب في حقه معينا إيقاع الصلاة في وقتها فإنها قد تضيقت والحج لم يتضيق وقته فإنه إذا فعله في العام القابل لم يكن قد أخرجه عن وقته بخلاف الصلاة والقول الثاني أنه يقدم الحج ويقضى الصلاة بعد الوقت لأن مشقة فواته وتكلفه إنشاء سفر آخر أو إقامة في مكة إلى قابل ضرر عظيم تأباه الحنيفية السمحة فيشتغل بادراكه ويقضى الصلاة والثالث يقضى الصلاة وهو سائر إلى عرفة فيكون في طريقه مصليا كما يصلى الهارب من سيل أو سبع أو عدو ايفاقا أو الطالب لعدو يخشى فواته على أصح القولين وهذا أقيس الأقوال وأقربها إلى قواعد الشرع ومقاصده فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان وأن لا يفوت منها شيء فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت وإن
(2/100)
تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبا للشارع وقد قال عبد الله بن أبي أنيس بعثني رسول الله إلى خالد ابن سفيان العرنى وكان نحو عرنة وعرفات فقال اذهب فاقتله فرأيته وحضرت صلاة العصر فقلت إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما أن أؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلى أومي ايماء نحوه فلما دنوت منه قال لي من أنت قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك قال أني لفي ذلك قال فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى يرد رواه أبو داود وأما مسألة المستيقظ قبل طلوع الشمس جنبا وضيق الوقت عليه بحيث لا يتسع للغسل والصلاة فهذا الواجب في حقه عند جمهور العلماء أن يغتسل وأن طلعت الشمس ولا تجزيه الصلاة بالتيمم لأنه واجد للماء وأن كان غير مفرط في نومه فلا إثم عليه
(2/101)
كما لو نام حتى طلعت الشمس والواجب في حقه المبادرة إلى الغسل والصلاة وهذا وقتها في حق أمثاله وعلى هذا القول الصحيح فلا يتعارض هاهنا مصلحة ومفسدة متساويتان بل مصلحة الصلاة بالطهارة أرجح من إيقاعها في الوقت بالتيمم وفي المسألة قول ثان وهو رواية عن مالك أنه يتيمم ويصلى في الوقت لأن الشارع له التفات إلى إيقاع الصلاة في الوقت بالتيمم أعظم من التفاته إلى إيقاعها بطهارة الماء خارج الوقت والعدم المبيح للتيمم هو العدم بالنسبة إلى وقت الصلاة لا مطلقا فإنه لا بد أن يجد الماء ولو بعد حين ومع هذا فأوجب عليه الشارع التيمم لأنه عادم للماء بالنسبة إلى وقت الصلاة وهكذا هذا النائم وأن كان واجدا للماء لكنه عادم بالنسبة إلى الوقت وصاحب هذا القول يقول مصلحة إيقاع الصلاة في الوقت بالتيمم أرجح في نظر الشارع من إيقاعها خارج الوقت بطهارة الماء فعلى كلا القولين لم تتساو المصلحة والمفسدة فثبت أنه لا وجوب لهذا القسم في الشرع وأما مسألة اغتلام البحر فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بالقرعة ولا غيرها لاستوائهم في العصمة وقتل من لا ذنب وقاية لنفس القاتل به وليس أولى بذلك منه ظلم نعم لو كان في السفينة مال أو حيوان وجب إلقاء المال ثم الحيوان لأن المفسدة في فوات الأموال والحيوانات أولى من المفسدة في فوات أنفس الناس المعصومة وأما سائر الصور التي تساوت مفاسدها كإتلاف الدرهمين والحيوانين وقتل أحد العدوين فهذا الحكم فيه التخيير بينهما لأنه لا بد من أتلاف أحدهما وقاية لنفسه وكلاهما سواء فيخير بينهما وكذلك العدوان المتكافئان يخير بين قتالهما كالواجب المخير والولي وأما من تساوت حسناته وسيئاته وتدافع أثرهما فهو حجة عليكم فإن الحكم للحسنات وهي تغلب السيئات فإنه لا يدخل النار ولكنه يبقي على الأعراف مدة ثم يصير إلى الجنة فقد تبين غلبة الحسنات لجانب السيئات ومنعها من ترتب أثرها عليها وان الأثر هو أثر الحسنات فقط
(2/102)
فبان أنه لا دليل حكم لكم على وجود هذا القسم أصلا وان الدليل يدل على امتناعه فأن قيل لكم فما قولكم فيما إذا عارض المفسدة مصلحة أرجع منها وترتب الحكم على الراجح هل يترتب عليه مع بقاء المرجوح من المصلحة والمفسدة لكنه لما كان مغمورا لم يلتفت إليه أو يقولون أن المرجوح زال أثره بالراجح فلم يبق له أثر ومثال ذلك أن الله تعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير لما في تناولها من المفسدة الراجحة وهو خبث التغذية والغازي شبيه بالمغتذى فيصير المفتذي بهذه الخبائث خبيث النفس فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الخبائث فإن اضطر إليها وخاف على نفسه الهلاك أن لم يتناولها أبيحت له فهل إباحتها والحالة هذه مع بقاء وصف الخبث فيها لكن عارضه مصلحة أرجح منه وهي حفظ النفس أو إباحتها أزالت وصف الخبث منها فما أبيح له إلا طيب
(2/103)
وإن كان خبيثا في حال الاختيار قيل هذا موضع دقيق وتحقيقه بستدعي اطلاعا على أسرار الشريعة والطبيعة فلا تستهونه وأعطه حقه من النظر والتأمل وقد اختلف الناس فيه على قولين فكثير منهم أو أكثرهم سلك مسالك الترجيح مع بقاء وصف الخبث فيه وقال مصلحة حفظ النفس أرجح من مفسدة خبث التغذية وهذه قول من لم يحقق النظر ويمعن التأمل بل استرسل مع ظاهر الأمور والصواب أن وصف الخبث منتف حال الاضطرار وكشف الغطاء عن المسألة أن وصف الخبث غير مستقل بنفسه في المحل المتفذي به بل هو متولد من القابل والفاعل فهو حاصل من المتفذي والمفتذي به ونظيره تأثير السم في البدن هو موقوف على الفاعل والمحل القابل إذا علم ذلك فتناول هذه الخبائث في حال الاختيار يوجب حصول الأثر المطلوب عدمه فإذا كان المتناول لها مضطرا فإن ضرورته تمنع قبول الخبث الذي في المفتذي به فلم تحصل تلك المفسدة لأنها مشروطة بالاختيار الذي به يقبل المحل خبث التغذية فإذا زال الاختيار زال شرط القبول فلم تحصل المفسدة أصلا وإن اعتاص هذا على فهمك فانظر في الأغذية والأشربة الضارة التي لا يختلف عنها الضرر إذا تناولها المختار الواجد لغيرها فإذا اشتدت ضرورته إليها ولم يجد منها بدا فإنها تنفعه ولا يتولد له منها ضرر أصلا لأن قبول طبيعته لها وفاقته إليها وميله منعه من التضرر بها بخلاف حال الاختيار وأمثلة ذلك معلومة مشهودة بالحس فإذا كان هذا في الأوصاف الحسية المؤثرة في محالها بالحس فما الظن بالأوصاف المعنوية التي تأثيرها إنما يعلم بالعقل أو بالشرع فلا تظن أن الضرورة أزالت وصف المحل وبدلته فأنا لم تقل هذا ولا يقوله عاقل وإنما الضرورة منعت تأثير الوصف وأبطلته فهي من باب المانع الذي يمنع تأثير المقتضى لا أنه يزيل قوته ألا ترى أن السيف الحاد إذا صادف حجرا فإنه يمنع قطعه وتأثيره لأنه يزيل حدته وتهيأه لقطع القابل ونظير هذا الملابس المحرمة إذا اضطر إليها فإن ضرورته
(2/104)
تمنع ترتب المفسدة التي حرمت لأجلها فإن قال فهذا ينتقض عليكم بتحريم نكاح الأمة فإنه حرم للمفسدة التي تتضمنه من ارقاق ولده ثم أبيح عند الضرورة إليه وهي خوف العنة الذي هو اعظم فسادا من ارقاق الولد ومع هذا فالمفسدة قائمة بعينها ولكن عارضها مصلحة حفظ الفرج عن الحرام وهي أرجح عند الشارع من رق الولد قيل هذا لا ينتقض بما قررناه فإن الله سبحانه لم حرم نكاح الأمة لما فيه من مفسدة رق الولد واشتغال الأمة بخدمة سيدها فلا يحصل لزوجها من السكن إليها والإيواء ودوام المعاشرة ما تقر به عينه وتسكن به نفسه أباحه عند الحاجة إليه بأن لا يقدر على نكاح حرة ويخشى على نفسه مواقعة المحظور وكانت المصلحة له في نكاحها في هذه الحال أرجح من تلك المفاسد وليس هذا حال ضرورة يباح لها المحظور فأن الله سبحانه لا يضطر عبده إلى الجماع بحيث أن لم يجامع مات بخلاف الطعام والشراب ولهذا لا يباح الزنا بضرورة كما يباح الخنزير
(2/105)
والميتة والدم وإنما الشهوة وقضاء الوطر يشق على الرجل تحمله وكف النفس عنه لضعفه وقلة صبره فرحمه أرحم الراحمين وأباح له أطيب النساء وأحسنهن أربعا من الحرائر وما شاء من ملك يمينه من الإماء فإن عجز عن ذلك أباح له نكاح الأمة رحمة به وتخفيفا عنه لضعفه ولهذا قال تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم إلى قوله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا فأخبر سبحانه أنه شرع لهم هذه الأحكام تخفيفا عنهم لضعفهم وقلة صبرهم رحمة بهم وإحسانا إليهم فليس هاهنا ضرورة تبيح المحظور وإنما هي مصلحة أرجح من مصلحة ومفسدة أقل من مفسدة فاختار لهم أعظم المصلحتين وأن فاتت أدناهما ودفع عنهم أعظم المفسدتين وأن فاتت أدناهما وهذا شأن الحكيم اللطيف الخبير البر المحسن وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان وان تزاحمت قدم أهمها وأجلها وأن فاتت أدناهما وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان وأن تزاحمت عطل أعظمها فسادا باحتمال أدناهما وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه شاهدة له بكمال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة وارتضاع من ثديها وورود من صفو حوضها وكلما كان تضلعه منها أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل ولا يمكن أحد من الفقهاء أن يتكلم في مآخذ الأحكام وعللها والأوصاف المؤثرة فيها حقا وفرقا إلا على هذه الطريقة وأما طريقة إنكار الحكم التعليل ونفي الأوصاف المقتضية لحسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه وتأثيرها واقتضائها للحب والبغض الذي هو مصدر الأمر والنهي بطريقة جدلية كلامية لا يتصور بناء الأحكام عليها ولا يمكن فقيها أن
(2/106)
يستعملها في باب واحد من أبواب الفقه كيف والقرآن وسنة رسول الله مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الإحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة فتارة يذكر لام التعليل الصريحة وتارة يذكر المفعول لأجله الذي هو المقصود بالفعل وتارة يذكر من أجل الصريحة في التعليل وتارة يذكر أداة كي وتارة يذكر الفاء وأن وتارة يذكر أداة لعل المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق وتارة ينبه على السبب يذكره صريحا وتارة يذكر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام ثم يرتبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها وتارة ينكر على من زعم أنه خلق خلقه وشرع دينه عبثا وسدى وتارة ينكر على من ظن أنه يسوى
(2/107)
بين المختلفين اللذين يقتضيان أثرين مختلفين وتارة يخير بكمال حكمته وعلمه المقتضى أنه لا يفرق بين متماثلين ولا يسوى بين مختلفين وأنه ينزل الأشياء منازلها ويرتبها مراتبها وتارة يستدعى من عباده التفكر والتأمل والتدبر والتعقل لحسن ما بعث به رسوله وشرعه لعباده كما يستدعى منهم التفكر والنظر في مخلوقاته وحكمها وما فيها من المنافع والمصالح وتارة يذكر منافع مخلوقاته منبها بها على ذلك وأنه الله الذي لا إله إلا هو وتارة يختم آيات خلقه وأمره بأسماء وصفات تناسبها وتقتضيها والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما وما تضمناه من الآيات الشاهدة الدالة عليه ولا يمكن من له أدني اطلاع على معاني القرآن إنكار ذلك وهل جعل الله سبحانه في فطر العباد استواء العدل والظلم والصدق والكذب والفجور والعفة والإحسان والإساءة والصبر والعفو والاحتمال والطيش والانتقام والحدة والكرم والسماحة والبذل والبخل والشح والإمسام بل الفطرة على الفرقان بين ذلك كالفطرة على قبول الأغذية النافعة وترك مالا ينفع ولا يغذي ولا فرق في الفطرة بينهما أصلا وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى آخرها شاهدة بذلك ناطقة به ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة باديا على صفحاتها مناديا عليها يدعو العقول والألباب إليها وأنه لا يجوز على أحكم الحاكمين ولا يليق به أن يشرع لعباده ما يضادها وذلك لأن الذي شرعها علم ما في خلافها من المفاسد والقبائح والظلم والسفه الذي يتعالى عن أرادته وشرعه وأنه لا يصلح العباد إلا عليها ولا سعادة لهم بدونها البتة فتأمل محاسن الوضوء بين يدي الصلاة وما تضمنه من النظافة والنزاهة ومجانبة الأوساخ والمستقذرات وتأمل كيف وضع على الأعضاء الأربعة التي هي آلة البطش والمشي ومجمع الحواس التي تعلق أكثر الذنوب والخطايا بها ولهذا خصها النبي صلى الله علية وسلم
(2/108)
بالذكر في قوله إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك ولا محالة فالعين تزني وزناها النظر والأذن تزني وزناها الاستماع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمني ويشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه فلما كانت هذه الأعضاء هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي كان وسخ الذنوب ألصق بها وأعلق من غيرها فشرع أحكم الحاكمين الوضوء عليها ليتضمن نظافتها وطهارتها من الأوساخ الحسية وأوساخ الذنوب والمعاصي وقد أشار النبي إلى هذا المعنى بقوله إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطرة من الماء حتى يخرج من تحت أظفاره وقال أبو إمامة يا رسول الله كيف الوضوء فقال أما فإنك إذا توضأت فغسلت كفيك فأنقيتهما خرجت خطاياك من بين أظفارك وأنا ملك فإذا مضمضت واستنشقت بمنخريك وغسلت وجهك ويديك إلى المرفقين ومسحت
(2/109)
برأسك وغسلت رجليك إلى الكعبين اغتسلت من عامة خطاياك فإن أنت وضعت وجهك لله خرجت من خطاياك كيوم ولدتك أمك رواه النسائي والأحاديث في هذا الباب كثيرة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين ورحمته أن شرع الوضوء على هذه الأعضاء التي هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي وهي الأعضاء الظاهرة البارزة للغبار والوسخ أيضا وهي أسهل الأعضاء غسلا فلا يشق تكرار غسلها في اليوم والليلة فكانت الحكمة الباهرة في شرع الوضوء عليها دون سائر الأعضاء وهذا يدل على أن المضمضة من آكد أعضاء الوضوء ولهذا كان النبي يداوم عليها ولم ينقل عنه بإسناد قط أنه أخل بها يوما واحدا وهذا يدل على أنها فرض لا يصح الوضوء بدونها كما هو الصحيح من مذهب أحمد وغيره من السلف فمن سوى بين هذه الأعضاء وغيرها وجعل تعيينها بمجرد الأمر الخالي عن الحكمة والمصلحة فقد ذهب مذهبا فاسدا فكيف إذا زعم مع ذلك أنه لا فرق في نفس الأمر بين التعبد بذلك وبين أن يتعبد بالنجاسة وأنواع الأقذار والأوساخ والأنتان والرائحة الكريهة ويجعل ذلك مكان الطهارة والوضوء وأن الأمرين سواء وإنما يحكم بمجرد المشيئة بهذا الأمر دون ضده ولا فرق بينهما في نفس الأمر وهذا قول تصوره كاف في الجزم ببطلانه وجميع مسائل الشريعة كذلك آيات بينات ودلالات واضحات وشواهد ناطقات بأن الذي شرعها له الحكمة البالغة والعلم المحيط والرحمة والعناية بعباده وإرادة الصلاح لهم وسوقهم بها إلى كمالهم وعواقبهم الحميدة وقد نبه سبحانه عباده على هذا فقال يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين إلى قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون فأخبر سبحانه أنه لم يأمرهم بذلك حرجا عليهم وتضييقا ومشقة ولكن إرادة تطهيرهم وإتمام نعمته عليهم ليشكروه على ذلك فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله
(2/110)
فإن قيل فما جوابكم عن الأدلة التي ذكرها نفاة التحسين والتقبيح على كثرتها قيل قد كفونا بحمد الله مؤنة إبطالها بقدحهم فيها وقد أبطلها كلها واعترض عليها فضلاء اتباعها وأصحابها أبو عبد الله ابن الخطيب وأبو الحسين الآمدى واعتمد كل منهم على مسلك من أفسد المسالك واعتمد القاضي على مسلك من جنسهما في المفاسد فاعتمد هؤلاء الفضلاء على ثلاث مسالك فاسدة وتعرضوا لإبطال ما سواها والقدح فيه ونحن نذكر مسالكهم التي اعتمدوا عليها ونبين فسادها وبطلانها فأما ابن الخطيب فاعتمد على المسلك المشهور وهو أن فعل العبد غير اختياري وما ليس بفعل اختياري لا يكون حسنا ولا قبيحا عقلا بالاتفاق لأن القائلين بالحسن والقبح العقليين يعترفون بأنه إنما يكون كذلك إذا كان اختياريا وقد ثبت أنه اضطراري فلا يوصف بحسن ولا قبح على المذهبين أما بيان كونه غير اختياري
(2/111)
فلأنه أن لم يتمكن العبد من فعله وتركه فواضح وأن كان متمكنا من فعله وتركه كان جائزا فأما أن يفتقر ترجيح الفاعلية على التاركية إلى مرجح أولا فأن لم يفتقر كان اتفاقيا والاتفاق لا يوصف بالحسن والقبح وان افتقر إلى مرجح فهو مع مرجحه أما أن يكون لازما وأما جائزا فإن كان لازما فهو اضطراري وأن كان جائزا عاد التقسيم فإما أن ينتهى إلى ما يكون لازما فيكون ضروريا أولا فينتهى إليه فيتسلسل وهو محال أن يكون إتفاقيا فلا يوصف بحسن ولا قبح فهذا الدليل هو الذي يصول به ويجول ويثبت به الجبر ويرد به على القدرية وينفي به التحسين والتقبيح وهو فاسد من وجوه متعددة أحدها أنه يتضمن التسوية بين الحركة الضرورية والاختيارية وعدم التفريق بينهما وهو باطل بالضرورة والحس والشرع فالاستدلال على أن فعل العبد غير اختياري استدلال على ما هو معلوم البطلان ضرورة وحسا وشرعا فهو بمنزلة الاستدلال على الجمع بين النقيضين وعلى وجود المحال الوجه الثاني لو صح الدليل المذكور لزم منه أن يكون الرب تعالى غير مختار في فعله لأن التقسيم المذكور والترديد جار فيه بعينه بأن يقال فعله تعالى إما أن يكون لازما أو جائزا فان كان لازما كان ضروريا وان كان جائزا فان احتاج إلى مرجح عاد التقسيم وإلا فهو اتفاقي ويكفي في بطلان الدليل المذكور إن يستلزم كون الرب غير مختار الوجه الثالث أن الدليل المذكور لو صح لزم بطلان الحسن والقبح الشرعيين لأن فعل العبد ضروري أو اتفاقي وما كان كذلك فإن الشرع لا يحسنه ولا يقبحه لأنه لا يرد بالتكليف به فضلا عن أن يجعله متعلق الحسن والقبح الوجه الرابع قوله إما أن يكون الفعل لازما أو جائزا قلنا هو لازم عند مرجحه التام وكان ماذا قولك يكون ضروريا أتعني به أنه لا بد منه أو تعني به أنه لا يكون اختياريا فإن عنيت الأول منعنا انتفاء اللازم فانه لا يلزم منه أن يكون غير مختار ويكون حاصل الدليل إن كان لا بد منه فلا بد منه
(2/112)
ولا يلزم من ذلك أن يكون غير اختياري وإن عنيت الثاني وهو أنه لا يكون اختياريا منعنا الملازمة إذ لا يلزم من كونه لا بد منه أن يكون غير اختياري وأنت لم تذكر على ذلك دليلا بل هي دعوى معلومة البطلان بالضرورة الوجه الخامس أن يقال هو جائز قولك أما أن يتوقف ترجح الفاعلية على التاركية على مرجح أولا قلنا يتوقف على مرجح قولك عند المرجح إما أن يجب أو يبقى جائزا قلنا هو واجب بالمرجح جائز بالنظر إلى ذاته والمرجح هو الإختيار وما وجب بالإختيار لا ينافي أن يكون اختياريا فلزوم الفعل بالإختيار لا ينافي كونه اختياريا الوجه السادس أن هذا الدليل الذي ذكرته بعينه حجة على أنه اختياري لأنه وجب بالاختيار وما وجب بالاختيار لا يكون إلا اختياريا وإلا كان اختياريا غير اختياري وهو جمع بين النقيضين والدليل المذكور حجة على
(2/113)
فساد قولك وأن الفعل الواجب بالإختيار اختياري الوجه السابع أن صدور الفعل عن المختار بشرط تعلق اختياره به لا ينافي كونه مقدورا له وإلا كانت إرادته وقدرته غير مشروطة في الفعل وهو محال وإذا لم يناف ذلك كونه مقدورا فهو اختياري قطعا الوجه الثامن قولك إن لم يتوقف على مرجح فهو اتفاقي إن عنيت بالمرجح ما يخرج الفعل عن أن يكون اختياريا ويجعله اضطراريا فلا يلزم من نفي هذا المرجح كونه اتفاقيا إذ هذا مرجح خاص ولا يلزم من نفي المرجح المعين نفي مطلق المرجح فما المانع من أن يتوقف على مرجح ولا يجعله اضطراريا غير اختياري وان عنيت بالمرجح ما هو أعم من ذلك لم يلزم من توقفه على المرجح الأعم أن يكون غير اختياري لأن المرجح هو الاختيار وما ترجح بالاختيار لم يمتنع كونه اختياريا الوجه التاسع قولك وإن لم يتوقف على مرجح فهو اتفاقي ما تعني بالاتفاقي أتعني به ما لا فاعل له أو ما فاعله مرجح باختياره أو معنى ثالثا فإن عنيت الأول لم يلزم من عدم المرجح الموجب كونه اضطراريا أن يكون الفعل صادرا من غير فاعل وإن عنيت الثاني لم يلزم منه كونه اضطراريا وإن عنيت معنى ثالثا فابده الوجه العاشر أن غاية هذا الدليل أن يكون الفعل لازما عند وجود سببه وأنت لم تقم دليلا على أن ما كان كذلك يمتنع تحسينه وتقبيحه سوى الدعوة المجردة فأين الدليل على أن ما كان لازما بهذا الاعتبار يمتنع تحسينه وتقبيحه ودليلك إنما يدل على أن ما كان غير اختياري من الأفعال امتنع تحسينه وتقبيحه فمحل النزاع لم يتناوله الدليل المذكور وما تناوله وصحت مقدماته فهو غير متنازع فيه فدليلك لم يفد شيئا الوجه الحادي عشر ان قولك يلزم أن لا يوصف بحسن ولا قبح على المذهبين باطل فال منازعيك إنما يمنعون من وصف الفعل بالحسن والقبح إذا لم يكن متعلق القدرة والاختيار أما ما وجب بالقدرة والاختيار فإنهم لا يساعدونك على امتناع وصفه بالحسن والقبح أبدا الوجه الثاني عشر أن
(2/114)
هذا الدليل لوصح لزم بطلان الشرائع والتكاليف جملة لأن التكليف إنما يكون بالأفعال الاختيارية إذ يستحيل أن يكلف المرتعش بحركة يده وأن يكلف المحموم بتسخين جلده والمقرور بقره وإذا كانت الأفعال اضطرارية غير اختيارية لم يتصور تعلق التكليف والأمر والنهى بها فلو صح الدليل المذكور لبطلت الشرائع جملة فهذا هو الدليل الذي اعتمده ابن الخطيب وابطل أدلة غيره وأما الدليل الذي اعتمد عليه الآمدي فهو أن حسن الفعل لو كان أمرا زائدا على ذاته لزم قيام المعنى وهو محال لأن العرض لا يقوم بالعرض وهذا في البطلان من جنس ما قبله فإنه منقوض مالا يحصي من المعاني التي توصف بالمعاني كما يقال علم ضروري وعلم كسبي وإرادة جازمة وحركة سريعة وحركة بطيئة وحركة مستديرة وحركة مستقيمة ومزاج معتدل ومزاج منحرف وسواد براق وحمرة قانية وخضرة ناصعة ولون مشرق وصوت شج وحس رخيم ورفيع
(2/115)
ودقيق وغليظ وأضعاف أضعاف ذلك مما لا يحصى مما توصف المعاني والأعراض فيه بمعان وأعراض وجودية ومن أدعى أنها عدمية فهو مكابر وهل شك أحد في وصف المعاني بالشدة والضعف فيقال هم شديد وحب شديد وحزن شديد وألم شديد ومقابلها فوصف المعاني بصفاتها أمر معلوم عند كل العقلاء الوجه الثاني أن قوله يلزم منه قيام المعنى بالمعنى غير صحيح بل المعنى يوصف بالمعنى ويقوم به تبعا لقيامه بالجوهر الذي هو المحل فيكون المعنيان جميعا قائمين بالمحل وأحدهما تابع للآخر وكلاهما تبع للمحل فما قام العرض بالعرض وإنما قام العرضان جميعا بالجوهر فالحركة والسرعة قائمتان بالمتحرك والصوت وشجاه وغلظه ودقته وحسنه وقبحه قائمة بالحامل له والمحال إنما هو قيام المعنى بالمعنى من غير أن يكون لهما حامل فأما إذا كان لهما حامل وأحدهما صفة للآخر وكلاهما قام بالمحل الحامل فليس بمحال وهذا في غاية الوضوح الوجه الثالث أن حسن الفعل وقبحه شرعا أمر زائد عليه لأن المفهوم منه زائد على المفهوم من نفس الفعل وهما وجوديان لاعدميان لأن نقيضهما يحمل على العدم فهو عدمي فهما إذا وجوديان لأن كون أحد النقيضين عدميا يستلزم كون نقيضه وجوديا فلو صح دليلكم المذكور لزم أن لا يوصف بالحسن والقبح شرعا ولا خلاص عن هذا إلا بالتزام كون الحسن والقبح الشرعيين عدميين ولا سبيل إليه لأن الثواب والعقاب والمدح والذم مرتب عليهما ترتب الآثر على مؤثره المقتضى على مقتضيه وما كان كذلك لم يكن عدما محضا إذ العدم المحض لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم وأيضا فإنه لا معنى لكون الفعل حسنا وقبيحا شرعا إلا أنه يشتمل على صفة لأجلها كان حسنا محبوبا للرب مرضيا له متعلقا للمدح والثواب وكون القبيح مشتملا على صفة لأجلها كان قبيحا مبغوضا للرب متعلقة للذم والعقاب وهذه أمور وجودية ثابتة له في نفسه ومحبة الرب له وأمره به كساه أمرا وجوديا زاده حسنا إلى حسنه وبعضه له ونهيه عنه
(2/116)
كساه أمرا وجوديا زاده قبحا إلى قبحه فجعل ذلك كله عدما محضا ونفيا صرفا لا يرجع إلى أمر ثبوتي في غاية البطلان والإحالة وظهر والإحالة وظهر أن هذا الدليل في غاية البطلان ولم نتعرض للوجوه التي قدحوا بها فيه فإنها مع طولها غير شافية ولا مقنعة فمن اكتفى بها فهي موجودة في كتبهم وأما المسلك الذي اعتمده كثير منهم كالقاضي وأبي المعالي وأبي عمرو بن الحاجب من المتأخرين فهو أن الحسن والقبح لو كانا ذاتيين لما اختلفا باختلاف الأحوال والمتعلقات والأزمان ولا ستحال ورود النسخ على الفعل لأن ما ثبت للذات فهو باق ببقائها لا يزول وهي باقية ومعلوم أن الكذب يكون حسنا إذا تضمن عصمة دم نبي أو مسلم ولو كان قبحه ذاتيا له لكان قبيحا اين وجد وكذلك ما نسخ من الشريعة لو كان حسنه لذاته لم يستحل قبيحا ولو كان قبحه لذاته لم يستحل حسنا بالنسخ قالوا وأيضا لو كان ذاتيا لاجتمع النقيضان في صدق من
(2/117)
قال لأكذبن غدا إذا فإنه لا يخلوا إما أن يكذب في الغد أو يصدق فإن كذب لزم قبحه لكونه كذبا وحسنه لاستلزامه مصدق الخبر الأول والمستلزم للحسن حسن فيجتمع في الخبر الثاني الحسن والقبح وهما نقيضان وإن صدق لزم حسن الخبر الثاني من حيث أنه صدق في نفسه وقبحه من حيث أنه مستلزم لكذب الخبر الأول فلزم النقيضان قالوا وأيضا فلو كان القتل والجلد وقطع الاطراف قبيحا لذاته أو لصفة لازمة للذات لم يكن حسنا في الحدود والقصاص لأن مقتضى الذات لا يتخلف عنها فإذا تخلف فيما ذكرنا من الصور وغيرها دل على أنه ليس ذاتيا فهذا تقرير هذا المسلك وهو من أفسد المسالك لوجوه أحدها أن كون الفعل حسنا أو قبيحا لذاته أو لصفة لم يعن به أن ذلك يقوم بحقيقة لا ينفك عنها بحال مثل كونه عرضا وكونه مفتقرا إلى محل يقوم به وكون الحركة حركة والسواد لونا ومن ها هنا غلط علينا المنازعون لنا في المسئلة وألزمونا مالا يلزمنا وإنما نعنى بكونه حسنا أو قبيحا لذاته أو لصفته أنه في نفسه منشأ للمصلحة والمفسدة وترتيبهما عليه كترتيب المسببات على أسبابها المقتضية لها وهذا كترتيب الري على الشرب والشبع على الأكل وترتب منافع الأغذية والأدوية ومضارها عليها فحسن الفعل أو قبحه هو من جنس كون الدواء الفلاني حسنا نافعا أو قبيحا ضارا وكذلك الغذاء واللباس والمسكن والجماع والاستفراغ والنوم والرياضة وغيرها فإن ترتب آثارها عليها ترتب المعلومات والمسببات على عللها وأسبابها ومع ذلك فإنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأماكن والمحل القابل ووجود المعارض فتخلف الشبع والري عن الخبز واللحم والماء في حق المريض ومن به علة تمنعه من قبول الغذاء لاتخرجه عن كونه مقتضيا لذلك حتى يقال لو كان كذلك لذاته لم يتخلف لأن ما بالذات لا يتخلف وكذلك تخلف الانتفاع بالدواء في شدة الحر والبرد وفي وقت تزايد العلة لا يخرجه عن كونه نافعا في ذاته وكذلك تخلف الانتفاع باللباس في زمن
(2/118)
الحر مثلا لا يدل على أنه ليس في ذاته نافعا ولا حسنا فهذه قوى الأغذية والأدوية واللباس ومنافع الجماع والنوم تتخلف عنها آثارها زمانا ومكانا وحالا وبحسب القبول والاستعداد فتكون نافعة حسنة في زمان دون زمان ومكان دون وحال دون حال وفي حق طائفة أو شخص دون غيرهم ولم يخرجها ذلك عن كونها مقتضية لآثارها بقواها وصفاتها فهكذا أوامر الرب تبارك وتعالى وشرائعه سواء يكون الأمر منشأ المصلحة وتابعا للمأمور في وقت دون وقت فيأمره به تبارك وتعالى في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه ثم ينهى عنه في الوقت الذي يكون فعله فيه مفسدة على نحو ما يأمر الطبيب بالدواء والحمية في وقت هو مصلحة للمريض وينهاه عنه في الوقت الذي يكون تناوله مفسدة له بل أحكم الحاكمين الذي بهرت حكمته العقول أولى بمراعاة مصالح عباده ومفاسدهم في الأوقات والأحوال والأماكن والأشخاص وهل وضعت الشرائع إلا على هذا فكان نكاح الأخت حسنا في وقته حتى لم يكن بد منه في التناسل
(2/119)
وحفظ النوع الإنساني ثم صار قبيحا لما استغنى عنه فحرمه على عباده فأباحه في وقت كان فيه حسنا وحرمه في وقت صار فيه قبيحا وكذلك كل ما نسخه من الشرع بل الشريعة الواحدة كلها لا تخرج عن هذا وإن خفي وجه المصلحة والمفسدة فيه على أكثر الناس وكذلك إباحة الغنائم كان قبيحا في حق من قبلنا لئلا تحملهم إباحتها على القتال لأجلها والعمل لغير الله فتفوت عليهم مصلحة الإخلاص التي هي أعظم المصالح فحمى أحكم الحاكمين جانب هذه المصلحة العظيمة بتحريمها عليهم ليتمحض قتالهم لله لا للدنيا فكانت المصلحة في حقهم تحريمها عليهم ثم لما أوجد هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولا وأرسخهم إيمانا وأعظمهم توحيدا وإخلاصا وأرغبهم في الآخرة وأزهدهم في الدنيا أباح لهم الغنائم وكانت إباحتها حسنة بالنسبة إليهم وإن كانت قبحة بالنسبة إلى من قبلهم فكانت كإباحة الطبيب اللحم للصحيح الذي لا يخشى عليه من مضرته وحميته منه للمريض المحموم وهذا الحكم فيما شرع في الشريعة الواحدة في وقت ثم نسخ في وقت آخر كالتخيير في الصوم في أول الإسلام بين الإطعام وبينه لما كان غير مألوف لهم ولا معتاد والطباع تأباه إذ هو هجر مألوفها ومحبوبها ولم تذق بعد حلاوته وعواقبه المحمودة وما في طيه من المصالح والمنافع فخيرت بينه وبين الإطعام وندبت إليه فلما عرفت علته يعني حكمته والفقه وعرفت ما تضمنه من المصالح والفوائد حتم عليها عينا ولم يقبل منها سواء فكان التخيير في وقته مصلحة وتعيين الصوم في وقته مصلحة فاقتضت الحكمة البالغة شرع كل حكم في وقته لأن المصلحة فيه في ذلك الوقت وكان فرض الصلاة أولا ركعتين ركعتين لما كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يكونوا معتادين لها ولا ألفتها طباعهم وعقولهم فرضت عليهم بوصف التخفيف فلما ذالت بها جوارحهم وطوعت بها أنفسهم وأطمأنت اليها قلوبهم وباشرت نعيمها لذتها وطيبها وذاقت حلاوة عبودية الله فيها ولذة مناجاته زيدت ضعفها وأقرت في
(2/120)
السفر على الفرض الأول لحاجة المسافر إلى التخفيف ولمشقة السفر عليه فتأمل كيف جاء كل حكم في وقته مطابقا للمصلحة والحكمة شاهدا لله بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين الذي بهرت حكمته العقول والألباب وبدا على صفحاتها بأن ما خالفها هو الباطل وأنها هي عين المصلحة والصواب ومن هذا أمره سبحانه لهم بالأعراض عن الكافرين وترك آذاهم والصبر عليهم والعفو عنهم لما كان ذلك عين المصلحة لقلة عدد المسلمين وضعف شوكتهم وغلبة عدوهم فكان هذا في حقهم إذ ذاك عين المصلحة فلما تحيزوا إلى دار وكثر عددهم وقويت شوكتهم وتجرأت أنفسهم لمناجزة عدوهم أذن لهم في ذلك أذنا من غير إيجاب عليهم ليذيقهم حلاوة النصر والظفر وعز الغلبة وكان الجهاد أشق شيء على النفوس فجعله أولا إلى اختيارهم إذنا لاحتما فلما ذاقوا عز النصر
(2/121)
والظفر وعرفوا عواقبه الحميدة أوجبه عليهم حتما فانقادوا له طوعا ورغبة ومحبة فلو أتاهم الأمر به مفاجأة على ضعف وقلة لنفروا عنه أشد النفار وتأمل الحكمة الباهرة في شرع الصلاة أولا إلى بيت المقدس إذ كانت قبلة الأنبياء فبعث بما بعث به الرسل وبما يعرفه أهل الكتاب وكان استقبال بيت المقدس مقررا لنبوته وأنه بعث بما بعث به الأنبياء قبله وإن دعوته هي دعوة الرسل بعينها وليس بدعا من الرسل ولا مخالفا لهم بل مصدقا لهم مؤمنا بهم فلما استقرت أعلام نبوته في القلوب وقامت شواهد صدقه من كل جهة وشهدت القلوب له بأنه رسول الله حقا وإن أنكروا رسالته عنادا وحسدا وبغيا وعلم سبحانه أن المصلحة له ولأمته أن يستقبلوا الكعبة البيت الحرام افضل بقاع الارض وأحبها إلى الله وأعظم البيوت وأشرفها وأقدمها قرر قبله أمورا كالمقدمات بين يديه لعظم شأنه فذكر النسخ أولا وأنه إذا نسخ آية أو حكما أتى بخير منه أو مثله وأنه على كل شيء قدير وأن له ملك السموات والأرض ثم حذرهم التعنت على رسوله والإعراض كما فعل أهل الكتاب قبلهم ثم حذرهم من أهل الكتاب وعداوتهم وأنهم يودون لو ردوهم كفارا فلا يسمعوا منهم ولا يقبلوا قولهم ثم ذكر تعظيم دين الإسلام وتفضيله على اليهودية والنصرانية وأن أهله هم السعداء الفائزون لا أهل الأماني الباطلة ثم ذكر اختلاف اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء فحقيق بأهل الإسلام إن لا يقتدوا بهم وأن يخالفوهم في هديهم الباطل ثم ذكر جرم من منع عباده من ذكر اسمه في بيوته ومساجده وأن يعبد فيها وظلمه وأنه بذلك ساع في خرابها لأن عمارتها إنما هي بذكر اسمه وعبادته فيها ثم بين أن له المشرق والمغرب وأنه سبحانه لعظمته وإحاطته حيث استقبل المصلى فثم وجهه تعالى فلا يظن الظان أنه إذا استقبل البيت الحرام خرج عن كونه مستقبلا ربه وقبلته فإن الله واسع عليم ثم ذكر عبودية أهل السموات والأرض له وأنهم كل له
(2/122)
قانتون ثم نبه على عدم المصلحة في موافقة أهل الكتاب وأن ذلك لا يعود باستصلاحهم ولا يرجى معه إيمانهم وأنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وضمن هذا تنبيه لطيف على أن موافقتهم في القبلة لا مصلحة فيها فسواء وافقتهم فيها أو خالفتهم فإنهم لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم ثم أخبر أن هداه هو الهدى الحق وحذره من اتباع أهوائهم ثم انتقل إلى تعظيم إبراهيم صاحب البيت وبانيه والثناء عليه وذكر إمامته للناس وإنه أحق من اتبع ثم ذكر جلالة البيت وفضله وشرفه وأنه أمن للناس ومثابة لهم يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا وفي هذا تنبيه على أنه أحق بالاستقبال من غيره ثم أمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ثم ذكر بناء إبراهيم وإسماعيل البيت وتطهيره بعهده وإذنه ورفعهما قواعده وسؤالهما ربهما القبول منهما وأن تجعلهما مسلمين له ويريهما مناسكهما ويبعث في ذريتهما رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم
(2/123)
ويعلمهم الكتاب والحكمة ثم أخبر عن جهل من رغب عن ملة إبراهيم وسفه ونقصان عقله ثم أكد عليهم أن يكونوا على ملة إبراهيم وأنهم إن خرجوا عنها إلى يهودية أو نصرانية أو غيرها كانوا ضلالا غير مهتدين وهذه كلها مقدمات بين يدي الأمر باستقبال الكعبة لمن تأملها وتدبرها وعلم ارتباطها بشأن القبلة فإنه يعلم بذلك عظمة القرآن وجلالته وتنبيهه على كمال دينه وحسنه وجلالته وأنه هو عين المصلحة لعباده لا مصلحة لهم سواه وشوق بذلك النفوس إلى الشهادة له بالحسن والكمال والحكمة التامة فلما قرر ذلك كله أعلمهم بما سيقول السفهاء من الناس إذا تركوا قبلتهم لئلا يفجأهم من غير علم به فيعظم موقعه عندهم فلما وقع لم يهلهم ولم يصعب عليهم بل أخبر أن له المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ثم أخبر انه كما جعلهم أمة وسطا خيارا اختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها كما اختار لهم خير الأنبياء وشرع لهم خير الأديان وأنزل عليهم خير الكتب وجعلهم شهداء على الناس كلهم لكمال فضلهم وعلمهم وعدالتهم وظهرت حكمته في أن اختار لهم أفضل قبلة وأشرفها لتتكامل جهات الفضل في حقهم بالقبلة والرسول والكتاب والشريعة ثم نبه سبحانه على حكمته البالغة في أن جعل القبلة أولا هي بيت المقدس ليعلم سبحانه واقعا في الخارج ما كان معلوما له قبل وقوعه من يتبع الرسول في جميع أحواله وينقاد له ولأوامر الرب تعالى ويدين بها كيف كانت وحيث كانت فهذا هو المؤمن حقا الذي أعطى العبودية حقها ومن ينقلب على عقبيه ممن لم يرسخ في الإيمان قلبه ولم يستقر عليه قدمه فعارض وأعرض ورجع على حافره وشك في النبوة وخالط قلبه شبهة الكفار الذين قالوا أن كانت القبلة الأولى حقا فقد خرجتم عن الحق وأن كانت باطلا فقد كنتم على باطل وضاق عقله المنكوس عن القسم الثالث الحق وهو أنها كانت حقا ومصلحة في الوقت الأول ثم صارت مفسدة باطلة الاستقبال في الوقت الثاني ولهذا أخبر سبحانه عن عظم
(2/124)
شأن هذا التحويل والنسخ في القبلة فقال وأن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ثم أخبر أنه سبحانه لم يكن يضيع ما تقدم لهم من الصلوات إلى القبلة الأولى وأن رأفته ورحمته بهم تأبي إضاعة ذلك عليهم وقد كان طاعة لهم فلما قرر سبحانه ذلك كله وبين حسن هذه الجهة بعظمة البيت وعلو شأنه وجلالته قال قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وأكد ذلك عليهم مرة بعد مرة اعتناء بهذا الشأن وتفخيما له وأنه شأن ينبغي الاعتناء به والاحتفال بأمره فندبر هذا الاعتناء وهذا التقرير وبيان المصالح الناشئة من هذا الفرع من فروع الشريعة وبيان المفاسد الناشئة من خلافه وان كل جهة في وقتها كان استقبالها هو المصلحة وأن للرب تعالى الحكمة البالغة في شرع القبلة الأولى وتحويل عباده عنها إلى المسجد
(2/125)
الحرام فهذا معنى كون الحسن والقبح ذاتيا للفعل لا ناشئا من ذاته ولا ريب عند ذوي العقول أن مثل هذا يختلف باختلاف الأزمان والأمكنة والأحوال والأشخاص وتأمل حكمة الرب تعالى في أمره إبراهيم خليله بذبح ولده لأن الله اتخذه خليلا والخلة منزلة تقتضى إفراد الخليل بالمحبة وأن لا يكون له فيها منازع أصلا بل قد تخللت محبته جميع أجزاء القلب والروح فلم يبق فيها موضع خال من حبه فضلا عن أن يكون محلا لمحبة غيره فلما سأل إبراهيم الولد وأعطيه أخذ شعبة من قلبه كما يأخذ الولد شعبة من قلب والده فغار المحبوب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره فأمره بذبح الولد ليخرج حبه من قلبه ويكون الله أحب إليه وآثر عنده ولا يبقى في القلب سوى محبته فوطن نفسه على ذلك وعزم عليه فخلصت المحبة لوليها ومستحقها فحصلت مصلحة المأمور به من العزم عليه وتوطين النفس على الامتثال فبقي الذبح مفسدة لحصول المصلحة بدونه فنسخه في حقه لما صار مفسدة وأمر به لما كان عزمه عليه وتوطين نفسه مصلحة لهما فأي حكمة فوق هذا وأي لطف وبر وإحسان يزيد على هذا وأي مصلحة فوق هذه المصلحة بالنسبة إلى هذا الأمر ونسخة وإذا تأملت الشرائع الناسخة والمنسوخة وجدتها كلها بهذه المنزلة فمنها ما يكون وجه المصلحة فيه ظاهرا مكشوفا ومنها ما يكون ذلك فيه خفيا لا يدرك إلا بفضل فطنة وجوده إدراك
فصل وههنا سر بديع من أسرار الخلق والأمر به يتبين لك حقيقة الأمر
(2/126)
وهو أن الله لم يخلق شيئا ولم يأمر بشيء ثم ابطله وأعدمه بالكلية بل لا بد أن يثبته بوجه ما لأنه إنما خلقه لحكمة له في خلقه وكذلك أمره به وشرعه إياه هو لما فيه من المصلحة ومعلوم أن تلك المصلحة والحكمة تقتضي ابقاءه فإذا عارض تلك المصلحة مصلحة أخرى أعظم منها كان ما اشتملت عليه أولى بالخلق والأمر ويبقى في الأولى ما شاء من الوجه الذي يتضمن المصلحة ويكون هذا من باب تزاحم المصالح والقاعدة فيها شرعا وخلقا تحصيلها واجتماعها بحسب الإمكان فإن تعذر قدمت المصلحة العظمى وإن فاتت الصغرى وإذا تأملت الشريعة والخلق رأيت ذلك ظاهرا وهذا سر قل من تفطن له من الناس فتأمل الأحكام المنسوخة حكما حكما كيف تجد المنسوخ لم يبطل بالكلية بل له بقاء بوجه فمن ذلك نسخ القبلة وبقاء بيت المقدس معظما محترما تشد إليه الرحال ويقصد بالسفر إليه وحط الأوزار عنده واستقباله مع غيره من الجهات في السفر فلم يبطل تعظيمه واحترامه بالكلية وإن بطل خصوص استقباله بالصلوات فالقصد إليه ليصلى فيه باق وهو نوع من تعظيمه وتشريفه بالصلاة فيه والتوجه إليه قصدا لفضيلته وشرعه له نسبة من التوجه إليه بالاستقبال
(2/127)
بالصلوات فقدم البيت الحرام عليه في الاستقبال لأن مصلحته أعظم وأكمل وبقي قصده وشد الرحال إليه والصلاة فيه منشأ للمصلحة فتمت للأمة المحمدية المصلحتان المتعلقتان بهذين البيتين وهذا نهاية ما يكون من اللطف وتحصيل المصالح وتكميلها لهم فتأمل هذا الموضع ومن ذلك نسخ التخيير في الصوم بتعيينه فإن له بقاء وبيانا ظاهرا وهو أن الرجل كان إذا أراد أفطر وتصدق فحصلت له مصلحة الصدقة دون مصلحة الصوم وإن شاء صام ولم يفد فحصلت له مصلحة الصوم دون الصدقة فحتم الصوم على المكلف لأن مصلحته أتم وأكمل من مصلحة الفدية وندب إلى الصدقة في شهر رمضان فإذا صام وتصدق حصلت له المصلحتان معا وهذا أكمل ما يكون من الصوم وهو الذي كان يفعله النبي فإنه كان أجود ما يكون في رمضان فلم تبطل المصلحة الأولى جملة بل قدم عليها ما هو أكمل منها وجوبا وشرع الجمع بينها وبين الأخرى ندبا واستحبابا ومن ذلك نسخ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من العدو بثباته للإثنين ولم تبطل الحكمة الأولى من كل وجه بل بقي استحبابه وإن زال وجوبه بل إذا غلب على ظن المسلمين ظفرهم بعدوهم وهم عشرة أمثالهم وجب عليهم الثبات وحرم عليهم الفرار فلم تبطل الحكمة الأولى من كل وجه ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول لم يبطل حكمه بالكلية بل نسخ وجوبه وبقي استحبابه والندب إليه وما علم من تنبيهه وإشارته وهو أنه إذا استحبت الصدقة بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الصلوات والدعاء أولى فكان بعض السلف الصالح يتصدق بين يدي الصلاة والدعاء إذا أمكنه ويتأول هذه الأولوية ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمة يفعله ويتحراه ما أمكنه وفاوضته فيه فذكر لي هذا التنبيه والإشارة ومن ذلك نسخ الصلوات الخمسين التي فرضها الله على رسوله ليلة الإسراء بخمس فإنها لم تبطل بالكلية بل اثبتت خمسين في الثواب والأجر خمسا في العمل والوجوب وقد أشار تعالى إلى هذا بعينه حيث
(2/128)
يقول على لسان نبيه لا يبدل القول لدى هي خمس وهي خمسون في الأجر فتأمل هذه الحكمة البالغة والنعمة السابغة فإنه لما اقتضت المصلحة أن تكون خمسين تكميلا للثواب وسوقا لهم بها إلى أعلا المنازل واقتضت أيضا أن تكون خمسا لعجز الأمة وضعفهم وعدم احتمالهم الخمسين جعلها خمسا من وجه وخمسين من وجه جمعا بين المصالح وتكميلا لها ولو لم نطلع من حكمته في شرعه وأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لهم على أتم الوجوه إلا على هذه الثلاثة وحدها لكفى بها دليلا على ما راءها فسبحان من له في كل ما خلق وأمر حكمة بالغة شاهدة له بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين ومن ذلك الوصية للوالدين والأقربين فإنها كانت واجبة على من حضره الموت ثم نسخ الله ذلك بآية المواريث وبقيت مشروعة في حق الأقارب الذين لا يرثون
(2/129)
وهل ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب فيه قولان للسلف والخلف وهما في مذهب أحمد فعلى القول الأول بالاستحباب إذا أوصى للأجانب دونهم صحت الوصية ولا شيء للأقارب وعلى القول بالوجوب فهل لهم أن يبطلوا وصية الأجانب ويختصوا هم بالوصية كما للورثة يبطلوا وصية الوارث أو يبطلوا ما زاد على ثلث الثلث ويختصوا هم بثلثيه كما للورثةأن يبطلوا ما زاد على ثلث المال من الوصية ويكون الثلث في حقهم بمنزلة المال كله في حق الورثة على وجهين وهذا الثاني أقيس وأفقه وسره أن الثلث لما صار مستحقا لهم كان بمنزلة جميع المال في حق الورثة وهم لا يكونوا أقوى من الورثة فكما لا سبيل للورثة إلى أبطال الوصية بالثلث للأجانب فلا سبيل لهؤلاء إلى إبطال الوصية بثلث الثلث للأجانب وتحقيق هذه المسائل والكلام على ما أخذها له موضع آخر والمقصود هنا أن إيجاب الوصية للأقارب وأن نسخ لم يبطل بالكلية بل بقي منه ما هو منشأ المصلحة كما ذكرناه ونسخ منه مالا مصلحة فيه بل المصلحة في خلافه ومن ذلك نسخ الاعتداد في الوفاة بحول بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر على المشهور من القولين في ذلك فلم تبطل العدة الأولى جملة ومن ذلك حبس الزانية في البيت حتى تموت فإنه على أحد القولين لا نسخ فيه لأنه مغيا بالموت أو يجعل الله لهن سبيلا وقد جعل الله لهن سبيلا بالحد وعلى القول الأخر هو منسوخ بالحد وهو عقوبة من جنس عقوبة الحبس فلم تبطل العقوبة عنها بالكلية بل نقلت من عقوبة إلى عقوبة وكانت العقوبة الأولى أصلح في وقتها لأنهم كانوا حديثي عهد بجاهلية وزنا فأمروا بحبس الزانية أولا ثم لما استوطنت أنفسهم على عقوبتها وخرجوا عن عوائد الجاهلية وركنوا إلى التحريم والعقوبة نقلوا إلى ما هو أغلظ من العقوبة الأولى وهو الرجم والجلد فكانت كل عقوبة في وقتها هي المصلحة التي لا يصلحهم سواها وهذا الذي ذكرناه إنما هو في نسخ الحكم الذي ثبت بشرعه وأمره وأما ما كان مستصحبا بالبراءة
(2/130)
الأصلية فهذا لا يلزم من رفعه بقاء شيء منه لأنه لم يكن مصلحة لهم وإنما أخر عنهم تحريمه إلى وقت لضرب من المصلحة في تأخير التحريم ولم يلزم من ذلك أن يكون مصلحة حين فعلهم أياه وهذا كتحريم الربا والمسكر وغير ذلك من المحرمات التي كانوا يفعلونها استصابا لعدم التحريم فإنها لم تكن مصلحة في وقت ولهذا لم يشرعها الله تعالى ولهذا كان رفعها بالخطاب لا يسمى نسخا إذ لو كان ذلك نسخا لكانت الشريعة كلها نسخا وإنما النسخ رفع الحكم الثابت بالخطاب لا رفع موجب الاستصحاب وهذا متفق عليه فصل وأما ما خلقه سبحانه فإنه أوجده لحكمة في إيجاده فإذا اقتضت حكمته إعدامه جملة أعدمه وأحدث بدله وإذا اقتضت حكمته تبدليه وتغييره وتحويله من صورة بدله وغيره
(2/131)
وحوله ولم يعدمه جملة ومن فهم هذا فهم مسألة المعاد وما جاءت به الرسل فيه فإن القرآن والسنة إنما دلا على تغيير العالم وتحويله وتبديله لا جعله عدما محضا وإعدامه بالكلية فدل على تبديل الأرض غير الأرض والسماوات وعلى تشقق السماء وانفطارها وتكوير الشمس وانتثار الكواكب وسجر البحار وإنزال المطر على أجزاء بنى آدم المختلطة بالتراب فينبتون كما ينبت النبات وترد تلك الأرواح بعينها إلى تلك الأجساد التي أحيلت ثم أنشئت نشأة أخرى وكذلك القبور تبعثر وكذلك الجبال تسير ثم تنسف وتصير كالعهن المنفوش وتقيء الأرض يوم القيامة أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان من الذهب والفضة وتميد الأرض وتدنو والشحى من رؤس الناس فهذا هو الذي أخبر به القرآن والسنة ولا سبيل لاحد من الملاحدة الفلاسفة وغيرهم إلى الاعتراض على هذا المعاد الذي جاءت به الرسل بحرف واحد وإنما اعتراضاتهم على المعاد الذي عليه طائفة من المتكلمين أن الرسل جاؤا به وهو أن الله يعدم أجزاء العالم العلوي والسفلي كلها فيجعلها عدما محضا ثم يعيد ذلك العدم وجودا ويا ليت شعري أين في القرآن والسنة أن الله يعدم ذرات العالم وأجزاءه جملة ثم يقلب ذلك العدم وجودا وهذا هو المعاد الذي أنكرته الفلاسفة ورمته بأنواع الاعتراضات وضروب الالزامات واحتاج المتكلمون إلى تعسف الجواب وتقريره بأنواع من المكابرات وأما المعاد الذي أخبرت به الرسل فبريء من ذلك كله مصون عنه لا مطمع للعقل في الاعتراض عليه ولا يقدح فيه شبهة واحد وقد أخبر سبحانه أنه يحي العظام بعد ما صارت رميما وأنه قد علم ما تنقص الأرض من لحوم بني آدم وعظامهم فيرد ذلك إليهم عند النشأة الثانية وأنه ينشىء تلك الأجساد بعينها بعد ما بليت نشأه أخري ويرد إليها تلك الأرواح فلم يدل على أنه يعدم تلك الأرواح ويفنيها حتى تصير عدما محضا فلم يدل القرآن على أنه يعدم تلك الأرواح ثم يخلقها خلقا جديدا ولا دل على أنه يفني الأرض والسموات
(2/132)
ويعدمهما عدما صرفا ثم يجدد وجودهما وإنما دلت النصوص على تبديلهما وتغييرهما من حال إلى حال فلو أعطيت النصوص حقها لارتفع أكثر النزاع من العالم ولكن خفيت النصوص وفهم منها خلاف مرادها وانضاف إلى ذلك تسليط الآراء عليها واتباع ما تقضى به فتضاعف البلاء وعظم الجهل واشتدت المحنة وتفاقم الخطب وسبب ذلك كله الجهل بما جاء به الرسول وبالمراد منه فليس للعبد أنفع من سمع ما جاء به الرسول وعقل معناه وأما من لم يسمعه ولم يعقله فهو من الذين قال الله فيهم وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فلنرجع إلى الكلام عن الدليل المذكور وهو أن الحسن أو القبح لو كان ذاتيا لما اختلف إلى آخره فنقول قد بينا أن اختلافه بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والشروط لا يخرجه عن كونه ذاتيا الثاني أنه ليس المعنى من كونه ذاتيا إلا أنه ناشىء من الفعل فالفاعل منشؤه وهذا
(2/133)
لا يوجب اختلافه بدليل ما ذكرنا من الصور الثالث انه يجوز اقتضاء الذات الواحدة لأمرين متنافيين بحسب شرطين متنافيين فيقتضى التبريد مثلا في محل معين بشرط معين والتسخين في محل آخر بشرط آخر والجسم في حيزه يقتضي السكون فإذا خرج عن حيزه اقتضى الحركة واللحم يقتضي الصحة بشرط سلامة البدن من الحمى والمرض الممتنع منه الغذاء ويقتضي المرض بشرط كون الجسم محموما ونحوه ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فإن قيل محل النزاع أن الفعل لذاته أو لوصف لازم له يقتضي الحسن والقبح والشرطان متنافيان يمتنع أن يكون كل واحد منهما وصفا لازما لأن اللازم يمتنع انفكاك الشيء عنه قيل معنى كونه يقتضي الحسن والقبح لذاته أو لوصفه اللازم أن الحسن ينشأ من ذاته أو من وصفه بشرط معين والقبح ينشأ من ذاته أو من وصفه بشرط آخر فإذا عدم شرط الاقتضاء أو وجد مانع يمنع الاقتضاء زال الأمر المترتب بحسب الذات أو الوصف لزوال شرطه أو لوجود مانعه وهذا واضح جدا : الثالث أن قولكم يحسن الكذب إذا تضمن عصمة نبى أو مسلم فهذا فيه طريقان أحدهما لا نسلم أنه يحسن الكذب فضلا عنأن يجب بل لا يكون الكذب إلا قبيحا وأما الذي يحسن فالتعريض والتورية كما وردت به السنة النبوية وكما عرض إبراهيم للملك الظالم بقوله هذه أختي لزوجته وكما قال أني سقيم فعرض بأنه سقيم قلبه من شركهم أو سيسقم يوما ما وكما فعل في قوله بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم أن كانوا ينطقون فأن الخبر والطلب كلاهما معلق بالشرط والشرط متصل بهما ومع هذا فسماها ثلاث كذبات وامتنع بها من مقام الشفاعة فكيف يصح دعواكم أن الكذب يجب إذا تضمن عصمة مسلم مع ذلك فأن قيل كيف سماها إبراهيم كذبات وهي تورية وتعريض صحيح قيل لا يلزمنا جواب هذا السؤال إذا الغرض أبطال استدلالكم وقد حصل فالجواب عنه تبرع منا وتكميل للفائدة ولم أجد في هذا المقام للناس جوابا شافيا يسكن القلب إليه وهذا السؤال لا يختص به طائفة معينة بل هو
(2/134)
وارد عليكم بعينه وقد فتح الله الكريم بالجواب عنه فنقول الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم وقصده وإرادته ونسبة إلى السامع وإفهام المتكلم إياه مضمونه فإذا أخبر المتكلم بخبر مطابق للواقع وقصد إفهام المخاطب فهو صدق من الجهتين وأن قصد خلاف الواقع وقصد مع ذلك إفهام المخاطب خلاف ما قصد بل معنى ثالثا لا هو الواقع ولا هو المراد فهو كذب من الجهتين بالنسبتين معا وإن قصد معنى مطابقا صحيحا وقصد مع ذلك التعمية على المخاطب وإفهامه خلاف ما قصده فهو صدق بالنسبة إلى قصده كذب بالنسبة إلى إفهامه ومن هذا الباب التورية والمعاريض وبهذا أطلق عليها إبراهيم الخليل عليه السلام اسم الكذب مع أنه الصادق في خبره ولم يخبر إلا صدقا فتأمل هذا الموضع الذي أشكل على الناس وقد ظهر بهذا أن الكذب لا يكون قط إلا
(2/135)
قبيحا وأن الذي يحسن ويجب إنما هو التورية وهي صدق وقد يطلق عليها الكذب بالنسبة إلى الإفهام لا إلى العناية الطريق الثاني ان تخلف القبح عن الكذب لفوات شرط أو قيام مانع يقتضي مصلحة راجعة على الصدق لا تخرجه عن كونه قبيحا لذاته وتقريره ما تقدم وقد تقدم أن الله سبحانه حرم الميتة والدم ولحم الخنزير للمفسدة التي في تناولها وهي ناشئة من ذوات هذه المحرمات وتخلف التحريم عنها عند الضرورة لا يوجب أن تكون ذاتها غير مقتضية للمفسدة التي حرمت لأجلها فهكذا الكذب المتضمن نجاة نبي أو مسلم الوجه الرابع قوله لو كان ذاتيا لاجتمع النقيضان في صدق من قال لأكذبن غدا إلى آخر ما ذكر جوابه أنه متى يجتمع النقيضان إذا كان الحسن والقبح باعتبار واحد من جهة واحدة أو إذا كانا باعتبارين من جهتين أو أعم من ذلك فإن عنيتم الأول فمسلم ولكن لا نسلم الملازمة فإنه لا يلزم من اجتماع الحسن والقبح في الصورة المذكورة أن يكون لجهة واحدة واعتبار واحد فإن اجتماع الحسن والقبح فيهما باعتبارين مختلفين من جهتين متباينتين وهذا ليس ممتنعا فإنه إذا كان كذبا كان قبيحا بالنظر إلى ذاته وحسنا بالنظر إلى تضمنه صدق الخبر الأول ونظيره إن يقول والله لأشربن الخمر غدا أو والله لآسرقن هذا الثوب غدا ونحوه وأن عنيتم الثاني فهو حق ولكن لا نسلم انتفاء اللازم وأن عنيتم الثالث منعنا الملازمة أيضا على التقدير الأول وانتفاء اللازم على التقدير الثاني وهذا واضح جدا الوجه الخامس قوله القتل والضرب حسن إذا كان حدا أو قصاصا وقبيح في غيره فلو كان ذاتيا لاجتمع النقيضان كلام في غاية الفساد فإن القتل والضرب واحد بالنوع والقبيح ما كان ظنا وعدوانا والحس منه ما كان جزاء على إساءة أما حدا وأما قصاصا فلم يرجع الحسن والقبح إلى واحد بالعين ونظير هذا السجود فإنه في غاية الحسن لذاته إذا كان عبودية وخضوعا للواحد المعبود وفي غاية القبح إذا كان لغيره ولو سلمنا أن القتل
(2/136)
والضرب الواحد بالعين إذا كان حدا أو قصاصا فإنه يكون حسنا قبيحا لم يكن ذلك محالا لأنه باعتبارين فهو حسن لما تضمنه من الزجر والنكال وعقوبة المستحق وقبيح بالنظر إلى المقتول المضروب فهو قبيح له حسن في نفسه وهذا كما أنه مكروه مبغوض له وهو محبوب مرضى لفاعله والآمر به فأي محال في هذا فظهر أن هذا الدليل فاسد والله أعلم فصل فهذه أقوى أدلة النفاة باعترافهم بضعف ما سواها فلا حاجة بنا إلى ذكرها وبيان فسادها فقد تبين الصبح لذي عينين وجلبت عليك المسئلة رافلة في حلل أدلتها الصحيحة وبراهينها
(2/137)
المستقيمة ولا تغضض طرف بصيرتك عن هذه المسئلة فأن شأنها عظيم وخطبها جسيم وقد احتج بعضهم بدليل أفسد من هذا كله فقالوا لو حسن الفعل أو قبح لذاته او لصفته لم يكن الباريء تعالى مختارا في الحكم لأن الحكم بالمرجوح على خلاف المعقول فليزم الآخر فلا اختيار وتقرير هذا الاستدلال ببيان الملازمة المذكورة أولا وبيان انتفاء اللازم ثانيا أما المقام الأول وهو بيان الملازمة فإن الفعل لو حسن لذاته او لصفته لكان راجحا على الحسن في كونه متعلقا للوجوب أو الندب ولو قبح لذاته أو لصفته لكان راجحا على الحسن في كونه متعلقا للتحريم أو الكراهة فحينئذ إما أن يتعلق الحكم بالراجح المقتضي له او المرجوح المقتضي لضده والثاني باطل قطعا لا لاستلزامه ترجيح المرجوح وهو باطل بصريح العقل فتعين الأول ضرورة فإذا كان تعلق الحكم بالراجح لازما ضرورة لم يكن الباري مختارا في حكمه فتأمل هذه الشبهة ما أفسدها وأبين بطلانها والعجب ممن يرضى لنفسه ان يحتج يمثلها وحسبك فساد الحجة مضمونها أن الله تعالى لم يشرع السجود له وتعظيمه وشكره ويحرم السجود للصنم وتعظيمه لحسن هذا وقبح هذا مع استوائهما تفريقا بين المتماثلين فأي برهان أوضح من هذا على فساد هذه الشبهة الباطلة الثاني أن يقال هذا يوجب أن تكون أفعاله كلها مستلزمة للترجيح بغير مرجح إذ لو ترجح الفعل منها بمرجح لزم عدم الاختيار بعين ما ذكرتم إذا لحكم بالمرجح لازم فإن قيل لا يلزم الاضطرار وترك الاختيار لأن المرجح هو الإرادة والاختيار قيل فهلا قنعتم بهذا الجواب منا وقلتم إذا كان اختياره تعالى متعلقا بالفعل لما فيه من المصلحة الداعية إلى فعله وشرعه وتحريمه له ما فيه من المفسدة الداعية إلى تحريمه والمنع منه فكان الحكم بالراجح في الموضعين متعلقا باختياره تعالى وإرادته فإنه الحكيم في خلقه وأمره فإذا علم في الفعل مصلحة راجحة شرعية وأوجبه شرعه ووضعه وإذا علم فيه مفسدة راجحة كرهه
(2/138)
وأبغضه وحرمه هذا في شرعه وكذلك في خلقه لم يفعل شيئا إلا ومصلحته راجحة وحكمته ظاهرة واشتماله على المصلحة والحكمة التي فعله لأجلها لا ينافي اختياره بل لا يتعلق بالفعل إلا لما فيه من المصلحة والحكمة وكذلك تركه لما فيه من خلاف حكمته فلا يلزم من تعلق الحكمة بالراجح أن لا يكون الحكم اختياريا فإن المختار الذي هو أحكم الحاكمين لا يختار إلا ما يكون على وفق الحكمة والمصلحة الثالث أن قوله إذا لزم تعلق الحكم بالراجح لم يكن مختارا تلبيس فإنه إنما تعلق بالراجح باختياره وإرادته واختياره وإرادته اقتضت تعلقه بالراجح على وجه اللزوم فكيف لا يكون مختارا واختياره استلزم تعلق الحكم بالراجح الرابع إن تعلق حكمه تعالى بالفعل المأمور به أو المنهي عنه إما أن يكون جائز الوجود والعدم أو راجح الوجود أو راجح العدم فإن كان جائز الطرفين لم بترجح أحدهما إلا بمرجح وإن كان راجحا فالتعلق لازم لأن الحكم
(2/139)
يمتنع ثبوته مع المساواة ومع المرجوحية أما الأول فلا ستلزامه الترجيح بلا مرجح وأما الثاني فلا ستلزامه ترجيح المرجوح وهو باطل بصريح العقل فلا يثبت إلا مع المرجح التام وحينئذ فيلزله عدم الاختيار وما يجيبون به عن الإلزام المذكور هو جوابكم بعينه عن شبهتكم التي استدللتم بها الخامس أن هذه الشبهة الفاسدة مستلزمة لأحد الأمرين ولا بد أما الترجيح بلا مرجح وإما أن لا يكون الباري تعالى مختارا كما قررتم وكلاهما باطل السادس أنها تقتضي أن لا يكون في الوجود قادر مختار إلا من يرجح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح وأما من رجح أحد الجائزين بمرجح فلا يكون مختارا وهذا من أبطل الباطل بل القادر المختار لا يرجح أحد مقدريه على الآخر إلا بمرجح وهو معلوم بالضرورة واحتج النفاة أيضا بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ووجه الاحتجاج بالآية أنه سبحانه نفي التعذيب قبل بعثة الرسل فلو كان حسن الفعل وقبحه ثابتا له قبل الشرع لكان مرتكب القبح وتارك الحسن فاعلا للحرام وتاركا الواجب لأن قبحه عقلا يقتضي تحريمه عقلا عندكم وحسنه عقلا يقتضي وجوبه عقلا فإذا فعل المحرم وترك الواجب استحق العذاب عندكم والقرآن نص صريح أن الله لا يعذب بدون بعثة الرسل فهذا تقرير الاستدلال احتجاجا والتزاما ولا ريب أن الآية حجة على تناقض المثبتين إذا أثبتوا التعذيب قبل البعثة فيلزم تناقضهم وإبطال جمعهم بين هذين الحكمين إثبات الحسن والقبح عقلا وإثبات التعذيب على ذلك بدون البعثة وليس إبطال القول بمجموع الأمرين موجبا لإبطال كل واحد منهما فلعل الباطل هو قولهم بجواز التعذيب قبل البعثة وهذا هو المتعين لأنه خلاف نص القرآن وخلاف صريح العقل أيضا فأن الله سبحانه إنما أقام الحجة على العباد برسله قال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فهذا صريح بأن الحجة إنما قامت بالرسل وأنه بعد مجيئهم لا يكون للناس على الله حجة
(2/140)
وهذا يدل على أنه لا يعذبهم قبل مجيء الرسل إليهم لأن الحجة حينئذ لم تقم عليهم فالصواب في المسئلة اثبات الحسن والقبح عقلا ونفي التعذيب على ذلك إلا بعد بعثة الرسل فالحسن والقبح العقلي لا يستلزم التعذيب وإنما يستلزمة مخالفة المرسلين وأما المعتزلة فقد أجابوا عن ذلك بأن قالوا الحسن والقبح العقلي يقتضي استحقاق العقاب على فعل القبيح وترك الحسن ولا يلزم من استحقاق العقاب وقوعه لجواز العفو عنه قالوا ولا يرد هذا علينا حيث نمنع العفو بعد البعثة إذا أو عد الرب على الفعل لأن العذاب قد صار واجبا بخبره ومستحقا بارتكاب القبيح وهو سبحانه لم يحصل منه إيعاد قبل البعثة فلا يقبح العفو لأنه لا يستلزم خلفا في الخبر وإنما غايته ترك حق له قد وجب قبل البعثة وهذا حسن والتحقيق في هذا أن سبب العقاب قائم قبل البعثة ولكن لا يلزم من وجود سبب العذاب حصوله لأن هذا السبب قد نصب الله تعالى له شرطا وهو بعثة الرسل وانتفاء التعذيب قبل البعثة هو لا نتفاء شرطه لا لعدم
(2/141)
سببه ومقتضيه وهذا فصل الخطاب في هذا المقام وبه يزول كل إشكال في المسئلة وينقشع غيمها ويسفر صبحها والله الموفق للصواب واحتج بعضهم أيضا بأن قال لو كان الفعل حسنا لذاته لا متنع الشارع من نسخه قبل إيقاع المكلف له وقبل تمكنه منه لأنه إذا كان حسنا لذاته فهو منشأ للمصلحة الراجحة فكيف ينسخ ولم تحصل منه تلك المصلحة وأجاب المعتزلة عن هذا بالتزامه ومنعوا النسخ قبل وقت الفعل ونازعهم جمهور هذه الأمة في هذا الأصل وجوزوا وقوع النسخ قبل حضور وقت الفعل ثم انقسموا قسمين فنفاة التحسين والتقبيح بنوه على أصلهم ومثبتو التحسين والتقبيح أجابوا عن ذلك بأن المصلحة كما تنشأ من الفعل فأنها أيضا قد تنشأ من العزم عليه وتوطين النفس على الامتثال وتكون المصلحة المطلوبة هي العزم وتوطين النفس لا إيقاع الفعل في الخارج فإذا أمر المكلف بأمر فعزم عليه وتهيأ له ووطن نفسه على امتثاله فحصلت المصلحة المرادة منه لم يمتنع نسخ الفعل وإن لم يوقعه لأنه لا مصلحة له فيه وهذا كأمر إبراهيم الخليل بذبح ولده فإن المصلحة لم تكن في ذبحه وإنما كانت في استسلام الوالد والولد لأمر الله وعزمهما عليه وتوطينهما أنفسهما على امتثاله فلما حصلت هذه المصلحة بقي الذبح مفسدة في حقهما فنسخه الله ورفعه وهذا هو الجواب الحق الشافي في المسئلة وبه تتبين الحكمة الباهرة في إثبات ما أثبته الله من الأحكام ونسخ ما نسخه منها بعد وقوعه ونسخ ما نسخ منها قبل إيقاعه وأن له في ذلك كله من الحكم البالغة ما تشهد له بأنه احكم الحاكمين وأنه اللطيف الخبير الذي بهرت حكمته العقول فتبارك الله رب العالمين ومما احتج به النفاة أيضا أنه لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب لم يكن تعلق الطلب لنفسه لتوقفه على أمر زائد وتقرير هذه الحجة ان حسن الفعل وقبحه لا يجوز ان يكون لغير نفس الطلب بل لا معنى لحسنه إلا كونه مطلوبا للشارع أيجاده ولا لقبحه إلا كونه مطلوبا له إعدامه لأنه
(2/142)
لو حسن وقبح لمعنى غير الطلب الشرعي لم يكن الطلب متعلقا بالمطلوب لنفسه بل كان التعلق لأجل ذلك المعنى فيتوقف الطلب على حصول الاعتبار الزائد على الفعل وهذا باطل لأن التعلق نسبة بين الطلب والفعل والنسبة بين الأمرين لا تتوقف إلا على حصولهما فإذا حصل الفعل تعلق الطلب به سواء حصل فيه اعتبار زائد على ذاته أولا فإن قلتم الطلب وأن لم يتوقف إلا على الفعل المطلوب والفاعل المطلوب منه لكن تعلقه بالفعل متوقف على جهة الحسن والقبح المقتضي لتعلق الطلب به قلنا الطلب قديم والجهة الموجبة للحسن والقبح حادثة ولا يصح توقف القديم على الحادث وسر الدليل أن تعلق الطلب بالفعل ذاتي فلا يجوز أن يكون معللا بأمر زائد على الفعل إذ لو كان تعلقه به معللا لم يكن ذاتيا وهذا وجه تقرير هذه الشبهة وان كان كثير من شراح المختصر لم يفهموا تقريرها على هذا الوجه فقرروها على وجه
(2/143)
آخر لا يفيد شيئا وبعد فهي شبهة فاسدة من وجوه : أحدها أن يقال ما تعنون بأن تعلق الطلب بالفعل ذاتي له أتعنون به أن التعلق مقوم لماهية الطلب وأن تقوم الماهية به كتقومها بجنسها وفصلها أم تعنون به أنه لا تعقل ماهية الطلب الا بالتعلق المذكور أم أمرا آخر فإن عنيتم الأول والتعلق نسبة إضافية وهي عدمية عندكم لا وجود لها في الأعيان فكيف تكون النسبة العدمية مقومة للماهية الوجودية وأنتم تقولون أنه ليس لمتعلق الطلب من الطلب صفة ثبوتية لأن هذا هو الكلام النفسي وليس لمتعلق القول فيه صفة ثبوتية وأن عنيتم الثاني فلا يلزم من ذلك توقف الطلب على اعتبار زائد على الفعل يكون ذلك الاعتبار شرطا في الطلب وأن عنيتم أمرا ثالثا فلا بد بيانه وعلى تقدير بيانه فإنه لا ينافي توقف التعلق على الشرط المذكور الثاني أن غاية ما قررتموه قررتموه أن التعلق ذاتي للطلب والذاتي لا يعلل كما ادعيتموه في المنطق دعوى مجردة ولم تقرروه ولم تبينوا ما معنى كونه غير معلل حتى ظن بعض المقلدين من المنطقيين أن معناه ثبوتية الذات لنفسه بغير واسطة وهذا في غاية الفساد لا يقوله من يدرى ما يقول وإنما معناه أنه لا تحتاج الذات في اتصافها به إلى علة مغايرة لعلة وجودها بل علة وجودها هي علة اتصاف الذات فهذا معنى كونه غير معلل بعلة خارجية عن علة الذات بل علة الذات علته وليس هذا موضع استقصاء الكلام على ذلك والمقصود أن كون التعلق ذاتيا للطلب فلا يعلل بغير علة الطلب لا ينافي توقفه على شرط فهب أن صفة الفعل لا تكون علة للتعلق فما المانع أن تكون شرطا له ويكون تعلق الطلب بالفعل مشروطا بكونه على الجهة المذكورة فإذا انتفت تلك الجهة انتفى التعلق لانتفاء شرطه وهذا مما لم يتعرضوا لبطلانه أصلا ولا سبيل لكم إلى أبطالة الثالث أن قولك الطلب قديم والجهة المذكورة حادثة للفعل ولا يصح توقف القديم على الحادث كلام في غاية البطلان فإن الفعل المطلوب حادث والطلب
(2/144)
متوقف عليه إذ لا تتصور ماهية الطلب بدون المطلوب فما كان جوابكم عن توقف الطلب على الفعل الحادث فهو جوابنا عن توقفه على جهة الفعل الحادثة فإن جهته لا تزيد عليه بل هي صفة من صفاته فإن قلتم التوقف هاهنا إنما هو لتعلق الطلب بالمطلوب لا لنفس الطلب ولا تجدون محذورا في توقف التعلق لأنه حادث قلنا فهلا قنعتم بهذا الجواب في صفة الفعل وقلتم التوقف على الجهة المذكورة هو توقف التعلق لا توقف نفس الطلب فنسبة التعلق إلى جهة الفعل كنسبته إلى ذاته ونسبة الطلب إلى الجهة كنسبته إلى نفس الفعل سواء بسواء فنسبة القديم إلى أحد الحادثين كنسبته إلى الآخر ونسبة تعلقه بأحد الحادثين كنسبة تعلقه بالآخر فتبين فسادا الدليل المذكور وحسبك بمذهب فسادا استلزامه جواز ظهور المعجزة على يد الكاذب وإنه ليس بقبيح واستلزامه جواز نسبة الكذب إلى أصدق
(2/145)
الصادقين وأنه لا يقبح منه واستلزامه التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود ولا شيء من أنواع الكفر ولا السعي في الأرض بالفساد ولا تقبيح شيء من القبائح أصلا وقد التزم النفاة ذلك وقالوا أن هذه الأشياء لم تقبح عقلا وإنما جهة قبحها السمع فقط وانه لا فرق قبل السمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضد ذلك ولا بين شكره بما يقدر عليه العبد وبين ضده ولا بين الصدق والكذب والعفة والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين من كل وجه وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا يتكلف رده ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم فأطبق أصحاب أبي حنيفة على خلافه وحكوه عن أبي حنيفة نصا واختاره من أصحاب أحمد أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير ولم يقل أحد من متقدميهم بخلافه ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير وبالغ في إثباته وبنى كتابه محاسن الشريعة عليه وأحسن فيه ما شاء وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجانى بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعرى القول بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد وكذلك أبو القاسم الراغب وكذلك أبو عبد الله الحليمى وخلائق لا يحصون وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهى لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها فيجعل الأول ضابطا للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل فلو تساوت الأوصاف في نفسها
(2/146)
لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعات الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها فصل وإذا قد انتهينا في هذه المسئلة إلى هذا الموضع وهو بحرها ومعظمها فلنذكر سرها وغايتها وأصولها التي أثبتت عليها فبذلك تتم الفائدة فإن كثيرا من الأصوليين ذكروها مجردة ولم يتعرضوا لسرها وأصلها الذي أثبتت عليه وللمسئلة ثلاثة أصول هي أساسها الأصل الأول هل أفعال الرب تعالى وأوامره معللة بالحكم والغايات وهذه من أجل مسائل التوحيد المتعلقة بالخلق والأمر بالشرع والقدر الأصل الثاني أن تلك الحكم المقصودة فعل يقوم به سبحانه
(2/147)
وتعالى قيام الصفة به فيرجع إليه حكمها ويشتق له اسمها أم يرجع إلى المخلوق فقط من غير أن يعود إلى الرب منها حكم أو يشتق له منها اسم الأصل الثالث هل تعلق إرادة الرب تعالى بجميع الأفعال تعلق واحد فما وجد منها مراد له محبوب مرضى طاعة كان أو معصية وما لم يوجد منها فهو مكروه له مبغوض غير مراد طاعة كان أو معصية فهو يحب الأفعال الحسنة التي هي منشأ المصالح وأن لم يشأ تكوينها وإيجادها لأن في مشيئة لإيجادها فوات حكمة أخرى هي أحب إليه منها ويبغض الأفعال القبيحة التي هي منشأ المفاسد ويمنعها ويمقت أهلها وأن شاء تكوينها وإيجادها لما تستلزمه من حكمه ومصلحة هي أحب إليه منها ولا بد من توسط هذه الأفعال في وجودها فهذه الأصول الثلاثة عليها مدار هذه المسئلة ومسائل القدر والشرع وقد اختلف الناس فيها قديما وحديثا إلى اليوم فالجبرية تنفي الأصول الثلاثة وعندهم أن الله لا يفعل لحكمة ولا يأمر لها ولا يدخل في أمره وخلقه لام التعليل بوجه وإنما هي لام العاقبة كما لا يدخل في أفعاله باء السببية وإنما هي باء المصاحبة ومنهم من يثبت الأصل الثالث وينفي الاصلين الأولين كما هو أحد القولين للأشعري وقول كثير من أئمة أصحابه وأحد القولين لأبي المعالي والمشهور من مذهب المعتزلة إثبات الأصل الأول وهو التعليل بالحكم والمصالح ونفي الثاني بناء على قواعدهم الفاسدة في نفي الصفات فأما الأصل الثالث فهم فيه ضد الجبرية من كل وجه فهما طرفا نقيض فأنهم لا يثبتون لأفعال العباد سوى المحبة لحسنها والبغض لقبحها وأما المشيئة لها فعندهم أن مشيئة الله لا تتعلق بها بناء منهم على نفي خلق أفعال العباد فليست عندهم إرادة الله لها إلا بمعنى محبته لحسنها فقط وأما قبيحها فليس مراد الله بوجه وأما الجبرية فعندهم انه لم يتعلق بها سوى المشيئة والإرادة وأما المحبة عندهم فهي نفس الإرادة والمشيئة فما شاءه فقد أحبه ورضيه وأما أصحاب القول الوسط وهم
(2/148)
أهل التحقيق من الأصوليين والفقهاء والمتكلمين فيثبتون الأصول الثلاثة فيثبتون الحكمة المقصودة بالفعل في أفعاله تعالى وأوامره ويجعلونها عائدة إليه حكما ومشتقا له اسمها فالمعاصي كلها مقوتة مكروهة وإن وقعت بمشيئته وخلقه والطاعات كلها محبوبة له مرضية وإن لم يشاها ممن لم يطعه ومن وجدت منه فقد تعلق بها المشيئة والحب فما لم يوجد من أنواع المعاصي فلم تتعلق به مشيئة ولا محبته وما وجد منها تعلقت به مشيئته دون محبته وما لم يوجد من الطاعات المقدرة تعلق بها محبته دون مشيئته وما وجد منها تعلق به محبته ومشيئته ومن لم يحكم هذه الأصول الثلاثة لم يستقر له في مسائل الحكم والتعليل والتحسين والتقبيح قدم بل لا بد من تناقضه ويتسلط عليه خصومه من جهة نفيه لواحد منها ولهذا لما رأى القدرية والجبرية أنهم لو سلموا للمعتزلة شيئا من هذه تسلطوا عليهم به سدوا على أنفسهم الباب بالكلية وأنكروها جملة فلا حكمة عندهم ولا تعليل ولا محبة تزيد على المشيئة ولما أنكر المعتزلة رجوع الحكمة إليه تعالى سلطوا عليهم خصومهم فأبدوا تناقضهم وكشفوا عوراتهم ولما سلك أهل السنة القول الوسط وتوسطوا بين الفريقين لم يطمع أحد في مناقضتهم ولا في إفساد قولهم وأنت إذا تأملت حجج الطائفتين وما ألزمته كل منهما للأخرى علمت أن من سلك القول الوسط لم يلزمه شيء من إلزاماتهم ولا تناقضهم والحمد لله رب العالمين هادي من يشاء إلى صراط مستقيم
فصل وقد سلم كثير من النفاة أن كون الفعل حسنا أو قبيحا بمعنى
(2/149)
الملاءمة والمنافرة والكمال والنقصان عقلي وقال نحن لا ننازعكم في الحسن والقبح بهذين الاعتبارين وإنما النزاع في إثباته عقلا بمعنى كونه متعلق المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا فعندنا لا مدخل للعقل في ذلك وإنما يعلم بالسمع المجرد قال هؤلاء فيطلق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وهو عقلي وبمعنى الكمال والنقصان وهو عقلي وبمعنى إستلزامه للثواب والعقاب وهو محل النزاع وهذا التفصيل لو أعطي حقه والتزمت لوازمه رفع النزاع وأعاد المسئلة اتفاقية وأن كون الفعل صفة كمال أو نقصان يستلزم إثباب تعلق الملاءمة والمنافرة لأن الكمال محبوب للعالم والنقص مبغوض له ولا معنى للملاءمة والمنافرة إلا الحب والبغض فإن الله سبحانه يحب الكامل من الأفعال والأقوال والأعمال ومحبته لذلك بحسب كماله ويبغض الناقص منها ويمقته ومقته له بحسب نقصانه ولهذا أسلفنا أن من أصول المسئلة إثبات صفة الحب والبغض لله فتأمل كيف عادت المسئلة إليه وتوقفت عليه والله سبحانه يحب كل ما أمر به ويبغض كل ما نهى عنه ولا يسمى ذلك ملاءمة أو منافرة بل يطلق عليه الأسماء التي أطلقها على نفسه وأطلقها عليه رسوله من محبته للفعل الحسن المأمور به وبغضه للفعل القبيح ومقته له وما ذاك إلا لكمال الأول ونقصان الثاني فإذا كان الفعل مستلزما للكمال والنقصان وأستلزامه له عقلي والكمال والنقصان يستلزم الحب والبغض الذي سميتموه ملاءمة ومنافرة واستلزامه عقلي فبيان كون الفعل حسنا كاملا محبوبا مرضيا وكونه قبيحا ناقصا مسحوطا مبغوضا أمر عقلي بقي حديث المدح والذم والثواب والعقاب ومن أحاط علما بما اسلفناه في ذلك انكشفت له المسئلة واسفرت عن وجهها وزال عنها كل شبهة وإشكال فأما المدح والذم فترتبه على النقصان والكمال والمتصف به وذمهم لمؤثر النقص والمتصف به أمر عقلي فطري وإنكاره يزاحم المكابرة وأما العقاب فقد قررنا أن ترتبه على فعل القبيح مشروط بالسمع وأنه إنما
(2/150)
انتفي عند انتفاء السمع انتفاء المشروط لانتفاء شرطه لا انتفاءه لا انتفاء سببه فإن سببه قائم ومقتضيه موجود إلا أنه لم يتم لتوقف على شرطه وعلى هذا فكونه متعلقا للثواب والعقاب والمدح والذم عقلي وأن كان وقوع العقاب موقوفا على شرط وهو ورود السمع وهل يقال أن الاستحقاق ليس بثابت لأن ورود السمع شرط فيه هذا فيه طريقان للناس ولعل النزاع لفظي فإن أريد بالاستحاق الاستحقاق التام فالحق نفيه وأن أريد به قيام السبب والتخلف لفوات شرط أو وجود مانع فالحق إثباته فعادت الأقسام الثلاثة أعنى الكمال والنقصان والملاءمة والمنافرة والمدح والذم إلى عرف واحد وهو كون الفعل محبوبا أو مبغوضا ويلزم من كونه محبوبا أن يكون كمالا وأن يستحق عليه المدح والثواب ومن كونه مبعوضا أن يكون نقصا يستحق به الذم والعقاب فظهر أن التزام لوازم هذا التفصيل وإعطاءه حقه يرفع النزاع ويعيد المسئلة اتفاقية ولكن أصول الطائفتين تأبى التزام ذلك فلا بد لهما من التناقص إذا طردوا أصولهم وأما من كان أصله إثبات الحكمة واتصاف الرب تعالى بها وإثبات الحب والبغض له وأنهما أمر وراء المشيئة العامة فأصول مستلزمه لفروعه وفروعه دالة على أصوله فأصوله وفروعه لا تتناقص وأدلته لا تتمانع ولا تتعارض قال النفاة لو قدر نفسه وقد خلق تام الخلقة كامل العقل دفعة واحدة من أن يتخلق بأخلاق قوم ولا تأدب بتأديب الأبوين ولا تربي في الشرع ولا تعلم من متعلم ثم عرض عليه أمران أحدهما الاثنين أكثر من الواحد والثاني أن الكذب قبيح بمعنى أنه يستحق من الله تعالى لوما عليه لم نشك أنه لا يتوقف في الأول ويتوقف في الثاني ومن حكم بأن الأمرين سيان بالنسبة إلى عقله خرج عن قضايا العقول وعاند كعناد الفضول كيف ولو تقرر عنده أن الله تعالى لا يتضرر بكذب ولا ينتفع بصدق وأن القولين في حكم التكليف على وتيرة واحدة لم يمكنه أن يرد أحدهما دون الثاني بمجرد عقله والذي يوضحه أن الصدق والكذب
(2/151)
على حقيقة ذاتية لا تتحقق ذاتهما إلا بأركان تلك الحقيقة مثلا كما يقال أن الصدق إخبار عن أمر على ما هو عليه والكذب أخبار عن أمر على خلاف ما هو به ونحن نعلم أن من أدرك هذه الحقيقة عرف المحقق ولم يخطر بباله كونه حسنا أو قبيحا فلم يدخل الحسن والقبح إذا في صفاتهما الذاتية التي تحققت حقيقتهما بها ولوازمها في الوهم بالبديهة كما بينا ولألزمها في الوجود ضرورة فأن من الأخبار التي هي صادقة ما يلام عليه من الدلالة على هرب من ظالم ومن الأخبار التي هي كاذبة ما يثاب عليها مثل إنكار الدلالة عليه فلم يدخل كون الكذب قبيحا في حد الكذب ولا لزمه في الوهم ولا لزمه في الوجود فلا يجوز أن يعد من الصفات الذاتية التي تلزم النفس وجودا وعدما عندهم ولا يجوز أن يعد من الصفات التابعة للحدوث فلا يعقل بالبديهة ولا بالنظر فإن النظر لا بد أن يرد إلى الضروري أي
(2/152)
البديهي وإذ لا بديهي فلا مرد له أصلا فلم يبق لهم إلا الاسترواح إلى عادات الناس من تسمية ما يضر بهم قبيحا وما ينفعهم حسنا ونحن لا ننكر أمثال تلك الاسامي على أنها تختلف بعادة قوم وزمان ومكان دون مكان وإضافة دون إضافة وما يختلف بتلك النسب والإضافات لا حقيقة له في الذات فربما يستحسن قوم ذبح الحيوان وربما يستقبحه قوم وربما يكون بالنسبة إلى قوم وزمان حسنا وربما يكون قبيحا لكنا وضعنا الكلام في حكم التكليف بحيث يجب الحسن به وجوبا يثاب عليه قطعا ولا يتطرق إليه لوم أصلا ومثل هذا يمتنع إدراكه عقلا قالوا فهذه طريقة أهل الحق على أحسن ما تقرر وأحسن ما تحرر قالوا وأيضا فنحن لا ننكر اشتهار حسن الفضائل التي ذكر ضربهم بها الأمثال وقبحها بين الخلق وكونها محمودة مشكورة مثني على فاعلها أو مذمومه مذموما فاعلها ولكنا نثبتها إما بالشرائع وأما بالأغراض ونحن إنما ننكرها في حق الله عز وجل لانتفاء الأغراض عنه فإما إطلاق الناس هذه الألفاظ فيما يدور بينهم فيستمد من الأغراض ولكن قد تبدو الأغراض وتخفي فلا ينتبه لها إلا المحققون قالوا ونحن ننبه على مثارات الغلط فيه وهي ثلاثة مثارات يغلط الوهم فيها الأولى أن الإنسان يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه وأن كان يوافق غرض غيره من حيث أنه لا يلتفت إلى الغير فإن كل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر لغيره فيقضي بالقبح مطلقا وربما يضيف القبح إلى ذات الشيء ويقول هو في نفسه قبيح فقد قضى بثلاثة أمور هو مصيب في واحد منها وهو أصل الاستقباح مخطىء في أمرين أحدهما إضافة القبح إلى ذاته وغفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه والثاني حكمه بالقبح مطلقا ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره بل عن الالتفات إلى بعض أحوال نفسه فإنه قد يستحسن في بعض الأحوال عين ما يستقبحه إذا اختلف الغرض الغلطة الثانية سببها أن الوهم غالب للعقل في جميع الأحوال إلا في حالة نادرة قد لا يلتفت الوهم إلى تلك الحالة النادرة عند
(2/153)
ذكرها كحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا وغفلته عن الكذب الذي يستفاد منه عصمة نبي أو ولى وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مرة وتكرر ذلك على سمعه ولسانه إنغرس في قلبه استقباحه والنفرة منه فلو وقعت تلك الحالة النادرة وجد في نفسه نفرة عنه لطول نشوه على الاستقباح فإنه ألقي إليه منذ الصبا على سبيل التأديب والإرشاد أن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه أحد ولا ينبه على حسنه في بعض الأحوال خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الأحوال والسماع في الصغر كالنقش في الحجر وينغرس في النفس ويجد التصديق به مطلقا وهو صدق لكن لا على الإطلاق بل في أكثر الأحوال اعتقده مطلقا الغلطة الثالثة سببها سبق الوهم إلى العكس فأن من رأى شيئا مقرونا بشيء يظن أن الشيء لا محالة مقرون به مطلقا ولا يدري أن الأخص أبدا مقرون الأعمبالأعم لا يلزم
(2/154)
أن يكون مقرونا بالأخص ومثاله نفرة نفس الذي نهشته الحية عن الحبل المرقش اللون لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالأذى وكذلك ينفر عن العسل إذا شبهه بالعذرة لأنه وجد الاستقذار مقرونا بالرطب الأصفر فتوهم أن الرطب الأصفر يقترن به الاستقذار وقد يغلب عليه الوهم حتى يتعذر الأكل وأن كان حكم العقل يكذب الوهم ولكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وأن كانت كاذبة حتى أن الطبع ينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا يلازم الاسم ولهذا يورد على بعض العوام مسئلة عقلية جلية فيقبلها فإذا قلت هذا مذهب الاشعري أو المعتزلي أو الظاهري أو غيره نفر عنه أن كان سيء الاعتقاد فيمن نسبتها إليه وليس هذا طبع العامي بل طبع أكثر العقلاء المتوسمين بالعلم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على إتباعه وأكثر الخلق ترى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها وأكثر أقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام فأن الوهم عظيم الاستيلاء وكذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعة بأنه لا يتحرك ولكنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه قالوا فإذا انتبهت لهذه المثارات عرفت بها سر القضايا التي تستحسنها العقول وسر استحسانها إياها والقضايا التي تستقبحها العقول وسر استقباحها لها ولنضرب لذلك مثلين وهما مما يحتج بهما علينا أهل الإثبات المثل الأول الملك العظيم المستولي على الأقاليم إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك فإنه يميل إلى إنقاذه ويستحسنه وأن كان لا يعتقد أصل الدين لينتظر ثوابا أو مجازاة ولا سيما إذا لم يعرفه المسكين ولم يره بأن كان أعمى أصم لا يسمع الصوت وأن كان لا يوافق ذلك غرضه بل ربما يتعب به بل يحكم العقلاء بحسن الصبر على السيف إذا أكره على كلمة الكفر أو على إفشاء السر ونقض العهد وهو على خلاف غرض الكفرة وعلى الجملة فاستحسان مكارم
(2/155)
الأخلاق وإفاضة النعم لا ينكره إلا من عاند المثل الثاني العاقل إذا سنحت له حاجة وأمكن قضاؤها بالصدق كما أمكن بالكذب بحيث تساويا في حصول الغرض منهما كل التساوي فإنه يؤثر الصدق ويختاره ويميل إليه طبعه وما ذاك إلا لحسنه فلو لا أن الكذب على صفة يجب عنده الاحتراز عنه وإلا لما ترجح الصدق عنده قالوا وهذا الغرض واضح في حق من أنكر الشرائع وفي حق من لم تبلغه الدعوة حتى لا يلزموننا كون الترجيح بالتكليف فهذا من حججهم ونحن نجيب عن ذلك فتبين أنه لا يثبت حكم على هذين المثالين فنقول أما قضية إنقاذ الملك وحسنه حتى في حق من لم تبلغه الدعوة وأنكر الشرائع فسببه دفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة القلب وهو طبع يستحيل الأنفكاك عنه وذلك لأن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عن الإنقاذ فيستقبحه منه لمخالفة غرضه فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح
(2/156)
المتوهم فإن فرض في بهيمة أو شخص لا رقة فيه يفيد تصوره لو تصوره فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه فإن فرض بحيث لا يعلم أنه المنفذ فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقي ميل وترجيح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فيظن أن الثناء مقرون بها بكل حال كما أنه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل فطبعه ينفر عن الأذى فينفر عن المقرون به فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مكروه بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان فإذا نتهي إليه أحس في نفسه ذلك المكان من غيره قال الشاعر أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الأوطان وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكر تهموا عهودا جرت فيها فحنوا لذلكا قال وشواهد ذلك مما يكثر وكل ذلك من حكم الوهم قالوا وأما الصبر على السيف في تركه كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع بل ربما استقبحوه فإنما يستحسنه من ينتظر الثواب على الصبر أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة والصلابة في الدين فكم من شجاع ركب متن الخطر وهجم على عدد وهو يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله من الألم لما يعتاضه من توهم الثناء والحمد ولو بعد موته وكذلك إخفاء السر وحفظ العهد إنما يتواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح ولذلك أكثروا الثناء عليهما فمن يحتمل الضرر لا لله فإنما يحتمله لأجل الثناء فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم ولا ينتظر الثناء والثواب فهو يستقبح السعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من يفعل ذلك قطعا فمن يسلم أن مثل ذلك يؤثر الهلاك على الحياة قالوا وهذا هو الجواب عمن عرضت له حاجة وأمكن قضاؤها بالصدق والكذب واستويا عنده وإيثاره
(2/157)
الصدق على أنا نقول تقدير استواء الصدق والكذب في المقصود مع قطع النظر عن الغير تقدير مستحيل لأن الصدق والكذب متنافيان ومن المحال تساوي المتنافيين في جميع الصفات فلأجل ذلك التقدير المستحيل يستبعد العقل إيثار الكذب ومنع إيثار الصدق قالوا ولا يلزم من استبعاد منع إيثار الصدق على التقدير المستحيل استبعاده في نفس الأمر وإنما يلزم لو كان التقدير المستلزم واقعا وهو ممنوع قالوا ولئن سلمنا أن ذلك التقدير ممكن فغايته أن يدل على حسن الصدق شاهدا ولكن لا
(2/158)
يلزم حسنه غائبا إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد وهو فاسد لوضوح الفرق المانع من القياس والذي يقطع دابر القياس أن السيد لو رأى عبيده وإماءه يموج بعضهم في بعض ويركبون الظلم والفواحش وهو مطلع عليهم قادر على منعهم لقبح ذلك منه والله عز وجل قد فعل ذلك بعباده بل أعانهم وأمدهم ولم يقبح منه سبحانه ولا يصح قولهم انه سبحانه تركهم لينزجروا بأنفسهم ليستحقوا الثواب لأنه سبحانه قد علم أنهم لا ينزجرون ولم لم يمنعهم قهرا فكم من ممنوع من الفواحش لعلة وعجز وذلك أحسن من تمكينه مع العلم بأنه لا ينزجر وبالجملة فقياس أفعال الله على أفعال العباد باطل قطعا ومحض التشبيه في الأفعال ولهذا جمعت المعتزلة القدرية بين التعطيل في الصفات والتشبيه في الأفعال فهم معطلة مشبهة لباسهم معلم من الطرفين كيف وأن إنقاذ الغريق الذي استدللتم به حجة عليكم فإن نفس الإغراق والإهلاك يحسن منه سبحانه ولا يقبح وهو أقبح شيء منا فالأنقاذ إن كان حسنا فالإغراق يجب أن يكون قبيحا فإن قلتم لعل في ضمن الإغراق والإهلاك سرا لم نطلع عليه وغرضا لم نصل إليه فقدروا مثله في ترك إنقاذنا نحن للغرقى بل في إهلاكنا لمن نهلكه والفعلان من حيث التكليف والإيجاب مستويان عقلا وشرعا فإنه سبحانه لا يتضرر بمعصية العبد ولا ينتفع بطاعته ولا تتوقف قدرته في الإحسان إلى العبد على فعل يصدر من العبد بل كلما أنعم عليه ابتداء بأجزل المواهب وأفضل العطايا من حسن الصورة وكمال الخلقة وقوام البنية وإعداد الآلة وإتمام الأداة تعديل القامة وما متعه به من روح الحياة وفضله من حياة الأرواح وما أكرمه به من قبول العلم وهداه إلى معرفته التي هي أسنى جوائزه وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فهو سبحانه أقدر على الإنعام عليه دواما فكيف يوجب على العبيد عبادة شاقة في الحال لارتقاب ثواب في ثاني الحال أليس لو ألقي إليه زمام الاختيار حتى يفعل ما يشاء جريا على سوق طبعه المائل إلى لذيذ
(2/159)
الشهوات ثم أجزل له في العطاء من غير حساب كان ذلك أروح للعبد ولم يكن قبيحا عند العقل فقد تعارض الأمران : أحدهما أن يكلفهم فيأمر وينهى حتى يطاع ويعصى ثم يثيبهم ويعاقبهم على فعلهم الثاني أنه لا يكلفهم بأمر ولا نهى إذ لا ينتفع سبحانه منهم بطاعة لا يتضرر منهم بمعصية كلا بل لا تكون نعمه ثوابا بل ابتداء وإذا تعارض في العقول هذان الأمران فكيف يهتدي العقل إلى اختيار أحدهما حقا وقطعا فكيف تعرفنا العقول وجوبا على النفس بالمعرفة وعلى الجوارح بالطاعة وعلى الباري سبحانه بالثواب والعقاب قالوا ولا سيما على أصول المعتزلة القدرية فإن التكليف بالأمر والنهى والإيجاب من الله لا حقيقة له على أصلهم فإنه لا يرجع إلى ذات الرب تعالى صفة يكون بها آمرا ناهيا موجبا مكلفا بالأمر والنهى للخلق ومعلوم أنه لا يرجع إلى ذاته من الخلق صفة
(2/160)
والعقل عندهم إنما يعرفه على هذه الصفة ويستحيل عندهم أن يعرفه بأنه يقتضي ويطلب منه شيئا أو يأمره وينهاه بشيء كما يعقل كما يعقل الأمر والنهي بالطلب القائم بالآمر والناهي فإذا لم يقم به طلب استحال أن يكون آمرا ناهيا فغاية العقل عندهم أن يعرفه على صفة يستحيل عليه الاتصاف بالأمر والنهى فكيف يعرفه على صفة يريد منه طاعة فيستحق عليها ثوابا أو يكره منه معصية يستحق عليها عقابا وإذ لا أمر ولا نهى يعقل فلا طاعة ولا معصية إذا هما فرع الأمر والنهى فلا ثواب ولا عقاب إذ هما فرع الطاعة والمعصية وغاية ما يقولون أنه يخلق في الهواء أو في بحر أفعل أو لا تفعل بشرط أن لا يدل الأمر والنهى المخلوق على صفة في ذاته غير كونه عالما قادرا ومعلوم أن هذا لا يدل ألا على كون الفاعل قادرا عالما حيا مريدا لفعله وأما دلالته على حقيقة الأمر والنهى المستلزمة للطاعة والمعصية المستلزمين للثواب والعقاب فلا فتعرف من ذلك أن من نفي قيام الكلام والأمر والنهى بذات الله لم يمكنه إثبات التكليف على العبد أبدا ولا إثبات حكم للفعل بحسن ولا قبح وفي ذلك إبطال الشرائع جملة مع استنادها إلى قول من قامت البراهين على صدقه ودلت المعجزة على نبوته فضلا عن الأحكام العقلية المتعارضة المستندة إلى عادات الناس المختلفة بالإضافة والنسب والأزمنة والأمكنة والأقوال وقد عرف بهذا أن من نفي قول الله وكلامه فقد نفي التكليف جملة وصار من أخبث القدرية وشرهم مقالة حيث أثبت تكليفا وإيجابا وتحريما بلا أمر ولا نهي ولا اقتضاء ولا طلب وهذه مقدرته في حق الرب تعالى وأثبت فعلا وطاعة ومعصية بلا فاعل ولا محدث وهذه مقدرته في حق العبد فليتنبه لهذه الثلاثة قالوا وأيضا فما من معنى يستنبط من قول أو فعل ليربط به حكم مناسب له إلا ومن جنسه في العقل أمر آخر يعارضه يساويه في الدرجة أو يفضل عليه في المرتبة فيتحير العقل في الاختيار إلى أن يرد شرع يختار أحدهما ويرجحه
(2/161)
من تلقائة فيجب على العاقل اعتباره واختياره لترجيح الشرع له لا لرجحانه في نفسه ونضرب لذلك مثالا فنقول إذا قتل إنسان مثله عرض للعقل الصريح هاهنا آراء متعارضة مختلفة منها أنه يجب أن يقتل قصاصا ردعا للجناة وزجرا للطغاة وحفظا للحياة وشفاء للغيظ وتبريدا لحر المصيبة اللاحقة لأولياء القتيل ويعارضه معنى آخر أنه إتلاف بازاء إتلاف وعدوان في مقابلة عدوان ولا يحيا الأول بقتل الثاني ففيه تكثير المفسدة بإعدام النفسين وأما مصلحة الردع والزجر واستبقاء النوع فأمر متوهم وفي القصاص استهلاك محقق فقد تعارض الأمر ان وربما يعارضه أيضا معنى ثالث وراء هما فيفكر العقل أيراعى شرائط آخر وراء مجرد الإنسانية من العقل والبلوغ والعلم والجهل والكمال والنقص والقرابة والأجنبية أولا فيتحير العقل كل التحير فلا بد إذا من شارع يفصل هذه الخطة ويقرر قانونا يطرد عليه أمر الأمة وتستقيم عليه مصالحهم
(2/162)
وظهر بهذا أن المعاني المستنبطة إذا كانت راجعة إلى مجرد استنباط العقل فيلزم من ذلك أن تكون الحركة الواحدة مشتملة على صفات متناقضة واحوال متنافرة وليس معنى قولنا أن العقل استنبط منها أنها كانت موجودة في الشيء فاستخرجها العقل بل العقل تردد بين إضافات الأحوال بعضها إلى بعض ونسب الأشخاص والحركات نوعا إلى نوع وشخصا إلى شخص فيطرأ عليه من تلك المعاني ما حكيناه وأحصيناه وربما يبلغ مبلغا يشذ عن الإحصاء فعرف بذلك أن المعاني لم ترجع إلى الذات بل مجرد الخواطر الطارئة على الأصل وهي متعارضة قالوا وأيضا لوثبت الحسن والقبح العقليان لتعلق بهما الإيجاب والتحريم شاهدا وغائبا على العبد والرب واللازم محال فالملزوم كذلك أما الملازمة فقد كفانا أهل الإثبات تقريرها بالتزامهم أنه يجب على العبد عقلا بعض الأفعال الحسنة ويحرم عليه القبيح ويستحق الثواب والعقاب على ذلك وأنه يجب على الرب تعالى فعل الحسن ورعاية الصلاح والأصلح ويحرم عليه فعل القبيح والشر ومالا فائدة فيه كالعبث ووضعوا بعقولهم شريعة أوجبوا بها على الرب تعالى وحرموا عليه وهذا عندهم ثمرة المسئلة وفائدتها وأما انتفاء اللازم فإن الوجوب والتحريم بدون الشرع ممتنع إذ لو ثبت بدونه لقامت الحجة بدون الرسل والله سبحانه إنما أثبت الحجة بالرسل خاصة كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأيضا فلو ثبت بدون الشرع لا يستحق الثواب والعقاب عليه وقد نفى الله سبحانه العقاب قبل البعثة فقال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فإنما احتج عليهم بالنذير وقال تعالى ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون والحق هاهنا هو ما بعث به المرسلون باتفاق المفسرين وقال تعالى كلما ألقى فيها فوج سألهم
(2/163)
خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقال تعالى ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فلا يسألهم تبارك وتعالى عن موجبات عقولهم بل عما أجابوا به رسله فعليه يقع الثواب والعقاب وقال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم فاحتج عليهم تبارك وتعالى بما عهده إليهم على ألسنة رسله خاصة فإن عهده هو أمره ونهيه الذي بلغته رسله وقال تعالى وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين فهذا في حكم الوجوب والتحريم على العباد قبل البعثة وأما انتفاء الوجوب والتحريم على من له الخلق والأمر ولا يسأل عما يفعل فمن وجوه متعددة أحدها أن الوجوب والتحريم في حقه سبحانه غير
(2/164)
معقول على الإطلاق وكيف يعلم أنه سبحانه يجب عليه أن يمدح ويذم ويثيب ويعاقب على الفعل بمجرد العقل وهل ذلك إلا مغيب عنا فيم نعرف أنه رضى عن فاعل وسخط على فاعل وأنه يثيب هذا ويعاقب هذا ولم يخبر عنه بذلك مخبر صادق ولا دل على مواقع رضاه وسخطه عقل ولا أخبر عن محكومه ومعلومه مخبر فلم يبق إلا قياس أفعاله على أفعال عباده وهو من أفسد القياس وأعظمه بطلانا فأنه تعالى كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته فكذلك ليس كمثله شيء في أفعاله وكيف يقاس على خلقه في أفعاله فيحسن منه ما يحسن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم ونحن نرى كثيرا من الأفعال تقبح منا وهي حسنة منه تعالى كإيلام الأطفال والحيوان وإهلاك من لو أهلكناه نحن لقبح منا من الأموال والأنفس وهو منه تعالى مستحسن غير مستقبح وقد سئل بعض العلماء عن ذلك فأنشد السائل ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا ونحن نرى ترك إنقاذ الفرقي والهلكي قبيحا منا وهو سبحانه إذا أغرقهم وأهلكهم لم يكن قبيحا منه ونرى ترك أحدنا عبيده وإماءه يقتل بعضهم بعضا ويسيء بعضهم بعضا ويفسد بعضهم بعضا وهو متمكن من منعهم قبيحا وهو سبحانه قد ترك عباده كذلك وهو قادر على منعهم وهو منه حسن غير قبيح وإذا كان هذا شأنه سبحانه وشأننا فكيف يصبح قياس أفعاله على أفعالنا فلا يدرك إذا للوجوب والتحريم عليه وجه كيف والإيجاب والتحريم يقتضي موجبا ومحرما آمرا ناهيا وبينه فرق وبين الذي يجب عليه ويحرم وهذا محال في حق الواحد القهار فالإيجاب والتحريم طلب للفعل والترك على سبيل الاستعلاء فكيف يتصور غائبا قالوا وأيضا فلهذا الإيجاب والتحريم اللذين زعمتم على الله لوازم فاسدة يدل فسادها على فساد الملزوم اللازم الأول إذا أوجبتم على الله تعالى رعاية الصلاح والأصلح في أفعاله فيجب أن توجبوا على العبد رعاية الصلاح والأصلح أيضا في أفعاله حتى يصح اعتبار الغائب بالشاهد وإذا لم يجب علينا
(2/165)
رعايتهما بالاتفاق بحسب المقدور بطل ذلك في الغائب و لا يصح تفريقكم بين الغائب والشاهد بالتعب والنصب الذي يلحق الشاهد دون الغائب لآن ذلك لو كان فارقا في محل الإلزام لكان فارقا في أصل الصلاح فأن ثبت الفرق في صفته ومقداره ثبت في أصله وأن بطل الفرق ثبت الإلزام المذكور اللازم الثاني إن القربات من النوافل صلاح فلو كان الصلاح واجبا وجب وجوب الفرائض اللازم الثالث أن خلود أهل النار في النار يجب أن يكون صلاحا لهم دون أن يردوا فيعتبوا ربهم ويتوبوا إليه ولا ينفعكم اعتذاركم عن هذا الإلزام بأنهم لوردوا لعادوا لما نهوا عنه فإن هذا حق ولكن لو أماتهم وأعدمهم فقطع عتابهم كان أصلح لهم ولو غفر لهم ورحمهم وأخرجهم من النار كان أصلح لهم من إماتتهم
(2/166)
واعدا مهم ولم يتضرر سبحانه بذلك اللازم الرابع أن ما فعله الرب تعالى من الصلاح وألاصلح وتركه من الفساد والعبث لو كان واجبا عليه لما استوجب بفعله له حمدا وثناء فإنه في فعله ذلك قد قضي ما وجب عليه وما استوجبه العبد بطاعته من ثوابه فإنه عندكم حقه الواجب له على ربه ومن قضى دينه لم يستوجب بقضائه شيئا آخر اللازم الخامس أن خلق إبليس وجنوده أصلح للخلق وأنفع لهم من أن لم يخلق مع أن إقطاعه من العباد من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون اللازم السادس انه مع كون خلقه أصلح لهم وأنفع أن يكون أنظاره إلى يوم القيامة أصلح لهم وأنفع من إهلاكه وإماتته اللازم السابع أن يكون تمكينه من إغوائهم وجريانه منهم مجرى الدم في أبشارهم أنفع لهم وأصلح لهم من أن يحال بينهم وبينه اللازم الثامن أن يكون إماتة الرسل أصلح للعباد من بقائهم بين أظهرهم مع هدايتهم لهم وأصلح من أن يحال بينهم وبينه اللازم الثامن أن يكون إمانة الرسل أصلح للعباد من بقائهم بين أظهرهم مع هدايتهم لهم وأصلح من أن يحال بينهم وبينها اللازم التاسع ما ألزمه أبو الحسن الأشعرى للجبائي وقد سأله عن ثلاثة أخوة أمات الله أحدهم صغيرا وأحيا الآخرين فاختار أحدهما الإيمان والآخر الكفر فرفع درجة المؤمن البالغ على أخيه الصغير في الجنة لعمله فقال أخوه يا رب لم لا تبلغني منزلة أخي فقال إنه عاش وعمل أعمالا استحق بها هذه المنزلة فقال يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله فقال كان الأصلح لك أن توفيتك صغيرا لأني علمت أنك إن بلغت اخترت الكفر فكان الأصلح في حقك أن أمتك صغيرا فنادى أخوهما الثالث من أطباق النار يا رب فهلا عملت معي هذا الأصلح واختر متني صغيرا كما عملته مع أخي واخترمتني صغيرا فأسكت الجبائي ولم يجبه بشيء فإذا علم الله سبحانه أنه لو اخترم العبد قبل البلوغ وكمال العقل لكان ناجيا ولو أمهله وسهل له النظر لعاند وكفر وجحد فكيف يقال إن الأصلح في حقه
(2/167)
إبقاؤه حتى يبلغ والمقصود عندكم بالتكليف الاستصلاح والتعويض بأسني الدرجات التي لا تنال إلا بالأعمال أو ليس الواحد منا إذا علم من حال ولده أنه إذا أعطي مالا يتجر به فهلك وخسر بسبب ذلك فإنه لا يعرضه لذلك ويقبح منه تعريضه له وهو من رب العالمين حسن غير قبيح وكذلك من علم من حال ولده انه لو أعطاه سيفا أو سلاحا يقاتل به العدو فقتل به نفسه وأعطى السلاح لعدوه فإنه يقبح منه إعطاؤه ذلك السلاح والرب تعالى قد علم من أكثر عباده ذلك ولم يقبح منه سبحانه تمكينهم وإعطاؤهم الآلات بل هو حسن منه كيف وقد ساعدوا على نفوسهم أن الله سبحانه لو علم أنه لو أرسل رسولا إلى خلقه وكلفه الأداء عنه مع علمه بأنه لا يؤدى فإن علمه سبحانه بذلك يصرفه عن إرادة الخير والصلاح وهذا بمثابة من أدلى حبلا إلى غريق ليخلص نفسه من الغرق مع علمه بأنه يخنق نفسه به وقد ساعدوا أيضا على نفوسهم بأن الله سبحانه إذا علم أن في تكليفه عبدا من عباده فساد الجماعة فإنه يقبح تكليفه لأنه استفساد لمن يعلم
(2/168)
أنه يكفر عند تكليفه الإلزام الحادي عشر أنهم قالوا وصدقوا بأن الرب تعالى قادر على التفضل بمثل الثواب ابتداء بلا واسطة عمل فأي غرض له في تعريض العباد للبلوى والمشاق ثم قالوا وكذبوا الغرض في التكليف أن استيفاء المستحق حقه أهنا له وألذ من قبول التفضل واحتمال المنة وهذا كلام أجهل الخلق بالرب تعالى وبحقه وبعظمته ومساو بينه وبين أحاد الناس وهو من أقبح النسبة وأخبثه تعالى الله عن ضلالهم علوا كبيرا فكيف يستنكف العبد المخلوق المربوب من قبول فضل الله تعالى ومنته وهل المنة في الحقيقة إلا الله المان بفضله قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ولما قال النبي للأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي فأجابوه بقولهم الله ورسوله أمن ويا للعقول التي قد خسف بها أي حق للعبد على الرب حتى يمتنع من قبول منته عليه فبأي حق استحق الأنعام عليه بالإيجاد وكمال الخلقة وحسن الصورة وقوام البنية وإعطائه القوى والمنافع والآلات والأعضاء وتسخير ما في السموات وما في الأرض له ومن أقل ماله عليه من النعم التنفس في الهواء الذي لا يكاد يخطر بباله أنه من النعم وهو في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس فإذا كانت أقل نعمه عليهم ولا أقل منها أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم وليلة فما الظن بما هو أجل منها من النعم فيا للعقول السخيفة المخسوف بها أي علم لكم وأي سعي يقابل القليل من نعمه الدنيوية حتى لا يبقى لله عليكم منه إذا أثابكم لأنكم استوفيتم ديونكم قبله ولا نعمة له عليكم فيها فأي أمة من الأمم بلغ جهلها بالله هذا المبلغ واستنكفت عن قبول منته وزعمت أن لها الحق على ربها وأن تفضله عليها ومنته
(2/169)
مكدر لا لتذاذها بعطائه ولو أن العبد استعمل هذا الأدب مع ملك من ملوك الدنيا لمقته وأبعده وسقط من عينه مع أنه لا نعمة له عليه في الحقيقة إنما المنعم في الحقيقة هو الله ولى النعم وموليها ولقد كشف القوم عن أقبح عورة من عورات الجهل بهذا الرأي السخيف والمذهب القبيح والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به أرباب هذا المذهب المستنكفين من قبول منة الله الزاعمين أن ما أنعم الله به عليهم حقهم عليه وحقهم قبله وأنه لا يستحق الحمد والثناء على أداء ما عليه من الدين والخروج مما عليه من الحق لأن أداء الواجب يقتضي غيره تعالى الله عن إفكهم وكذبهم علوا كبيرا الإلزام الثاني عشر أنه يلزمهم أن يوجبوا على الله عز وجل أن يميت كل من علم من الأطفال أنه لو بلغ لكفر وعاند فإن اخترامه هو الأصلح له بلا ريب أو أن يجحدوا علمه سبحانه بما سيكون قبل كونه كما التزمه سلفهم الخبيث الذين
(2/170)
اتفق سلف الأمة الطيب على تكفيرهم ولا خلاص لهم عن أحد هذين الإلزامين إلا بالتزام مذهب أهل السنة والجماعة أن أفعال الله تعالى لا نقاس بأفعال عباده ولا تدخل تحت شرائع عقولهم القاصرة بل أفعاله لا تشبه أفعال خلقه ولا صفاته صفاتهم ولا ذاته ذواتهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الإلزام الثالث عشر أنه سبحانه لا يؤلم أحدا من خلقه أبدا لعدم المنفعة في ذلك بالنسبة إليه وإلى العبد ولا ينفعكم اعتذاركم بأن الإيلام سبب مضاعفة الثواب ونيل الدرجات العلى وأن هذا ينتقض بالحيوان البهيم وينتقض بالأطفال الذين لا يستحقون ثوابا ولا عقابا ولا ينفعكم اعتذاركم بأن الطفل ينتفع به في الآخرة في زيادة ثوابه لا نتقاضه عليكم بالطفل الذي علم الله أنه يبلغ ويختار الكفر والجحود فأي مصلحة له في إيلامه وأي معنى ذكر تموه على أصولكم الفاسدة فهو منتقض عليكم بما لا جواب لكم عنه الإلزام الرابع عشر ان من علم الله سبحانه إذا بلغ الأطفال يختاروا الإيمان والعمل الصالح فأن الأصلح في حقه أن يحييه حتى يبلغ ويؤمن فينال بذلك الدرجة العالية وأن لا يحترمه صغيرا وهذا مما لا جواب لكم عنه الإلزام الخامس عشر وهو من أعظم الإلزامات وأصحها الزاما وقد التزمه القدرية وهو أنه ليس في مقدور الله تعالى لطف لو فعله الله تعالى بالكفار لآمنوا وقد التزم المعتزلة القدرية هذا اللازم وبنوه على أصلهم الفاسد أنه يجب على الله تعالى أن يفعل في حق كل عبد ما هو الأصلح له فلو كان في مقدوره فعل يؤمن العبد عنده لو جب عليه أن يفعله به والقرآن من أوله إلى آخره يرد هذا القول ويكذبه ويخبر تعالى أنه لو شاء لهدى الناس جميعا ولو شاء لا من من في الأرض كلهم جميعا ولو شاء لآتي كل نفس هداها الإلزام السادس عشر وهو مما التزمه القوم أيضا أن لطفه ونعمته وتوفيقه بالمؤمن كلطفه بالكافر وأن نعمته عليهما سواء لم يخص المؤمن بفضل عن الكافر وكفى بالوحي وصريح
(2/171)
المعقول وفطرة الله والاعتبار الصحيح وإجماع الأمة ردا لهذا القول وتكذيبا له الإلزام السابع عشر أن ما من أصلح إلا وفوقه ما هو أصلح منه والاقتصار على رتبة واحدة كالاقتصار على الصلاح فلا معنى لقولكم يجب مراعاة الأصلح إذ لا نهاية له فلا يمكن في الفعل رعايته الإلزام الثامن عشر أن الإيجاب والتحريم يقتضي سؤال الموجب المحرم لمن أوجب عليه وحرم هل فعل مقتضى ذلك أم لا وهذا محال في حق من لا يسئل عما يفعل وإنما يعقل في حق المخلوقين وأنهم يسألون وبالجملة فتحتم بهذه المسئلة طريقا للإستغناء عن الصواب وسلطتم بها الفلاسفة والصابئة والبراهمة وكل منكر للنبوات فهذه المسئلة بيننا وبينهم فانكم إذا زعمتم أن العقل حاكما يحسن ويقبح ويوجب ويحرم ويتقاضى الثواب والعقاب لم تكن الحاجة إلى البعثة ضرورية لإمكان الإستغناء عنها بهذا الحاكم ولهذا قالت الفلاسفة وزادت عليكم حجة وتقريرا قد اشتمل الوجود على خير مطلق وشر مطلق وخير وشر ممتزجين والخير المطلق مطلوب في العقل لذاته والشر المطلق
(2/172)
مرفوض في العقل لذاته والممتزج مطلوب من وجه ومرفوض من وجه وهو بحسب الغالب من جهته ولا يشك العاقل أن العلم بجنسه ونوعه خير ومحمود ومطلوب والجهل بجنسه ونوعه شر في العقل فهو مستقبح عند الجمهور والفطر السليمة داعية إلى تحصيل المستحسن ورفض المستقبح سواء حمله عليه شارع أو لم يحمله ثم الأخلاق الحميدة والخصال الرشيدة من العفة والجود والسخاء والنجدة مستحسنات فعلية وأضدادها مستقبحات فعلية وكمال حال الإنسان أن تستكمل النفس قوى العلم الحق والعمل الخير والشرائع إنما ترد بتمهيد ما تقرر في العقل لا بتغييره لكن العقول الحرونة لما كانت قاصرة عن اكتساب المعقولات بأسرها عاجزة عن الاهتداء إلى المصلحة الكلية الشاملة لنوع الإنسان وجب من حيث الحكمة أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يحملهم على الإيمان بالغيب جملة ويهديهم إلى مصالح معاشهم ومعادهم تفصيلا فيكون قد جمع لهم بين حظي العلم والعدل على مقتضى العقل وحملهم على التوجه إلى الخير المحض والإعراض عن الشر المحض استبقاء لنوعهم واستدامة لنظام العالم ثم ذاك الشارع يجب أن يكون مميزا من بينهم بآيات تدل على أنها من عند ربه سبحانه راجحا عليهم بعقله الرزين ورأية المتين وحديثه النافذ وخلقه الحسن وسمته وهديه يلين لهم في القول ويشاورهم في الأمر ويكلمهم على قدر عقولهم ويكلفهم بحسب وسعهم وطاقتهم قالوا وقد أخطأت المعتزلة حين ردوا الحسن والقبيح إلى الصفات الذاتية للأفعال وكان من حقهم تقرير ذلك في العلم والجهل إذ الأفعال تختلف بالأشخاص والأزمان وسائر الإضافات وليس هي على صفات نفسية لازمة لها بحيث لا تفارقها البتة ثم زادت الصائبة في ذلك على الفلاسفة وقالوا لما كانت الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات التي هي مدبرات الكواكب وكان في اتصالاتها نظر سعيد ونحس واجب أن يكون في آثارها حسن وقبح في الأخلاق والخلق والأفعال والعقول الإنسانية
(2/173)
متساوية في النوع فوجب أن يدركها كل عقل سليم وطبع قويم لا تتوقف معرفة المعقولات على من هو مثل ذلك العاقل في النوع فنحن لا نحتاج إلى من يعرفنا حسن الأشياء وقبحها وخيرها وشرها ونفعها وضرها وكما أنا نستخرج بالعقول من طبائع الأشياء ومنافعها ومضارها كذلك نستنبط من أفعال نوع الإنسان حسنها وقبيحها فنلابس ما هو أحسن منها بحسب الاستطاعة ونجتنب ما هو قبيح منها بحسب الطاقة فأي حاجة بنا إلى شارع يتحكم على عقولنا وزادت التناسخية على الصائبية بأن قالوا نوع الإنسان لما كان موصوفا بنوع اختيار في أفعاله مخصوصا بنطق وعقل في علومه وأحواله ارتفع عن الدرجة الحيوانية ارتفاع استخسار لها فإن كانت أعماله على مناهج الدرجة الإنسانية ارتفعت إلى الملائكة وإن كانت مناهج الدرجة الحيوانية انخفضت إليها أو إلى أسفل وهو أبدا في أحد
(2/174)
أمرين إما فعل يقتضي جزاء أو مجازاة على فعل فما باله يحتاج في أفعاله وأحواله إلى شخص مثله يحسن أو يقبح فلا العقل يحسن ويقبح ولا الشرع ولكن حسن أفعاله جزاء على حسن أفعال غيره وقبح أفعاله كذلك وربما يظهر حسنها وقبحها صورا حيوانية روحانية وإنما يصير الحسن والقبح في الحيوانات أفعالا إنسانية وليس بعد هذا العالم عالم آخر يحكم فيه ويحاسب ويثاب ويعاقب وزادت البراهمة على التناسخية بأن قالوا نحن لا نحتاج إلى شريعة وشارع أصلا فأن ما يأمر به النبي لا يخلو إما أن يكون معقولا أو غير معقول فإن كان معقولا فقد استغنى بالعقل عن النبي وأن لم يكن معقولا لم يكن مقبولا فهذه الطوائف كلها لما جعلت في العقل حاكما بالحسن والقبح أداها إلى هذه الآراء الباطلة والنحل الكافرة وأنتم يا معاشر المثبتة يصعب عليكم الرد عليهم وقد وافقتموهم على هذا الأصل وأما نحن فأخذنا عليهم رأس الطريق وسددنا عليهم الأبواب فمن طرق لهم الطريق وفتح لهم الأبواب ثم رام مناجزة القوم فقد رام مرتقى صعبا فهذه مجامع جيوش النفاة قد وافتك بعددها وعديدها وأقبلت إليك بحدها وحديدها فإن كنت من أبناء الطعن والضرب فقد التقى الزحفان وتقابل الصفان وإن كنت من أصحاب التلول فالزم مقامك ولا تدن من الوطيس فإنه قد حمى وإن كنت من اهل الأسراب الذين يسألون عن الأنباء ولا يثبتون عند اللقاء فدع الحروب لأقوام لها خلقوا ومالها من سوى أجسامهم جنن ولا تلمهم على ما فيك من جبن فبئست الحلتان اللؤم والجبن قال المتوسطون من أهل الإثبات ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حق وباطل ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه ونبطل ما معه من الباطل وترده عليه فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين من غير أن ننتسب لي ذي مقالة وطائفة معينة انتسابا يحملنا على قبول جميع أحوالها والانتصار لها بكل غث وسمين ورد جميع أقوال خصومها
(2/175)
ومكابريها على ما معها من الحق حتى لو كانت تلك الأقوال منسوبة إلى رئيسها وطائفتها لبالغت في نصرتها وتقريرها وهذه آفة ما نجا منها إلا من أنعم الله عليه وأهله لمتابعة الحق أين كان ومع من كان وأما من يرى أن الحق وقف مؤبد على طائفته وأهل مذهبه وحجر محجور على من سواهم ممن لعله أقرب إلى الحق والصواب منه فقد حرم خيرا كثيرا وفاته هدى عظيم وهنا نحن نجلس مجلس الحكومة بين هاتين المقالتين فمن أدلى بحجته في موضع كان المحكوم له في ذلك الموضع وأن كان المحكوم عليه حيث يدلى خصمه بحجته والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق والعدل بين الطوائف المختلفة قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن
(2/176)
أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله تجتبيء إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم فأخبر تعالى أنه شرع لنا دينه الذي وصى به نوحا والنبيين من بعده وهو دين واحد ونهانا عن التفريق فيه ثم أخبرنا أنه ما تفرق من قبلنا في الدين إلا بعد العلم الموجب للإثبات وعدم التفرق وأن الحامل على ذلك التفرق البغي من بعضهم على بعض وإرادة كل طائفة أن يكون العلو والظهور لها ولقولها دون غيرها وإذا تأملت تفرق أهل البدع والضلال رأيته صادرا عن هذا بعينه ثم أمر سبحانه نبيه أن يدعو إلى دينه الذي شرعه لأنبيائه وأن يستقيم كما أمره ربه وحذره من اتباع أهواء المتفرقين وأمره أن يؤمن بكل ما أنزله الله من الكتب وهذه حال المحق أن يؤمن بكل ما جمعه من الحق على لسان أي طائفة كانت ثم أمره أن يخبرهم بأنه أمر بالعدل بينهم وهذا يعم العدل في الأقوال والأفعال والآراء والمحاكمات كلها فنصبه ربه ومرسله للعدل بين الأمم فهكذا وارثه ينتصب للعدل بين المقالات والآراء والمذاهب ونسبته منها إلى القدر المشترك بينهما من الحق فهو أولى به وبتقريره وبالحكم لمن خاصم به ثم أمره أن يخبرهم بأن الرب المعبود واحد فما الحامل للتفرق والاختلاف وهو ربنا وربكم والدين واحد ولكل عامل عمله لا يعدوه إلى غيره ثم قال لا حجة بيننا وبينكم والحجة ههنا هي الخصومة أي للخصومة ولا وجه لخصومة بيننا وبينكم بعدما ظهر الحق وأسفر صبحه وبانت أعلامه وانكشفت الغمة عنه وليس المراد نفي الاحتجاج من الطرفين كما يظنه بعض من لا يدرى ما يقول وأن الدين لا احتجاج فيه كيف والقرآن من أوله إلى آخره حجج وبراهين على أهل
(2/177)
الباطل قطعية يقينية وأجوبة لمعارضتهم وإفسادا لأقوالهم بأنواع الحجج والبراهين وإخبارا عن أنبيائه ورسله بإقامة الحجج والبراهين وأمر لرسوله بمجادلة المخالفين بالتي هي أحسن وهل تكون المجادلة إلا بالاحتجاج وإفساد حجج الخصم وكذلك أمر المسلمين بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن وقد ناظر النبي جميع طوائف الكفر أتم مناظرة وأقام عليهم ما أفحمهم به من الحجج حتى عدل بعضهم إلى محاربته بعد أن عجز عن رد قوله وكسر حجته واختار بعضهم مسالمته ومتاركته وبعضهم بذل الجزية عن يد وهو صاغر كل ذلك بعد إقامة الحجج عليهم وأخذها بكظمهم وأسرها لنفوسهم وما استجاب له من استجاب إلا بعد أن وضحت له الحجة ولم يجد إلى ردها سبيلا وما خالفه أعداؤه إلا عنادا منهم وميلا إلى المكابرة بعد اعترافهم بصحة حججه وأنها لا تدفع فما قام الدين إلا على ساق الحجة فقوله لا
(2/178)
حجة بيننا وبينكم أي لا خصومة فإن الرب واحد فلا وجه للخصومة فيه ودينه واحد وقد قامت الحجة وتحقق البرهان فلم يبق للاحتجاج والمخاصمة فائدة فإن فائدة الاحتجاج ظهور الحق ليتبع فإذا ظهر وعانده المخالف وتركه جحودا وعنادا لم يبق للاحتجاج فائدة فلا حجة بيننا وبينكم أيها الكفار فقد وضح الحق واستبان ولم يبق إلا الإقرار به أو العناد والله يجمع بيننا يوم القيامة فيقضي للمحق على المبطل وإليه المصير قالوا وهما نحن نتحرى القسط بين الفريقين عما يقوله المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم مما ولوا ويكفي في هذا قوله تعالى يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله أن الله خبير بما تعملون قالوا قد أصاب أهل الإثبات من المعتزلة في قولهم أن الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل والشرع وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر والعقول من تحسين الحسن والأمر به وتقبيح القبيح والنهى عنه وأنه لم يجيء بما يخالف العقل والفطرة وأن جاء بما يعجز العقول عن أحواله والاستقلال به فالشرائع جاءت بمجازات العقول لا محالاتها وفرق بين مالا تدرك العقول حسنه وبين ما تشهد بقبحه فالأول مما يأتي به الرسل دون الثاني وأخطؤا في ترتيب العقاب على هذا القبيح عقلا كما تقدم وأصابوا في إثبات الحكمة لله تعالى وأنه سبحانه لا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة له وأخطؤا في موضعين أحدهما أنهم أعادوا تلك الحكمة إلى المخلوق ولم يعيدوها إلى الخالق سبحانه على فاسد أصولهم في نفي قيام الصفات به فنفوا الحكمة من حيث أثبتوها وجحدوها من حيث أقروا بها الموضع الثاني انهم وضعوا لتلك الحكمة شريعة بعقولهم وأوجبوا على الرب تعالى بها وحرموه وشبهوه بخلقه في أفعاله
(2/179)
بحيث ما حسن منهم حسن منه وما قبح منهم قبح منه فلزمتهم بذلك اللوازم الشنيعة وضاق عليهم المجال وعجزوا عن التخلص عن تلك الالتزامات ولو أنهم أثبتوا له حكمة تليق به لا يشبه خلقه فيها بل نسبتها إليه كنسة صفاته إلى ذاته فكما أنه لا يشبه خلقه في صفاته فكذلك في أفعاله ولا يصح الاستدلال بقبح القبح وحسن الحسن منهم على ثبوت ذلك في حقه تعالى ومن هاهنا استطال عليهم النفاة وصاحوا عليهم من كل قطر وأقاموا عليهم ثائرة الشناعة وأصابوا أيضا في قولهم بأن الرب تعالى لا يمتنع في نفسه الوجوب والتحريم وأخطأوا في جعل ذلك تابعا لمقتضى عقولهم وآرئهم بل يجب عليه ما أوجبه على نفسه ويحرم عليه ما حرمه هو على نفسه فهو الذي كتب على نفسه الرحمة وأحق على نفسه ثواب المطيعين وحرم على نفسه الظلم كما جعله محرما بين عباده وأصابوا في قولهم أنه سبحانه لا يحب الشر
(2/180)
والكفر وأنواع الفساد بل يكرهها وأنه يحب الإيمان والخير والبر والطاعة ولكن أخطأوا في تفسير هذه المحبة والكراهة بمجرد معان مفهومة من ألفاظ خلقها في الهواء أو في الشجرة ولم يجعلوها معاني ما يهدى به تعالى على فاسد أصولهم في التعطيل ونفي الصفات فنفوا المحبة والكراهة من حيث أثبتوها وأعادوها إلى مجرد الشرع ولم يثبتوا له حقيقة قائمة بذاته فإن شرع الله هو أمره ونهيه ولم يقم به عندهم أمر ولا نهى فحقيقة قولهم أنه لا شرع ولا محبة ولا كراهة فإن زخرفوا القول وتحيلوا لإثبات ما سدوا على نفوسهم طريق إثباته وأصابوا أيضا في قولهم أن مصلحة المأمور تنشأ من الفعل تارة ومن الأمر تارة أخرى فرب فعل لم يكن منشأ لمصلحة المكلف فلما أمر به صار منشأ لمصلحة بالأمر ولو توسطوا هذا التوسط وسلكوا هذا المسلك وقالوا إن المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به تارة ومن الأمر تارة ومنهما تارة ومن العزم المجرد تارة لانتصفوا من خصومهم فمثال الأول الصدق والعفة والإحسان والعدل فإن مصالحها ناشئة منها ومثال الثاني التجرد في الإحرام والتطهر بالتراب والسعي بين الصفى والمروة ورمي الجمار ونحو ذلك فإن هذه الأفعال لو تجردت عن الأمر لم تكن منشأ لمصلحة فلما أمر بها نشأت مصلحتها من نفس الأمر ومثال الثلث الصوم والصلاة والحج وإقامة الحدود وأكثر الأحكام الشرعية فإن مصلحتها ناشئة من الفعل والأمر معا فالفعل يتضمن مصلحة والأمر بها يتضمن مصلحة أخرى فالمصلحة فيها من وجهين ومثال الرابع أمر الله تعالى خليله إبراهيم بذبح ولده فإن المصلحة إنما نشأت من عزمه على المأمور به لا من نفس الفعل وكذلك أمره نبيه ليلة الإسراء بخمسين صلاة فلما حصرتم المصلحة في الفعل وحده تسلط عليكم خصومكم بأنواع المناقضات والإلزامات قالوا وقد أصاب النفاة حيث قالوا إن الحجة إنما تقوم على العباد بالرسالة وإن الله لا يعذبهم قبل البعثة ولكنهم نقضوا الأصل ولم يطردوه حيث جوزوا
(2/181)
تعذيب من لم تقم عليه الحجة أصلا من الأطفال والمجانين ومن لم تبلغه الدعوة وأخطؤا في تسويتهم بين الأفعال التي خالف الله بينها فجعل بعضها حسنا وبعضها قبيحا وركب في العقول والفطر التفرقة بينهما كما ركب في الحواس التفرقة بين الحلو والحامض والمر والعذب والسخن والبارد والضار والنافع فزعم النفاة أنه لا فرق في نفس الأمر أصلا بين فعل وفعل في الحسن والقبح وإنما يعود الفرق إلى عادة مجردة أو وهم أو خيال أو مجرد الأمر والنهى وسلبوا الأفعال حتى خواصها التي جعلها الله عليها من الحسن والقبح فخالفوا الفطر والعقول وسلطوا عليهم خصومهم بأنواع الإلزامات والمناقضات الشنيعة جدا ولم يجدوا إلى ردها سبيلا إلا بالعناء وجحدوا الضرورة وأصابوا في نفيهم الإيجاب والتحريم على الله الذي أثبتته القدرية من المعتزلة
(2/182)
ووضعوا على الله شريعة بعقولهم قادتهم إلى مالا قبل لهم به من اللوازم الباطلة وأخطأوا في نفيهم عنه إيجاب ما أوجبه على نفسه وتحريم ما حرمه على نفسه بمقتضى حكمته وعدله وعزته وعلمه وأخطاوا أيضا في نفسهم حكمته تعالى في خلقه وأمره وأنه لا يفعل شيئا لشيء ولا يأمر بشيء لشيء وفي إنكارهم الأسباب والقوى التي أودعها الله في الأعيان والأعمال وجعلهم كل لام دخلت في القرآن لتعليل أفعاله وأوامره لام عاقبة وكل باء دخلت لربط السبب بسببه باء مصاحبة فنفوا الحكم والغايات المطلوبة في أوامره وأفعاله وردوها إلى العلم والقدرة فجعلوا مطابقة المعلوم للعلم ووقوع المقدور على وفق القدرة هو الحكمة ومعلوم أن وقوع المقدور بالقدرة ومطابقة المعلوم للعلم عين الحكمة والغايات المطلوبة من الفعل وتعلق القدرة بمقدورها والعلم بمعلومة اعم من كون المعلوم والمقدور مشتملا على حكمة ومصلحة أو مجردا عن ذلك والأعم لا يشعر بالأخص ولا يستلزمه وهل هذا في الحقيقة الأنفي للحكمة وإثبات لأمر آخر وأخطاوا في تسويتهم بين المحبة والمشيئة وأن كل ما شاءه الله من الأفعال والأعيان فقد أحبه ورضيتة وما لم يشأه نقد كرهه وأبغضه فمحبته مشيئته وإرادته العامة وكراهته وبغضه عدم مشيئته وإرادته فلزمهم من ذلك أن يكون إبليس محبوبا له وفرعون وهامان وجميع الشياطين والكفار بل أن يكون الكفر والفسوق والظلم والعدوان الواقعة في العالم محبوبة له مرضية وأن يكون الإيمان والهدى ووفاء العهد والبر التي لم توجد من الناس مكروهة مسخوطة له مكروهة ممقوتة عنده فسووا بين الأفعال التي فاوت الله بينها وسووا بين المشيئة المتعلقة بتكوينها وإيجادها والمحبة المتعلقة بالرضى بها وأخيارها وهذا مما استطال به عليهم خصومهم كما استطالوا هم عليهم حيث أخرجوها عن مشيئة الله وإرادته العامة ونفوا تعلق قدرته وخلقه بها فاستطال كل من الفريقين على الآخر بسبب ما معهم من الباطل وهدى الله أهل
(2/183)
السنة الذين هم وسط في المقالات والنحل لما اختلف الفريقان فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم فالقدرية حجروا على الله وألزموه شريعة حرموا عليه الخروج عنها وخصومهم من الجبرية جوزوا عليه كل فعل ممكن يتنزه عنه سبحانه إذ لا يليق بغناه وحمده وكماله ما نزه نفسه عنه وحمد نفسه بأنه لا يفعله فالطائفتان متقابلتان غاية التقابل والقدرية أثبتوا له حكمة وغاية مطلوبة من افعاله على حسب ما أثبتوه لخلقه والجبرية نفوا والقدرية أثبتوا له حكمته اللائقة به التي لا يشابهه فيها أحد والقدرية قالت أنه لا يريد من عباده طاعتهم وإيمانهم وأنه لا يسأل ذلك منهم والجبرية قالت أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضاه من فاعله والقدرية قالت أنه يجب عليه سبحانه أن يفعل بكل شخص ما هو الأصلح له والجبرية قالت أنه يجوز أن يعذب أولياءه وأهل طاعته ومن لم يطعه قط وينعم أعداءه ومن كفر به
(2/184)
وأشرك ولا فرق عنده بين هذا وهذا فليعجب العاقل من هذا التقابل والتباعد الذي يزعم كل فريق أن قولهم هو محض العقل وما خالفه باطل بصريح العقل وكذلك القدرية قالت أنه ألقى إلى عباده زمام الاختيار وفوض إليهم المشيئة والإرادة وأنه لم يخص أحدا منهم دون أحد بتوفيق ولا لطف ولا هداية بل ساوى بينهم في مقدوره ولو قدر أن يهدى أحدا ولم يهده كان بخلا وأنه لا يهدى أحدا ولا يضله إلا بمعنى البيان والإرشاد وأما خلق الهدى والضلال فهو إليهم ليس إليه وقالت الجبرية أنه سبحانه أجبر عباده على أفعالهم بل قالوا أن أفعالهم هي نفس أفعاله ولا فعل لهم في الحقيقة ولا قدرة ولا اختيار ولا مشيئة وإنما يعذبهم على ما فعله هو لا على ما فعلوه ونسبة أفعالهم إليه كحركات الأشجار والمياه والجمادات فالقدرية سلبوه قدرته على أفعال العباد ومشيئته لها والجبرية جعلوا أفعال العباد نفس أفعاله وأنهم ليسوا فاعلين لها في الحقيقة ولا قادرين عليها فالقدرية سلبته كمال ملكه والجبرية سلبته كمال حكمته والطائفتان سلبته كمال حمده وأهل السنة الوسط أثبتوا كمال الملك والحمد والحكمة فوصفوه بالقدرة التامة على كل شيء من الأعيان وأفعال العباد وغيرهم وأثبتوا له الحكمة التامة في جميع خلقه وأمره واثبتوا له الحمد كله في جميع ما خلقه وأمر به ونزهوه عن دخوله تحت شريعة يضعها العباد بآرائهم كما نزهوه عما نزه نفسه عنه مما لا يليق به فاستولوا على محاسن المذاهب وتجنبوا أرداها ففازوا بالقدح المعلى وغيرهم طاف على أبواب المذاهب ففاز باخس المطالب والهدى هدى يختص به من يشاء من عباده
فصل إذا عرفت هذه المقدمة فالكلام على كلمات النفاة من وجوه :
(2/185)
أحدها قولكم لو قدر الإنسان نفسه وقد خلق تام الخلقة تام العقل دفعة من غير تأدب بتأديب الأبوين ولا تعلم من معلم ثم عرض عليه أمران : أحدهما أن الواحد أكثر من الاثنين والآخر أن الكذب قبيح لم يتوقف في الأول ويتوقف في الثاني فهذا تقدير مستحيل ركبتم عليه أمرا غير معلوم الصحة فإن تقدير الإنسان كذلك محال الوجه الثاني سلمنا إمكان التقدير لكن لم قلتم بأنه لا يتوقف في كون الواحد نصف الاثنين ويتوقف في كون الكذب قبيحا بعد تصور حقيقته فلا نسلم أنه إذا تصور ماهية الكذب توقف في الجزم بقبحه وهل هذا إلا دعوة مجردة الوجه الثالث سلمنا أنه قد يتوقف في الحكم بقبحه ولكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون قبيحا لذاته وقبحه معلوم للعقل وتوقف الذهن في الحكم العقلي لا يخرجه عن كونه عقليا ولا يجب التساوي في العقليات إذ بعضها أجلي من بعض فإن قلتم فهذا التوقف ينفي أن يكون الحكم بقبحه ضروريا وهو يبطل قولكم قلنا هذا إنما لزم من التقدير المستحيل في الواقع
(2/186)
والمحال قد يلزمه محال آخر سلمنا أنه ينفي كون الحكم بقبحه ضروريا ابتداء فلم قلتم أنه لا يكون ضروريا بعد التأمل والنظر والضروري أعم من كونه ضروريا ابتداء بلا واسطة أو ضروريا بوسط ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ومن ادعى سلب الوسائط عن الضروريات فقد كابر أو اصطلح مع نفسه على تسمية الضروريات بما لا يتوقف على وسط الوجه الرابع أن نصور ماهية الكذب يقتضي جزم العقل بقبحه ونسبة الكذب إلى العقل كنسبة المتنافرات الحسية إلى الحس فكما أن أدراك الحواس المتنافرات يقتضي نفرتها عنها فكذلك أدراك العقل لحقيقة الكذب ولا فرق بينهما إلا فرق ما بين أدراك الحس وأدراك العقل فإن جاز القدح في مدركات العقول وحكمها فيها بالحسن والقبح جاز القدح في مدركات الحواس الوجه الخامس إنكم فتحتم باب السفسطة فإن القدح في معلومات العقول وموجباتها كالقدح في مدركات الحواس وموجباتها فمن لجأ إلى المكابرة في المعقولات فقد فتح باب المكابرة في المحسوسات ولهذا كانت السفسطة تعرض أحيانا في هذا وهذا وليست مذهبا لأمة من الناس يعيشون عليه كما يظنه بعض أهل المقالات ولا يمكن أن تعيش أمة ولا أحد على ذلك ولا تتم له مصلحة وإنما هي حال عارضة لكثير من الناس وهي تكثر وتقل وما من صاحب مذهب باطل إلا وهو مرتكب للسفسطة شاء أم أبي وسنذكر أن شاء الله فصلا فيما بعد نبين فيه أن جميع أرباب المذاهب الباطلة سوفسطائية صريحا ولزوما قريبا وبعيدا الوجه السادس قولكم من حكم بأن هذين الأمرين سيان بالنسبة إلى عقله خرج عن قضايا العقول جوابه أنكم أن أردتم بالتسوية كونهما معقولان في الجملة فمن أين يخرج عن قضايا العقول من حكم بذلك وهل الخارج في الحقيقة عنها إلا من منع هذا الحكم فإن أردتم بالتسوية الاستواء في الإدراك وأن كليهما على رتبة واحدة من الضرورة فلا يلزم من عدم هذا الاستواء أن لا يكون العلم بقبح الكذب عقليا الوجه السابع قولكم لو تقرر عند
(2/187)
المثبت أن الله تعالى لا يتضرر بكذب ولا ينتفع بصدق كان الآمران في حكم التكليف على وتيرة واحدة كلام لا يرتضيه عاقل فإنه من المتقرر أن الله تعالى لا يتضرر بكذب ولا ينتفع بصدق وإنما يعود نفع الصدق وضرر الكذب على المكلف ولكن ليت شعري من أين يلزم أن يكون هذان الضدان بالنسبة إلى التكليف على وتيرة واحدة وهل هذا الا مجرد تحكم ودعوى باطلة الوجه الثامن أنه لا يلزم من كون الحكيم لا يتضرر بالقبح ولا ينتفع بالحسن أن لا يحب هذا ولا يبغض هذا بل تكون نسبتهما إليه نسبة واحدة بل الأمر بالعكس وهو أن حكمته تقتضي بغضه للقبيح وأن لم يتضرر به ومحبته للحسن وأن لم ينتفع به وحينئذ ينقلب هذا الكلام عليكم ونكون أسعد به منكم فنقول لو تقرر عند النافي أن الله تعالى حكيم عليم يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها العلم أن الأمرين أعني الصدق والكذب بالنسبة
(2/188)
إلى شرعه وتكليفه متباينان غاية التباين متضادان وانه يستحيل في حكمته التسوية بينهما وأن يكونا على وتيرة واحدة ومعلوم إن هذا هو المعقول وما ذكرتموه خارج عن المعقول الوجه التاسع قولكم أن الصدق والكذب على حقيقة ذاتية وأن الحسن والقبح غير داخلين في صفاتهما الذاتية ولا يلزمهما في الوهم بالبديهة ولا في الوجود ضرورة جوابه أنكم أن أردتم أن الحسن والقبح لا يدخل في مسمى الصدق والكذب فمسلم ولكن لا يفيدكم شيئا فإن غايته إنما يدل على تغاير المفهومين فكان ماذا وإن أردتم أن ذات الصدق والكذب لا تقتضي الحسن والقبح ولا تستلزمهما فهل هذا إلا مجرد المذهب ونفس الدعوى وهي مصادرة على المطلوب وخصومكم يقولون أن معنى كونهما ذاتيين للصدق والكذب أن ذات الصدق والكذب تقتضي الحسن والقبح وليس مرادهم أن الحسن والقبح صفة داخلة في مسمى الصدق والكذب وأنتم لم تبطلوا عليهم هذا الوجه العاشر قولكم ولا يلزمهما في الوهم بالبديهة ولا في الوجود دعوى مجردة كيف وقد علم بطلانها بالبرهان والضرورة الوجه الحادي عشر قولكم أن من الأخبار التي هي صادقة ما يلام عليه مثل الدلالة على من هرب من ظالم ومن الأخبار التي هي كاذبة ما يثاب عليها مثل إنكار الدلالة عليه فلم يدخل كون الكذب قبيحا في حد الكذب ولا لزمه في الوهم ولا في الوجود فلا يجوز أن يعد من الصفات الذاتية التي تلزم النفس وجودا وعدما جوابه من وجوه أحدها أنا لا نسلم أن الصدق يقبح في حال ولا أن الكذب يحسن في حال أبدا ولا تنقلب ذاته وإنما يحسن اللوم على الخبر الصادق من حيث لم يعرض المخبر ولم يور بما يقتضي سلامة النبي أو الولي الوجه الثاني أنه أخبر بما لا يجوز له الأخبار به لاستلزامه مفسدة راجحة ولا يقتضي هذا كون الصدق قبيحا بل الأخبار بالصدق هو القبيح وفرق بين النسبة المطابقة التي هي صدق وبين الأعلام بها فالقبح إنما نشأ من الأعلام لا من النسبة الصادقة والأعلام غير ذاتي
(2/189)
للخبر ولا داخل في حده إذا الخبر غير الأخبار ولا يلزم من كون الأخبار قبيحا أن يكون الخبر قبيحا وهذه الدقيقة غفل عنها الطائفتان كلاهما الوجه الثالث أن قبح الصدق وحسن الكذب المذكورين في بعض المواضع لمعارضة مصلحة أو مفسدة راجحة لا يقتضي عدم اتصاف ذات كل منهما بحكمه عقلا فإن العلل العقلية والأوصاف الذاتية المقتضية لأحكامها قد تتخلف عنها لفوات شرط أو قيام مانع ولا يوجب ذلك سلب اقتضائها لأحكامها عند عدم المانع وقيام الشرط وقد تقدم تقرير ذلك الوجه الثاني عشر قولكم أنه لم يبق للمثبتين إلا الاسترواح إلى عادات الناس من تسمية ما يضرهم قبيحا وما ينفعهم حسنا كلام باطل فإن استرواحهم إلى ما ركبة الله تعالى في عقولهم وفطرهم وبعث رسله بتقريره وتكميله من استحسان الحسن واستقباح القبيح الوجه الثالث عشر قولكم أنها تختلف بعادة قوم دون قوم وزمان دون زمان ومكان دون
(2/190)
مكان وإضافة دون إضافة فقد تقدم أن هذا الاختلاف لا يخرج هذه القبائح والمستحسنات عن كون الحسن والقبح ناشئا من ذواتهما وأن الزمان المعين والمكان المخصوص والشخص والقابل والإضافة شروط لهذا الاقتضاء على حد اقتضاء الأغذية والأدوية والمساكن والملابس آثارها فإن اختلافها بالأزمنة والأمكنة والأشخاص والإضافات لا يخرجها عن الاقتضاء الذاتي ونحن لا نعنى بكون الحسن والقبح ذاتيين إلا هذا والمشاحنة في الاصطلاحات لا تنقع طالب الحق ولا تجدي عليه إلا المناكدة والتعنت فكم يعيدوا ويبدوا في الذاتي وغير الذاتي سموا هذا المعنى بما شئتم ثم أن أمكنكم إبطاله فأبطلوه الوجه الرابع عشر قولكم نحن لا ننكر اشتهار القضايا الحسنة والقبيحة من الخلق وكونها محمودة مشكورة مثنى على فاعلها أو مذموماولكن سبب ذكرها أما التدين بالشرائع وأما الاعراض ونحن إنما ننكرها في حق الله عز وجل لانتفاء الاعراض عنه فهذا معترك القول بين الفرق في هذه المسئلة وغيرها فنقول لكم ما تعنون معاشرة النفاة بالاعراض التي نفيتموها عن الله عز وجل ونفيتم لاجلها حسن أوامر الذاتية وقبح نواهيه الذاتية وزعمتم لاجلها أنه لا فرق عنده بين مذمومها ومحمودها وأنها بالنسبة إليه سواه فأخبرونا عن مرادكم بهذه اللفطة البديعة المحتملة أتعنون بها الحكم والمصالح والعواقب الحميدة والغايات المحبوبة التي يفعل ويأمر لأجلها أم تعنون بها امرا وراء ذلك يجب تنزيه الرب عنه كما يشعر به لفظ الاعراض من الارادات فان اردتم المعنى الأول فنفيكم إياه عن أحكم الحاكمين مذهب لكم خالفتم به صريح المنقول وصريح المعقول وأتيتم ما لا تقر به العقول من فعل فاعل حكيم مختار ولا لمصلحة ولا لغاية محمودة ولا عاقبة مطلوبة بل الفعل وعدمه بالنسبة إليه سيان وقلتم ما تنكره الفطر والعقول ويرده التنزيل والاعتبار وقد قررنا من ذكر الحكم الباهرة في الخلق والأمر ما تقربه به عين كل طالب للحق وهاهنا من
(2/191)
ادلة اثبات الحكم المقصودة بالخلق والامر أضعاف أضعاف ما ذكرنا بل لانسبه لما ذكرناه إلى ما تركناه وكيف يمكن انكار ذلك والحكمة في خلق العالم وأجزائه ظاهرة لمن تأملها بادية لمن أبصرها وقد رقمت سطورها على صفحات المخلوقات يقرأها كل عاقل وغير كاتب نصبت شاهدة لله بالوحدانية والربوبية والعلم والحكمة واللطف والخبرة تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل وأما النصوص على ذلك فمن طلبها بهرته كثرتها وتطابقها ولعلها أن تزيد على المئين وما يحيله النفاة لحكمة الله تعالى أن اثباتها يستلزم افتقارا منها واستكمالا بغيره فهوس ووساواس
(2/192)
فان هذا بعينه وارد عليهم في أصل الفعل أيضا فهذا إنما هو إكمال للصنع لا استكمال بالصنع وأيضا فأنه سبحانه فعاله عن كماله فأنه كمل ففعل لا أن كماله عن فعاله فلا يقال فعل فكمل كما يقال للمخلوق وأيضا فأن مصدر الحكمة ومتعلقها وأسبابها عنه سبحانه فهو الخالق وهو الحكيم وهو الغني من كل وجه أكمل الغنى وأتمه وكمال الغنى والحمد في كمال القدرة والحكمة ومن المحال أن يكون سبحانه وتعالى فقيرا إلى غيره فأما إذا كان كل شيء فهو فقير إليه من كل وجه وهو الغنى المطلق عن كل شيء فأي محذور في إثبات حكمته مع احتياج مجموع العالم وكل ما يقدر معه إليه دون غيره وهل الغنى إلا ذلك ولله سبحانه في كل صنع من صنائعه وأمر من شرائعه حكمة باهرة وآية ظاهرة تدل على وحدانيته وحكمته وكلمه وغناه وقيوميته وملكه لا تنكرها إلا العقول السخيفة ولا تنبو عنها إلا الفطر المنكوسة : ولله في كل تسكينة وتحريكة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وبالجملة فنحن لا ننكر حكمة الله ولا نساعدكم على جحدها لتسميتكم إياها أعراضا وإخراجكم لها في هذا القالب فالحق لا ينكر حكمه لسوء التعبير عنه وهذا اللفظ بدعى لم يرد به كتاب ولا سنة ولا أطلقه أحد من أئمة الإسلام وأتباعهم على الله وقد قال الأمام أحمد لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين فهل ننكر صفات كماله سبحانه لأجل تسمية المعطلة والجهمية لها أعراضا ولأرباب المقالات أغراض في سوء التعبير عن مقالات خصومهم وتخيرهم لها أقبح الألفاظ وحسن التعبير عن مقالات أصحابهم وتخيرهم لها أحسن الألفاظ وأتباعهم محبوسون في قبول تلك العبارات ليس معهم في الحقيقة سواها بل ليس مع المتبوعين غيرها وصاحب البصيرة لا تهوله تلك العبارات الهائلة بل يجرد المعنى عنها ولا يكسوه عبارة منها ثم يحمله على محل الدليل السالم عن المعارض فحينئذ يتبين له الحق من الباطل والحالي من العاطل الوجه
(2/193)
الخامس عشر قولكم مستند الاستحسان والاستقباح التدين بالشرائع فيقال لا ريب أن التدين بالشرائع يقتضي الاستحسان والاستقباح ولكن الشرائع إنما جاءت بتكميل الفطر وتقريرها لا بتحويلها وتغييرها فما كان في الفطرة مستحسنا جاءت الشريعة باستحسانه فكسته حسنا إلى حسنه فصار حسنا من الجهتين وما كان في الفطرة مستقبحاجاءت الشريعة باستقباحه فكسته قبحا إلى قبحه فصار قبيحا من الجهتين وأيضا فهذه القضايا مستحسنة ومستقبحة عند من لم تبلغه الدعوة ولم يقر بنبوة وأيضا فمجيء الرسول بالأمر بحسنها والنهي عن قبيحها دليل على نبوته وعلم على رسالته كما قال بعض الصحابة وقد سئل عما أوجب إسلامه فقال ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه ولا نهى
(2/194)
عن شيء فقال العقل ليته أمر به فلو كان الحسن والقبح لم يكن مركوزا في الفطر والعقول لم يكن ما أمر به الرسول ونهى عنه علما من أعلام صدقه ومعلوم أن شرعه ودينه عند الخاصة من اكبر أعلام صدقه وشواهد نبوته كما تقدم الوجه السادس عشر قولكم في مثارات الغلط التي يغلط الوهم فيها أنها ثلاث مثارات الأولى أن الإنسان يطلق اسم القبيح على ما يخالف غرضه وان كان يوافق غرض غيره من حيث أنه لا يلتفت إلى الغير فان كل طبع مشغوف بنفسه فيقضى بالقبح مطلقا فقد أصاب في الحكم بالقبح وأخطأ في إضافة القبح إلى ذات الشيء وغفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه وأخطأ في حكمه بالقبح مطلقا ومنشأه عدم الالتفات إلى غيره فحاصله أمران أحدهما أنه إنما قضى بالحسن والقبح لموافقة غرضه ومخالفته الثاني أن هذه الموافقة والمخالفة ليست عامة في حق كل شخص وزمان ومكان بل ولا في جميع أحوال الشخص هذا حاصل ما طولتم به فيقال لا ريب أن الحسن يوافق الغرض والقبح يخالفه ولكن موافقة هذا ومخالفة هذا لما قام بكل واحد من الصفات التي أوجبت المخالفة والموافقة إذ لو كانا سواء في نفس الأمر وذاتهما لا تقتضى حسنا ولا قبحا لم يختص أحدهما بالموافقة والآخر بالمخالفة ولم يكن أحدهما بما اختص به أولى من العكس فما لجأتم إليه من موافقة الغرض ومخالفته من أكبر الأدلة على أن ذات الفعل متصفة بما لأجله وافق الغرض وخالفه وهذا كموافقة الغرض ومخالفته في الطعوم والأغذية والروائح فان ما لاءم منها الإنسان ووافقه مخالف بالذات والوصف لما نافره منها وخالفه ولم تكن تلك الملاءمة والمنافرة لمجرد العادة بل لما قام بالملائم والمنافر من الصفات ففي الخبز والما واللحم والفاكهة من الصفات التي اقتضت ملاءمتها الإنسان ما ليس في التراب والحجر والقصب والعصف وغيرها ومن ساوى بين الأمرين فقد كابر حسه وعقله فهكذا ما لاءم العقول والفطر من الأعمال والأحوال وما خالفها هو لما قام بكل منها
(2/195)
من الصفات التي اختصت به فأوجب الملاءمة والمنافرة فملاءمة العدل والإحسان والبر للعقول والفطر والحيوان لما اختصت به ذوات هذه الأفعال من أمور ليست في الظلم والإساءة وليست هذه الملاءمة والمنافرة لمجرد العادة والتدين بالشرائع بل هي أمور ذاتية لهذه الأفعال وهذا مما لا ينكره العقل بعد تصوره الوجه السابع عشر أنا لا ننكر أن للعادة واختلاف الزمان والمكان والإضافة والحال تأثيرا في الملاءمة والمنافرة ولا ننكر أن الإنسان يلائمه ما اعتاده من الأغذية والمساكن والملابس وينافره ما لم يعتده منها وان كان أشرف منها وأفضل ومن هذا إلف الأوطان وحب المساكن والحنين إليها ولكن هل يلزم من هذا أن تكون الملاءمة والمنافرة كلها ترجع إلى الالف والعادة المجردة ومعلوم أن هذا مما لا سبيل إليه إذ الحكم على فرد
(2/196)
جزئي من أفراد النوع لا يقتضي الحكم على جميع النوع واستلزام الفرد المعين من النوع اللازم المعين لا يقتضي استلزام النوع له وثبوت خاصة معينه للفرد الجزئي لا يقتضي ثبوتها للنوع الكلي : الوجه الثامن عشر أن غاية ما ذكرتم من خطأ الوهم في اعتقاده إضافة القبح إلى ذات الفعل وحكمه بالاستقباح مطلقا مما قد يعرض في بعض الأفعال فهل يلزم من ذلك أنه حيث قضى بهاتين القضيتين يكون غالطا بالنسبة إلى كل فعل ونحن إنما علمنا غلطه فيما غلط فيه لقيام الدليل العقلي على غلطه فأما إذا كان الدليل العقلي مطابقا لحكمه فمن أين لكم الحكم بغلطه فان قلتم إذا ثبت أنه يغلط في حكم ما لم يكن حكمه مقبولا إذ لا ثقة بحكمه قلنا إذا جوزتم أن يكون في الفطرة حاكمان حاكم الوهم وحاكم العقل ونسبتم حكم العقل إلى حكم الوهم وقلتم في بعض القضايا التي يجزم العقل بها هي من حكم الوهم لم يبق لكم وثوق بالقضايا التي يجزم بها العقل ويحكم بها لاحتمال أن يكون مستندها حكم الوهم لا حكم العقل فلا بد لكم من التفريق بينهما ولا بد أن تكون قضاياه ضرورية ابتداء وانتهاء وإذا جوزتم أن يكون بعض القضايا الضرورية وهمية لم يبق لكم طريق إلى التفريق الوجه التاسع عشر أن هذا الذي فرضتموه فيمن يتقبح شيئا لمخالفة غرضه ويستحسنه لموافقة غرضه أو بالعكس إنما مورده الحسنات غالبا كالمآكل والملابس والمساكن والمناكح فأنها بحسب الدواعي والميول والعوائد والمناسبات فهي إنما تكون في الحركات وأما الكليات العقلية فلا تكاد تعارض تلك فلا يكون العدل والصدق والإحسان حسنا عند بعض العقول قبيحا عند بعضها كما يكون اللون اسود مشتهى حسنا موافقا لبعض الناس مبغوضا مستقبحا لبعضهم ومن اعتبر هذا بهذا فقد خرج واعتبر الشيء بما لا يصح اعتباره به ويؤيد هذا الوجه العشرون أن العقل إذا حكم بقبح الكذب والظلم والفواحش فانه لا يختلف حكمه بذلك في حق نفسه ولا غيره بل يعلم أن كل عقل
(2/197)
يستقبحها وأن كان يرتكبها لحاجته أو جهله فلما أصاب في استقباحها أصاب في نسبة القبح إلى ذاتها وأصاب في حكمه بقبحها مطلقا ومن غلطه في بعض هذه الأحكام فهو الغالط عليه وهذا بخلاف ما إذا حكم باستحسان مطعم أو ملبس أو مسكن أو لون فانه يعلم أن غيره يحكم باستحسان غيره وأن هذا مما يختلف باختلاف العوائد والأمم والأشخاص فلا يحكم به حكما كليا ألا حيث يعلم أنه لا يختلف كما يحكم حكما كليا بأن كل ظمآن يستحسن شرب الماء ما لم يمنع منه مانع وكل مقرور يستحسن لباس ما فيه دفؤه ما لم يمنع منه مانع وكذلك كل جائع يستحسن ما يدفع به سورة الجوع فهذا حكم كلي في هذه الأمور المستحسنة لا غلط فيه مع كون المحسوسات عرضة لاختلاف الناس في استحسانها واستقباحها بحسب الأغراض
(2/198)
والعوائد والالف فما الظن بالأمور الكلية العقلية التي لا تختلف إنما هي نفى واثبات الوجه الحادي والعشرون قولكم من منارات الغلط إنما هو مخالف للغرض في جميع الأحوال ألا في حالة نادرة بل لا يلتفت الوهم إلى تلك الحالة النادرة بل لا يخطر بالبال فيقضى بالقبح مطلقا لاستيلاء قبحه على قلبه وذهاب الحالة النادرة عن ذكره فحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا وعقليه 1 عن الكذب يستفاد به عصمة دم نبي أو ولي وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مرة وتكرر ذلك على سمعه ولسانه انغرس في قلبه استقباح مستند إلى أخر فمضمونه بعد الإطالة أنه لو كان الكذب قبيحا لذاته لما تخلف عليه القبح ولكنه يتخلف إذا تضمن عصمة دم نبي ففي هذه الحالة ونحوها لا يكون قبيحا وهي حالة نادرة لا تكاد تخطر بالبال فيقضى العقل بقبح الكذب مطلقا ويغفل عن هذه الحالة وهي تنافي حكمه بقبحه مطلقا ثم تترك وينشأ على ذلك الاعتقاد فيظن أن قبحه لذاته مطلقا وليس كذلك وهذا بعد تسليمه لا يمنع كونه قبيحا لذاته وان تخلف القبح عنه لمعارض راجح كما أن الاغذاء بالميتة والدم ولحم الخنزير ويوجب نباتا خبيثا وان يخلف عنه ذلك عند المخمصة كيف وقد بينا أن القبح لا يتخلف عن الكذب أصلا وأما إذا تضمن عصمة ولي فالحسن إنما هو التعريض والصدق لا يقبح أبدا وانما القبيح الأعلام به وفرق بين الخبر والأخبار فالقبح إنما وقع في الأخبار لا في الخبر ولو سلمنا ذلك كله لتخلف الحكم العقلي لقيام مانع أو لفوات شرط غير مستنكر فهذه الشبهة من أضعف الشبه وحسبك ضعفا بحكم إنما يستند إليها والى أمثالها الوجه الثاني والعشرون أن الوهم قد سبق إلى العكس كمن يرى شيئا مقرونا بشيء فيظن الشيء لا محالة مقرونا به مطلقا ولا يدرى أن الأخص أبدا مقرون بالأعم من غير عكس وتمثيلكم ذلك بنفرة السليم من الحبل المرقش ونفور الطبع عن العسل إذا شبه بالعذرة إلى آخر ما ذكرتم من الأمثال كنفرة الطبع عن الحسناء ذات
(2/199)
الاسم القبيح ونفرة الرجل عن البيت الذي فيه الميت ونفرة كثير من الناس عن الأقوال الصحيحة التي تضاف إلى من يسيؤن الظن بهم فنحن لا ننكر أن للوهم تأثير في النفوس وفي الحب والبغض بل هو غالب على أكثر النفوس في كثير من الأحوال ولكن إذا سلط عليه العقل الصريح تبين غلطه وأن ما حكم به إنما هو موهوم لا معقول كما إذا سلط العقل الصريح والحسن على الحبل المرقش تبين أن نفرة الطبع عنه مستندها الوهم الباطل وكذلك إذا سلط الذوق والعقل على العسل تبين أن نفرة الطبع عنه مستندها
(2/200)
الوهم الكاذب وإذا تأمل الطرف محاسن الجميلة البديعة الجمال تبين أن نفرته عنها لقبح اسمها وهم فاسد وإذا سلط العقل الصريح على الميت تبين أن نفرة الرجل عنه لتوهم حركته وثورانه خيال باطل ووهم فاسد وهكذا نظائر ذلك أفتري يلزم من هذا أنا إذا سلطنا العقل الصريح على الكذب والظلم والفواحش والإساءة إلى الناس وكفران النعم وضرب الوالدين والمبالغة في أهانتهما وسبهما وأمثال ذلك تبين أن حكمه بقبحها وهم منه ليكون نظير ما ذكرتم من الأمثلة وهل في الاعتبار أفسد من اعتباركم هذا فان الحكم فيما ذكرتم قد تبين بالعقل الصريح والحس أنه حكم وهمي ونحن لا ننازع فيه ولا عاقل لأنا أن سلطنا عليه العقل والحس ظهر أن مستنده الوهم وأما في القضايا التي ركب في العقول والفطر حسنها وقبحا فأنا إذا سلطنا العقل الصريح عليها لم يحكم لها بخلاف ما هي عليه أبدا ألا أن يلجؤا إلى دبوس السارق وهو الصدق المتضمن هلاك والى الكذب المتضمن عصمته وليس معكم ما تصولون به سواه وقد بينا حقيقة الأمر فيه بما فيه كفاية وحتى لو كان الأمر فيهما كما ذكرتم قطعا لم يجز أن يبطل بهما ماركبه الله في العقول والفطر وألزمها إياه التزاما لا انفكاك لها عنه من استحسان الحسن واستقباح القبيح والحكم بقبحه والتفرقة العقلية التابعة لذواتهما وأوصافهما بينهما وقد أنكر الله سبحانه على العقول التي جوزت أن يجعل الله فاعل القبيح وفاعل الحسن سواء ونزه نفسه عن هذا الظن وعن نسبة هذا الحكم الباطل إليه ولو لا أن ذلك قبيح عقلا لما أنكره على العقول التي جوزته فان الإنكار إنما كان يتوجه عليهم بمجرد الشرع والخبر لا بإفساد ما ظنوه عقلا ولا يقال فلو كان هذا الحكم باطلا قطعا لما جوزه أولئك العقلاء لأن هذا احتجاج بعقول أهل الشرك الفاسدة التي عابها الله وشهد عليهم بأنهم لا يعقلون وشهدوا على أنفسهم بأنهم أو لو كانوا يسمعون أو يعقلون ما كانوا في أصحاب السعير وهل يقال أن
(2/201)
استحسان عبادة الأصنام بعقولهم واستحسان التثليث والسجود للقمر وعبادة النار وتعظيم الصليب يدل على حسنها لاستحسان بعض العقلاء لها فان قيل فهذا حجة عليكم فان عقول هؤلاء قد قضت بحسنها وهي أقبح القبائح قيل ما مثلنا ومثلكم في ذلك ألا كمثل من قال إذا كان الأحوال يرى القمر اثنين لم يبق لنا وثوق بكون صحيح الفم إذا ذاق الشيء المر يذوقه عذبا وحلوا وإذا كان صاحب الفهم السقيم يعيب القول الصحيح ويشهد ببطلانه لم يبق لنا وثوق بشهادة صاحب الفهم المستقيم بصحته إلى أمثال ذلك فإذا كانت فطرة أمة من الأمم وشرذمة من الناس وعقولهم قد فسدت فهل يلزم من هذا إبطال شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة ولو صح لكم هذا الاعتراض لبطل استدلالكم على كل منازع لكم في
(2/202)
كل مسألة فانه عاقل وقد شهد عقله بها بخلاف قولكم وكفى بهذا فسادا وبطلانا وكفى برد العقول وسائر العقلاء له والحمد لله رب العالمين الوجه الثالث والعشرون قولكم أن الملك العظيم إذا رأى مسكينا مشرفا على الهلاك استحسن إنقاذه والسبب في ذلك دفع الأذي الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه إلى آخره كلام في غاية الفساد فان مضمونه أن هذا الإحسان العظيم والتنزل من مثل هذا الملك القادر إلى الإحسان إلى مجهود مضرور قد مسه الضر وتقطعت به الأسباب وانقطعت به الحيل ليس فعلا حسنا في نفسه ولا فرق عند العقل بين ذلك وان يلقى عليه حجرا يغرقه وانما مال إليه طبعه لرقه الجنسية ولتصويره نفسه في تلك الحال واحتياجه إلى من ينقذه وألا فلو جردنا النظر إلى ذات الفعل وضربنا صفحا عن لوازمه وما يقترن به ويبعث عليه لم يقض العقل بحسنه ولم يفرق بينه وبين إلقاء حجر عليه حتى يغرقه هذا قول يكفى في فساده مجرد تصوره وليس في المقدمات البديهية ما هو أجلى وأوضح من كون مثل هذا الفعل حسنا لذاته حتى يحتج بها عليه فان الاحتجاج إنما يكون بالأوضح على الأخفى فإذا كان المطلوب المستدل عليه أوضح من الدليل كان الاستدلال عناء وكلفة ولكن تصور الدعوى ومقابلتها تصويرا مجردا يعرضان على العقول التي لم يسبق إليها تقليد الآراء ولم يتواطأ عليها ويتلقاها صاغر عن كابر وولد عن والد حتى نشأت معها بنشئها فهي تسعى بنصرتها بما دب ودرج من الأدلة لاعتقادها أولا أنها حق في نفسها لإحسانها الظن بأربابها فلو تجردت من حب من ولدته وبغض من خالفته وجردت النظر وصابرت العلم وتابعت المسير في المسئلة إلى آخرها لأوشك أن تعلم الحق من الباطل ولكن حبك الشيء يعمى ويصم والنظر بعين البغض يرى المحاسن مساوى هذا في إدراك البصر مع ظهوره ووضوحه فكيف في إدراك البصيرة لا سيما إذا صادق مشكلا فهذه بلية أكثر العالم فان تنج منها تنج من ذي عظيمة وألا
(2/203)
فإني لا أخالك ناجيا الوجه الرابع والعشرون أن اقتران هذه الأمور التي ذكرتموها من رقة الجنسية وتصور نفسه بصورة من يريد إنفاذه ونحوها هي أمور تقترن بهذا الإحسان فيقوم الباعث على فعله ولا يوجب تجرده عن وصف يقتضي حسنه وان يكون ذاته مقتضية لحسنة وان اقترن بفاعل هذا الأمور وما مثلكم في ذلك ألا كمثل من قال أن تناول الأطعمة والأغذية والأدوية ليس حسنا لذاته فانه يقترن بمتناولها من لذة المرة لفم المعدة ما يوجب نزوعها إلى طلب الغذاء لقيام البنيه وكذلك الأدوية وغيرها ومعلوم أن هذه البواعث والدواعي وأسباب الميول لا ينافي الاقتضاء الذاتي وقيام الصفات التي تقتضي الانتفاع بها فكذلك تلك
(2/204)
البواعث والدواعي وأسباب الميول التي تحصل لفاعل الإحسان ومنقذ الغريق والحريق وما ينجى الهالك لا ينافى ما عليه هذه الأفعال في ذواتها من الصفات التي تقتضي حسنها وقبح أضدادها الوجه الخامس والعشرون قولكم أنه يقدر نفسه في تلك الحال وتقديره غيره معرضا عن الانقاذ فيستقبحه منه لمخالفته غرضه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم فيقال هذا القبح المتوهم إنما نشأ عن القبح المحقق في ترك الإحسان إليه مع قدرته عليه وعدم تضرره به فالقبح محقق في ترك إنقاذه ومتوهم في تصويره نفسه بتلك الحال وعدم إنقاذه غيره له فلولا تلك الحقيقة لم يحكم العقل بهذا القبح الموهوم وكون الانقاذ موافقا للغرض وتركه مخالفا له لا ينبغي أن يكون في ذاته حسنا وقبيحا ملائما وافق الغرض أو خالفه لما اتصفت به ذاته من الصفات المقتضية لهذه الموافقة والمخالفة الوجه السادس والعشرون قولكم فلو فرض هذا في بهيمة أو شخص لارقة فيه فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه فيقال طلب الثناء يقتضي أن هذا الفعل مما يتعلق به الثناء وما ذاك ألا لأنه في نفسه على صفة تقتضي الثناء على فاعله ولو كان هذا الفعل مساويا لضده في نفس الأمر لم يتعلق الثناء به والذم بضده وفعله لتوقع الثناء لا ينفى أن يكون على صفة لأجلها استحق فاعله الثناء بل هو باقتضاء ذلك أولى من نفيه الوجه السابع والعشرون قولكم فان فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى ميل وترجيح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فيظن أن الثناء مقرون بها بكل حال كما أنه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الأذى فينفر عن المقرون به فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مكروه فيقال يا عجبا كيف يرد أعظم الإحسان الذي فطر الله عقول عباده وفطرهم على إحسانه حتى لو تصور نطق الحيوان البهيم لشهد باستحسانه إلى مجرد وهم وخيال فاسد يشبه نفرة طبع الرجل السليم عن حبل مرقش
(2/205)
فتأمل كيف يحمل نفرة الآراء المتقلدة وبعض مخالفتها على أمثال هذه الشنع وهل سوى الله سبحانه في العقول والفطر بين إنقاذ الغريق والحريق وتخليص الأسير من عدوه واحياء النفوس وبين نفرة طبع السليم عن حبل مرقش لتوهمه أنه حية وقد كان مجرد تصور هذه الشبهة كافيا في العلم ببطلانها ولكنا زدنا الأمر إيضاحا وبيانا الوجه الثامن والعشرون قولكم الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره واستشهادكم على ذلك بقول الشاعر أمر على الديار ديار ليلى وقوله وحبب أوطان الرجال إليهم فيقال لا ريب أن الأمر هكذا ولكن هل يلزم من هذا استواء الصدق والكذب في نفس الأمر واستواء العدل والظلم والبر والفجور والإحسان والإساءة بل هذا المثال نفسه حجة عليكم فانه لم يمل طبعه
(2/206)
إلى ذلك المكان مع مساواته لجميع الأمكنة عنده وكذلك حنينه إلى وطنه ومحته له وكذلك حنينه إلى الفه من الناس وغيرهم فان هذا لا يقع منه مع تساوي تلك الأماكن والأشخاص عنده بل لظنه اختصاصهما بأمور لا توجد في سواهما فترتب ذلك الحب والميل على هذا الظن ثم له حالان أحدهما أن يكون كما ظنه بل ذلك المكان أو الشخص مساولغيره وربما يكون غيره أكمل منه في الأوصاف التي تقتضي حبه والميل إليه فهذا إذا سلط العقل الحس على سبب ميله وحبه علم أنه مجرد الف أو عادة أو تذكر أو تخيل وهذا الوهم مستند إلى ما تقرر في العقل من أن اختصاص الحب والميل بالشيء دون غيره لما اختص به من الصفات التي اقتضت ذلك وكذلك تعلق النفرة والبغض به ثم تغلب الوهم حتى يتخيل أن تلك الصفات باينة عن المحل وليست فيه بل يكون المحل مقرونا بتلك الصفات فيحب ويبغض لأجل تلك المفارقة فمقارن المحبوب محبوب ومقارن المكروه مكروه كقوله وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وقول الآخر إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو عهودا جرت فيها فحبوا لدالكا الوجه التاسع والعشرون قولكم أن الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر لا يستحسنه العقلاء لولا الشرع بل ربما استقبحوه إنما يستحسن الثواب أو الثناء بالشجاعة وكذلك بالصبر على حفظ السر والوفاء بالعهد لما في ذلك من المصالح فان فرض حيث لا تنافيه فقد وجد مقرونا بالثناء فيبقى ميل الوهم المقرون فيقال لكم استحسان الشرع له مطابق لاستحسان العقل لا مخالف وكذلك انتظار الثواب به وهو حسنه في نفسه وكذلك المصالح المترتبة على حفظ السر والوفاء بالعهد هي لما قام بذوات هذه الأفعال من الصفات التي أوجبت المصالح إذ لو ساوت غيرها لم تكن باقتضاء المصلحة أولى منها وقولكم أنه إذا وجب فرض حيث لاثناء ينفى ميل الوهم للمقارنة فقد تقدم أن هذا الميل تبع للحقيقة وأنه يستحيل وجوده في فعل لا تقتضي ذاته المصلحة والاستحسان وان حصول
(2/207)
الوهم المقارن تبع للحقيقة الثابتة لاستحالة حصول هذا الوهم في فعل لا تكون ذاته منشأ للأمر الموهوم فيتوهم الذهن حيث تنتفي الحقيقة الوجه الثلاثون قولكم أن من عرضت له حاجة وأمكن قضاءها بالصدق والكذب وأنه إنما يؤثر الصدق لأنه وجده مقرونا بالثناء فهو يؤثره لما يقترن به من الثناء فجوابه أيضا ما تقدم وأن اقترانه بالثناء لما اختص به من الصفات التي اقتضت الثناء على فاعله كيف والكذب متضمن لفساد تظلم العالم ولا يمكن قيام العالم عليه لا في معاشهم ولا في معادهم بل هو متضمن لفساد المعاش والمعاد ومفاسد الكذب اللازمة له معلومة عند خاصة الناس وعامتهم كيف وهو منشأ كل وفساد
(2/208)
الأعضاء لسان كذوب وكم قد أزيلت بالكذب من دول وممالك وخربت به من بلاد واستلبت به من نعم وتعطلت به من معايش وفسدت به مصالح وغرست به عداوات وقطعت به مودات وافتقر به غنى وذل به عزيز وهتكت به مصونة ورميت به محصنة وخلت به دور وقصور وعمرت به قبور وأزيل به أنس واستجلبت به وحشة وأفسد به بين الابن وأبيه وغاض بين الأخ وأخيه وأحال الصديق عدوا مبينا ورد الغنى العزيز مسكينا وكم فرق بين الحبيب وحبيبه فأفسد عليه عيشته ونغص عليه حياته وكم جلا عن الأوطان وكم سود من وجوه وطمس من نور وأعمى من بصيرة وأفسد من عقل وغير من فطرة وجلب من معرة وقطعت به السبل وعفت به معالم الهداية ودرست به من آثار النبوة وخفيت به من مصالح العباد في المعاش والمعاد وهذا وأضعافه ذرة من مفاسده وجناح بعوضة من مضاره ومصالحه ألا فما يجلبه من غضب الرحمن وحرمان الجنان وحلول دار الهوان أعظم من ذلك وهل ملئت الجحيم ألا بأهل الكذب الكاذبين على الله وعلى رسوله وعلى دينه وعلى أوليائه المكذبين بالحق حمية وعصبية جاهلية وهل عمرت الجنان ألا بأهل الصدق الصادقين المصدقين بالحق قال تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين وإذا كانت هذه حال الكذب والصدق فمن أبطل الباطل دعوى تساويهما وان العقل إنما يؤثر الصدق لتوهم اقترانه بالثناء وانما يتجنب الكذب لتوهم اقترانه بالقبح كتوهم اقتران اللسع في الحبل المرقش ورد استقباح هذه المفاسد والمقابح التي لا أقبح منها إلى مجرد وهم باطل شبه نفرة الطبع عن الحبل المرقش ونفس العلم بهذه المقالة كاف في الجزم ببطلانها ولو ذهبنا نعدد قبائح الكذب الناشئة من ذاته وصفاته لزادت عن الألف وما من عاقل ألا وعند العلم ببعض ذلك علما ضروريا مركوزا في فطرته فما سوى الله بينه وبين الصدق أبدا ودعوى
(2/209)
استوائهما كدعوى استواء النور والظلمة والكفر والأيمان وخراب العالم واهلاك الحرث والنسل وعمارته بل كدعوى استواء الجوع والشبع والري والظمأ والفرح والغم وأنه لا فرق عند العقل بين علمه بهذا وهذا الوجه الحادي والثلاثون قولكم الصدق والكذب متنافيان ومن المحال تساوي المتنافيين في جميع الصفات إلى آخره إقرار منكم بالحق ونقض لما أصلتموه فانهما إذا كانا متنافيين ذاتا وصفاتا لم يرجع الفرق بينهما استحسانا واستقباحا إلى مجرد العادة والمنشأ والوباء أو مجرد التدين بالشرائع بل يكون مرجع الفرق إلى ذاتهما وأن ذات هذا مقتضية لحسنه وذات هذا مقتضية لقبحه وهذا هو عين الصواب لولا أنكم لا تثبتون علته وتصرحون بأن الفرق بينهما سببه العادة والتربية والمنشأ والتدين بشرائع الأنبياء حتى لو فرض انتفاء ذلك لم يؤثر الرجل الصدق على الكذب وهل في التناقض أقبح من هذا
(2/210)
الوجه الثاني والثلاثون قولكم أن غاية هذا أن يدل على قبح الكذب وحسن الصدق شاهدا ولا يلزم منه حسنه وقبحه وغائبا ألا بطريق قياس الغائب على الشاهد وهو باطل لوضوح الفرق واستنادكم في الفرق إلى ما ذكرتم من تخلية الله بين عباده يموج بعضهم في بعض ظلما وإفسادا وقبح ذلك مشاهد فيالله العجب كيف يجوز العقل التزام مذهب ملتزم معه جواز الكذب على رب العالمين وأصدق الصادقين وأنه لا فرق أصلا بالنسبة إليه بين الصدق والكذب بل جواز الكذب عليه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا كجواز الصدق وحسنه لحسنه وهل هذا ألا من أعظم الإفك والباطل ونسبته إلى الله تعالى جوازا كنسبة ما لا يليق بجلاله إليه من الولد والزوجة والشريك بل لنسبة أنواع الظلم والشر إليه جوازا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فمن اصدق من الله حديثا ومن أصدق من الله قيلا وهل هذا الإفك المفترى ألا رافع للوثوق بأخباره ووعده ووعيده وتجويزه عليه وعلى كلامه ما هو أقبح القبائح التي تنزه عنها بعض عبيده ولا يليق به فضلا عنه سبحانه فلو التزمتم كل إلزام بلزوم مسمى الحسن والقبح العقليين لكان أسهل من التزام هذا الإد التي تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا ولا نسبة في القبح بين الولد والشريك والزوجة وبين الكذب ولهذا فطر الله عقول عباده على الازدراء والذم والمقت للكاذب دون من له زوجة وولد وشريك فتنزه أصدق الصادقين عن هذا القبيح كتنزهه عن الولد والزوجة والشريك بل لا يعرف أحد من طوائف هذا العالم جوز الكذب على الله لما فطر الله عقول البشر وغيرهم على قبحه ومقت فاعله وخسته ودناءته ونسبة طوائف المشركين الشريك والولد إليه لما لم يكن قبحه عندهم كقبح الكذب وكفى بمذهب بطلانا وفسادا هذا القول العظيم والإفك المبين لازمة ومع هذا فأهله لا يتحاشون من التزامه فلو التزم القائل أن يذهب الذم كان خيرا له من هذا ونحن نستغفر الله من التقصير في رد أهل
(2/211)
المذهب القبيح ولكن ظهور قبحه للعقول والفطر أقوى شاهد على رده وإبطاله ولقد كان كافينا من رده نفس تصويره وعرضه على عقول الناس وفطرهم فليتأمل اللبيب الفاضل ماذا يعود إليه نصر المقالات والتعصب لها والتزام لوازمها وإحسان الظن بأربابها بحيث يرى مساويهم محاسن وإساءة الظن بخصومهم بحيث يرى محاسنهم مساوي كم أفسد هذا السلوك من فطرة وصاحبها من الذين يحسبون أنهم على شيء إلا انهم هم الكاذبون ولا يتعجب من هذا فان مرآة القلب لا يزال يتنفس فيها حتى يستحكم صداؤها فليس ببدع لها أن ترى الأشياء على خلاف ما هي عليه فمبدأ الهدى والفلاح صقال تلك المرآة ومنع الهوى من التنفس فيها وفتح عين البصيرة في أقوال من يسيء الظن بهم كما يقبحها في أقوال من يحسن الظن به وقيامك
(2/212)
لله وشهادتك بالقسط وأن لا يحملك بغض منازعيك وخصومك على جحد دينهم وتقبيح محاسنهم وترك العدل فيهم فان الله لا يعتد بتعب من هذا ثناه ولا يجدي علمه نفعا أحوج ما يكون إليه والله يحب المقسطين ولا يحب الظالمين الوجه الثالث والثلاثون قولكم أن مستند الحكم يقبح الكذب غائبا على الشاهد وهو فاسد فيقال الرب تعالى لا يدخل مع خلقه في قياس تمثيل ولا قياس شهود يستوي أفراده فهذان الفرعان من القياس يستحيل ثبوتهما في حقه وأما قياس الأولى فهو غير مستحيل في حقه بل هو واجب له وهو مستعمل في حقه عقلا ونقلا أما العقل فكاستدلالنا على أن معطى الكمال أحق بالكمال فمن جعل غيره سميعا بصيرا عالما متكلما حيا حكيما قادرا مريدا رحيما محسنا فهو أولى بذلك وأحق منه ويثبت له من هذه الصفات أكملها وأتمها وهذا مقتضى قولهم كمال المعلول مستفاد من كمال علته ولكن نحن ننزه الله عز وجل عن إطلاق هذه العبارة في حقه بل نقول كل كمال ثبت للمخلوق غير مستلزم للنقص فخالقه ومعطيه إياه أحق بالاتصاف به وكل نقص في المخلوق فالخالق أحق بالتنزه عنه كالكذب والظلم والسفه والعيب بل يجب تنزيه الرب تعالى عن كل النقائص والعيوب مطلقا وان لم يتنزه عنها بعض المخلوقين وكذلك إذا استدللنا على حكمته تعالى بهذه الطرائق نحو أن يقال إذا كان الفاعل الحكيم الذي لا يفعل فعلا إلا لحكمة وغاية مطلوبة له من فعله أكمل ممن يفعل لا لغاية ولا لحكمة ولا لأجل عاقبة محمودة وهي مطلوبة من فعله في الشاهد ففي حقه تعالى أولى وأحرى فإذا كان الفعل للحكمة كما لا فينا فالرب تعالى أولى به وأحق وكذلك إذا كان التنزه عن الظلم والكذب كما لا في حقنا فالرب تعالى أولى وأحق بالتنزه عنه وبهذا ونحوه ضرب الله الأمثال في القرآن وذكر العقول ونبهها وأرشدها إلى ذلك كقوله ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا فهذا مثل ضربه يتضمن قياس الأول يعني إذا كان
(2/213)
المملوك فيكم له ملاك مشتركون فيه وهم متنازعون ومملوك آخر له مالك واحد فهل يكون هذا وهذا سواء فإذا كان هذا ليس عندكم كمن له رب واحد ومالك واحد فكيف ترضون أن تجعلوا لأنفسكم آلهة متعددة تجعلونها شركاء لله تحبونها كما يحبونه وتخافونها كما يخافونه وترجونها كما يرجونه وكقوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وهجه مسودا وهو كظيم يعني أن أحدكم لا يرضى أن يكون له بنت فكيف تجعلون لله مالا ترضونه لأنفسكم وكقوله ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل
(2/214)
يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم يعني إذا كان لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر على شيء وغني موسع عليه ينفق مما رزقه الله فكيف تجعلون الصنم الذي هو أسوأ حالا من هذا العبد شريكا لله وكذلك إذا كان لا يستوي عندكم رجلان أحدهما أبكم لا يعقل ولا ينطق وهو مع ذلك عاجز لا يقدر على شيء وآخر على طريق مستقيم في أقواله وأفعاله وهو آمر بالعدل عامل به لأنه على صراط مستقيم فكيف تسوون بين الله وبين الصنم في العبادة ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وفي الحديث كقوله في حديث الحارث الأشعري وان الله أمركم أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا وان مثل من أشرك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله وقال له اعمل وأد إلى فكان يعمل ويؤدي إلى غيره فأيكم يحب أن يكون عبده كذلك فالله سبحانه لا تضرب الأمثال التي يشترك هو وخلقه فيها لا شمولا ولا تمثيلا وانما يستعمل في حقه قياس الأولى كما تقدم الوجه الخامس والثلاثون أن النفاة إنما ردوا على خصومهم من الجهمية المعتزلة في إنكار الصفات بقياس الغائب على الشاهد فقالوا العالم شاهدا من له العلم والمتكلم من قام به الكلام والحي والمريد والقادر من قام به الحياة والإرادة والقدرة ولا يعقل إلا هذا قالوا ولأن شرط إطلاق الاسم شاهدا وجود هذه الصفات ولا يستحق الاسم في الشاهد إلا من قامت به فكذلك في الغائب قالوا ولأن شرط العلم والقدرة والإرادة في الشاهد الحياة فكذلك في الغائب قالوا ولأن علم كون العالم عالما شاهدا وجود العلم وقيامه به فكذلك في الغائب فقالوا بقياس الغائب على الشاهد في العلة والشرط والاسم والحد فقالوا حد العالم شاهدا من قام به العلم فكذلك غائبا وشرط صحة إطلاق الاسم عليه شاهدا قيام العلم به فكذلك غائبا وعليه كونه عالما شاهدا قيام العلم به فكذلك غائبا فكيف تنكرون هنا قياس الغائب على الشاهد وتحتجون به في مواضع أخرى فأي تناقض أكثر من هذا فان كان قياس الغائب على الشاهد
(2/215)
باطلا بطل احتجاجكم علينا به في هذه المواضع وان كان صحيحا بطل ردكم في هذا الموضع فأما أن يكون صحيحا إذا استدللتم به باطلا إذا استدل به خصومكم فهذا أقبح التطفيف وقبحه ثابت بالعقل والشرع الوجه السادس والثلاثون قولكم أن الله خلى بين العباد وظلم بعضهم بعضا وأن ذلك ليس بقبيح منه فانه قبيح منا فذلك فاسد على أصل التكليف فان التكليف إنما يتم بإعطاء القدرة والاختيار والله تعالى قد أقدر عباده على الطاعات والمعاصي والصلاح والفساد وهذا الأقدار هو مناط الشرع والأمر والنهي فلولاه لم يكن شرع ولا رسالة ولا ثواب ولا عقاب وكان الناس بمنزلة الجمادات والأشجار والنبات فلو حال سبحانه بين العباد وبين القدرة على المعاصي لارتفع الشرع والرسالة والتكليف وانتفت فوائد البعثة ولزم من ذلك لوازم لا يحبها الله وتعطلت
(2/216)
به غايات محمودة محبوبة لله وهي ملزومة لأقدار العباد وتمكينهم من الطاعة والمعصية ووجود الملزوم بدون اللازم محال وقد نبهنا على شيء يسير من الحكم المطلوبة والغايات المحمودة فيما سلف من هذا الفصل وفي أول الكتاب فلو أن الرب تعالى خلق خلقه ممنوعين من المعاصي غير قادرين عليها بوجه لم يكن لإرسال الرسل وانزال الكتب والأمر والنهى والثواب والعقاب سبب يقتضيه ولا حكمة تستدعيه وفي ذلك تعطل الأمر جملة بل تعطيل الملك والحمد والرب تعالى له الخلق والأمر وله الملك والحمد والغايات المطلوبة والعواقب المحمودة التي لأجلها أنزل كتبه وأرسل رسله وشرع شرائعه وخلق الجنة والنار ووضع الثواب والعقاب وذلك لا يحصل إلا بأقدار العباد على الخير والشر وتمكينهم من ذلك فأعطاهم الأسباب والآلات التي يتمكنون بها من فعل هذا وهذا فلهذا حسن منه تبارك وتعالى التخلية بين عباده وبين ما هم فاعلوه وقبح من أحدنا أن يخلى بين عبيده وبين الإفساد وهو قادر على منعهم هذا مع أنه سبحانه لم يخل بينهم بل منعهم منه وحرمه عليهم ونصب لهم العقوبات الدنيوية والأخروية على القبائح وأحل بهم من بأسه وعذابه وانتقامه مالا يفعله السيد من المخلوقين بعبيده ليمنعهم ويزجرهم فقولكم أنه خلى بين عباد وبين إفساد بعضهم بعضا وظلم بعضهم بعضا كذب عليه فانه لم يخل بينهم شرعا ولا قدرا بل حال بينهم وبين ذلك شرعا أتم حيلولة ومنعهم قدرا بحسب ما تقتضيه حكمته الباهرة وعلمه المحيط وخلى بينهم وبين ذلك بحسب ما تقتضيه حكمته وشرعه ودينه فمنعه سبحانه لهم حيلولته بينهم وبين الشر أعظم من تخليته والقدر الذي خلاه بينهم في ذلك هو ملزوم أمره وشرعه ودينه فالذي فعله في الطرفين غاية الحكمة والمصلحة ولا نهاية فوقه لاقتراح عقل ولو خلى بينهم كما زعمتم لكانوا بمنزلة الأنعام السائمة بل لو تركهم ودواعي طباعهم لأهلك بعضهم بعضا وخرب العالم ومن عليه بل ألجمهم لجام العجز والمنع من كل ما
(2/217)
يريدون فلو أنه خلى بينهم وبين ما يريدون لفسدت الخليقة كما الجمهم بلجام الشرع والأمر ولو منعهم جملة ولم يمكنهم ولم يقدرهم لتعطل الأمر والشرع جملة وانتقت حكمة البعثة والإرسال والثواب والعقاب فأي حكمة فوق هذه الحكمة وأي أمر أحسن مما فعله بهم ولو أعطى الناس هذا المقام بعض حقه لعلموا أنه مقتضى الحكمة البالغة والقدرة التامة والعلم المحيط وأنه غاية الحكمة ومن فتح له بفهم في القرآن رآه من أوله إلى آخره ينبه العقول على هذا ويرشدها إليه ويدلها عليه وأنه يتعالى ويتنزه أن يكون هذا منه عبثا أو سدى أو باطلا أو بغير الحق أو لا لمعنى ولا لداع وباعث وان مصدر ذاك جميعه عن عزته وحكمته ولهذا كثيرا ما يقرن تعالى بين هذين الاسمين العزيز الحكيم في آيات التشريع والتكوين والجزاء ليدل عباده على أن مصدر ذلك كله عن حكمة بالغة وعزة قاهرة ففهم الموفقون عن الله عز وجل مراده وحكمته وانتهوا إلى ما وقفوا عليه
(2/218)
ووصلت إليه إفهامهم وعلومهم وردوا علم ما غاب عنهم إلى أحكم الحاكمين ومن هو بكل شيء عليم وتحققوا بما عملوه من حكمته التي بهرت عقولهم أن الله في كل ما خلق وأمر وأثاب وعاقب من الحكم البوالغ ما تقصر عقولهم عن إدراكه وأنه تعالى هو الغني الحميد العليم الحكيم فمصدر خلقه وأمره وثوابه وعقابه غناه وحمده وعلمه وحكمته ليس مصدره مشيئة مجردة وقدرة خالية من الحكمة والرحمة والمصلحة والغايات المحمودة المطلوبة له خلقا وأمرا وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ووقوع أفعاله كلها على أحسن الوجوه وأتمها على الصواب والسداد ومطابقة الحكم والعباد يسألون إذ ليست أفعالهم كذلك ولهذا قال خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام أنى توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أن ربي على صراط مستقيم فأخبر عن عموم قدرته تعالى وأن الخلق كلهم تحت تسخيره وقدرته وانه آخذ بنواصيهم فلا محيص لهم عن نفوذ مشيئته وقدرته فيهم ثم عقب ذلك بالأخبار عن تصرفه فيهم وأنه بالعدل لا بالظلم وبالإحسان لا بالإساءة وبالصلاح لا بالفساد فهو يأمرهم وينهاهم إحسانا إليهم وحماية وصيانة لهم ولا حاجة إليهم ولا بخلا عليهم بل جودا وكرما ولطفا وبرا ويثيبهم إحسانا وتفضلا ورحمة لا لمعاوضة واستحقاق منهم ودين واجب لهم يستحقونه عليه ويعاقبهم عدلا وحكمة لا تشفيا ولا مخافة ولا ظلما كما يعاقب الملوك وغيرهم بل هو على الصراط المستقيم وهو صراط العدل والإحسان في أمره ونهيه وثوابه وعقابه فتأمل ألفاظ هذه الآية وما جمعته من عموم القدرة وكمال الملك ومن تمام الحكمة والعدل والإحسان وما تضمنته من الرد على الطائفتين فأنها من كنوز القرآن ولقد كفت وشفت لمن فتح عليه بفهمها فكونه تعالى على صراط مستقيم ينفى ظلمه للعباد وتكليفه إياهم ما لا يطيقون وينفى العيب من أفعاله وشرعه ويثبت لها غاية الحكمة والسداد ردا على منكري ذلك وكون كل دابة تحت قبضته وقدرته وهو آخذ
(2/219)
بناصيتها ينبغي أن لا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدرته وأن من ناصيته بيد الله وفي قبضته لا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه ولا يفعل إلا بأقداره ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى ردا على منكري ذلك من القدرية فالطائفتان ما وفوا الآية معناها ولا قدروها حق قدرها فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه وهدايته واضلاله وفي نفعه وضره وعافيته وبلائه واغناه وإفقاره وإعزازه وإذلاله وانعامه وانتقامه وثوابه وعقابه وإحيائه وإماتته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه وفي كل ما يخلق وكل ما يأمر به وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم ونظير هذه الآية قوله تعالى وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لايأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فالمثل الأول للضم وعابديه والمثل الثاني ضربه الله تعالى لنفسه وأنه يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فكيف يسوى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء فما فعله الرب تبارك
(2/220)
وتعالى مع عباده هو غاية الحكمة والإحسان والعدل في اقدارهم واعطائهم ومنعهم وأمرهم ونهيهم فدعوى المدعى أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وامائه يفجر بعضهم ببعض ويسيء بعضهم بعضا اكذب دعوى وأبطلها والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره والتنبيه عليه والحمد لله الغني الحميد فغناه التام فارق وحمده وملكه وعزته وحكمته وعلمه وإحسانه وعدله ودينه وشرعه وحكمه وكرمه ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة والصفح عن المسيئين وتوبة التائبين وصبر الصابرين وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره ويتطلبون مراضيه ويعبدونه وحده ويسيرون في عبيده بسيرة العدل والإحسان والنصائح ويجاهدون أعداءه فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته فيتميز الخبيث من الطيب ووليه من عدوه ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب والحمد لأوليائه والذم لأعدائه وقد نبه تعالى على هذه الحكمة في كتابه في غير موضع كقوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء هذه الآية من كنوز القرآن نبه فيها على حكمته تعالى المقتضية تمييز الخبيث من الطيب وأن ذلك التمييز لا يقع إلا برسله فاجتبى منهم من شاء وأرسله إلى عباده فيتميز برسالتهم الخبيث من الطيب والولى من العدو ومن يصلح لمجاورته وقربه وكرامته ممن لا يصلح إلا للوقود وفي هذا تنبيه على الحكمة في إرسال الرسل وأنه لا بد منه وان الله تعالى لا يليق به الإخلال به وان من جحد رسالة رسله فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ونسبه إلى ما لا يليق به كما قال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما انزل الله على بشر من شيء فتأمل هذا الموضع حق التأمل واعطه حظه من الفكر فلو لم يكن في هذا الكتاب سواه لكان من أجل ما يستفاد والله الهادي إلى
(2/221)
سبيل الرشاد الوجه السابع والثلاثون قولكم أن الإغراق والإهلاك بخس منه تعالى وهو أقبح شيء منا فكيف يدعون حسن إنقاذ الغرقى عقلا إلى آخره كلام فاسد جدا فان الإغراق والإهلاك من الرب تعالى لا يخرج قط عن المصلحة والعدل والحكمة فانه إذا أغرق أعداءه وأهلكهم وانتقم منهم كان هذا غاية الحكمة والعدل والمصلحة وان أغرق أولياءه وأهل طاعته فهو سبب من الأسباب التي نصبها لموتهم وتخليصهم من الدنيا والوصول إلى دار كرامته ومحل قربه ولا بد من موت على كل حال فاختار لهم أكمل الموتتين وأنفعهما لهم في معادهم ليوصلهم إلى درجات عالية لا تنال إلا بتلك الأسباب التي نصبها الله موصلها كإيصال سائر الأسباب إلى مسبباتها ولهذا سلط على أنبيائه وأوليائه ما سلط عليهم من القتل وأذى الناس وظلمهم لهم وعدوانهم عليهم وما ذاك لهوانهم عليه ولا لكرامة أعدائهم عليه بل ذاك عين كرامتهم وهوان أعدائهم عليه وسقوطهم من عينه لينالوا بذلك ما خلقوا له من مساكنتهم في دار
(2/222)
الهوان وينال أولياؤه وحزبه ما هيئ لهم من الدرجات العلي والنعيم المقيم فكل تسليط أعدائه وأعدائهم عليهم عين كرامتهم وعين إهانة أعدائهم فهذا من بعض حكمه تعالى في ذلك ووراء ذلك من الحكم ما لا تبلغه العقول والأفه والإفهام وكان إغراقه واهلاكه وابتلاؤه محض الحكمة والعدل في حق أعدائه ومحض الإحسان والفضل والرحمة في حق أوليائه فلهذا حسن منه ولعل الإغراق وتسليط القتل عليهم أسهل الموتتين عليهم مع ما في ضمنه من الثواب العظيم فيكون وقد بلغ حسن اختياره لهم إلى أن خفف عليهم الموتة وأعاضهم عليها أفضل الثواب فانه لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمس القرصة ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والموت واحد فليس إماتة أوليائه شهداء بيد أعدائه إهانة لهم ولا غضبا عليهم بل كرامة ورحمة وإحسانا ولطفا وكذلك الغرق والحرق والردم والتردى والبطن وغير ذلك والمخلوق ليس بهذه المثابة فلهذا قبح منه الإغراق والإهلاك وحسن من اللطيف الخبير الوجه الثامن والثلاثون قولكم إذا كان لله في إغراقه واهلاكه سبحانه حكمة وسر لا نطلع عليه نحن فقد رأوا مثله في ترك إنقاذنا الغرقى كلام تغى ركته وفساده عن تكلف رده وهل يجوز أن يقال إذا كان لله الحكمة البالغة والأسرار العظيمة في إهلاك من يهلكه وابتلاء من يبتليه ولهذا حسن منه ذلك فيلزم من هذا أن يقال يجوز أن يكون في تركنا انجاء الغرقى ونصر المظلوم سد الخلة وستر العورة حكما وأسرارا لا يعلمها العقلاء والمناكدة في البحوث إذا وصلت إلى هذا الحد سمجت وثقلت على النفوس ومحتها القلوب والأسماع الوجه التاسع والثلاثون قولكم العقلان من حيث الصفات النفسية واحدة فكيف يقبح أحدهما من فاعل ويحسن الآخر وبمنزلة أن يقال السجود لله والسجود للصنم واحد من حيث الصفات النفسية فكيف يقبح أحدهما ويحسن الآخر وهل في الباطل أبطل من هذا الوهم فما جعل الله ذلك واحدا أصلا وليس إماتة الله لعبده مثل قتل
(2/223)
المخلوق له ولا أجاعته واعراؤه وابتلاؤه مساويا في الصفات النفسية لفعل المخلوق بالمخلوق ذلك ودعوى التساوي كذب وباطل فلا أعظم من التفاوت بينهما وهل يساوي هذا الفعل والفطرة فعل الله وفعل المخلوق فيا لله العجب أن بتناولهما اسم الفعل المشترك صارا سواء في الصفات النفسية أترى حصل لهما هذا التساوي من جهة الفعلين والذي أوجب هذا الخيال الفاسد اتحاد المحل وتعلق الفعلين به وهل يدل هذا على استواء الفعلين في الصفات النفسية ولقد وهت أركان مسألة بنيت على هذا الشفا فانه شفا جرف هار والله المستعان الوجه الأربعون قولكم مواجب العقول في أصل التكليف معارضة الأصول فيقال معاذ الله من تعارضهما بل هي متفقة الأصول مستقر حسنها في العقول والفطر مركوز ذلك فيها فما شرع الله شيئا فقال العقل
(2/224)
السليم ليته شرع خلافه بل هي متعارضة بين العقل والهوى والعقل يقضى بحسنها ويدعو إليها ويأمر بمتابعتها جملة في بعضها وجملة وتفصيلا في بعض والهوى والشهوة قد يدعوان غالبا إلى خلافها فالتعارض واقع بين مواجب العقول ومواجب الهوى وما جعل الله في العقل ولا في الفطرة استقباحا لما أمر به ولا استحسانا لما نهى عنه وأن مال الهوى إلى خلاف أمره ونهيه فالعقل حينئذ يكون مأمورا مع الهوى مقهورا في قبضته وتحت سلطانه الوجه الحادي والأربعون قولكم نطالبكم بإظهار وجه الحسن في أصل التكليف وايجابه عقلا وشرعا فيقال يالله العجب أيحتاج أمر الله تعالى لعباده بما فيه غاية صلاحهم وسعادتهم في معاشهم ومعادهم ونهيه لهم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم في معاشهم ومعادهم إلى المطالبة بحسنه ثم لا يقتصر على المطالبة بحسنه عقلا حتى يطالب بحسنه عقلا وشرعا فأي حسن لم يأمر الله به ويستحبه لعباده ويندبهم إليه وأي حسن فوق حسن ما أمر به وشرعه وأي قبيح لم ينه عنه ولم يزجر عباده من ارتكابه وأي قبح فوق قبح ما نهى عنه وهل في العقل دليل أوضح من علمه بحسن ما أمر الله به من الأيمان والإحسان وتفاصيلها من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وأنواع البر والتقوى وكل معروف تشهد الفطر والعقول به من عبادته وحده لا شريك له على أكمل الوجوه وأتمها والإحسان إلى خلقه بحسب الإمكان فليس في العقل مقدمات هي أوضح من هذا المستدل عليه فيجعل دليلا له وكذلك ليس في العقل دليل أوضح من قبح ما نهى الله عنه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق والشرك بالله بأن يجعل له عديل من خلقه فيعبد كما يعبد ويحب كما يحب ويعظم كما يعظم ومن الكذب على الله وعلى أنبيائه وعباده المؤمنين الذي فيه خراب العالم وفساد الوجود فأي عقل لم يدرك حسن ذلك وقبح هذا فأحرى أن لا يدرك الدليل على ذلك وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل فما أبقى الله عز وجل
(2/225)
حسنا إلا أمر به وشرعه ولا قبيحا إلا نهى عنه وحذر منه ثم أنه سبحانه أودع في الفطر والعقول الإقرار بذلك فأقام عليها الحجة من الوجهين ولكن اقتضت رحمته وحكمته أن لا يعذبها إلا بعد إقامتها عليها برسله وان كانت قائمة عليها بما أودع فيها واستشهدها عليه من الإقرار به وبوحدانيته واستحقاقه الشكر من عباده بحسب طاقتهم على نعمه وبما نصب عليها من الأدلة المتنوعة المستلزمة إقرارها بحسن الحسن وقبح القبيح الوجه الثاني والأربعون أنا نذكر لكم وجها من الوجوه الدالة على وجه الحسن في أصل التكليف والإيجاب فنقول لا ريب أن إلزام الناس شريعة يأتمرون بأوامرها التي فيها صلاحهم وينتهون عن مناهيها التي فيها فسادهم أحسن عند كل عاقل من تركهم هملا كالأنعام لا يعرفون معروفا
(2/226)
ولا ينكرون منكرا وينزو بعضهم على بعض نزو الكلاب والحمر ويعدو بعضهم على بعض عدو السباع والكلاب والذئاب ويأكل قويهم ضعيفهم لا يعرفون الله ولا يعبدونه ولا يذكرونه ولا يشكرونه ولا يمجدونه ولا يدينون بدين بل هم من جنس الأنعام السائمة ومن كابر عقله في هذا سقط الكلام معه ونادى على نفسه بغاية الوقاحة ومفارقة الإنسانية وما نظير مطالبتكم هذه إلا مطالبة من يقول نحن نطالبكم بإظهار وجه المنفعة في خلق الماء والهواء والرياح والتراب وخلق الأقوات والفواكه والأنعام بل في خلق الأسماع والأبصار والألسن والقوى والأعضاء التي في العبد فان هذه أسباب ووسائل ووسائط وأما أمره وشرعه ودينه فكماله غاية وسعادة في المعاش والمعاد ولا ريب عنه العقلاء أن وجه الحسن فيه أعظم من وجه الحسن في الأمور الحسية وان كان الحسن هو الغالب على الناس وانما غاية أكثرهم إدراك الحسن والمنفعة في الحسيات وتقديمها وإيثارها على مدارك العقول والبصائر قال تعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ولو ذهبنا نذكر وجوه المحاسن المودعة في الشريعة لزادت على الألوف ولعل الله أن يساعده بمصنف في ذلك مع أن هذه المسألة بابه وقاعدته التي عليها بناؤه الوجه الثالث والأربعون قولكم أنه سبحانه لا يتضرر بمعصية العبد ولا ينتفع بطاعته ولا تتوقف قدرته في الإحسان على فعل يصدر من العبد بل كما أنعم عليه ابتداء فهو قادر على أن ينعم عليه بلا توسط فيقال هذا حق ولكن لا يلزم فيه أن لا تكون الشريعة والأمر والنهى معلومة الحسن عقلا ولا شرعا ولا يلزم منه أيضا عدم حسن التكليف عقلا ولا شرعا فذكركم كم هذا عديم الفائدة فانه لم يقل منازعوكم ولا غيرهم أن الله سبحانه يتضرر بمعاصي العباد وينتفع بطاعاتهم ولا أنه غير قادر على إيصال الإحسان إليهم بلا واسطه ولكن ترك التكليف وترك العباد هملا كالأنعام لا يؤمرون ولا ينهون
(2/227)
مناف لحكمته وحمده وكمال ملكه والهيته فيجب تنزيهه عنه ومن نسبه إليه فما قدره حق قدره وحكمته البالغة اقتضت الأنعام عليهم ابتداء وبواسطة الأيمان والواسطة في إنعامه عليهم أيضا فهو المنعم بالوسيلة والغاية وله الحمد والنعمة في هذا وهذا يوضحه الوجه الرابع والأربعون وهو أن إنعامه عليه ابتداء بالإيجاد واعطاء الحياة والعقل والسمع والبصر والنعم التي سخرها له إنما فعلها به لأجل عبادته إياه وشكره له كما قال تعالى وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون وقال تعالى قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم وأصح الأقوال في الآية أن معناها ما يصنع بكم ربي لو لا عبادتكم إياه فهو سبحانه لم يخلقكم إلا لعبادته فكيف يقال بعد هذا أن تكليفه إياهم عبادته غير حسن في العقل لأنه قادر على الأنعام عليهم بالجزاء من غير توسط العبادة الوجه الخامس والأربعون أن قدرته سبحانه على الشيء لا تنفي حكمته البالغة من وجوده
(2/228)
فإنه تعالى يقدر على مقدورات تمنع بحكمته كقدرته على قيامه الساعة الآن وقدرته على إرسال الرسل بعد النبي وقدرته على إبقائهم بين ظهور الأمة إلى يوم القيامة وقدرته على أماتة إبليس وجنوده واراحة العالم منهم وقد ذكر سبحانه في القرآن قدرته على ما لا يفعله لحكمته في غير موضع كقوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم وقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وأنا على ذهاب به لقادرون وقوله أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه أي نجعلها كخف البعير صفحة واحدة وقوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني وقوله لآمن من في الأرض كلهم جميعا وقوله ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة فهذه وغيرها مقدورات له سبحانه وانما امتنعت لكمال حكمته فهي التي اقتضت عدم وقوعها فلا يلزم من كون الشيء مقدورا أن يكون حسنا موافقا للحكمة وعلى هذا فقدرته تبارك وتعالى على ما ذكرتم لا تقتصي حسنه وموافقته لحكمته ونحن إنما نتكلم معهم في الثاني لا في الأول فالكلام في الحكمه يقتضي الحكمة والعناية غير الكلام في المقدور فتعلق الحكمة شيء ومتعلق القدرة شيء ولكن انتم إنما لويتم من إنكار الحكمة فلا يمكنكم التفريق بين المتعلقين بل قد اعترف سلفكم وأئمتكم بأن الحكمة لا تخرج عن صحة تعلقه بالمقدور ومطابقته لها أو تعلق العلم بالمعلوم ومطابقته له ولما بنيتم على هذا الأصل لم يمكنكم الفرق بين موجب الحكمة وموجب القدرة فتوعرت عليكم الطريق وألجأتم أنفسكم إلى اصعب مضيق الوجه الثالث والأربعون قولكم أنه تعالى لو ألقى إلى العبد زمام الاختيار وتركه يفعل ما يشاء جريا على رسوم طبعه المائل إلى لذيذ الشهوات ثم أجزل له في العطاء من غير حساب كان أروح للعبد ولم يكن قبيحا عند العقل فيقال لكم ما تعنون بإلقاء زمام الاختيار إليه أتعنون به أنه لا
(2/229)
يكلفه ولا يأمره ولا ينهاه بل يجعله كالبهيمة السائمة المهملة أم تعنون به أنه يلقى إليه زمام الاختيار مع تكليفه وأمره ونهيه فان عنيتم الأول فهو من أقبح شيء في العقل وأعظمه نقصا في الآدمي ولو ترك ورسوم طبعه لكانت البهائم أكمل منه ولم يكن مكرما مفضلا على كثير ممن خلق الله تفضيلا بل كان كثير من المخلوقات أو أكثرها مفضلا عليه فانه يكون مصدودا عن كماله الذي هو مستعد له قابل له وذلك أسوأ حالا وأعظم نقصا مما منع كمالا ليس قابلا له وتأمل حال الآدمي المخلى ورسوم طبعه المتروك ودواعي هواه كيف تجه في شرار الخليقة وأفسدها للعالم ولو لا من يأخذ على يديه لأهلك الحرث والنسل وكان شرا من الخنازير والذئاب والحيات فكيف يستوي في العقل أمره ونهيه بما فيه صلاحه وصلاح غيره به وتركه وما فيه أعظم فساده وفساد النوع وغيره به وكيف لا يكون هذا القول قبيحا وأي قبح أعظم
(2/230)
من هذا ولهذا أنكر الله سبحانه على من جوز عقله مثل هذا ونزه نفسه عنه فقال تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدى قال الشافعي معطلا لا يؤمر ولا ينهى وقيل لا ثياب ولا يعاقب وقال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ثم نزه نفسه عن هذا الظن الكاذب وأنه لا يليق به ولا يجوز في العقول نسبة مثله إليه لمنافاته لحكمته وربوبيته والهيته وحمده فقال فتعالى الله الملك الحق لا اله إلا هو رب العرش الكريم وقال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق وفسر الحق بالثواب والعقاب وفسر بالأمر والنهي وهذا تفسير له ببعض معناه والصواب أن الحق هو ألهيته وحكمته المتضمنة للخلق والأمر والثواب والعقاب فمصدر ذلك كله الحق وبالحق وجد وبالحق قام وغايته الحق وبه قيامه فمحال أن يكون على غير هذا الوجه فانه يكون باطلا وعبثا فتعالى الله عنه لمنافاته ألهيته وحكمته وكمال ملكه وحمده وقال تعالى أن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياب لأولى الألباب الذي يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وتأمل كيف أخبر سبحانه عنه بنفي الباطلية عن خلقه دون إثبات الحكمة لأن بيان نفي الباطل على سبيل العموم والاستغراق أوغل في المعنى المقصود وأبلغ من إثبات الحكم لأن بيان جميعها لا يفي به إفهام الخليقة وبيان البعض يؤذن بتناهي الحكمة ونفى البطلان والخلو عن الحكمة والفائدة تفيد أن كل جزء من أجزاء العالم علويه وسفليه متضمن لحكم جمة وآيات باهرة ثم أخبر سبحانه عنهم بتنزيهه عن الخلق باطلا خلوا عن الحكمة ولا معنى لهذا التنزيه عند النفاة فان الباطل عندهم هو المحال لذاته فعلى قولهم نزهوه عن المحال لذاته الذي ليس بشيء كالجمع بين النقيضين وكون الجسم الواحد لا يكون في مكانين ومعلوم قطعا أن هذا ليس مراد الرب
(2/231)
تعالى مما نزه نفسه عنه وأنه لا يمدح أحد بتنزيهه عن هذا ولا يكون المنزه به مثنيا ولا حامدا ولم يخطر هذا بقلب بشر حتى ينكره الله على من زعمه ونسبه إليه وقال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق فنفى اللعب عن خلقه وأثبت أنه إنما خلقهما بالحق فجمع تعالى بين نفي اللعب الصادر عن غير حكمة وغاية محمودة واثبات الحق المتضمن للحكم والغايات المحمودة والعواقب المحبوبة والقرآن مملوء من هذا بنفي العبث والباطل واللعب تارة وتنزيه الرب نفسه عنه تارة واثبات الحكم الباهرة في خلقه تارة كيف يجوز أن يقال أنه لو عطل خلقه وتركهم سدى لم يكن ذلك قبيحا في العقل فان عنيتم أنه يلقى إليه زمام الاختيار مع أمره ونهيه فهذا حق فانه جعله مختارا مأمورا منهيا وان كان اختياره مخلوقا له تعالى إذ هو من جملة الحوادث الصادرة عن خلقه ولكن
(2/232)
هذا الاختيار لا ينافى التكليف ولا يكون إلا به بوجه بل لا يصح التكليف إلا به الوجه السابع والأربعون قولكم فقد تعارض الأمران أحدهما أن يكلفهم فيأمر وينهى حتى يطاع ويعصى ثم يثيبهم ويعاقبهم الثاني أن لا يكلفهم إذ لا يتزين منهم بطاعة ولا تشينه معصيتهم وإذا تعارض في المعقول هذان الأمران فكيف يهدي العقل إلى اختيار أحدهما عقلا فكيف يعرفنا الوجوب على نفسه بالمعرفة وعلى الجوارح بالطاعة وعلى الرب تعالى بالثواب فيقال لكم لم يتعارض بحمد الله الأمران لأن أحدهما قد علم قبحه في المعقول والآخر قد علم حسنه في المعقول فكيف يتعارض في العقل جواز الأمرين وأن يكون نسبتهما إلى الرب تعالى نسبة واحدة وانما يتعارض الجائزات على كل سواء بحيث لا يترجح بعضها عن بعض فأما الحسن والقبح فلم يتعارض في العقل قط استواؤهما وقد قررنا مما لا مدفع له قبح الترك سدى بمنزلة الأنعام السائمة وحسن الأمر والنهى وأستصلاحهم في معاشهم ومعادهم فكيف يقال أن هذين الأمرين سواء في العقل بحيث يتعارضان فيه ويقضى باستوائهما بالنسبة إلى أحكم الحاكمين فان قيل إنما تعارضا في المقدورية إذ نسبة القدرة إليهما واحدة قلنا قد تقدم أنه لا يلزم من كون الشيء مقدورا أن لا يكون ممتنعا لمنافاته الحكمة وقد بينا ذلك قريبا فيكون تركهم هملا وسدى مقدورا للرب تعالى لا يقتضي معارضته لمقدوره الآخر في تكليفهم وأمرهم ونهيهم الوجه الثامن والأربعون قولكم إذ لا يتزين منهم بطاعة ولا تشيئه معصيتهم قلنا ومن الذي نازع في هذا ولكن حسن التكليف لا ينفى ذلك عن الرب تعالى وأنه إنما يكلفهم تكليف من لا يبلغوا ضره فيضروه ولا يبلغوا نفعه فينفعوه وأنهم لو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك في ملكه شيئا وههنا اختلفت الطرق بالناس في علة التكليف وحكمته مع كونه سبحانه لا ينتفع بطاعتهم ولا تضره
(2/233)
معصيتهم فسلكت الجبرية مسلكها المعروف وأن ذلك صادر عن محض المشيئة وصرف الإرادة وأنه لا علة له ولا باعث عليه سوى محض الإرادة وسلكت القدرية مسلكها المعروف وهل ذلك إلا استئجار منه لعبيده لينالوا أجرهم بالعمل فيكون ألذ من اقتضائهم الثواب بلا عمل لما فيه من تكدير المنة والمسلكان كما ترى وحسبك ما يدل عليه العقل الصريح والنقل الصحيح من بطلانهما وفسادهما وليس عند الناس غير هذين المسلكين إلا مسلك من هو خارج عن الديانات واتباع الرسل ممن يرى أن الشرائع وضعت نواميس يقوم عليها مصلحة الناس ومعيشتهم فان فائدتها تكميل قوة النفس والحكمة وهذا مسلك خارج عن مناهج الأنبياء وأممهم وأما أتباع الرسل الذين هم أهل البصائر فحكمة الله عز وجل في تكليفهم ما كلفهم به أعظم وأجل عندهم مما يخطر بالبال أو يجري به
(2/234)
المقال ويشهدون له سبحانه في ذلك بالحكم الباهرة والأسرار العظيمة أكثر مما يشهدونه في مخلوقاته وما تضمنته ومن الأسرار والحكم ويعلمون مع ذلك أنه لا نسبة لما أطلعهم سبحانه عليه من ذلك إلى ما طوى علمه عنهم واستأثر به دونهم وأن حكمته في أمره ونهيه وتكليفهم أجل وأعظم مما تطيقه عقول البشر فهم يعبدونه سبحانه بأمره ونهيه لأنه تعالى أهل أن يعبد وأهل أن يكون الحب كله له والعبادة كلها له حتى لو لم يخلق جنة ولا نارا ولا وضع ثوابا ولا عقابا لكان أهلا أن يعبد أقصى ما تناله قدرة خلقه من العبادة وفي بعض الآثار الإلهية لو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا أن أعبد حتى أنه لو قدر أنه لم يرسل رسله ولم ينزل كتبه لكان في الفطرة والعقل ما يقتضي شكره وأفراده بالعبادة كما أن فيهما ما يقتضي المنافع واجتناب المضار ولا فرق بينهما في الفطرة والعقل فان الله فطر خليقته على محبته والأقبالعليه وابتغاء الوسيلة إليه وأنه لا شيء على الإطلاق أحب إليهما منه وان فسدت فطر أكثر الخلق بما طرأ عليها مما اقتطعها واجتالها عما خلق فيها كما قال تعالى فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها فبين سبحانه أن إقامة الوجه وهو إخلاص القصد وبذل الوسع لدينه المتضمن محبته وعبادته حنيفا مقبلا عليه معرضا عما سواه هو فطرته التي فطر عليها عباده فلو خلوا ودواعي فطرهم لما رغبوا عن ذلك ولا اختاروا سواه ولكن غيرت الفطر وأفسدت كما قال النبي ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ثم يقول أبو هريرة اقرأوا أن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه ومنيبين نصب على الحال من المفعول أي فطرهم منيبين إليه والإنابة إليه تتضمن الإقبال عليه بمحبته
(2/235)
وحده والأعراض عما سواه وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن النبي قال أن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في مقامي هذا أنه قال كل مال نحلته عبدا فهو له حلال واني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وحرمت عليهم ما أحللت لهم فأخبر سبحانه أنه إنما فطر عباده على الحنيفة المتضمنة لكمال حبه والخضوع له والذل له وكمال طاعته وحده دون غيره وهذا من الحق الذي خلقت له وبه قامت السموات والأرض وما بينهما وعليه قام العالم ولأجله خلقت الجنة والنار ولأجله أرسل رسله وأنزل كتبه ولأجله هلك القرون التي خرجت عنه وآثرت غيره فكونه سبحانه أهلا أن يعبد ويحب ويحمد ويثني عليه أمر ثابت له لذاته فلا يكون إلا كذلك كما أن الغنى القادر الحي القيوم السميع البصير فهو سبحانه الإله الحق المبين والإله هو الذي يستحق أن يوله محبة
(2/236)
وتعظيما وخشية وخضوعا وتذللا وعبادة فهو الإله الحق ولو لم يخلق خلقه وهو الإله الحق ولو لم يعبدوه فهو المعبود حقا إلا له حقا المحمود حقا ولو قدر أن خلقه لم يعبدوه ولم يحمدوه ولم يألهوه فهو الله الذي لا اله إلا هو قبل أن يخلقهم وبعد أن خلقهم وبعد أن يغنيهم لم يستحدث بخلقه لهم ولا بأمره إياهم استحقاق الإلهية والحمد بل الإلهية وحمده ومجده وغناه أوصاف ذاتية له يستحيل مفارقتها له لحياته ووجوده وقدرته وعلمه وسائر صفات كماله فأولياؤه وخاصته وحزبه لما شهدت عقولهم وفطرهم أنه أهل أن يعبد وان لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليه كتابا ولو لم يخلق جنة ولا نارا علموا أنه لا شيء في العقول والفطر أحسن من عبادته ولا أقبح من الأعراض عنه وجاءت الرسل وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في الفطر والعقول من ذلك وتكميله وتفضيله وزيادته حسنا إلى حسنه فاتفقت شريعته وفطرته وتطابقا وتوافقا وظهر أنهما من مشكاة واحدة فعبدوه وأحبوه ومجدوه وحمدوه بداعي الفطرة وداعي الشرع وداعي العقل فاجتمعت لهم الدواعي ونادتهم من كل جهة ودعتهم إلى وليهم والههم وفاطرهم فأقبلوا إليه بقلوب سليمة لم يعارض خبره عندها شبهة توجب ريبا وشكا ولأمره شهوة توجب رغبتها عنه وإيثارها سواه فأجابوا دواعي المحبة والطاعة إذ نادت بهم حي على الفلاح وبذلوا أنفسهم في مرضاة مولاهم الحق بذل أخي السماح وحمدوا عند الوصول إليه مسراهم وانما يحمد القوم السرى عند الصباح فدينهم دين الحب وهو الدين الذي لا إكراه فيه وسيرهم سير المحبين وهو الذي لا وقفة تعتريه أنى أدين بدين الحب ويحكم فذاك ديني ولا إكراه في الدين ومن يكن دينه كرها فليس له إلا العناء وألا السير في الطين وما استوى سير عبد في محبته وسير خال من الأشواق في دين فقل لغير أخي الأشواق ويحك قد غبنت حظك لا تغتر بالدون نجائب الحب تعلوا بالمحب إلى أعلى المراتب من فوق السلاطين وأطيب
(2/237)
العيش في الدارين قد رغبت عنه التجار فباعت بيع مغبون فان ترد علمه فاقرأه ويحك في آيات طه وفي آيات ياسين ولا ريب أن كمال العبودية تابع لكمال المحبة وكمال المحبة تابع لكمال المحبوب في نفسه والله سبحانه له الكمال المطلق التام في كل وجه الذي لا يعتريه توهم نقص أصلا ومن هذا شأنه فان القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه ما دامت فطرها وعقولها سليمة وإذا كانت أحب الأشياء إليها فلا محالة أن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه وهذا الباعث اكمل بواعث العبودية وأقواها حتى لو فرض تجرده عن الأمر
(2/238)
والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوسع واستخلص القلب للمعبود الحق ومن هذا قول بعض السلف أنه ليستخرج حبه من قلبي ما لا يستخرجه قوله ومنه قول عمر في صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وقد كان هذا هو الواجب على كل عاقل كما قال بعضهم هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق طاعة رب الورى الأكرم وقد قام رسول الله حتى تفطرت قدماه فقيل له تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا واقتصر من جوابهم على ما تدركه عقولهم وتناله إفهامهم وألا فمن المعلوم أن باعثه على ذلك الشكر أمر يجل عن الوصف ولا تناله العبادة ولا الأذهان فأين هذا الشهود من شهود طائفة القدرية والجبرية فليعرض العاقل اللبيب ذينك المشهدين على هذا المشهد ولينظر ما بين الأمرين من التفاوت فالله سبحانه يعبد ويحمد ويحب لأنه أهل لذلك ومستحقه بل ما يستحقه سبحانه من عباده أمر لا تناله قدرتهم ولا إرادتهم ولا تتصوره عقولهم ولا يمكن أحد من خلقه قط أن يعبده حق عبادته ولا يوفيه حقه من المحبة والحمد ولهذا قال أفضل خلقه وأكملهم وأعرفهم به وأحبهم إليه وأطوعهم له لا أحصى ثناء عليك وأخبر أن عمله لا يستقل بالنجاة فقال لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل عليه صلوات الله وسلامه عدد ما خلق في السماء وعدد ما خلق في الأرض وعدد ما بينهما وعدد ما هو خالق وفي الحديث المرفوع المشهور أن من الملائكة من هو ساجد لله لا يرفع رأسه منذ خلق ومنهم راكع لا يرفع رأسه من الركوع منذ خلق إلى يوم القيامة وأنهم يقولون يوم القيامة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ولما كانت عبادته تعالى تابعة لمحبته واجلاله وكانت المحبة نوعين محبة تنشأ عن الأنعام والإحسان فتوجب شكرا وعبودية بحسب كما لها ونقصانها ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من
(2/239)
الأولى كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين واما أن تقع الطاعة صادرة عن خوف محض غير مقرون بمحبته فهذا قد ظنه كثير من المتكلمين وهي عندهم غاية المعارف بناء على أصلهم الباطل أن الله لا تتعلق المحبة بذاته وانما تتعلق بمخلوقاته مما في الجنة من النعيم فهم لا يحبونه لذاته ولا لإحسانه وينكرون محبته لذلك وانما المحبوب عندهم في الحقيقة غيره وهذا من أبطل الباطل وستذكر في القسم الثاني أن شاء الله في هذا الكتاب بطلان هذا المذهب من أكثر من مائة وجه ولو عرف القوم صفات الأرواح وأحكامها لعلموا أن طاعة من لا تجب عبادته محال وأن من أتى بصورة الطاعة خوفا مجردا عن الحب فليس بمطيع ولا عابد وانما هو كالمكره أو كأجير السوء الذي أن أعطى عمل وان لم يعط كفر وأبق وسيرد عليك بسط الكلام في هذا قريب عن أن شاء الله والمقصود أن الطاعة والعبادة الناشئة عن محبة الكمال والجمال أعظم من الطاعة الناشئة عن رؤية الأنعام والإحسان وفرق عظيم بين ما تعلق بالحي الذي لا يموت وبين ما تعلق بالمخلوق وان شمل النوعين اسم المحبة ولكن كم بين من يحبك لذاتك وأوصافك وجمالك وبين من يحبك لخيرك ودراهمك
فصل والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية
(2/240)
والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها أعنى من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطنا ولوازم التوكل وثمراته ظاهرا وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل مالا يرضى الله وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطنا ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعا من العبودية الظاهرة هي موجباتها وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضاها لأنه لا يتزين من عباده بطاعتهم ولا تشينه معصيتهم وتأمل قوله في الحديث الصحيح الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى يا عبادي أنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ذكر هذا عقب قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم فتضمن ذلك أن ما يفعله تعالى بهم في غفران زلاتهم وإجابة دعواتهم وتفريج كرباتهم ليس لجلب منفعة منهم
(2/241)
ولا لدفع مضرة يتوقعها منهم كما هو عادة المخلوق الذي ينفع غيره ليكافئه بنفع مثله أو ليدفع عنه ضررا فالرب تعالى لم يحسن إلى عباده ليكافئوه ولا ليدفعوا عنه ضررا فقال لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني أني لست إذا هديت مستهديكم وأطعمت مستطعمكم وكسوت مستكسيكم وأرويت مستسقيكم وكفيت مستكفيكم وغفرت لمستغفركم بالذي أطلب منكم أن تنفعوني أو تدفعوا عني ضررا فأنكم لن تبلغوا ذلك وأنا الغني الحميد كيف والخلق عاجزون عما يقدرون عليه من الأفعال إلا بأقداره وتيسيره وخلقه فكيف بما لا يقدرون عليه فكيف يبغلون نفع الغني الصمد الذي يمتنع في حقه أن يستجلب من غيره نفعا أو يستدفع منه ضررا بل ذلك مستحيل في حقه ثم ذكر بعد هذا قوله يا عبادي لو أن أو لكم وأخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ولو أن أولكم وأخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا فبين سبحانه أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات لا يتضمن استجلاب نفعهم ولا استدفاع ضررهم كأمر السيد عبده والوالد ولده والأمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور ونهيهم عما يضر الناهي والمنهي فبين تعالى أنه المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم وبما يأمرهم به ولهذا لما ذكر الأصلين بعد هذا وأن تقواهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه شيئا ولا ينقصه وأن نسبة ما يسألونه كلهم إياه فيعطيهم إلى ما عنده كلا نسبة فتضمن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يحسن إليهم بإجابة الدعوات وغفران الزلات وتفريج الكربات لاستجلاب منفعة ولا لاستدفاع مضرة وأنهم لو أطاعوه كلهم لم يزيدوا في ملكه شيئا ولو عصوه كلهم لم ينقصوا من ملكه شيئا وأنه الغني الحميد ومن كان هكذا فانه لا يتزين بطاعة عباده ولا تشينه معاصيهم ولكن له من الحكم البوالغ في تكليف عباده وأمرهم ونهيهم ما
(2/242)
يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى بحسب قواهم وطاقتهم لا بحسب ما ينبغي له فانه أعظم وأجل من أن يقدر خلقه عليه ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمح به طبائعهم وقواهم فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم ولا أنفع للعبد منه فهذان مسلكان آخران في حسن التكليف والأمر والنهي أحدهما يتعلق بذاته وصفاته وأنه أهل لذلك وان جماله تعالى وكماله وأسماءه وصفاته تقتضي من عباده غاية الحب والذل والطاعة له والثاني متعلق بإحسانه وانعامه ولا سيما مع غناه عن عباده وانه إنما يحسن إليهم رحمة منه وجودا وكرما لا لمعاوضة ولا لاستجلاب منفعة ولا لدفع مضرة وأي المسلكين سلكه العبد أوقفه على محبته وبذل الجهد
(2/243)
في مرضاته فأين هذان المسلكان من ذينك المسلكين وانما أتى القوم من إنكارهم المحبة وذلك الذي حرمهم من العلم والأيمان ما حرمهم وأوجب لهم سلوك تلك الطرق المسدودة والله الفتاح العليم الوجه التاسع والأربعون قولكم فلا تكون نعمه تعالى ثوابا بل ابتداء كلام يحتمل حقا وباطلا فان أردتم به أنه لا يثيبهم على أعمالهم بالجنة ونعيمها ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فهو باطل والقرآن أعظم شاهد ببطلانه قال تعالى فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب وقال تعالى ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون وقال تعالى وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون وقال تعالى أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون وقال تعالى أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين وقال تعالى والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين وهذا في القرآن كثير يبين أن الجنة ثوابهم وجزاؤهم فكيف يقال لا تكون نعمه ثوابا على الإطلاق بل لا تكون نعمه تعالى في مقابلة الأعمال والأعمال ثمنا لها فانه لن يدخل أحدا الجنة عمله ولا يدخلها أحد إلا بمجرد فضل الله ورحمته وهذا لا ينافي ما تقدم من النصوص فأنها إنما تدل على أن الأعمال أسباب لا أعواض وأثمان والذي نفاه النبي في الدخول بالعمل هو نفي استحقاق العوض ببذل عوضه فالمثبت باء السببية والمنفي باء المعاوضة والمقابلة وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والقدرية الجبرية تنفى باء السببية جملة وتنكر أن تكون الأعمال سببا في النجاة ودخول الجنة وتلك النصوص وأضعافها تبطل قولهم
(2/244)
والقدرية النفاة تثبت باء المعاوضة والمقابلة وتزعم أن الجنة عوض الأعمال وأنها ثمن لها وأن دخولها إنما هو بمحض الأعمال والنصوص النافية لذلك تبطل قولهم والعقل والفطر تبطل قول الطائفتين ولا يصح في النصوص والعقول إلا ما ذكرناه من التفصيل وبه يتبين أن الحق مع الوسط بين الفرق في جميع المسائل لا يستثنى من ذلك شيء فما اختلفت الفرق إلا كان الحق مع الوسط وكل من الطائفتين معه حق وباطل فأصاب الجبرية في نفي المعاوضة وأخطؤا في نفي السببية وأصاب المقدرية في إثبات السببية وأخطؤا في إثبات المعاوضة فإذا ضممت أحد نفي الجبرية إلى أحد إثباتي القدرية ونفيت باطلهما كنت أسعد بالحق منهما فان أردتم بأن نعمه لا تكون ثوابا هذا القدر وأنها لا تكون عوضا بل هو المنعم بالأعمال والثواب وله المنة
(2/245)
في هذا وهذا ونعمه بالثواب من غير استحقاق ولا ثمن يعاوض عليه بل فضل منه وإحسان فهذا هو الحق فهو المان بهدايته للأيمان وتيسيره للأعمال وإحسانه بالجزاء كل ذلك مجرد منته وفضله قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للأيمان أن كنتم صادقين الوجه الخمسون قولكم وإذا تعارض في العقول هذان الأمران فكيف يهتدي العقل إلى اختيار أحدهما قلنا قد تبين بحمد الله أنه لا تعارض في العقول بين الأمرين أصلا وانما يقدر التعارض بين العقل والهوى وأما أن يتعارض في العقول إرشاد العباد إلى سعادتهم في المعاش والمعاد وتركهم هملا كالأنعام السائمة لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فلم يتعارض هذان في عقل صحيح أبدا الوجه الحادي والخمسون قولكم فكيف يعرفنا العقل وجوبا على نفسه بالمعرفة وعلى الجوارح بالطاعة وعلى الرب بالثواب والعقاب فيقال وأي استبعاد في ذلك وما الذي يحيله فقد عرفنا العقل من الواجبات عليه ما يقبح من العبد تركها كما عرفنا وعرف أهل العقول وذوي الفطر التي لم تتواطأ على الأقوال الفاسدة وجوب الإقرار بالله وربوبته وشكر نعمته ومحبته وعرفنا قبح الإشراك به والأعراض عنه ونسبته إلى ما لا يليق به وعرفنا قبح الفواحش والظلم والإساءة والفجور والكذب والبهت والاثم والبغي والعدوان فكيف نستبعد منه أن يعرفنا وجوبا على نفسه بالمعرفة وعلى الجوارح بالشكر المقدور المستحسن في العقول التي جاءت الشرائع بتفصيل ما أدركه العقل منه جملة وبتقرير ما أدركه تفصيلا وأما الوجوب على الله بالثواب والعقاب فهذا مما تتباين فيه الطائفتان أعظم تباين فأثبتت القدرية من المعتزلة عليه تعالى وجوبا عقليا وضعوه شريعة له بعقولهم وحرموا عليه الخروج عنه وشهوة في ذلك كله بخلقه وبدعهم في ذلك سائر الطوائف وسفهوا رأيهم فيه وبينوا مناقضتهم وألزموهم بما لا محيد لهم عنه ونفت الجبرية أن يجب عليه ما أوجبه على
(2/246)
نفسه ويحرم عليه ما حرمه على نفسه وجوزوا عليه ما يتعالى ويتنزه عنه ومالا يليق بجلاله مما حرمه على نفسه وجوزوا عليه ترك ما أوجبه على نفسه مما يتعالى ويتنزه عن تركه وفعل ضده فتباين الطائفتان أعظم تباين وهدى الله الذين آمنوا أهل السنة الوسط للطريقة المثلى التي جاء بها رسوله ونزل بها كتابه وهي أن العقول البشرية بل وسائر المخلوقات لا توجب على ربها شيئا ولا تحرمه وأنه يتعالى ويتنزه عن ذلك وأما ما كتبه على نفسه وحرمه على نفسه فانه لا يخل به ولا يقع منه خلافه فهو أيجاب منه على نفسه بنفسه وتحريم منه على نفسه بنفسه فليس فوقه تعالى موجب ولا محرم وسيأتي أن شاء الله بسط ذلك وتقريره الوجه الثاني والخمسون قولكم أنه على أصول المعتزلة يستحيل الأمر والنهي والتكليف وتقديركم ذلك فكلام لا مطعن فيه والأمر فيه كما ذكرتم وان حقيقة قول القوم أنه لا أمر
(2/247)
ولا نهي ولا شرع أصلا إذ ذلك إنما يصح إذا ثبت قيام الكلام بالمرسل الآمر الناهي وقيام الاقتضاء والطلب والحب لما أمر به والبغض لما نهى عنه فأما إذا لم يثبت له كلام ولا إرادة ولا اقتضاء ولا طلب ولا حب ولا بغض قائم به فانه لا يعقل أصلا كونه آمر ولا ناهيا ولا باعثا للرسل ولا محبا للطاعة باغضا للمعصية فأصول هذه الطائفة تعطل الصفات عن صفات كماله فأنها تستلزم أبطال الرسالة والنبوة جملة ولكن رب لازم لا يلتزمه صاحب المقالة ويتناقض في القول بملزومه دون القول به ولا ريب أن فساد اللازم مستلزم لفساد الملزوم ولكن يقال لكم معاشر الجبرية لا تكونوا ممن يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع المعترض في عينه فقد الزمتكم القدرية ما لا محيد لكم عنه وقالوا من نفى فعل العبد جملة فقد عطل الشرائع والأمر والنهي فان الأمر والنهي لا يتعلق إلا بالفعل المأمور به فهو الذي يؤمر به وينهى عنه ويثاب عليه ويعاقب فإذا نفيتم فعل العبد فقد رفعتم متعلق الأمر والنهي وفي ذلك أبطال الأمر والنهي فلا فرق بين رفع المأمور به المنهي عنه ورفع المأمور والمنهي نفسه فان الأمر يستلزم آمر أو مأمورا به ولا يصح له حقيقة إلا بهذه الثلاث ومعلوم أن أمر الآمر بفعل نفسه ونهيه عن نفسه يبطل التكليف جملة فان التكليف لا يعقل معناه إلا إذا كان المكلف قد كلف بفعله الذي هو المقدور له التابع لارادته ومشيئته وأما إذا رفعتم ذلك من البين وقلتم بل هو مكلف بفعل الله حقيقة لا يدخل تحت قدرة العبد لا هو متمكن في الآتيان به ولا هو واقع بإرادته ومشيئته فقد نفيتم التكليف جملة من حيث أثبتوه وفي ذلك أبطال للشرائع والرسالة جملة قالوا فليتأمل المنصف الفطن لا البليد المتعصب صحة هذا الإلزام فلن تجد عنه محيدا قالوا فأنتم معاشر الجبرية قدرية من حيث نفيكم الفعل المأمور به فان كان خصومكم قدرية من حيث نفوا تعلق القدرة القديمة فأنتم أولى أن تكونوا قدرية من حيث
(2/248)
نفيتم فعل العبد له وتأثيره فيه وتعلقه بمشيئته فأنتم أثبتم قدرا على الله وقدرا على العبد أما القدر على الله فحيث زعمتم أنه تعالى يأمر بفعل نفسه وينهى عن فعل نفسه ومعلوم أن ذلك لا يصح أن يكون مأمورا به منهيا عنه فأثبتم أمرا ولا مأمور به ونهيا ولا منهي عنه وهذه قدرية محضة في حق الرب وأما في حق العبد فأنكم جعلتموه مأمورا منهيا من غير أن يكون له فعل يأمر به وينهى عنه فأي قدرية أبلغ من هذه فمن الذي تضمن قوله أبطال الشرائع وتعطيل الأوامر فليتنبه اللبيب لمواقعه هذه المساجلة وسهام هذه المناضلة ثم ليختر منهما إحدى خطتين ولا والله ما فيهما حظ لمختار ولا ينجوا من هذه الورطات إلا من أثبت كلام الله القائم به المتضمن لأمره ونهيه ووعده ووعيده وأثبت له ما أثبت لنفسه من صفات كماله ومن الأمور الثبوتية القائمة ثم أثبت مع ذلك فعل العبد واختياره ومشيئته
(2/249)
وارادته التي هي مناط الشرائع ومتعلق الأمر والنهي فلا جبري ولا جهمي ولا قدري وكيف يختار العاقل آراء ومذاهب هذه بعض لوازمها ولو صابرها إلى آخرها لاستبان له من فسادها وبطلانها ما يتعجب معه من قائلها ومنتحلها والله الموفق للصواب الوجه الثالث والخمسون قولكم أنه ما من معنى يستنبط من قول أو فعل ليربط به معنى مناسب له إلا ومن حيث العقل يعارضه معنى آخر يساويه في الدرجة أو يفضل عليه في المرتبة فيتحير العقل في الاختيار إلى أن يرد شرع يختار أحدهما أو يرجحه من تلقائه فيجب على العاقل اعتباره واختياره لترجيح الشرع له لا لرجحانه في نفسه فيقال أن أردتم بهذه المعارضة أنها ثابتة في جميع الأفعال والأقوال المشتملة على الأوصاف المناسبة التي ربطت بها الأحكام كما يدل عليه كلامكم فدعوى باطلة بالضرورة وهو كذب محض وكذلك أن أردتم أنها ثابتة في أكثرها فأي معارضة في العقل للوصف القبيح في الكذب والفجور والظلم واهلاك الحرث والنسل والإساءة إلى المحسنين وضرب الوالدين واحتقارهما والمبالغة في اهانتهما بلا جرم وأي معارضة في العقل للأوصاف القبيحة في الشرك بالله ومشيئته وكفران نعمه وأي معارضة في العقل للوصف القبيح في نكاح الأمهات واستفراشهن كاستفراش الإماء والزوجات إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا مما تشهد العقول بقبحه من غير معارض فيها بل نحن لا ننكر أن يكون داعي الشهوة والهوى وداعي العقل يتعارضا فان أردتم هذا التعارض فمسلم ولكن لا يجدي عليكم إلا عكس مطلوبكم وكذلك أي معارضة في العقول للأوصاف المقتضية حسن عبادة الله وشكره وتعظيمه وتمجيده والثناء عليه بآلائه وانعامه وصفات جلاله ونعوت كماله وأفراده بالمحبة والعبادة والتعظيم وأي معارضة في العقول للأوصاف المقتضية حسن الصدق والبر والإحسان والعدل والإيثار وكشف الكربات وقضاء الحاجات وإغاثة اللهفات والأخذ على أيدي الظالمين وقمع المفسدين ومنع البغاة والمعتدين وحفظ عقول
(2/250)
العالمين وأموالهم ودمائهم وأعراضهم بحسب الإمكان والأمر بما يصلحها ويكملها والنهي عما يفسدها وينقصها وهذه حال جملة الشرائع وجمهورها إذا تأملها العقل جزم أنه يستحيل على أحكم الحاكمين أن يشرع خلافها لعباده وأما أن أردتم أن في بعض ما يدق منها مسائل تتعارض فيها الأوصاف المستنبطة في العقول فيتحير العقل بين المناسب منها وغير المناسب فهذا وان كان واقعا فأنها لا تنفى حسنها الذاتي وقبح منهيها الذاتي وكون الوصف خفى المناسبة والتأثير في بعض المواضع مما لا يدفعه وهذه حال كثير من الأمور العقلية المحضة بل الحسية وهذا الطلب مع أنه حسي تجريبي يدرك منافع الأغذية والأدوية وقواها وحرارتها وبرودتها ورطوبتها ويبوستها فيه بالحس ومع هذا فأنتم ترون اختلاف أهله في كثير من مسائلهم في الشيء الواحد
(2/251)
هل هو نافع كذا ملائم له أو منافر مؤذ وهل هو حار أو بارد وهل هو رطب أو يابس وهل فيه قوة تصلح لأمر من الأمور أولا قوة فيه ومع هذا فالاختلاف المذكور لا ينفى عند العقلاء ما جعل في الأغذية والأدوية من القوى والمنافع والمضار والكيفيات لأن سبب الاختلاف خفاء تلك الأوصاف على بعض العقلاء ودفنها وعجز الحس والعقل عن تمييزها ومعرفة مقاديرها والنسب الواقعة بين كيفياتها وطبائعها ولم يكن هذا الاختلاف بموجب عند أحد من العقلاء إنكار جملة العلم وجمهور قواعده ومسائله دعوى أنه ما من وصف يستنبط من دواء مفرد أو مركب أو من غذاء إلا وفي العقل ما يعارضه فيتحير العقل ولو ادعى هذا مدع لضحك منه العقلاء مما علموه بالضرورة والحس من ملاءمة الأوصاف ومنافرتها واقتضاء تلك الذوات للمنافع والمضار في الغالب ولا يكون اختلاف بعض العقلاء يوجب إنكار ما علم بالضرورة والحس فهكذا الشرائع الوجه الرابع والخمسون أن قولكم إذا قتل إنسان انسانا عرض للعقل هاهنا آراء متعارضة مختلفة إلى آخره فيقال أن أردتم أن العقل يسوي بين ما شرعه الله من القصاص وبين تركه لمصلحة الجاني فبهت للعقل وكذب عليه فانه لا يستوي عند عاقل قط حسن الاختصاص من الجاني بمثل ما فعل وحسن تركه والأعراض عنه ولا يعلم عقل صحيح يسوى بين الأمرين وكيف يستوي أمران أحدهما يستلزم فساد النوع وخراب العالم وترك الانتصار للمظلوم وتمكين الجناة من البغي والعدوان والثاني يستلزم صلاح النوع وعمارة العالم والانتصار للمظلوم وردع الجناة والبغاة والمعتدين فكان في القصاص حياة العالم وصلاح الوجود وقد نبه تعالى على ذلك بقوله ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون وفي ضمن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤال مقدر أن إعدام هذه البنية الشريفة وإيلام هذه النفس وإعدامها في مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء وبهرت حكمته العقول فتضمن
(2/252)
الخطاب جواب ذلك بقوله تعالى ولكم في القصاص حياة وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كف عن القتل وارتدع وآثر حب حياته ونفسه فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله ومن وجه آخر وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيه وقبيلته وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره وتشتد مؤنته فشرع الله تعالى القصاص وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله ففي ذلك حياة عشيرته وحيه وأقاربه ولم تكن الحياة في القصاص من حيث أنه قتل بل من حيث كونه قصاصا يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره فتضمن القصاص الحياة في الوجهين وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز والبلاغة والفصاحة والمعنى
(2/253)
العظيم فصدر الآية بقوله لكم المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم عائدة إليكم فشرعه إنما كان رحمة بكم وإحسانا إليكم فمنفعته ومصلحته لكم لا لمن لا يبلغ العباد ضره ونفعه ثم عقبه بقوله في القصاص إيذانا بأن الحياة الحاصلة إنما هي في العدل وهو أن يفعل به كما فعل والقصاص في اللغة المماثلة وحقيقته راجعة إلى الاتباع ومنه قوله تعالى وقالت لأخته قصيه أي اتبعي أثره ومنه قوله فارتدا على آثارهما قصصا أي يقصان الأثر ويتبعانه ومنه قص الحديث واقتصاصه لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر فسمى جزاء الجاني قصاصا لأنه يتبع أثره فيفعل به كما فعل وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما فعل فيقتل بمثل ما قتل به لتحقيق معنى القصاص وقد ذكرنا أدلة المسألة من الطرفين وترجيح القول الراجح بالنص والأثر والمعقول في كتاب تهذيب السنن ونكر سبحانه الحياة تعظيما وتفخيما لشأنها وليس المراد حياة ما بل المعنى أن في القصاص حصول هذه الحقيقة المحبوبة للنفوس المؤثرة عندها المستحسنة في كل عقل والتنكير كثيرا ما يجيء للتعظيم والتفخيم كقوله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة وقوله ورضوان من الله أكبر وقوله أن هو إلا وحي يوحى ثم خص أولى الألباب وهم أولو العقول التي عقلت عن الله أمره ونهيه وحكمته إذ هم المنتفعون بالخطاب ووازن بين هذه الكلمات وبين قولهم القتل أنفى للقتل ليتبين مقدار التفاوت وعظمة القرآن وجلالته الوجه الخامس والخمسون قولكم أن القصاص اتلاف بأزاء اتلاف وعدوان في مقابلة عدوان ولا يحيا الأول بقتل الثاني ففيه تكثير المفسدة بإعدام النفسين وأما مصلحة الردع والزجر واستبقاء النوع فأمر متوهم وفي القصاص استهلاك محقق فيقال هذا الكلام من أفسد الكلام وأبينه بطلانا فانه يتضمن التسوية بين القبيح والحسن ونفى حسن القصاص الذي اتفقت العقول والديانات على حسنه وصلاح الوجود به وهل يستوي في عقل أو دين أو فطرة القتل ظلما وعدوانا بغير حق
(2/254)
والقتل قصاصا وجزاء بحق ونظير هذه التسوية تسوية المشركين بين الربا والبيع لاستوائهما في صورة العقد ومعلوم أن استواء الفعلين في الصورة لا يوجب استواءهما في الحقيقة ومدعى ذلك في غاية المكابرة وهل يدل استواء السجود لله والسجود للصنم في الصورة الظاهرة وهو وضع الجبهة على الارض على أنهما سواء في الحقيقة حق يتحير العقل بينهما ويتعارضان فيه ويكفى في فساد هذا أطباق العقلاء قاطبة على قبح القتل الذي هو ظلم وبغى وعدوان وحسن القتل الذي هو جزاء وقصاص وردع وزجر والفرق بين هذين مثل الفرق بين الزنا والنكاح بل أعظم وأظهر بل الفرق بينهما من جنس الفرق بين الإصلاح في الأرض والإفساد فيها فما تعارض في عقل صحيح قط هذان الأمران حتى يتحير بينهما أيهما يؤثره ويختاره وقولكم أنه
(2/255)
إتلاف بأزاء إتلاف وعدوان في مقابلة عدوان فكذلك هو لكن إتلاف حسن هو مصلحة وحكمة وصلاح للعالم في مقابلة إتلاف هو فساد وسفه وخراب للعالم فأنى يستويان أم كيف يعتدلان حتى يتحير العقل بين الإتلاف الحسن وتركه وقولكم لا يحيا الاول بقتل الثاني قلنا يحيا به عدد كثير من الناس إذ لو ترك ولم يؤخذ على يديه لأهلك الناس بعضهم بعضا فإن لم يكن في قتل الثاني حياة للأول ففيه حياة العالم كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب لكن هذا المعنى لا يدركه حق الأدراك إلا الوا الالباب فأين هذه الشريعة وهذه الحكمة وهذه المصلحة من هذا الهذيان الفاسد وأن يقال قتل الجاني إتلاف بإزاء اتلاف وعدوان في مقابلة عدوان فيكون قبيحا لولا الشرع فوازن بين هذا وبين ما شرعه الله وجعل مصالح عبادة منوطة به وقولكم فيه تكثير المفسدة بإعدام النفسين فيقال لو اعطيتم رتب المصالح والمفاسد حقها لم ترضوا بهذا الكلام الفاسد فإن الشرائع والفطر والعقول متفقة على تقديم المصلحة الراحجة وعلى ذلك قام العالم وما نحن فيه كذلك فإنه احتمال لمفسده إتلاف الجاني إلى هذه المفسدة العامة فمن تحير عقله بين هذين المفسدتين فلفساد فيه والعقلاء قاطبة متفقون على أنه يحسن إتلاف جزء لسلامة كل كقطع الاصبع أو اليد المتأكلة لسلامة سائر البدن ولذلك يحسن الايلام لدفع إيلام أعظم منه كقطع العروق وبط الخراج ونحوه فلو طرد العقلاء قياسكم هذا الفساد وقالوا هذا إيلام محقق لدفع إيلام متوهم لفسد الجسد جملة ولا فرق عند العقول بين هذا وبين قياسكم في الفساد الوجه السادس والخمسون قولكم أن مصلحة الردع والزجر وإحياء النوع أمر متوهم كلام بين فساده بل هو أمر متحقق وقوعه عادة ويدل عليه ما نشاهده من الفساد العام عند ترك الجناة والمفسدين وإهمالهم وعدم الاخذ على ايديهم والمتوهم من زعم أن ذلك موهوم وهو بمثابة من دهمه العدو فقال لا نعرض أنفسنا لمشقة قتالهم فإنه مفسدة
(2/256)
متحققة وأما استيلاؤهم على بلادنا وسبيهم ذرارينا وقتل مقاتلنا فموهوم فيا ليت شعري من الواهم المخطيء في وهمه ونظيره أيضا أن الرجل إذا تبيغ به الدم وتضرر إلى اخراجه لا يتعرض لشق جلده وقطع عروقه لأنه ألم محقق لا موهوم ولو اطرد هذا القياس الفاسد لخرب العالم وتعطلت الشرائع والاعتماد في طلب مصالح الدارين ودفع مفاسدهما مبني على هذا الذي سميتموه أنتم موهوما فالعمال في الدنيا إنما يتصرفون بناء على الغالب المعتاد الذي اطردت به العادة وإن لم يجزموا به فإن الغالب صدق العادة واطرادها عند قيام أسبابها فالتاجر يحمل مشقة السفر في البر والبحر بناء على أنه يسلم ويغنم فلو طرد هذا القياس الفاسد وقال السفر مشقة متحققة والكسب مر موهوم لتعطلت أسفار الناس بالكلية وكذلك عمال الآخرة لو قالوا تعب العمل ومشقة
(2/257)
أمر محقق وحسن الخاتمة أمر موهوم لعطلوا الأعمال جملة وكذلك الاجراء والصناع والملوك والجند وكل طالب امر من الامور الدنيوية والأخروية لولا بناؤه على الغالب وما جرت به العادة لما احتمل المشقة المتيقنة لأمر منتظر ومن هاهنا قيل أن إنكار هذه المسئلة يسلتزم تعطيل الدنيا والآخرة من وجوه متعددة الوجه السابع والخمسون قولكم ويعارضه معنى ثالث وراءهما فيفكر العقل في انواعه وشروط أخرى وراء مجرد الانسانية من العقل والبلوغ والعلم والجهل والكمال والنقص والقرابة والاجنبية فيتحير العقل كل التحير فلا بد إذا من شارع يفصل هذه الخطة ويعين قانونا يطرد عليه امر الامة ويستقيم عليه مصالحهم فيقال لا ريب أن الشرائع تأتي بما لا تستقل العقول بإدراكه فإذا جاءت به الشريعة اهتدى العقل حينئذ إلى وجه حسن مأموره وقبح منهيه فسرته الشريعة على وجه الحكمة والمصلحة الباعثين اشرعه فهذا مما لا ينكر وهذا الذي قلنا فيه ان الشرائع تأتي بمجازات العقول لا بمحالات العقول ونحن لم ندع ولا عاقل قط أن العقل يستقل بجميع تفاصيل ما جاءت به الشريعة بحيث لو ترك وحده لاهتدى إلى كل ما جاءت به إذا عرف هذا فغاية ما ذكرتم أن الشريعة الكاملة اشترطت في وجوب القصاص شروطا لا يهتدي العقل إليها وأي شيء يلزم من هذا وماذا يقبح لكم ومنازعكم يسلمونه لكم وقولكم ان هذا معارض للوصف المقتضى لثبوت القصاص من قيام مصلحة العالم إما غفلة عن الشروط المعارضة وإما إصلاح طار سيم فيه مالا يهتدي العقل إليه من شروط اقتضاء الوصف لموجبه معارضة فيالله العجب أي معارضة ها هنا إذا كان العقل والفطرة قد شهدا بحسن القتل قصاصا وانتظامه للعالم وتوقفا في اقتضاء هذا الوصف هل يضم إليه شروط آخر غيره أم يكفي بمجرد وفي تعيين تلك الشروط فأدرك العقل ما استقل بإدراكه وتوقف عما لا يستقل بإدراكه حتى اهتدى إليه بنور الشريعة يوضح هذا الوجه الثامن والخمسون أن ما وردت به الشريعة في
(2/258)
اصل القصاص وشروطه منقسم إلى قسمين أحدهما ما حسنه معلوم بصريح العقل الذي لا يستريب فيه عاقل وهو اصل القصاص وانتظام مصالح العالم به والثاني ما حسنه معلوم بنظر العقل وفكره وتأمله فلا يهتدي إليه إلا الخواص وهو ما اشترط اقتضاء هذا الوصف أو جعل تابعا له فاشترط له المكافأة في الدين وهذا في غاية المراعاة للحكمة والمصلحة فإن الدين هو الذي فرق بين الناس في العصمة وليس في حكمة الله وحسن شرعه أن يجعل دم وليه وعبده وأحب خلقه إليه وخير بريته ومن خلقه لنفسه واختصه بكرامته واهله لجواره في جنته والنطر إلى وجهه وسماع كلامه في دار كرامته كدم عدوه وامقت خلقه عليه وشر بريته والعادل به عن عبادته إلى عبادة الشيطان الذي خلقه للنار وللطرود عن بابه والإبعاد عن رحمته وبالجملة فحاشا حكمته أن يسوى بين دماء خير البرية ودماء شر
(2/259)
البرية في أخذ هذه بهذه سيما وقد أباح لأوليائه دماء أعدائه وجعلهم قرابين لهم وانما اقتضت حكمته أن يكفوا عنهم إذا صاروا تحت قهرهم وإذلالهم كالعبيد لهم يؤدون إليهم الجزية التي هي خراج رؤسهم مع بقاء السبب الموجب لاباحة دمائهم وهذا الترك والكف لا يقتضي استواء الدمين عقلا ولا شرعا ولا مصلحة ولا ريب أن الدمين قبل القهر والإذلال لم يكونا بمستويين لأجل الكفر فأي موجب لاستوائهما بعد الاستذلال والقهر والكفر قائم بعينه فهل في الحكمة وقواعد الشريعة وموجبات العقول أن يكون الإذلال والقهر للكافر موجبا لمساواة دمه لدم المسلم هذا مما تأباه الحكمة والمصلحة والعقول وقد أشار إلى هذا المعنى وكشف الغطاء وأوضح المشكل بقوله المسلمون تتكافأ دماؤهم أو قال المؤمنون فعلق المكافأة بوصف لا يجوز إلغاؤه وإهداره وتعليقها بغيره إذ يكون أبطالا لما اعتبره الشارع واعتبارا لما أبطله فإذا علق المكافأة بوصف الأيمان كان كتعليقه سائر الأحكام بالأوصاف كتعليق القطع بوصف السرقة والرجم بوصف الزنا والجلد بوصف القذف والشرب ولا فرق بينهما أصلا فكل من علق الأحكام بغير الأوصاف التي علقها به الشارع كان تعليقه منقطعا منصرما وهذا مما اتفق أئمة الفقهاء على صحته فقد أدى نظر العقل إلى أن دم عدو الله الكافر لا يساوي دم وليه ولا يكافيه أبدا وجاء الشرع بموجبه فأي معارضة هاهنا وأي حيرة أن هو إلا بصيرة على بصيرة ونور على نور وليس هذا مكان استيعاب الكلام على هذه المسألة وانما الغرض التنبيه على أن في صريح العقل الشهادة لما جاء به الشرع فيها
فصل وعكس هذا أنه لم تشترط المكافأة في علم وجهل ولا في كمال
(2/260)
وقبح ولا في شرف وضعة ولا في عقل وجنون ولا في أجنبية وقرابة خلا الوالد والولد وهذا من كمال الحكمة وتمام النعمة وهو في غاية المصلحة إذ لو روعيت هذه الأمور لتعطلت مصلحة القصاص إلا في النادر البعيد إذ قل أن يستوي شخصان من كل وجه بل لا بد من التفاوت بينهما في هذه الأوصاف أو في بعضها فلو أن الشريعة جاءت بأن لا يقتص إلا من مكافئ من كل وجه لفسد العالم وعظم الهرج وانتشر الفساد ولا يجوز على عاقل وضع هذه السياسة الجائرة وواضعها إلى السفه أقرب منه إلى الحكمة فلا جرم أهدتك الشرائع إلى اعتبار ذلك وأما الولد والوالد فمنع من جريان القصاص بينهما حقيقة البعضية والجزئية التي بينهما فان الولد جزء من الوالد ولا يقتص لبعض أجزاء الإنسان من بعض وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله وجعلوا له من عباده جزأ وهو قولهم الملائكة بنات الله فدل على أن الولد جزء من الوالد وعلى هذا الأصل امتنعت شهادته له وقطعه بالسرقة من ماله وحده أباه على قذفه وعن هذا الأصل ذهب كثير من السلف ومنهم الأمام أحمد وغيره إلى أن له أن يتملك
(2/261)
ما شاء من مال ولده وهو كالمباح في حقه وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وبينا دلالة القرآن عليها من وجوه متعددة في غير هذا الموضع وهذا المأخذ أحسن من قولهم أن الأب لما كان هو السبب في أيجاد الولد فلا يكون الولد سببا في إعدامه وفي المسألة مسلك آخر وهو مسلك قوي جدا وهو أن الله سبحانه جعل في قلب الوالد من الشفقة على ولده والحرص على حياته ما يوازي شفقته على نفسه وحرصه على حياة نفسه وربما يزيد على ذلك فقد يؤثر الرجل حياة ولده على حياته وكثيرا ما يحرم الرجل نفسه حظوظها ويؤثر بها ولده وهذا القدر مانع من كونه يريد إعدامه واهلاكه بل لا يقصد في الغلب إلا تأديبه وعقوبته على إساءته فلا يقع قتله في الأغلب عن قصد وتعمد بل عن خطأ وسبق يد وإذا وقع ذلك غلطا الحق بالقتل الذي لم يقصد به إزهاق النفس فأسباب التهمة والعداوة الحاملة على القتل لا تكاد توجد في الآباء وان وجدت نادرا فالعبرة بما اطردت عليه عادة الخليقة وهنا للناس طريقان أحدهما أنا إذا تحققنا التهمة وقصد القتل والإزهاق بأن يضجعه ويذبحه مثلا أجرينا القصاص بينهما لتحقق قصد الجناية وانتفاء المانع من القصاص وهذا قول أهل المدينة والثاني أنه لا يجرى القصاص بحال وأن تحقق قصد القتل لمكان الجزئية والبعضية المانعة من الاقتصاص من بعض الأجزاء لبعض وهو قول الأكثرين ولا يرد عليهم قتل الولد لوالده وان كان بعضه لأن الأب لم يخلق من نطفة الابن فليس الأب بجزء له حقيقة ولا حكما بخلاف الولد فانه جزء حقيقة وليس هذا موضوع استقصاء الكلام على هذه المسائل إذ المقصود بيان اشتمالها على الحكم والمصالح التي يدركها العقل وان لم يستقل بها فجاءت الشريعة بها مقررة لما استقر في العقل إدراكه ولو من بعض الوجوه وبعد النزول عن هذا المقام فأقصى ما فيه أن يقال أن الشريعة جاءت بما يعجز العقل عن إدراكه لا بما يحيله العقل ونحن لا ننكر ذلك ولكن لا يلزم منه نفى الحكم
(2/262)
والمصالح التي اشتملت عليها الأفعال في ذواته والله أعلم الوجه الثامن والخمسون قولكم وظهر بهذا أن المعاني المستنبطة راجعة إلى مجرد استنباط العقل ووضع الذهن من غير أن يكون الفعل مشتملا عليها كلام في غاية الفساد والبطلان لا يرتضيه أهل العلم والأنصاف وتصوره حق التصور كاف في الجزم ببطلانه من وجوه عديدة أحدها أن العقل والفطرة يشهدان ببطلانه والوجود يكذبه فان أكثر المعاني المستنبطة من الأحكام ليست من أوضاع الأذهان المجردة عن اشتمال الأفعال عليها ومدعي ذلك في غاية المكابرة التي لا تجدي عليه إلا توهين المقالة وهذه المعاني المستنبطة من الأحكام موجودة مشهودة يعلم العقلاء أنها ليست من أوضاع الذهن بل الذهن أدركها وعلمها وكان نسبة الذهن إلى إدراكها كنسبة البصر إلى إدراك الألوان وغيرها وكنسبة
(2/263)
السمع إلى إدراك الأصوات وكنسبة الذوق إلى إدراك الطعوم والشم إلى إدراك الروائح فهل يسوغ لعاقل أنا يدعى أن هذه المدركات من أوضاع الحواس وكذلك العقل إذا أدرك ما اشتمل عليه الكذب والفجور وخراب العالم والظلم واهلاك الحرث والنسل والزنا بالأمهات وغير ذلك من القبائح وأدرك ما اشتمل عليه الصدق والبر والإحسان والعدل وشكران المنعم والعفة وفعل كل جميل من الحسن لم تكن تلك المعاني التي اشتملت عليها هذه الأفعال مجرد وضع الذهن واستنباط العقل ومدعي ذلك مصاب في عقله فان المعاني التي اشتملت عليها المنهيات الموجبة لتحريمها أمور ناشئة من الأفعال ليست أوضاعا ذهنية والمعاني التي اشتملت عليها المأمورات الموجبة لحسنها ليست مجرد أوضاع ذهنية بل أمور حقيقية ناشئة من ذوات الأفعال ترتب آثارها عليها كترتب آثار الأدوية والأغذية عليها وما نظير هذه المقالة إلا مقالة من يزعم أن القوى والآثار المستنبطة من الأغذية والأدوية لا حقيقة لها إنما هي أوضاع ذهنية ومعلوم أن هذا باب من السفسطة فاعرض معاني الشريعة الكلية على عقلك وانظر ارتباطها بأفعالها وتعلقها بها ثم تأمل هل تجدها أمورا حقيقية تنشأ من الأفعال فإذا فعل الفعل نشأ منه أثره أو تجدها أوضاعا ذهنية لا حقيقة لها وإذا أردت معرفة بطلان المقالة فكرر النظر في أدلتها فأدلتها من أكبر الشواهد على بطلانها بل العاقل يستغني بأدلة الباطل عن إقامة الدليل على بطلانه بل نفس دليله هو دليل بطلانه الوجه الثاني أن استنباط العقول ووضع الأذهان لما لا حقيقة له من باب الخيالات والتقديرات التي لا يترتب عليها علم ولا معلوم ولا صلاح ولا فساد إذ هي خيالات مجردة وأوهام مقدرة كوضع الذهن سائر ما يضعه من المقدرات الذهنية ومعلوم أن المعاني المستنبطة من الأحكام هي من أجل المعلوم ومعلومها من أشرف المعلومات وأنفعها للعباد وهي منشأ مصالحهم في معاشهم ومعادهم وترتب آثارها عليها مشهود في الخارج
(2/264)
معقول في الفطر قائم في العقول فكيف يدعى أنه مجرد وضع ذهني لا حقيقة له الوجه الثالث أن استنباط الذهن لما يستنبطه من المعاني واعتقاده أن الأفعال مشتملة عليها مع كون الأمر ليس كذلك جهل مركب واعتقاد باطل فانه إذا اعتقد أن الأفعال مشتملة على تلك المعاني وإنها منشأها وليس كذلك كان اعتقادا للشيء بخلاف ما هو به وهذا غاية الجهل فكيف يدعي هذا في اشرف العلوم وأزكاها وأنفعها وأعظمها متضمنا لمصالح العباد في المعاش والمعاد وهل هو الا لب الشريعة ومضمونها فكيف يسوغ أن يدعى فيها هذا الباطل ويرمى بهذا البهتان وبالجملة فبطلان هذا القول أظهر من أن يتكلف رده ولم يقل هذا القول من شم للفقه رائحة أصلا الوجه التاسع والخمسون قولكم لو كانت صفات نفسية للفعل لزم من ذلك أن تكون
(2/265)
الحركة الواحدة مشتملة على صفات متناقضة وأحوال متنافرة فيقال وما الذي يحيل أن يكون الفعل مشتملا على صفتين مختلفتين تقتضي كل منهما أثرا غير الأثر الآخر وتكون إحدى الصفتين والأثرين أولى به وتكون مصلحته أرجح فإذا رتب على صفته الأخرى أثرها فاتت المصلحة الراجحة المطلوبة شرعا وعقلا بل هذا هو الواقع ونحن نجد هذا حسا في قوى الأغذية والأدوية ونحوها من صفات الأجسام الحسية المدركة بالحس فكيف بصفات الأفعال المدركة بالعقل وأمثلة ذلك في الشريعة تزيد على الألف فهذه الصلاة في وقت النهي فيها مصلحة تكثير العبادة وتحصيل الأرباح ومزيد الثواب والتقرب إلى رب الأرباب وفيها مفسدة المشابهة بالكفار في عبادة الشمس وفي تركها مصلحة سد ذريعة الشرك وفطم النفوس عن المشابهة للكفار حتى في وقت العبادة وكانت هذه المفسدة أولى بالصلاة في أوقات النهي من مصلحتها فلو شرعت لما فيها من المصلحة لفاتت مصلحة الترك وحصلت مفسدة المشابهة التي هي أقوى من مصلحة الصلاة حينئذ ولهذا كانت مصلحة أداء الفرائض في هذه الأوقات أرجح من مفسدة المشابهة بحيث لما انغمرت هذه المفسدة بالنسبة إلى الفريضة لم يمنع منها بخلاف النافلة فان في فعلها في غير هذه الأوقات غنية عن فعلها فيها فلا تفوت مصلحتها فيقع فعلها في وقت النهي مفسدة راجحة ومن هاهنا جوز كثير من الفقهاء ذوات الأسباب في وقت النهي لترجح مصلحتها فأنها لا تقضى ولا يمكن تداركها وكانت مفسدة تفويتها أرجح من مفسدة المشابهة المذكورة وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة فما الذي يحيل اشتمال الحركة الواحدة على صفات مختلفة بهذه المثابة ويكون بعضها أرجح من بعض فيقضى للراجح عقلا وشرعا وعلى هذا المثال مسائل عامة للشريعة ولو لا إلاطالة لكتبنا منها ما يبلغ ألف مثال والعالم ينتبه بالجزئيات للقاعدة الكلية الوجه الستون قولكم وليس معنى قولنا أن العقل استنبط منها أنها كانت موجودة في الشيء فاستخرجها
(2/266)
العقل بل العقل تردد بين إضافات الأحوال بعضها إلى بعض ونسب الحركات والأشخاص نوعا إلى نوع وشخصا إلى شخص فطرأ عليه من تلك المعاني ما حكيناه وربما يبلغ مبلغا يشذ عن الإحصاء فعرف أن المعاني لم ترجع إلى الذات بل إلى مجرد الخواطر وهي متعارضة فيقال يا عجبا لعقل يروج عليه مثل هذا الكلام ويبنى عليه هذه القاعدة العظيمة وذلك بناء على شفا جرف هار وقد تقدم ما يكفى في بطلان هذا الكلام ونزيدها هنا أنه كلام فاسد لفظا ومعنى فان الاستنباط هو استخراج الشيء الثابت الخفي الذي لا يعثر عليه كل أحد ومنه استنباط الماء وهو استخراجه من موضعه ومنه قوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول والى أولى المر منهم لعلمه الذي يستنبطونه منهم أي يستخرجون حقيقته وتدبيره بفطنهم وذكائهم وإيمانهم ومعرفتهم بمواطن الأمن والخوف
(2/267)
ولا يصح معنى إلا في شيء ثابت له حقيقة خفية يستنبطها الذهن ويستخرجها فأما ما لا حقيقة له فانه مجرد ذهنه فلا استنباط فيه بوجه وأي شيء يستنبط منه وانما هو تقدير وفرض وهذا لا يسمى استنباطا في عقل ولا لغة وحينئذ فيقلب الكلام عليكم ويكون من يقلبه أسعد بالحق منكم فنقول وليس معنى قولنا أن العقل استنبط من تلك الأفعال أن ذلك مجرد خواطر طارئة وانما معناه أنها كانت موجودة في الأفعال فاستخرجها العقل باستنباطه كما يستخرج الماء الموجود من الأرض باستنباطه ومعلوم أن هذا هو المعقول المطابق للعقل واللغه وما ذكرتموه فخارج عن العقل واللغة جميعا فعرف أنه لا يصح معنى الاستنباط إلا لشيء موجود يستخرجه العقل ثم ينسب إليه أنواع تلك الأفعال وأشخاصها فان كان أولى به حكم له بالاقتضاء والتأثير وهذا هو المعقول وهو الذي يعرضه الفقهاء والمتكلمون على مناسبات الشريعة وأوصافها وعللها التي تربط بها الأحكام فلو ذهب هذا من أيديهم لا نسد عليهم باب الكلام في القياس والمناسبات والحكم واستخراج ما تضمنته الشريعة من ذلك وتعليق الأحكام بأوصافها المقتضية لها إذا كان مرد الأمر بزعمكم إلى مجرد خواطر طارئة على العقل ومجرد وضع الذهن وهذا من أبطل الباطل وأبين المحال ولقد أنصفكم خصومكم في ادعائهم عليكم لازم هذا المذهب وقالوا لو رفع الحسن والقبح من الأفعال الإنسانية إلى مجرد تعلق الخطاب بها لبطلت المعاني العقلية التي تستنبط من الأصول الشرعية فلا يمكن أن يقاس فعل على فعل ولا قول على قول ولا يمكن أن يقال لم كان كذا أذلا تعليل للذوات ولا صفات للأفعال هي عليها في نفس الأمر حتى ترتبط بها الأحكام وذلك رفع للشرائع بالكلية من حيث إثباتها لا سيما والتعلق أمر عدمي ولا معتنى لحسن الفعل أو قبحه إلا التعلق العدمي بينه وبين الخطاب فلا حسن في الحقيقة ولا قبح لا شرعا ولا عقلا لا سيما إذا انضم إلى ذلك نفى فعل العبد واختياره بالكلية وأنه
(2/268)
مجبوب محض فهذا فعله وذلك صفة فعله فلا فعل له ولا وصف لقوله البتة فأي تعطيل ورفع للشرائع أكثر من هذا فهذا إلزامهم لكم كما أنكم الزمتموهم نظير ذلك في نفي صفة الكلام وأنصفتموهم في الإلزام الوجه الحادي والستون قولكم لو ثبت الحسن والقبح العقليين لتعلق بهما الإيجاب والتحريم شاهدا وغائبا واللازم محال فالملزوم كذلك إلى آخره فنقول الكلام هاهنا في مقامين أحدهما في التلازم المذكور بين الحسن والقبح العقليين وبين الإيجاب والتحريم غائبا والثاني في انتفاء اللازم وثبوته فأما المقام الأول فلمثبتي الحسن والقبح طريقان أحدهما ثبوت التلازم والقول باللازم وهذا القول هو المعروف عن المعتزلة وعليه يناظرون وهو القول الذي نصب خصومهم الخلاف معهم فيه والقول الثاني إثبات الحسن والقبح فانهم يقولون بإثباته ويصرحون بنفي الإيجاب قبل الشرع على العبد وبنفي
(2/269)
أيجاب العقل على الله شيئا البتة كما صرح به كثير من الحنفية والحنابلة كأبي الخطاب وغيره والشافعية كسعد بن علي الزنجاني الأمام المشهور وغيره ولهؤلاء في نفي الإيجاب العقلي من المعرفة بالله وثبوته خلاف فالأقوال إذا أربعة لا مزيد عليها أحدها نفي الحسن والقبح ونفي الإيجاب العقلي في العمليات دون العلميات كالمعرفة وهذا اختيار أبي الخطاب وغيره فعرف أنه لا تلازم بين الحسن والقبح وبين الإيجاب والتحريم العقليين فهذا أحد المقامين وأما المقام الثاني وهو انتفاء اللازم وثبوته فللناس فيه ههنا ثلاثة طرق أحدهما التزام ذلك والقول بالوجوب والتحريم العقليين شاهدا وغائبا وهذا قول المعتزلة وهؤلاء يقولون بترتب الوجوب شاهدا و بترتب المدح والذم عليه وأما العقاب فلهم فيه اختلاف وتفصيل ومن أثبته منهم لم يثبته على الوجوب الثابت بعد البعثة ولكنهم يقولون أن العذاب الثابت بعد الإيجاب الشرعي نوع آخر غير العذاب الثابت على الإيجاب العقلي وبذلك يجيبون عن النصوص النافية للعذاب قبل البعثة وأما الإيجاب والتحريم العقليان غائبا فهم مصرحون بهما ويفسرون ذلك باللزوم الذي أوجبته حكمته وحرمته وأنه يستحيل عليه خلافه كما يستحيل عليه الحاجة والنوم والتعب واللغوب فهذا معنى الوجوب والامتناع في حق الله عندهم فهو وجوب اقتضته ذاته وحكمته وغناه وامتناع يستحيل عليه الاتصاف به لمنافاته كماله له وغناه قالوا وهذا في الأفعال نظير ما يقولونه في الصفات أنه يجب له كذا ويمتنع عليه كذا فقولنا نحن في الأفعال نظير قولكم في الصافت ما يجب له منها وما يمتنع كليه فكما أن ذلك وجوب وامتناع ذاتي يستحيل عليه خلافه فهكذا ما تقتضيه حكمته وتأباه وجوب وامتناع يستحيل عليه الإخلال به وان كان مقدورا له لكنه لا يخل به لكمال حكمته وعلمه وغناه والفرقة الثانية منعت ذلك جملة وأحالت القول به وجوزت على الرب تعالى كل شيء ممكن وردت الإحالة والامتناع في
(2/270)
أفعاله إلى غير الممكن من المحالات كالجمع بين النقيضين وبابه فقابلوا المعتزلة أشد مقابلة واقتسما طرفي الإفراط والتفريط ورد هؤلاء الوجوب والتحريم الذي جاءت به النصوص إلى مجرد صدق المخير فما أخبر بأنه يكون فهو واجب لتصديق العلم لمعلومه والمخبر لخبره وقد يفسرون التحريم بالامتناع عقلا كتحريم الظلم على نفسه فانهم يفسرون الظلم بالمستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين وليس عندهم في المقدور شيء هو ظلم يتنزه الله عنه مع قدرته عليه لغناه وحكمته وعدله فهذا قول هؤلاء والفرقة الثالثة هم الوسط بين هاتين الفرقتين فان الفرقة الأولى أوجبت على الله شريعة بعقولها وحرمت عليه وأوجبت ما لم يحرمه على نفسه ولم يوجبه على نفسه والفرقة الثانية جوزت عليه ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وحمده وكماله والفرقة الوسط أثبتت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب والتحريم الذي هو مقتضى
(2/271)
أسمائه وصفاته الذي لا يليق به نسبته إلى ضده لأنه موجب كماله وحكمته وعدله ولم تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها كما فعلت الفرقة الأولى ولم يجوز عليه ما نزه نفسه عنه كما فعلته الفرقة الثانية قالت الفرقة الوسط قد أخبر تعالى أنه حرم الظلم على نفسه كما قال على لسان رسوله يا عبادي أنى حرمت الظلم على نفسي وقال ولا يظلم ربك أحدا وقال وما ربك بظلام للعبيد وقال ولا يظلمون فتيلا وقال وما الله يريد ظلما للعباد فأخبر عن تحريمه على نفسه ونفى عن نفسه فعله وارادته وللناس في تفسير هذا الظلم ثلاثة أقوال بحسب أصولهم وقواعدهم أحدها أن الظلم الذي حرمه وتنزه عن فعله وارادته هو نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض وشبهوه في الأفعال ما يحسن منهما وما لا يحسن بعباده فضر بواله من قبل أنفسهم الأمثال وصاروا بذلك مشبهة ممثلة في الأفعال فامتنعوا من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في أفعاله بخلقه كما أن الجهمية المعطلة امتنعت من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في صفاته بالجمادات الناقصة بل بالمعدومات وأهل السنة نزهوه عن هذا وهذا وأثبتوا له ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ونزهوه فيها عن الشبه والمثال فأثبتوا له المثل الأعلى ولم يضربوا له الأمثال فكانوا أسعد الطوائف بمعرفته وأحقهم بالإيمان به وبولايته ومحبته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم التزم أصحاب هذا التفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قبل لهم به قالوا عن هذا التفسير الباطل أنه تعالى إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع مقدوره تعالى من وجوه الإعانة كان ظالما له والتزموا لذلك أنه لا يقدر أن يهدي ضالا كما قالوا أنه لا يقدر أن يضل مهتديا وقالوا عنه أيضا أنه إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور به كان ظالما وقالوا عنه أيضا أنه إذا اشترك اثنان في ذنب يوجب العقاب فعاقب
(2/272)
به أحدهما وعفى عن الآخر كان ظالما إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة التي جعلوا لأجلها ترك تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلما فعارضهم أصحاب التفسير الثاني وقالوا الظلم المنزه عنه في الأمور الممتنعة لذاتها فلا يجوز أن يكون مقدورا ولا أنه تعالى تركه بمشيئته واختياره وانما هو من باب الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثا والمحدث قديما ونحو ذلك وألا فكل ما يقدره الذهن وكان وجوده ممكنا والرب قادر عليه فليس بظلم سواء فعله أو لم يفعله وتلقى هذا القول عنهم طوائف من أهل العلم وفسروا الحديث به وأسندوا ذلك وقووه بآيات وآثار زعموا أنها تدل عليه كقوله أن تعذبهم فانهم عبادك يعني لم تتصرف في غير ملكك بل أن عذبت عذبت من تملك وعلى هذا فجوزوا تعذيب كل عبد له ولو كان محسنا ولم
(2/273)
يروا ذلك ظلما بقوله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وبقول النبي أن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم وبقوله في دعاء الهم والحزن اللهم أنى عبدك وابن عبدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك وبما روى عن اياس بن معاوية قال ما ناظرت بعقلي كله أحدا إلا القدرية قلت لهم ما الظلم قالوا أن تأخذ ما ليس لك أو أن تتصرف فيما ليس لك قلت فلله كل شيء والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازم باطلة كقولهم أن الله تعالى يجوز عليه أن يعذب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه وأهل طاعته ويخلدهم في العذاب اليم ويكرم أعداءه من الكفار والمشركين والشياطين ويخصهم بجنته وكرامته وكلاهما عدل وجائز عليه وأنه يعلم أنه لا يفعل ذلك بمجرد خبره فصار ممتنعا لإخباره أنه لا يفعله لا لمنافاته حكمته ولا فرق بين المرين بالنسبة إليه ولكن أراد هذا وأخبر به وأراد الآخر وأخبر به فوجب هذا لارادته وخبره وامتنع ضده لعدم إرادته واختياره بأن لا يكون والتزموا له أيضا أنه يجوز أن يعذب الأطفال الذين لا ذنب لهم أصلا ويخلدهم في الجحيم وربما قالوا بوقوع ذلك فأنكر على الطائفتين معا أصحاب التفسير الثالث وقالوا الصواب الذي دلت عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلا وارادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره ولا يعذب بما لم تكسب يداه ولم يكن سعى فيه ولا ينقص من حسناته فلا يجازي بها أو ببعضها إذا قارنها أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها وهذا الظلم الذي نفى الله تعالى خوفه عن العبد بقوله ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما قال السلف والمفسرون لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته ما يتحمل فهذا هو العقول من الظلم ومن عدم خوفه وأما الجمع بين النقيضين وقلب القديم محدثا والمحدث قديما فمما يتنزه كلام آحاد العقلاء عن تسميته ظلما
(2/274)
وعن نفي خوفه عن العبد فكيف بكلام رب العالمين وكذلك قوله وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين فنفى أن يكون تعذيبه لهم ظلما ثم أخبر أنهم هم الظالمون بكفرهم ولو كان الظلم المنفي هو المحال لم يحسن مقابلة قوله وما ظلمناهم بقوله ولكن كانوا هم الظالمين بل يقتضي الكلام أن يقال ما ظلمناهم ولكن تصرفنا في ملكنا وعبيدنا فلما نفى الظلم عن نفسه وأثبته لهم دل على أن الظلم المنفي أن يعذبهم بغير جرم وأنه إنما عذبهم بجرمهم وظلمهم ولا تحتمل الآية غير هذا ولا يجوز تحريف كلام الله لنصر المقالات وقال تعالى ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ولا ريب أن هذا مذكور في سياق التحريض على الأعمال الصالحة والاستكثار منها فان صاحبها يجزي بها
(2/275)
ولا ينقص منها بذرة ولهذا يسمى تعالى موفيه كقوله وانما توفون أجوركم يوم القيامة وقوله ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون فترك الظلم هو العدل لافعل كل ممكن وعلى هذا قام الحساب ووضع الموازين القسط ووزنت الحسنات والسيئات وتفاوتت الدرجات العلى بأهلها والدركات السفلى بأهلها وقال تعالى أن الله لا يظلم مثقال ذرة أي لا يضيع جزاء من أحسن ولو بمثقال ذرة فدل على أن اضاعتها وترك المجازاة بها مع عدم ما يبطلها ظلم يتعالى الله عنه ومعلوم أن ترك المجازاة عليها مقدور يتنزه الله عنه لكمال عدله وحكمته ولا تحتمل الآية قط غير معناها المفهوم منها وقال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد أي لا يعاقب العبد بغير إساءة ولا يحرمه ثواب إحسانه ومعلوم أن ذلك مقدور له تعالى وهو نظير قوله أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفي ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فأخبر انه ليس على أحد في وزر غيره شيء وأنه لا يستحق إلا ما سعاه وأن هذا هو العدل الذي نزه نفسه عن خلافه وقال الذي آمن يا قوم أنى أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد بين أن هذا العقاب لم يكن ظلما من الله للعباد بل لذنوبهم واستحقاقهم ومعلوم أن المحال الذي لا يمكن ولا يكون مقدورا أصلا لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته ولا فعله ولا يحمد على ذلك وانما يكون المدح بترك الأفعال لمن هو قادر عليها وأن يتنزه عنها لكماله وغناه وحمده وعلى هذا يتم قوله أنى حرمت الظلم على نفسي وما شاكله من النصوص فاما أن يكون المعنى أنى حرمت على نفسي ما لا حقيقة له وما ليس بممكن مثل خلق مثلى ومثل جعل القديم محدثا والمحدث قديما ونحو ذلك من المحالات ويكون المعنى أنى أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورا لا يكون منى فهذا مما يتيقن المنصف أنه
(2/276)
ليس مرادا في اللفظ قطعا وأنه يجب تنزيه كلام الله ورسوله عن حملة على مثل ذلك قالوا وأما استدلالكم بتلك النصوص الدالة على أنه سبحانه أن عذبهم فانهم عباده وأنه غير ظالم لهم وأنه لا يسأل عما يفعل وأن قضاءه فيهم عدل بمناظرة اياس للقدرية فهذه النصوص وأمثالها كلها حق يجب القول بموجبها ولا تحرف معانيها والكل من عند الله ولكن أي دليل فيها يدل على أنه تعالى يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته وينعم أهل معصيته وأنه يعذب بغير جرم ويحرم المحسن جزاء عمله ونحو ذلك بل كلها متفقة متطابقة دالة على كمال القدرة وكمال العدل والحكمة فالنصوص التي ذكرناها تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ووضعه العقوبة والثواب مواضعهما وأنه لا يعدل بهما عن سننهما والنصوص التي ذكرتموها تقتضي كمال قدرته وانفراده بالربوبية والحكم وأنه ليس فوقه آمر ولا ناه يتعقب أفعاله بسؤال وأنه
(2/277)
لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان ذلك تعذيبا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك مستحقين للعذاب لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم كما قال النبي لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فرحمته لهم ليست في مقابلة أعمالهم ولا هي ثمنا لها فإنها خير منها كما قال في الحديث نفسه ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا لهم من أعمالهم أي فجمع بين الأمرين في الحديث أنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ولم يكن ظالما لهم وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه لا بأعمالهم إذ رحمته خير من أعمالهم فصلوات الله وسلامه على من خرج هذا الكلام أولا من شفتيه فانه أعرف الخلق بالله وبحقه وأعلمهم به وبعدله وفضله وحكمته وما يستحقه على عباده وطاعات العبد كلها لا تكون مقابلة لنعم الله عليهم ولا مساوية لها بل ولا للقليل منها فكيف يستحقون بها على الله النجاة وطاعة المطيع لا نسبة لها إلى نعمة من نعم الله عليه فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكرا والعبد لا يقوم بمقدوره الذي يجب لله عليه فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله فما نجا منهم أحدا إلا بعفوه ومغفرته ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته وإذا كانت هذه حال العباد فلو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم لا لكونه قادرا عليهم وهم ملكه بل لاستحقاقهم ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم وأما قوله فانهم عبادك فليس المراد به أنك قادر عليهم مالك لهم وأي مدح في هذا ولو قلت لشخص أن عذبت فلانا فانك قادر على ذلك أي مدح يكون في ذلك بل في ضمن ذلك الأخبار بغاية العدل وأنه تعالى أن عذبهم فانهم عباده الذين أنعم عليهم بإيجادهم وخلقهم ورزقهم وإحسانه إليهم لا بوسيلة منهم ولا في مقابلة بذل بذلوه بل ابتدأهم بنعمه وفضله فإذا عذبهم بعد ذلك وهم عبيده لم يعذبهم إلا بجرمهم واستحقاقهم وظلمهم فان من أنعم عليهم ابتداء بجلائل النعم كيف يعذبهم بغير استحقاق أعظم النقم وفيه
(2/278)
أيضا أمر آخر ألطف من هذا وهو أن كونهم عباده يقتضي عبادته وحده وتعظيمه واجلاله كما يجل العبد سيده ومالكه الذي لا يصل إليه نفع إلا على يده ولا يدفع عنه ضرا إلا هو فإذا كفروا به أقبح الكفر وأشركوا به أعظم الشرك ونسبوه إلى كل نقيصة مما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا كانوا أحق عباده وأولاهم بالعذاب والمعنى هم عبادك الذين أشركوا بك وعدلوا بك وجحدوا حقك فهم عباد مستحقون للعذاب وفيه أمر آخر أيضا لعله ألطف مما قبله وهو أن تعذبهم فانهم عبادك وشأن السيد المحسن المنعم أن يتعطف على عبده ويرحمه ويحنو عليه فإن عذبت هؤلاء وهم عبيدك لا تعذبهم إلا باستحقاقهم وإجرامهم وألا فكيف يشقى العبد بسيده وهو مطيع له متبع لمرضاته فتأمل هذه المعاني ووازن بينها وبين قوله من يقول أن تعذبهم فأنت الملك القادر وهم المملوكون المربوبون وانما تصرفت في ملكك من غير أن يكون قام بهم سبب العذاب فان القوم نفاة الأسباب وعندهم أن كفر الكافرين وشركهم ليس سببا للعذاب بل العذاب بمجرد المشيئة ومحض الإرادة وكذلك الكلام في مناظرة اياس للقدرية إنما أراد بأن التصرفات الواقعة منه تعالى في ملكه لا تكون ظلما قط وهذا حق فان كل ما فعله الرب ويفعله لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة فليس في أفعاله ظلم ولا جور ولا سفه وهذا حق لا ريب فيه فاياس بين أنه سبحانه في تصرفه في ملكه غير ظالم فهذه مجامع طرق العالم في هذا المقام ألقيت إليك محتضرة بذكر قواعدها وأداتها وترجيح الصواب منها وابطال الباطل ولعلك لا تجد هذا التفصيل والكلام على هذه المذاهب وأصولها في كتاب من كتب القوم والله تعالى المسئول لتمام نعمته ومزيد العلم والهدى انه المان بفضله
فصل وكذلك الكلام في الإيجاب في حق الله سواء الأقوال فيه كالأقوال
(2/279)
في التحريم وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وقال تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة وقال تعالى أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن وفي الحديث الصحيح أن النبي قال لمعاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم ومنه قوله في غير حديث من فعل كذا كان على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد ونظير هذا ما أخبر سبحانه من قسمه ليفعلن ما أقسم عليه كقوله فوربك لنسئلنهم أجمعين فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا وقوله لنهلكن الظالمين وقوله لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقوله فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله فلنسألن الذي أرسل إليهم ولنسألن المرسلين وقوله فيما يرويه عنه رسول الله وجلالي لأقتصن للمظلوم من الظالم ولو لطمة ولو ضربة بيد إلي أمثال ذلك من صيغ القسم المتضمن معنى إيجاب المقسم على نفسه أو منعه نفسه وهو القسم الطلبي المتضمن للحظر والمنع بخلاف القسم الخبري المتضمن للتصديق
(2/280)
والتكذيب ولهذا قسم الفقهاء وغيرهم اليمين إلي موجب للحظر والمنع أو التصديق والتكذيب قالوا وإذا كان معقولا من العبد أن يكون طالبا من نفسه فتكون نفسه طالبة منها لقوله تعالى أن النفس لأمارة بالسوء وقوله وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى مع كون العبد له آمر وناه فوقه فالرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يمتنع منه أن يكون طالبا من نفسه فيكتب على نفسه ويحق على نفسه ويحرم على نفسه بل ذلك أولى وأحرى في حقه من تصوره في حق العبد وقد أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله قالوا وكتابه ما كتبه على نفسه وإحقاقه ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته له وأنه لا يفعله ولا ريب أن محبته لما يريد أن يفعله ورضاه به يوجب وقوعه بمشيئته واختياره وكراهته للفعل وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء وهذا غير ما يحبه من فعل عبده ويكرهه منه فذاك نوع وهذا نوع ولما لم يميز كثير من الناس بين النوعين وأدخلوهما تحت حكم واحد اضطربت عليهم مسائل القضاء والقدر والحكم والتعليل وبهذا التفصيل سفر لك وجه المسئلة وتبلج صبحها ففرق بين فعله سبحانه الذي هو فعله وبين فعل عباده الذي هو مفعوله فمحبته تعالى وكراهته للأول توجب وقوعه وامتناعه وأما محبته وكراهته للثاني فلا توجب وقوعه ولا امتناعه فانه يحب الطاعة والأيمان من عباده كلهم وان لم تكن محبته موجبة لطاعتهم وأيمانهم جميعا إذا لم يحب فعله الذي هو إعانتهم وتوفيقهم وخلق ذلك لهم ولو أحب ذلك لاستلزم طاعتهم وأيمانهم ويبغض معاصيهم وكفرهم وفسوقهم ولم تكن هذه الكراهة والبغض مانعة من وقوع ذلك منهم إذ لم يكره سبحانه خذلانهم واضلالهم لما له في ذلك من الغايات المحبوبة التي فواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من إيمانهم وطاعتهم وتعقل ذلك مما يقصر عنه عقول أكثر الناس وقد أشرنا إليه
(2/281)
فيما تقدم من الكتاب فالرب تعالى يحب من عباده الطاعة والأيمان ويحب مع ذلك من تضرعهم وتذللهم وتوبتهم واستغفارهم ومن توبته ومغفرته وعفوه وصفحه وتجاوزه ما هو ملزوم لمعاصيهم وذنوبهم ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع وإذا عقل هذا في حق المذنبين فيعقل مثله في حق الكفار وان خلقهم واضلالهم لازم لأمور محبوبة للرب تعالى لم تكن تحصل إلا بوجود لازمها إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فكانت تلك الأمور المحبوبة والغايات المحمودة متوقفة على خلقهم واضلالهم توقف الملزوم على لازمة وهذا فصل معترض لم يكن من غرضنا وان كان أهم مما سقنا الكلام لأجله ونكتة المسألة الفرق بين ما هو فعل له تستلزم محبته وقوعه منه وبين ما هو مفعول له لا تستلزم محبته له وقوعه
(2/282)
من عبده وإذا عرف هذا فالظلم والكفر والفسوق والعصيان وأنواع الشرور واقعة في مفعولاته المنفصلة التي لا يتصف بها دون أفعاله القائمة به ومن انكشف له لهذا المقام فهم معنى قوله والشر ليس إليك فهذا الفرق العظيم يزيل أكثر الشبه التي حارت لها عقول كثير من الناس في هذا الباب وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم فما في مخلوقاته ومفعولاته تعالى من الظلم والشر فهو بالنسبة إلي فاعله المكلف الذي قام به الفعل كما أنه بالنسبة إليه يكون زنا وسرقة وعدوانا وأكلا وشربا ونكاحا فهو الزاني السارق الآكل الناكح والله خالق كل فاعل وفعله وليست نسبة هذه الأفعال إلي خالقها كنسبتها إلي فاعلها الذي قامت به كما أن نسبة صفات المخلوقين إليه كطوله وقصره وحسنه وقبحه وشكله ولونه ليست كنسبتها إلي خالقها فيه فتأمل هذا الموضع واعط الفرق حقه وفرق بين النسبتين فكما أن صفات المخلوق ليست صفات لله بوجه وان كان هو خالقها فكذلك أفعاله ليست أفعالا لله تعالى ولا إليه وان كان هو خالقها فلنرجع الآن إلي ما نحن بصدده فنقول الأمر الذي كتبه على نفسه مستحق عليه الحمد والثناء ويتعالى ويتقدس عن تركه إذ تركه مناف للثناء والحمد الذي يستحقه عليه متضمنا لما يستحق لذاته وهذا بحمد الله بين عند من أوتى العلم والأيمان وهو مستقر في فطرهم لا ينسخه منها شبهات المبطلين وهذا الموضع مما خفى على طائفتي القدرية والجبرية فخبطوا في عشواء وخبطوا في ليلة ظلماء والله الموفق الهادي للصواب فصل وقد ظهر بهذا بطلان قول طائفتين معا الذين وضعوا لله شريعة
(2/283)
بعقولهم أوجبوا عليه وحرموا منها ما لم يوجبه على نفسه ولم يحرمه على نفسه وسووا بينه وبين عباده فيما يحسن منهم ويقبح وبذلك استطال عليهم خصومهم وأبدوا مناقضتهم وكشفوا عوراتهم وبينوا فضائحهم وكذلك بطلان قول الطائفة التي جوزت عليه كل شيء وأنكرت حكمته وجحدت في الحقيقة ما يستحقه من الحمد والثناء على ما يفعله مما يمدح بفعله وعلى ترك ما يتركه مع قدرته عليه مما يمدح بتركه وجعلت النوعين واحدا ولا فرق عندهم بالنسبة إليه تعالى بين فعل ما يمدح بفعله وبين تركه ولا بين ترك ما يمدح بتركه وبين فعله وبهذا تسلط عليهم خصومهم وأبدوا مناقضتهم وبينوا فضائحهم قال المتوسطون وأما نحن فلا يلزمنا شيء من هذه الفضائح والأباطيل فانا لم نوافق طائفة من الطائفتين على كل ما قالته بل وافقنا كل طائفة فيما أصابت فيه الحق وخالفناها فيما خالفت فيه الحق فكنا أسعد به من الطائفتين ولله المنة والفضل هذا قولنا قد أوضحناه في هذه المسألة غاية الإيضاح وأفصحنا عنه بما أمكننا من الافصاح فمن وجد سبيلا إلى
(2/284)
المعارضة أو رام طريقا إلي المناقضة فليبدها فانا من وراء الردة عليه وإهداء عيوب مقالته إليه ونحن نعلم أنه لا يرد علينا مقالتنا إلا بإحدى المقالتين اللتين كشفنا عن عوارهما وبينا فسادهما فليستر عورة مقالته ويصلح فسادها ويرم شعثها ثم ليلق خصومه بها فالمحاكمة إلي النقل الصريح والعقل الصحيح والله المستعان الوجه الثاني والستون قولكم الوجوب والتحريم بدون الشرع ممتنع لأنه لو ثبت لقامت الحجة بدون الرسل والله سبحانه إنما أقام حجته برسله إلى آخره فيقال لا ريب أن الوجوب والتحريم اللذين هما متعلق الثواب والعقاب بدون الشرع ممتنع كما قررتموه والحجة إنما قامت على العباد بالرسل ولكن هذا الوجوب والتحريم بمعنى حصول المقتضى للثواب والعقاب وان تخلف عنه مقتضاه لقيام مانع أو فوات شرط كما تقدم تقريره وقد قال تعالى ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم سبب لاصابة المصيبة إياهم وأنه سبحانه أرسل رسوله وأنزل كتابه لئلا يقولوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك فدلت الآية على بطلان قول الطائفتين جميعا الذين يقولون أن أعمالهم قبل البعثة ليست قبيحة لذاتها بل إنما قبحت بالنهي فقط والذين يقولون أنها قبيحة ويستحقون عليها العقوبة عقلا بدون البعثة فنظمت الآية بطلان قول الطائفتين ودلت على القول الوسط الذي اخترناه ونصرناه أنها قبيحة في نفسها ولا يستحقون العقاب إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة فلا تلازم بين ثبوت الحسن والقبح العقليين وبين استحقاق الثواب والعقاب فالأدلة إنما اقتضت ارتباط الثواب والعقاب بالرسالة وتوقفهما عليها ولم تقتض توقف الحسن والقبح بكل اعتبار عليها وفرق بين الأمرين الوجه الثالث والستون قولكم كيف يعلم أنه سبحانه يجب عليه أن يمدح ويذم ويثبت ويعاقب على الفعل بمجرد العقل وهل ذلك إلا غيب عنا
(2/285)
فيما يعرف أنه رضى عن فاعل وسخط على فاعل وأنه يثيب هذا ويعاقب هذا ولم يخبر عنه بذلك مخبر صادق ولادل على مواقع رضاه وسخطه عقل ولا أخبر عن معلومه ومحكومه مخير فلم يبق إلا قياس أفعاله على أفعال عباده وهو من أفسد القياس فانه ليس كمثله شيء فيقال هذا لازم للمعتزلة ومن وافقهم حيث يوجبون على الله ويحرمون بالقياس على عباده ولا ريب أن هذا من أفسد القياس وأبطله ولكن من أين ينفى ذلك إثبات صفات أفعال اقتضت حسنها وقبحها عقلا ولم يعلم ترتب الثواب والعقاب عليها إلا بالرسالة كما نصرناه فأنتم معاشر النفاة سلبتم الأفعال خواصها وصفاتها التي لا تنفك عنها ولا تغفل مجردة عنها أبدا وظننتم أن قول المعتزلة الباطل في ايجابها وتحريمها على الله لا يتم إلا بهذا النفي فأخطاتم في الأمرين
(2/286)
معا فان بطلان قولهم لا يتوقف على نفي الحسن والقبح ونفيهما باطل وخصومكم من المعتزلة أثبتوا لله شريعة عقلية أوجبوا عليه فيها وحرموا بمقتضى عقولهم وظنوا أنهم لا يمكنهم إثبات الحسن والقبح إلا بذلك فأخطئوا في الأمرين معا فان الله تعالى كما لا يقاس بعباده في أفعاله لا يقاس بهم في ذاته وصفاته فليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله واثبات الحسن والقبح لا يستلزم هذا الإيجاب والتحريم العقليين فليتأمل اللبيب هذه الدقائق التي هي مجامع مآخذ الفرق فيها يتبين أن الناس إنما تكلموا في حواشي المسألة ولم يخوضوا لجتها ويقتحموا غمرتها والله المستعان وأما إلزامكم لخصومكم من المعتزلة تلك اللوازم فلا ريب أنها مستلزمة لبطلان قولهم مع أضعافها من اللوازم التي تبين فساد مذهبهم ونحن مساعدوكم عليها كما لا محيد لهم عن الزاماتكم فمنها أنكم سددتم على أنفسكم طريق الاستدلال بالمعجزة على النبوة حيث جوزتم على الله أن يؤيد الكذاب كما يؤيد الصادق وعندكم أن كلا الآمرين بالنسبة إليه تعالى سواء ولم تعتذروا عن هذا الإلزام المقابل لسائر الزاماتكم بعذر صحيح وهذه أعذاركم مسطورة في الصحائف ومنها الزمام الأفحام ونفى المكلف النظر في المعجزة لعدم الوجوب عقلا واعتذاركم عن هذا الزام بأن الوجوب ثابت نظر أو لم ينظر اعتذار يبطل أصلكم فان ثبوت الوجود بدون نظر المكلف لو كان شرعيا لتوقف على الشرع المتوقف في حق المكلف على النظر في المعجزة فلما ثبت الوجوب وان لم ينظر في المعجزة علم أن الوجوب عقلي لا يتوقف على ثبوت الشرع فان قيل هو ثابت في نفس الأمر على تقدير ثبوت الرسالة قيل فحينئذ يعود الإلزام وهو أنه لا ينظر حتى يجب ولا يجب حتى تثبت الرسالة ولا تثبت حتى ينظر ولهذا عدل من عدل لي مقابلة هذا الإلزام بمثله وقالوا هذا لازم للمعتزلة لأن الوجوب عندهم نظري وهذا لا يغني شيئا ولا يدفع الإلزام المذكور بل غايته مقابلة الفاسد
(2/287)
بمثله وهو لا يجدي في دفع الإلزام شيئا وهذا يدل على بطلان المقالتين وأما نحن فلنا في دفع هذا الإلزام عشرة مسالك وليس هذا موضع هذه المسألة وانما المقصود أن المعتزلة ألزمت نظير ما ألزموهم به ومنها إلزام التعطيل للشرائع جملة وقد تقدم بيانه قريبا حيث بينا أن متعلق الأمر والنهي إنما هو فعل العبد الاختياري فإذا بطل أن يكون له فعل اختياري بطل متعلق الأمر والنهي فلزمه بطلان الأمر والنهي لأن وجوده بدون متعلقه محال إلى سائر تلك اللوازم التي أسلفناها قبل فلا نطيل بإعادتها قالوا أما نحن فلا يلزمنا شيء من هذه اللوازم من الطرفين فانا لم نسلك واحدا من الطريقين فلا سبيل لأحدى الطائفتين إلي إلزامنا بلازم واحد باطل ولله الحمد فمن رام ذلك فليبده فان قيل فمن أصلكم إثبات التعليل والحكمة في الخلق والأمر فما تصنعون
(2/288)
بهذه اللوازم التي ألزمناها المعتزلة وماذا جوابكم عنها إذا وجهناها إليكم قيل لا ريب أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه وشهدت به الفطر والعقول من الحكمة في خلقه وأمره ونقول أن كل ما خلقه وأمر به خلقه فيه حكمة بالغة وآيات باهرة لأجلها خلقه وأمر به ولكن لا نقول أن لله تعالى في خلقو وأمره كله حكمة مماثلة لما للمخلوق من ذلك ولا مشابهة له بل الفرق بين الحكمتين كالفرق ين الفعلين وكالفرق بين الوصفين والذاتين فليس كمثله شيء في وصفه ولا في فعله ولا في حكمة مطلوبة له من فعله بل الفرق بين الخالق والمخلوق في ذلك كله أعظم فرق وأبينه وأوضحه عند العقول والفطر وعلى هذا فجميع ما ألزمتموه لأصحاب الصلاح والأصلح بل وأضعافه وأضعاف أضعافه لله فيه حكمة يختص بها لا يشاركه فيها غيره ولأجلها حسن منه ذلك وقبح من المخلوق لانتفاء تلك الحكمة في حقه وهذا كما يحسن منه تعالى مدح نفسه والثناء على نفسه وان قبح من أكثر خلقه ذلك ويليق بجلاله الكبرياء والعظمة ويقبح من خلقه تعاطيهما كما روى عنه رسول الله الكبرياء ازاري والعظمة ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته وكما يحسن منه إماتة خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بأنواع المحن ويقبح ذلك من خلقه وهذا أعظم من أن نذكر أمثلته فليس بين الله وبين خلقه جامع يوجب أن يحسن منه ما حسن منهم ويقبح منه ما قبح منهم وانما تتوجه تلك الالزامات إلى من قاس أفعال الله بأفعال عباده وأما من أثبت له حكمة تختص به لا تشبه ما للمخلوقين من الحكمة فهو عن تلك الالزامات بمعزل ومنزله منها أبعد منزل ونكتة الفرق أن بطلان الصلاح والأصلح لا يستلزم بطلان الحكمة والتعليل والله الموفق الوجه الثالث والستون قولكم أنتم فتحتم بهذه المسألة طريقا للاستغناء عن النبوات وسلطتم عليكم بها الفلاسفة والبراهمة والصابئة وكل منكر للنبوات فان هذه المسألة باب بيننا وبينهم فأنكم إذا زعمتم أن في العقل حاكما يحسن ويقبح ويوجب ويحرم
(2/289)
ويتقاضى الثواب والعقاب لم تكن الحاجة إلي البعثة ضرورية لامكان الاستغناء عنها فهذا الحاكم إلى آخره قال المثبتون هذا كلام هائل وهو عند التحقيق باطل لو أنصف مورده لعلم انا وهو كما قال الأول رمتني بدائها وانسلت وقد بينا أن النفاة سدوا على أنفسهم طريق إثبات النبوة بإنكارهم هذه المسألة وقالوا انه يحسن من الله كل شيء حتى إظهار المعجزة على يد الكاذب ولا فرق بالنسبة إليه بين إظهارها على يد الصادق ويد الكاذب وليس في العقل ما يدل على استحالة هذا وجواز هذا وتوقف معرفته على السمع لا سيما إذا انضم إلى ذلك إنكار كون العبد فاعلا مختارا البتة فان ذلك يسد الباب جملة لأن متعلق الأمر والنهي إنما هو أفعال العباد الاختيارية فمن لا فعل له ولا اختيار أصلا فكيف يعقل أن يكون مأمورا منهيا وقد تقدم حديث الافحام وعجزكم
(2/290)
عن الجواب عنه قالوا وأما نحن فانا سهلنا بذلك الطريق إلي إثبات النبوات بل لا يمكن إثباتها إلا بالاعتراف بهذه المسالة فانه إذا ثبت أن من الأفعال حسنا ومنها قبيحا وأن إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح وأن الله يتعالى ويتقدس عن فعل القبائح علمنا بذلك صحة نبوة من اظهر الله على يديه الآيات والمعجزات وأما أنتم فأنكم لا يمكنكم العلم بذلك قالوا وكذلك نحن قلنا أن العبد فاعل مختار لفعله وأوامر الشرع ونواهيه متوجهة إلي مجرد فعله الاختياري القائم به وهو متعلق الثواب والعقاب وأما أنتم فلا يمكنكم ذلك لأن تلك الأفعال عندكم هي فعل الله في العبد لاصنع للعبد فيها أصلا فكيف يتوجه أمر الشرع ونهيه إلي غير فاعل بل يؤمر وينهى بما لا قدرة له عليه البتة بل بفعل غيره قالوا فليتدبر المنصف هذا المقام فانه يتبين له أنه سد على نفسه طريق النبوات وفتح باب الاستغناء عنها قالوا وأيضا فان الله سبحانه فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح وركب في عقولهم إدراك ذلك والتمييز بين النوعين كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر وركب في حواسهم إدراك ذلك والتمييز بين أنواعه والفطرة الأولى هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات وأما الفطرة الثانية فمشتركة بين أصناف الحيوان وحجة الله عليه إنما تقوم بواسطة الفطرة الأولى ولهذا اختص من بين سائر الحيوانات بإرسال الرسل إليه وبالأمر والنهي والثواب والعقاب فجعل سبحانه في عقله ما يفرق بين الحسن والقبح وما ينبغي إيثاره وما ينبغي اجتنابه ثم أقام عليه حجته برسالته بواسطة هذا الحاكم الذي يتمكن به من العلم بالرسالة وحسن الإرسال وحسن ما تضمنه من الأمور وقبح ما نهى عنه فانه لو لا ما ركب في عقله من إدراك ذلك لما أمكنه معرفة حسن الرسالة وحسن المأمور وقبح المحظور ولهذا قلنا أن من أنكر الحسن والقبح العقليين لزمه إنكار الحسن والقبح للشريعة وان زعم أنه
(2/291)
مقربه فان أخبار الشرع عن العقل بأنه حسن أو قبيح مطابق لكونه في نفسه كذلك فإذا كان في نفسه ليس بحسن ولا قبيح فان هذا الخبر لا مخبر له إلا مجرد تعلق افعل أو لا تفعل به وهذا التعليق عندكم جائز أن يكون بخلاف ما هو به وان يتعلق الطلب بالمنهي عنه والنهي بالمأمور به والتعلق لم يجعله حسنا ولا قبيحا بل غايته أن جعل الفعل مأمورا منهيا فعاد الحسن والقبح إلي مجرد كونه مأمورا منهيا ولا فرق عندكم بالنظر إلي ذات الفعل بين النوعين بل ما كان مأمورا يجوز أن يقع منهيا وبالعكس فلم يكشف الأمر والنهي صفة حسن ولا قبح أصلا فلا حسن ولا قبح إذا عقلا ولا شرعا وانما هو تعلق الطلب بالفعل والترك وهذا مما لاخلاص منه إلا بالقول بأن للأفعال خواص وصفات عليها في أنفسها اقتضت أن يؤمر بحسنها وينهى عن سيئها ويخبر عن حسنها بما هو عليه ويخبر غيره بقبحها مما نكون عليه
(2/292)
فيكون للخبر مخبر ثابت في نفسه والأمر والنهي متعلق ثابت في نفسه قالوا فعلمه من العقل محسن الحسن وقبح القبيح ثم علمه بأن ما أمرت به الرسل هو الحسن وما نهت عنه هو القبيح طريق إلي تصديق الرسل وأنهم جاؤا بالحق من عند الله ولهذا قال بعض الأعراب وقد سئل بماذا عرفت أن محمدا رسول الله فقال ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به أفلا ترى هذا الأعرابي كيف جعل مطابقة الحسن والقبح الذي ركب الله في العقل ادراكه لما جاء به الرسول شاهدا على صحة رسالته وعلما عليها ولم يقل أن ذلك يقبح طريق الاستغناء عن النبوة بحاكم العقل قالوا أيضا فهذا إنما يلزم أن لو قيل بأن ما جاءت به الرسل ثابت في العقل إدراكه مفصلا قبل البعثة فحينئذ يقال هذا يفتح باب الاستغناء عن الرسالة ومعلوم أن إثبات الحسن والقبح العقليين لا يستلزم هذا ولا يدل عليه بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفضيله أو قبحه فيدركه العقل جملة ويأتي الشرع بتفصيله وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبح وان تأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه وما أدركه العقل الصريح من ذلك أتت الشرائع بتقريره وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه وبالنهي عنه في وقت قبحه وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته فيتوقف العقل في ذلك فتأتي الشرائع ببيان ذلك وتأمر براجح المصلحة وتنهى عن راجح المفسدة وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره والعقل لا يدرك ذلك فتأتي الشرائع ببيانه فتأمر به من هو مصلحة له وتنهى عنه من حيث هو مفسدة في حقه وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل
(2/293)
فلا يعلم إلا بالشرع كالجهاد والقتل في الله ويكون في الظاهر مصلحة وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون ما تدركه من ذلك فالحاجة إلي الرسل ضرورية بل هي فوق كل حاجة فليس العالم إلي شيء أحوج منهم إلي المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ولهذا يذكر سبحانه عباده نعمه عليهم برسوله ويعد ذلك عليهم من أعظم المنن منه لشدة حاجتهم إليه ولتوقف مصالحهم الجزئية والكلية عليه وأنه لاسعادة لهم ولا فلاح ولا قيام إلا بالرسل فإذا كان العقل قد أدرك حسن بعض الأفعال وقبحها فمن
(2/294)
أين له معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته والآية التي تعرف بها الله إلي عباده على السنة رسله و من أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده ومن أين له تفاصيل مواقع محبته ورضاه و سخطه وكراهته ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه وما أعد لأوليائه وما اعد لأعدائه ومقادير الثواب والعقاب وكيفيتهما ودرجاتهما ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يظهر الله عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضاه من رسله إلي غير ذلك مما جاءت به الرسل وبلغته عن الله وليس في العقل طريق إلي معرفته فكيف يكون معرفة حسن بعض الأفعال و قبحها بالعقل مغنيا عما جاءت به الرسل فظهر أن ما ذكرتموه مجرد تهويل مشحون بالأباطيل والحمد لله وقد ظهر بهذا القصور الفلاسفة في معرفة النبوات وأنهم لا علم عندهم بها إلا كعلم عوام الناس بما عندهم من ألعقليات بل علمهم بالنبوات وحقيقتها وعظم قدرها وما جاءت به اقل بكثير من علم العامة بعقلياتهم فهم عوام بالنسبة إليها كما أن من لم يعرف علومهم عوام بالنسبة إليهم فلولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معيشته و لا قوام لمملكة ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض وكل دين في العالم فمن آثار النبوة وكل شيء وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها فالعالم حينئذ روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه ولهذا إذا تم انكساف شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من أثارها البتة انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسفت قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها فلا قيام للعالم إلا بأثار النبوة ولهذا كان كل موضع ظهرت فيه آثار النبوة فأهله أحسن حالا وأصلح بالا من الموضع الذي يخفى فيه آثارها وبالجملة فحاجة العالم إلي النبوة أعظم من حاجتهم إلي نور الشمس وأعظم من حاجتهم إلي الماء والهواء الذي لا حياة لهم بدونه
(2/295)
فصل وأما ما ذكره الفلاسفة من مقصود الشرائع وان ذلك لاستكمال النفس قوى العلم والعمل والشرائع ترد بتمهيد ما تقرر في العقل بتعبيره إلي آخره فهذا مقام يجب الاعتناء بشأنه و أن لا نضرب عنه صفحا فنقول للناس في المقصود بالشرائع والأوامر و النواهي أربعة طرق : أحدها طريق من يقول أن الفلاسفة وأتباعهم من المنتسبين إلي الملل أن المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس وتعديلها لتستعد بذلك لقبول الحكمة العلمية و العملية ومنهم من يقول لتستعد بذلك لأن تكون محلا لانتقاش صور المعقولات فيها ففائدة ذلك عندهم كالفائدة
(2/296)
الحاصلة من صقل المرآة لتستعد لظهور الصور فيها وهؤلاء يجعلون الشرائع من جنس الأخلاق الفاضلة والسياسات العادلة ولهذا رام فلاسفة الإسلام الجمع بين الشريعة والفلسفة كما فعل ابن سينا والفارابي و اضرابهما وآل بهم أن تكلموا في خوارق العادات و المعجزات على طريق الفلاسفة المشائين وجعلوا لها أسبابا ثلاثة أحدها القوى الفلكية والثاني القوى النفسية و الثالث القوى الطبيعية و جعلوا جنس الخوارق جنسا واحدا وأدخلوا ما للسحرة وأرباب الرياضة والكهنة وغيرهم مع ما للأنبياء والرسل في ذلك وجعلوا سبب ذلك كله واحدا وان اختلفت بالغايات والنبي قصده الخير والساحر قصده الشر وهذا المذهب من افسد مذاهب العالم و أخبثها وهو مبني على إنكار الفاعل المختار وانه تعالى لا يعلم ألجزئيات ولا يقدر على تغيير العالم ولا يخلق شيئا بمشيئته وقدرته وعلى إنكار الجن والملائكة ومعاد الأجسام وبالجملة فهو مبني على الكفر بالله وملائكته و كتبه و رسله واليوم الآخر وليس هذا موضوع الرد هنا على هؤلاء و كشف باطلهم و فضائحهم إذ المقصود ذكر طرق الناس في المقصود بالشرائع والعبادات وهذه الفرقة غاية ما عندها في العبادات و الأخلاق والحكمة العلمية أنهم رأوا النفس لها شهوة وغضب بقوتها العملية ولها تصور وعلم بقوتها العلمية فقالوا كمال الشهوة في العفة وكمال الغضب في الحكم والشجاعة وكمال القوة النظرية بالعلم و التوسط في جميع ذلك بين طرفي الإفراط و التفريط هو العدل هذا غاية ما عند القوم من المقصود بالعبادات و الشرائع وهو عندهم غاية كمال النفس وهو استكمال قويتها العلمية والعملية فاستكمال قوتها العلمية عندهم بانطباع صور المعلومات في النفس واستكمال قوتها العلمية بالعدل وهذا مع انه غاية ما عندهم من العلم والعمل وليس فيه بيان خاصية النفس التي لا كمال لها بدونه البتة وهو الذي خلقت له و أريد منها بل ما عرفه القوم لأنه لم يكن عندهم من معرفة
(2/297)
متعلقة إلا نزر يسير غير مجد ولا محصل للمقصود وذلك معرفة الله بأسمائه وصفاته ومعرفة ما ينبغي لجلاله وما يتعالى ويتقدس عنه و معرفة أمره ودينه والتمييز بين مواقع رضاه وسخطه و استفراغ الوسع في التقريب إليه وامتلاء القلب بمحبته بحيث يكون سلطان حبه قاهرا لكل محبة ولا سعادة للعبد في دنياه ولا أخراه إلا بذلك ولا كمال للروح بدون ذلك البتة وهذا هو الذي خلق له بل وأريد منه بل ولأجله خلقت السماوات والأرض واتخذت الجنة والنار كما سيأتي تقريره من أكثر من مائة وجه أن شاء الله ومعلوم أنه ليس عند القوم من هذا خبر بل هم في واد وأهل الشأن في واد و هذا هو الدين الذي الذي أجمعت الأنبياء عليه من أولهم إلي خاتمتهم كلهم جاء به وأخبر عن الله أنه دينه الذي رضيه لعباده وشرعه لهم وأمرهم به كما قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك رسولا إلا نوحي إليه أنه لا اله إلا أنا فاعبدون
(2/298)
وقال تعالى ومن يبتع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وقال تعالى واسأل من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا أنى بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوا وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين وقال تعالى وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون فالغاية الحميدة التي يحصل بها كمال بني آدم وسعادتهم و نجاحهم هي معرفة الله ومحبته وعبادته وحده لا شريك له وهي حقيقة قول العبد لا اله إلا الله وبها بعث الرسل ونزلت جميع الكتب ولا تصلح النفس ولا تزكو ولا تكمل إلا بذلك قال تعالى فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة أي لا يؤتون ما تزكى به أنفسهم من التوحيد و الأيمان ولهذا فسرها غير واحد من السلف بأن قالوا لا يأتون الزكاة لا يقولون لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه هو اعظم وصية جاءت بها الرسل ودعوا إليها الأمم وسنبين أن شاء الله عن قريب بالبراهين الشافية أن النفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلا بأن يكون الله وحده محبوبها و معبودها لا أحب إليها منه ولا آثر عندها من مرضاته و التقرب إليه وأن النفس محتاجة بل مضطرة إليه حيث هو معبودها و محبوبها وغاية مرادها أعظم من اضطرارها إليه من حيث هو ربها وخالقها وفاطرها ولهذا كان من آمن بالله خالقه ورازقه وربه ومليكه ولم يؤمن بأنه لا اله يعبد ويحب ويخشى ويخاف غيره بل أشرك معه في عبادته غيره فهو كافر به مشرك شركا لا يغفره الله له كما قال تعالى أن الله لا يغفر أن
(2/299)
يشرك به وقال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأخبر أن من أحب شيئا سوى الله مثل ما يحب الله فقد اتخذ من دون الله أندادا ولهذا يقول أهل النار لمعبوداتهم وهم معهم فيها تالله أن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأله لا في الخلق والقدرة والربوبية وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار بقوله والحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأصح القولين أن المعنى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيجعلون له عدلا يحبونه ويعبدونه ويعبدونه كما يحبون الله ويعبدونه فما ذكر الفلاسفة من الحكمة العملية والعلمية ليس فيها من العلوم والأعمال ما تستعد به النفوس وتنجو به من العذاب فليس في حكمتهم العلمية إيمان بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا لقائه رسله وليس في حكمتهم العلمية عبادته وحده ولا شريك له واتباع مرضاته واجتناب مساخطه ومعلوم أن النفس لا سعادة لها ولا فلاح إلا بذلك فليس من حكمتهم العلمية والعملية ما تسعد به النفوس و تفوز ولهذا لم يكونوا داخلين في الأمم السعداء في الآخرة وهم الأمم الأربعة المذكورون في قوله تعالى أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون
فصل وهذه الكمالات الأربعة التي ذكرها الفلاسفة للنفس لا بد منها
(2/300)
في كما لها وصلاحها ولكن قصروا غاية التقصير في أنهم لم يبينوا متعلقها ولم يحدوا لها حدا فاصلا بين ما تحصل به السعادة وما لا تحصل به فانهم لم يذكروا متعلق العفة ولا عماذا تكون ولا مقدارها الذي إذا تجاوزه العبد وقع في الفجور وكذلك الحلم لم يذكروا مواقعه ومقداره وأين يحسن وأين يقبح وكذلك الشجاعة وكذلك العلم لم يميزوا العلم الذي تزكو به النفوس وتسعد من غيره بل لم يعرفوا أصلا وأما الرسل صلاة الله وسلامه عليهم فبينوا ذلك غاية البيان وفصلوه أحسن تفصيل وقد جمع الله ذلك في كتابه في آية واحدة فقال قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فهذه الأنواع الأربعة التي حرمها تحريما مطلقا لم يبح منها شيئا لأحد من الخلق ولا في حال من الأحوال بخلاف الميتة والدم ولحم الخنزير فأنها تحرم في حال وتباح في حال وأما هذه الأربعة فهي محرمة فالفواحش متعلقة بالشهوة وتعديل قوة الشهوة باجتنابها والبغي بغير الحق متعلق بالغضب وتعديل القوة الغضبية باجتنابه والشرك بالله ظلم عظيم بل هو الظلم على الإطلاق وهو مناف للعدل والعلم وقوله وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا متضمن تحريم أصل الظلم في حق الله وذلك يستلزم إيجاب العدل في حقه وهو عبادته وحده لا شريك له فان النفس لها القوتان العلمية والعملية وعمل الإنسان عمل اختياري تابع لارادة العبد وكل إرادة فلها مراد وكمال هو أما مراد لنفسه واما مراد لغيره ينتهي إلي المراد لنفسه ولا بد فالقوة العملية تستلزم أن يكون للنفس مراد تستكمل بإرادته فان كان ذلك المراد مضمحلا فانيا زالت الإرادة بزواله ولم يكن للنفس مراد غيره قفاتها أعظم سعادتها وفلاحها فيجب إذا أن يكون مرادها الذي تستكمل بإرادته وحبه وإيثاره باقيا لا يفنى ولا يزول وليس ذلك إلا الله وحده وسنذكر أن شاء الله عن قريب
(2/301)
معنى تعلق الإرادة به تعالى وكونه مرادا والعبد مريد له فان هذا مما أشكل على بعض المتكلمين حيث قالوا أن الإرادة لا تتعلق إلا بحادث وأما القديم فكيف يكون مرادا وخفى عليهم الفرق بين الإرادة الغائبة والإرادة الفاعلية وجعلوا الارادتين واحدة والمقصود أن هؤلاء الفلاسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس وانما جعلوا كمالها في تعديل الشهوة والغضب والشهوة هي جلب ما ينفع البدن ويبقى النوغ والغضب دفع ما يضر البدن وما تعرضوا لمراد الروح المحبوب لذاته وجعلوا كمالها العلمي في مجرد العلم وغلطوا في ذلك من وجوه كثيرة منها أن ما ذكروه لا يعطي كمال النفس الذي خلقت له كما بيناه ومنها أن ما ذكروه في كمال القوة العملية إنما غايته إصلاح البدن الذي هو آلة النفس ولم يذكروا كمال النفس الإرادي والعمل بالمحبة والخوف والرجاء ومنها أن كمال النفس في العلم والإرادة لا في مجرد العلم فان مجرد العلم ليس بكمال للنفس ما لم تكن مريدة محبة لمن لا سعادة لها إلا بإرادته ومحبته فالعلم المجرد لا يعطي النفس كما لا ما لم تقترن به الإرادة والمحبة ومنها أن العلم لو كان كمالا بمجرده لم يكن ما عندهم من العلم كما لا للنفس فان غاية ما عندهم علوم رياضية صحيحة مصلحتها من جنس مصالح الصناعات وربما كانت الصناعات أصلح وأنفع من كثير منها واما علم طبيعي صحيح غايته معرفة العناصر وبعض خواصها وطبائعها ومعرفة بعض ما يتركب منها وما يستحيل من الموجبات إليها وبعض ما يقع في العالم من الآثار بامتزاجها واختلاطها وأي كمال للنفس في هذا وأي سعادة لها فيه واما علم الهي كله باطل لم يوفقوا في الإصابة الحق فيه مسألة واحدة ومنها أن كمال النفس وسعادتها المستفاد عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ليس عندهم اليوم منه حس ولا خبر ولا عين ولا أثر فهم أبعد الناس من كمالات النفوس وسعاداتها وإذا عرف ذلك وأنه لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا يصلح إلا به ولا يكمل
(2/302)
إلا بحبه وإيثاره وقطع العلائق عن غيره وان ذلك هو النهاية وغاية مطلوبها ومرادها الذي إليه ينتهي الطلب فليس ذلك إلا الله الذي لا اله إلا هو قال تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وليس صلاح الإنسان وحده وسعادته إلا بذلك بل وكذلك الملائكة والجن وكل حي شاعر لاصلاح له إلا بأن يكون الله وحده ألهه ومعبوده وغاية مراده وسيمر بك أن شاء الله بسط القول في ذلك واقامة البراهين على هذا المطلوب الأعظم الذي هو غاية سعادة النفوس وأشرف مطالبها فلنرجع إلي ما كنا فيه من بيان طرق الناس في مقاصد العبادات الطريق الثاني طريق من يقول من المعتزلة ومن تابعهم أن الله سبحانه عرضهم بها للثواب واستأجرهم بتلك الأعمال للخير فعاوضهم عليها معاوضة قالوا والأنعام منه في الآخرة غير حسن لما فيه من تكرير منه العطاء ابتداء ولما فيه من الإخلال بالمدح والثناء والتعظيم الذي لا يستحق إلا بالتكليف ومنهم من يقول أن الواجبات الشرعية لطف في الواجبات
(2/303)
العقلية ومنهم من يقول أن الغاية المقصودة التي يحصل بها الثواب هي العمل والعلم وسيلة إليه حتى ربما قالوا ذلك في معرفة الله تعالى وأنها إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العملية وهذه الأقوال تصور العاقل اللبيب لها حق التصور كاف في جزمه ببطلانها رافع عنه مؤنة الرد عليها والوجوه الدالة على بطلانها أكثر من أن تذكر هاهنا الطريق الثالث طريق الجبرية ومن وافقهم أن الله سبحانه امتحن عباده بذلك وكلفهم لا لحكمة ولا لغاية مطلوبة له ولا بسبب من الأسباب فلا لام تعليل ولا باء سبب أن هو إلا محض المشيئة وصرف الإرادة كما قالوا في الخلق سواء وهؤلاء قابلوا من قبلهم من القدرية والمعتزلة أعظم مقابلة فهما طرفا نقيض لا يلتقيان والطريق الرابع طريق أهل العلم والأيمان الذين عقلوا عن الله أمره ودينه وعرفوا مراده بما أمرهم ونهاهم عنه وهي أن نفس معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرب إليه وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته وأن الله سبحانه يستحقه لذاته وهو سبحانه المحبوب لذاته الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتأله إلا له فهو يستحق ذلك لأنه أهل أن يعبد ولو لم يخلق جنة ولا نارا ولو لم يضع ثوابا ولا عقابا كما جاء في بعض الآثار لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد فهو سبحانه يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لذاته ولما له من أوصاف الكمال ونعوت الجلال وحبه والرضى به وعنه والذل له والخضوع والتعبد هو غاية سعادة النفس وكمالها والنفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه وحياته والعين التي فقدت ضوءها ونورها بل أسوأ حالا من ذلك من وجهين : أحدهما أن غاية الجسد إذا فقد روحه أن يصير معطلا ميتا وكذلك العين تصير معطلة وأما النفس إذا فقدت كمالها المذكور فأنها تبقى معذبة متألمة وكلما اشتد حجابها اشتد عذابها وألمها وشاهد هذا ما يجده المحب الصادق المحبة من العذاب والألم عند
(2/304)
احتجاب محبوبه عنه ولا سيما إذا يئس من قربه وحظى غيره بحبه ووصله هذا مع إمكان التعوض عنه بمحبوب آخر نظيره أو خير منه فكيف بروح فقدت محبوبها الحق الذي لم تخلق إلا لمحبته ولا كمال لها ولا صلاح أصلا إلا بأن يكون أحب إليها من كل ما سواه وهو محبوبها الذي لا تعوض منه سواه بوجه ما كما قال القائل : من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله أن ضيعته عوض ولو لم يكن احتجابه سبحانه عن عبده أشد أنواع العذاب عليه لم يتوعد به أعداءه كما قال تعالى كلا انهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون ثم انهم لصالو الجحيم فأخبر أن لهم عذابين أحدهما عذاب الحجاب عنه والثاني صلى الجحيم وأحد العذابين أشد من الآخر وهذا كما أنه سبحانه ينعم على أوليائه بنعيمين نعيم كشف الحجاب فينظرون إليه ونعيم الجنة وما فيها
(2/305)
وأحد النعيمين أحب إليهم من الآخر وآثر عندهم وأقر لعيونهم كما في الصحيح عنه أنه قال إذا دخل أهل الجنة نادى مناديا أهل الجنة أن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وفي حديث غير هذا أنهم إذا نظروا إلي ربهم تبارك وتعالى أنساهم لذة النظر إليه ما هم فيه من النعيم والوجه الثاني أن البدن والأعضاء آلات للنفس ورعية للقلب وخدم له فإذا فقد بعضهم كماله الذي خلق له كان بمنزلة هلاك بعض جند الملك ورعيته وتعطل بعض آلاته وقد لا يلحق الملك من ذلك ضرر أصلا وأما إذا فقد القلب كماله الذي خلق له وحياته ونعيمه كان بمنزلة هلاك الملك وأسره وذهاب ملكه من يديه وصيرورته أسيرا في أيدي أعاديه فهكذا الروح إذا عدمت كمالها وصلاحها في معرفة فاطرها وبارئها وكونه أحب شيء إليها رضاه وابتغاء الوسيلة إليه آثر شيء عندها حتى يكون اهتمامها بمحبته ومرضاته اهتمام المحب التام المحبة بمرضاة محبوبه الذي لا يجد منه عوضا كانت بمنزلة الملك الذي ذهب منه ملكه وأصبح أسيرا في يدي أعاديه يسومونه سوء العذاب وهذا الألم كامن في النفس لكن يستره ستر الشهوات ويواريه حجاب الغفلة حتى إذا كشف الغطاء وحيل بين العبد وبين ما يشتهى وجد حقيقة ذلك الألم وذاق طعمه وتجرد ألمه عما يحجبه ويواريه وهذا أمر يدرك بالعيان والتجربة في هذه الدار تكون الأسباب المؤلمة للروح والبدن موجودة مقتضية لآثارها ولكن يقوم للقلب من فرحه بحظ ناله من مال أو جاه أو وصال حبيب ما يوارى عنه شهود الألم وربما لا يشعر به أصلا فإذا زال المعارض ذاق طعم الألم ووجد مسه ومن اعتبر أحوال نفسه وغيره علم ذلك فإذا كان هذا في هذه الدار فما الظن عند المفارقة والفطام عن الدنيا والانتقال إلي الله والمصير إليه فليتأمل العاقل الفطن الناصح لنفسه
(2/306)
هذا الموضع حق التأمل وليشغل به كل أفكاره فان فهمه وعقله واستمر إعراضه فما تبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه وان لم يفهمه لغلظ حجابه وكثافة طبعه فيكفيه الأيمان بما أعد الله تعالى في الجنة لأهلها من نعم الأكل والشرب والنكاح والمناظر المبهجة وما أعد في النار لأهلها من السلاسل والأغلال والحميم ومقطعات الثياب من النار ونحو ذلك والمقصود بيان أن الحاجة إلي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ضرورية بل هي في أعلى مراتب الضرورة وليست نظرا لحاجتهم إلي الحاجة وأسبابها بل هي أعظم من ذلك وأما ما ذكر عن الصابئة من الاستغناء عن النبوة فهذا ليس مذهبا لجميعهم بل فيهم سعيد وشقي كما قال تعالى أن الذين
(2/307)
آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فأدخل المؤمنين من الصابئين في أهل السعادة ولم ينالوا ذلك إلا بالإيمان بالرسل ولكن منهم من أنكر النبوات وعبد الكواكب وهم فرق كثيرة ليس هذا موضع ذكرهم فأما قولهم أن الموجودات في العالم السفلى مركبة في تأثير الكواكب والروحانيات وفي اتصالها سعود ونحوس يوجب أن يكون في آثارها حسن وقبح في الأخلاق والأعمال يدركه كل ذي عقل سليم فلا حاجة لنا إلي من يعرفنا حسنها وقبحها إلي آخر كلامهم فكلام من هو أجهل الناس وأضلهم وأبعدهم عن الإنسانية وقائل هذه المقالة مناد على نفسه أنه لم يعرف فاطره فاطر السموات والأرض ولا صفاته ولا أفعاله بل ولا عرف نفسه التي بين جنبيه ولا ما يسعدها ويشقيها ولا غايتها ولا لماذا خلقت ولا بماذا تكمل وتصلح وبماذا تفسد وتهلك بل هو أجهل الناس بنفسه وبفاطرها وبارئها وهل يتمكن العقل بعد معرفة النفس ومعرفة فاطرها ومبدعها أن يجحد النبوة أو يجوز على الله وعلى حكمته أن يترك النوع البشري الذي هو خلاصة المخلوقات سدى ويدعهم عملا معطلا ويخلقهم عبثا باطلا ومن جوز ذلك على الله سبحانه فما قدره حق قدره بل ولا عرفه ولا آمن به قال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فأخبر تعالى أن من جحد رسالاته فما قدره حق قدره ولا عرفه ولا عظمه ولا نزهه عما لا يليق به تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم يقال لهذه الطائفة بماذا عرفتم أن الموجودات بالعالم السفلي كلها مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات وهل هذا إلا كذب بحت وبهت فهب أن بعض الآثار المشاهدة مسبب عن تأثير بعض الكواكب والعلويات كما يشاهد من تأثير الشمس والقمر في الحيوان والنبات وغيرهما فمن أين لكم أن جميع أجزاء العالم السفلي صادر عن تأثير الكواكب والروحانيات وهل هذا إلا كذب
(2/308)
وجهل فهذا العالم فيه من التغير والاستحالة والكون والفساد مالا يمكن إضافته إلي كوكب ولا يتصور وقوعه إلا بمشيئة فاعل مختار قادر مؤثر في الكواكب والروحانيات مسخر لها بقدرته مدبر لها بمشيئة كما تشهد عليها أحوالها وهيآتها وتسخيرها وانقيادها أنها مدبرة مربوبة مسخرة بأمر قادر قاهر يصرفها كيف يشاء ويدبرها كما يريد ليس لها من الأمر شيء ولا يمكن أن تتصرف في أنفسها بذرة فضلا أن تعطى العلام وجوده فلو أرادت حركة غير حركتها أو مكانا غير مكانها أو هيئة أو حالا غير ما هي عليه لم تجد إلي ذلك سبيلا فكيف تكون ربا لكل ما تحتها مع كونها عاجزة مصرفة مقهورة مسخرة آثار الفقر مسطورة في صفحاتها وآيات العبودية والتسخير
(2/309)
بادية عليها فبأي اعتبار نظر إليها العاقل رأى آثار الفقر وشواهد الحدوث وأدلة التسخير والتصريف فيها فهي خلق من ليس كمثله شيء وآيات من آياته عبيد مسخرات بأمره الإله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وأما قولهم أن في اتصالات الكواكب نظر سعود ونحوس مما أضحكوا به العقلاء عليهم من جميع الأمم ونادوا به على جهلهم وصاروا به مركزا لكل كذاب وكل أفاك وكل زنديق وكل مفرط في الجهل بالنبوات وما جاءت به الرسل بالحقائق العقلية والبراهين اليقينية وسنريك طرفا من جهالاتهم وكذبهم وتناقضهم وبطلان مقالتهم ليعرف اللبيب نعمة الله عليه في عقله ودينه فيقال لهم المؤثر في هذه السعود والنحوس هل هو الكوكب وحده والبرج وحده أو الكوكب بشرط حصوله في البرج والكل محال أما الأول والثاني فانهما يوجبان دوام الأثر لكون المؤثر دائم الثبوت والثالث أيضا محال لأنه لما اختلف أثر الكوكب بسبب اختلاف البرجين لزم أن تكون طبيعة كل برج مخالفة بالماهية لطبيعة البرج الثاني إذ لو لم يكن كذلك كانت طبائع جميع البروج متساوية في تمام الماهية فوجب أن يكون أثر الكوكب في جميع البروج أثرا واحدا لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية يمتنع أن تلزمها لوازم مختلفة ولما كانت آثار كل كوكب واجبة الاختلاف بسبب اختلاف البروج لزم القطع بكون البروج مختلفة في الطبيعة والماهية وهذا يقتضي كون الفلك مركبا لا بسيطا وقد قلتم أنتم وجميع الفلاسفة أن الفلك بسيط لا تركيب فيه ومن العجب جواب بعض الأحكاميين عن هذا بان الكواكب حيوانات ناطقة فاعلة بالقصد والاختيار فلذلك تصدر عنها الأفعال المختلفة وهذا مكابرة من هؤلاء ظاهرة فان دلائل التسخير والاضطرار عليها من لزومها حركة لا سبيل لها إلي الخروج عنها ولزومها موضعا من الفلك لا تتمكن من الانتقال عنه واطراد سيرها على وجه مخصوص لا تفارقه البتة أبين دليل على أنها مسخرة مقهورة على حركاتها محركة بتحريك قاهر لا متحركة
(2/310)
بإرادتها واختيارها كما قال تعالى والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ثم يقال لا ينفعكم هذا الجواب شيئا فان طبائع البروج أن كانت متساوية في تمام الماهية كان اختصاص كل برج بأثره الخاص ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وان لم تكن متساوية لزم تركيب الفلك ومما أضحكتم به العقلاء منكم أنكم جعلتموها أجساما ناطقة فاعلة بالاختيار ونفيتم أن يكون فاطرها ومبدعها حيا قيوما فاعلا بالاختيار وهذه الحوادث مستندة إلي مشيئته واختياره جارية على وفق حكمته وعلمه مع كون هذه الكواكب عبيده وخلق مسخر بأمره ولا تملك لأنفسها ولا لما تحتها ضرا ولا نفعا ولا سعدا ولا نحسا كما قاله العقلاء من بني آدم واتفقت عليه الرسل وأتباعهم فان قيل لا نسلم أن الفلك بسيط بل هو مركب من هذه
(2/311)
البروج وطبيعة كل برج مخالفة لطبيعة البرج الآخر بل طبيعة كل دقيقة وثانية مخالفة لطبيعة الدقيقة الأخرى والثانية الأخرى ولا يتم علم الأحكام إلا بهذا قيل قولكم بأنه قديم أبدى غير قابل للكون والفساد ولا يقبل الانحلال ولا الخرق ولا الالتئام مع كون طبيعة كل جزء منه صغيرا أو كبيرا مخالفة لطبيعة الجزء الآخر كما صرح به أبو معشر جمع بين النقيضين فانه إذا كان مركبا من أجزاء مختلفة الماهية لم يمتنع انحلاله وانفطاره وانشقاقه فكيف جمعتم بين تكذيب الرسل في الأخبار عن انقطاعه وانشقاقه وانحلاله وبين دعواكم تركبه من ماهيات مختلفة في نفسها غير ممتنع على المركب منها الانحلال له والانفطار فلا للرسل صدقتم ولا مع وجوب العقل وقفتم بل أنتم من أهل هذه الآية وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فان قيل لم لا يجوز أن يقال أن كل برج من البروج الاثنى عشر قد ارتسمت فيه كواكب صغيرة بلغت في الصغر إلي حيث لا يمكننا أن نحس بها ثم أن الكواكب إذا وقع في مسامتة برج خاص امتزج نور ذلك الكوكب بأنوار تلك الكواكب الصغار المرتسمة في تلك القطعة في الفلك فيحصل بهذا السبب آثار مخصوصة وإذا كان هذا محتملا ولم يبطل بالدليل ثبوته تعين المصير إليه قيل طبائع تلك الكواكب أن كانت مختلفة بالماهية عاد المحذور المذكور وان كانت واحدة لم يكن ذلك الامتزاج متشابها فلا يتصور صور الآثار المتضادة المختلفة عنه الوجه الثاني في الكلام على بطلان علم الأحكام أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية ممتنعة وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بالأحوال الفلكية على حدوث الحوادث السفلية وانما قلنا أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية ممتنعة لوجوه أحدها أنه لا سبيل إلي معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة والمرئي إذا كان صغيرا أو في غاية البعد من الرائي فانه يتعذر رؤيته لذلك فان أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي تمتحن به قوة البصر مثل كرة
(2/312)
الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض اعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة يكون حجم كل واحد منها مساويا لحجم عطارد فانه لا شك أن البصر لا يقوى على إدراكه فيثبت أنه لا يلزم من عدم إبصارنا شيئا من الكواكب في الفلك الأعظم عدم تلك الكواكب وإذا كان كذلك فاحتمال أن في الفلك الأعظم وفي فلك الثوابت وفي سائر الأفلاك كواكب صغيرة وان كنا لا نحس بها ولا نراها يوجب امتناع معرفة جميع المؤثرات الفلكية فان قلتم أنها لما كانت صغيرة وآثارها ضعيفة لم تصل آثارها وقواها إلي هذا العالم قيل لكم صغر الجنة لا يوجب ضعف الأثر فان عطارد أصغر الأجرام الفلكية جرما عندكم مع أن آثاره قوية وأيضا فالرأس والذنب نقطتان وهميتان واما أنتم فقد أثبتم لهما آثارا وأيضا السهام مثل سهم السعادة وسهم الغيب نقط
(2/313)
وهمية ولها عندكم آثار قوية الوجه الثاني مما يدل على أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية غير معلوم أن الكواكب المرئية غير مرصودة بأسرها فأنكم أنتم وغيركم قد قلتم أن المجرة عبارة عن أجرام كوكبية صغيرة جدا مرتكزة في فلك الثوابت على هذا السمت المخصوص ولا ريب أن الوقوف على طبائعها متعذرة وثالثها أن جميع الكواكب الثابتة المحسوسة لم يحصل الوقوف التام على طبائعها لأن كلام الأحكاميين قيل الحاصل لا سيما في طبائع الثوابت نعم غاية ما عندهم أنهم ادعوا أنهم كشفوا بعض الثوابت التي في الفلك الأول والثاني فأما البقية فقلما تكلموا في معرفة طبائعها ورابعها أن بتقدير أنهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها لكن لا شبهة أنه لا يمكن الوقوف على طبائعها حال امتزاج بعضها بالبعض لأن الامتزاجات الحاصلة من طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية يبلغ في الكثرة إلي حيث لا يقدر العقل على ضبطها وخامسها آلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث ولا شك أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا كذا ألف مرة أو أقل أو أكثر ومع هذا التفاوت العظيم كيف يمكن الوصول إلي الغرض حيث قيل أن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل وإذا كان الأمر كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات وسادسها هب أنا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت فلا ريب أنه لا يمكننا معرفة الامتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا أن الأشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال ولا ريب أنا نشاهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور وذلك أن الأحوال السالفة في حق كل تكون مخالفة للأحوال السالفة في حق الآخر وذلك يدل أنه لا اعتماد على مقتضى الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه أصلا فانه
(2/314)
ربما كانت الطوالع السالفة دافعة مقتضيات هذا الطالع الحاضر وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه اللذين سماهما الشفا والنجاه في إبطال هذا العلم فثبت بهذا أن الوقوف التام على المؤثرات جميعها ممتنع مستحيل وإذا كان الأمر كذلك كان الاستدلال بالأشخاص الفلكية على الأحوال السفلية باطلا قطعا الوجه الثالث أن تأثير الكواكب فيما ذكرتم من السعد والنحس أما بالنظر في مفرده واما بالنظر إلي انضمامه إلى غيره فمتى لم يحط المنجم بهاتين الحالتين لم يصح منه أن يحكم له بتأثير ولم يحصل إلا على تعارض التقدير ومن المعلوم أن في فلك البروج كواكب شذت عن الرصد معرفة أقدراها وأعدادها ولم يعرف الأحكاميون ما يوجبه خواص مجموعاتها وأفرادها فخرج الفريقان
(2/315)
أصحاب الرصد والأحكام عن الإحاطة بما في طباعها وما عسى أن تؤثره مع السيارة عند انفرادها واجتماعها فما الذي يؤمنكم كلكم عند وقوع نجم من تلك النجوم المجهولة على درجة الطالع أن يكون موجبا من الحكم ما لا يوجبه النظر بدونه الوجه الرابع أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وان لم تضبط الدقيقة وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة ولا ريب أن الجهالة بتلك الكواكب ومقاديرها يوجب كذب الأحكام النجومية وبطلانها الوجه الخامس أنها لو كان لها تأثير كما يزعمون لم يخل أما أن تكون فيه مختارة مريدة أو غير مختارة ولا مريدة وكلاهما محال أما الأول فلانه يوجب جرى الأحكام على وفق اختيارها وارادتها ولم يتوقف على اتصالاتها وانفصالاتها ومفارقتها ومقارنتها وهبوطها بها في حضيضها وارتفاعها في أوجها كما هو المعروف من الفاعل بالاختيار ولا سيما الأجرام العلوية المؤثرة في سائر السفليات ولاختلفت آثارها أيضا عند هذه الأمور بحسب الدواعي والارادات ولامكنها أن تسعد من أراد أنه ينحسه وتنحس من أراد أنه يسعده كما هو شأن الفاعل المختار وان لم تكن مختارة ومريده فتأثيرها بحسب الذات والطبع وما كان هكذا لم يختلف أثره إلا باختلاف القوابل والمعدات وعندكم أن في اختلاف تلك القوابل والمعدات مستند إلى تأثيرها فأي محال أبلغ من هذا وهل هذا إلا دور ممتنع في بداية العقول الوجه السادس أن هذا العلم مشتمل على أصول يشهد صريح العقل بفسادها وهي وان كانت في الكثرة إلي حيث لا يمكن ذكرها فنحن نعد بعضها فالأول من المعلوم بالضرورة أنه ليس في السماء حمل ولا ثور ولا حية ولا عقرب ولا كلب ولا ثعلب إلا أن المتقدمين لما قسموا الفك إلي أثني عشر قسما أرادوا أن يميزوا كل قسم منها بعلامة مخصوصة شبهوا الكواكب المذكورة في تلك القطعة المعينة بصورة حيوان مخصوص تشبيها بعيدا جدا ثم أن هؤلاء
(2/316)
الاحكاميين فرعوا على هذه الأسماء تفريعات طويلة فرعوا أن الصور السفلية مطيعة للصور العلوية فالعقارب مطيعة لصور العقرب والأفاعي مطيعة لصور التنين وكذا القول في الأسد والسنبلة ومن عرف كيف وضعت هذه الأسماء ثم سمع قول هؤلاء الأحكاميين ضحك منهم وتبين له فرط جهلهم وكذبهم الثاني أن هؤلاء لما عجزوا عن معرفة طالع القرآن أقاموا طالع السنة مقام القرآن ومعلوم أن هذا في غاية الفساد الثالث أنهم اختلفوا اختلافا شديدا في الواحدة من مسائل هذا العلم فان أقوالهم في حدود الكواكب كثيرة مختلفة وليس مع أحد منهم شبهة ولا خيال فضلا عن حجة واستدلال ثم أن كثيرا منهم من غير حجة ولا دليل ربما أخذوا واحدا من تلك الأقوال من غير بصيرة بل بمجرد التشهي مثل
(2/317)
أخذهم في ذلك بحدود الضربين وذلك من أدل الدلائل على فساد هذا العلم الرابع أن أقوالهم متناقضة فان منهم من يقول كون زحل في بيت المال دليل الفقر ومنهم من يقول يدل على وجدان كنز الخامس أن هذا العلم مع أنه تقليد محض فليس أيضا تقليدا منتظما لأن لكل قوم فيه مذهبا ولكل طائفة فيه مقالة فللبابليين فيه مذهب وللفرس مذهب آخر وللهند مذهب وللصين مذهب رابع والأقوال إذا تعارضت وتعذر الترجيح كان دليلا على فسادها وبطلانها وسيأتي أن شاء الله بسط هذه الوجوه أكثر من هذا الوجه السابع مما يدل على بطلان القول بالأحكام أن الطالع عندهم هو الشكل الخصوص الحاصل للفلك عند انفصال الولد من رحم أمه وإذا ثبت هذا فنقول الاستدلال بحصول ذلك الشكل على جميع الأحوال الكلية التي تحصل لهذا الولد إلي آخر عمره استدلال باطل قطعا ويدل عليه وجوه : أحدها أن ذلك الشكل كما حدث في تلك اللحظة فانه يفنى ويزول ويحدث شكل آخر فذلك الشكل المعين معد في جميع أجزاء عمر هذا الإنسان والمعدوم لا يكون علة للموجود ولا جزء من أجزاء العلة وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بذلك الشكل منهما على الأحوال التي تحدث في جميع أجزاء العمر الثاني أنه لا مشابهة بين ذلك الشكل المخصوص وبين هذا الإنسان الذي انفصل من بطن الأم إلا في أمر واحد وهو أن كل واحد ظهر بعد الخفاء وهو بمجرد ذلك لا يوجب ارتباط ذلك الشكل المخصوص للفلك بسائر أحوال هذا الإنسان البتة فمدعى ذلك فاسد العقل والنظر الثالث أنه عند حدوث ذلك الطالع حدثت أنواع من الحيوانات وأنواع من النبات وأنواع من الجمادات فلو كان ذلك يوجب آثارا مخصوصة لوجب اشتراك كل الأشياء التي حدثت في عالمنا هذا في ذلك الوقت في تلك الآثار وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القول بتأثير الطالع باطل الرابع هب أن الطالع له أثر إلا أن الواجب أن يقال الطالع المعتبر هو طالع مسقط النطفة لا طالع الولادة وذلك لأن عند مسقط النطفة
(2/318)
يأخذ ذلك الشخص في التكون والتولد فأما عند الولادة فالشخص قد تم تكونه وحدوثه ولا حادث في هذا الوقت إلا انتقاله من مكان إلي مكان آخر فثبت أنه لو كان للطالع اعتبار لوجب أن يكون المعتبر هو طالع مسقط النطفة لا طالع الولادة الوجه الثامن أن الأرصاد لا تنفك عن نوع الخلل والزلل وقد صنف أبو علي ابن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك الخلل ليس في وسع الإنسان دفعه وازالته وإذا عرف هذا فنقول إذا بعد العهد بتجديد الرصد اجتمعت تلك المسامحات القليلة ويحصل بسببها تفاوت عظيم في مواضع الكواكب وكذلك إذا وجد موضع الكواكب
(2/319)
بحسب بعض الزيجات درجة معينة حين وجد بحسب زيج آخر غير تلك الدرجة ربما حصل التفاوت بالبرج ولما كان علم الأحكام مبينا على مواضع الكواكب ومناسبتها ثم قد تبين أن التفاوت الكبير وقع في قطع الكواكب علم بطلان هذا العلم وفساده الوجه التاسع أن المعقول من تأثير هذه الكواكب في العالم السفلي هو أنها بحسب مساقط شعاعاتها تسخن هذا العالم أنواعا من السخونة فأما تأثيراتها في حصول الأحوال النفسانية من الذكاء والبلادة والسعادة والشقاوة وحسن الخلق وقبحه والغنى والفقر والهم والسرور واللذة والألم فلو كان معلوما لكان طريق علمه أما بالخبر الذي لا يجوز عليه الكذب أو الحس الذي يشترك فيه الناس أو ضرورة العقل أو نظره وشيء من هذا كله غير موجود البتة فالقول به باطل ولا يمكن للآحكاميين أن يدعوا واحدا من الثلاثة الأول وغايتهم أن يدعوا أن النظر والتجربة قادهم إلي ذلك وأوقعهم عليه ونحن نبين فساد هذا النظر والتجربة بما لا يمكن دفعه من الوجوه التي ذكرناها ونذكر غيرها مما هو مثلها وأقوى منها وكل علم صحيح فله براهين يستند إليها تنتهى إلي الحس أو ضرورة العقل وأما هذا العلم فلا ينتهى إلا إلى جحد وتخمين وظنون لا تغنى من الحق شيئا وغاية أهله تقليد من لم يقم دليل على صدقه الوجه العاشر أنا إذا فرضنا أن رجلين سألا منجمين في وقت واحد في بلد واحد عن خصمين أيهما الظافر بصاحبه فههنا يكون الطالع مشتركا بين كل واحد من ذينك الخصمين فان دل ذلك الطالع على حال الغالب والمغلوب مع كونه مشتركا بين الخصمين لزم كون كل منهما غالبا لخصمه ومغلوبا من جانبه وذلك محال فان قالوا بين حال كل واحد منهما اختلاف بسبب طالع الأصل أو طالع التحويل أو برج الانتهاء قلنا هذا تسليم لقول من يقول أن طالع الوقت لا يدل على شيء أصلا بل لا بد من رعاية الأحوال الماضية لكن الأحوال الماضية كثيرة غير مضبوطة فتوقف دلالة طالع الوقت على تلك الأحوال الماضية
(2/320)
يقتضي التوقف على شرائط لا يمكن اعتبارها البتة وقد ساعد أصحاب الأحكام على الاعتراف بأن الاعتماد على طالع الوقت غير مفيد بل لا يتم الأمر إلا عند معرفة طالع الأصل فطالع التحويل وبرج الانتهاء ومعرفة التيسيرات فعند اعتبار جملة هذه الأمور يتم الاستدلال ومع اعتبار جملتها وتحريرها بحيث يؤمن الغلط فيها يكون الاستدلال على سبيل الظن لا على سبيل القطع الوجه الحادي عشر أنا لو فرضنا جادة مسلوكة وطريقا يمشي فيه الناس ليلا ونهارا ثم حصل في تلك الجادة آثار متقاربة بحيث لا يقدر سالك ذلك الطريق على سلوكه إلا بتأمل كثير وتفكر شديد حتى يتخلص من الوقوع في تلك الآثار فان من المعلوم بالضرورة أن سلامة من يمشي في هذه الطريق من العميان لا يكون كسلامة من يمشي من البصراء بل ولا بد أن يكون عطب العميان في
(2/321)
ذلك الطريق كثيرا جدا وأن يكون سلامة البصراء غالبة جدا إذا عرفت هذا فنقول مثال العميان عند الأحكاميين الذي لا يعرفون أحكام النجوم وهم الأكثرون من الخلائق ومثال البصراء عندهم هم أهل هذا العمل وهم الأقلون ومثال الطريق الذي حصلت فيه الآثار العميقة المهلكة الزمان الذي يمضى على الخلق أجمعين ومثال تلك الآثار المصائب الزمانية والمحن والبلايا فلو كان هذا العلم صحيحا لوجب أن يكون فوز المنجمين بالغني والسلامة والنعم أتم فوز وسلامتهم فوق كل سلامة ومعلوم أن الأمر بالعكس والغالب كون المنجمين بالغنى والسلامة والنعم أتم فوز وسلامتهم فوق كل سلامة ومعلوم أن الامر بالعكس والغالب كون المنجمين ومن سمع منهم وعمل بقولهم في الأدبار والنحس والحرمان والواقع أبين شاهد بذلك ولو ذهبنا نذكر الوقائع التي شوهدت من ذلك واشتملت عليها التواريخ لزادت على ألوف عديدة فلا نجد أحدا راعي هذا العلم وتقيد به في حركاته واختياراته إلا وكانت عاقبته قريبا إلي ادبار ونكاية وبلايا لا يصاب بها سواه ومن كثر خبرة بأحوال الناس فانه يعرف من ذلك مالا يعرف غيره الوجه الثاني عشر انا نشاهد عالما كثيرا يقتلون في ساعة واحدة في حرب و خلقا يغرقون في ساعة واحدة مع القطع باختلاف طوالعهم و اقتضائها عندكم احوالا مختلفة و لو كان للطوالع تأثير في هذا لامتنع عند اختلافها الاشتراك في ذلك ولا ينفعكم جواب من انتصر لكم بان الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض و لعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل وكان الحكم له فان طالع الوقت لعله اقتضى هلاكا أو غرقا عاما وهو أقوى من طالع الأصل فكان التأثير له لانا نقول هذا بعينه يبطل عليكم طالع المولود و الأصل و يحيل القول بتأثيره و اعتباره جملة فان الطوالع بعده مختلفة كثيرة و اصل بعضها أو اكثرها أقوى منه فيكون الحكم بموجبه باطلا أذلا أمان لكم من اقتضاء الطوالع بعده ضد ما اقتضاه و حينئذ فلا يفيد اعتباره شيئا
(2/322)
الوجه الثالث عشر انا نرى الجيشين العظيمين و الحزبين المتقابلين يقتتلان و يختصمان و قد اخذ طالع الوقت لكل منهما و مع هذا فالمنصور و الغالب أحدهما مع أن الطالع واحد ولا ينفعكم في هذا جواب من انتصر لكم بأنه لا مانع من القول بخطأ الأخذ للطالع في الحساب و الحكم فانه لو اخذ لهما أي طالع كان لم يكن الغالب إلا أحدهما حتى لو كان الطالع قطعا لا يتصور فيه الغلط لم يكن بد من كون أحدهما غالبا و الأخر مغلوبا و هذا يبطل مذهب الأحكام بلا ريب الوجه الرابع عشر أن الأجزاء المفترضة في الفلك أما أن تكون متشابهة في الطبيعة و الماهية أو مختلفة فيها فان كانت متساوية كان الجزء الذي هو الطالع مساويا لسائر الأجزاء وحكم سائر الأجزاء واحد و أن كانت الأجزاء مختلفة في الماهية و الطبيعة فلا ريب أن الفلك جرمه في غاية العظم حتى قالوا أن الرجل الشديد العدو إذا رفع رجله ووضعها يكن الفولمك قد تحرك ثلاثة آلاف ميل وإذا كان كذلك فمن الوقت
(2/323)
الذي ينفصل الولد من بطن أمه إلي أن يأخذ المنجم الاسطرلاب و يأخذ الارتفاع يكون الفلك قد تحرك مثل كل الأرض و كذا الف مرة وإذا كان الأمر كذلك فالجزء الذي يأخذه المنجم بالاسطرلاب ليس الجزء الطالع في الحقيقة و إذا كانت الأجزاء الفلكية مختلفة في الطبيعة و الماهية علمنا أن اخذ الطوالع محال و قد اعترف فضلاؤكم بهذا و قالوا أن الأمر و أن كان كذلك إلا أن التجربة قد دلت على أن هذا الطالع الذي تعذر على الإنسان تحصيله يدل على كثير من مقدمة المعرفة مع ما فيه من الخلل الكثير الذي ذكرتم فوجب أن لا يهمل و هذا خطأ بين فان التجارب التي دلت على كذب ذلك و بطلانه و ووقوع الأمر بخلافه أضعاف أضعاف التجربة التي دلت على صدقه كما سنذكر قطرة من بحره عن قريب أن شاء الله ولهذا قال أبو نصر الفارابي و اعلم انك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت الحار باردا و البارد حارا و السعد نحسا و النحس سعدا و الذكر أنثى و الأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة و تخطىء تارات وهل معهم إلا الحدس و التخمين و الظنون الكذابة و لقد حكى أن امرأة أتت منجما فأعطته درهما فاخذ طالعها و حكم و قال الطالع يخبر بكذا فقالت لم يكن شيء من ذلك ثم اخذ الطالع وقال يخبر وبكذا فأنكرته حتى قال انه ليدل على قطع في بيت المال فقالت الآنصدقت وهو الدرهم الذي دفعت إليك الوجه الخامس عشر أن الأجسام لا تنفعل من غيرها إلا بواسطة المماسة وهذه الكواكب لامماسة لها بأعضائنا و أبداننا و أرواحنا فيمتنع كونها فاعلة فينا أقصى ما في الباب أن يقال أنها وان لم تكن مماسة لأعضائنا إلا أن شعاعها يصل إلي أجسامنا فيقال لا ريب أن تأثير الشعاع إنما يكون بالتسخين عند المسامتة أو بالتبريد عند الانحراف عن المسامته فهذا بعد تصحيحه يقتضي أن لا يكون لهذه الكواكب تأثير في هذا العالم إلا على سبيل التسخين و التبريد فأما أن تعطى العلوم الأخلاق و المحبة والبغضاء
(2/324)
و الموالاة و المعاداة و العفة و الحرية و النذالة و الخبث و المكر و الخديعة فذلك خارج عن معقول العقلاء و هو من حمقات الاحكاميين و جهالاتهم فان قيل التأثير بالتسخين و التبريد يوجب اختلاف أمزجة الأبدان واختلاف امزجة الأبدان و يوجب اختلاف أفعال النفس قيل فنحن نرى التسخين يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها هذا غاية الخير و الأفعال الحميدة وهذا غاية الشر و الأفعال الخبيثة و الشعاع قد سخن مركبها فما الموجب لانفعال نفسيهما عن هذا التسخين هذا الانفعال المتباعد المتناقض و أيضا فما الموجب لاختلاف القوابل وتأثير الكواكب فيها بطبعه و تسخينه وتبريده فكيف اختلفت القوابل هذا الاختلاف العظيم وهي مستندة إلي تأثير واحد الوجه السادس عشر أن رجلا لو جلس في دار لها بابان شرقي و غربي فسأل
(2/325)
المنجم وقال من أيهما يقتضي الطالع خروجي فإذا قال له المنجم من الشرقي أمكنه تكذيبه و الخروج من الغربي و بالعكس وكذلك السفر في يوم واحد و ابتداء البناء و غيره في يوم يعينه له المنجم و يحكم باقتضاء الطالع له من غير تقدم عنه و لا تأخر فانه يمكنه تكذيبه في ذلك اجمع فان قلتم أن المنجم إذا اخبره بما يفعله و يختاره يصير ذلك داعيا له إلي أن يخالفه في قوله و يكذبه فالطريق إلي علم صدقه أن يحكم ذلك المنجم على معين و يكتبه في كتاب و يخفيه أو يذكره لإنسان أخر و يخفيه عن صاحب الواقعة فههنا يظهر صدق المنجم قلت هذا العذر من أسقط الأعذار لأن النجوم لو كانت كما تزعمون دالة على جميع الكائنات الواقعة في هذا العالم لعرف المنجم ذلك الذي يستقر عليه اختياره على كل حال شاء تكذيبه أو لم يشأه فلما لم يكن الأمر كذلك سقط القول بصحة هذا العذر فان قيل الأشخاص الفلكية مؤثرات والسفلية قوابل ويجوز أن تختلف الأحوال الصادرة عن الفاعل بسبب اختلاف القوابل وإذا كان كذلك فهب أن الدلائل الفلكية دلت على أنه إنما يختار الخروج من الباب الفلاني لأن كون الإنسان مشغوفا بتكذيب المنجم حالة حاصلة في النفس مانعة من ظهور ذلك الأثر الذي تقتضيه الموجبات الفلكية فلهذا الأمر لم يحصل الأمر على وفق حكم المنجم قيل إذا اقتضت الموجبات الفلكية أثرا امتنع أن يحصل في النفس ما يضاده لأن تلك الإرادة والميول والعزوم الواقعة في النفس هي عندكم من موجبات الآثار الفلكية فيمتنع أن تكون مضادة لموجبها لا سيما والمنجم يحكم بأنه إنما تقتضي النجوم أن يريد الإنسان كذا وكذا وليس حكمه أن الطالع يقتضي كذا وكذا إلا أن يريد الإنسان خلافه هذا ما لا يقوله أحد منكم فعلم بطلان هذا الاعتذار الوجه السابع عشر أنه لا سبيل إلي معرفة طبائع البروج وطبائع الكواكب وامتزاجاتها إلا بالتجربة وأقل ما لا بد منه في التجربة أن يحصل ذلك الشيء على حالة واحدة مرتين إلا
(2/326)
أن الكواكب لا يمكن تحصيل ذلك فيها لأنه إذا حصل كوكب معين في موضع معين في الفلك وكانت سائر الكواكب متصلة به على وضع مخصوص وشكل مخصوص فان ذلك الوضع المعين بحسب الدرجة والدقيقة لا يعود إلا بعد ألوف من السنين وعمر الإنسان الواحد لا يفي بذلك بل عمل البشر لا يفي به والتواريخ التي تضبط هذه المدة مما لا يمكن وصولها إلى الإنسان فثبت أنه لا سبيل إلي الوصول إلي هذه الأحوال من جهة التجربة البتة ولا ينفعكم اعتذار من اعتذر عنكم بأنه لا حاجة في التجربة إلي ما ذكرتم لأنا إذا شاهدنا حادثا معينا في وقت مخصوص فلا شك أنه قد تحصل في الفلك اتصالات الكواكب المختلفة في ذلك الوقت فلو قدرنا عود ذلك الوضع الفلكي بتمامه على تلك الحال ألف مرة يعلم أن المؤثر في ذلك الحادث هل مجموع الاتصالات أو اتصال معين منها فإذا علمنا
(2/327)
أن ذلك الوضع بحملته فات وما عاد ولكنه عاد اتصال واحد من تلك الاتصالات وكما عاد ذلك الاتصال المعين فانه يعود ذلك الأثر بعينه لا لأجل سائر الاتصالات فثبت أن الرجوع في هذا الباب إلي التجربة غير متعذر وهذا الاعتذار في غاية الفساد والمكابرة لأن تخلف ذلك الأثر عن ذلك الاتصال العائد أكثر من اقترانه به والتجربة شاهدة بذلك كما قد اشتهر بين العقلاء أن المنجمين إذا أجمعوا على شيء من الأحكام لم يكد يقع ونحن نذكر طرفا من ذلك فنقول في الوجه الثامن عشر لما نظر حذاقكم وفضلاؤكم سنة سبع وثلاثين عام صفين من مخرج على رضي الله عنه من الكوفة إلي محاربة أهل الشام اتفقوا على أنه يقتل ويقهر جيشه فظهر كذبهم وانتصر جيشه على أهل الشام ولم يقدروا على التخلص منهم إلا بالحيلة التي وضعوها من نشر المصاحف على الرماح والدعاء إلى ما فيها وقد قيل أن الاتفاق منهم إنما كان في حرب المؤمنين للخوارج فانهم اتفقوا على أنه من خرج في ذلك الطالع قتل وهزم جيشه فان القمر كان إذا ذاك في العقرب فخالفهم علي وقال بل نخرج ثقة بالله وتوكلا عليه وتكذيبا لقول المنجم فما غزا غزاة بعد رسول الله أتم منها قتل عدوه وأيده الله عليهم بالنصر والظفر بهم ورجع مؤيدا منصورا مأجورا والقصة معروفة في السير والتواريخ وكذلك اتفاق ملأكم في سنة سبع وستين على غلبة عبيد الله بن زياد للمختار بن أبي عبيد وأنه لا بد أن يقتله أو يأسره فسار إليه في نحو من ثمانين ألف مقاتل فلقيه إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار بأرض نصيبين وهو فيما دون سبعة آلاف مقاتل فانهزم أصحاب ابن زياد بعد أن قتل منهم خلق لا يحصيهم ألا الله حتى أنه قيل انهم قتل منهم ثلاثة وسبعون ألفا ولم يقتل من أصحاب ابن الأشتر سوى عدد لا يبلغون مائة وفيهم يقول الشاعر : برزوا نحوهم بسبعة آلا ف أن يهم عجائبا فتعشوا منهم بسبعين ألفا أو يزيدون قبل وقت العشاء فجزاك ابن مالك وأبا اسح ق عنا
(2/328)
الإله خير جزاء يريد بابن مالك إبراهيم بن مالك بن الأشتر وأبو إسحاق كنية المختار وقتل ابن الأشتر عبيدالله ابن زياد في المعركة ولم يعلم به حتى إذا هل الليل قال لأصحابه لقد ضربت على شاطئ هذا النهر رجلا فرجع إلى سيفي وفيه رائحة المسك ورأيت إقداما وجرأة فصرعته فذهبت رجلاه قبل المشرق ويداه قبل المغرب فانظروه فأتوه بالنيران فإذا هو عبيدالله بن زياد ذكر ذلك المبرد في الكامل فانظر حكمة الله من انعكاس ما قال الكاذبون المنجمون وقيل لما علم عبيدالله ابن زياد أن أمر القتال قد تيسر وسأل منجمه عن قوة نجمه ونجم ابن الأشتر وقال والله أنى لأعلم أنه ليس بشيء إلا أني كنت أنا وهو صغيران أن وقعت بيني وبينه خصومة بسبب حمام
(2/329)
كنا نلعب به فضربني إلى الأرض وقعد على صدري وقال والله أني قاتلك ولا يقتلك أحد غيري أن شاء الله وأنا من استثنائه بالمشيئة خائف فذهب به منجمه إلى ما قدره المنجمون له من قوة نجمه وأن هذا وهم منه وحكم النجوم يقضي على وهمه فحقق الله سبحانه ذلك الوهم وأبطل حكم الطالع والنجم ومن ذلك اتفاقهم عند ما تم بناء بغداد سنة ست وأربعين ومائة أن طالعها يقضي بأنه لا يموت فيها خليفة وشاع ذلك حتى هنأ الشعراء به المنصور حتى قال بعض شعرائه : يهنيك منها بلدة تقضي لنا أن الممات بها عليك حرام لما قضت أحكام طالع وقتها أن لا يرى فيها يموت أمام وأكد هذا الهذيان في نفوس العوام موت المنصور بطريق مكة ثم المهدي بما سبذان ثم الهادي بعسا باذ ثم الرشيد بطوس فلما قتل بها المأمون الأمين بشارع باب الأنبار انخرم الأصل الباطل الذي أصلوه وظهر الزور الذي لفقوه حتى رجع إلى الحق الأول فقال : كذب المنجم في مقالته التي نطقت به كذبا على بغدان قتل الأمين بها لعمري يقتضي تكذيبهم في سائر الحسبان ثم مات ببغداد جماعة من الخلفاء مثل الواثق والمتوكل والمعتضد والمكتفي والناصر وغير هؤلاء ومن ذلك اتفاقهم في سنة ثلاث وعشرين في قصة عمورية أن المعتصم أن خرج لفتحها كانت عليه الدائرة وأن النصر لعدوه فرزقه الله التوفيق في مخالفتهم ففتح الله على يديه ما كان مغلقا وأصبح كذبهم وخرصهم بعد أن كان موهوما عند العامة محققا ففتح عمورية وما والاها من كل حصن وقلعة وكان ذلك من أعظم الفتوحات المعدودة وفي ذلك الفتح قام أبو تمام الطائي منشدا له على رؤس الأشهاد السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب والعلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب أين الرواية أم أين النجوم وما صاغوه من زخرف منها ومن كذب تخرصا وأحاديثا ملفقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب عجائبا زعموا الأيام تجعله عنهن في
(2/330)
============
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
مفتاح دار السعادة 3
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مفتاح دار السعادة صفر الأصفار أو رجب وخوفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب وصيروا الأبرج العليا مرتبة ما كان منقلبا أو غير منقلب يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ما دار في فلك منها وفي قطب لو ثبتت قط أمرا قبل موقعه لم يخف ما حل بالأوثان والصلب
وهي نحو من سبعين بيتا أجيز على كل بيت منها بألف درهم ومن ذلك اتفاقهم سنة اثنتين وتسعين ومائتين في قصة القرامطة على أن المكتفى بالله أن خرج لمقاتلتهم كان هو المغلوب الملزوم وكان المسلمون قد لقوا منهم على توالي الأيام شرا عظيما وخطبا جسيما فأنهم قتلوا النساء والأطفال واستباحوا الحريم والأموال وهدموا المساجد وربطوا فيها خيولهم ودوابهم وقصدوا وفد الله وزوار بيته فأوقعوا فيهم القتل الذريع والفعل الشنيع واباحوا محارم الله وعطلوا شرائعه فعزم المكتفي على الخروج اليهم بنفسه فجمع وزيره القاسم بن عبيدالله من قدر عليه من المنجمين وفيهم زعيمهم أبو الحسن العاصمي وكلهم أوجب عليه بأن يشير على الخليفة أن لا يخرج فانه أن خرج لم يرجع وبخروجه تزول دولته وبهذه تشهد النجوم التي يقضى بها طالع مولده وأخافوا الوزير من الهلاك أن خرج معه وقد كان المكتفي أمر الوزير بالخروج معه فلم يجد بدا من متابعته فخرج وفي قلبه ما فيه وأقام المكتفي بالرقة حتى أخذ أعداء الله جميعا وسيقت جموعهم بكأس السيف نجيعا ثم جاء الخبر من مصر بموت خمارويه بن أحمد بن طولون وكانوا به يستطيلون فأرسل المكتفي من تسلمها واستحضر القواد المصرية إلى حضرته ثم لما عاد أمر القاسم بن عبيدالله الوزير بإحضار رئيس المنجمين وصفعه الصفع الكثير بعد أن وقفه ووبخه على عظيم كذبه وافترائه وتبرأ منه ومن كل من يقول برأيه قال أبو حيان التوحيدي في كتاب الإتباع والمؤانسة وقد ذكر هذه القصة فهذا وما أشبهه من الافتراء والكذب لو ظهر ونشر وعير أهله به ووقفوا عليه وزجروا عن الدعوى المشرفة على الغيب
(2/331)
لكان مقمعة لمن يطلق لسانه بالإطلاع على مالا يكونوا في غدو قطعا لألسنتهم وكفا لدعواهم و تأديبا لصغيرهم وكبيرهم ومن ذلك اتفاقهم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة عندما أراد القائد جوهر العزيز بناء مدينة القاهرة وقد كان سبق مولاه الملقب بالمعز إلى الدخول إلى الديار المصرية لما أمره المعز بدخولها بالدعوة وأمره إذا دخلها أن يبني بها مدينة عظيمة تكون نجوم طالعها في غاية الاستقامة ويكون بطالع الكوكب القاهر وهو زحل أو المريخ على اختلاف حاله فجمع القائد جوهر المنجمين بها وأمر كل واحد منهم أن يحقق الرصد ويحكمه وأمر البنائين أن لا يضعوا الأساس حتى يقال لهم ضعوه وأن يكونوا على هيئة من التيقظ والإسراع حتى يوافقوا تلك الساعة التي اتفقت عليها أرصاد أولئك الجماعة فوضعت الأساسات على ذلك في الوقت الحاضر وسموها بالقاهرة إشارة بزعمهم الكاذب إلى الكوكب القاهر واتفقوا كلهم بأن الوقت الذي بنبت فيه يقضي بدوام جدهم وسعادتهم ودولتهم وأن الدعوة لا تخرج فيها عن الفاطمية وان تداولتها الألسن
(2/332)
العربية والعجمية فلما ملكها أسد الدين شيركوه بن شادي ثم ابن أخيه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومع ذلك المصريون قائمون بدعوة العاضد عبدالله بن يوسف توهم الجهال أن ما قال المنجمون من قبل حقا لتبدل اللسان وحال الدعوة مستبقي فلما رد صلاح الدين الدعوة إلى بني العباس انكشف الأمر وزال الالتباس وظهر كذب المنجمين والحمد لله رب العالمين وكانت المدة بين وضع الأساس وانقراض دولة الملاحدة منها نحو مائة وثلاثة وتسعين عاما فنقض انقطاع دولتهم على المنجمين أحكامهم وخرب ديارهم وأهتك أستارهم وكشف أسرارهم وأجرى الله سبحانه تكذيبهم والطعن عليهم على لسان الخاص والعام حتى اعتذر من اعتذر منهم بأن البنائين كانوا قد سبقوا الرصادين إلى وضع الأساس وليس هذا من بهت القوم ووقاحتهم ببعيد فانه لو كان كذلك لرأى الحاضرون تبديل البناء وتغييره فانه لو دخلهم شك في تقديم أو تأخير أو سبق بما دون الدقيقة في التعذر لما سامحوا بذلك مع المقتضى التام والطاعة الظاهرة والاحتياط الذي لا مزيد فوقه وليس في تبديله حجر أو تحويله برفعه ووضعه كبير أمر على البنائين ولا مشقه وقرائن الأحوال في إقامة دولة بتقريرها وإنشاء قاعدة بتحريرها شاهدة بأن الغفلة عن مثل هذا الخطب الجسيم مما لا يسامح بها البتة ويالله العجب كيف لم يظهر سبق البنائين للراصدين إلا بعد انقراض دولة الملاحدة وأما مدة بقاء دولتهم فكان البناء مقارنا للطالع المرصود فهل في البهت فوق هذا ومن ذلك اتفاقهم سنة خمس وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم على أنها السنة التي ينقضي فيها بمصر دولة العبيديين هذا مع اتفاق أولئك على أن دعوتهم لا تنقطع من القاهرة وذلك عند خروج الوليد بن هشام المعروف بأبي ركوة الأموي وحكم الطالع له بأنه هو القاطع لدعوة العبيديين وأنه لا بد أن يستولي على الديار المصرية ويأخذ الحاكم أسيرا ولم يبق بمصر منجم إلا حكم بذلك وأكبرهم المعروف الفكري منجم
(2/333)
الحاكم وكان أبو ركوة قد ملك برقة وأعمالها وكثرت جموعه وقويت شوكته وخرجت إليه جيوش الحاكم من مصر فعادت مغلوبة فلم يشك الناس في حذق المنجمين وكان من تدبير الحاكم أن دعا خواص رجاله وأمرهم أن يعملوا بما رآه من احتياله وهو أن يكاتبوا أبا ركوة بأنهم على مذهبه وأنهم مائلون عن الدعوة الحاكمية وراغبون في الدعوة الوليدية الأموية وأطمعوه بكل ما أوهموه به أنهم صادقون وله مناصحون فلما وثق بما قالوه وخفى عليه ما احتالوه زحف بعساكره حتى نزل موسيم على ثلاثة فراسخ من مصر فخرجت إليه العسكر الحاكمية فهزمته فتحقق أنها كانت خديعة فهرب وقتل خلق كثير من عسكره وطلب فأخذ أسيرا ودخل به القاهرة على جمل مشهور ثم أمر الحاكم بقتله بعد ما أحضر بين يديه مغلولا بغل من حديد وذلك
(2/334)
في رجب سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وكان مبدأ خروجه في رجب سنة خمس وتسعين فظهر كذب المنجمين وكان هذا الفكري قد استولى على الحاكم فانه اتفقت له معه قضيتان أمالتاه إليه إحداهما أن الحاكم عزم على إرسال أسطول إلى مدينة صور لمحاربتهم فسأله الفكري أن يكون تدبيره إليه ليخرجه في طالع يختاره وتكون العهدة أن لم يظفر عليه واتفق ظهور الأسطول الثانية أنه ذكر أن بساحل بركة رميس مسجدا قديما وان تحته كنزا عظيما وسأله أن يتولى هو هدمه فان ظهر الكنز والا بناه هو من ماله وأودعه السجن فاتفق إصابة الكنز فطاش المغرور بذلك فلما حكم عليه الفكري بتغيير دولته وقضى المنجمون بمثل قضائه فوقع للحاكم أن يغير أوضاع المملكة والدولة ليكون ذلك هو مقتضى الحكم النجومي فصار يأمر في يومه بخلاف كل ما يأمر به في أمسه فأمر بسب الصحابة رضوان الله عليهم على رؤس المنابر والمساجد ثم أمر بقطع سبهم وعقوبة من سبهم وأمر بقطع شجرة الزرجون من الأرض وأوجب القتل على من شرب الخمر وأمر بغرس هذه الشجرة وأباح شرب الخمر وأهمل الناس نهب الجانب الغربي من القاهرة وقتلت فيه جماعة ثم ضبط الأمر حتى أمر أن لا تغلق الحوانيت ليلا ولا نهارا وأمر مناديه ينادي من عدم له ما يساوي درهما أخذ من بيت المال عنه درهمين بعد أن يحلف على ما عدمه أو يعضده شهادة رجلين حتى تحيل الناس في ستر حوانيتهم بالجريد لئلا تدخلها الكلاب ثم عمد إلى كل متول في دولته ولاية فعزله وقتل وزيره الحسن بن عماد كل ذلك ليكون قول أهل النجم أن دولته تتغير واقعا على هذا الضرب من التغيير فلما كان من أمر أبي ركوة ما تقدم ذكره ساء ظنه بعلم النجامة فأمر بقتل منجمه الفكري وأطلق في المنجمين العيب والذم وكان قد جمع بين المنجمين بالديار المصرية واستدعا غيرهم وأمرهم أن يرصدوا له رصدا يعتمد عليه فصارت الطوائف النجومية إلى هذا الرصد يتحاكمون وان تضمن بعض خلاف الرصد المأموني ووضعوا له الذبح
(2/335)
المسمى بالحاكمي وكان هذا الفكري قد أخذ علم النجامة عمن أخذه عن العاصمي فسير أوقات الحاكم وساعاته ووافقه على ذلك المنجمون فلما قتله لم يزل أثر التنجيم عن نفسه لشرف النفس على التطلع إلى الحوادث قبل وقوعها وكان بعد يتولع بهذا العلم ويجمع أصحابه فحكموا له في جملة أحكامهم بركوب الحمار على كل حال وألزموه أن يتعاهد الجبل المقطم في أكثر الأيام وينفرد وحده بخطاب زحل بما علموه إياه من الكلام ويتعاهد فعل ما وضعوه له من البخورات والأعزام وحكموا بأنه ما دام على ذلك وهو يركب الحمار فهو سالم النفس عن كل إيذاء فلزم ما أشاروا به عليه وأذن الله العزيز العليم رب الكواكب ومسخرها ومدبرها أن هلاكه كان في ذلك الجبل على ذلك الحمار فانه خرج بحماره إلى ذلك
(2/336)
الجبل على عادته وانفرد بنفسه منقطعا عن موكبه وقد استعد له قوم بسكاكين تقطر منها المنايا فقطعوه هنالك للوقت والحين ثم أعدموا جثته فلم يعلم لها خبر فمن هذا يقول أتباعه الملاحدة انه غائب منتظر وأظهرت قدرة الرب القاهر تبارك اسمه وتعالى جده تكذيب قول تلك الطائفة المفترين ووقوع الأمر بضد ما حكموا به ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وان الله لسميع عليم فظهر من كذبهم وجهلهم بتغيير دولته في خروج أبي ركوة وفي هذا الحين فهذا في مبدئها وهذا في ختامها فهل بعد ذلك وثوق للعاقل بالنجوم وأحكامها كلا لعمر الله ليس بها وثوق وانما غاية أهلها الاعتماد على رازق ومرزوق فأما اصابة الفكري بظفر الأسطول فإنما كان بتحيل دبره على أهل صور لا بالطالع فكانت الغلبة له عليهم بالتحيل الذي دبره ساعة القتال لا بما ذكره من حكم الطالع قبل تلك الحال وأما اصابة الكنز فليس من النجوم في شيء ومعرفة مواضع الكنوز علم متداول بين الناس وفيه كتب مصنفة معروفة بأيدي أرباب هذا الفن وفيها خطأ كثير وصواب قد دل الواقع عليه ومن ذلك اتفاقهم سنة اثنين وثمانين وخمسمائة على خروج ريح سوداء تكون في سائر أقطار الأرض عامة فتهلك كل من على ظهرها إلا من اتخذ لنفسه مغارة في الجبال بسبب أن الكواكب كانت بزعمهم أن اجتمعت في برج الميزان وهو برج هوائي لا يختلف فيه منهم اثنان كما اجتمعت في برج الحوت زمن نوح وهو عندهم برج مائي فحصل الطوفان المائي قالوا وكذا اجتماعها في البرج الميزاني يوجب طوفانا هوائيا ودخل ذلك في قلوب الرعاع من الناس فاتخذوا المغارات استدفاعا لما أنذرهم به الكذابون من الله رب العالمين مسخر الرياح ومدبر الكواكب ثم لما كان ذلك الوقت الذي حدوه والأجل الذي عدوه قل هبوب الرياح عن عادتها حتى أهم الناس ذلك ورأوا من الكرب بقلة هبوب الرياح ما هو خلاف المعتاد فظهر كذبهم للخاص والعام وكانوا قد دبروا في قصة هذه الريح التي ذكروها
(2/337)
بأن عزوها إلى على رضي الله عنه وضمنوها جزء بمضمون هذه الريح وذكروا قصة طويلة في آخرها أن الراوي عن علي رضي الله عنه قال له لقد صدقني المنجمون فيما حكيت عنك وقالوا انه تجتمع الكواكب في برج الميزان كما اجتمعت في برج الحوت على عهد نوح وأحدثت الغرق فقلت له يا أمير المؤمنين كم تقيم هذه الريح على وجه الأرض قال ثلاثة أيام ولياليها وتكون قوتها من نصف الليل إلى نصف النهار عن اليوم الثاني وانظر إلى اتفاقهم على أن الكواكب إذا اجتمعت في برج الميزان حصل هذا الطوفان الهوائي واتفاقهم على اجتماعها فيه في ذلك الوقت ولم يقع ذلك الطوفان ومن ذلك اتفاقهم في الدولة الصلاحية بحكم زحل والدالي أن مدينة الاسكندرية لا يموت فيها من الغز وال فلما مات بها الملك المعظم شمس الدولة
(2/338)
توران شاه ابن أيوب بن شاذي سنة خمس وسبعين وخمسمائة ثم واليها فخر الدين قراجا ابن عبدالله سنة تسع وثمانين ثم واليها سعد الدين سودكين بن عبدالله سنة خمس وستمائة انخرمت هذه القاعدة أصلا وبطل قولهم فرعا وأصلا حتى قال بعض شعراء ذلك العصر عند موت الأمير فخر الدين : وقضى طلوع الثغر عند مماته أن المنجم كاذب لا يصدق لو كان فيه لا يموت مؤمر أودى وفخر الدين حي يرزق ومن ذلك اجتماعهم في سنة خمس وعشرة وستمائة لما نزل الفرنج على دمياط على انهم لا بد أن يغلبوا على البلاد فيتملكوا ما بأرض مصر من رقاب العباد وانهم لا تدور عليهم الدائرة إلا إذا قام قائم الزمان وظهر براياته الخافقة ذلك الأوان فكذب الله ظنونهم وأتى من لطفه الخفي ما لم يكن في حساب ورد الفرنج بعد القتل الذريع فيهم والأسر على العقاب وكان المنجمون قد أجمعوا في أمر هذه الواقعة على نحو ما أجمع عليه من قبلهم في شأن عمورية واتفق أن كان مبدأ هذا الفتح في سابع رجب سنة ثمان عشرة وستمائة ومبدأ ذلك الفتح في سابع رجب أيضا سنة ثلاث وعشرين ومائتين قال الفاضل العلامة محمد بن عبدالله بن محمود الحسيني ولما كذب الله هؤلاء القوم فيما ادعوه نسجت على منوال أبي تمام في قصيدته البائية المكسورة فعملت بائية مفتوحة وهي : الحمد لله حمدا يبلغ الأربا نقضي به من حقوق الله ما وجبا حمدا يزيد إذا النعمي تزيد به أخراه أولاه تعطى ضعف ما وهبا لا ييأس المرء من روح الإله فكم من راح في مستهل كان قد صعبا فكم مشى بك مكروه ركضت به من غير علم إلى ما تشتهي خببا وكم تقطع دون المشتهى سبب وكان منك لأعلى المنتهى سببا لا ينبغي لك في مكروه حادثة أن تبتغى لك في غير الرضا طلبا لله في الخلق تدبير يفوت مدى أسرار حكمته أحكام من حسبا ا ابغ النجاء إذا ماذو النجامة في زور من القول يقضي كل ما قربا وذو الأراجين مما قد يقول فدع فما أراجيز
(2/339)
شيء كان قد كتبا ما كان لله في ديوان قدرته من كاتب بحدوس الظن إذ كتبا لا يعلم الغيب إلا الله خالقنا لا عالم غيره عجبا ولا عربا لا شيء أجهل ممن يدعي ثقة بحدسه وترى فيما يرى ريبا قد يجهل المرء ما في بيته نظرا فكيف عنه بما في غيبه احتجبا قد كذب الله قول القائلين غدا إذا أتى رجب لم تحمدوا رجبا قالوا يرى عجب فيه فقلت لهم بالنصر بعد اياس تبصروا عجبا في منقضى السبعة الأيام منه أتى ما يأت في مقتضاه السبعة الشهبا وأعتمت فيه عواء النجوم على عواء ذئب من الكفار قد حربا والشعريان فكل منهما شعرت بأن للحق فيهم سيف من غلبا وصح عن قمر الأفلاك أنهم ما فيهم غير مقهور وقد نشبا غطاؤهم رد في وجهي عطاردهم إلى الذي منهم ما شاء قد سلبا وقد بدت زهرة الإسلام زاهرة قد أظلمت فوقهم من دونها سحبا وأجملت حمرة المريخ حكمهم ففسرت بدم فيهم لمن خضبا ولم يك المشترى تقضي سعادته إلا إلى المشتري نفسا بما طلبا وقبل منقلب الأبراج ذو قدر فعاد منه مبان النفع منقلبا كم حامل ثائر في الثور أو حمل أجاز فيهم على جوزائهم حربا ولم يدر فلك إلا لذي ملك يدير جيشا عليهم عسكرا نجيا حتى غدا ثغر دمياط وقد حكموا أن لا يرى باسما مستجمعا شنبا يفتر عن صبح إيمان به جذلا وكان في ليل كفر بات مكتئبا ومد كفاله التوحيد فانقبضت رجل من الشرك في تأخيره هربا وتلك حرب صليب عودها فقضت أن لا يعود صليب بعد منتصبا وأطلق القول بالتأذين إذ خرست له نواقيس جرجيس فما احتسبا ومما اتفق عليه المنجمون أن الإنسان إذا أراد أن يستجيب الله دعاءه جعل الرأس في وسط المساء مع المشتري أو شطر منه مقبل والقمر متصلا به أو منصرفا عنه متصل بصاحب الطالع أو صاحب الطالع متصل بالمشتري ناظر إلى الرأس نظرة مودة فهنالك لا يشكون أن الإجابة حاصلة قالوا وكانت ملوك اليونان يلزمون ذلك فيحمدون
(2/340)
عقباه والعاقل إذا تأمل هذا الهذيان لم يحتج في علمه ببطلانه ومحاله إلى فكر ونظر فان رب السموات والأرض سبحانه لا يتأثر بحركات النجوم بل يتقدس ويتعالى عن ذلك فيا للعقول التي أضحكت عليها العقلاء من المؤمنين والكفار ما هذه الاتصالات حتى تكون على وجوب إجابة الله من أقوى الدلالات ومما عليه المنجمون متفقون أو كالمتفقين أن الخبر إذا ورد في وقت أو بادنا منه 1 الوجوه والقمر وعطارد في بروج ثوابت والقمر منصرف عن السعود فالخبر ليس بباطل والباطل مثل هذا فانه يلزمهم
(2/341)
أن من وضع خبرا باطلا في ذلك الوقت أن الطالع المذكور يصححه أو يقولوا لا يمكن أحدا أو يكذب في ذلك الوقت وقد أورد أبو معشر المنجم هذا السؤال في كتاب الأسرار له وأجاب عنه أن الأخبار تختلف فان ورد خبر مكروه من أسباب الشر والجور والأفعال المنسوبة إلى طبائع النحوس والطالع في القمر منصرف عن سعد فالخبر باطل وان ورد خبر محبوب ومن أسباب الخير والعدل والأفعال المنسوبة إلى طبائع السعود وفي الطالع سعد والقمر منصرف عن سعد فالخبر حق قال وزحل لا يدل في كل حال على الكذب بل يدل على وجود العوائق عما يوقع ذلك الخبر لكن البلاء المريخ أو الذنب إذا استوليا على الأوتاد وعلى القمر أو عطارد فانهما يدلان على الكذب والبطلان ثم قال وعلى كل حال فالقمر في العقرب والبروج الكاذبة تنذر بكذب في نفس الخبر أو زيادة أو نقصان وفي الحمل والبروج الصادقة تدل على صدق فيه واستواء وفي السرطان والبروج المنقلبة لا تدل على انقلاب الخبر إلى باطل ولكنه قد ينقلب فيصير أقوى مما هو عليه الآن إلا أن ينظر إليه نحس فيفسده ويبطله ثم قال واعرف صدق الخبر من سهم الغيب إذا شككت فيه فان كان سليما من المريخ والذنب وينظر إليه صاحبه أو القمر أو الشمس نظر صلاح فهو حق هذا منتهى كلامه في الجواب وهو كما تراه متضمن أن عند هذه الاتصالات التي ذكرها يكون الخبر صحيحا صدقا وعند تلك الاتصالات الأخر تكون منذرة بالكذب فيقال لهؤلاء الكذابين المفترين المبلسين أيستحيل عندكم معاشر المنجمين أن يضع أحدكم خبرا كاذبا عند تلك الاتصالات أم ذلك واقع في دائرة الإمكان بل هو موجود في الخارج وكذلك يستحيل أن يصدق مخبر عند الاتصالات الأخر أو يبعد صدق العالم عندها ويكون كذبهم إذا ذاك أكثر منه في غير ذلك الوقت وهل في الهوس أبلغ من هذا ولو تتبعنا أحكامهم وقضاياهم الكاذبة التي وقع الأمر بخلافها لقام منها عدة أسفار وأما نكبات من تقيد بعلم أحكام النجوم في أفعاله وسفره
(2/342)
ودخوله البلد وخروجه منه واختياره الطالع لعمارة الدار والبناء بالأهل وغير ذلك فعند الخاصة والعامة منهم عبر يكفي العاقل بعضها في تكذيب هؤلاء القوم ومعرفته لافترائهم على الله وأقضيته وأقداره بل لا يكاد يعرف أحد تقيد بالنجوم في ما يأتيه ويذره إلا نكب أقبح نكبة وأشنعها مقابلة له بنقيض قصده وموافات النحوس له من حيث ظن أنه يفوز بسعده فهذه سنة الله في عباده التي لا تبدل وعادته التي لا تحول أن من اطمأن إلى غيره أو وثق بسواه أو ركن إلى مخلوق يدبره أجرى الله له بسببه أو من جهته خلاف ما علق به آماله وانظر ما كان أقوى تعلق بني برمك بالنجوم حتى في ساعات أكلهم وركوبهم وعامة أفعالهم وكيف كانت نكبتهم الشنيعة وانظر حال أبي علي ابن مقلة الوزير وتعظيمه لأحكام النجوم ومراعاته لها أشد المراعات ودخوله دارا بناها بطالع زعم الكذابون
(2/343)
المفترون أنه طالع سعد لا يرى به في الدار مكروها فقطعت يده ونكب في آثاره أقبح نكبة نكبها وزير قبله وقتلى المنجمين أكثر من أن يحصيهم إلا الله عز وجل الوجه التاسع عشر أن هؤلاء القوم قد أقروا على أنفسهم وشهادة بعضهم على بعض بفساد أصول هذا العلم وأساسه فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيموحارسي حارس ومانالاوس قد حكموا في الكواكب الثابتة بمقدار واتفقوا أنه صحيح الاعتبار وأقام الأمر على ذلك فوق سبعمائة عام والناس ليس بأيديهم سوى تقليدهم حتى كان في عهد المأمون فاتفق من رصادهم وحكامهم علماء الفريقين مثل خالد بن عبد الملك المروزي وحسن صاحب الزبج المأموني ومحمد بن الجهم ويحيى بن أبي منصور على أنهم امتحنوا رصد الأوائل فوجدوهم غالطين فيما رصدوه فرصدوهم رصدا لأنفسهم وحرروه وسموه الرصد الممتحن وجعلوه مبدأ ثانيا بعد ذلك الزمن كان لأوائلهم إجماع على صحة رصدهم ولهؤلاء إجماع على خطأهم فيه فتضمن ذلك إجماع الأواخر على الأوائل أنهم كانوا غالطين واقرار الأواخر على أنفسهم أنهم كانوا بالعمل به مخطئين ثم حدثت طائفة أخرى منهم كبيرهم وزعيمهم أبو معشر محمد ابن جعفر وكان بعد الرصد الممتحن بنحو من ستين عاما فرد عليهم وبين خطأهم كما ذكر أبو سعيد ابن شاذان بن بحر المنجم في كتاب أسرار النجوم قال قال أبو معشر أخبرني محمد بن موسى المنجم الحليس وليس الخوارزمي قال حدثني يحيى بن آبي منصور أو قال حدثني محمد بن محمد الحليس قال دخلت على المأمون وعنده جماعة المنجمين وعنده رجل قد تنبأ وقد دعا القضاة والفقهاء ولم يحضروا بعد ونحن لا نعلم فقال لي ولمن حضر من المنجمين اذهبوا فخذوا الطالع لدعوى رجل في شيء يدعيه وعرفوني بما يدله عليه الفلك من صدقه وكذبه ولم يعلمنا المأمون أنه متنبيء فجئنا إلى ناحية من القصر وأحكمنا أمر الطالع وصورناه فوقع الشمس والقمر في دقيقة الطالع والطالع الجدي والمشتري في
(2/344)
السنبلة ينظر إليه والزهرة وعطارد في العقرب ينظر إليه فقال كل من حضر من المنجمين هذا الرجل صحيح لا كذب فيه قال يحيى وأنا ساكت فقال لي المأمون قل فقلت هو في طلب تصحيحه وله حجة زهرية وعطاردية وتصحيح ما يدعيه لا يتم له فقال من أين قلت فقلت لأن صحة الدعاوى من المشتري وهو ينظر إليه زحل موافقة إلا أنه كاره لهذا البرج ولا يتم له التصديق ولا التصحيح والذي قالوه إنما هو من حجة عطاردية وزهرية وذلك يكون من جنس التحسين والتزويق والخداع عن غير حقيقة فقال لله درك ثم قال تدرون ما يدعى هذا الرجل قلنا لا قال هذا يدعى النبوة فقلت يا أمير المؤمنين ومعه شيء يحتج به فسأله فقال نعم معي خاتم ذو فصين ألبسه فلا يتغير مني شيء ويلبسه غيري فلا يتمالك من الضحك حتى ينزعه ومعي قلم شامي أكتب به ويأخذه غيري
(2/345)
فلا تنطلق أصبعه به فقلت يا سيدي هذا عطارد والزهرة قد عملا عملهما فأمره أمير المؤمنين فأظهر ما أدعاه منهما وكان ذلك ضرب من الطلسمات فما زال به المأمون أياما كثيرة حتى أقر وتبرأ من دعوى النبوة ووصف الحيلة التي احتالها في الخاتم والقلم فوهب له المأمون ألف دينار وصرفه فلقيناه بعد ذلك فإذا هو أعلم الناس بعلم النجوم ومن أكبر أصحاب عبدالله القشيري وهو الذي عمل طلسم الخنافس في دور بغداد قال أبو معشر لو كنت في القوم ذكرت أشياء خفيت عليهم كنت أقول الدعوى باطلة من أصلها إذ البرج منقلب وهو الجدي والمشتري في الوبال والقمر في المحاق والكوكبان الناظران إلى الطالع في برج كذاب وهو العقرب فتأمل كيف اختلفت أحكامهم مع اتحاد الطالع وكل منهم يمكنه تصحيح حكمه بشبهة من جنس شبهة الآخر فلو اتفق أن أدعى رجل صادق في ذلك الوقت والطالع دعوى ألم يكن ادعاؤه ممكنا غير مستحيل ودعواه صحيحة في نفسها أم تقولون انه لا يمكن أن يدعى أحد في ذلك الوقت والطالع دعوى صحيحة البتة ومن المعلوم لجميع العقلاء أنه يمكن إذ ذاك دعوتين من رجل محق ومبطل بذلك الطالع بعينه فما أسخف عقل من ارتبط بهذا الهذيان وبني عليه جميع حوادث الزمان وليس بيد القوم إلا ما اعترف به فاضلهم وزعيمهم أبو معشر وقال شاذان في الكتاب المذكور أيضا قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم انه يدل على التأنيث فقال هكذا قالوا قلت فقد قالوا انه ليس بصادق اليبس لكنه بارد فنظر لي فقال كل الأعراض الغائبة توهم لا يكون شيء منها يقينا وانما يكون توهم أقوى من توهم ومن تأمل أحوال القوم علم أن ما معهم إلا زرق وتفرس يصيبون معها ويخطئون قال شاذان في كتابه المذكور كان الرازي الثنوي الذي بالهند يكاتب أبا لعشر ويهاديه فأنفذ لأبي معشر مولدا لابن مالك سر نديب طالعه الجوزاء والشمس والقمر في الجدي والقمر خارج عن الشعاع وعطارد في الدلو والمشتري في الحمل وزحل في السرطان
(2/346)
راجع في بحران الرجوع فحكم له أبو معشر بأنه يعيش دور زحل الأوسط فقلت سبحان الله جاءه راجع في بحران الرجوع في بيت ساقط عن الأوتاد لا يعطيه إلا دور الأصغر ويحتاج أن يسقط منه الخمسين وجعلت أنكر عليه ذلك وأخوفه أن تسقط منزلته عند أهل تلك البلاد إلى أن ذكر محاورة طويلة انتهت بهما إلى أن أبا معشر أخذ ذلك من عادات أهل الهند في طول الأعمار وقال شاذان في مسألة سئل عنها ما أنتم الازراقين ثم حدثت بعد هؤلاء جماعة منهم أبو الحسين عبدالرحمن بن عمر بن عبد المعروف بالصوفي وكان بعد أبي معشر بنحو من سبعين عاما فذكر أنه قد عثر من غلط الأواخر بعد الأوائل على أشياء كثيرة وصنف كتابا في معرفة الثوابت وحمله إلى عضد الدولة بن بويه فاستحسنه
(2/347)
وأجزل ثوابه وبين في هذا الكتاب من أغاليط أتباع الرصد الثاني أمورا كثيرة لعطارد المنجم ومحمد بن جابر التباني وعلي بن عيسى الحراني فقال في مقدمة كتابه ولما رأيت هؤلاء القوم مع ذكرهم في الآفاق وتقدمهم في الصناعة وإقتداء الناس بهم واشتغالهم بمؤلفاتهم قد تبع كل واحد منهم من تقدمه من غير تأمل لخطئه وصوابه بالعيان والنظروا أوهموا الناس بالرصد حتى ظن كل من نظر في مؤلفاتهم أن ذلك عن معرفة بالكواكب ومواضعها إلى أن قال ومعولهم على آلات مصورة من عمل من لا يعرف الكواكب بأعيانها وانما عولوا على ما وجدوه في الكتب من أطوالها وعروضها فرسموها في الكرة من غير معرفة خطئها وصوابها ثم قال وزادوا أيضا على أطوال الكواكب أطوالا كثيرة وعلى عروضها دقائق يسيرة ونقصوا منها أوهموا بذلك أنهم رصدوا الكل وأنهم وجدوا بين أرصادهم وأوضاع بطليموس من الخلاف في أطوالها وعروضها القدر الذي خالفوا به سوى الزيادة التي وجدوها من حركاتها في المدة التي بينهم وبينه من السنين من غير أن عرفوا الكواكب بأعيانها وله تواليف أخر مشحونة ببيان أغاليطهم وإيضاح أكاذيبه2م وتخاليطهم وشهد عليهم بأنهم تارة قلدوا في الأقوال النجومية وتارة قلدوا فيما وجدوه من الصور الكوكبية فهم مقلدون في القول والعمل ليس مع القوم بصيرة وشهد عليهم بأنهم مموهون مدلسون بل كاذبون مفترون من جهة أنهم زادوا دقائق ما بين زمانهم وزمان بطليموس وأوهموا بها أنهم رصدوا ما رصده من قبلهم فعثروا على ما لم يعثروا عليه ثم حدثت جماعة أخرى منهم الكوشيار بن ياسر بن الديلمي ومن تآليفه الزيجات والجامع والمجمل في الأحكام وهو عندهم نهاية في الفن وكان بعد الصوفي بنحو ثلاثين عاما وذكر في مقدمة كتابه المجمل أني جمعت في هذا الكتاب من أصول صناعة النجوم والطريق إلى التصرف فيها ما ظننته كافيا في معناه مغنيا عما سواه وأكثر الأمر فيما أخذت به أقرب طريق عزوته إلى القياس وأوضح سبيل سلكته
(2/348)
إلى الصواب إذ هي صناعة غير مبرهنة وللخواطر والظنون مجال بلا نهاية صواب ومجال إلى أن ذكر علم الأحكام فقال فيه ولا سبيل للبرهان عليه ولا هو مدرك بكليته نعم ولا بأكثره لن الشيء الذي يستعمل فيه هذا العلم أشخاص الناس وجميع ما دون الفلك القمري مطبوع على الانتقال والتغيير ولا يثبت على حال واحدة في أكثر الأمر ولا للإنسان بكامل القوة من الحدس بخواص الأحوال التي تكون من امتزاجات الكواكب فبلغ من الصعوبة وتعسر الوقوف عليه إلى أن دفعه بعض الناس وظنوا أنه شيء لا يدركه أحد البتة وأكثر المنفردين بالعلم الأول يعنى علم الهيئة ينكرون هذا العلم ويجحدون منفعته ويقولون هو شيء يقع بالانفاق وليس عليه برهان إلى أن قال ومن المنفردين بالعلم الثاني يعنى علم الأحكام من يأتي على
(2/349)
جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فظن أنها برهان لجهله بطريق البرهان وطبيعته فحصل من كلام هذا تجهيل أصحاب الأحكام كما حصل في كلام الصوفي تكذيب أصحاب الأرصاد وهذان رجلان من عظمائهم وزعمائهم ثم حدثت جماعة أخرى منهم المنجم المعروف بالفكري منجم الحاكم بالديار المصرية وكان قد انتهت إليه رياسة هذا العلم وكان قد قرأ على من قرأ على العاصمي فوضع هو وأصحابه رصدا آخر وهو الرصد الحاكمي وخالف فيه أصحاب الرصد الممتحن في أشياء وعلى ذلك التفاوت بنوا الذريح الحاكمي وكان الحاكم قد أمرهم أن يحذوا على فعل المأمون فأمر أن يجتمعوا عنده فاجتمع المنجمون ورئيسهم الفكري فوضعوا الذبح الحاكمي وخالفوا أصحاب الرصد المأموني ومالوا أتباعهم إلى الرصد الحاكمي ولو اتفق بعد ذلك رصد آخر لسلك أصحابه في خلاف من تقدمهم مسلك أوائلهم هذا ومستند لهم ومعولهم الحس والحساب وهما هما لا يقبلان التغليط فما الظن بما يدعونه من علم الأحكام الذي مبناه على هواجس الظنون وخيالات الأوهام ثم حدثت جماعة أخرى منهم أبو الريحان البيروتي مؤلف كتاب التفهيم إلى صناعة التنجيم جمع فيه بين الهندسة والحساب والهيئة والأحكام وكان بعد كوشيار بنحو من أربعين سنة فخالف من تقدمه وأتى من مناقضتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد الصناعة في نفسها وختم كتابه بقوله في الخبى والضمير ما أكثر افتضاح المنجمين فيه وما أكثر اصابة الراصدين فيه بما يستعملون من كلامه وقت السؤال ويرونه باديا من آثار وأفعال على السائل وقال وعند البلوغ إلى هذا الموضع من صناعة التنجيم كافية ومن تعداه فقد عرض نفسه وصناعته لما بلغت إليه الآن من السخرية والاستهزاء فقد جهلها المتفقهون فيها فضلا عن المنتسبين إليها انتهى كلامه ثم حدثت جماعة أخرى منهم أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز بن أمية الأندلسي الشاعر المنجم الطبيب الأديب وكان بعد البيروتي بنحو من ثمانين عاما ودخل مصر وأقام بها نحو
(2/350)
عامين ولما كان بالغرب توفيت والدة الأمين على بن يميم صاحب المهدية وكان قد وافق موتها أخبار المنجمين بذلك قبل وقوعه فعمل أمية قصيدة يرثيها وهي من مستحسن شعره فقال فيها وراعك قول للمنجم موهم ومن يعتقد زرق المنجم يوهم فواعجبا يهذي المنجم دهره ويكذب إلا فيك قول المنجم وكان المذكور رأسا في الصناعة وقد اعترف بأن المنجم كذاب صاحب زرق وهذيان ثم حدثت طائفة أخرى بالغرب منهم أبو اسحق الزر قال واصحابه وهو بعد أبي الصلت بنحو من مائة عام وقد خالف الأوائل والأواخر في الصناعتين والرصدية والأحكامية فأسقط من الرصد الممتحن المأموني في البروج درجات ومن الرصد الحاكمي دقائق وسلك في الأحكام طرقا غير الطرق المعهودة منه اليوم وزعم أن عليها المعول وأن طرق من تقدمه ليست بشيء ولو حدث في هذا العصر من يشبه من تقدمه لرأينا اختلافا آخر ولكن هذه الصناعة قد ماتت ولم يبق بأيدي المنتسبين إليها إلا تقليد هؤلاء الضلال فيما فهموه من كلامهم الباطل وما لم يفهموه منه فقد يظنون أنه صحيح ولكن إفهامهم نبت عنه وهذا شأن جميع أهل الضلال مع رؤسائهم ومتبوعيهم فجهال النصارى إذا ناظرهم الموحد في تثليثهم وتناقضه وتكاذبه قالوا الجواب على القسيس والقسيس يقول الجواب على المطران والمطران يحيل الجواب على البترك والبترك على الأسقف والأسقف على الباب والباب على الثلاثمائة والثمانية عشر أصحاب المجمع الذي اجتمعوا في عهد قسطنطين ووضعوا للنصارى هذا التثليث والشرك المناقض للعقول والأديان ولعلهم عند الله أحسن حالا من أكثر القائلين بأحكام النجوم الكافرين برب العالمين وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فصل ورأيت لبعض فضلائهم وهو أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى رسالة
(2/351)
بليغة في الرد عليهم وإبداء تناقضهم كتبها لما بصره الله رشده واراه بطلان ما عليه هؤلاء الضلال الجهال كتبها نصيحة لبعض إخوانه فأحببت أن أوردها بلفظها وان تضمنت بعض الطول والتكرار وأتعقب بعض كلامه بتقرير ما يحتاج إلى تقرير وسؤال يورد عليه ويطعن به على كلامه ثم بالجواب عنه ليكون قوة للمسترشد وبيانا للمتحير وتبصرة للمهتدي ونصيحة لأخواني المسلمين وهذا أولها بسم الله الرحمن الرحيم عصمك الله من قبول المحالات واعتقاد ما لم تقم عليه الدلالات وضاعف لك الحسنات وكفاك المهمات بمنه ورحمته كنت أدام الله توفيقك وتسديدك ذكرت لي اهتمامك بما قد لهج به وجوه أهل زماننا من النظر في الأحكام النجوم وتصديق كل ما يأتي من أدعى أنه عارف بها من علم الغيب الذي تفرد الله سبحانه وتعالى به ولم يجعله لأحد من الأنبياء والمرسلين ولا ملائكته المقربين ولا عباده الصالحين من معرفة طويل الأعمار وقصيرها وحميد العواقب وذميمها وسائر ما يتجدد ويحدث ويتخوف ويتمنى وسألنى أن اعمل كتابا أذكر فيه بعض ما وقع من اختلافهم في أصول الأحكام الدالة على وهمهم قبح اعتقادهم وما يستدل به من طريق النظر والقياس على ضعف مذهبهم وألخص ذلك واختصره واقربه بحسب الوسع والطاقة فوعدتك بذلك وقد ضمنته كتابي هذا والله أسأل
(2/352)
عونا على ما قرب منه وتوفيقا لما أزلف لديه انه قريب مجيب فعال لما يريد لست مستعملا للتحامل على من أثبت تأثير الكواكب في هذا العالم وترك إنصافهم كما فعل قوم ردوا عليهم فانهم دفعوهم عن أن يكون لها تأثير البتة غير وجود الضياء في المواضع التي تطلع فيها الشمس والقمر وعدمه فيما غابا عنه وما جرى هذا المجرى بل أسلم لهم أنها تؤثر تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض مزاجه يميل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذلك مزاج أهله ضعيف وألوانهم سود وصفر كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض مزاجه يميل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذلك مزاج أهله وأجسامهم عبلة والوانهم بيض وشعورهم شقر مثل الترك والصقالبة ومثل أن يكون النبات ينمو ويقوى ويتكامل وينضج ثمره بالشمس والقمر فان أهل الصحراء ومن يعانيها مجمعون على أن القثاء تطول و تغلظ بالقمر وقد شاهدت غير شجرة كبيرة حاملة من التين والتوت وغيرهما فما قابل الشمس منه أسرع نضج الثمر الكائن فيه وما خفى منها عنها بقي ثمره فجا وتأخر إدراكه ومثال ذلك ما شاهد من حال الريحان الذي يقال له اللينوفر وحال الخبازي وورق الخطمى والأدريون وأشياء كثيرة من النبات فانا نراه يتحرك وينفتح مع طلوع الشمس ويضعف إذا غابت لأن هذه أمور محسوسة وليس الكلام في هذا التأثير كيف هو وعلى أي سبيل يقع فما يليق بغرضنا ههنا فلذلك أدعه فأما ما يزعمونه فيما عدا هذا من أن النجوم توجب أن يعيش فلان كذا كذا سنة وكذا كذا شهرا وينتهون في التحديد إلى جزء من ساعة وأن يدل على تقليد رجل بعينه الملك وتقليد آخر بعينه الوزارة وطول مدة كل واحد منهما في الولاية وقصرها وما فعله الإنسان وما يفعله في منزله وما يضمره في قلبه وما هو متوجه فيه من حاجاته وما هو في بطن الحامل والسارق ومن هو والمسروق وما هو وأين هو وكميته وكيفيته وما يجب بالكسوف وما يحدث معه والمختار من الأعمال في
(2/353)
كل يوم بحسب اتصال القمر بالكواكب من أن يكون هذا اليوم صالحا للقاء الملوك والرؤساء وأصحاب السيوف وهذا يوم محمود للقاء الكتاب والوزراء وهذا اليوم محمود للقاء القضاة وهذا اليوم محمود لأمور النساء وهذا اليوم محمود لشرب الدواء والفصد والحجامة وهذا اليوم محمود للعب الشطرنج والنرد وغير ذلك فمحال أن يكون معلوما من طريق الحس وليس نص من كتاب الله بل قد نص الله سبحانه وتعالى فيه على بطلانه بقوله تبارك وتعالى قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ولا من سنة رسول الله بل قد جاء عنه أنه قال من أتى عرافا أو كاهنا أو منجما فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ولا هاهنا ضرورة تدعو إلى القول به ولا هو أول في المعقول ولا يأتون عليه ببرهان ولا دليل
(2/354)
مقنع وهذه هي الطرق التي تثبت بها الموجودات وتعلم بها حقائق الأشياء لا طريق هاهنا غيرها ولا شيء لأحكام النجوم منها وانا ابتدئ الآن بوصف جملة من اختلافهم في الأصول التي يبنون عليها أمرهم ويفرعون عنها أحكامهم وأذكر المستبشع من أقاويلهم وقضاياهم وظاهر مناقضاتهم ثم آتى بطرف من احتجاجهم والاحتجاج عليهم والله والموفق للصواب بفضله ذكر اختلافهم في الأصول زعموا جميعا أن الخير والشر والاعطاء والمنع وما أشبه ذلك يكون في العالم بالكواكب وبحسب السعود منها والنحوس وعلى حسب كونها من البروج الموافقة والمنافرة لها وعلى حسب نظر بعضها إلى بعض من التسديس والتربيع والتثليث والمقابلة وعلى حسب محاسدة بعضها بعضا وعلى حسب كونها في شرفها وهبوطها ووبالها ثم اختلفوا على أي وجه يكون ذلك فزعم قوم منهم أن فعلها بطبائعها وزعم آخرون أن ذلك ليس فعلا لها لكنها تدل عليه بطبائعها قلت وزعم آخرون أنها تفعل في البعض بالعرض وفي البعض بالذات قال وزعم آخرون أنها تفعل بالاختيار لا بالطبع ألا أن السعد منها لا يختار إلا الخير والنحس منها لا يختار إلا الشر وهذا بعينه نفى للاختيار فان حقيقة القادر المختار القدرة على فعل أي الضدين شاء وترك أيهما شاء قلت ليس هذا بشيء فانه لا يلزم من كون المختار مقصود الاختيار على نوع واحد سلب اختياره ولكن الذي يبطل هذا أنهم يقولون أن الكوكب النحس سعد في برج كذا وفي بيت كذا وإذا كان الناظر إليه من النجوم كذا وكذا وكذلك الكوكب السعد ويقولون أنها تفعل بالذات خيرا وبالعرض شرا وبالعكس وقد يقولون أنها تختار في زمان خلاف ما تختار في زمان آخر وقد تتفق كلها أو أكثرها على إيثار الخير فيكون في العالم في ذلك الوقت على الأكثر الخير والنفع والحسن قالوا كما كان في زمن بهمن وفي أيام أنوشروان وبضد ذلك أيضا فيقال إذا كانت مختارة وقد تتفق على إرادة الخير وعلى إرادة الخير والشر بطل دلالة حصولها في البروج
(2/355)
المعينة ودلالة نظر بعضها إلى بعض بتسديد أو تربيع أو تثليث أو مقابلة لأن هذا شأن من يقع فعله إلا عن وجه واحد في وقت معين على شروط معينة ولا ريب أن هذا ينفي الاختيار فكيف يصح قولكم بذلك وجمعكم بين هاتين القضيتين أعني جواز اختيارها في زمان خلاف ما تختاره في زمان آخر وجواز اتفاقها على الخير واتفاقها على الشر من غير ضابط ولا دليل يدلكم عليه ثم تحكمون بتلك الأحكام مستندين فيها إلى حركاتها المخصوصة وأوضاعها ونسبة بعضها إلى بعض وهل هذا الاضحكة للعقلاء قال وزعم آخرون أنها لا تفعل باختيار بل تدل باختيار وهذا كلام لا يعقل معناه إلا أنى ذكرته لما كان مقولا واختلفوا فقالت فرقة من الكواكب ما هو سعد ومنها ما هو نحس وهي تسعد غيرها وتنحسه وقالت فرقة هي في أنفسها طبيعة واحدة
(2/356)
وانما تختلف دلالتها على السعود والنحوس وان لم تكن في أنفسها مختلفة واختلفوا فقال قوم أنها تؤثر في الأبدان والأنفس جميعا وقال الباقون بل في الأبدان دون الأنفس قلت أكثر المنجمين على القول بأنها تسعد وتنحس غيرها وأما الفرقة التي قالت هي دالة على السعد والنحس فقولهم وان كان أقرب إلى التوحيد من قول الأكثرين منهم فهو أيضا قول مضطرب متناقض فان الدلالة الحسية لا تختلف ولا تتناقض وهذا قول من يقول منهم أن الفلك طبيعة مخالفة لطبيعة الاستقصاب الكائنة الفاسدة وأنها لا حارة ولا باردة ولا يابسة ولا رطبة ولا سعد ولا نحس فيها وانما يدل بعض أجرامها وبعض أجزائها على الخير وبعضها على الشر وارتباط الخير والشر والسعد والنحس بها ارتباط المدلولات بأدلتها لا ارتباط المعلومات بعللها ولا ريب أن قائل هذا أعقل وأقرب من أصحاب القول بالاقتضاء الطبيعي والعلية وأما القول بتأثيرها في الأبدان والأنفس فهو قول بطليموس وشيعته وأكثر الأوائل من المنجمين وهؤلاء لهم قولان أحدهما أنها تفعل في الأنفس بالذات وفي الأبدان بالعرض لأن الأبدان تنفعل عن الأنفس والثاني أنها هي سبب جميع ما في عالم الكون والفساد وفعلها في ذلك كله بالذات وكأنه لاخلاف بين الطائفتين فان الذين قالوا فعلها في النفوس لا يضيفون انفعال الأبدان إلى غيرها بذاتها بل بوسائط قال واختلف رؤساؤهم بطليموس ودورسوس وانطيقوس وريمسس وغيرهم من علماء الروم والهند وبابل في الحدود وغيرها وتضادوا في المواضع التي يأخذون منها دليلهم فبعضهم يغلب رب بيت الطالع وبعضهم يقول بالدليل المستولى على الحظوظ واختلفوا فزعم بطليموس أنهم يعلم منهم السعادة بأن يأخذ أبدا العدد الذي يحصل من موضع الشمس إلى موضع القمر ويبتدئ من الطالع فيرصد منه مثل ذلك العدد ويأخذ إلى الجهة التي تتلو من البروج فيكون قد عرف موضع السهم وزعم غيره أنه يعد من الشمس ثم يبتدئ من الطالع فيعد مثل ذلك إلى الجهة
(2/357)
المتقدمة من البروج قلت وزعم آخرون أن بطليموس يرى أن جميع ما يكون ويفسد إنما يعرف دليله من موضع التقاء النيرين إما الاجتماع واما الامتلاء لأن هذين الكوكبين عنده مثل الرئيسين العظيمين أحدهما يأتمر لصاحبه وهو القمر وهما سببا جميع ما يحدث في عالم الكون والفساد وأن الكواكب الجارية والثابتة منهما بمنزلة الجند والعسكر من السلطان فإذا اراد النظر في أمر من الأمور فان كان بعد الاجتماع أو عنده فانه يأخذ الدليل عليه من الكوكب المستولى على جزء الاجتماع وجزئي الشمس والقمر في الحال وشاركه مع الشمس بالنسبة إلى الطالع وإذا كان بعد الامتلاء أو عنده فانه ينظر أي النيرين كان فوق الأرض عند الامتلاء وينظر إلى الكوكب المستولى على ذلك الجزء وجزء النير الذي كان بعد الشمس من الطالع كبعد القمر من سهم السعادة
(2/358)
فلذلك يجب عنده أن يؤخذ العدد أبدا من الشمس إلى القمر لتبقى تلك النسبة وهي البعد بين كل واحد من النيرين طالعه محفوظ فهذا قول آخر غير قول أولئك وللفرس مذهب آخر وهو أنهم قالوا لما كانت الشمس لها نوبة النهار والقمر له نوبة الليل وكان سهم السعادة بالنهار يؤخذ من الشمس إلى القمر وجب أن يعكس ذلك بالليل لأن نسبة النهار إلى الشمس مثل نسبة الليل إلى القمر وكل واحد من النيرين ينوب واحدا من الزمانين فيأخذون منهم السعادة بالليل من القمر إلى الشمس وبالنهار بالعكس وزعموا أن كلام بطليموس إنما يدل على هذا لأنه قال وان أخذنا من الشمس إلى القمر إلى خلاف تأليف البروج وألقيناه بالعكس كان موافقا للأول فقالوا يجب أن يعكس الأمر بالليل فهذا اختلاف المنجمين على بطليموس ينقض بعضه بعضا وليس بأيدي الطائفة برهان يرجحون به قولا على قول أن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلى الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم أن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى قال واختلفوا فرتبت طائفة منهم البروج المذكورة والمؤنثة من البرج الطالع فعدوا واحدا مذكرا وآخر مؤنثا وصيروا الابتداء بالمذكر وقسمت طائفة أخرى البروج أربعة أجزاء وجعلوا البروج المذكرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء والتي يقابلها من الغرب إلى وتد الأرض وجعلوا الربعين الباقيين مؤنثين قلت ومن هذيانهم في هذا الذي أضحكوا به عليهم العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين حار المزاج وبارد المزاج وجعلوا الحار منها ذكرا والبارد أنثى وابتدؤا بالحمل وصيروه ذكرا حارا ثم الذي بعده مؤنثا باردا ثم هكذا إلى آخرها فصارت ستة ذكورا وستة أناثا وليست على الأوائل واحد ذكر وثلاثة أخر أنثى مخالف له في الطبيعة والذكورية والأنوثية مع أن قسمة الفلك إلى البروج قسمة فرضية وضعية فهل في أنواع هذيان الهاذين أعجب من هذا ولما رأى من به رمق من
(2/359)
عقل منهم تهافت هذا الكلام وسخرية العقلاء منه رام تقريبه بغاية جهده وحذقه فقال إنما ابتدأ بالذكر دون الأنثى لأن الذكر أشرف من الأنثى لأنه فاعل والأنثى منفعلة فاعجبوا يا معشر العقلاء واسألوا الله أن لا يخسف بعقولكم كما خسف بعقول هؤلاء لهذا الهذيان افترى في البروج ناكحا ومنكوحا يكون المنكوح منها منفعلا لناكحه بالذكورية والأنوثية تابعة لهذا الفعل والانفعال فيها قال وأيضا فالذكورية بسبب الانفراد وازواج فيها فان الأفراد ذكور والأزواج إناث وهذا أعجب من الأول أن الذكر ينضم إلى الذكر فيصير المضموم إليه أنثى فتبا للمصغي إليكم والمجوز عقله صدقكم واصابتكم وأما أنتم فقد أشهد الله سبحانه عقلاء عباده وأنبأهم مقدار عقولكم وسخافتها فلله الحمد والمنة قال هذا المنتصر لهم وانما جعلوا الأفراد لذكور والأزواج للأنثى لأن الفرد
(2/360)
يحفظ طبيعته أعنى ينقسم دائما إلى فرد والزوج لا يحفظ طبيعته أعني ينقسم مرة إلى الأفراد ومرة إلى الأزواج كما يعرض ذلك للأنثى فانها تلد مرة مثلها ومرة ذكرا مخالفا لها ومرة ذكرين ومرة أنثيين ومرة ذكرا وأنثى وفساد هذا والعلم بفساد عقل صاحبه ونظره مغن لذي اللب عن تطلب دليل فساده قال المنتصر وانما جعلوا للبرج الأنثى بل برج الذكر فلان الطبيعة هكذا ألف الاعداد واحدا فردا وآخر زوجا هكذا بالغا ما بلغ هذه القسمة عندهم هي قسمة ذاتية للبروج ولها قسمة ثانية بالعرض وهي أنهم يبدؤن من الطالع إلى الثاني عشر فيأخذون واحدا ذكرا وهو الأول وآخر أنثى وهو ما يليه وهذه تختلف بحسب اختلاف الطالع والقسمة الأولى إنما كانت ذاتية لأن الابتداء لها برأس الحمل وهو موضع تقاطع الدائرتين اللتين هما فلك البروج ومعدل النهار وأما الليل للقسمة فانه لا يبقى على حال واحدة لأنه مأخوذ من الجزء المماس لأفق البلد وهو دائما يتغير بحركته مع الكل وحصول الأجزاء كلها واحدا بعد آخر على الأفق دوره واحدة وأما قسمة الفلك أرباعا فانهم قالوا إذا خرج خط من أفق المشرق إلى أفق المغرب وخط من وتد الأرض إلى وسط السماء انقسمت البروج أربعة أقسام كل قسم ثلاثة بروج على طبيعة واحدة ابتداء كل قسم من طرف قطر إلى طرف القطر الذي يليه وأطراف هذين القطرين تسمى أوتاد العالم والقسم الأول من وتد المشرق إلى وتد العاشر ذكر شرقي مخفف سريع ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنث جنوبي محرق وسط ومن ذيل الغارب إلى وتد الرابع ذكر مقبل رطب غربي بطيء ومن وتد الرابع إلى وتد الطالع مؤنث دليل مبرد شمالي وسط وهذه القسمة مخالفة لتلك القسمتين لان هذه قسمة البروج بأربعة أقسام متساوية كل ثلاثة بروج منها تسعين درجة لها طبيعة تخصها مع أن الفلك شيء واحد وطبيعة واحدة وقسمته إلى الدرج والبروج قسمة وهمية بحسب الوضع فكيف اختلفت طبائعها وأحكامها وتأثيراتها واختلفت بالذكروية
(2/361)
والأنوثية ثم أن بعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحمل فنسبها إلى الذكورية والثانية إلى الأنوثية هكذا إلى آخر الحوت ولا ريب أن الهذيان لازم لمن قال بقسمة البروج إلى ذكر وأنثى وقال الذكر طبيعة الفرد والأنثى طبيعة الزوج فان هذا بعينه لازم لهم في درجات البرج الواحد وكأن هذا القائل تصور لزومه لأولئك فالتزمه وأما بطليموس فله هذيان آخر فانه ابتدأ بأول درجة كل برج ذكر فنسب منها إلى تمام أثنى عشر درجة وبضعا إلى الذكورية ومنه إلى تمام خمس وعشرين درجة إلى الأنوثية ثم قسم باقي البرج بالنصفين فنسب النصف الأول إلى الذكر والنصف الآخر إلى الأنثى وعلى هذه القسمة ابتدأ بالبروج الأنثى فنسب الثلث ونصف السدس إلى الأنوثية ومثلها بعده إلى الذكروية وبقى
(2/362)
سدس قسمه بنصفين فنسب النصف الأول إلى الأنثى والآخر إلى الذكر كما عمل بالبرج الذكر حتى أتى على البروج كلها وأما دوروسوس فله هذيان آخر فانه يقسم البروج كلها كل برج ثمانية وخمسين دقيقة ومائة وخمسين ثانية ثم ينظر فان كان البرج ذكرا أعطى القسمة الأولى للذكر ثم الثانية للأنثى إلى أن يأتي على الأقسام كلها وان البرج أنثى أعطى القسمة الأولى للذكر إلى أن يأتي على الأقسام كلها ولو قدر أن جاهلا آخر تفنن في هذه الأوضاع وقلبها وتكلم عليها لكان من جنس كلامهم ولم يكن عندهم من البرهان ما يردون به قوله بل أن رأوه قد أصاب في بعض أحكامه لا في أكثرها أحسنوا به الظن وتقلد واقوله وجعلوه قدوة لهم وهذا شأن الباطل عدنا إلى كلام عيسى في رسالته قال واختلفوا في الحدود فزعم أهل مصر أنها تؤخذ من أرباب البيوت وزعم الكلدانيون أنها تؤخذ من مدبر المثليات وإذا كان اختلاف الذين يعتدون بهم في أصولهم هذا الاختلاف وليس هم ممن يطالب بالبرهان ولا يعتقد الشيء حتى يصح على البحث والقياس فيعرفون مع من الحق من رؤسائهم وفي أي قول هو من أقوالهم فيعملون به وانما طريقتهم التسليم لما وجدوه في الكتب المنقولة من لسان إلى لسان فكيف يجوز لهم أن يتفردوا باعتقاد قول من هذه الأقوال وينصرفوا عما سواه إلا على طريق الشهوة والتخمين والله المستعان ذكر بعض ما يستبشع من أقوالهم ويستدل به على مناقضتهم من ذلك زعمهم أن الفلك جسم واحد وطبيعة واحدة وأنه شيء واحد وليس باشياء مختلفة ثم زعموا بعد ذلك أن بعضه ذكر وبعضه أنثى ولا دلالة لهم على ذلك ولا برهان ولا وجدنا جسما واحدا في الشاهد بعضه ذكر وبعضه أنثى قلت قد رام بعض المبلسين من فضلائهم تصحيح هذا الهذيان فقال ليس يستحيل أن يكون جسم واحد بعضه أنثى وبعضه ذكر كالرجل مثلا فان العين والأذن واليد والرجل منه مؤنثة والرأس والصلب والصدر والظهر منه ذكر وأيضا فان الجسم مركب من الهيولى والصورة
(2/363)
والهيولي مذكرة والصورة مؤنثة وأيضا لما وجد المنجمون الشمس تدل على الآباء والأب ذكر والقمر يدل على الآم وهي أنثى قالوا أن الشمس ذكر والقمر أنثى قالوا وقد قال أرسطو في كتاب الحيوان طمث المرأة يقل في نقصان الشهر وكذلك قال بعض الناس أن القمر أنثى قالوا وأيضا فالشمس إذا كانت قريبا من سمت الرؤس كان الحر واليبس وهما من طبيعة الذكورية والقمر إذا كان يقرب من سمت الرؤس بالليل كان البرد والرطوبة وهما من طبيعة الأنثى فليعجب العاقل اللبيب من هذه الخرافات فأما أعضاء الإنسان الذكور والأنثى فذلك أمر راجع إلى مجرد اللفظ والحاق علامة التأنيث في تصغيره ووصفه وخبره وعود الضمير عليه بلفظ التأنيث وجمعه جمع المؤنث وليس ذلك عائد إلى طبيعة العضو ومزاجه فنظير هذا قول النحاة الشمس مؤنثة للحاق العلامة لها في تصغيرها فنقول شميسة وفي الخبر عنها نحو الشمس طالعة والقمر مذكر لعدم
(2/364)
لحاق العلامة له في شيء من ذلك فعلى هذا الوجه وقع التذكير والتأنيث في أعضاء الحيوان وأما قسمتكم البروج وأجزاء الفلك إلى مذكر ومؤنث فليست بهذا الاعتبار بل باعتبار الفعل والانفعال والحرارة والرطوبة فتشبيه أحد البابين بالآخر تلبيس وجهل وأما تركب الجسم من الهيولى والصورة فأكثر العقلاء نفوه وقالوا هو شيء واحد متصل متوارد عليه الاتصال والانفصال كما يتوارد عليه غيرهما من الأغراض فيقبلها ولا يلزم من قبول الاتصال والانفصال أن يكون هناك شيء آخر غير الجسمية يقبل به ذلك والذين قالوا بتركيبه منهما لم يقل أحد منهم أصلا أنه مركب من ذكر وأنثى والصورة مؤنثة في اللفظ لا في الطبيعة واضحكاه على عقولهم السخيفة وأما دلالة الشمس على الأب وهو مذكر ودلالة القمر على الأم وهي أنثى فلو سلمت لكم هذه الدلالة كيف يلزم منها تذكير مادل على الذكر وتأنيث ما يدل على الأنثى وأين الارتباط العقلي بين الدليل والمدلول في ذلك كيف ودلالة الشمس على الأب والقمر على الأم مبنى على تلك الدعاوي الباطلة التي ليس لها مستند إليه إلا خيالات وأوهام لا يرضاها العقلاء وأما ما حكوه عن ارسطو فنقل محرف ونحن نذكر نصه في الكتاب المذكور فان لنا به نسخة مصححه قد اعتنى بها قال في المقالة الثامنة عشر بعد أن تكلم في علة الاذكار والايناث وذكر قول من قال أن سبب الاذكار حرارة الرحم وسبب الايناث برودته وأبطل هذا بأن الرحم مشتمل على الذكر والأنثى معا في الإنسان وفي كل حيوان يلد قال فقد كان ينبغي على قول هذا القائل أن يكون التوأمان إما ذكرين واما أنثيين وأبطله بوجوه أخر وهذا رأي أنبذ فليس وذكر قول ديمقراطيس أن ذلك ليس لأجل حرارة الرحم وبرودته بل بحسب الماء الذي يخرج من الذكر وطبيعته في الحرارة والبرودة وجعل قوة الاذكار والايناث تابعة لماء الذكر وذكر قول طائفة أخرى أن خروج الماء من الناحية اليمنى من البدن هي علة الاذكار وخروجه من الناحية
(2/365)
اليسرى هي علة الايناث قال أن الناحية اليمنى من الجسد أسخن من الناحية اليسرى وأنضج وأدفأ من غيرها ورجع قول ديمقراطيس بالنسبة إلى هذه الآراء ثم قال فقد بينا العلة التي من أجلها يخلق في الرحم ذكر وأنثى والأغراض التي تعرض تشهد لما بينا أن الأحداث يلدون الإناث أكثر من الشباب والمتشيبون يلدون إناثا أيضا أكثر من الشباب لأن الحرارة التي في الأحداث ليست بتامة بعد الحرارة التي في الشيوخ ناقصة والأجسام الرطبة التي خلقتها شبيهة بخلقة بعض النساء تلد إناثا أكثر ثم قال فإذا كانت الريح شمالا كان الولد ذكرا وإذا كانت جنوبا كان المولود أنثى لأن الأجساد إذا هبت الجنوب كانت رطبة وكذلك يكون الزرع أكثر وكلما كثر الزرع يكون الطبخ غير نضج ولحال هذه العلة يكون زرع الذكرية ويكون دم طمث النساء من قبل الطباع عند خروجه أرطب أيضا قلت ومراده بالزرع الماء الذي يكون من
(2/366)
الرجال قال ولحال هذه العلة يكون طمث النساء من قبل الطباع في نقص الأهلة أكثر لأن تلك الأيام أبرد من سائر ايام الشهر وهي أرطب أيضا لنقص الأهلة وقلة الحرارة والشمس تصير الصيف والشتاء في كل سنة فأما القمر فيفعل ذلك في كل شهر فتأمل كلام الرجل فأنه لم يتعرض لكون القمر ذكر ولا أنثى ولا أحال على ذلك وانما أحال على الأمور الطبيعية في الكائنات الفاسدات وبين تأثير النيرين في الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة وجعل لذلك تأثيرا في الاذكار والايناث لا للنجوم والطوالع ومع أن كلامه أقرب إلى العقول من كلام المنجمين فهو باطل من وجوه كثيرة معلومة بالحس والعقل وأخبار الأنبياء فان الاذكار والايناث لا يقوم عليه دليل ولا يستند إلى أمر طبيعي وانما هو مجرد مشيئة الخالق البارئ المصور الذي يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ويزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما انه عليم قدير الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وكذا هو قرين الأجل والرزق والسعادة والشقاوة حيث يستأذن الملك الموكل بالمولود ربه وخالقه فيقول يا رب أذكر أم أنثى سعيد أم شقي فما الرزق فما الأجل فيقضى الله ما يشاء ويكتب الملك ولاستقصاء الكلام في هذه المسألة موضع هو أليق بها من هذا وقد أشبعنا الكلام فيها في كتاب الروح والنفس وأحوالها وشقاوتها وسعادتها ومقرها بعد الموت والمقصود الكلام على أقوال الأحكاميين من أصحاب النجوم وبيان تهافتها وأنها إلى المحالات والتخيلات أقرب منها إلى العلوم والحقائق وأما قول المنتصر لكم أن الشمس إذا كانت مسامتة الرؤوس كان الحر واليبس وهما من طبيعة الذكور وإذا كان القمر مسامة للرؤس كان البرد والرطوبة وهما من طبيعة الإناث فيقال هذا لا يدل على تأنيث القمر وتذكير الشمس بوجه من الوجوه فان البرد والرطوبة يكونان أيضا بسبب بعد الشمس من المسامتة وميلها عن الرءوس وحصولها في البروج الشمالية سواء كان القمر مسامتا أو غير
(2/367)
مسامت فينبغي على قولكم أن يكون سبب هذا البرد أنثى وهذا لا يقوله عاقل بل الأسباب طبيعية من برد الهواء وتكاثفه وتأثير الشمس في تحليل الأبخرة التي تكون منها الحرارة بسبب بعدها عن الرؤس وليس سبب ذلك أنثى اقتضته وفعلته فقد جمعتم إلى جهلكم بالطبيعة والكذب على الخلقة القول الباطل على الله وعلى خلقه وليس العجب إلا ممن يدعى شيئا من العقل والمعرفة كيف ينقاد له عقله بالإصغاء إلى محالاتكم وهذاياناتكم ولكن كل مجهول مهيب ولما تكايس من تكايس منكم في أمر الهيولي وزعم أنها أنثى وان الصورة ذكر وان الجسم الواحد مشتمل على الذكر والأنثى أضحك عقلاء الفلاسفة عليه فان زعيمهم ومعلمهم الأول قد نص في كتاب الحيوان له على أن الهيولى في الجسم كالذكر وان قلتم فهذا يشهد لقولنا أيضا لأنها أن كانت عنده كالذكر فالصورة أنثى فصار الجسم الواحد بعضه ذكر وبعضه أنثى قلنا القائلون
(2/368)
بتركب الأجسام من الهيولى والصورة لم يقولوا أن أحدهما متميز عن الآخر كما زعمتم ذلك في أجزاء الفلك بل عندهم الهيولي والصورة قد اتحدا وصارا شيئا واحدا فالإشارة الحسية إلى أحدهما هي بعينها إشارة إلى الآخر وأنتم جعلتم الجزء المذكر من القلب مباينا للجزء الأنثى منه بالوضع والحقيقة والإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى آخر وللكلام مع أصحاب الهيولي مقام آخر ليس هذا موضعه فان دعوى تركب الجسم منهما دعوى فاسدة من وجوه كثيرة وليس يصح شيء منه غير الهيولي الصناعية كالخشب للسرير والطبيعية كالمني للمولود وهي المادة الصناعية والطبيعية وما سوى ذلك فخيال ومحال والله المستعان عدنا إلى كلام صاحب الرسالة قال ومن ذلك زعمهم انه أن اتفق مولود ابن ملك وان حجام في البلد والوقت والطالع والدرجة وكانت سائر دلالات السعادة موجودة في مولديهما وجب أن يكون من ابن الملك ملك جليل سائس مدبر ومن ابن الحجام حجام حاذق وهذا يخرج النجوم عن أن تكون تدل على ما يتحدد من حال الإنسان ويجعلها تدل على حذقه وصناعة أبيه وتقصيره فيها قلت ومما يوضح فساد قولهم في ذلك أن بطليموس جعل الكواكب الدالة على الصناعات ثلاثة المريخ والزهرة وعطارد وقال لأن الصناعات العملية تحتاج إلى ثلاثة أشياء ضرورية أحدها المعرفة والثاني الآلة والثالث الطاقة في الكف ليخرج المعلول المصنوع حسنا والآلة للمريخ التي يشير إليها يكون على الأكثر إما حديد واما مصاحبة للحديد ولذلك يقولون صورته صورة شاب بيمناه سيف مسلول وبيسراه رأس سنان وهو راكب أسدا وثيابه حمر تلهب وآخرون منهم يقولون على رأسه بيضة وبيسراه طبرزين وعليه خرقة حمراء وهو راكب فرسا أشهب والمعرفة لعطارد ولذلك يقولون صورته صورة شاب بيمناه حبة وبيسراه لوح يقرأه وعلى رأسه تاج وثبابه ملوثة بالتزاويق والنقوش وما شاكل ذلك للزهرة ولذلك يقولون صورتها صورة امرأة حسنة بين يديها مدق تضرب به وهي راكبة على جمل ومنهم
(2/369)
من يقول امرأة جالسة مرخاة الشعر ذوائبها بيسراها وباليمنى مرآة تنظر فيها نظيفة الثوب وعليها طوق واسورة وخلاخل وأما الشمس والقمر فهما الدالان على الملك فالشمس صورتها صورة رجل بيده اليمنى عصا يتوكأ عليها وباليسرى جزر راكب عجلة تجرها أربعة نمور ومنهم من يقول صورتها صورة رجل جالس قابض على أربعة أعنة أفراس ووجهه كالطبق يلتهب نارا قالوا ودلائل الملك ليست بأعيانها هي دلائل الصناعات ودلائل الصناعات هي دلالات الملك بل قد يجوز أن يدل على رياسة ما إلا أن الملك أخص من الرياسة ولكل واحد من الكواكب على الإطلاق دلالة على رياسة ما في معنى من المعاني فيقال أرأيتم أن حصلت أدلة الملك في طالع مولود ليس من الملك في شيء بل أكثر المولودين لا ينالون الملك البتة
(2/370)
وانما يناله واحد من الناس ولا يلزم أن يكون في آبائه ملك ولا يكون ابن ملك فما بال طالع الملك المشترك بين عدة أولاد خص هذا وحده حتى أن أكثركم ينظر بنص بطليموس إلى جنس المولود وما يصلح له فيحكم على ابن الملك بالملك وعلى ابن الحجام بالحجامة فان كان طالعهما واحدا حكم بتقدم ابن الحجام في رياسة صناعته وكونه كملكهم ومعلوم أن الحس والوجود أكبر المكذبين لكم في هذه الحكام فما كثر من نال الملك وليس هو من أبناء الملوك البتة ولا كان طالعه يقتضي ذلك وحرمه من يقتضيه طالعه بزعمكم ممن أبوه ملك وكذلك الكلام في غير الملك من الطالع الذي يقتضي كون المولود حكيما عالما أو حاذقا في صناعته كم قد أخلف وحصل العلم والحكمة والتقدم في الصناعة لغير أرباب ذلك الطالع وفي ذلك أبين تكذيب لكم وابطال لقولكم والله المستعان قال صاحب الرسالة وأبعد من ذلك قولهم أن الكواكب المتحيرة أجل من الثوابت وأبين تأثيرا في العالم وان كل واحد من الكواكب الثابتة يفعل فعلا واحدا لا يزول عنه من غير أن ينحس أو يسعد وان عطارد هو من الكواكب المتحيرة ليس له طبع يعرف وأنه نحس إذا قارن النحوس وسعد إذا قارن السعود ومن ذلك قولهم أن قوة القمر الترطيب وان العلة في ذلك قرب فلكه من الأرض وقبوله البخارات الرطبة التي ترتفع إليه منها وان قوة زحل أن يبرد ويجفف تجفيفا يسيرا وان علة ذلك بعده عن حرارة الشمس وعن البخارات الرطبة التي ترتفع من الأرض وان قوة المريخ مجففة محرقة لمشاكلة لونه للون النار ولقربه من الشمس لأن الكرة التي فيها الشمس موضوعة تحته قلت فليتأمل العاقل ما في هذا الكلام من ضروب المحال وما للفلك ووصول البخارات الأرضية إليه وهل في قوة البخارات تصاعدها إلى سطح الفلك مع البعد المفرط والبخار إذا ارتفع فغاية ارتفاعه كارتفاع السحاب لا يتعداه وهل تتأثر العلويات بطبائع السفليات وتتكيف بكيفياتها وتنفعل عنها ومما يدل على فساد ذلك أيضا أن
(2/371)
القمر لو كان مترطبا من البخارات وجب أن تزداد رطوبته في كل يوم لأنه دائم القبول للبخارات ولا يقولون ذلك وان التزامه منهم مكابر وقال كل يوم يزداد رطوبة قلت له فما تنكر أن تكون دلالة زحل والمريخ على النحوس تتزايد وتكون دلالته على النحوس في اليوم أكثر من دلالته في الأمس ولو فتح عليكم هذا الباب فلعل السعد ينقلب نحسا وبالعكس وهذا يرفع الأمان عن أصول هذا العلم وأيضا فإذا جوزتم انفعال الفلكيات عن أجزاء هذا العالم السفلي لزمكم تجويز فساد هذه الكواكب من هذه الأجرام العنصرية ولزمكم تجويز أن ترتفع إلى القمر من الأدخنة ما يوجب جفافه وبلوغه في اليبس الغاية وأيضا فاذا جوزتم ذلك فلم لا تجوزون نفوذ تلك البخارات إلى ما ورا
(2/372)
فلك القمر حتى يترطب فلك الأفلاك فان قلتم فلك القمر عائق عن ذلك قلنا وكرة الأثر حائلة بين عالمنا هذا وبين فلك القمر فكيف جوزتم وصول البخارات الأرضية إلى فلك القمر وفي مشابهة لون المريخ للون النار مما يقتضي تأثيره الإحراق والتجفيف وهل في الهذيان أعجب من هذا فان أرادوا النار البسيطة فإنها لا لون لها وان أرادوا النار الحادثة فهي بحسب مادتها التي توجب حمرتها وصفرتها وبياضها وأما كون الشمس تحته فهذا لا يقتضي تأثيرها فيه واعطاؤه قوة التجفيف والاحراق فإن الشمس لو أثرت فيه ذلك واعطه إياه لكانت الشمس بهذا التأثير والإعطاء للزهرة أولى لأن كرتها فوق كرة الزهرة ونسبتها إلى كرة الزهرة كنسبتها إلى كرة المريخ فهلا كانت قوة الزهرة التجفيف والإحراق بل تأثير الشمس فيما تحتها أولى من تأثيرها فيما فوقها قال صاحب الرسالة وان الكواكب الثابتة التي في الدب الأكبر قوتها كقوة المريخ وهذا غلط عظيم لأن لون هذه الكواكب غير مشبه للون النار وليست الكرة التي فيها الشمس موضوعة تحتها بل الكرة التي فيها زحل موضوعة تحتها فهي بأن يكون حالها مشبها لحال زحل أولى لأنها فوقه وبعدها عن الشمس وعن حرارات الأرض أكثر من بعده قلت والعجب من هؤلاء يعلمون قول مقدمهم بطليموس أن طبائع الأجرام السماوية واحدة ثم يحكمون على بعضها بالحرارة وعلى بعضها بالبرودة وكذلك بالرطوبة واليبوسة قال وزعموا أن عطارد معتدل في التجفيف والترطيب لأنه لا يبعد في وقت من الأوقات عن حر الشمس بعدا كثيرا ولا وضعه فوق كرة القمر وان الكواكب الثابتة التي في الجاني حالها شبيهة بحاله وليس يوجد لها من السببين اللذين دلا على طبيعة عطارد شيئا بل الدور يوجد لها ضد ذلك وهو أنها بعيدة من الشمس في أكثر الأوقات وان فلكها أبعد أفلاك الكواكب من كرة القمر وقالوا أن الكواكب التي من النعاد 1 تشبه حال عطارد وزحل في بعض الأوقات وتشبه حال المشتري والمريخ في بعضها قلت
(2/373)
وقد استدل فضلاؤكم على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها فقالوا زحل لونه الغبرة والكمودة فحكمنا بأنه على طبع السوداء وهو البرد واليبس فان السوداء لها من الألوان الغبرة وأما المريخ فانه يشبه لونه لون النار فلا جرم قلنا طبعه حار يابس وأما الشمس فهي حارة يابسة لوجهين : أحدهما أن لونها يشبه لون الحمرة الثاني أنا نعلم بالتدبير أنها مسخة للأجسام منشفة للرطوبات وأما الزهرة فانا نرى لونها كالمركب من البياض والصفرة ثم أن البياض يدل على طبيعة البلغم الذي هو البرد والرطوبة والصفرة تدل على الحرارة ولما كان بياض الزهرة أكثر من صفرتها حكمنا عليها بأن بردها ورطوبتها أكثر وأما المشتري فلما
(2/374)
كانت صفرته أكثر مما في الزهرة كانت سخونته أكثر من سخونته الزهرة وكان في غاية الاعتدال وأما القمر فهو أبيض وفيه كمودة فبياضه يدل على البرد وأما عطارد فانا نرى عليه اللوان مختلفة فربما رأيناه أخضر وربما رأيناه أغبر وربما رأيناه على خلاف هذين اللونين وذلك في أوقات مختلفة مع كونه من الأفق على ارتفاع واحد فلا جرم قلنا انه لكونه قابلا للألوان المختلفة يجب أن يكون له طبائع مختلفة إلا أنا لما وجدنا في الغالب عليه الغبرة الأرضية قلنا طبيعته أميل إلى الأرض واليبس وهذا التقرير باطل من وجوه عديدة أحدها أن المشاركة في بعض الصفات لا تقتضي المشاركة في الماهية والطبيعة ولا في صفة أخرى الوجه الثاني أن الدلالة بمجرد اللون على الطبيعة ضعيفة جدا فان النورة والنوشادر والزرنيخ والزئبق المصعد والكبريت في غاية البياض مع أن طبائعها في غاية الحرارة الثالث أن ألوان الكواكب ليست كما ذكرتم فزحل رصاصي اللون وهذا مخالف للغبرة والسواد الخالص وأما المشتري فلا بد أن بياضه أكثر من صفرته فيلزم على قولكم أن برده أكثر من حره وهم ينكرون ذلك وأما الزهرة فلا صفرة فيها البتة بل الزرقة ظاهرة في أمرها فيلزم أن تكون خالصة البرد وأما المريخ فان كان حره لشبهه بالنار في لونه فهذه المشابهة في الشمس والنار أتم فيلزم أن تكون حرارة الشمس وسخونتها أقوى من حرارة المريخ وهم لا يقولون ذلك وأما عطارد فانا وان رأيناه مختلف اللون في الأوقات المختلفة إلا أن السبب فيه أنا لا نراه إلا إذا كان قريبا من الأفق وحينئذ يكون بيننا وبينه بخارات مختلفة فلا جرم أن اختلف لونه لهذا السبب وأما القمر فقد قال زعيمكم المؤخر أبو معشر أنه لا ينسب لونه إلى البياض إلا من عدم الحس البصري فتبين بطلان قولكم في طبائع الكواكب وتناقضه واختلافه ولما علم بعض فضلائكم فساد قولكم في طبائع الكواكب وان العقل يشهد بتكذيبه صدف عنه وأنكره وقال إنما نشير بهذه
(2/375)
القوى والطبائع إلى ما يحدث عن كل واحد من الأجرام السماوية وينفعل بها من الكائنات الفاسدات لا أنها بطبائعها تفعل ذلك بل يحدث عنها ما يكون حارا أو باردا أو رطبا أو يابسا كما يقال أن الحركة تسخن والصوم يجفف لا على أنها تفعل ذلك بطبائعها بل بما يحدث عنها فبطليموس قال أن القمر مرطب والشمس تسخن بحسب ما يحدث عنهما وتنفعل المنفعلات بتلك القوى لا بأن طبائعها مكيفات فقال نحن لم ننازعكم في تأثير الشمس والقمر في هذا العالم بالرطوبة والبرودة واليبوسة وتوابعها وتأثيرها في أبدان الحيوان والنبات ولكن هما جزء من السبب المؤثر وليسا بمؤثر تام فان تأثير الشمس مثلا إنما كان بواسطة الهواء وقبوله للسخونة والحرارة بانعكاس شعاع الشمس عليه عند مقابلتها لجرم الأرض ويختلف هذا القبول عند قرب الشمس من الأرض وبعدها
(2/376)
فيختلف حال الهواء وأحول الأبخرة في تكاثفها وبرودتها وتلطفها وحرارتها فتختلف التأثيرات باختلاف هذه الأسباب والسبب جزء الشمس في ذلك والأرض جزء والمقابلة الموجبة لانعكاس الأشعة جزء والمحل القابل للتأثير والانفعال جزء ونحن لا ننكر أن قوة البرد بسبب بعد الشمس عن سمت رؤسنا وقوة الحر بسبب قرب الشمس من سمت رؤسنا ولا ننكر أن الشمس إذا طلت فإن الحيوان ناطقة وبهيمة يخرج من مكامنه وأكنته وتظهر القوة والحركة فيهم ثم مادامت الشمس صاعدة في الربع الشرقي فحركات الحيوان في الازدياد والقوة والاستكمال قإذا مالت الشمس عن وسط السماء أخذت حركات الحيوان وقواهم في الضعف وتستمر هذه الحال إلى غروب الشمس ثم كلما ازداد نور الشمس عن هذا العالم بعدا ازداد الضعف والفتور في حركة الحيوان وهدأت الأجساد ورجعت الحيوانات إلى مكامنها فإذا طلعت الشمس رجعوا إلى الحالة الأولى ولا ننكر أيضا ارتباط فصول العالم الأربعة بحركات الشمس وحلولها في أبراجها ولا ننكر أن السودان لما كان مسكنهم خط الاستواء إلى محاذاة ممر رأس السرطان وكانت الشمس تمر على رؤسهم في السنة إما مرة وإما مرتين تسودت أبدانهم وجعدت شعورهم وقلت رطوبانهم فساءت أخلاقهم وضعفت عقولهم وأما الذين مساكنهم أقرب إلى محاذاة ممر السرطان فالسواد فيهم أقل وطبائعهم أعدل وأخلاقهم أحسن وأجسامهم الطف كأهل الهند واليمن وبعض أهل الغرب وعكس هؤلاء الذين مساكنهم على ممر رأس السرطان إلى محاذاة بنات نعش الكبرى فهؤلاء لأجل أن الشمس لا تسامت رؤسهم ولا تبعد عنهم أيضا بعدا كثيرا لم يعرض لهم حر شديد ولا برد شديد قالوا إنهم متوسطة وأجسامهم معتدلة وأخلاقهم فاضلة كأهل الشام والعراق وخراسان وفارس والصين ثم من كان من هؤلاء أميل إلى ناحية الجنوب كان أتم في الذكاء والفهم ومن كان منهم يميل إلى ناحية الشرق فهم أقوى نفوسا وأشد ذكورة ومن كان يميل إلى ناحية الغرب غلب عليه اللين والرزانة ومن
(2/377)
تأمل هذا حق التأمل وسافر بفكره في أقطار العالم علم حكمة الله في نشره مذهب أهل العراق وما فيه من اللين وما شاكله كله في أهل المشرق ومذهب أهل المدنية وما فيه من الشدة والقوة في أهل المغرب وأما من كانت مساكنهم محاذية لبنات نعش وهم الصقالبة والروم فإنهم لكثرة بعدهم عن مسامتة الشمس صار البرد غالبا عليهم والرطوبة الفضلية فيهم لأنه ليس من الحرارة هناك ما ينشفها وينضجها فلذلك صارت ألوانهم بيضاء وشعورهم سبطة شقراء وأبدانهم رخصة وطبائعهم مائلة إلى البرودة وأذهانهم جامدة وكل واحد من هذين الطرفين وهما الأقليم الأول والسابع يقل فيه العمران وينقطع بعضه عن بعض لأجل غلبة اليبس ثم لاتزال العمارة تزداد في الإقليم
(2/378)
الثاني والسادس والخامس ويقل الخراب فيها وأما الإقليم الرابع فإنه أكثر الأقاليم عمارة وأقلها خرابا بالفصل الوسط على الأطراف بسبب اعتدال المزاج وهو الذي انتشرت فيه دعوة الإسلام وضرب الدين بجرانة فيه وظهر فيه أعظم من ظهوره في سائر الأقاليم ولهذا قال النبي زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي مازوى لي منها فكان انتشار دعوته في أعدل الأرض ولذلك انتشرت شرقا وغربا أكثر من انتشارها جنوبا وشمالا ولهذا زويت له فأرى مشارقها ومغاربها وبشر أمته بانتشار مملكتها في هذين الربعين فإنهما أعدل الأرض وأهلها أكمل الناس خلقا وخلقا فظهر الكمال له في الكتاب والدين والأصحاب والشريعة والبلاد والممالك صلوات الله وسلامه عليه فإن قيل فقد فضلتم الإقليم الرابع على سائر الأقاليم مع أن شيئا من الأدوية لا تتولد فيه الأدواء ضعيفا وإنما تتكون الأدوية في سائر الأقاليم قيل هذا من أدل الدلائل على فضله عليها لأن طبيعة الدواء لا تكون معتدلة إذ لو حصل فيها الاعتدال لكان غذاء لا دواء والطبيعة الخارجة عن الاعتدال لا تحدث إلا في المساكن الخارجة عن الاعتدال وكذلك حال الشمس في المواضع التي تسامتها فموضع حضيضها وغابة قربها من الأرض في البراري الجنوبية تكون تلك الأماكن محترقة نارية لا يتكون فيها حيوان البتة ولذلك والله أعلم كان أكثر البخار من الجانب الجنوبي دون الشمالي لأن الشمس إذا كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض وإذا كانت في أوجها كانت أبعد وعند قربها من الأرض يعظم تسخينها والسخونة جاذبة للرطوبات وإذا انجذبت الرطوبات إلى الجانب الجنوبي انكشف الجانب الشمالي ضرورة وصار مستقرا للحيوان الأرضي والجنوبي أعظم الجانبين رطوبة وأكثرها مياها ومقرا للحيوان المائي وأما المواضع المسامتة لأوج الشمس في الشمال فهي غير محترقة بل معتدلة لبعد الشمس من الأرض وسبب التفاوت القليل الحاصل بين أقرب قرب الشمس من الأرض وأبعد
(2/379)
بعدها منها صار الجنوبي محترقا والجانب الشمالي معتدلا فلو كانت الشمس حاصلة في فلك الكواكب لفسد هذا العالم من شدة البرد ولو فرضنا أنها انحدرت إلى فلك القمر لأحرقت هذا العالم فاقتضت حكمة العزيز العليم الحكيم أن وضع الشمس وسط الكواكب السبعة وجعل حركتها المعتدلة وقربها المعتدل سببا لاعتدال هذا العالم وجعل قربها وبعدها وارتفاعها وانخفاضها سببا لفصوله التي هي نظام مصالحة فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين وأهل الإقليم الأول لأجل قربهم من الموضع المحازى لحضيض الشمس كانت سخونة هوائهم شديدة ولا جرم كانوا أشد سواءا من مكان خط الاستواء وأهل الإقليم الثاني سخونة هوائهم ألطف فكانوا سمر الألوان والإقليم الثالث والرابع أعدل الأقاليم مزاجا بسبب اعتدال الهواء بسبب تعديل ارتفاع الشمس لا تكون في
(2/380)
بعدها عن الأرض فههنا وإن حصلت مسامتة مفيدة لمزيد السخونة لكن حصل أيضا البعد المقلل للسخونة فحصل الاعتدال من بعض الوجوه وفي الجانب الجنوبي وإن حصل مزيد القرب من الأرض لكن لم يحصل هناك مسامتة للمساكن المعمورة لخط الاعتدال في الجانبين بهذه الطريق وصار أهل الإقليم الثالث والرابع أفضل الناس صورا وأخلاقا وأما الإقليم الخامس فإن سخونة الهواء هناك اقل من الاعتدال بمقدار يسير فلا جرم صار في جزء البرد وصارت طبائع أهله أقل نضجا من طبائع أهل الإقليم الرابع إلا أن بعدهم عن الاعتدال قليل وأما أهل الإقليم السادس والسابع فإن أهلها محرورون ولغلبة البرد والرطوبة عليهم يشتد بياض ألوانهم وزرقة عيونهم وأما المواضع التي تقرب من أن يكون الخط فيها فوق الرأس فهناك لا يصل تسخين الشمس إليها فلا جرم عظم البرد فيها ولم يكن هناك حيوان البتة وهذا كله يدل على أن الشمس جزء السبب وأن الهواء جزء السبب والأرض جزء وانعكاس الشعاع جزء وقبول المنفعلات جزء مجموع ذلك سبب واحد قدرة العليم القدير وأجرى عليه نظام العالم وقدر سبحانه أشياء أخر لا يعرفها هؤلاء الجهال ولا عندهم منها خبر من تدبير الملائكة وحركاتهم وطاعة استقصات العالم ومواده لهم وتصريفهم تلك المواد بحسب ما رسم لهم من التقدير الإلهي والأمر الرباني ثم قدر تعالى أشياء آخر تمانع هذه الأسباب عند التصادم وتدافعها وتقهر موجبها ومقتضاها ليظهر عليها اثر القهر والتسخير والعبودية وأنها مصرفة مدبرة بتصريف قاهر قادر كيف يشاء ليدل عباده على أنه هو وحده الفعال لما يريد لخلقه كيف يشاء وأن كل ما في المملكة الإلهية طوع قدرته وتحت مشيئته وأنه ليس شيء يستقل وحده بالفعل إلا الله وكل ما سواه لا يفعل شيئا إلا بمشارك ومعاون وله ما يعاوقه ويمانعه ويسلبه تأثيره فتارة يسلب سبحانه النار إحراقها ويجعلها بردا كما جعلها على خليله بردا وسلاما وتارة يمسك بين أجزاء الماء فلا يتلاقى كما
(2/381)
فعل بالبحر لموسى وقومه وتارة يشق الأجرام السماوية كما شق القمر لخاتم أنبيائه ورسله وفتح السماء لمصعده وعروجه وتارة يقلب الجماد حيوانا كما قلب عصا موسى ثعبانا وتارة يغير هذا النظام ويطلع الشمس من مغربها كما أخبر به أصدق خلقه عنه فإذا أتى الوقت المعلوم فشق السموات وفطرها ونثر الكواكب على وجه الأرض ونسف جبال العالم ودكها مع الأرض وكور شمس العالم وقمره ورأى ذلك الخلائق عيانا ظهر للخلائق كلهم صدقه وصدق رسله وعموم قدرته وكمالها وأن العالم بأسره منقاد لمشيئته طوع قدرته لا يستعصي عليه انفعاله لما يشاؤه ويريده منه وعلم الذين كفروا وكذبوا رسله من الفلاسفة والمنجمين والمشركين والسفهاء الذين سموا أنفسهم الحكماء أنهم كانوا كاذبين واجتمع جماعة من الكبراء والفضلاء يوما فقرأ قارىء إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال
(2/382)
سيرت حتى بلغ علمت نفس ما أحضرت وفي الجماعة أبو الوفاء ين عقيل فقال له قائل يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها للثواب والعقاب فما الحكمة في هدم الأبنية وتسيير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وتخريب هذا العالم وتكوير شمسه وخسف قمره فقال ابن عقيل على البديهة إنما بني لهم هذه الدار للسكنى والتمتع وجعلها وما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم عن الدار وخربها لانتقال الساكن منها فأراد أن يعلمهم بأن في أحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وإبداء ذلك الصنع العظيم بيانا لكمال قدرته ونهاية حكمته وعظمة ربو بيته وعرا جلاله وعظم شأنه وتكذيبا لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان ليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فإذا رأوا أن منار آلهتهم قد انهدم وأن معبوداتهم قد انتثرت والأفلاك التي زعموا أنها وما حوته هي الأرباب المستولية على هذا العالم قد تشققت وانفطرت ظهرت حينئذ فضائحهم وتبين كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبا لملاحده الفلاسفة القائلين بقدمه فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على عظيم قدرته وعزته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين ونحن لا ننكر ولا ندفع أن الزرع والنبات لا ينمو ولا ينشأ إلا في المواضع التي تطلع عليها الشمس ونحن نعلم أيضا أن وجود بعض النبات في بعض البلاد لا سبب له الإختلاف البلدان في الحر والبرد الذي سببه حركة الشمس وتقاربها في قربها وبعدها من ذلك البلد وأيضا فأن النخل ينبت في البلاد الحارة ولا ينبت في البلاد الباردة وشجر الموز لا ينبت في البلاد الباردة وكذلك ينبت في البلاد الجنوبية أشجار وفواكه وحشائش لا يعرف شيء منها في جانب الشمال وبالعكس وكذلك الحيوانات
(2/383)
يختلف تكونها بحسب اختلاف حرارة البلاد وبرودتها فإن النسر والفيل يكونان بأرض الهند ولا يكونان في سائر الأقاليم التي هي دونها في الحرارة وكذلك غزال المسك والكركند وغير ذلك وكذلك لا ندفع تأثير القمر في وقت امتلائه في الرطوبات حتى في جزر البحار ومدها فإن منها ما يأخذ في الازدياد من حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الامتلاء ثم إنه يأخذ في الانتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر حتى ينتهي إلى غاية نقصانه عند حصول المحاق ومن البحار ما يحصل فيه المد والجزر في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه وذلك موجود في بحر فارس وبحر الهند وكذلك بحر الصين وكيفيته أنه إذا بلغ القمر مشرقا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر إلى وسط سماء ذلك
(2/384)
المواضع فعند ذلك ينتهي منتهاه فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاهمنتهاه ثم يبتديء الجزر ثانيا ويرجع الماء كما كان وسكان البحر كلما رأوا في البحر انتفاخا وهيجان رياح عاصفة وأمواج شديدة علموا أنه ابتدأ المد فإذا ذهب الانتفاخ وقلت الأمواج والرياح علموا أنه وقت الجزر وأما أصحاب الشطوط والسواحل فانهم يجدون عندهم في وقت المد للماء حركة من أسفله إلى أعلاه فإذا رجع الماء ونزل فذلك وقت الجزر وكذلك أيام بحرانات الأمراض بحسب زيادة القمر ونقصانه منطبقة عليها وكذلك الأخلاط التي في بدن الإنسان مادام القمر آخذا في الزيادة فإنها تكون أزيد ويكون ظاهر البدن أكثر رطوبة وحسنا فإذا نقص ضوء القمر صارت الأخلاط في غور البدن والعروق وأزداد ظاهر البدن يبسا وكذلك ألبان الحيوانات تتزايد من أول الشهر إلى نصفه فإذا أخذ القمر في النقصان نقصت غزارتها وكذلك أدمغة الحيوانات في أول الشهر أزيد منها في نصفه الأخير وإن حدث في أجواف الطيور بيض في النصف الأول من الشهر كان بياضه أكثر من بياض الحادث في نصفه الثاني وكذلك الإنسان إذا نام أو قعد في ضوء القمر حدث في بدنه الاسترخاء والكسل وهاج عليه الزكام والصداع وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة تحت ضوء القمر تغيرت طعومها وتعفنت وكذلك السمك في البحار والآجام الجارية توجد من أول الشهر إلى وقت الامتلاء أكثر وخروجها من قعور البحار والآجام أظهر ومن بعد الامتلاء إلى الاجتماع فإنها تدخل قعور البحار والآجام الذي يظهر من سمين السمك فالنصف الأول أكثر من الذي يظهر في الثاني منه وكذلك حرشة الأرض يكون خروجها من إجحرتها في النصف الأول من الشهر أكثر من خروجها في النصف الثاني وأصحاب الغراس يزعمون أن الأشجار والغروس إذا غرست والقمر زائد الضوء كان نشؤها وكمالها وإسراعها في النبات أحمد من التي
(2/385)
تغرس في محاقة وذهاب نوره وكذلك تكون الرياحين والبقول والأعشاب من الاجتماع إلى الامتلاء أزيد نشوا وأكثر نموا وفي النصف الثاني بالضد من ذلك وكذلك القثاء والقرع والخيار والبطيخ ينمو نموا بالغا عند ازدياد الضوء وأما في وسط الشهر عند حصول الإمتلاء فهناك يعظم النمو حتى يظهر التفاوت للحس في الليلة الواحدة وكذلك الينابيع تزداد في النصف الأول من الشهر وتنقص في النصف الثاني إلى غير ذلك من الوجوه التي تؤثر فيها الشمس والقمر في هذا العالم فنحن لم ندفعكم عن هذه التأثيرات وإضعافها إنما الذي أنكره عليكم العقلاء من أهل الملل وغيرهم أن جملة الحوادث في هذا العالم خيرها وشرها وصلاحها وفسادها وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقواه ومدد بقاء أشخاصه وجميع أحوالها العارضة لها وتكون الجنين ومدة لبثه في بطن أمه وخروجه إلى الدنيا
(2/386)
وعمره ورزقه وشقاوته وسعادته وحسنه وقبحه وأخلاقه وحذقه وبلادته وجهله وعلمه بل ونزول الأمطار واختلاف أنواع الشجر والنبات في الشكل واللون والطعوم والروائح والمقادير بل انقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه والبحري وأنواعه والبرى وأقسامه وأشكال هذه الحيوانات واختلاف صورها وأنواعها وأفعالها وأخلاقها ومنافعها بل وتكون المعادن المنطبعة كالحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضة بل وغير المنطبعة كالملح والقارو والزرنيخ والنفط والزئبق بل العداوة الواقعة بين الذئاب والغنم والحيات والسباع وبني آدم والصداقة والعداوة بين أفراد النوع الواحد سيما بين ذكوره وإناثه وبالجملة فالأرزاق والآجال والعز والذل والرفعة والخفض والغناء والفقر والغناء والفقر والإحياء والإماتة والمنع والإعطاء والضر النفع والهدى والضلال والتوفيق والخذلان وجميع ما في العالم والأشخاص وأفعالها وقواها وصفاتها وهيأتها والمعطى له هذه واتصالاتها وانفصالاتها واتصالاتها بنقط وانفصالاتها عن نقط ومقارنتها ومفارقتها ومساقتها ومباينتها فهي المعطية لهذا كله المدبرة الفاعلة فهي الآلهة والأرباب على الحقيقة وما تحتها عبيد خاضعون لها ناظرون إليها فهذا كما أنه الكفر الذي خرجوا به عن جميع الملل وعن جملة شرائع الأنبياء ولم يمكنهم أن يقيموا بين أرباب الملل ألا بالتستر بهم ومنافقتهم والتزي بزيهم ظاهرا وإلا فقتل هؤلاء من الأمر الضروري في كل ملة لأنهم سوسها وأعداؤها فهو من الهذيان الذي أضحكوا به العقلاء على عقولهم حتى رد عليهم من لا يؤمن بالله واليوم الآخر من الفلاسفة كالفارابي وابن سينا وغيرهما من عقلاء الفلاسفة وسخروا منهم واستضعفوا عقولهم ونسبوهم إلى الزرق والزينجة والتلبيس وقد رد عليهم أفضل المتأخرين من فلاسفة الإسلام أبو البركات البغدادي في كتاب التعبير له فقال وأما أحكام النجوم فإنه لا يتعلق به منه أكثر من قولهم بغير دليل الحر الكواكب وبردها
(2/387)
ورطوبتها ويبوستها واعتدالها كما يقولون بأن زجل منها بارد يابس والمريخ حار يابس والمشتري معتدل والاعتدال خير والافراط شر وينتجون من ذلك أن الخير يوجب سعادة والشر يوجب منحسة وما جانس ذلك مما لم يقل به علماء الطبيعيين ولم تنتجه مقدماتهم في أنظارهم وإنما الذي أنتجته هو أن السماء والسماويات فعالة فيما تحويه وتشتمل عليه وتتحرك حوله فعلا على الاطلاق لم يحصل له من العلم الطبيعي حد ولا تقدير والقائلون به ادعوا حصوله من التوقيف والتجربة والقياس منهما كما ادعى أهل الكيمياء وإلا فمتى يقول صاحب العلم الطبيعي بحسب أنظاره التي سبقت أن المشتري سعيد والمريخ نحسن والمريخ حار يابس وزحل بارد يابس والحار والبارد من الملموسات وما دله على هذا المس كما يستدل بلمس الملموسات فإن ذلك ما ظهر للحس كما ظهر في الشمس حيث تسخن الارض بشعاعها وإن كان في السماء بيان شيء من طبائع الاضداد فالأولى أن تكون كلها حارة لأن كواكبها كلها منيرة ومتى
(2/388)
يقول الطبيعي بتقطع الفلك وقسمته كما قسمه المنجمون قسمة وهمية إلى بروج ودرج ودقائق وذلك جائز للمتوهم كجواز غيره غير واجب في الوجود ولا حاصل ونقلوا ذلك التوهم الجائز إلى الوجود الواجب في أحكامهم وكان الأصل فيه على زعمهم حركة الشمس في الأيام والشهور فجعلوا منها قسمة وهمية وجعلوها حيث حكموا كالحاصلة الوجودية المتميزة بحدود وخطوط كأن الشمس بحركتها من وقت إلى وقت مثله خطت في السماء خطوطا وأقامت فيها جدرانا وحدودا وغرست في أجزائها طباعا معتبرا بنفي فتبقى به القسمة إلى تلك البروج والدرج مع جواز الشمس عنها وليس في جوهر الفلك اختلاف يتميز موضع منه عن موضع سوى الكواكب والكواكب تتحرك عن أمكنتها فتبقى الأمكنة على التشابه فما يتميز درجة عن درجة ويبقى اختلافها بعد حركة المتحرك في سمتها فكيف يقيس الطبيعي على هذه الاصول وينتج منها نتائج ويحكم بحسنها أحكاما فكيف أن يقول بالحدود التي تجعل خمس درجات من برج الكوكب وستة لآخر وأربعة لآخر ويختلف فيها المصريون والبابليون ويصدق الحكم مع الاختلاف وأرباب اليبوسات كأنها أملاك بنيت بصكوك وحكام الأسد للشمس والسرطان للقمر وإذا نظر الناظر وجد الأسد اسدا من جهة كواكب شكلوها بشكل الأسد ثم انتقلت عن مواضعها التي كان بها أسدا كأن الملك بنيت للشمس مع انتقال الساكن وكذلك السرطان للقمر هذا من ظواهر الصناعة وما لا يمارى فيه ومن طالعه الأسد فالشمس كوكبه وربه بيته ومن الدقائق في الحقائق النجومية المذكرة والمؤنثة والمظلمة والنيرة والزائدة في السعادة ودرج الآثار من جهة أنها أجزاء الفلك التي قطعوها وما انقطعت مع انتقال أن الكوكب ينظر إلى الكوكب من ستين درجة نظر تسديس لانه سدس الفلك ولا ينظر إليه من خمسين ولا سبعين وقد كان قبل الستين بخمس درج وهو اقرب من ستين وبعدها بخمس درج وهو ابعد من الستين لا ينظر فليت شعري ما هو هذا النظر أترى الكوكب يظهر للكوكب ثم يحتجب عنه أو
(2/389)
شعاعه يختلط بشعاعه عند حد لا يختلط به قبله ولا بعده وكذلك التربيع من الربع الذي هو تسعون درجة والتثليث من الثلث الذي هو مائة وعشرون فلم لا يكون التخميس من الخمس والتسبيع من السبع والتعشير من العشر والحمل حار يابس من البروج النارية والثور بارد يابس من الأرضية والجوزاء حارة رطبة من الهوائية والسرطان بارد رطب من المائية ما قال الطبيعي قط هذا ولا يقول به وإذا احتجوا وقاسوا كانت مبادىء قياساتهم أن الحمل منقلب لأن الشمس إذا نزلت فيه ينقلب الزمان من الشتاء إلى الربيع والثور ثابت لأنه إذا نزلت الشمس فيه يثبت الربيع على ربيعيته والحق أنه لا انقلاب في الحمل ولا ثبات في الثور بل هو في كل يوم غير
(2/390)
ما هو في الآخر ثم إن الزمان انقلب بحلول الشمس فيه وهو يبقى دهره منقلبا مع خروج الشمس منه وحلولها فيه أتراها تختلف فيه أثرا وتحيل منه طباعا وتبقي تلك الاستحالة إلى أن تعود فتجددها ولم لا يقول قائل أن السرطان حار يابس لأن الشمس إذا نزلت اشتد حر الزمان وما يجانس هذا مما لا يلزم لا هو ولا ضده ما في الفلك اختلاف معرفة الطبيعي إلا بما فيه من الكواكب ومواضعها وهو واحد متشابه الجوهر والطبع وهذه أقوال قالها قائلا فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم بحسبها الحاكمون بجيد وردىء وسلب وإيجاب سعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى ما كذب منه فيكذبون بل عذروا وقالوا هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء ولعمر الله أنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه والذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرفات التي لا أصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقية كالقرانات والانتقالات والمقابلة من جملة الاتصالات فانها المقارنة من جهة أن تلك غاية القرب وهذه غاية البعد وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وما يفرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك وكأني أريد أن اختصر الكلام ههنا وأوفق إشارتك واعمل بحسب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم إحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غلطية وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك والممتع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كما قبله من لم يعقله بل أوضح موضع القبول والرد في
(2/391)
المقبول وموضع التوقف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علما لأحاط علما بكل ما يحويه الفلك لأن منه مبادى الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن الإمكان بعدا عظيما والبعض الممكن منه لا يهدى إلى بعض الحكم لأن البعض الآخر المجهول قد يناقض المعلوم في حكمه ويبطل ما يوجبه فنسبه المعلوم إلى المجهول من الإحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الاسباب وكفى بذلك بعدا انتهى كلامه ولو ذهبنا نذكر من رد عليهم من عقلاء الفلاسفة والطبائعين والرياضيين لطال ذلك جدا هذا غير رد المتكلمين عليهم فإنا لا نقنع به ولا نرضى أكثره فإن فيه من المكابرات والمنوع الفاسدة والسؤالات الباردة والتطويل الذي ليس تحته تحصيل ما يضيع الزمان في غير شيء وكان تركهم لهذه المقاتلة خيرا لهم منها فانهم لا للتوحيد والإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا والله المستعان وعليه التكلان فصل فلنرجع إلى كلام صاحب الرسالة قال زعموا أن القمر والزهرة
(2/392)
مؤنثان وان الشمس وزحل والمشترى والمريخ مذكرة وان عطارد ذكر أنثى مشارك للجنسين جميعا وان سائر الكواكب تذكر وتؤنث بسبب الأشكال التي تكون لها بالقياس إلى الشمس وذلك أنها إذا كانت مشرقة متقدمة للشمس فهي مذكرة وان كانت مغربة تابعة كانت مؤنثة وان ذلك أيضا يكون بالقياس إلى اشكالها إلى الأفق وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق الى وسط السماء مما تحت الارض فهي مذكرة لأنها إذا كانت شرقية فهي من ناحية مهب الصبا وإذا كانت في الربعين الباقيين فهي مؤنثة لانها في ناحية مهب الدبور وإذا كان هذا هكذا صارت الكواكب التي يقال إنها مؤنثة مذكرة والتي يقال أنها مذكرة مؤنثة وصارت طباعها مستحيلة بل تصير أعيانها تنقلب وأن القمر والزهرة مؤنثتان والكواكب الخمسة الباقية مذكرة على الوضع الاول فإن تقدم القمر والزهرة الشمس وكانا شرقيين صارا مذكرين وإن تأخرت الكواكب الخمسة وكانت مغربة تابعة كانت مؤنثة على الموضوع الثاني ويصير عطارد ذكرا إذا شرق أنثى إذا غرب وذكرا أنثى إذا لم يكن بأحد هاتين الصفتين قلت وقد أجاب بعض فضلائهم عن هذا الإلزام فقال ليس ذلك بممكن لأنا قد نقول إن الأدكن أبيض إذا قسناه إلى الأسود ونقول إنه أسود إذا قسناه إلى الابيض وهو شيء واحد بعينه مرة يكون اسود ومرة يكون أبيض وهو في نفسه لا اسود ولا أبيض وكذلك الكواكب يقال أنها ذكران وإناث بالقياس إلى الأشكال أعني الجهات والجهات إلى الرياح والرياح إلى الكيفيات لأنها ذكران وإناث وهذا تلبيس منه فان الأدكن فيه شائبة البياض والسواد فلذلك صدق عليه اسمهما لأن الكيفيتين محسوستان فيه فتكيفه بهما أوجب أن يقال عليه الاسمان وأما تقسيم الكواكب إلى الذكور والإناث فهي قسمة وضعتم فيها تمييز كل نوع عن الآخر بحقيقته وطبيعته وقلتم البروج تنقسم إلى ذكور وإناث قسمة تميز فيها قسم عن قسم لا أن حقيقتها متركبة من طبيعتين ذكورية وأنوثية بحيث يصدقان على كل برج
(2/393)
برج فنظير ما ذكرتم من الأدكن أن يكون كل برج ذكرا وأنثى فأين أحد البابين من الآخر لولا التلبيس والمحال وأيضا فانقسامها إلى الذكور والإناث انقسام بحسب الطبيعة والتأثير والتأثر الذي هو الفعل والانفعال وما كان كذلك لم تنقلب حقيقته وطبيعته بحسب الموضع والقرب والبعد قال صاحب الرسالة وزعموا أن القمر منذ الوقت الذي يهل فيه إلى وقت انتصافه الأول في الضوء يكون فاعلا للرطوبة خاصة ومنذ وقت انتصافه الأول في الضوء إلى وقت الامتلاء يكون فاعلا للحرارة ومنذ وقت الامتلاء إلى وقت الانتصاف الثاني في الضوء يكون فاعلا لليبس ومنذ وقت الانتصاف إلى الوقت الذي يخفى فيه ويفارق الشمس يكون فاعلا للبرودة وأي شيء اقبح من هذا ولا سيما وقد أعطى قائله أن القمر رطب وأنه يفعل بطبعه لا باختياره وكيف أن يفعل شيء واحد بطبعه الأشياء المتضادة مرة في الدهر فضلا عن أن يفعلها في كل شهر وهل القول بأن شيئا واحدا يفعل بطبعه في الأشياء الترطيب في وقت ويفعل بطبعه التجفيف في آخر ويفعل الاسخان في وقت ويفعل التبريد في آخر إلا كالقول بأن شيئا واحدا تنقلب عينه وقتا بعد وقت قلت قد قالوا إن الشمس لما كانت تفعل هذه الأفاعيل بحسب صعودها وهبوطها في فلكها فإنها إذا كانت من خمسة عشر درجة من الحوت إلى خمسة عشر من الجوزاء فعلت الترطيب وهو زمان الربيع وكذلك من خمسة عشر درجة من القوس إلى خمسة عشر من الحوت تفعل التبريد وهو زمان الشتاء وهذا دورها في الفلك مرة في العام والقمر يدور في شهر واحد صارت نسبة دور القمر في الفلك كنسبة دور الشمس فيه فكانت نسبة الشهر إلى القمر كنسبة السنة إلى الشمس فالشهر يجمع الفصول الأربعة كما تجمعه السنة وما تفعله الشمس في كل تسعين يوما وكسر يفعله القمر في سبعة أيام وكسر قالوا فآخر الشهر شبيه بالشتاء وأوله شبيه بالربيع والربع الثاني من الشهر شبيه بالصيف والربع الثالث منه شبيه بالخريف فهذا غاية ما قرروا به هذا
(2/394)
الحكم قالوا وأما كون الشيء الواحد سببا للضدين فقد قضا أرسطا طاليس في كتاب السماع الطبيعي على جوازه والجواب عن هذا أن الشمس ليست هي السبب الفاعل لهذه الطبائع المختلفة وإنما قربها وبعدها وارتفاعها وانخفاضها أثر في سخونة الهواء وتبريده وفي تحلل البخارات وتكاثفها فيحدث بذلك في الحيوان والنبات والهواء هذه الطبائع والكيفيات والشمس جزء السبب كما قررناه وأما القمر فلا يؤثر قربه ولا بعده وامتلاؤه ونقصانه في الهواء كما تؤثره الشمس فلو كان كذلك لكان كل شهر من شهور العام يجمع الفصول الأربعة بطبائعها وتأثيراتها وأحكامها وهذا شيء يدفعه الحس فضلا عن النظر والمعقول وقياس القمر على الشمس في ذلك من أفسد القياس فان الفارق بينهما في الصفة والحركة والتأثير أكثر من الجامع فالحكم على القمر بأنه يحدث الطبائع الأربعة قياسا على الشمس والجامع بينهما قطعة للفلك في كل شهر كما تقطعه في سنة لا يعتمد عليه من له خبره بطرق الأدلة وسنعة البرهان وأما قولكم أن أرسطا طاليس نص في كتابه على ان الواحد قد يكون سببا للضدين فنحن نذكر كلامه بعينه في كتابه ونبين ما فيه وقال في المقالة الثانية وايضا فإن الواحد قد يكون سببا للضدين فان الشيء الذي بحضوره يكون أمر من الأمور فغيبته قد تكون سببا لضده فيقال في ذلك
(2/395)
إن غيبة الربان سبب غرق السفينة وهو الذي كان حضوره سبب سلامتها فتأمل هذا الكلام وقابل بينه وبين كلامهم في فعل القمر الامور المتضادة يظهر لك تلبيس القوم وجهلهم فان نظر ذلك يوجب بطلان هذه الطبائع والكيفيات عند انقطاع تعلق القمر بهذا العالم كما بطل عمل السفينة وجريها عند غيبة الربان عنها انقطاع تعلقة بها فلم يكن الربان هو سبب الغرق الذي هو ضد السلامة كما كان القمر سببا لليبس الذي هو ضد الرطوبة وللحرارة التي هي ضد البرودة وإنما كانت أسباب الغرق غيبة أحد الأسباب التي كان الربان يمنع فعلها فلما غاب عنها عمل ذلك السبب عمله فغرقت وهذا أوضح من أن يحتاج إلى تقرير ولكن الأذهان التي قد اعتادت قبول المحالات قد يحتاج في علاجها إلى مالا يحتاج إليه غيرها وبالله التوفيق قال صاحب الرسالة وقالوا في معرفة أحوال أمهات المدن أن ذلك يعلم من المواضع التي فيها الشمس والقمر في أول ابتنائها ومواضع الاوتاد فهو خاصة وتد الطالع كما يفعل في المواليد فإن لم يتوقف على الزمان الذي بنيت فيه فلينظر إلى موضع وسط السماء في مواليد الولاة والملوك الذين كانوا في ذلك الزمان الذي بنيت فيه تلك المدن قلت ونظير هذا من هذيانهم قولهم أنا نعرف أحوال الأب من مولد الابن إذا لم يعرف مولد الأب قالوا أن هذا الموضع تالي المرتبة للطالع وهو أخص المواضع بالطالع كما أن الأب أخص الأشياء بالابن فكذلك أخص الأشياء بالملك مملكته فموضع وسط سمائه يدل على مدينته وأحوالها وكل عاقل يعلم بطلان هذه الدلالة وفسادها وأته لا ارتباط بين طالع المدينة وطالع السلطان كما لا ارتباط بين طالع ولادة الابن وطالع ولادة أبيه وإنما هذه تشبيهات بعيدة ومناسبات في غاية البعد قال صاحب الرسالة وقالوا في معرفة حال الوالدين إن الشمس وزحل يشاكلان الآباء بالطبع ولست أدرى كيف تعقل دلالة شيء ليس مما يتوالد بطبعه على شيء من طريق التوالد لأن الأب إنما يكون أبا باضافته
(2/396)
إلى ابنه والابن إنما يكون ابنا باضافته إلى أبيه وانهم يستدلون على حال الأولاد بالقمر والزهرة والمشترى وأن أحوال الأب تعرف من مواليد ابنه بأن يقام موضع الكوكب الدال عليه وهو الشمس أو زحل مقام الطالع ويستدل على حال الابن من مولد أبيه بأن يقام موضع الكوكب الدال عليه وهو أحد الكواكب الثلاثة القمر والمشترى والزهرة مقام الطالع وقد يكون الإنسان في أكثر الأوقات أبا فيكون الشمس وزحل يدل عليه من مولد ابنه وله في نفسه مولد لامحالة ويمكن أن يكون رب طالع مولده كوكبا غير الكوكبين الدالين على حاله من مولد أبيه وابنه فيكون حاله يعرف من ثلاثة كواكب وثلاثة بروج مختلفة الأشكال والطبائع وتناقض هذا القول بين لمستعمله فضلا عن متوهمة قلت قد قالوا في الجواب عن هذا أنه
(2/397)
لا تناقض فيه بل هو حق واجب قالوا إذا أردنا أن نعرف حال سقراط مثلا من حيث هو إنسان أليس ينظر إلى ما يخص الحيوان والإنسان الكلي وإذا أردنا أن نعرف حاله من حيث هو أب أن ننظر إلى المضاف وما يلحقه وإذا أردنا أن نعرف حاله من حيث هو عالم ننظر إلى الكيفية وما يخصها والأول جوهر والباقي أعراض وسقراط واحد ونعرف أحواله من مواضع مختلفة متباينة مرة يكون جوهرا ومرة عرضا فكذلك إذا أردنا أن نعرف حاله من مولده نظرنا إلى الطالع وربه وإذا أردنا أن نعرف حاله من مولد أبيه نظرنا إلى العاشر والشمس وكذلك إذا أردنا أن نعرف حاله من مولد ابنه نظرنا إلى موضع آخر وليس ذلك متناقضا كما أن الأول ليس متناقضا فيقال هذا تنبيه فاسد واعتبار باطل فأنا نظرنا في طالع الأب لنستدل به على حال الولد ونظركم في الطالع لتستدلوا به على حال الأب هو استدلال على شيء واحد وحكم عليه بسبب لا يقتضيه ولا يفارقه فأين هذا من تعرف إنسانية سقراط وأبوته وعدالته وعلمه مثلا وطبيعته فإن هذه أحوال مختلفة لها أدلة وأسباب مختلفة فنظيرها أن نعرف حال الولد من جهة سعادته ومحبته وصحته وسقمه من طالعه وحاله من جهة ما يناسبه من الأغذية والأدوية من مزاجه وحاله من جهة أفعاله ورئاسته من أخلاقه كالحياء والصبر والبذل وحاله من جهة اعتدال مزاجه من اعتدال أعضائه وتركيبه وصورته فهذه أحوال بحسب اختلاف أسبابها فأين هذا من أخذ حال الولد وعمره وسعادته وشقاوته من طالع أبيه وبالعكس فالله يعين العقلاء على تلبيسكم ومحالكم ويثبت عليهم ما وهبهم من العقول التي رغبت بها ورغبوا بها عن مثل ما أنتم عليه قال وزعم بطليموس أن الفلك إذا كان على شكل ما ذكره في مولد ما وكانت الكواكب في مواضع ذكرها وجب أن يكون الولد أبيض اللون سبطا وإن وجد مولود في بلاد الحبشة والفلك متشكل على ذلك الشكل والكواكب في المواضع التي ذكرها لم يمض ذلك الحكم عليه ومضى على المولود إن كان من الصقالبة
(2/398)
أو من قرب مزاجه من مزاجهم وزعم أن الفلك إذا كان على شكل ما ذكره في مولد ما وكانت الكواكب في مواضع ذكرها فإن صاحب الولد يتزوج أخته إن كان مصريا فإن لم يكن مصريا لم يتزوجها وزعم أن الفلك إذا كان على شكل آخر ذكره في مولد من المواليد وكانت الكواكب في مواضع بينهما تزوج الولد بأمه إن كان فارسيا وإن لم يكن فارسيا لم يتزوجها وهذه مناقضة شنيعة لأنه ذكر علة ومعلولا يوجد بوجودها وترتفع بارتفاعها ثم ذكر أنها توجد من غير أن يوجد معلولها قلت أرباب هذا الفن يقولون لا بد من معرفة الأصول التي يحكم عليها لئلا يغلط الحاكم ويذهب كلامه إن لم يعرف الأصول وهى الجنس والشريعة والأخلاق والعادات مما يحتاج المنجم إن يحصلها ثم يحكم عليها وكذلك قال بطليموس أنه يجب على المنجم النظر في صور الأبدان وخواص حالات الأنفس
(2/399)
واختلاف العادات والسنن قال ويجب على من نظر في هذه الأشياء على المذهب الطبيعي إن يتشبث أبدا بالأسباب الأول الصحيحة لئلا يغلط بسبب اشتباه المواليد فيقول مثلا أن المولود في بلاد الحبش يكون أبيض اللون سبط الشعر وأن المولود في بلاد الروم أسود اللون جعد الشعر أو يغلط أيضا في السنن والعادات التي يخص بها بعض الأمم في الباه فيقول مثلا أن الرجل من أهل انطاكية يتزوج بأخته وكان الواجب أن ينسب ذلك الفارسي وفي الجملة ينبغي أن يعلم أولا حالات القضاء الكلى ثم يأخذ حالات القضاء الجزئي ليعلم منها الأمر في الزيادة والنقصان وكذلك يجب ضرورة أن يقدم في قسمة الأزمان أصناف الأسنان الزمانية وموافقتها لكل واحد من الأحداث وأن يتفقد أمرها لئلا يغلط في وقت من الأوقات في الأعراض العامة البسيطة التي ينظر فيها في المواليد فيقول أن الطفل يباشر الأعمال أو يتزوج أو يفعل شيئا من الأشياء التي يفعلها من هو أتم سنا منه وأن الشيخ الفاني يولد له أو يفعل شيئا من أفعال الأحداث وهذا ونحوه يدل على أن الأمور وغيرها إنما هي بحسب اختلاف العوائد والبلاد وخواص الأنفس واختلاف الأسنان والأغذية وقواها أيضا مما فيها تأثير قوى وكذا الهواء والتربة واللباس وغيرها كل هذه لها تأثير في الأخلاق والأعمال وأكبرها العوائد والمربا والمنشأ فإحالة هذه الأمور على الكواكب والطالع والمقارنة والمفارقة والمناظر من أبين الجهل ولهذا اضطر إمام المنجمين ومعلمهم إلى مراعات هذه الأمور وأخبر أن الحاكم بدون معرفتها والتشبث بها يكون مخطئا وحينئذ فالطالع المعتبر المؤثر إنما هو طالع العوائد والسنن والبلاد وخواص هيأت النفوس الإنسانية وقوى أغذية أبدانها وهوائها وتربتها وغير ذلك مما هو مشاهد بالعيان تأثيره في ذلك أفليس من أبين الجهل الإعراض عن هذه الأسباب والحوالة على حركات النجوم واجتماعها وافتراقها ومقابلتها في تربيع أو تثليث أو تسديس مما لوصح لكان
(2/400)
غايته ان يكون جزء سبب من الأسباب التي تقتضي هذه الآثار ثم إن لها من المقارنات والمفارقات والصوارف والعوارض مالا يحصى المنجم القليل من عشر معشاره أفليس الحكم بمجرد معرفة جزء من أجزاء السبب بالظن والحدس والتقليد لمن حسن ظنه به حكم كاذب ولهذا كذب المنجم أضعاف أضعاف صدقه بكثير حتى صداق أن بعض الزراقين وأصحاب الكشف وأرباب الفراسة والجزائين أكثر من صدق هؤلاء بكثير وما ذاك إلا لأن المجهول من جمل الأسباب وما يعارضها ويمنع تأثيرها أكثر من المعلوم منها فكيف لا يقع الكذب والخطأ بل لا يكاد يقع الصدق والصواب إلا على سبيل التصادف ونحن لا ننكر ارتباط المسببات بأسبابها كما ارتكبه كثير من المتكلمين وكابروا العيان وجحدوا الحقائق كما أنا لا نرضى بهذيانات الأحكاميين ومحالاتهم بل نثبت
(2/401)
الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ونبين مع ذلك بطلان ما يدعونه من علم أحكام النجوم وأنها هي المدبرة لهذا العالم المسعدة المشقية المحيية المميتة المعطية للعلوم والأعمال والأرزاق والآجال وأن نظركم في هذا العالم موجب لكم من علم الغيب ما انفردتم به عن سائر الناس وليس في طوائف الناس أقل علما بالغيب منكم بل انتم أجهل الناس بالغيب على الإطلاق ومن اعتبر حال حذقائكم وعلمائكم واعتمادهم على ملاحم مركبة من إخبارات بعض الكهان ومنامات وفراسات وقصص متوارثة عن أهل الكتاب وغيرهم ومزج ذلك بتجارب حصلت مع اقترانات نجومية واتصالات كوكبية يعلم بالحساب حصولها في وقت معين فقضيتم بحصول تلك الآثار أو نظيرها عندها إلى أمثال ذلك من أسباب علم تقدمه المعرفة التي قد جرب الناس منها مثل ماجربتم فصدقت تارة وكذبت تارة فغاية الحركات النجومية والاتصالات الكوكبية أن تكون كالعلل والأسباب المشاهدة التي تأثيراتها موقوفة على انضمام أمور أخرى إليها وارتفاع موانع تمنعها تأثيرها فهي أجزاء أسباب غير مستقلة ولا موجبة هذا لو أقمتم على تأثيرها دليلا فكيف وليس معكم إلا الدعاوى وتقليد بعضكم بعضا واعتراف حذاقكم بأن الذي يجهل من بقية الأسباب المؤثرة ومن الموانع الصارفة أعظم من المعلوم منها بأضعاف مضاعفة لا يدخل تحت الوهم فكيف يستقيم لعاقل الحكم بعد هذا وهل يكون في العالم أكذب منه قال صاحب الرسالة وإذا كان الفلك متى تشكل شكلا ما دل إن كان في مولد مصري على أنه يتزوج أخته فذلك سنة كانت لهم وعادة وإن كان في مولد غيره لم يدل على ذلك ونحن نجد أهل مصر في وقتنا هذا قد زالوا عن تلك العادة وتركوا تلك السنة بدخولهم في الإسلام والنصرانية واستعمالهم أحكامهما فيجب أن تسقط هذه الدلالة من مواليدهم لزوالهم عن تلك العادة أو تكون الدلالة توجب ذلك في مولد كل أحد منهم ومن غيرهم أو تسقط الدلالة وتبطل بزوال أهل مصر عما كانوا عليه وكذلك جمهور أهل
(2/402)
فارس وأي ذلك كان فهو دال على قبيح المناقضة وشدة المغالطة وقد رأيت وجههم بطليموس يقول في كتابه المعروف بالأربعة فيحدث كذا وكذا توهمنا أنه يكون كذا وكذا قلت الذي صرح به بطليموس إن علم أحكام النجوم بعد استقصاء معرفة ما ينبغي معرفته إنما هو على جهة الحدس لا العلم واليقين فمن ذلك قوله هذا وبالجملة فإن جميع علم حال هذا العنصر إنما يستقيم أن يلحق على جهة الظن والحدس لا على جهة اليقين وخاصة منه ما كان مركبا من أشياء كثيرة غير متشابهة قال شارح كلامه وإنما ذهب إلى ذلك لأن الأفعال التي تصدر عن الكواكب إنما هي بطريق العرض وإنها لا تفعل بذواتها شيئا والدليل على ذلك قوله في الباب الثاني من كتاب الأربعة وإذا كان الإنسان قد استقصى معرفة حركة جميع الكواكب والشمس والقمر حتى أنه لا يذهب عليه شيء من المواضع والأوقات التي تحدث لها فيها الأشكال وكانت عنده
(2/403)
معرفة بطبائعها قد أخذها عن الأخبار المتواترة التي تقدمته وأن لم يعلم طبائعها في نفس جواهرها لكن يعلم قواها التي تفعل بها كالعلم بقوة الشمس أنها تسخن وكالعلم بقوة القمر أنها ترطب وكذلك يعلم أمر قوى سائر الكواكب وكان قويا على معرفة أمثال سائر هذه الأشياء لا على المذهب الطبيعي فقط لكن يمكنه أيضا أن يعلم بجودة الحدس خواص الحال التي تكون من امتزاج جميع ذلك قال الشارح وبطليموس يرى أن علم الأحكام إنما يلحق على جهة الحدس لا على جهة اليقين قلت وكذلك صرح أرسطاطا ليس في أول كتابه السماع الطبيعي أنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب فقال لما كانت حال العلم واليقين في جميع السبل التي لها مباديء أو أسباب أو استقصا آت إنما يلزم من قبل المعرفة بهذه فإذا لم تعرف الكواكب على أي وجه تفعل هذه الأفاعيل أعني بذاتها أو بطريق العرض ولم تعرف ما هيتها وذواتها لم تكن معرفتنا بالشيء أنه يفعل على جهة اليقين وهذا ثابت بن قرة وهو هو عندهم يقول في كتاب ترتيب العلم وأما علم القضاء من النجوم فقد اختلف فيه أهله اختلافا شديدا وخرج فيه قوم إلى ادعاء مالا يصح ولا يصدق بما لا اتصال له بالأمور الطبيعية حتى أدعوا في ذلك ما هو من علم الغيب ومع هذا فلم يوجد منه إلى زماننا هذا قريب من التمام كما وجد غيره هذا لفظه مع حسن ظنه به وعدله في العلوم وهذا أبو نصر الفارابي يقول واعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت السعد نحسا والنحس سعدا والحار باردا والبارد حارا والذكر أنثى والأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطيء تارة وهذا أبو على بن سينا قد أتى في آخر كتابه الشفاء في رد هذا العلم وإبطاله بما هو موجود فيه وقرأت بخط رزق الله المنجم وكان من زعمائهم في كتاب المقايسات لأبي حيان التوحيدي مناظرة دارت بين جماعة من فضلائهم جمع جمعهم بعض المجالس فذكرتها مخلصة ممالا يتعلق بها بل ذكرت مقاصدها قال
(2/404)
أبو حيان هذه مقايسة دارت في مجلس أبي سليمان محمد بن ظاهر بن بهرام السجستاني وعنده أبو زكريا الصيمري والبوشنجاني أبو الفتح وأبو محمد العروضي وأبو محمد المقدسى والقوطسي وغلام زحل وكل واحد من هؤلاء إمام في شأنه فرد في صناعته فقيل في المجلس لم خلا علم النجوم من الفائدة والثمرة وليس علم من العلوم كذلك فإن الطب ليس على هذه الحال ثم ذكرت فائدته والمنفعة به وكذلك الحساب والنحو والهندسة والصنائع ذكرت وذكرت منافعها وثمراتها ثم قال السائل وليس علم النجوم كذلك فإن صاحبه إذا استقضى وبلغ الحد الأقصى في معرفة الكواكب وتحصيل سيرها واقترانها ورجوعها ومقابلتها وتربيعها وتثليثها وتسديسها وضروب مزاجها في مواضعها من بروجها وأشكالها ومطالعها ومعاطفها ومغاربها ومشارقها ومذاهبها حتى إذا
(2/405)
حكم أصاب وإذا أصاب حقق وإذا حقق جزم وإذا جزم حتم فإنه لا يستطيع البتة قلب شيء عن شيء ولا صرف شيء عن شيء ولا تبعيد حال قد دنت ولا نفي خلة قد كتبت ولا رفع سعادة قد حمت وأظلت أعنى أن أمرءا ما لا يقدر على أن يجعل الإقامة سفرا ولا الهزيمة ظفرا ولا العقد حلا ولا الإبرام نقضا ولا اليأس رجاء ولا الإخفاق دركا ولا العدو صديقا ولا الولي عدوا ولا البعيد قريبا ولا القريب بعيدا فكان العالم به الحاذق المتناهي في خفياته بعد هذا التعب والنصب وبعد هذا الكد والدأب وبعد هذه الكلفة الشديدة والمعرفة الغليظة هو ملتزم للمقدار مستجد لما يأتي به الليل والنهار وعادت حاله مع علمه الكثير إلى حال الجاهل بهذا العلم الذي انقياده كانقياده واعتباره كاعتباره ولعل توكل الجاهل أحسن من توكل العالم به ورضاه في الخير المشتهي ونجاته من الشر المتقي أقوى وأصح من رجاء هذا المدل بزيجه وحسابه وتقويمه واسطر لا به ولهذا لما لقي أبو الحسين النوري ما نيا المنجم قال له أنت تخاف زحل وأنا أخاف رب زحل وأنت ترجو المشترى وأنا أعبد رب المشترى وأنت تعدو بالإشارة وأنا أعدو بالاستخارة فكم بيننا وهذا أبو شروان وكان من الملوك الأفاضل كان لا يرفع بالنجوم رأسا فقيل له في ذلك فقال صوابه يشبه الحدس وخطأه شديد على النفس فمتى أفضى هذا الفاضل النحرير والحاذق البصير إلى هذا الحد والغاية كان علمه عاريا من الثمرة خاليا من الفائدة حائلا عن النتيجة بلا عائدة ولا مرجوع وإن أمراأوله على ما قررناه وآخره على ما ذكرناه لحري أن لايشغل الزمان به ولا يوهب العمر له ولا يعار الهم والكد ولا يعاج عليه بوجه ولا سبب هذا إن كانت الأحكام صحيحة مدركه محققة ومصابة ملحقة معروفة محصلة ولم يكن المذهب على ما زعم أرباب الكلام والذين يأبون تأثير هذه الأجرام العالية في الأجسام السافلة وينفون الوسائط بينهما والوصائل ويدفعون الفواعل والقوابل ثم السؤال فأجاب كل من هؤلاء
(2/406)
بما سنح له فقال قائل منهم عن هذا السؤال المهول جوابان أحدهما هو زجر عن النظر فيه لئلا يكون هذا الإنسان مع ضعف تجربته واضطراب غريزته وضعف بنيته علا على ربه شريكا له في غيبه متكبرا على عباده ظانا بأنه فيما يأتي من شأنه قائم بجده وقدرته وحوله وقوته وتشميره وتقليصه وتهجيره وتقريبه فأن هذا النمط محجز الإنسان عن الخشوع لخالقه والإذعان لربه ويبعده عن التسليم لمدبره ويحول بينه وبين طرح الكاهل بين يدي من هو أملك له وأولى به وأما الجواب الآخر فهو بشرى عظيمة على نعمة جسيمة لمن حصل له هذا العلم وذلك سر لو اطلع عليه وغيب لو وصل إليه لكان ما يجده الإنسان فيه من الروح والراحة والخير في العاجلة والآجلة تكفيه مؤنه هذا الخطب الفادح وتغنيه عن تجشم هذا الكد الكادح فاجعل أيها المنكر لشرف هذا العلم
(2/407)
قبل عينك ما تخفي عليك خفيه ومكنونه تذللا لله تقدس اسمه فيما استبان لك معلومه ووضح عندك مظنونه ثم قال أعلم أن العلم به حق ولكن الإصابة بعيدة وليس كل بعيد محالا ولا كل قريب صوابا ولا كل صواب معروفا ولا كل محال موصوفا وإنما كان العلم حقا والاجتهاد فيه مبلغا والقياس فيه صوابا وبذل السعي دونه محمودا لاشتبال هذا العالم السفلي بذلك العالم العلوي واتصال هذه الأجسام القابلة بتلك الأجسام الفاعلة واستحالة هذه الصور بحركات تلك المحركات المشاكلة بالوحدة وإذا صح هذا الاتصال والتشابك وهذه الحبال والروابط صح التأثير من العلوي وقبول التأثير من السفلي بالمواضع الشعاعية وبالمناسبات الشكلية والأحوال الخفية والجلية وإذا صح التأثير من المؤثر وقبوله من القابل صح الاعتبار واستتب القياس وصدق الرصد وثبت الإلف واستحكمت العادة وانكشفت الحدود وانشالت العلل وتعاضدت الشواهد وصار الصواب غامرا والخطأ مغمورا والعلم جوهرا راسخا والظن عرضا زائلا فقيل هل تصح الأحكام أم لا فقال الأحكام لا تصح بأسرها ولا تبطل من أصلها وذلك سبب يتبين إذا أنعم النظر وبسط الإصغاء وصمد نحو الفائدة بغير متابعة الهوى وايثار التعصب ثم قال الأمور الموجودة على ضربين ضرب له الوجود الحق وضرب له الوجود ولكن ليس الوجود الحق فأما الأمور الموجودة بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود الحق وأما الأمور الموجودة لا بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود وارتجعت منها حقيقية ذلك فالحكم بالاعتبار الفاحص عن هذه الأسرار إن أصاب فبسبب الوجود الذي هو هذا العالم السفلي من ذلك العالم العلوي وإن أخطأ فبآفات هذا العالم السفلي من ذلك العالم العلوي والإصابة في هذه الأمور السيالة المتبدلة عرض والإصابة في أمور الفلك جوهر وقد يكون هناك ما هو كالخطأ ولكن بالعرض لا بالذات كما يكون ههنا لا هو بالصواب والحق لكن بالعرض لا بالذات فلهذا صح بعض الأحكام وبطل بعضها
(2/408)
ومما يكون شاهدا لهذا أن هذا العالم السفلي مع تبدله في كل حالة واستحالته في كل طرف ولمح متقبل لذلك العالم العلوي يتحرك شرقا إلى كماله وعشقا لجماله وطلبا للتشبه به وتحققا بكل ما أمكن من شكله فهو بحق التقبل معط هذا العالم السفلي ما يكون به مشابها للعالم العلوي وبهذا التقبل يقبل الإنسان الناقص الكامل ويقبل الكامل من البشر الملك ويقبل الملك الباري جل وعز قال آخر إنما وجب هذا التقبل والتشبه لأن وجود هذا العالم وجود متهافت مستحيل لا صورة له ثابتة ولا شكل دائم ولا هيئة معروفة وكان من هذا الوجه فقيرا إلى ما يمده ويشده فأما مسحه فهو موجود وثابت مقابل لذلك العالم الموجود الثابت وإنما عرض ما عرض لأن أحدهما مؤثرة والآخر قابل فبحق هذه المرتبة ما وجد التواصل وقال
(2/409)
آخر قد يغفل مع هذا كله المنجم اعتبار حركات كثيرة من أجرام مختلفة لأنه يعجز عن نظمها وتقويمها ومزجها وتسييرها وتفصيل أحوالها وتحصيل خواصها مع بعد حركة بعضها وقرب حركة بعضها وبطئها وسرعتها وتوسطها والتفاف صورها والتباس تقاطعها وتداخل أشكالها ومن الحكمة في هذا الإغفال أن الله تقدس اسمه يتم بذلك القدر المقفل والقليل الذي لا يؤبه والكثير الذي لا يحاول البحث عنه أمرؤ لم يكن في حسبان الخلق ولا فيما أعملوا فيه القياس والتقدير والتوهم ولهذا يحكم هذا الحاذق في صناعته لهذا الملك وهذا الماهر في عمله لهذا الملك ثم يلتقيان فتكون الدائرة على أحدهما مع شدة الوقاع وصدق المصاع هذا وقد حكم له بالظفر والغلب وقال آخر وهو البوشنجاني إنما يؤتي أحد الحاكمين لأحد السائلين لا من جهة غلط يكون في الحساب ولا من قلة مهارة في العمل ولكن يكون في طالعه إن لا يصيب في ذلك الحكم ويكون في طالع الملك إن لا يصيب منجمه في تلك الحرب فمقتضى حاله وحال صاحبه يحول بينه وبين الصواب ويكون الآخر مع صحة حسابه وحسن إدراكه قد وجب في طالع نفسه وطالع صاحبه ضد ذلك فيقع الأمر الواجب ويبطل الآخر الذي ليس بواجب وقد كان المنجمان من جهة العلم والحساب أعطيا للصناعة حقها ووفيا ما عليهما ووقفا موقفا واحدا على غير مزية بينة ولا علة قائمة قال آخر ولو لا هذه البقية المندفنة والغاية المستترة التي استأثر الله بها لكان لا يعرض هذا الخطأ مع صحة الحساب ودقة النظر وشدة الغوص وتوفي المطلوب ومع غلبة الهوى والميل إلى المحكوم له وهذه البقية دائرة في أمور هذا الخلق فاضلهم وناقصهم و متوسطهم في دقيقها وجليلها وصعبها ومن كان له في نفسه باعث على التصفح والنظر والبحث والاعتبار وقف على ما أومأت إليه وسلم وبحكمة جليلة ضرب الله دون هذا العلم بالاسداد وطوي حقائقه عن أكثر العباد وذلك أن العلم بما سيكون ويحدث ويستقبل علم حلو عند النفس وله موقع عند العقل
(2/410)
فلا أحد إلا وهو يتمنى إن يعلم الغيب ويطلع عليه ويدرك ما سوف يكون في غد وبجد سبيلا إليه ولو ذلل السبيل إلى هذا الفن لرأيت الناس يهرعون إليه ولا يؤثرون شيئا آخر عليه لحلاوة هذا العلم عند الروح ولصوقه بالنفس وغرام كل أحد به وفتنة كل إنسان فيه فبنعمة من الله لم يفتح هذا الباب ولم يكشف دونه الغطاء حتى يرتقي كل أحد روضة ويلزم حده ويرغب فيما هو أجدى عليه وأنفع له أما عاجلا وأما آجلا فطوى الله عن الخلق حقائق الغيب ونشر لهم نبذا منه وشيئا يسيرا يتعللون به ليكون هذا العلم محروصا عليه كسائر العلوم ولا يكون مانعا من غيره قال فلولا هذه البقية التي فضحت الكاملين وأعجزت القادرين لكان تعجب الخلق من غرائب الأحداث وعجائب الصروف وطرائف الأحوال عبثا وسفها
(2/411)
وتوكلهم على الله لهوا ولعبا فقال آخر وهذا يتضح بمثال وليكن المثال أن ملكا في زمانك وبلادك واسع الملك عظيم الشأن بعيد الصيت سابغ الهيبة معروفا بالحكمة مشهورا بالحزم يضع الخير في مواضعه ويوقع الشر في مواقعه عنده جزاء كل سيئة وثواب كل حسنة قد رتب لبريده أصلح الأولياء له وكذلك نصب لجباية أمواله أقوم الناس بها وكذلك ولى عمارة أرضه أنهض الناس بها وشرف آخر بكتابته وآخر بوزارته وآخر بنيابته فإذا نظرت إلى ملكه وجدته مؤزرا بسداد الرأي ومحمود التدبير وأولياؤه حواليه وحاشيته بين يديه وكل يحف إلى ما هو منوط به ويستقصي طاقته ويبذل فيه والملك يأمر وينهى ويصدر ويورد ويثيب ويعاقب وقد علم صغير أوليائه وكبيرهم ووضيع رعاياه وشريفهم ونبيه الناس وخاملهم أن الأمر الذي تعلق بكذا وكذا صدر من الملك إلى كاتبه لأنه من جنس الكتابة وعلائقها وما يدخل في شرائطها ووثائقها والأمر الآخر صدر إلى صاحب بريده لأنه من أحكام البريد وفنونه والأمر الآخر ألقى إلى صاحب المعونة لأنه من جنس ما هو مرتب له منصوب من أجله والحديث الآخر صدر إلى القاضي لأنه من باب الدين والحكم والفصل وكل هذا مسلم إلى الملك لا يفتات عليه في شيء منه ولا يستبد بشيء دونه فالأحوال على هذا كلها جارية على أصولها وقواعدها في مجاريها لا يرد شيء منها إلى غير شكله ولا يرتقي إلى غير طبقته فلو وقف رجل له من الحزم نصيب ومن اليقظة قسط على هذا الملك الجسيم وتصفح أبوابه بابا بابا وحالا حالا وتخلل بيتا بيتا ورفع سجفا سجفا لا يمكنه أن يعلم بما يثمره له هذا النظر وميزه له هذا القياس وأوقعه عليه هذا الحدس ما سيفعله هذا الملك غدا وما يتقدم به إلى شهر وما يكاد يكون منه إلى سنة وسنتين لأنه يعاني الأحوال ويقايس بينها ويلتقط ألفاظ الملك ولحظاته وإشاراته وحركاته ويقول في بعضها رأيت الملك يفعل كذا وكذا وبفعل كذا وكذا وهذا يدل على كذا وكذا وإنما جرأه هذه الجرأة على
(2/412)
هذا الحكم والبت أنه قد ملك لحظ الملك ولفظه وحركته وسكونه وتعريضه وتصريحه وجده وهزله وشكله وسجيته وتجعده واسترساله ووجومه ونشاطه وانقباضه وانبساطه وغضبه ورضاه ثم هجس في نفس هذا الملك هاجس وخطر بباله خاطر فقال أريد أن أعمل عملا وأوثر أثرا وأحدث حالا لا يقف عليها أوليائي ولا المطيعون لي ولا المختصون بقولي ولا المتعلقون بحبالي ولا أحد من أعدائي المتتبعين لأمري والمحصين لأنفاسي ولا أدرى كيف افتتحه ولا اقترحه لأني متى تقدمت في ذلك إلى كل من يلوذ بي ويطوف بناحيتي كان الأمر في ذلك نظير جميع أموري وهذا هو الفساد الذي يلزمني تجنبه ويجب على التيقظ فيه فيقدح له الفكر الثاقب انه ينبغي أن يتأهب للصيد ذات يوم فيتقدم بذلك ويذيعه فيأخذ أصحابه
(2/413)
وخاصته في أهبة ذلك واعداد الآلة فإذا تكامل ذلك له أصحر للصيد وتقلب في البيداء وصمم على ما يلوح له وأمعن وراءه وركض خلفه جواده ونهى من معه أن يتبعه حتى إذا وغل في تلك الفجاج الخاوية والمدارج المتنائية وتباعد عن متن الجادة ووضح المحجة صادف أنسانا فوقف وحاوره وفاوضه فوجده حصينا محصلا يتقدفهما فقال له أفيك خير فقال نعم وهل الخير إلافي وعندي وإلا معي الق إلى ما بدا لك وخلني وذلك فقال له إن الواقف عليك المكلم لك ملك هذا الإقليم فلا ترع وأهدأ فقال السعادة فيضتني لك والجد أطلعك على فيقول له الملك أني أريد أن أطلعك لأرب في نفسي وأبلغ بك إن بلغت لي ذلك أريد أن تكون عينا لي وصاحبا لي نصوحا وأطوي سري عن سلخ فؤادك فضلا عن غيره فإذا بلغ منه التوثقة والتوكيد ألقي إليه ما يأمره به ويحثه على السعي فيه وأزاح علته في جميع ما يتعلق المراد به ثم ثني عنان دابته إلى وجه عسكره وأوليائه والحق بهم فقضى وطره ثم عاد إلى سريره وليس عند أحد من رهطه وبطانته وغاشيته وخاصته وعامته علم بما قد أسره إلى ذلك الإنسان فبينما الناس على مكانهم وغفلاتهم إذ أصبحوا ذات يوم في حادث عظيم وخطب جسيم وشأن هائل فكل يقول ذلك عند ذلك ما أعجب هذا من فعل هذا متى تهيأ هذا هذا صاحب البريد ليس عنده منه أثر هذا صاحب المعونة وهو عن الخبر بمعزل وهذا الوزير الأكبر وهو متحير وهذا القاضي وهو متفكر وهذا حاجبه وهو ذاهل وكلهم عن الأمر الذي دهم غافل وقد قضى الملك مأربته وأدرك حاجته وطلب بغيته ونال غرضه فلذلك ينظر المنجم إلى زحل والمشتري والمريخ والشمس والقمر وعطارد والزهرة وإلى البروج وطبائعها والرأس والذنب وتقاطهما والهيلاج والكامداه وإلى جميع ماداني هذا وقاربه وكان له فيه نتيجة وثمرة فيحسب ويمزج ويرسم فينقلب عليه أشياء كثيرة من سائر الكواكب التي لها حركات بطيئة وآثار مطوية فينبعث فيما أهمله وأغفله وأضرب عنه لم يتسع له ما يملك عليه حسه
(2/414)
وعقله وفكره ورويته حتى لا يدري من أين أتى ومن أين دهى وكيف انفرج عليه الأمر وأنسد دونه المطلب وفات المطلوب وعزب عنه الرأي هذا ولا خطأ له في الحساب ولا نقص في قصد الحق وهذا كي يلاذ بالله وحده في الأمور كلها ويعلم أنه مالك الدهور ومدبر الخلائق وصاحب الدواعي والعلائق والقائم على كل نفس والحاضر عند كل نفس وأنه إذا شاء نفع وإذا شاء ضر وإذا شاء عافا وإذا شاء أسقم وإذا شاء أغنى وإذا شاء أفقر وإذا شاء أحيا وإذا شاء أمات وأنه كاشف الكربات مغيث ذوي اللهفات قاضي الحاجات مجيب الدعوات ليس فوق يده يد وهو الأحد الصمد على الأبد والسرمد وقال آخر هذه الأمور وإن كانت منوطة بهذه العلويات
(2/415)
مربوطة بالفلكيات عنها تحدث ومن جهتها تنبعث فإن في عرضها مالا يستحق أن ينسب إلى شيء منها إلا على وجه التقريب ومثال ذلك ملك له سلطان واسع ونعمة جمة فهو يفرد كل أحد بما هو لائق به وبما هو ناهض فيه فيولي بيت المال مثلا خازنا أمينا كافيا شهما يفرق على يده ويخرج على يده ثم أن هذا الملك قد يضع في هذه الخزانة شيئا لا علم للخازن به وقد يخرج منها شيئا لا يقف الخازن عليه ويكون هذا منه دليلا على ملكه واستبداده وتصرفه وقدرته وقال آخر لما كان صاحب علم النجوم يريد أن يقف على أحداث الزمان ومستقبل الوقت من خير وشر وخصب وجدب وسعادة ونحس وولاية وعزل ومقام وسفر وغم وفرح وفقر ويسار ومحبة وبغض وجدة وعدم ووجدان وعافية وسقم وإلفة وشتات وكساد ونفاق وإصابة وإخفاق وحياة وممات وهو إنسان ناقص في الأصل لأن نقصانه بالطبع وكماله بالعرض ومع هذه الحال المحوطة بالنسخ المعروفة بالظن قد بارى بارئه ونازع ربه وتتبع غيبه وتحلل حكمه وعارض مالكه فحرمه الله فائدة هذا العلم وصرفه عن الانتفاع به والاستثمار من شجرته وإضافة إلى من لا يحيط بشيء منه ولا يخل بشيء فيه ونظمه في باب القسر والقهر وجعل غاية سعيه فيه الخيبة ونهاية علمه به الحيرة وسلط عليه في صناعته الظن والحدس والحيلة والزرق والكذب والختل ولو شئت لذكرت لك من ذلك صدرا وهو مثبوت في الكتب ومنثور في المجالس ومتداول بين الناس فلذلك وأشباهه حط رتبته ورده على عقيبه ليعلم أنه لا يعلم إلا ما علم وأنه ليس له أن يتخطى بما علم على ما جهل فإن الله سبحانه لا شريك له في غيبه ولا وزير له في ربو بيته وأنه يؤنس بالعلم ليطاع ويعبد ويوحش بالجهل ليفزع إليه ويقصد عز ربنا وجل إلها وتقدس مشارا إليه وتعالى معتمدا عليه وقال آخر وهو العروضي قد يقوى هذا العلم في بعض الدهر حتى يشغف به ويدان بتعلمه بقوة سماوية وشكل فلكي فيكثر الاستنباط والبحث وتشتد العناية والفكر فتغلب الإصابة حتى يزول
(2/416)
الخطأ وقد يضعف هذا العلم في بعض الدهر فيكثر الخطأ فيه بشكل آخر يقتضي ذلك حتى يسقط النظر فيه ويحرم البحث عنه ويكون الدين حاضر الطلب والحكم به وقد يعتدل الأمر في دهر آخر حتى يكون الخطأ في قدر ذلك الصواب والصواب في قدر الخطأ وتكون الدواعي والصوارف متكافئة ويكون الدين لا يحث عليه كل الحث ولا يحظر على طالبه كل الحظر قال وهذا إذا صح تعلق الأمر كله بما يتصل بهذا العالم السفلي من ذلك العالم العلوي فإذا الصواب والخطأ محمولان على القوى المثبتة والأنوار الشائعة والآثار الذائعة والعلل الموجبة والأسباب المتوافية وقال آخر وهو البوشنجاني أيها القوم اختصروا الكلام وقربوا البقية فإن الإطالة مصدة عن الفائدة مضلة للفهم والفطنة هل تصح الأحكام فقال غلام زحل ليس عن هذا جواب
(2/417)
يثبت على كل وجه فصل ولم يبن ذلك قال لأن صحتها وبطلانها يتعلقان بآثار الفلك وقد يقتصى شكل الفلك في زمان أن لا يصح منها شيء وأن غيص على دقائقها وبلغ إلى أعماقها وقد يزول ذلك الشكل في وقت آخر إلى أن يكثر الصواب فيها والخطأ ويتقاربان ومتى وقف الأمر على هذا الحد لم يثبت على قضاء ولم يوثق بجواب وقال آخر أن الله تعالى وتقدس اخترع هذا العالم وزينه ورتبه وحسنه ووشحه ونظمه وهذبه وقومه وأظهر عليه البهجة وأبطن في أثنائه الحكمة وحقه بم اضطر العقول إلى تصفحه ومعرفته وحشاه بكل ما حاش النفوس إلى علمه وتعليمه والتعجب من أعاجيبه وأمتع الأرواح بمحاسنه وأودعه أمورا واستحزنه أسرارا ثم حرك الألباب عليها حتى استثارتها ولقطتها وأحبتها وعشقتها ودارت عليها لأنها عرفت بها ربها وخالقها وإلهها وواضعها وصانعها وحافظها وكافلها ثم أنه تعالى مزج بعض ما فيه ببعض وركب بعضه على بعض ونسج بعضه في بعض وأمد بعضه من بعض وأحال بعضه إلى بعض بوسائط من أشخاص وأجناس وطبائع وأنفس وعلوم وعقول وتصرف في ملكه بقدرته وجوده وحكمته لا معيب الفضل ولا معدوم الاختيار ولا مردود الحكمة ولا مجحود الذات ولا محدود الصفات سبحانه وهو مع هذا كله لم يستفد شيئا ولم ينتفع بشيء بل استفاد منه كل شيء وانتفع به كل شيء وبلغ غايته كل شيء بحسب مادته المنقادة وصورته المعتادة ولم يثبت بشيء وثبت به كل شيء فهو الفاعل القادر الجواد الواهب والمنيل المفضل والأول السابق فلما كان الباحث عن العالم العلوي يتصفح سكانه ومعرفة آثاره ومواقعه وأسراره متعرضا لأن يكون مثبتا بها لبارئه مناسبا لربه بهذا الوجه المعروف استحال أن يستفيد بعلمه كما استحال أن يستفيد خالقه بفعله لمن بقصد لصوبه وحكمه لزمه كليته بدت منه وصفته عادت عليه وهذه حال إذا فطن لها وأشرف ببصيرة ثاقبة عليها وتحقق بحقيقتها وترقي للخبرة بسني ما فيها علم اضطرارا عقليا أنها أجل وأعلى وأنفس وأسمى وأدوم
(2/418)
وأبقي من جميع فوائد سابق العلوم التي حازها أولئك العاملون لأن علم أولئك فوائد علومهم فيما حفظ عليهم حد الإنسان وخلقه وعادته وخلقه وشهوته وراحته في اجتلاب نفع ودفع ضرر ونقصت رتبتهم عن ومشابهته والتشبه بخاصته والتحلي بحليته ولذلك جبر الله نقصهم في علمهم بفوائد نالوها ومنافع خبروها فأما من أراد معرفة هذه الخفايا والأسرار من هذه الأجرام والأنوار على ما هيأت له ونظمت عليه فهو حري جدير أن يعري من جميع ما وجده صاحب كل علم في علمه من المرافق والمنافع ويفرد بالحكم من رتبها على ما هي عليه غير مستفيد بذلك فائدة ولا جدوى وهذه لطيفة شريفة متى وقف عليها حق الوقوف وتقبلت حتى التقبل كان المدرك لها أجل من كل فائت وإن عز
(2/419)
لأنها بشرية صارت إلهيه وجسمية استحالت روحانية وطينية انقلبت نوريه ومركب عاد بسيطا وجزء استحال كلا وهذا أمر قلما يهتدي إليه ويتنبه عليه وقال آخر وهو أبو سليمان المنطقي وقد سأله أبو حيان تلميذه عن هذه الأجوبة وما فيها من حق وباطل أن ههنا أنفسا خبيثة وعقولا رديه ومعارف خسيسة لا يجوز لأربابها أن ينشقوا ريح الحكمة أو يتطاولوا إلى غرائب الفلسفة والنهى ورد من أجلهم وهو حق فأما النفوس التي قوتها الحكمة وبلغتها العلم وعدتها الفضائل وعقدتها الحقائق وذخرها الخيرات وعادتها المكارم وهمتها المعالي فأن النهى لم يوجه إليها والعتب لم يوقع عليها وكيف يكون ذلك وقد بان بما تكرر من القول أن فائدة هذا العلم أجل فائدة وثمرته أجل ثمرة ونتيجته أشرف نتيجة فليكن هذا كله كافا عن سوء الظن وكافيا لك فيما وقع فيه القول وطال بين هؤلاء السادة الجحاجحة في العلم والفهم والبيان والنصح انتهت الحكاية فليتأمل من أنعم الله عليه بالعقل والعلم والإيمان وصانه عن تقليد هؤلاء وأمثالهم من أهل الحيرة والضلال ما في هذه المحاورة وما انطوت عليه من اعترافهم بغاية علمهم ومستقر أقدامهم فيه وما حكموا به على أنفسهم من مقتضي حكمة الله فيهم أن يسلبهم ثمرات علوم الناس وفوائدها وأن يكسوهم لباس الخيبة وقهر الناس لهم وإذلالهم إياهم وإن يجعل نصيب كل أحد من العلم والسعادة فوق نصيبهم وأن يجعل رزقهم من أبواب الكذب والظن والزرق وهو أخبث مكاسب العالم ومكسب البغايا وأرباب المواخير خير من مكاسب هؤلاء لأنهم كسبوها بذنوب وشهوات وهؤلاء اكتسبوا ما اكتسبوه بالكذب على الله وادعاء ما يعلمون هم فيه كذب أنفسهم والعجب من شهادتهم على أنفسهم أن حكمة الله سبحانه اقتضت ذلك فيهم لتعاطيهم مشاركته في غيبه والاطلاع على أسرار مملكته وتعديهم طور العبودية التي هي سمتهم إلى طور الربوبية الذي لم يجعل لأحد سبيلا إليه فاقتضت حكمة العزيز الحكيم إن عاملهم بنقيض
(2/420)
قصودهم وعكس مراداتهم وجعل كل واحد فوقهم في كل ملة ورمي الناس باللسان العام والخاص لهم بأنهم أكذب الناس فأنهم هم الزنادقة الدهرية أعداء الرسل وسوس المال وإن طالعهم على من حسن الظن بهم وتقيد بأحكامهم في حركاته وسكناته وتدبيره شر طالع والملك والولاية المسوس بهم أذل ملك وأقله ومن له شيء من تجارب الأمم وأخبار الدول والوزراء وغيرهم فعنده من العلم بهذا ما ليس عند غيره ولهذا الملوك والخلفاء والوزراء الذين لهم قبول في العالم وصيت ولسان صدق هم أعداء هؤلاء الزنادقة كالمنصور والرشيد والمهدى وكخلفاء بني أمية وكالملوك المؤيدين في الإسلام قديما وحديثا كانوا أشد الناس إبعاد لهؤلاء عن أبوابهم ولم تقم لهم سوق في عهدهم إلا عند أشباههم ونظرائهم من كل منافق متستر بالإسلام أو جاهل مفرط
(2/421)
في الجهل أو ناقص العقل والدين وهؤلاء المذكورون في هذه المحاورة لما صحوا وخلا بعضهم ببعض ولم يمكنهم أن يعتمدوا من التلبيس والكذب والزرق مع بعضهم بعضا ما يعتمدونه مع غيرهم تكلموا بما عندهم في ذلك من الإعتراف بالجهل وأن الأمر إنما هو حدس وظن وزرق وأن أحوال العالم العلوي أجل وأعظم من أن تدخل تحت معارفهم وتكال بقفزان عقولهم وأن جهلهم بذلك يوجب ولابد جهلهم الأحكام وأنهم لا توثق لهم بشيء مما فيه لجواز تشكل الفلك بشكل يقتضى بطلان جميع الاحكام وتشكله بشكل يكون بطلانها وصحتها بالنسبة إليه على السواء وليس لهم علم بانتفاء هذا الشكل ولا بوقت حصوله فإنه ليس جاريا على قانون مضبوط ولا على حساب معروف ومع هذا فكيف ينبغي لعاقل الوثوق بشيء من علم أحكامهم وهذه شهادة فضلائهم وأئمتهم ولو أن خصومهم الذين لا يشاركونهم في صناعتهم قالوا هذا القول لم يكن مقبولا كقبوله منهم والحمد لله الذي أشهد أهل العلم والإيمان جهل هؤلاء وحيرتهم وضلالهم وكذبهم وافترئهم بشهادتهم على نفوسهم وعلى صناعتهم وأن استفاد كل ذي علم بعمله وكل ذي صناعة بصناعته أعظم من استفادتهم بعلمهم وأن أحدا منهم لا يمكنه أن يعيش إلا في كنف من لم يحط من هذا العلم بشيء وتحت ظل من هو أجهل الناس ومن العجب قولهم أن طالع أحد الملكين المتغالبين قد يكون مقتضيا أن لا يصيب منجمه في تلك الحرب وطالع المنجم يقتضي خطأه في ذلك الحكم وطالع خصمه ومنجمه بالضد فليعجب ذو اللب من هذا الهذيان وتهافته فإذا كان الطالع مقتضيا أن لا يصيب المنجم في تلك الحرب وقد أعطى الحساب والحكم حقه عند أرباب الفن بحيث يشهد كل واحد منهم أن الحكم ما حكم به أفليس هذا من أبين الدلائل على بطلان الوثوق بالطالع وأن الحكم به حكم بغير علم وحكم بما يجوز كذبه فما في الوجود أعجب من هذا الطالع الصادق الكاذب المصيب المخطيء وأعجب من هذا أن الطالع بعينه يكون قد حكم به لظفر عدو هذا عليه منجمه
(2/422)
فوافق القضاء والقدر ذلك الطالع وذلك الحكم فيكون أحد المنجمين قد أصاب لملكه طالعا وحكما والآخر قد أخطأ لملكه وقد خرجا بطالع واحد وأعجب من هذا كله تشكل الفلك بشكل وحصول طالع سعد فيه باتفاق ملأكم فيحدث معه من علو كلمة من لا يعبؤن به ولا يعدونه وظهور أمرهم واستيلائهم على المملكة والرئاسة والعز والحياة ولهجهم بذمكم وعيبكم وإبداء جهلكم وزندقتكم وإلحادكم محتاجون أن تنضوواإليهم وتعتصموا بحبلهم وتترسوا بهم وتقولون لهم بألسنتكم ما تنطوي قلوبكم على خلاقه مما لو أظهر تموه لكنتم حصائد سيوفهم كما صرتم حصائد ألسنتهم فأي سعد في هذا الطالع لعمري أم أي خير فيه وليت شعري كيف لم يوجب لكم هذا الطالع بارقة من سعادة أو لائحا من عز وقبول ولكن هذه حكمة رب الطالع ومدبر الفلك وما حواه ومسخر الكواكب ومجريها على ما يشاء سبحانه أن جعلكم كالذمة بل أذل منهم تحت قهر عبيده وجعل سهام سعادتهم من كل خير وعلم ورئاسة وجاه أوفر من سهامكم وبيوت شرفهم في هذا العالم اعمر من بيوتكم بل خرب بيوتكم بأيديهم فلا ينعمر منها بيت ألا بالانضمام إليهم والانتماء إلى شريعتهم وملتهم وهذا شأن العزيز الحكيم في الكذابين عليه قال تعالى أن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذله في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة يوم القيامة وهذه المحاورة التي جرت بين أصحاب هذا المجمع هي غاية ما يمكن النجومي أن يقوله ولا يصل إلى ذلك المبرزون منهم ومع هذا فقد رأيت حاصلها ومضمونها ولعلهم لو علموا أن هذه الكلمات تعتد من جماعتهم وتتصل بأهل الإيمان لم ينطقوا منها ببنت شفة ويأبى الله إلا أن يفضح المفترى الكذاب وينطقه بما يبين باطلة 0 فصل قال صاحب الرسالة ذكر جمل من احتجاجهم والاحتجاج عليهم من إوكد
(2/423)
ما يستدلون به على أن الكواكب تفعل في هذا العالم أولها دلالة على ما يحدث فيه انهم امتحنوا عدة مواليد صححوا طوالعها وجماعة مسائل راعوها فوجدوا القضية في جميع ذلك صادقة فدلهم ذلك على أن الأصول التي عملوا عليها صحيحة فيقال لهم إذا كان ما تدعونه من هذا دليلا على صحة الأحكام فما الفضل بينكم وبين من قال الدليل على بطلان الأحكام أن امتحنا مواليد صححنا طوالعها ومسائل تفقدنا أحوالها فوجدنا جميعها باطلا ولم يصح الحكم في شيء منها فإن قالوا إنما يكون هذا لجواز الغلط على المنجم الذي عملها قيل لكم فما تنكرون من أن يكون صدق المنجم في حكمه باتفاق وتخمين كإخراج الزوج والفرد وصدق الحزر في الوزن والكيل والذرع والعدد وإذا كانت الدلالة على صحة مقالتكم صدقكم في بعض أحكامكم فالدلالة على بطلانها كذبكم في بعضها فإن قالوا ليس ما قلناه بتخمين لانا إنما نحكمه على أصول موضوعة في كتب القدماء قيل لهم لسنا نشك في أنكم تتبعون ما في الكتب وتقلدون من تقدمكم وما يقع من الصدق فإنما يقع بحسب الأنفاق والذي حصلتم عليه هو الحدس والتخمين بحسب ما في الكتب ومما يستدل به من ينتسب إلى الإسلام منهم على تصحيح دلالة النجوم قوله تعالى فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ولا حجة في هذا البتة لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما قال هذا ليدفع به قومه عن نفسه ألا ترى أنه عز وجل قال بعد فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون فبين تبارك وتعالى أنه إنما قال ذلك ليدفعهم به لما كان عزم عليه من أمر
(2/424)
الأصنام وليس يحتاج أحد إلى معرفة أصحيح هو أم سقيم من النجوم لأن ذلك يوجد حسا ويعلم ضرورة ولا يحتاج فيه إلى استدلال وبحث قلت قد احتج لهم بغير هذه الحجج فنذكرها ونبين بطلان استدلالهم بها وبيان الباطل منها قال أبو عبد الله الرازى اعلم أن المثبتين لهذا العلم احتجوا من كتاب الله بآيات إحداها الآيات الدالة على تعظيم هذه الكواكب فمنها قوله تعالى فلا أقسم بالخنس والجواري الكنس وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تسير راجعة تارة ومستقيمة أخرى ومنها قوله تعالى فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وقد صرح تعالى بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرفها ومنها قوله تعالى والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب قال ابن عباس الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السموات السبع ومنها أنه تعالى بين ألهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره فقال والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين النوع الثاني الآيات الدلة على أن لها تأثيرا في هذا العالم كقوله تعالى فالمدبرات أمرا وقوله فالمقسمات أمرا قال بعضهم المراد هذه الكواكب النوع الثالث الآيات الدالة على أنه تعالى وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فقال هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقال تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا النوع الرابع أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام انه تمسك بعلوم النجوم فقال فنظرة نظرة في النجوم فقال إني سقيم النوع الخامس أنه قال لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يكون المراد من هذا كبر الجثة لأن كل أحد يعلم ذلك فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف وقال تعالى ويتفكرون في خلق
(2/425)
السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ولا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البقة والبعوضة وفي حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية على وجود الصانع لأن الحياة لا يقدر عليها أحد ألا الله أما تركيب الأجسام وتأليفها فقد يقدر على جنسه غير الله فلما كان هذا النوع من الحكمة حاصلا في غير الأفلاك ثم أنه تعالى خصها بهذا التشريف وهو قوله ربنا ما خلقت هذا باطلا علمنا أن له تعالى في تخليقها أسرارا عالية وحكما بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها ويقرب من هذه الآية قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن
(2/426)
الاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم لأن كونها دالة على الافتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز فهو محدث وكل محدث فإنه مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أمر ثابت لها لذواتها وأعيانها وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل فلم يمكن حمل قوله وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا على هذا الوجه فوجب حمله على الوجه الذي ذكرناه النوع السادس روى أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي على استاذه فدخل عليهم واحد من أجلاف المتفقهة فقال لهم ماذا تقرؤن فقال عمر بن الخيام نحن في تفسير آية من كتاب الله افلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج : النوع السابع أن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع تعالى بقوله ربى الذي يحي ويميت قال له نمرود أتدعى أنه يحي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر أو لا بواسطة هذه الأشياء فان ادعيت الأول فلذلك مما لا تجده البتة لأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما يحدث بواسطة أحوال العناصر الأربعة والحركات الفلكية وإذا ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل منى ومن كل أحد فإن الرجل قد يكون سببا لحدوث الولد لكن بواسطة تمزيج الطبائع وتحريك الأجرام الفلكية ولذلك قد نمت بهذه الوسائط وهذا هو المراد من قوله تعالى حكاية عن الخصم أنا أحي وأميت ثم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أجاب عن هذا السؤال بقوله فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب يعني هب أنه سبحانه إنما يحدث حوادث هذا العالم بواسطة الحركات الفلكية لكنه تعالى هو المبديء للحركات الفلكية لأن تلك الحركات لا بد لها من سبب ولا سبب لها سوى قدرة الله تعالى فثبت أن حوادث هذا العالم وأن سلمنا إنها إنما حصلت بواسطة الحركات الفلكية لكنه لما كان المدبر لتلك الحركات بواسطة الطبائع
(2/427)
وحركات الأفلاك إلا أن حركات الأفلاك ليست منا بدليل أنا لا نقدر على تحريكها على خلاف التحريك الإلهي وظهر الفرق وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب يعنى هب أن هذه الحوادث في هذا العالم حصلت بحركة الشمس من المشرق إلا أن هذه الحركات من الله لأن كل جسم متحرك فلا بد له من محرك وذلك المحرك لست أنت ولا أنا فلم لا نحركها من المغرب فثبت أن اعتماد إبراهيم الخليل عليه السلام في معرفة ثبوت الصانع على الدلائل الفلكية وأنه ما نازع الخصم في كون هذه الحوادث السفلية مرتبطة بالحركات الفلكية واعلم انك إذا عرفت نهج الكلام في هذا الباب علمت أن القرآن مملوء من تعظيم الأجرام الفلكية وتشريف الكرات الكوكبية : وأما الأخبار فكثيرة منها ما روى عن النبي
(2/428)
أنه نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشمس والقمر واستدرهما ومنها أنه لما مات ولده إبراهيم انكسفت الشمس ثم إن الناس قالوا إنما انكسفت لموت إبراهيم فقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة ومنها ما روى ابن مسعود أن النبي ﷺ قال إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فامسكوا وإذا ذكر النجوم فامسكوا ومن الناس من يروى إنه قال لا تسافروا والقمر في العقرب ومنهم من يروى ذلك عن على رضى الله عنه وأن كان المحدثون لا يقبلونه وأما الآثار فكثيرة منها أن رجلا أتاه فقال له إني أريد الخروج في تجارة وكان ذلك في محاق الشهر فقال تريد أن يمحق الله تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج وعن عكرمة أن يهوديا منجما قال له ابن عباس ويحك تخبر الناس بما لا تدرى فقال اليهودي أن لك ابنا وهو في المكتب ويجيء غدا محموما ويموت في اليوم العاشر منه قال ابن العباس ومتى تموت أنت قال في رأس السنة ثم قال لابن عباس قال لا تموت أنت حتى تعمى ثم جاء ابن عباس وهو محموم ومات في العاشر ومات اليهودي في رأس السنة ولم يمت ابن عباس رضى الله عنه حتى ذهب بصره وعن الشعبي رضى الله عنه قال أبو الدرداء والله لقد فارقنا رسول الله وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا ونحن ندعى فيه علما وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة وجاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم وذلك إنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل البيت وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم عليه فأكرمه الله تعالى بهذا العلم وكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم حسب له بهذا الحساب فيقف على حالته وعن ميمون بن مهران أنه قال إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه علم من علم النبوة وعنه أيضا انه قال ثلاث ارفضوهن لا تنازعوا أهل القدر ولا تذكروا أصحاب نبيكم ألا بخير وإياكم
(2/429)
والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة وروى أن الشافعي كان عالما بالنجوم وجاء لبعض جيرانه ولد فحكم له الشافعي أن هذا الولد ينبغي أن يكون على العضو الفلان منه خال صفته كذا وكذا فوجد الأمر كما قال وأيضا انه تعالى حكى عن فرعون أنه كان يذبح أبناه بني إسرائيل ويستحي نساءهم والمفسرون قالوا إن ذلك إنما كان لأن المنجمين أخبروه بأنه سيجيء ولد من بني إسرائيل ويكون هلاكه على يده وهذه الرواية ذكرها محمد بن إسحاق وغيره وهذا يدل على اعتراف الناس قديما وحديثا بعلم النجوم وأما المعقول فهو أن هذا علم ما خلت عنه ملة من الملل ولا أمة من الأمم ولا يعرف تاريخ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهل ذلك الزمان مشتغلين بهذا العلم ومعولين عليه
(2/430)
في معرفة المصالح ولو كان هذا العلم فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وقال بطليموس في بعض كتبه بعض الناس يعيبون هذا العلم وذلك العيب إنما حصل من وجوه الأول عجزهم عن معرفة حقيقة موضع الكواكب بدقائقها ومراتبها وذلك إن الآلات الرصدية لا تنفك عن مسامحات لا يفي بضبطها الحس لأجل قلتها في الآلات الرصدية لكنها وإن قلت هذه الآلات إلا أنها في الأجرام الفلكية كثيرة فإذا تباعدت الأرصاد حصل بسبب تلك المسامحات تفاوت عظيم في مواضع الكواكب الثاني أن هذا العلم علم مبني على معرفة الدلائل الفلكية وتلك الدلائل لا تحصل إلا بتمزيجات أحوال الكواكب وهي كثيرة جدا ثم أنها مع كثرتها قد تكون متعارضة ولا بد فيها من الترجيح وحينئذ يصعب على أكثر الإفهام الإحاطة بتلك التمزيجات الكثيرة وبعد الإحاطة بها فإنه يصعب الترجيحات الجيدة فلهذا السبب لا يتفق من يحيط بهذا العلم كما ينبغي إلا الفرد بعد الفرد ثم أن الجهال يظهرون من أنفسهم كونهم عارفين بهذا العلم فإذا حكموا وأخطؤا ظن الناس أن ذلك بسبب أن هذا العلم ضعيف الثالث أن هذا العلم لا يفي بإدراك الجزئيات على وجه الفصيل الباهر فمن حكم على هذا الوجه فقد يقع في الخطأ فلهذه الأسباب الثلاثة توجهت المطاعن إلى هذا العلم وحكى أن الأكاسرة كان إذا أراد أحدهم طلب الولد أمر بإحضار المنجم ثم كان ذلك الملك يخلو بامرأته فساعة ما يقع الماء في الرحم يأمر خادما على الباب بضرب طستا يكون في يده فإذا سمع المنجم طنين الطست أخذ الطالع وحكم عليه حتى يخبر بعدد الساعات التي يمكث في بطن أمه ثم أنه كان يأخذ الطالع أيضا عند الولادة مرة أخرى ويحكم فلا جرم كانت أحكامهم كاملة قوية لأن الطالع الحقيقي هو طالع مسقط النطفة فإن حدوث الولد إنما يكون في ذلك الوقت فأما طالع الولادة فهو وطالع مستعار لأن الولد لا يحدث في ذلك الوقت وإنما ينتقل من مكان إلى
(2/431)
مكان آخر وروى أن في عهد أردشير بن بابك أنه قال في العهد الذي كتبه لولده لولا اليقين بالبوار الذي على رأس ألف سنة لكنت أكتب لكم كتابا أن تمسكتم به لن تضلوا أبدا وعنى بالبوار ما أخبره المنجمون من أنه يزول ملكهم عند رأس ألف سنة من ملك كستاست والمراد منه زوال دولتهم وظهور دولة الإسلام وروى أنه دخل المفضل ابن سهل على المأمون في اليوم الذي قتل فيه وأخبره أنه يقتل في هذا اليوم بين الماء والنار وأنكر المأمون ذلك عليه وقوى قلبه ثم اتفق أنه دخل الحمام فقتل في الحمام وكان الأمر كما أخبر ثم قال واعلم إن التجارب في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية قلت فهذا أقصى ماقرر به الرازى كلام هؤلاء ومذهبهم ولقد نثر الكنانة ونفض الجعبة واستفرغ الوسع وبذل الجهد وروح وبهرج وقعقع وفرقع وجعجع ولا ترى طحنا وجمع بين ما يعلم بالاضطرار أنه كذب على
(2/432)
رسول الله وعلى أصحابه وبين ما يعلم بالاضطرار أنه خطأ في تأويل كلام الله ومعرفة مراده ولا يروج ما ذكره ألا على مفرط في الجهل بدين الرسل وما جاؤا به أو مقلد لأهل الباطل والمحال من المنجمين و أقاويلهم فإن جمع بين الأمرين شرب كلامه شربا ونحن بحمد الله ومعونته وتأييده نبين بطلان استدلاله واحتجاجه فنقول أما الاستدلال بقوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس فإن أكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تسير راجعة تارة ومستقيمة أخرى وهذا القول قد قاله جماعة من المفسرين وأنها الكواكب الخمسة زحل وعطارد والمشترى والمريخ والزهرة وروى عن على واختاره ابن مقاتل وابن قتيبة قالوا وسماها خنسا لأنها في سيرها تتقدم إلى جهة المشرق ثم تخنس أي تتأخر وكنوسها إستتارها في معربها كما تكنس الظباء وتفر من الوحوش إلى أن تأوي إلى كناسها وهي أكنتها وتسمى هذه الكواكب المتحيرة لأنها تسير مستقيمة وتسير راجعة وقيل كنوسها بالنسبة إلى الناظر وهو استتارها تحت شعاع الشمس وقيل هي النجوم كلها وهو اختيار أبي عبيدة وقال الحسن وقتادة وعلى هذا القول فيكون باعتبار أحوالها الثلاثة من طلوعها وغروبها وما بينهما فهي خنس عند أول الطلوع لأن النجم منها يرى كأنه يبدو ويخنس وتكنس عند غروبها تشبها بالظباء التي تأوي إلى كناسها وهي جوار ما بين طلوعها وغروبها خنس عند الطلوع جوار بعده كنس عند الغروب وهذا كله بالنسبة إلى أفق كل بلد تكون لها فيه الأحوال الثلاثة وقال عبد الله بن مسعود هي بقر الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره سعيد بن جبير وقيل وهو أضعف الأقوال الملائكة حكاه المروزي في تفسيره فإن كان المراد بعض هذه الأقوال غير ما حكاه الرازي فلا حجة له وإن كان المراد ما حكاه فغايته إن يكون الله سبحانه وتعالى قد أقسم بها كما أقسم بالليل والنهار والضحى والوالد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد
(2/433)
ومشهود والنفس والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات والسابقات وما نبصره ومالا نبصره من كل غائب عنا وحاضر مما فيه التنبيه على كمال ربو بيته وعزته وحكمته وقدرته وتدبيره وتنوع مخلوقاته الدالة عليه المرشدة إليه بما تضمنته من عجائب الصنعة وبديع الخلقة وتشهد لفاطرها وبارئها بأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له وأنه الكامل في علمه وقدرته ومشيئته وحكمته وربو بيته وملكه وأنها مسخرة مذللة منقادة لأمره مطيعة لمراده منها ففي الأقسام بها تعظيم لخالقها تبارك وتعالى وتنزيه له عما نسبه إليه أعداؤه الجاحدون المعطلون لربو بيته وقدرته ومشيئتة ووحدانيته وأن من هذه عبيده ومماليكه وخلقه وصنعه وإبداعه فكيف تجحد ربو بيته وألهيته وكيف تنكر صفات كماله ونعوت جلاله وكيف يسوغ لذي حس سليم وفطرة
(2/434)
مستقيمة تعطيلها عن صانعها أو تعطيل صانعها عن نعوت جلاله وأوصاف كماله وعن أفعاله فأقسامة بها أكبر دليل على فساد قول نوعي المعطلة والمشركين الذين جعلوها آلهة تعبد مع دلائل الحدوث والعبودية والتسخير والافتقار عليها وإنها أدلة على بارئها وفاطرها وعلى وحدانيته وأنه لا تنبغي الربوبية والإلهية لها بوجه ما بل لا تنبغي ألا لمن فطرها وبرأها كما قال القائل : تأمل سطور الكائنات فإنها إلى الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل وقال آخر : فوا عجبا كيف يعصي الألهه أم كيف يجحده جاحد لله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فلم يكن إقسامه بها سبحانه مقررا بذلك علم الأحكام النجومية كما يقوله الكاذبون المفترون بل مقررا لكمال ربوبيته ووحدانيته وتفرده بالخلق والابداع وكمال حكمته وعلمه وعظمته وهذا نظير إخباره سبحانه عن خلقها وعن حكمة خالقها بقوله الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وقوله وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون وقوله ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون وقوله إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وقوله وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وهؤلاء المشركون يعظمون الشمس والقمر والكواكب تعظيما يسجدون لها ويتذللون لها ويسبحونها تسابيح معروفة في كتبهم ودعوات لا ينبغي أن يدعى بها إلا خالقها وفاطرها وحده ويقول بعضهم في كتاب مصحف الشمس مصحف القمر
(2/435)
مصحف زحل مصحف عطارد بعضهم يقول تسبيحة الشمس تسبيحة القمر تسبيحة عطارد تسبيحة زحل ولا يتحاشى من ذلك وبعضهم يقول دعوة الشمس دعوة القمر دعوة عطارد دعوة زحل وبعضهم يقول هيكل الشمس والقمر وعطارد وأصله أن الهيكل هو البيت المبني للعبادة وكان الصابئون يبنون لكل كوكب من هذه الكواكب هيكلا ويصورون فيه ذلك الكوكب ويتخذونه لعبادته وتعظيمه ودعائه ويزعمون أن روحانية ذلك الكوكب تتنزل عليهم فتخاطبهم وتقضي حوائجهم وشاهدوا
(2/436)
ذلك منها وعاينوه وتلك الروحانية هي الشياطين تنزلت عليهم وخاطبتهم وقضت حوائجهم ثم لما رام هذا الفعل من تستر منهم بالإسلام ولم يمكنه أن يبني لها بيوتا يعبدها فيه كتب لها دعوات وتسبيحات وأذكارا سماها هيا كل ثم من اشتد تستره وخوفه أخرجها في قالب حروف وكلمات لا تفهم لئلا يبادر انكارها وردها ومن لم يخف منهم صرح بتلك الدعوات والتسبيحات والاذكار بلسان من يخاطبه بالفارسية والعربية وغيرها فلما أنكر عليه أهل الإيمان قال إنما ذكرت هذا معرفة لهذا العلم وإحاطة به لا اعتقادا له ولا ترغيبا فيه وقد وصف ذلك العلم وقرره أتم تقرير وحمله هدية إلى ملكه فأثابه عليه جملة من الذهب يقال أنه ألف دينار وصار ذلك الكتاب إماما لأهل هذا الفن اليه يلجئون وعليه يعولون وبه يحتجون ويقولون شهرة مصنفة وجلالته وعلمه وفضله لا تنكر ولا تجحد وفي هذا الكتاب من مخاطبة الشمس والقمر والكواكب بالخطاب الذي لا يليق إلا بالله عز وجل ولا ينبغي لاحد سواه ومن الخضوع والذل والعبادة التي لم يكن عباد الأصنام يبلغونها من آلهتهم فبالله أتجعل قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجوارى الكنس دليلا على هذا ومقدمة له في أول الكتاب فان كان الإقسام بها دليلا على تأثيراتها في العالم كما يقولون فينبغي أن يكون سائر ما أقسم به كذلك وان لم يكن القسم دليلا بطل الاستدلال به وأما قوله تعالى فلا أقسم بمواقع النجوم ففيها قولان أحدهما أنها النجوم المعروفة وعلى هذا ففي مواقعها أقوال أحدها انه انكدارها وانتشارها يوم القيامة وهذا قول الحسن والمنجمون يكذبون بهذا ولا يقرون به والثاني مواقعها منازلها قاله عطاء وقتادة والثالث انه مغاربها والرابع انه مواقها عند طلوعها وغروبها حكاه ابن عطية عن مجاهد وأبي عبيدة والخامس أن مواقعها مواضعها من السماء وهذا الذى حكاه ابن الجوزى عن قتادة حكاه ابن عطية عنه فيحتمل أن يكونا واحدا وان يكونا قولين السادس أن مواقعها
(2/437)
انقضاضها أثر العفريت وقت الرجوم حكاه ابن عطية ايضا ولم يذكر أبو الفرج ابن الجوزى سوى الثلاثة الأول والقول الثاني أن مواقع النجوم هى منازل القرآن ونجومه التى نزلت على النبي فى مدة ثلاث وعشرين سنة قال ابن عطية ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله انه لقرآن كريم في كتاب مكنون وذلك ان ذكره لم يتقدم الا على هذا التأويل ومن لا يتأول هذا التأويل يقول ان الضمير يعود على القرآن وان لم يتقدم ذكره لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى حتى توارت بالحجاب وكل من عليها فان وغير ذلك قلت ويؤيد القول الأول انه أعاد الضمير بلفظ الإفراد والتذكير ومواقع النجوم جميع فلو كان الضمير عائدا عليها لقال انها لقرآن كريم الا لأن يقال مواقع النجوم دل على القرآن فأعاد الضمير
(2/438)
عليه لأن مفسر الضمير يكتفى فيه بذلك وهو من أنواع البلاغة والايجاز فأن كان المراد من القسم نجوم القرآن بطل استدلاله بالآية وان كان المراد الكواكب وهو قول الأكثرين فلما فيها من الآيات الدالة على ربوبية الله تعالى وانفراده بالخلق والابداع فانه لا ينبغى ان تكون الإلهية ألا له وحده كما انه وحده المتفرد بخلقها وابداعها وما تضمنته من الآيات والعجائب فالإقسام بها أوضح دليل على تكذيب المشركين والمنجمين والدهرية ونوعى المعطلة كما تقدم وكذلك قوله والنجم الثاقب على ان فيه قولين آخرين غير القول الذى ذكره أحدهما أنه الثريا وهذا قول ابن زيد حكاه عنه أبو الفرج بن الجوزى وعنه رواية ثانية انه زحل حكاها عنه ابن عطية والثانى انه الجدى حكاه ابن عطية عن ابن عباس وقول آخر حكاه أبو الفرج بن الجوزى عن على بن أحمد النيسابوري أنه جنس النجوم وأما قوله تعالى فالمدبرات أمرا فلم يقل احد من الصحابة ولا التابعين ولا العلماء بالتفسير انها النجوم وهذه الروايات عنهم فقال ابن عباس هى الملائكة قال عطاء وكلت بأمور عرفهم الله العمل بها وقال عبد الرحمن بن ساباط يدبر أمور الدينا أربعة جبريل وهو موكل بالوحي والجنود وميكائيل وهو موكل بالقطر والنبات وملك الموت وهو موكل بقبض الأنفس واسرافيل وهو ينزل بالأمر عليهم وقيل جبريل للوحي واسرافيل للصور وقال ابن قتيبة فالمدبرات أمرا الملائكة تنزل بالحلال والحرام ولم يذكر المتوسعون في نقل أقوال المفسرين كان الجوزى والماوردى وابن عطية غير الملائكة حتى قال ابن عطية ولا أحفظ فلانا انها الملائكة هذا مع توسعه في النقل وزيادته فيه على ابي الفرج وغيره حتى انه لينفرد بأقوال لا يحكيها غيره فتفسير المدبرات بالنجوم كذب على الله وعلى المفسرين وكذلك المقسمات امرا لم يقل أحد من أهل التفسير العالمين به أنها النجوم بل قالوا هى الملائكة التى تقسم أمر الملكوت باذن ربها من الأرزاق والآجال
(2/439)
والخلق في الأرحام وأمر الرياح والجبال قال ابن عطية لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة قال أبو الطفيل عامر بن وائلة كان على بن أبي طالب علم المنبر فقال لا تسألون عن آية من كتاب الله وسنة ماضية ألا قلت لكم فقام إليه ابن الكواء فسأله عن الذاريات ذروا فالحملات وقرأ فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا فقال الذاريات الرياح والحاملات السحاب والجاريات السفن والمقسمات الملائكة ثم قال سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وكذلك قال أبو الفرج ولم يذكر فيه خلافا في المقسمات امرا يعنى الملائكة تقسم الأمور على ما امر الله به قال ابن السائب المقسمات أربعة جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة يعنى العقوبة على أعداء الرسل وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح وعزرائيل وهو قابض الأرواح فتفسير الآية
(2/440)
بأنها النجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وأما وصفه تعالى بعض الأيام بأنها أيام نحس كقوله فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في ايام نحسات فلا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم لأن النحس أصابهم فيها وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين فهي نحس على المكذبين سعد المؤمنين وهذا كيوم القيامة فإنه عسير على الكافرين يوم نحس لهم يسير على المؤمنين يوم سعد لهم قال مجاهد أيام نحسات مشائيم وقال الضحاك معناه شديد أي البرد حتى كان البرد عذابا لهم قال أبو علي وأنشد الاصمعي في النحس بمعنى البرد : كان سلافة عرضت بنحس يحيل شفيفها الماء الزلالا وقال ابن عباس نحسات متتابعات وكذلك قوله إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر وكان اليوم نحسا عليهم لإرسال العذاب عليهم أي لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل ومستمر صفة للنحس لا لليوم ومن ظن أنه صفة لليوم وانه كان يوم أربعاء آخر الشهر وأن هذا اليوم نحس أبدا فقد غلط واخطأ فهم القرآن فان اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه وكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم وان كان له فيه بلايا ونقم على أعدائه كما يقع ذلك في غيره من الأيام فسعود الأيام ونحوسها إنما هو بسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب ونحوس الأعمال مخالفتها لما جاءت به الرسل واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة ونحس لطائفه كما كان يوم بدر يوم سعد للمؤمنين ويوم نحس على الكافرين فما للكوكب والطالع والقرانات وهذا السعد والنحس وكيف يستنبط علم أحكام النجوم من ذلك ولو كان المؤثر في هذا النحس هو نفس الكوكب والطالع لكان نحسا على العالم فأما أن يقتضي الكوكب كونه نحسا لطائفة سعدا لطائفة فهذا هوالمحال فصل وأما الاستدلال بالآيات الدالة على أن الله سبحانه وضع حركات
(2/441)
هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم بقوله هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق ذلك إلا بالحق وقوله تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا الآية فمن أطرف الاستدلال فأين في هذه الآيات ما يدل على ما يدعيه المنجمون من كذبهم وبهتانهم وافترائهم ولو كان الأمر كما يدعيه هؤلاء الكذابون لكانت الدلالة والعبرة فيه أعظم من مجرد الضياء والنور والحساب ولكان الأليق ذكر ما تقتضيه من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من
(2/442)
الأعمار والأرزاق والآجال والصنائع والعلوم والمعارف والصور الحيوانية والنباتية والمعدنية وسائر ما في هذا العالم من الخير والشر وأما قوله تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سرجا وقمرا منيرا فهو تعظيم وثناء منه تعالى على نفسه بجعل هذه البروج والشمس والقمر في السماء وقد اختلف في البروج المذكورة في هذه الآية فأكثر السلف على أنها القصور أو الكواكب العظام قال ابن المنذر في تفسيره حدثنا موسى حدثنا شجاع حدثنا ابن إدريس عن ابيه عن عطية جعل في السماء بروجا قال قصورا فيها حرس حدثنا موسى حدثنا أبو بكر حدثنا أبو معاوية ووكيع عن اسماعيل عن يحيى بن رافع قال قصورا في السماء حدثنا موسى حدثنا أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن ابي نجيح عن مجاهد قال النجوم يعني بروجا وكذلك قال عكرمة حدثنا أبو أحمد حدثنا يعلي حدثنا إسماعيل عن أبي صالح تبارك الذي جعل في السماء بروجا قال النجوم الكبار وهذا موافق لمعنى اللفظة في اللغة فإن العرب تسمي البناء المرتفع برجا قال تعالى اينما تكونوا يدرككم الموت لو كنتم في بروج مشيدة وقال الأخطل : كأنها برج رومي يشيده بأن بحض وآجر وأحجار قال الأعمش كان أصحاب عبد الله يقرؤنها تبارك الذي جعل في السماء قصورا وأما المتأخرون من المفسرين فكثير منهم يذهب إلى أنها البروج الإثني عشر التي تنقسم عليها المنازل كل برج منزلتان وثلث وهذه المنازل الثمانية والعشرون يبدو منها للناظر أربعة عشر منزلا ابدا ويخفى منها أربعة عشر منزلا كما أن البروج يظهر منها أبدا ستة ويخفى ستة والعرب تسمى أربعة عشر منزلا منها شامية وأربعة عشر يمانية فأول الشامية السرطان وآخرها السماك الأعزل وأول اليمانية الغفر وآخرها الرشا إذا طلع منها منزل من المشرق غاب رقيبه من المغرب وهو الخامس عشر وبها تنقسم فصول السنة الأربع فللربيع منها الحمل والثور والجوزاء ومنازلها الشرطين والبطين والثريا والدبران
(2/443)
والهقعة والهنعة والذراع وللصيف منها السرطان والأسد والسنبلة ومنازلها النثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك وللخريف منها الميزان والعقرب والقوس ومنازلها الغفر والزبان والأكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وللشتاء منها الجدي والدلو والحوت ومنازلها سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرع المقدم ويسمى الأول والفرع المؤخر ويسمى الثاني والرشا ولما كان نزول القمر في هذه المنازل معلوما بالعيان والمشاهدة ونزول الشمس فيها إنما هو بالحساب لا بالرؤية قال تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل وقال تعالى والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم فخص القمر بذكر تقدير المنازل دون الشمس وأن كانت مقدرة المنازل لظهور ذلك للحس في القمر وظهور تفاوت نوره بالزيادة والنقصان في كل منزل ولذلك كان الحساب القمرى أشهر وأعرف عن والأمم وأبعد من الغلط وأصح للضبط من الحساب الشمسى ويشترك فيه الناس دون الحساب الشمسى ولهذا قال تعالى في القمر وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ولم يقل ذلك في الشمس ولهذا كانت اشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام انما هي على حساب القمر وسيره ونزوله في منازله لا على حساب الشمس وسيرها حكمة من الله ورحمة وحفظا لدينه لاشتراك الناس في هذا الحساب وتعذر الغلط والخطأ فيه فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب فهذا الذي اخبرنا تعالى به من شأن المنازل وسير القمر فيها وجعل الشمس سراجا وضياء يبصر به الحيوان ولولا ذلك لم يبصر ألحيوان فأين هذا مما يدعيه الكذابون من علم الأحكام التى كذبها اضعاف صدقها 0
فصل وأما ماذكره عن إبراهيم خليل الرحمن أنه تمسك بعلم النجوم حين
(2/444)
قال إني سقيم فمن الكذب والافتراء على خليل الرحمن عليه السلام فإنه ليس في الآية اكثر من أنه نظر نظرة في النجوم ثم قال لهم إني سقيم فمن ظن من هذا أن كلم أحكام النجوم من علم الأنبياء وأنهم كانوا يراعونه ويعانونه فقد كذب على الأنبياء ونسبهم إلى مالا يليق وهو من جنس من نسبهم إلى الكهانة والسحر وزعم أن تلقيهم الغيب من جنس تلقى غيرهم وأن كانوا فوقهم في ذلك لكمال نفوسهم وقوة استعدادها وقبولها لفيض العلويات عليها وهؤلاء لم يعرفوا الأنبياء ولا آمنوا بهم وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرياضات الذين خصوا بقوة الإدراك وزكاة النفوس وزكاة الأخلاق ونصبوا أنفسهم لإصلاح الناس وضبط امورهم ولا ريب أن هؤلاء أبعد الخلق عن الأنبياء واتباعهم ومعرفتهم ومعرفة مرسلهم وما ارسلهم به هؤلاء في شأن والرسل في شأن آخر بل هم ضدهم في علومهم واعمالهم وهديهم وإرادتهم وطرائقهم ومعادهم وفي شأنهم كله ولهذا نجد أتباع هؤلاء ضد أتباع الرسل في العلوم والأعمال والهدى والإرادات ومتى بعث الله رسولا يعانى التنجيم والنرجات والطلسمات والأوفاق والتداخين و البخورات ومعرفة القرانات والحكم على الكواكب بالسعود والنحوس والحرارة والبرودة والذكورة والأنوثة وهل هذه إلا صنائع المشركين وعلومهم وهل بعثت الرسل ألا بالإنكار على هؤلاء ومحقهم ومحق علومهم وأعماهم من الأرض وهل للرسل أعداء بالذات إلا هؤلاء ومن سلك سبيلهم وهذا معلوم بالاضطرار لكل من آمن بالرسل صلوات
(2/445)
الله وسلامه عليهم وصدقهم فيما جاؤا به وعرف مسمى رسول الله وعرف مرسله وهل كان لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عدو مثل هؤلاء المنجمين الصابئين وحر إن كانت دار مملكتهم والخليل أعدى عدو لهم وهم المشركون حقا والأصنام التى كانوا يعبدونها كانت صورا وتماثيل للكواكب وكانوا يتخذون لها هياكل وهي بيوت العبادات لكل كوكب منها هيكل فيه أصنام تناسبه فكانت عبادتهم للأصنام وتعظيمهم لها تعظيما منهم للكواكب التى وضعوا الأصنام عليها وعبادة لها وهذا أقوى السببين في الشرك الواقع في العالم وهو الشرك بالنجوم وتعظيمها واعتقاد أنها أحياء ناطقة ولها روحانيات تتنزل على عابديها ومخاطبيها فصوروا لها الصور الأرضية ثم جعلوا عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانت الشياطين تتنزل عليهم وتخاطبهم وتكلمهم وتريهم من العجائب ما يدعوهم إلى بذل نفوسهم وأولادهم وأموالهم لتلك الأصنام والتقرب إليها وكان مبدأ هذا الشرك تعظيم الكواكب وظن السعود والنحوس وحصول الخير والشر في العالم منها وهذا شرك خواص المشركين وأرباب النظر منهم وهو شرك قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام والسبب الثاني عبادة القبور والإشراك بالأموات وهو شرك قوم نوح عليه الصلاة والسلام وهو أول شرك طرق العالم وفتنته أعم واهل الإبتلاء به أكثر وهم جمهور أهل الإشراك وكثيرا ما يجتمع البيان في حق المشرك يكون مقابريا نجوميا قال تعالى عن قوم نوح وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال البخارى في صحيحه قال ابن عباس كان هؤلاء رجالا صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحي الشياطين إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم التى كانوا يجلسون عليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت ولهذا لعن النبي الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ونهى عن الصلاة إلى القبور وقال اللهم لا تجعل قبرى
(2/446)
وثنا يعبد وقال اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني انها كم عن ذلك وأخبر أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهؤلاء هم أعداء نوح كما ان المشركين بالنجوم أعداء إبراهيم فنوح عاداه المشركون بالقبور وإبراهيم عاداه المشركون بالنجوم والطائفتان صوروا الأصنام على صور معبوديهم ثم عبدوها وإنما بعثت الرسل بمحق الشرك من الأرض ومحق أهله وقطع اسبابه وهدم بيوته ومحاربة أهله فكيف يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث سبحانك هذا بهتان عظيم وإنما كانت النظرة التى نظرها في علم النجوم من معاريض الأفعال كما كان قوله فعله كبيرهم هذا وقوله إني سقيم وقوله عن امرأته سارة هذه أختي من معاريض المقال ليتوصل بها إلى غرضه من كسر الأصنام كما توصل بتعريضه بقوله هذه أختي إلى خلاصها من يد الفاجر ولما غلظ فهم عن كثير من الناس وكشفت طباعهم عن إدراكه ظنوا أن نظره في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام وعلم أن نجمة وطالعه يقضى عليه بالسقم وحاشا لله أن يظن ذلك بخليله أو بأحد من أتباعه وهذا من جنس معاريض يوسف الصديق صلى الله تعالى عليه وسلم حين تفتيش أوعية أخيه عن الصاع فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أنه ليس فيها وأخر وعاء أخيه مع علمه أنه فيها تعريضا بأنه لا يعرف في أى وعاء هي ونفيا للتهمة عنه بأنه لو كان عالما في أى الأوعية هي لبادر إليها ولم يكلف نفسه تعب التفتيش لغيرها فلهذا نظر الخليل في النجوم نظر تورية وتعريض محض ينفي به عنه تهمة قومه ويتوصل به إلى كيد أصنامهم 0 فصل وأما الاستدلال بقوله تعالى لخلق السموات والأرض أكبر من خلق
(2/447)
الناس وإن المراد به كبر القدر والشرف لا كبر الجثة ففي غاية الفساد فإن المراد من الخلق ههنا الفعل لانفس المفعول وهذا من أبلغ الأدلة على المعاد أى أن الذى خلق السموات والأرض وخلقها أكبر من خلقكم كيف يعجزه خلقكم بعدما تموتون خلقا جديدا ونظير هذا في قوله في سورة يس أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم أى مثل هؤلاء المنكرين فهذا استدلال بشمول القدر للنوعين وأنها صالحة لهما فلا يجوز أن يثبت تعلقها بأحد المقدورين دون الآخر فكذلك قوله لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس أى من لم تعجز قدرته عن خلق العالم العلوي والسفلي كيف يعجز عن خلق الناس خلقا جديدا بعد ما أماتهم ولا تعرض في هذا لأحكام النجوم بوجه قط ولا لتأثير الكواكب واما قوله تعالى ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا فلا ريب أن خلق السموات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وعلمه وحكمته وانفراده بالربوبية والوحدانية ومن سوى بين ذلك وبين البقة وجعل العبرة والدلالة والعلم بوجود الرب الخالق البارىء المصور منهما سواء فقد كابر والله سبحانه إنما يدعو عباده على النظر والفكر في مخلوقاته العظام لظهور أثر الدلالة فيها وبديع عجائب الصنعة والحكمة فيها واتساع مجال الفكر والنظر في أرجائها وألا ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ولكن أين الآية والدلالة في خلق العالم العلوي والسفلي إلى خلق القملة والبرغوث
(2/448)
والبقة فكيف يسمح لعاقل عقله أن يسوي بينهما ويجعل الدلالة من هذا كالدلالة من الآخر والله سبحانه إنما يذكر من مخلوقاته للدلالة عليه أشرفها وأظهرها للحس والعقل وأبينها دلالة وأعجبها صنعة كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والنجوم والجبال والسحاب والمطر وغير ذلك من آياتة ولا يدعو عباده إلى التفكر في القمل والبراغيث والبعوض والبق والكلاب والحشرات ونحوها إنما يذكر ما يذكر من ذلك في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الاحتقار والضعف كقوله تعالى أن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه فهنا لم يذكر الذباب في سياق الدلالة على إثبات الصانع تعالى وكذلك قوله أن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها وكذلك قوله مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت فتأمل ذكر هذه المخلوقات الحقيرة في أى سياق وذكر المخلوقات العظيمة في أى سياق وأما قول من قال من المتكلمين المتكلفين أن دلالة حصول الحياة في الأبدان الحيوانية أقوى من دلالة السموات والأرض على وجود الصانع تعالى فبناء هذا القائل على الأصل الفاسد وهو إثبات الجوهر الفرد وإن تأثير الصانع تعالى في خلق العالم العلوي والسفلي هو تركيب تلك الجواهر وتأليفها هذا التأليف الخاص والتركيب جنسه مقدور للبشر وغيرهم وأما الأحداث والاختراع فلا يقدر عليه إلا الله والقول بالجوهر الفرد وبناء المبدأ والمعاد عليه مما هو من اصول المتكلمين الفاسدة التى نازعهم فيها جمهور العقلاء قالوا وخلق الله تعالى وإحداثه لما يحدثه من أجسام العالم هو إحداث لأجزائها وذواتها لا مجرد تركيب الجواهر منفردة ثم قد فرغ من خلقها وصنعه وإبداعه الآن إنما هو في تأليفها وتركيبها وهذا من اقوال اهل البدع التى ابتدعوها في الإسلام وبنوا عليها المعاد وحدوث العالم فسلطوا عليهم
(2/449)
أعداء الإسلام ولم يمكنهم كسرهم لما بنوا المبدأ والمعاد على أمر وهمى خيالى وظنوا انه لا يتم لهم القول بحدوث العالم وإعادة الأجسام إلا به وأقام منازعوهم حججا كثيرة جدا على بطلان القول بالجوهر واعترافهم بقوة كثير منها وصحته فأوقع ذلك شكا لكثير منهم في أمر المبدأ والمعاد لبنائه على شفا جرف هار وأما ائمة الإسلام وفحول النظار فلم يعتمدوا على هذه الطريقة وهي عندهم أضعف وأوهي من أن يبنوا عليها شيئا من الدين فضلا عن حدوث العالم وإعادة الأجسام وإنما اعتمدوا على الطرق التى أرشد الله سبحانه إليها في كتابه وهي حدوث ذات الحيوان والنبات وخلق نفس العالم العلوي والسفلي وحدوث السحاب والمطر والرياح وغيرها من الأجسام التى يشاهد حدوثها بذواتها لامجرد حدوث تأليفها وتركيبها فعند القائلين بالجوهر لا يشهد ان الله أحدث في هذا العالم شيئا من
(2/450)
الجواهر وإنما أحدث تأليفها وتركيبها فقط وإن كان أحداثه بجواهره سابقا متقدما قبل ذلك وأما الآن فإنما تحدث الأعراض من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فقط وهي الأكوان عندهم وكذلك المعاد فإنه سبحانه يفرق أجزاء العالم وهو اعدامه ثم يؤلفها ويجمعها وهو المعاد وهؤلاء احتاجوا إلى أن يستدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة إذ المشاهد عندهم بالحس دائما هو حدوث أعراض في تلك الجواهر من التأليف الخالص وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب والمطر والزروع والثمار والحيوان فإنما يحدث فيه أعراضا وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها وزعموا أن أحدا لا يعلم حدوث عين من الأعيان بالمشاهدة ولا بضرورة العقل وإنما يعلم ذلك بالاستدلال وجمهور العقلاء من الطوائف يخالفون هؤلاء ويقولون الرب لا يزال يحدث الأعيان كما دل على ذلك الحس والعقل والقرآن فإن الأجسام الحادثة بالمشاهدة ذواتها وأجزاؤها حادثة بعد إن لم تكن جواهر مفرقة فاجتمعت ومن قال غير ذلك فقد كابر الحس والعقل فإن كون الإنسان والحيوان مخلوقا محدثا كائنا بعد إن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد إن لم يكن وإن عينه حدثت كما قال الله تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا وليس هذا عندهم مما يستدل عليه بل يستدل به كما هي طريقة القرآن فإنه جعل حدوث الإنسان وخلقه دليلا لا مدلولا عليه وقولهم إن الحادث أعراض فقط وأنه مركب من الجواهر المفردة قولان باطلان بل يعلم حدوث عين الإنسان وذاته وبطلان الجوهر الفرد ولو كان القول بالجوهر صحيحا لم يكن معلوما إلا بأدلة خفية دقيقة فلا يكون من أصول الدين بل ولا مقدمة فيها فطريقتهم تتضمن جحد المعلوم وهو حدوث الأعيان الحادثة وذواتها وإثبات ما ليس بمعلوم بل هو باطل وهو إثبات الجوهر الفرد وليس هذا موضع استقصاء هذه المسئلة والمقصود الكلام على قوله إن الاستدلال بحصول الحياة في
(2/451)
بنية الحيوان على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الاجرام الفلكية وهو مبنى على هذا الأصل الفاسد فصل وأما استدلاله بقوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا فعجب من العجب فإن هذا من اقوى الأدلة وأبينها على بطلان قول المنجمين والدهرية الذين يسندون جميع ما في العالم من الخير والشر إلى النجوم وحركاتها واتصالاتها ويزعمون أن ما تأتي به من الخير والشر فعن تعريف الرسل والأنبياء وكذلك ما تعطيه من السعود والنحوس وهذا هو السبب الذي سقنا الكلام لأجله معهم لما حكينا قولهم أنه لما كانت الموجودات في العالم
(2/452)
السفلي مترتبة على تأثير الكواكب والروحانيات التي هي مدبرات الكواكب وإن كان في اتصالاتها نظر سعد ونحس وجب أن يكون في آثارها حسن وقبح في الخلق والأخلاق والعقول الإنسانية متساوية في النوع فوجب أن يدركها كل عقل سليم ولا يتوقف إدراكها على من هو مثل ذلك العاقل في النوع ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم إلى آخر كلامكم المتضمن خلق السموات والأرض بغير أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب وهذا هو الباطل الذي نفاه الله سبحانه عن نفسه وأخبر أنه ظن أعدائه الكافرين ولهذا اتفق المفسرون على أن الحق الذي خلقت به السموات والأرض هو الأمر والنهي وما يترتب عليهما من الثواب والعقاب فمن جحد ذلك وجحد رسالة الرسل وكفر بالمعاد وأحال حوادث العالم على حركات الكواكب فقد زعم أن خلق السموات والأرض ابطل الباطل وأن العالم خلق عبثا وترك سدى وخلى هملا وغاية ما خلق له أن يكون متمتعا باللذات الحسية كالبهائم في هذه المدة القصيرة جدا ثم يفارق الوجود وتحدث حركات الكواكب أشخاصا مثله هكذا أبدا فأي باطل أبطل من هذا وأي عبث فوق هذا أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم والحق الذي خلقت به السموات والأرض وما بينهما هو إلهية الرب المتضمنة لكمال حكمته وملكه وامره ونهيه المتضمن لشرعة وثوابه وعقابه المتضمن لعدله وفضله ولقائه فالحق الذي وجد به العالم كون الله سبحانه هو الإله الحق المعبود والآمر الناهي المتصرف في الممالك بالأمر والنهي وذلك يستلزم إرسال الرسل وإكرام من استجاب لهم وتمام الإنعام عليه وإهانة من كفر بهم وكذبهم واختصاصه بالشقاء والهلاك وذلك معقود بكمال حكمة الرب تعالى وقدرته وعلمه وعدله وتمام ربوبيته وتصرفه وانفراده بالإلهية وجريان المخلوقات على موجب حكمته وإلهيته وملكه التام وأنه أهل أن يعبد ويطاع وأنه أولى من أكرم أحبابه وأولياءه بالإكرام الذي
(2/453)
يليق بعظمته وغناه وجوده وأهان أعداءه المعرضين عنه الجاحدين له المشركين به المسوين بينه وبين الكواكب والأوثان والأصنام في العبادة بالإهانة التي تليق بعظمته وجلاله وشدة بأسه فهو الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير وهو ذو الرحمة الواسعة الذي لا يرد باسه عن القوم المجرمين ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وهو سبحانه خلق العالم العلوي والسفلي بسبب الحق ولأجل الحق وضمنه الحق فبالحق كان وللحق كان وعلى الحق اشتمل والحق هو توحيده وعبادته وحده لا شريك له وموجب ذلك ومقتضاه وقام بعدله الذي هو الحق وعلى الحق اشتمل فما خلق الله شيئا إلا بالحق وللحق ونفس خلقه له حق وهو شاهد من شواهد الحق فإن أحق الحق هو التوحيد كما
(2/454)
أن أظلم الظلم هو الشرك ومخلوقات الرب تعالى كلها شاهدة له بأنه الله الذي لا إله إلا هو وإن كل معبود باطل سواه وكل مخلوق شاهد بهذا الحق إما شهادة نطق وإما شهادة حال وإن ظهر بفعله وقوله خلافها كالمشرك الذي يشهد حال خلقه وإبداعه وصنعه لخالقه وفاطره أنه الله الذي لا إله إلا هو وإن عبد غيره وزعم أن له شريكا فشاهد حاله مكذب له مبطل لشهادة فعله وقاله وأما قوله أنه لا يمكن أن يقال المراد أنه خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم إلى آخر كلامه فيقال له إذا كانت دلالتها على صانعها أمرا ثابتا لها لذواتها وذواتها إنما وجدت بإيجاده وتكوينه كانت دلالتها بسبب فعل الفاعل المختار لها ولكن هذا بناء منه على أصل فاسد يكرره في كتبه وهو ان الذوات ليست بمجعولة ولا تتعلق بفعل الفاعل وهذا مما أنكره عليه أهل العلم والإيمان وقالوا أن كونها ذواتا وإن وجودها وأوصافها وكل ما ينسب إليها هو بفعل الفاعل فكونها ذواتا وما يتبع ذلك من دلالتها على الصانع كله بجعل الجاعل فإنه لما جعلها على هذه الصفة مستلزمة لدلالتها عليه كانت دلالتها عليه بجعله فإن قيل لو قدر عدم الجاعل لها لم يرتفع كونها ذواتا ولو كانت ذواتا بجعله لارتفع كونها ذواتا بتقدير ارتفاعه قيل ما تعنى بكونها ذواتا وما هيات اتعنى به تحقق ذلك في الخارج أو في الذهن أو أعم منها فإن عنيت الأول فلا ريب في بطلان كونها ذوات وما هيات على تقدير ارتفاع الجاعل وإن عنيت الثانى فالصور الذهنية مجعولة له أيضا لأنه هو الذي علم فإوجد الخلائق الذهنية في العلم كما أنه الذي خلق فأوجد الحقائق الذهنية في العين فهو الأكرم الذي خلق وعلم فما في الذهن بتعليمه وما في الخارج بخلقه وإن عنيت القدر المشترك بين الخارج والذهن وهو مسمى كونها ذوات وما هيات بقطع النظر عن تقييده بالذهن أو الخارج قيل لك هذه ليست بشيء البتة فإن الشيء إنما يكون شيئا في الخارج أو في الذهن
(2/455)
والعلم وما ليس له حقيقة خارجية ولا ذهنية فليس بشيء بل هو عدم صرف ولا ريب ان العدم ليس بفعل فاعل ولا جعل جاعل فإن قيل هي لا تنفك عن أحد الوجودين أما الذهني واما الخارجي ولكن نحن أخذناها مجردة عن الوجودين ونظرنا إليها من هذه الحيثية وهذا الاعتبار ثم حكمنا عليها بقطع النظر عن تقيدها بذهن أو خارج قيل الحكم عليها بشيء ما يستلزم تصورها ليمكن الحكم عليها وتصورها مع أخذها مجردة عن الوجود والذهن محال فإن قيل مسلم أن ذلك محال ولكن إذا أخذناه مع وجودها الذهني أو الخارجي فهنا أمران حقيقتها وماهيتها والثاني وجودها الذهني أو الخارجي فنحن أخذناها موجودة وحكمنا عليها مجردة فالحكم على جزء هذا المأخوذ المنصور قيل هذا القدر المأخوذ عدم محض كما تقدم والعدم لا يكون بجعل جاعل ونكتة المسألة أن الذوات من حيث هي ذوات أما أن تكون وجودا او عدما فإن كانت وجودا فهي بجعل الجاعل وإن كانت عدما فالعدم كاسمه لا يتعلق بجعل الجاعل 0
فصل وأما قوله إن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه كان اعتماده في
(2/456)
إثبات الصانع على الدلائل الفلكية كما قرره فيقال من العجب ذكركم لخليل الرحمن في هذا المقام وهو أعظم عدو لعباد الكواكب والأصنام التى اتخذت على صورها وهم أعداؤه الذين ألقوه في النار حتى جعلها الله عليه بردا وسلاما وهو عليه السلام أعظم الخلق براءة منهم وأما ذلك التقرير الذي قرره الرازي في المناظرة بينه وبين الملك المعطل فمما لم يخطر بقلب إبراهيم ولا بقلب المشرك ولا يدل اللفظ عليها البتة وتلك المناظرة التى ذكرها الرازي تشبه أن تكون مناظرة بين فيلسوف ومتكلم فكيف يسوغ أن يقال أنها هي المرادة من كلام الله تعالى فيكذب على الله وعلى خليله وعلى المشرك المعطل وإبراهيم أعلم بالله ووحدانيته وصفاته من أن يوحي إليه بهذه المناظرة ونحن نذكر كلام أئمة التفسير في ذلك ليفهم معنى المناظرة ومادل عليه القرآن من تقريرها قال ابن جرير معنى الآية ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت يعنى بذلك ربي الذي بيده الحياه والموت يحي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء قال أنا أفعل ذلك فإحيي وأميت أستحي من أردت قتله فلا أقتله فيكون ذلك منى إحياء له وذلك عند العرب يسمى إحياء كما قال تعالى ومن أحياها فكأنما أحياء الناس جميعا واقتل آخر فيكون ذلك منى إماتة له قال إبراهيم له فإن الله هو الذي يأتي بالشمس من مشرقها فإن كنت صادقا إنك آله فأت بها من مغربها قال الله عز وجل فبهت الذي كفر يعنى انقطع وبطلت حجته ثم ذكر من قال ذلك من السلف فروى عن قتادة ذكر لنا أنه دعا برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر وقال أنا أحي هذا وأميت هذا قال إبراهيم عند ذلك فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب وعن مجاهد أنا أحيي وأميت أقتل من شئت وأستحيي من شئت أدعه حيا فلا أقتله وقال ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن الجبار قال لإبراهيم أنا أحيي وأميت إن شئت قتلتك وأن استحييتك
(2/457)
فقال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر وقال الربيع لما قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال هو يعنى نمرود فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين فاستحيا أحدهما وقتل الآخر وقال أنا أحيي وأميت أى أستحي من شئت فقال إبراهيم فأن الله يأتي بالشمس من المشرق قال السدى لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه وقال له من ربك قال ربي الذي يحيي ويميت قال نمرود أنا احيي وأميت أنا آخذ
(2/458)
أربعة نفرا فأدخلهم بيتا فلا يطعمون ولا يسقون حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا وتركت الإثنين فماتا فعرف إبراهيم ان له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر وقال إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها وأن النار لم تأكله وخشى أن يفتضح في قومة وكان يزعم أنه رب فأمر بإبراهيم فأخرج وقال مجاهد أحيي فلا أقتل وأميت من قتلت وقال ابن جريج أتي برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر فقال أنا أحيي وأميت فأميت من قتلت وأحيي فلا أقتل وقال ابن إسحاق ذكر لنا والله أعلم أن نمرود قال لإبراهيم أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التى تعظمه بها على غيرها ما هي قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال نمرود أنا أحيي وأميت فقال له إبراهيم كيف تحيي وتميت قال آخذ الرجلين قد استوجيا القتل في حكمى فاقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن عن الآخر فاتركه فأكون قد أحييته فقال له إبراهيم عند ذلك فأن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب أعرف أنه كما تقول فبهت عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئا وعرف أنه لا يطيق ذلك فهذا كلام السلف في هذه المناظرة وكذلك سائر المفسرين بعدهم لم يقل أحد منهم قط أن معنى الآية أن هذا الإحياء والإماتة حاصل منى ومن كل أحد فأن الرجل قد يكون منه الحدوث بواسطة تمزيج الطبائع وتحريك الأجرام الفلكية بل نقطع بأن هذا لم يخطر بقلب المشرك المناظر البتة ولا كان هذا مراده فلا يحل تفسير كلام الله بمثل هذه الأباطيل ونسأل الله أن يعيذنا من القول عليه بما لم نعلم فإنه أعظم المحرمات على الإطلاق وأشدها إثما وقد ظن جماعة من الأصوليين وأرباب الجدل أن إبراهيم أنتقل مع المشرك من حجة إلى حجة ولم يجبه عن قوله أنا أحيي وأميت قالوا وكان يمكنه أن يتم معه الحجة الأولى بأن يقول
(2/459)
مرادى بالأحياء إحياء الميت وإيجاد الحياة فيه لا استبقاؤه على حياته وكان يمكنه تتميمها بمعارضته في نفسها بأن يقول فأحيي من أمت وقلت ان كنت صادقا ولكن انتقل إلى حجة أوضح من الأولى فقال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فانقطع المشرك المعطل وليس الأمر كما ذكروه ولا هذا انتقال بل هذا مطالبة له بموجب دعواه الإلهية والدليل الذي استدل به إبراهيم قد تموثبت موجبه فلما ادعى الكافر أنه يفعل كما يفعل الله فيكون إلها مع الله طالبه إبراهيم بموجب دعواه مطالبة تتضمن بطلانها فقال إن كنت أنت ربا كما تزعم فتحيي وتميت كما يحيي ربي ويميت فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فتنصاع لقدرته وتسخيره ومشيئته فإن كنت أنت ربا فات بها من المغرب وتأمل قول الكافر أنا أحيي وأميت ولم يقل أنا الذي أحيي
(2/460)
وأميت يعنى أنا أفعل كما يفعل الله فأكون ربا مثله فقال له إبراهيم فأن كنت صادقا فافعل مثل فعله في طلوع الشمس فإذا أطلعها من جهة فأطلعها انت من جهة أخري ثم تأمل ما في ضمن هذه المناظرة من حسن الاستدلال بافعال الرب المشهودة المحسوسة التى تستلزم وجوده وكمال قدرته ومشيئته وعلمه ووحدانيته من الإحياء والإماتة المشهودين الذين لا يقدر عليهما إلا الله وحده وإتيانه تعالى بالشمس من المشرق لا يقدر أحد سواه على ذلك وهذا برهان لا يقبل المعارضة بوجه وإنما ليس عدو الله وأوهم الحاضرين أنه قادر من الإحياء والإماتة على ما هو مماثل لمقدور الرب تعالى فقال له إبراهيم فأن كان الأمر كما زعمت فأرني قدرتك على الإتيان بالشمس من المغرب لتكون مماثله لقدرة الله على الإتيان بها من المشرق فأين الانتقال في هذا الاستدلال والمناظرة بل هذا من أحسن ما يكون من المناظرة والدليل الثاني مكمل لمعنى الدليل الأول ومبين له ومقرر لتضمن الدليلين افعال الرب الدالة عليه وعلى وحدانيته وانفراده بالربوبية والإلهية كما لا تقدر انت ولا غير الله على مثلها ولما علم عدو الله صحة ذلك وان من هذا شأنه على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ولا يستصعب عليه مراد خاف أن يقول لإبراهيم فسل ربك أن يأتي بها من مغربها فيفعل ذلك فيظهر لأتباعه بطلان دعواه وكذبه وانه لا يصلح للربوبية فبهت وامسك وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا وهي أن شرك العالم إنما هو مسند إلى عبادة الكواكب والقبور ثم صورت الأصنام على صورها كما تقدم فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته ويعبد من دونه وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس 0 هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة
(2/461)
لا تصرف لها في نفسها بوجه ما بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته فهي مربوبة مسخرة مدبرة لا أله يعبد من دون الله 0 فصل وأما استدلاله بأن النبي نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما فكأنه والله أعلم لما رأى بعض الفقهاء قد قالوا ذلك في كتبهم في آداب التخلى ولا تستقبل الشمس والقمر ظن أنهم إنما قالوا ذلك لنهى النبي عنه فاحتج بالحديث وهذا من أبطل الباطل فإن النبي لم ينقل عنه ذلك في كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل وليس لهذه المسألة أصل في الشرع والذين ذكروها من الفقهاء منهم من قال العلة
(2/462)
أن اسم الله مكتوب عليهما ومنهم من قال لأن نورهما من نور الله ومنهم من قال إن التنكب عن استقبالهما واستدبارهما أبلغ في التستر وعدم ظهور الفرجين وبكل حال فما لهذا ولا أحكام النجوم فان كان هذا دالا على دعواكم فدلالة النهي عن استقبال الكعبة بذلك أقوى وأولى وأما استدلاله بأن النبي قال يوم موت ولده ابراهيم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وهذا الحديث صحيح وهو من أعظم الحجج على بطلان قولكم فانه ﷺ أخبر أنهما آيتان من آيات الله وآيات الله لا يحصيها إلا الله فالمطر والنبات والحيوان والليل والنهار والبر والبحر والجبال والشجر وسائر المخلوقات آياته تعالى الدلالة عليه وهي في القرآن أكثر من أن نذكرها ههنا فهما آيتان لا ربان ولا إلهان ولا ينفعان ولا يضران ولا لهما تصرف في أنفسهما وذواتهما البتة فضلا عن إعطائهما كل ما في العالم من خير وشر وصلاح وفساد بل كل ما فيه من ذراته وأجزائه وكلياته وجزئياته له تعالى الله عن قول المفترين المشركين علوا كبيرا وفي وقوله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قولان أحدهما أن موت الميت وحياته لا يكون سببا في انكسافهما كما كان يقوله كثير من جهال العرب وغيرهم عند الانكساف إن ذلك لموت عظيم أو لولادة عظيم فأبطل النبي ذلك وأخبر أن موت الميت وحياته لا يؤثر في كسوفهما البتة والثاني أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة فلا يكون انكسافهما سببا لموت ميت ولا لحياة حي وإنما ذلك تخويف من الله لعباده أجرى العادة بحصوله في اوقات معلومة بالحساب كطلوع الهلال وإبداره وسراره فأما سبب كسوف الشمس فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا فان القمر عندهم جسم كثيف مظلم وفلكه دون فلك الشمس فاذا كان على مسامته إحدى نقطتي الرأس أو الذنب أو قريبا منهما حالة الإجتماع من تحت الشمس حال بيننا وبين نور
(2/463)
الشمس كسحابة تمر تحتها إلى أن يتجاوزها من الجانب الآخر فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا نور كل الشمس وإن كان له عرض فبقدر ما يوجبه عرضه وذلك أن الخطوط الشعاعية تخرج من بصر الناظر إلى المرئي على شكل مخروط راسه عند نقطة البصر وقاعدته عند جرم المرئي فإن وجهنا أبصارنا إلى جرم الشمس حالة كسوفها فإنه ينتهي إلى القمر أو لا مخروط الشعاع فاذا توهمنا نفوذه منه إلى الشمس وقع جرم الشمس في وسط المخروط وإن لم يكن للقمر عرض انكسف كل الشمس وإن كان للقمر عرض فبقدر ما يوجبه عرضه ينحرف جرم الشمس عن مخروط الشعاع ولا يقع كله فيه فينكسف بعضه ويبقى الباقي على ضيائه وذلك إذا كان العرض المرئي اقل من نصف مجموع قطر الشمس والقمر حتى إذا ساوى العرض المرئي نصف مجموع القطرين كان صفحة القمر تماس مخروط الشعاع فلا ينكسف
(2/464)
ولا يكون لكسوف الشمس لبث لأن قاعدة المخروط المتصل بالشمس مساو لقطريها فكما ابتدأ القمر بالحركة بعد تمام الموازاة بينه وبين الشمس تحرك المخروط وابتدأت الشمس بالإسفار إلا أن كسوف الشمس يختلف باختلاف أوضاع المساكن حتى أنه يرى في بعضها ولا يرى في بعضها ويرى في بعضها أقل وفي بعضها أكثر بسبب اختلاف المنظر إذ الكاسف ليس عارضا في جرم الشمس يستوى فيه النظار من جميع الأماكن بل الكاسف شيء متوسط بينها وبين الأبصار وهو قريب منها والمحجوب عنا بعيد فيختلف التوسط باختلاف مواضع الناظرين وكذلك يختلف كسوف الشمس في مباديها وعند انجلائها في كمية ما ينكسف منها وفي زمان كسوفها الذي هو من أول البدو إلى وسط الكسوف ومن وسط الكسوف إلى آخر الانجلاء فإن قيل فجرم القمر أصغر من جرم الشمس بكثير فكيف يحجب عنا كل الشمس قيل إنما يحجب عنا جرم الشمس لقربه منا وبعدها عنا لأن الشيئين المختلفين في الصغر والكبر إذا قرب الصغير من الكبير يرى من أطراف الكبير أكثر ما يرى منها مع بعد الأصغر عنه وكلما بعد الأصغر عنه وازداد قربه من الناظر تناقص ما يرى من أطراف الأكبر إلى أن ينتهي إلى حد لا يرى من الأكبر شيء والحس شاهد بذلك وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعا من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض في ممره لأن القمر لا ضوء له أبدا وأنه يكتسب الضوء من الشمس وهل هذا الاكتساب خاص بالقمر أم يشاركه فيه سائر الكواكب ففيه قولان لأرباب الهيئة : أحدهما أن الشمس وحدها هي المضيئة بذاتها وغيرها من الكواكب مستضيئة بضيائها على سبيل العرض كما عرف ذلك في القمر والقول الثاني أن القمر مخصوص بالكمودة دون سائر الكواكب وغيره من الكواكب مضيئة بذاتها كالشمس ورد هؤلاء على ارباب القول الأول بأن الكواكب لو استفادت أضواءها من الشمس لاختلف مقادير تلك الأضواء فيما كان تحت فلك الشمس منها بسبب القرب
(2/465)
والبعد من الشمس كما في القمر فإنه يختلف ضوؤه بحسب قربه وبعده من الشمس والذي حمل أرباب القول الأول عليه ما وجدوه من تعلق حركات الكواكب بحركات الشمس وظنوا أن ضوءها من ضيائها وليس الغرض استيفاء الحجاج من الجانبين وما لكل قول وعليه والمقصود ذكر سبب الخسوف القمرى ولما كانت الأرض جسما كثيفا فإذا أشرقت الشمس على جانب منها فإنه يقع لها ظل في الجهة الأخرى لأن كل ذي ظل يقع في الجهة المقابلة للجرم المضىء فمتى أشرقت عليها من ناحية الشرق وقعت أظلالها في ناحية الغرب وإذا وقعت عليها من ناحية الغرب مالت أظلالها إلى ناحية المشرق والأرض
(2/466)
أصغر من جرم الشمس بكثير فينبعث ظلها ويرتفع في الهواء على شكل مخروط قاعدته قريبة من تدوير الارض ثم لا يزال ينخرط تدويره حتى يدق ويتلاشى لأن قطر الشمس لما كان أعظم من قطر الأرض فالخطوط الشعاعية المارة من جوانب الشمس إلى جوانب الأرض تكون متلاقية لا متوازية فإذا مرت على الاستقامة إلى الأرض انقذفت على جوانبها فتلتقي لا محالة إلى نقطة فينحصر ظل الأرض في سطح مخروط فيكون مخروطا لا محالة قاعدته حيث ينبعث من الأرض ورأسه عند نقطة تلافي الخطوط ولو كان قطر الأرض مساويا لقطر الشمس لكانت الخطوط الشعاعية تخرج إليها على التوازي فيكون الظل متساوي الغلظ إلى أن ينتهي إلى محيط العالم ولو كان قطر الشمس أصغر من قطر الأرض لكانت الخطوط تخرج على التلاقي في جهة الشمس وأوسعها عند قطر الأرض ولكان الظل يزداد غلظا كلما بعد عن الأرض إلى أن ينتهي إلى محيط العالم ويلزم من ذلك أن ينخسف القمر في كل استقبال والوجود بخلافه ولما ثبت أن ظل الأرض مخروطي الشكل وقد وقع في الجهة المقابلة لجهة الشمس فيكون نقطة رأسه في سطح فلك البروج لا محالة ويدور بدوران الشمس مسامتا للنقطة المقابلة لموضع الشمس وهذا الظل الذي يكون فوق الأرض هو الليل فإن كانت الشمس فوق الأرض كان الظل تحت الرض بالنسبة إلينا ونحن في ضياء الشمس وذلك النهار والزمان الذي يوازي دوام الظل فوق الأرض هو زمان الليل فإذا اتفق مرور القمر على محاذاة نقطتى الرأس والذنب حالة الاستقبال يقع في مخروط الظل لا محالة لأن الخط الخارج من مركز العالم المار بمركز الشمس ثم بمركز القمر من الجانب الآخر ينطبق على سهم مخروط الظل فيقع القمر في وسط المخروط فينخسف كله ضرورة لأن الأرض تمنعه من قبول ضياء الشمس فيبقي القمر على جوهرة الأصلى فإن كان للقمر عرض ينحرف عن سهم المخروط بقي الضوء فيه بقدره وطبعه وقد يقع كله في المخروط ولكن يمر في جانب منه وقد يقع بعضه في المخروط ويبقي بعضه
(2/467)
خارجا وربما يماس مخروط الظل ولا يقع من جرمه شيء وإنما يختلف هذا باختلاف بعده من الخط الخارج من مركز العالم المار بمركز الشمس المطابق لسهم المخروط حتى إذا عظم عرضه بأن لا يبقى بينه وبين إحدى نقطتي الرأس والذنب أكثر من ثلاثة عشر دقيقة لا يماس المخروط أصلا وإذا وقع في جانب منه قل مكثه وربما لم يكن له مكث أصلا وإنما يعرف ذلك بتقديم معرفة قطر الظل وقطر يختلف باختلاف أبعاده عن الأرض وكذلك قطر الظل أيضا يختلف باختلاف أبعاد الشمس عن الأرض فإن الشمس متى قربت من الأرض كان ظل الأرض دقيقا قصيرا وإذا بعدت عنها كان ظل الأرض طويلا غليظا لأنها متى بعدت عن الأرض يرى قطرها أصغر وأقرب تلاقيا منها وكلما كان أعظم مقدارا في رأى
(2/468)
العين فالخطوط الشعاعية أقصر وأقرب تلاقيا فلذلك يختلف قطع القمر غلظ الظل في أوقات الكسوفات والموضع الذي يقطعة القمر من الظل يسمونه فلك الجوزهر وإذا عرف عرف قطر الظل وعرف مقدار قطر نصف القمر وجمع بينهما ونصف ذلك وعرف عرض القمر إن كان له عرض فإن كان العرض مساويا لنصف مجموع القطرين فإن القمر يماس دائرة الظل ولا ينكسف وإن كان العرض أقل من نصف مجموعهما فإنه ينكسف فينظر إن كان مساويا لنصف قطر الظل انكسف من القمر مثل نصف صفحته وإن كان العرض أقل من نصف قطر الظل فينتقص العرض من نصف قطر الظل فإن كان الباقي مثل قطر القمر انكسف كله ولا يكون له مكث وإذا لم يكن له عرض انكسف كله ويمكث زمانا أكثر وأطول ما يمتد زمان الكسوف القمري أربع ساعات وأما زمان لكسوف الشمسى فلا يزيد على ساعتين وكسوف القمر يختلف باختلاف أوضاع المساكن إذ الكسوف عارض في جهة وهو عبوره في ظلام ظل الأرض بخلاف كسوف الشمس وإنما يختلف الوقت فقط بأن يكون في بعض المساكن على مضى ساعة من الليل وفي بعضها على مضى نصف ساعة وقد يطلع منكسفا في بعض المساكن وينكسف بعد الطلوع في بعضها وقد لا يرى منكسفا أصلا إذا كانت الشمس فوق الأرض حالة الاستقبال ويرى الخسوف في القمر أبدا يكون من طرفه الشرقي إذ هو الذاهب إلى الاستقبال نحو للشرق والدخول في الظل بحركته ثم ينحرف قليلا قليلا إلى الشمال أو الجنوب في بدء انجلائه أيضا من طرفه الشرقي وأما في الشمس فبدء الكسوف من طرفها الغربي إذ الكاسف لها يأتي إليها من ناحية الغرب وكذلك الانجلاء أيضا من الطرف الغربي لكن بانحراف منه إلى الشمال والجنوب وإنما ذكرنا هذا الفصل ولم يكن من غرضنا لأن كثيرا من هؤلاء الأحكاميين يموهون على الجهال بأمر الكسوف ويؤهمونهم إن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس والظفر والغلبة وغيرها هي من جنس الحكم بالكسوف فيصدق بذلك الأغمار والرعاع ولا يعلمون أن الكسوف يعلم بحساب سير
(2/469)
النيرين في منازلهما وذلك أمر قد أجرى الله تعالى العادة المطردة به كما أجراها في الأبدار والسرار والهلال فمن علم ما ذكرناه في هذا الفصل علم وقت الكسوف ودوامه ومقداره وسببه وأما انه يقتضي من التأثيرات في الخير والشر والسعد والنحس والإماتة والإحياء وكذا وكذا مما يحكم به المنجمون فقول على الله وعلى خلقه بما لا يعلمون نعم لا ننكر أن الله سبحانه يحدث عند الكسوفين من أفضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببا لذلك ولهذا أمر النبي ﷺ عند الكسوف بالفزع إلى ما ذكر الله والصلاة والعتاقة والصدقة والصيام لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسف الذي جعله الله سببا لما جعله فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر بدفع موجبه بهذه
(2/470)
العبادات ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به أو يقلله أو يخففه فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذى جعل الله الكسوف سببا له أو بعضه ولهذا قل ما يسلم أطراف الأرض حيث يخفي الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف وتسلم منه الأماكن التى يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدا ولما كسفت الشمس على عهد النبى قام فزعا مسرعا يجز رداءه ونادى في الناس الصلاة جامعة وخطبهم بتلك الخطبة البليغة وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وبأمره وشأنه وتعريفه أمور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للأمة ومن دعاهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم ونهاهم عما فيه هلاكهم في معاشهم ومعادهم ولقد خفى ما جاءت به الرسل على طائفتين هلك بسببهما من شاء الله ونجا من شركهما من سبقت له العناية من الله إحدى الطائفتين وقفت مع ما شاهدته وعلمته من أمور هذه الأسباب والمسببات وإحالة الأمر عليها وظنت أنه ليس لها شىء فكفرت بما جاءت به الرسل وجحدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوات وغيرها ما انتهى إليه علومها ووقفت عنده أقدامها من العلم بظاهر من المخلوقات وأحوالها وجاء ناس جهال رأوهم قد أصابوا في بعضها أو كثير منها فقالوا كل ما قاله هؤلاء فهو صواب لما ظهر لنا من صوابهم وانضاف إلى ذلك أن أولئك لما وقفوا على الصواب فيما أدتهم إليه أفكارهم من الرياضيات وبعض الطبيعيات وثقوا بعقولهم وفرحوا بما عندهم من العلم وظنوا أن سائر ما خدمته أفكارهم من العلم بالله وشأنه وعظمته هو كما أوقعهم عليه فكرهم وحكمه حكم ما شهد به الحس من الطبيعيات والرياضيات فتفاقم الشر وعظمت المصيبة وجحد الله وصفاته
(2/471)
وخلقه للعالم وإعادته له وجحد كلامه ورسله ودينه ورأى كثير من هؤلاء انهم هم خواص النوع الإنساني وأهل الألباب وأن ماعداهم هم القشور وأن الرسل إنما قاموا بسياستهم لئلا يكونوا كالبهائم فهم بمنزلة قم المارستان وأما أهل العقول والرياضيات والأفكار فلا يحتاجون إلى الرسل بل هم يعلمون الرسل ما يصنعونه للدعوة الإنسانية كما تجد في كتبهم وينبغى للرسول أن يفعل كذا كذا والمقصود أن هؤلاء لما أوقفتهم أفكارهم على العلم بما خفى على كثير من اسرار المخلوقات وطبائعها وأسبابها ذهبوا بأفكارهم وعقولهم وتجاوزوا ما جاءت به الرسل وظنوا أن إصابتهم في الجميع سواء وصار المقلد لهم في كفرهم إذا خطر له إشكال على مذهبهم أودهمه ما لا حيلة له في دفعه من تناقضهم وفساد أصولهم يحسن الظن بهم ويقول لاشك أن علومهم مشتملة على حكمة
(2/472)
والجواب عنه إنما يعسر على إدراكه لأن من لم يحصل الرياضيات ولم يحكم المنطقيات وتمده علوم قد صقلتها أذهان الأولين وأحكمتها أفكار المتقدمين فالفاضل كل الفاضل من يفهم كلامهم وأما الاعتراض عليهم وإبطال فاسد أصولهم فعندهم من المحال الذي لا يصدق به وهذا من خداع الشيطان وتلبيسه بغروره لهؤلاء الجهال مقلدى أهل الضلال كما ليس على أئمتهم وسلفهم بأن أوهمهم ان كل ما نالوه بأفكارهم فهو صواب كما ظهرت إصابتهم في الرياضيات وبعض الطبيعيات فركب من ضلال هؤلاء وجهل أتباعهم ما اشتدت به البلية وعظمت لأجله الرزية وضرب لآجله العالم وجحد ما جاءت به الرسل وكفر بالله وصفاته وأفعاله ولم يعلم هؤلاء أن الرجل يكون أماما في الحساب وهو أجهل خلق الله بالطب والهيئة والمنطق ويكون راسا في الطب ويكون من اجهل الخلق بالحساب والهيئة ويكون مقدما في الهندسة وليس له علم بشيء من قضايا الطب وهذه علوم متقاربة والعبد بينها وبين علوم الرسل التى جاءت بها عن الله أعظم من العبد بين بعضها وبعض فإذا كان الرجل إماما في هذه العلوم ولم يعلم بأي شيء جاءت به الرسل ولا تحلى بعلوم الإسلام فهو كالعامى بالنسبة إلى علومهم بل أبعد منه وهل يلزم من معرفة الرجل هيئة الأفلاك والطب والهندسة والحساب أن يكون عارفا بالآلهيات واحوال النفوس البشرية وصفاتها ومعادها وسعادتها وشقاوتها وهل هذا إلا بمنزلة من يظن أن الرجل إذا كان عالما بأحوال الأبنية وأوضاعها ووزن الأنهار والقنى والقنطرة كان عالما بالله وأسمائه وصفاته وما ينبغى له وما يستحيل عليه فعلوم هؤلاء بمنزلة هذه العلوم التى هي نتائج الأفكار والتجارب فما لها ولعلوم الأنبياء التى يتلقونها عن الله بوسائط الملائكة هذا وإن تعلق الرياضيات التى هي نظر في نوعى الكم المتصل والمنفصل والمنطقيات التى هى نظر في المعقولات الثانية ونسبة بعضها إلى بعض بالكلية والجزئية والسلب والإيجاب وغير ذلك بمعرفة رب
(2/473)
العالمين وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وما جاءت به رسله وثوابه وعقابه ومن الخدع الإبليسية قول الجهال أن فهم هذه الأمور موقوف على فهم هذه القضايا العقلية وهذا هو عين الجهل والحمق وهو بمنزلة قول القائل لا يعرف حدوث الرمانة من لم يعرف عدد حباتها وكيفية تركيبها وطبعها ولا يعرف حدوث العين من لم يعرف عدد طبقاتها وتشريحها وما فيها من التركيب ولا يعرف حدوث هذا البيت من لم يعرف عدد لبناته وأخشابه وطبائعها ومقاديرها وغير ذلك من الكلام الذي يضحك منه كل عاقل وينادي على جهل قائله وحمته بل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه لا يحتاج إلى شيء من ذلك ولا يتوقف عليه وآيات الله التى دعا عباده إلى النظر فيها دالة عليه بأول النظر دلالة يشترك فيها كل سليم العقل والحاسة واما أدلة هؤلاء فخيالات وهمية وشبه عسرة المدرك بعيدة التحصيل متناقضة الأصول غير
(2/474)
مؤدية إلى معرفة الله ورسله والتصديق بها مستلزمة للكفر بالله وجحد ما جاءت به رسله وهذا لا يصدق به إلا من عرف ما عند هؤلاء وعرف ما جاءت به الرسل ووازن بين الأمرين فحينئذ يظهر له التفاوت وأما من قلدهم وأحسن ظنه بهم ولم يعرف حقيقة ما جاءت به الرسل فليس هذا عشه بل هو في أودية هائم حيران ينقاد لكل حيران 0 يغدو من العلم في ثوبين من طمع معلمين بحرمان وخذلان والطائفة الثانية رأت مقابلة هؤلاء برد كل ما قالوه من حق وباطل وظنوا ان من ضرورة تصديق الرسل رد ما علمه هؤلاء بالعقل الضرورى وعلموا مقدماته بالحس فنازعوهم فيه وتعرضوا لإبطاله بمقدمات جدلية لا تغنى من الحق شيئا وليتهم مع هذه الجناية العظيمة لم يضيفوا ذلك إلى الرسل بل زعموا إن الرسل جاؤا وبما يقولونه فساء ظن أولئك الملاحدة بالرسل وظنوا أنهم هم أعلم وأعرف منهم ومن حسن ظنه بالرسل قال أنهم لم يخف عليهم ما نقوله ولكن خاطبوهم بما تحتمله عقولم من الخطاب الجمهورى النافع للجمهور وأما الحقائق فكتموها عنهم والذي سلطهم على ذلك جحد هؤلاء لحقهم ومكابرتهم إياهم على ما لايمكن المكابرة عليه مما هو معلوم لهم بالضرورة كمكابرتهم إياهم في كون الأفلاك كروية الشكل والأرض كذلك وأن نور القمر مستفاد من نور الشمس وأن الكسوف القمرى عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث انه يقتبس نوره منها والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس كما قدمناه وكقولهم أن الكسوف الشمسى معناه وقوع جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وكقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها وإثبات القوى والطبائع والأفعال وانفعالات مما تقوم عليه الأدلة العقلية والبراهين اليقينية فيخوض هؤلاء معهم في إبطاله فيغريهم ذلك بكفرهم وإلحادهم والوصية لأصحابهم بالتمسك بما هم عليه فإذا قال لهم
(2/475)
هؤلاء هذا الذى تذكرونه على خلاف الشرع والمصير إليه كفر وتكذيب الرسل لم يستريبوا في ذلك ولم يلحقهم فيه شك ولكنهم يستريبون بالشرع وتنقص مرتبة الرسل من قلوبهم وضرر الدين وما جاءت به الرسل بهؤلاء من أعظم الضرر وهو كضرره بأولئك الملاحدة فهما ضرران على الدين ضرر من يطعن فيه وضرر من بنضره بغير طريقة وقد قيل إن العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل فإن الصديق الجاهل يضرك من حيث يقدر أنه بنقعك والشأن كل الشأن أن تجعل العاقل صديقك ولا تجعله عدوك وتغريه بمحاربة الدين وأهله0 فإن قلت فقد أطلت في شأن الكسوف وأسبابه وجئت بما شئت به من البيان الذى لم يشهد له الشرع بالصحة ولم يشهد له بالبطلان بل جاء الشرع بما هو أهم منه وأجل فائدة من الأمر عند الكسوفين
(2/476)
بما يكون سببا لصلاح الأمة في معاشها ومعادها وأما أسباب الكسوف وحسابه والنظر في ذلك فإنه من العلم الذي لايضر الجهل به ولا ينفع نفع العلم بما جاءت به الرسل وبين علوم هؤلاء فكيف نصنع بالحديث الصحيح عن النبى أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة فكيف يلائم هذا ما قاله هؤلاء في الكسوف قيل وأى مناقضة بينهما وليس فيه إلا نفي تأثير الكسوف في الموت والحياة على أحد القولين أو نفي تأثير النيرين بموت أحد أو حياته على القول الآخر وليس فيه تعرض لإبطال حساب الكسوف وإلا الأخبار بأنه من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله وأمر النبي عنده بما أمر به من العتاقة والصلاة والدعاء والصدقة كأمره بالصلوات عند الفجر والغروب والزوال مع تضمن ذلك دفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبحانه سببا له فشرع النبي للأمة عند انعقاد هذا السبب ما هو أنفع لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأن الكسوف وأسبابه فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه والإمام أحمد والنسائى من حديث النعمان بن بشير قال انكسفت الشمس على عهد النبى فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتي المسجد فلم يزل يصلى حتى انجلت ثم قال أن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله لشىء من خلقه خشع له قيل قد قال أبو حامد الغزالى ان هذه الزيادة لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها وإنما المروى ما ذكرنا يعنى الحديث الذي ليست هذه الزيادة فيه قال ولو كان صحيحا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أولت بالأدلة العقلية التى لا تتبين في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم فانفرج به الملحدة ان يصرح ناصر الشرع بأن هذا وامثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه طريق إبطال الشرع وإن كان شرطه
(2/477)
أمثال ذلك وليس الأمر في هذه الزيادة كما قاله أبو حامد فأن اسنادها لا مطعن فيه قال ابن ماجه حدثنا محمد بن المثنى وأحمد بن ثابت وحميد بن الحسن قالوا حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير فذكره وهؤلاء كلهم ثقات حفاظ لكن لعل هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف فقد رواها عن النبي بضعة عشر صحابيا عائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر وعلى بن أبي طالب وأبي بن كعب وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله في حديثه وسمرة بن جندب وقبيصة الهلالى وعبد الرحمن بن سمرة فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة التى ذكرت في حديث النعمان بن بشير فمن ههنا نخاف أن تكون أدرجت في الحديث إدراجا
(2/478)
وليست من لفظ رسول الله على أن ههنا مسلكا بعيد المأخذ لطيف المنزع يتقبله العقل السليم والفطرة السليمة وهو أن كسوف الشمس والقمر وجب لهما من الخشوع والخضوع بانمحاء نورهما وانقطاعه عن هذا العالم ما يكون فيه سلطانهما وبهاؤهما وذلك يوجب لا محالة لهما من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله وما يكون سببا لتجلى الرب تبارك وتعالى لهما ولا يستنكرون ان يكون تجلى الله سبحانه وتعالى لهما في وقت معين كما يدنو من أهل الموقف عشية عرفة وكما ينزل كل ليلة إلى سماء الدينا عند مضى نصف الليل فيحدث لهما ذلك التجلى خشوعا آخر ليس هو الكسوف ولم يقل النبى أن الله إذا تجلى لهما انكسفا ولكن اللفظة فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له ولفظ الإمام أحمد في الحديث إذا بدا الله لشىء من خلقه خشع له فهنا خشوعان خشوع أوجبه كسوفهما بذهاب ضوئهما وانمحائه فتجلى الله سبحانه لهما فحدث لهما عند تجليه تعالى خشوع آخر سبب التجلى كما حدث للجبل إذ تجلى تبارك وتعالى له ان صار دكا وساخ في الأرض وهذا غاية الخشوع لكن الرب تبارك وتعالى ثبتهما لتجليه عناية بخلقه لانتظام مصالحهم بهما ولو شاء سبحانه لثبت الجبل لتجليه كما ثبتهما ولكن أرى كليمه موسى أن الجبل العظيم لم يطق الثبات له فكيف تطيق أنت الثبات للرؤية التى سألتها 0 فصل وأما استدلاله بحديث ابن مسعود عن النبي إذا ذكر القدر
(2/479)
فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فامسكوا وإذا ذكر النجوم فامسكوا فهذا الحديث لو ثبت لكان حجة عليه لا له إذ لو كان علم الأحكام النجومية حقا لا باطلا لم ينه عنه النبي ولا أمر بالإمساك عنه فإنه لا ينهى عن الكلام في الحق بل هذا يدل على أن الخائض فيه خائض فيما لا علم له به وانه لا ينبغى له أن يخوض فيه ويقول على الله مالا يعلم فأين في هذا الحديث ما يدل على صحة علم أحكام النجوم0 وأما أحاديث النهي عن السفر والقمر في العقرب فصحيح من كلام المنجمين وأما رسول رب العالمين فبرىء ممن نسب إليه هذا الحديث وامثاله ولكن إذا بعد الإنسان عن نور النبوة واشتدت غربته عما جاء به الرسول جوز عقله مثل هذا كما يجوز عقل المشركين يقول النبي لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه وهذا ونحوه من كلام عباد الأصنام الذين حسنوا ظنهم بالأحجار فساقهم حسن ظنهم إلى دار البوار وأما الرواية عن علي أنه نهى عن السفر والقمر في العقرب فمن الكذب على علي رضى الله عنه والمشهور عنه خلاف ذلك وعكسه وانه أراد الخروج لحرب الخوارج فاعترضه منجم فقال يا أمير المؤمنين لا تخرج فقال لأى شىء قال إن القمر في العقرب فإن خرجت أصبت وهزم عسكرك فقال علي رضى الله عنه ما كان لرسول الله
(2/480)
ولا لأبي بكر ولا لعمر منجم بل أخرج ثقة بالله وتوكلا على الله وتكذيبا لقولك فما سافر بعد رسول الله سفرة أبرك منها قتل الخوارج وكفي المسلمين شرهم ورجع مؤيدا منصورا فائزا ببشارة النبي لمن قتلهم حيث يقول شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه وفي لفظ طوبى لمن قتلهم وفي لفظ تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وفي لفظ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وقال علي لأصحابه لولا ان تنكلوا لحدثتكم بما لكم عند الله في قتلهم فكان هذا الظفر ببركة خلاف ذلك المنجم وتكذيبه والثقة بالله رب النجوم والاعتماد عليه وهذه سنة الله فيمن لم يلتفت إلى النجوم ولا بني عليها حركاته وسكناته وأسفاره وإقامته كما أن سنته نكبة من كان منقادا لأربابها عاملا بما يحكمون له به وفي التجارب من هذا ما يكفى اللبيب المؤمن والله الموفق 0 فصل والذي أوجب للمنجمين كراهية السفر والقمر في العقرب انهم قالوا
(2/481)
السفر امر يراد لخير من الخيرات فإذا كان الوصول إلى ذلك الأمر أسرع كان أجود فينبغى على هذا أن يكون القمر في برج منقلب والعقرب برج ثابت والثوابت عندهم تدل على الأمور البطيئة قالوا وأيضا البرج للمريخ والمريخ عندهم نحس أكبر والنحس ينحس الحظوظ على أصحابها فينبغى أن يكون القمر في برج سعد لأن السعد ينفع والنحس يضر وايضا فإن هذا البرج هو برج هبوط القمر وإذا كان الكوكب في هبوطه لا يلتئم لصاحبه ما يريده ويقصده بل يكون وبالا عليه لأن الكوكب الهابط عندهم كالمنكس وأيضا فإن القمر عندهم رب تاسع العقرب وإذا كان رب التاسع منحوسا فالسفر مكروه لأن التاسع منسوب إلى السفر وبالجملة فإن العقرب عندهم شر البروج والقمر على الإطلاق قالوا فلذلك ينبغى الحذر من السفر والقمر في العقرب قالوا فمن كره السفر إذا ذاك فانما يكرهه بعلمه وعقله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أعقل أهل زمانه واعلمهم فهو اولى بكراهته وليس ذلك مخصوصا عندهم بالسفر وحده بل يكرهون جميع الابتدا آت والاختيارات والقمر في العقرب ولما كان القمر اسرع الكواكب حركة فهو أولى أن يكون دليلا على الأمور المنقلبة والسفر أمر منقلب والعقرب برج ثابت غير منقلب والتجربة والواقع من أكبر شاهد على تكذيبهم في هذا الحكم فكم ممن سافر وتزوج وابتدأ واختار والقمر في العقرب وتم له مراده على أكمل ما كان يؤمله ولا يزال الناس ينشؤن الأسفار والابتدا آت والاختيارات في كل وقت والقمر في العقرب وغيره ويحمدون عواقب أسفارهم كما أنشأأمير المؤمنين علي رضى الله عنه سفر جهاده للخوارج والقمر في العقرب وأنشأ المعتصم سفر فتح عمورية وجهاد أعداء الله والقمر في العقرب وقد أجمع الكذابون
(2/482)
انه إن خرج كسر عسكره وقتل أو أسر فبين الله للمسلمين كذبهم بذلك الفتح الجليل ولو استقصينا أمثال هذه الوقائع لطال الأمر جدا و من أراد أن يعلم كذبهم قطعا فليبتدىء سفرا أو اختيار او بناء او غيره والقمر في العقرب وليتوكل على الله وليسافر فإنه يرى ما يغبطه ويسره ومن أبين الكذب والبهت الكذب على الحس والواقع وهذا الذي كرهوه وحذروا منه لو كان الواقع شاهدا به لكان الناس لا يختارون ولا يسافرون ولا يبتدئون شيئا البتة والقمر في العقرب وكان عليهم بهذا وتجربتهم له معلوما بالضرورة فكيف والأمر بالعكس وأيضا فيقال قد يكون القمر في العقرب وتجامعه السعود وهما المشتري والزهرة مثلا ويكن رب بيت السفر وبيت الطالع وبيت السفر أيضا سعودات فهلا قلتم ان السفر حينئذ يكون صالحا لإجتماع هذه السعودات في البرج المنقلب واجتماعها يكسبها قوة بل قال قضاؤكم يكون القمر في العقرب مسعودا إن جامع السعود بل قالوا إن السعود ايضا تنتحس فيه فاذا حل السعود العقرب انتحست فيه ولذلك قلتم إن الشمس إذا حلت ضعفت فيه أيضا جدا وإن كان معه السعدان أعني المشتري والزهرة فلو قلب عليكم هذا الاستدلال وقيل إذا حلت السعود في هذا البرج قوي فعلها وتضافر بعضها مع بعض فقوى السعد باجتماعها ولم يقوى البرج على انحاسها وقوة زحل والمريخ النحسين على هذا البرج لا يستلزم إنحاس هذه السعود بل إن سعادتها تؤثر في نحسها كان من جنس قولكم ومن هنا قال أبو نصر الفارابي واعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت السعد نحسا والنحس سعدا والحار باردا وعكسه لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب وتخطىء فصل وأما ما احتج به من الأثر عن علي أن رجلا أتاه فقال
(2/483)
إني أريد السفر وكان ذلك في محاق الشهر فقال أتريد أن يمحق الله تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج فهذا لا يعلم ثبوته عن علي والكذابون كثيرا ما ينفقون سلعهم الباطله بنسبتها إلى علي وأهل بيته كأصحاب القرعة والجفر والبطاقة والهفت والكميان والملاحم وغيرها فلا يدري ما كذب على أهل البيت إلا الله سبحانه ثم لو صح هذا عن علي رضي الله عنه لم يكن فيه تعرض لثبوت إحكام النجوم بوجه ولا ريب أن استقبال الأسفار والأفعال في أوائل النهار والشهر والعام لها مزية والنبي قد قال اللهم بارك لأمتي في بكورها وكان صخر الغامدي راوي الحديث إذا بعث تجارة له بعثها في أول النهار فأثرى وكثر ماله ونسبة أول النهار نسبة أول الشهر إليه وأول العام إليه فللأوائل مزية القوة وأول النهار والشمس بمنزلة شبابه وآخره بمنزلة شيخوخته وهذا أمر معلوم بالتجربة وحكمة الله تقتضيه وأما ما ذكره عن اليهودي الذي أخبر ابن عباس بما أخبره من موت
(2/484)
ابنه إلى تمام ذكر القصة فهذه الحكاية إن صحت فهى من جنس أخبار الكهان بشىء من المغيبات وقد أخبر ابن صياد النبي بما خبأ له في ضميره فقال له أنت من إخوان الكهان وعلم تقدمه المعرفة لا تختص يما ذكره المنجمون بل له عدة اسباب يصيب ويخطىء ويصدق الحكم معها ويكذب منها الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر ومنها السانح والبارح ومنها الكف ومنها ضرب الحصى ومنها الحظ في الأرض ومنها الكشوف المستندة إلى الرياضة ومنها الفراسة ومنها الجزاية ومنها علم الحروف وخواصها إلى غير ذلك من الأمور التى ينال يها جزء يسير من علم الكهان وهذا نظير الأسباب التى يستدل بها الطبيب والفلاح والطبائعى على أمور غيبية بما تقتضيه تلك الأدلة مثال الطبيب إذا رأى الجرح مستديرا حكم بأنه عسر البرء وإذا رآه مستطيلا حكم بأنه أسرع برءا وكذلك علامات البحارين وغيرها ومن تأمل ما ذكره بقراط في علائم الموت رأى العجائب وهى علامات صحيحة مجربة وكذلك ما علم به الربان في أمور تحدث في البحر والريح بعلامات تدل على ذلك من طلوع كوكب أو غروبه أو علامات أخرى فيقول يقطع مطر أو يحدث ريح كذا وكذا أو يضطرب البحر في مكان كذا ووقت كذا فيقع ما يحكم به وكذلك الفلاح يرى علامات فيقول هذه الشجرة يصيبها كذا وتيبس في وقت كذا وهذه الشجرة لا تحمل العام وهذه تحمل وهذا النبات يصيبه كذا وكذا لما يرى من علامات يختص هو بمعرفتها بل هذا أمر لا يختص بالإنسان بل كثير من الحيوان يعرف أوقات المطر والصحو والبرد وغيره كما ذكره الناس في كتب الحيوان والفرس الردىء الخلق إذا رأى اللجام من بعيد نفر وجزع وعض من يريد ان يلجمه علما منه بما يكون بعد اللجام وهذه النملة إذا خزنت الحب في بيوتها كسرته بنصفين علما منها بأنه ينبت إذا كان صحيحا وأنه إذا انكسر لا ينبت فإذا خزنت الكفرة كسرتها بأربعة أرباع علما منها بأنها تنبت إذا كسرت بنصفين وهذا السنور يدفن أذاه ويغطيه بالتراب
(2/485)
علما منه بأن الفأر تهرب من رائحته فيفوته الصيد ويشمه أولا فإن وجد رائحته شديدة غطاه بحيث يوارى الرائحة والجرم وإلا اكتفى بأيسر التغطية وهذا الأسد إذا مشى في لين سحب ذنبه على آثار رجليه ليفطيها علما منه بأن المار يرى مواطىء رجليه ويديه وإذا ألف السنور المنزل منع غيره من السنانير الدخول إلى ذلك المنزل وحاربهم أشد محاربة وهم من جنسه علما منه بأن أربابه ربما استحسنوه وقدموه عليه أو شاركوا بينهما في المطعم وأن أخذ شيئا مما يجزيه أصحاب المنزل عنه هرب علما بما يكون إليه منهم من الضرب فإذا ضربوه تملقهم أشد التملق وتمسح بهم ولطع أقدامهم علما منه بما يحصله له الملق من العفو والإحسان وهذا في الحيوان البهيم أكثر من أن
(2/486)
نذكره فله من تقدمة المعرفة ما يليق به وللخيل والحمام من ذلك عجائب وكذلك الثعلب وغيره فعلم ان هذا أمر عام للانسان والحيوان أعطى من تقدمه المعرفة بحسبه وأسباب هذه التقدمة تختلف والأمم الذين لم يتقيدوا بالشرائع لهم اعتبار عظيم بهذا وكذلك من قل التفاته واعتناؤه بما جاءت به الرسل فإنه يشتد التفاته ويكثر نظره واعتناؤه بذلك وأما أتباع الرسل فقد أغناهم الله بما جاءت به الرسل من العلوم النافعة والأعمال الصالحة عن هذا كله فلا يعتنون به ولا يجعلونه من مطالبهم المهمة لأن ما يطلبونه أعلى وأجل من هذا ومع هذا فلهم منه أوفر نصيب بحسب متابعتهم الرسل من الفراسة الصادقة والمنامات الصالحة الصحيحة والكشوفات المطابقة وغيرها وهممهم لا تقف عند شىء من ذلك بل هى طامحة نحو كشف ما جاء به الرسل من الهدى ودين الحق في كل مسألة وهذا اعظم الكشوف وأجله وأنفعه في الدارين مع كشف عيوب النفس وآفات الأعمال واما الكشف الجزئي عما أكل فلان وعما أحدثه في داره وعما يجرى له في غده ونحو ذلك فهذا ممالا يعبا به من علت همته ولا يلتفت إليه ولا يعده شيئا على أنه مشترك بين المؤمن والكافر فلعباد الأصنام والمجوس والصابئة والفلاسفة والنصارى من ذلك شىء كثير وذلك لا ينفعهم عند الله ولا يخلصهم من عذابه وهؤلاء الكهان وعبيد الجن والسحرة لهم من ذلك أمور معروفة وهم أكفر الخلق فغاية هذا المنجم اليهودي الذي أخبر ابن عباس بما أخبره أن يكون واحدا من هؤلاء فكان ماذا وهل يقف عند هذا إلا الهمم الدنيئة السفلية التى لا نهضة لها إلى الله والدار الآخرة لما يرى لها بذلك من التميز عن الهمج الرعاع من بني آدم فصل وأما احتجاجه بحديث أبي الدرداء لقد توفي رسول الله وتركنا
(2/487)
وما طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكرلنا منه علما فهذا حق وصدق وهو من أعظم الأدلة على إبطال قولكم وتكذيبكم فيما تدعونه من علم أحكام النجوم فإنه ذكرهم على كل شيء حتى الخرأة ذكرهم من علم كل طائر وكل حيوان وكل ما في هذا العالم ولم يذكرهم من علم أحكام النجوم شيئا البته وهو أجل من هذا وأعظم وقد صانه الله سبحانه عن ذلك وإنما الذى ذكركم بهذه الأحكام المشركون عباد الأصنام والكواكب مثل بطليموس وبنكلوسا وطمطم صاحب الدرج وهؤلاء مشركون عباد أصنام وكذلك أتباعهم أفلا يستحي رجل أن يذكر رسول الله في هذا المقام نعم رسول الله ذكر أمته من تكذيبكم وكفركم ومعاداتكم والبراءة منكم والإخبار بأنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ما يعرفه من عرف ما جاء به من أمته والبهت والفرية والكذب على الله ورسوله0 هل كان رسول الله أو أحد من أهل بيته مثبتا لأحكام النجوم عاملا بها في حركاته وسكناته وأسفاره كما هو المعروف من المشركين وأتباعهم سبحانك هذا بهتان عظيم وأما قوله أنه جاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم لأنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل بيت وتفرقوا عنه في الأرض فكان يغتم لخفاء خبرهم عليه فأكرمه الله تعالى بهذا العلم فكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم حسب له بهذا الحساب فيقف على حالته فليس هذا ببدع من بهت المنجمين والملاحدة وإفكهم وافترائهم على آدم وقد علموا بالمثل السائر هنا : إذا كذبت فابعد شاهدك 0
فصل وأما ما نسبه إلى الشافعى من حكمه بالنجوم على عمر ذلك المولود
(2/488)
فلقد نسب الشافعى إلى هذا العلم وحكمه فيه بأحكام ليعجز عن مثلها ائمة المنجمين وأظن الذى غره في ذلك أبو عبد الله الحاكم فإنه صنف في مناقب الشافعى كتابا كبيرا وذكر علومه في أبواب وقال الباب الرابع والعشرون في معرفته تسيير الكواكب من علم النجوم وذكر فيه حكايات عن الشافعى تدل على تصحيحه لأحكام النجوم وكان هذا الكتاب وقع للرازي فتصرف فيه وزاد ونقص وصنف مناقب الشافعى من هذا الكتاب على أن في كتاب الحاكم من الفوائد والآثار مالم يلم به الرازي والذي غر الحاكم من هذه الحكايات تساهله في إسنادها ونحن نبينها ونبين حالها ليتبين أن نسبة ذلك إلى الشافعى كذب عليه وان الصحيح عنه من ذلك ما كانت العرب تعرفه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطرقات وهذا هو الثابت الصحيح عنه بأصح إسناد إليه قال الحاكم حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الربيع بن سليمان قال قال الشافعى قال الله عز وجل هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وقال وعلامات وبالنجم هم يهتدون كانت العلامات جبالا يعرفون مواضعها من الأرض وشمسا وقمرا ونجما مما يعرفون من الفلك ورياحا يعرفون صفاتها في الهواء تدل على قصد البيت الحرام وأما الحكايات التى ذكرت عنه في أحكام النجوم فثلاث حكايات إحداها قال الحاكم قرىء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوى وأكثر ظنى أني حضرته حدثنا أبو اسحاق إبراهيم ابن محمد بن العباس الآزدى في آخرين قالوا حدثنا محمد بن أبي يعقوب الجوال الدينورى حدثنا عبد الله بن محمد البلوى حدثنى خالى عمارة بن زيد قال كنت صديقا لمحمد ابن الحسن فدخلت معه يوما على هرون الرشيد فساءله ثم أني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول إن محمد بن أدريس يزعم أن للخلافة أهلا قال فاستشاط هرون من قوله غضبا ثم قال على به فلما مثل بين يديه أطرق ساعة ثم رفع رأسه اليه فقال إيها قال الشافعى ما إيها يا أمير المؤمنين أنت الداعى وأنا المدعو
(2/489)
وأنت السائل وأنا المجيب فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها إلى أن قال كيف علمك بالنجوم قال أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائى والناري وما كانت العرب تسميه الأنواء ومنازل النيران والشمس والقمر والاستقامة والرجوع والنحوس والسعود وهيآتها وطبائعها وما استدل به من برى ويجري وأستدل في أوقات صلاتي وأعرف ما مضى من الأوقات في كل ممسي ومصبح وظعنى في أسفارى قال فكيف علمك بالطب قال اعرف ما قالت الروم مثل ارسطاطا ليس ومهراريس وفرفوريس وجالينوس وبقراط واسد فليس بلغاتهم وما نقل من أطباء العرب وفلاسفة الهند ونمقته علماء الفرس مثل حاماسف وشاهمرو وبهم ردويوز جمهر ثم ساق العلوم على هذا النحو في حكاية طويلة يعلم من له علم بالمنقولات أنها كذب مختلق وافك مفترى على الشافعى والبلاء فيها من عند محمد بن عبد الله البلوى هذا فإنه كذاب وضاع وهو الذي وضع رحلة الشافعى وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد ولم ير الشافعى أبا يرسف ولا اجتمع به قط وإنما دخل بغداد بعد موته ثم إن في سياق الحكاية ما يدل من له عقل على انها كذب مفترى فإن الشافعى لم يعرف لغه هؤلاء اليونان البتة حتى يقول إني أعرف ما قالوه بلغاتهم وأيضا فإن هذه الحكاية أن محمد بن الحسن وشى بالشافعى إلى الرشيد وأراد قتله وتعظيم محمد الشافعى ومحبته له وتعظيم الشافعى له وثناؤه عليه هو المعروف وهو يدفع هذا الكذب وأيضا فإن الشافعى رحمه الله لم يكن يعرف علم الطب اليوناني بل كان عنده من طب العرب طرف حفظ عنه في منثور كلامه بعضه كنهيه عن أكل الباذنجان بالليل وأكل البيض المصلوق بالليل وكان يقول عجبا لمن يتعشى ببيض وينام كيف يعيش وكان يقول عجبا لمن يخرج من الحمام ولا يأكل كيف يعيش وكان يقول عجبا لمن يحتجم ثم يأكل كيف يعيش يعنى عقب الحجامة وكان يقول احذر أن تشرب لهؤلاء الأطباء دواء ولا تعرفه وكان يقول لا تسكن ببلدة ليس
(2/490)
فيها عالم ينبئك عن دينك ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك وكان يقول لم أر شيئا انفع للوباء من البنفسج يدهن به ويشرب إلى امثال هذه الكلمات التى حفظت عنه فأما أنه كان يعلم طب اليونان والروم والهند والفرس بلغاتها فهذا بهت وكذب عليه قد أعاذة الله عن دعواه وبالجملة فمن له علم بالمنقولات لا يستريب في كذب هذه الحكاية عليه ولولا طولها لسقناها ليتبين اثر الصنعة والوضع عليها وأما الحكاية الثانية فقال الحاكم أخبرنا أبو الوليد الفقيه قال حدثت عن الحسن بن سفيان عن حرملة قال كان الشافعى يديم النظر في كتب النجوم وكان له صديق وعنده وجارية قد حبلت فقال إنها تلد إلى سبعة وعشرين يوما ويكون في فخذ الولد الأيسر خال أسود ويعيش أربعة وعشرين يوما ثم يموت به على النعت الذى وصف وانقضت
(2/491)
مدته فمات فأحرق الشافعى بعد ذلك تلك الكتب وما عاود النظر في شيء منها وهذا الإسناد رجاله ثقات لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد بهذه الحكاية عن الحسن بن سفيان أو فيمن حدث بها الحسن عن حزملة وهذه الحكاية لو صحت لوجب أن تثنى الخناصر على هذا العلم وتشد به الأيدى لا أن تحرق كتبه ويهان غاية الإهانة ويجعل طعمة للنار وهذا لا يفعل إلا بكتب المحال والباطل ثم إنه ليس في العالم طالع للولادة يقتضى هذا كله كما سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى والطالع عند المنجمين طالعان طالع مسقط النطفة وهو الطالع الأصلى وهذا لا سبيل إلا العلم به إلا في أندر النادر الذي لا يقتضيه الوجود والثاني طالع الولادة وهم معترفون أنه لا يدل على أحوال الولد وجزئيات امره لأنه انتقال الولد من مكان إلى مكان وإنما أخذوه بدلا من الطالع الأصلى لما تعذر عليهم اعتباره وهذا الحكاية ليس فيها أخذ واحد من الطالعين لأن فيها الحكم على المولود قبل خروجه من غير اعتبار طالعه الأصلى والمنجم يقطع بأن الحكم على هذا الولد لا سبيل إليه وليس في صناعة النجوم ما يوجب الحكم عليه والحالة هذه وهذا يدل على أن هذه الحكاية كذب مختلق على الشافعى على هذا الوجه وكذلك الحكاية الثالثة وهي ما رواه الحاكم أيضا أنباني عبد الرحمن بن الحسن القاضى أن زكريا بن يحيى الساجى حدثهم أخبرني أحمد بن محمد بن بنت الشافعى قال سمعت أبي يقول كان الشافعى وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه فجلس يوما وامرأة تلد فحسب فقال تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا فولدت فكان كما قال فجعل على نفسه ألا ينظر فيه أبدا وأمر هذه الحكاية كالتى قبلها فأن ابن بنت الشافعى لم يلق الشافعى ولا رآه والشأن فيمن حدثه بهذا عنه والذي عندى في هذا أن الناقل إن أحسن به الظن فإنه غلط على الشافعى والشافعى كان من أفرس الناس وكان قد قرأ كتب الفراسة وكانت له فيها اليد
(2/492)
الطولى فحكم في هذه القضية وأمثالها بالفراسة فأصاب الحكم فظن الناقل أن الحاكم كان يستند إلى قضايا النجوم وأحكامها وقد برأ الله من هو دون الشافعى من ذلك الهذيان فكيف بمثل الشافعى رحمه الله في عقله وعلمه ومعرفته حتى يروج عليه هذيان المنجمين الذي لا يروج إلا على جاهل ضعيف العقل وتنزيه الشافعى رحمه الله عن هذا هو الذى ينبغى أن يكون من مناقبه فأما أن يذكر في مناقبه أنه كان منجما يرى القول بأحكام النجوم وتصحيحها فهذا فعل من يذم بما يظنه مدحا وإذا كان الشافعى شديد الإنكار على المتكلمين مزريا بهم وكان حكمه فيهم أن يضربوا بالحديد ويطاف بهم في القبائل فماذا رأيه في المنجمين وهو أجل وأعلم من ان يحكم بهذا الحكم على أهل الحق ومن قضاياهم في الصدق ينتهى إلى الحد الذى ذكر في هذه الكتابة فذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم والحاكم وغيرهما عن الحميدى قال قال الشافعى خرجت
(2/493)
إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها ثم لما كان انصرافي مررت في طريقي برجل وهو محتب بفناء داره أزرق العين نأتيء الجبهة سفاط فقلت له هل من منزل قال نعم قال الشافعى وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة فأنزلنى فرأيت أكرم رجل بعث إلى بعشاء وطيب وعلف لدوابي وفراش ولحاف وجعلت أتقلب الليل أجمع ما أصنع بهذه الكتب فلما أصبحت قلت للغلام أسرج فأسرج فركبت ومررت عليه وقلت له إذا قدمت مكة ومررت بذى طوى فاسأل عن منزل محمد بن إدريس الشافعى فقال لى الرجل أمولا لأبيك أنا قلت لا قال فهل كانت لك عندى نعمة قلت لا قال فأين ما تكلفت لك البارحة قلت وما هو قال اشتريت لك طعاما بدرهمين وأدما بكذا وعطرا بثلاثة دراهم وعلفا لدوابك بدرهمين وكرى والفراش واللحاف درهمان قال قلت يا غلام فهل بقى شيء قال كرى المنزل فأني وسعت عليك وضيقت على نفسى فغبطت نفسي بتلك الكتب فقلت له بعد ذلك هل بقى شيء قال امض أخزاك الله فما رأيت شرا منك وقال الربيع اشتريت للشافعى طيبا بدينار فقال لى ممن اشتريته فقلت من ذلك الأشقر الأزرق فقال أشقر أزرق أذهب فرده وقال الربيع مر أخي في صحن الجامع فدعاني الشافعى فقال لى ياربيع أنظر إلى الذى يمشى هذا أخوك قلت نعم أصلحك الله قال اذهب ولم يكن رآه قبل ذلك قال قتيبة بن سعيد رأيت محمد بن الحسن والشافعى قاعدين بفناء الكعبة فمر الرجل فقال أحدهما لصاحبه تعال نركز على هذا المار أى حرفة معه فقال أحدهما هذا خياط وقال الآخر هذا نجار فبعثا إليه فسألاه فقال كنت خياطا واليوم أنجر أو كنت نجارا واليوم أخيط وقال الربيع سمعت الشافعى وقدم عليه رجل من أهل صنعاء فلما رآه قال له من أهل صنعاء قال نعم قال فحداد أنت قال نعم وقال كنت عند الشافعى إذ أتاه رجل فقال له الشافعى أنساج أنت قال عندى أجراء وقال كنا عند الشافعى إذا مر به رجل فقال الشافعى لا يخلو هذا أن يكون حائكا أو نجارا قال فدعوناه فقال ما
(2/494)
صنعتك فقال نجار فقلنا أو غير ذلك قال عندى غلمان يعملون الثياب وقال حرملة سمعت الشافعى يقول احذروا من كل ذى عاهة في بدنه فإنه شيطان قال حرملة قلت من أولئك قال الأعرج والأحوال والأشل وغيره وقال اشتهى الشافعى يوما عنبا أبيض فأمرني فاشتريت له منه بدرهم فلما رآه استجاده فقال لى يا أبا محمد ممن أشتريت هذا فسميت له البائع فنحى الطبق من بين يديه وقال لى رده عليه واشترى لى من غيره فقلت له وما شأنه فقال ألم أنهك أن تصحب الأزرق والأشقر فإنه لا ينجب فكيف آكل من شيء اشتريته لى ممن أنهى عن صحبته قال الربيع فرددت العنب على البائع واعتذرت إليه بكلام واشتريت له عنبا من غيره وقال حرملة سمعت الشافعى يقول احذروا
(2/495)
الأعور والأحول والأعرج والأحدب والأشقر والكوسج وكل من به عاهة في بدنه وكل ناقص الخلق فاحذروه فإنه صاحب لؤم ومعاملته مره وقال مرة أخرى فإنهم أصحاب خب وقال الربيع دخلنا على الشافعى عند وفاته أنا والبويطى والمزني ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم قال فنظر إلينا الشافعى ساعة فأطال ثم التفت فقال أما أنت يا أبا يعقوب فستموت في حديد يعنى البويطى وأما أنت يا مزني فسيكون لك بمصر هنات وهنات ولتدركن زمانا تكون أقيس أهل ذلك الزمان وأما انت يا محمد فسترجع إلى مذهب أبيك وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لى في نشر الكتب قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة قال الربيع فكان كما قال وقال الربيع ما رأيت أفطن من الشافعى لقد سمى رجالا ممن يصحبه فوصف كل واحد منهم بصفة ما أخطأ فيها فذكر المزني والبويطى وفلانا فقال ليفعلن فلان كذا وفلان كذا وليصحبن فلان السلطان وليقلدن القضاء وقال لهم يوما وقد اجتمعوا ما فيكم أنفع من هذا وأوما إلى لأنه أمثلكم بأخيه وذكر صفاتا غير هذه قال فلما مات الشافعى صار كل منهم إلى ما ذكر فيه ما أخطأ في شيء من ذلك وقال حرملة لما وقع الشافعى في الموت خرجنا من عنده فقلت لأبي يا أبه كل فراسة كانت للشافعى أخذناها يدا بيد إلا قوله يقتلنى أشقر وها هو في السياق فوافينا عبد الله بن عبد الحكم ويوسف ابن عمرو فقلنا إلى أين قالا إلى الشافعى فما بلغنا المنزل حتى أدركنا الصراخ عليه قلنا مه مالكم قالوا مات الشافعى فقال أبي من غمضه قالوا يوسف بن عمرو وكان أزرق وهذه الآثار وغيرها ذكرها ابن أبي حاتم والحاكم في مصنفيهما في مناقب الشافعى وهي اللائقة بجلالته ومنصبه لا ما باعده الله منه من أكاذيب المنجمين وهذياناتهم والله أعلم وأما ما احتج به من أن فرعون كان يذبح أبناء بنى أسرائيل ويستحي نساءهم لأن المفسرين قالوا كان ذلك بأن المنجمين أخبروه بأنه سيجىء بنى إسرائيل مولود يكون هلاكه على يديه فأكثر المفسرين
(2/496)
إنما أحالوا ذلك على خبر الكهان وروى بعضهم أن قومه أخبروه بأن بنى أسرائيل يزعمون أنه يولد منهم مولود يكون هلاكك على يديه وهاتان الروايتان هما الدائران في كتب المفسرين وأما هذه الرواية أن المنجمين قالوا له ذلك فغايتها أنها من أخبار أهل الكتاب وقد خالفها غيرها من الروايات فكيف يسوغ التمسك بها في الأمر العظيم وفي أخبار الكهان ما هو أعجب من ذلك فقد أخبروا بظهور خاتم الرسل محمد قبل ظهوره وذلك موجود في دلائل النبوة ونحن لا ننكر علم تقدمة المعرفة بأسباب مفضية إليه تختلف قوى الناس في ادراكها وتحصلها وإنما كلامنا معكم في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التى يسندونها إليها وبيان أن ضرر هذا العلم لو كان حقا أعظم من نفعة في
(2/497)
الدنيا والآخرة وأن أهله لهم أوفر نصيب من قوله إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدينا وكذلك نجزى المفترين وأهل هذا العلم أذل أذل الناس في الدنيا لا يمكن أحدا منهم أن يأكل رزقه بهذا العلم إلا بأعظم ذل وعزيزهم لابد أن يتعبد وينضوى إلى مكاس أو ديوان أو وال يكون تحت ظله وفي كنفه وسائرهم على الطرقات وفي كسر الحوانيت مدسسين صيدهم كل ناقص العقل والإيمان والدين من صبى أو امرأة أو حمار في سلاح آدمى أو ذباب طمع لو لاح له في عبادة الأصنام والشمس والقمر والنجوم لكان أول العابدين ورأس مالهم الكذب والزرق وأخذ أحوال السائل منه ومن فلتات لسانه وهيئته وإعراضه فيخبرونه بما يناسب ذلك من الأحوال فينفعل عقله لهم ويقول لقد أعطى هؤلاء عطاء لم يعطه غيرهم وتراهم في الغالب يقصد أحدهم قرية أو دكانا منزويا عن الطريق ويصلي فيه للصيد وينصب الشرك فإذا لاح له بدوى أو حيشى أو تركماني فإنه يتبرك بطلعته ويقول اجلس حتى أبين لك ما يقتضيه نجمك وطالعك وبيت مالك وبيت فراشك وبيت أفراحك وهمومك وكم بقى عليك من القطع نعم ما اسمك واسم أمك وأبيك فإذا قال له اسمه واسم أبويه أخرج له الاصطرلاب أو الكرة النحاس وقال كيف قلت اسمك فإذا أخبره ثانية قال وكيف قلت اسم الوالدة طول الله عمرها فإذا قال درجت إلى رحمة الله تعالى قال مامات من خلف مثلك ثم يحسب ويقول فلانة تسعة وتزيد عليها تسعة تسقط منها خمسة يبقى منها أربعة أقعد واسمع يا أخي إني أرى عليك حججا مكتوبة ووثائق ولا بد لك من الوقوف بين يدى ولى أمر إما حاكم واما وال وأرى دما خارجا عنك ما أنت من أهله وأرى ناسا قد اجتمعوا حولك وإن كان شكل ذلك الرجل شكل من هو من أرباب التهم قال وأرى خشبا ينصب ومسامير تضرب وجنايات تؤخذ نعم يا أخي برجك بالأسد وهو نارى مذكر أخذت منه نطاح مقدام بطل نجمك الزهرة أنت قليل البخت عند الناس مكفور الإحسان مقصود بالأذى قل أن صاحبت
(2/498)
أحدا فأثمرت لك صحبته خيرا نعم يا أخي أسعد أيامك يوم الجمعة وخير كسبك كد يدك اعلم أنه لابد لك من أسفار وغربة وركوب أهوال واقتحام اخطار وأمور عظام أبينها لك إن شاء الله هات لا تبخل على نفسك حط يدك في جيبك حل الكيس ولا يزال يلكزه ويجذبه ويطمعه حتى يستخرج ما تسمح به نفسه فإن رأى منه تباطيا قال عجل قبل خروج هذه الساعة السعيدة فإنها ساعة مباركة أما سمعت قول نبيك يسروا ولا تعسروا فإذا حاز ما أخذه قال له زدني فإن أمورك كثيرة ويحتاج إلى تعب وفكر وحساب طويل فإذا تم له ما يأخذه منه بقى هو من جوا فكال له من جراب الكذب ما أمكنه ولا يبالى أكذبه أم صدقه ثم يقول له أخي
(2/499)
برجك الأسد وهو سهم العداوة والحسد وما عاداك أحد قط وأفلح بل يظفرك الله به وينصرك عليه نعم وهو برج ناري والنار من النور والنور فيه البهجة والسرور ابشر فأنت طويل العمر لا تموت في هذا الوقت عمرك من الستين إلى السبعين إلى الثمانين إلى التسعين بيت كسبك كذا وكذا وأرى حاجة مهمة قد خرجت عن يدك نعم بغير مرادك وأنت في غالب أحوالك الخارج عن يدك أكثر من الداخل فيها بالله صدقت أم لا فيقول والله صحيح والأمر كما قلت ولكن أحمد الله كلما بقي عليك من القطع أربعة أشهر وعشرة أيام وتخرج من نحسك وتدخل في برج سعادتك وتنجو ويخلف الله عليك بالخيرات والبركات ولا بد لك الساعة من رزق يأتيك الله به ويفرح به أهلك وعيلتك وتصلح حالك ويستقيم سعدك الثالث يا أخي من برجك الميزان وهو بيت الإخوان سعدك يا أخي منهم منقوص وحظك منهم منحوس غالب من أوليته منهم خيرا جازاك بالشر وغالب من قلت فيه الخير منهم يقول فيك الشر بالله أما الأمر هكذا وذلك يا أخي أنك خفيف الدم كل من رآك مال إليك وأنس بك وأنت محسود تحسد في مالك وفي عافيتك وفي أهلك وأولادك وكل ما تعمله بيدك ولكن العين لا تؤثر فيك لأن كل من برجه الأسد لا بد أن يكون له في رأسه أو جسده علامة مثل شجة أو ضربة بين أكتافه أو في ساقه وما هو بعيد أن في جسدك شامة أو في جسمك ثلمة وهذا هو الذي يدفع عنك العين وأنت لا تدري الرابع من بروجك العقرب وهو بيت الآباء أراك كنت قليل السعد بين أبويك ومع هذا فكان أكثر ميلهم وإشفاقهم مع غيرك هم عليك وكان حظك منهم ناقصا ولهم تطلع إلى كدك وكسبك الخامس من بروجك القوس وهو بيت البنين أراك قليلا ما يعيش لك أولاد تدفنهم كلهم ثم تموت أنت بعدهم بل سوف يكون لك ولد يشد الله به عضدك ويقوي أمرك وتنال من جهته راحة وخيرا وربما تكون سعادتك على يديه السادس من بروجك الجدي وهو برج أمراضك وأعلالك يا أخي أمراضك وأسقامك كثيرة وأكثرها في رأسك وربما يكون
(2/500)
في أجنابك وهي أمراض قوية طوال الله يعافينا وإياك وكنت في صغرك لا ترقد في السرير إلا بعد جهد جهيد وعهدي بك الآن لا ترقد في فراشك إلا بعد شدة نعم وأكثر أمراضك في الصيف والخريف السابع من بروجك الدلو وهو بيت الفراش وأرى فراشك خاليا أثم زوجة فإن قال نعم قال لا بد لك من فراقها عن قريب إما بموت وإما بطلاق فإن المريخ منك في بيت الفراش وإن قال لا قال عجيب والله لقد ابصرت في الطبائع أن فراشك فارغ وأرى روحا ناظرة إليك بعين الألفة والمحبة خطورك وخطوره عليك وأرى لك من قبله منفعة ولك به اتصال وفرح أبين لك على أي سبب يكون اجتماعكما نعم فإن قال له نعم قال هات فإن الذي أعطيتني قليل فاذا أخذ منه قال اعلم أنه لا بد لك من الاتصال بهذا الشخص على كل حال إلا أني ارى قد عمل لك عمل وعقد لك عقد وأنت في هم وغم من ذلك فان شئت عملت لك كتابا نافعا يكون لك حرزا من كل ما تخافه وتحذره ولا يزال يفتل له في الذروة والقرب حتى يستكتبه الحرز وكذب هذه الطائفة وجهلها وزرقها يعني شهرته عند الخاصة والعامة عن تكليف إرادة وكلما كان المنجم أكذب وبالزرق أعرف كان على الجهال أروج فصل وأما قوله إن هذا علم ما خلت عنه ملة من الملل ولا
(3/1)
أمة من الأمم ولا يعرف تاريخ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهل ذلك الزمان مشتغلين بهذا العلم ومعولين عليه في معرفة المصالح ولو كان هذا العلم فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب عليه فانظر ما في هذا الكلام من الكذب والبهت والافتراء على العالم من أول بنائه إلى آخره فإن آدم وأولاده كانوا برآء من ذلك وائمتكم معترفون بأن أول من عرف منه الكلام في هذا العلم وتلقيت عنه أصوله وأوضاعه هو إدريس النبي عليه السلام وكان بعد بناء هذا العالم بزمن طويل هذا لو ثبت ذلك عن إدريس فكيف وهو من الكذب الذي ليس مع صاحبه إلا مجرد القول بلا علم والكذب على رسول الله عليه وسلم أو ليس من الفرية والبهت أن ينسب هذا العلم إلى أمة موسى في زمنه ويعدوه بأنهم كانوا معولهم في مصالحهم على هذا العلم وكذلك أمه عيسى وأمة يونس والذين كانوا مع نوح ونجوا معه في السفينة وحسبك بهذا الكذب والافتراء على تلك الأمة المضبوط أمرها المحفوظ فعلها فهل كان النبي وأصحابه يعولون على هذا العلم ويعتمدون عليه في مصالحهم أو قرن التابعين يفعله او قرن تابعى التابعين وهذه هى خيار قرون العالم على الإطلاق كما أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس وهم اعلم الأمم واعرفها وأكثر كتبا وتصانيف وأعلاها شأنا وأكملها في كل خير ورشد وصلاح كما ثبت في المنسد وغيره عن النبي أنه قال أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله فهل رأيت خيار قرون هذه الأمة والموفقين من خلفائها وملوكها وساداتها وكبرائها معولين على هذا العلم أو معتمدين عليه في مصالحهم وهذه سيرهم ما بعهدها من قدم ولا يتأتي الكذب عليهم هذا وقد أعطوا من التأييد والنصر والظفر بعدوهم والاستيلاء على ممالك العالم مالم يظفر به أحد من المعولين على أحكام النجوم بل لا تجد المنجمين الا ذمة لهم لولا اعتصامهم بحبل منهم لقطعت حبال أعناقهم ولا تجد المعولين على هذا العلم إلا مخصوصين
(3/2)
بالخذلان والحرمان وهذا لأنهم حق عليهم قوله تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحيوة الدنيا وكذلك تجزي المفترين قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذا لأممة إلى يوم القيامة نعم لا ننكر أن هذا العلم له طلبة مشغولون به معتنون بأمره وهذا لا يدل على صحته فهذا السحر لم يزل في العالم من يشتغل به ويتطلبه أعظم من اشتغاله بالنجوم وطلبه لها بكثير وتأثيره في الناس ممالا ينكر أفكان هذا دليلا على صحته وهذه الأصنام لم تزل تعبد في الأرض من قبل نوح وإلى الآن ولها الهياكل المبنية والسدنة ولها الجيوش التى تقاتل عنها وتحارب لها وتختار القتل والسبي وعقوبة الله تعالى ولا تنتهى عنها أفيدل هذا على صحة عباداتها وإن عبادها على الحق ومن العجب قوله لو كان هذا العلم فاسدا لاستحال أطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وليس في الفرية أبلغ من هذا ولا في البهتان أترى هذا الرجل ما وقف على تأليف لأحد من أهل المشرق والمغرب في إبطال هذا العلم والرد على أهله فقد رأينا نحن وغيرنا ما يزيد على مائة مصنف في الرد على أهله وإبطال أقوالهم وهذه كتبهم بأيدي الناس وكثير منها للفلاسفة الذين يعظمهم هؤلاء ويرون أنهم خلاصة العالم كالفارابي وابن سينا وأبي البركات الأوحد وغيرهم وقد حكينا كلامهم وأما الردود في ضمن الكتب حين يرد على أهل المقالات فأكثر من أن تذكر ولعلها أن تزيد على عدة الألف تجد في كل كتاب منها الرد على هؤلاء وإبطال مذهبهم ونسبتهم إلى الكذب والزرق ولو أن مقابلا قابله وقال لو كان هذا العلم صحيحا لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب على رده وأبطاله لكان قوله من جنس قوله ولكن أهل المشرق فيهم هذا وهذا كما يشهد به الحس والتواريخ القديمة والحديثة ولقد رأينا من الردود القديمة قبل قيام الإسلام على هؤلاء ما يدل على أن العقلاء لم يزالوا يشهدون عليهم بالجهل وفساد المذهب وينسبونهم إلى الدعاوى
(3/3)
الكاذبة والآراء الباطلة التى ليس مع أصحابها إلا القول بلا علم 0 فصل وأما ما ذكره في أمر الطالع عن الفرس وأنهم كانوا يعتنون بطالع مسقط النطفة وهو طالع الأصل ثم يحكم بموجبه حتى يحكم بعدد الساعات التى يمكثها الولد في بطن أمه فهذا من الكذب والبهت ومن أراد أن يختبر كذبه فليجربه فإن تجربة مثل هذا ليست بمشقة ولا عسرة ثم إن هذا الواطىء لا علم له ولا لأحد أن الولد إنما يخلق من أول وطئه الذي أنزل فيه دون ما بعده وإن فرض أنه أمسك عن وطئها بعد المرة الأولى وحبسها بحيث يتيقن أن غيره لم يقربها وهذا في غاية الندرة لم يمكن المنجم أن يعلم أحوال ذلك المولود ولا تفاصيل أمره البتة ومدعى ذلك مجاهر بالكذب والبهت وقد اعترف القوم بأن طالع الولادة مستعار لا يفيد شيئا لأن الولد لا يحدث في ذلك الوقت وإنما ينتقل من مكان إلى مكان وقد اعترفوا بأن ضبطه متعسر جدا بل متعذر فإن في اللحظة الواحدة من اللحظات تتغير نصبة الفلك تغيرا لا يضبط ولا يحصيه
(3/4)
إلا الله ولا ريب أن الطالع يتغير بذلك تغيرا عظيما لا يمكن ضبطه وقد اعترفوا هم بهذا وأن سبب هذا التفاوت يحيل أحكامهم واعترفوا بأنه لا سبيل إلى الاحتراز من ذلك فأى وثوق لعاقل بهذا العلم بعد هذا كله وقد بينا أن غاية هذا لوصح وسلم من الخلل جميعه ولا سبيل إليه لكان جزء السبب والعلة والحكم لا يضاف إلى جزء سببه ثم لو كان سببا تاما فصوارفه وموانعه لا تدخل تحت الضبط البتة والحكم إنما يضاف إلى وجود سببه التام وانتقاء مانعه وهذه الأسباب والموانع مما لاتدخل تحت حصر ولا ضبط إلا لمن أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما لا إله هو علام الغيوب فلو ساعدناهم على صحة أصول هذا العالم وقواعده لكانت أحكامهم باطلة وهي أحكام بلا علم لما ذكرناه من تعذر الإحاطة بمجموع الأسباب وانتفاء الموانع ولهذا كثيرا ما يجمعون على حكم من أحكامهم الكاذبه فيقع الأمر بخلافه كما تقدم وأما تلك الحكايات المتضمنة لإصابتهم في بعض الأحوال فليسبب بأكثر من الحكايات عن أصحاب الكشف والفأل وزجر والطائر والضرب بالحصى والطرق والعيافة والكهانة والخط والحدس وغيرها من علوم الجاهلية وأعنى بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل كالفلاسفة والمنجمين والكهان وجاهلية العرب الذين كانوا قبل النبي فأن هذه كانت علوما لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل ومن هؤلاء من يزعم أنه يأخذ من الحروف علم المكان ولهم في ذلك تصانيف وكتب حتى يقولون إذا أردت معرفة ما في رؤيا السائل من خير أو شر فخذ أول حرف من كلامه الذي يكلمك به وفسر رؤياه على معنى ذلك الحرف فإن كان أول ما نطق به باء فرؤياه لأن الباء من البهاء من الخير ألا تراها في البر والبركة وبلوغ الآمال والبقاء والبشارة والبيان والبخت فإذا كان أول حرف من كلامه باء فاعلم أنه قد عاين ما أبهاه وبشره من الخيرات وإن كان أول كلامه تاء فقد بشر بالتمام والكمال وإن كان ثاء فبشره بالأثاث والمتاع لقوله تعالى هم أحسن
(3/5)
أثاثا ورئيا ثم قالوا فعليك بهذه الأحرف الثلاثة فليس شيء يخلو منها ويجاوزها وإذا تأملت جهل هؤلاء رايته شديدا فكيف حكموا على الباء بالبهاء والبركة دون البأس والبغى والبين والبلاء والبوار والبعد وكيف حكموا على الثاء بالأثاث دون الثقل والثقل والشلب ونحوه وكذلك استدلاله بأول ما يقع بصره عليه كما حكى عن أبي معشر أنه وقف هو وصاحب له على واحد من هؤلاء وكانا سائرين في خلاص محبوس فسألاه فقال أنتما في طلب خلاص مسجون فعجبا من ذلك فقال له أبو معشر هل يخلص أم لا فقالا تذهبان تلتقيانه قد خلص فوجدا الأمر كما قال فاستدعاه أبو معشر وأكرمه وتلطف له في السؤال عن كيفية علم ذلك فقال نحن نأخذ الفأل بالعين والنظر فينظر أحدنا إلى الأرض ثم يرفع رأسه فأول شيء يقع نظره عليه يكون الحكم به فلما سألتماني كان أول ما رأيت ماء في قربة فقلت
(3/6)
هذا محبوس ثم لما سألتماني في الثانية نظرت فإذا هو أفرغ من القربة فقلت يخلص ويصيب تارة ويخطىء تارة ومن هذا أخذ بعضهم الجواب عن التفاؤل بالأيام فإذا رأى أحد رؤيا مثلا يوم أحد أو ابتدأ فيه امرا قال حدة وقوة وإن كان يوم الجمعة قال اجتماع والفة وإن كان يوم سبت قال قطع وفرقة ومن هذا استدلال المسئول بالمكان الذي يضع السائل يده عليه من جسده وقت السؤال فإن وضع يده على رأسه فهو رئيسه وكبيره والرجلين قوامه والأنف بناء مرتفع أو تل أو نحوه والفم بئر عذبة اللحية أشجار وزروع وعلى هذا النحو من ذلك ما حكى عن المهدى أنه رأى رؤيا وأنسيها فأصبح مغتما بها فدل على رجل كان يعرف الزجر والفأل وكان حاذقا به واسمه خويلد فلما دخل عليه أخبره بالذي أراده له فقال له يا أمير المؤمنين صاحب الزجر والفأل ينظر إلى الحركة وأخطار الناس فغضب المهدي وقال سبحان الله أحدكم يذكر بعلم ولا يدري ما هو ومسح يده على رأسه ووجهه وضرب بها على فخذه فقال له أخبرك برؤياك يا أمير المؤمنين قال هات قال رأيت كأنك صعدت جبلا فقال المهدي لله ابوك يا سحار صدقت قال ما أنا بساحر يا أمير المؤمنين غير أنك مسحت بيدك على رأسك فزجرت لك وعلمت أن الرأس ليس فوقه أحد إلا السماء فأولته بالجبل ثم نزلت بيدك إلى جبهتك فزجرت لك بنزولك إلى أرض ملساء فيها عينان مالحتان ثم انحدرت إلى سفح الجبل فلقيت رجلا من فخذك قريش لأن أمير المؤمنين مسح بعد ذلك بيده على فخذه فعلمت أن الرجل الذي لقيه من قرابته قال صدقت وأمر له بمال وأمر أن لا يحجب عنه ومن ذلك هؤلاء أصحاب الطير السانح والبارح والقعيد والناطح وأصل هذا أنهم كانوا يزجرون الطير والوحش ويثيرونها فما تيامن منها وأخذ ذات اليمين سموه سانحا وما تياسر منها سموه بارحا وما استقبلهم منها فهو الناطح وما جاءهم من خلفهم سموه القعيد فمن العرب من يتشاءم بالبارح ويتبرك بالسانح ومنهم من يرى خلاف ذلك قال المدائني
(3/7)
سألت رؤبة بن العجاج ما السانح قال ما ولاك ميامنه قال قلت فما البارح قال ما ولاك مياسره قال والذي يجيء من قدامك فهو الناطح والنطيح والذي يجىء من خلفك فهو القاعد والقعيد وقال المفضل الضبي البارح ما يأتيك عن اليمين يريد يسارك والسانح ما يأتيك عن اليسار فيمر على اليمين وإنما اختلفوا في مراتبها ومذاهبها لأنها خواطر وحدوس وتخمينات لا أصل لها فمن تبرك بشيء مدحه ومن تشاءم به ذمه ومن اشتهر بإحسان الزجر عندهم ووجوهه حتى قصده الناس بالسؤال عن حوادثهم وما أملوه من أعمالهم سموه عائفا وعرافا وقد كان في العرب جماعة يعرفون بذلك كعراف اليمامة والأبلق الأسيدى والأجلح وعروة بن يزيد وغيرهم فكانوا يحكمون بذلك ويعملون به ويتقدمون ويتأخرون في جميع ما يتقلبون فيه ويتصرفون في حال الأمن والخوف والسعة والضيق والحرب والسلم فان أنجحوا
(3/8)
فيما يتفاءلون به مدحوه وداوموا عليه وإن عطبوا فيه تركوه وذموه ومنهم من أنكرها بعقله وأبطل تأثيرها بنظره وذم من اغتربها واعتمد عليها وتوهم تأثيرها فمنهم الرقشى حيث يقول : ولقد غدوت وكنت لا أغدو عل واق وحاتم فإذا الاشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم وكذاك لا خير ولا شر على أحد بدائم لا يمنعنك من بغا ء الخير تعقاد التمائم قد خط ذلك في السطو ر الأوليات القدائم وقال جهم الهذلي : ألم تر أن العائفين وإن جرت لك الطير عما في غذ عميان يظنان ظنا مرة يخطيانه وأخرى على بعض الذي يصفان قضى الله أن لا يعلم الغيب غيره ففي أي أمر الله يمتريان وقال آخر : وما أنا ممن يزجر الطير همه أطار غراب أم تعرض ثعلب ولا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم مر أعضب وقال آخر يمدح منكرها : وليس بهياب إذا ش له يقول عداني اليوم واق وحاتم ولكنه يمضي على ذاك مقدما إذا حاد عن تلك الهنات الختارم يعني بالواق الصرد وبالحاتم الغراب سموه حاتما لأنه كان عندهم يحتم بالفراق والختارم العاجز الضعيف الرأي المتطير وقد شفى النبي أمته في الطيرة حيث سئل عنها فقال ذاك شيء يجده أحدكم فلا يصدنه وفي أثر آخر إذا تطيرت فلا ترجع أي أمض لما قصدت له ولا يصدنك عنه الطيرة واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف وأما من لم يبال به ولم يعبأ به شيئا لم يضره البتة ولا سيما أن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك فالطيرة باب من الشرك والقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من اتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها ولا القى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره واعلم أن من كان معتنيا بها قائلا بها كانت إليه أسرع
(3/9)
من السيل الى منحدر فتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه فإذا سمع سفر جلا أو أهدى إليه تطير به وقال سفر وجلاء وإذا رأى ياسمينا أو سمع اسمه تطير به وقال يأس ومين وإذا رأى سوسنة أو سمعها قال سوء يبقى سنه وإذا خرج من داره فاستقبله أعور أو أشل أو أعمى أو صاحب آفة تطير به وتشاءم بيومه ويحكى عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهماته فاستقبله رجل أعور فتطير به وأمر به إلى الحبس فلما رجع من مهمه ولم يلق شرا أمر باطلاقه فقال له سألتك بالله ما كان جرمى الذى حبستنى لأجله فقال له الوالى لم يكن لك عندنا جرم ولكن تطيرت بك لما رأيتك فقال فما أصبت في يومك برؤيتى فقال مما لم ألق إلا خيرا فقال أيها الأمير أنا خرجت من منزلى فرايتك فلقيت في يومى الشر والحبس وأنت رأيتنى فلقيت في يومك الخير والسرور فمن أشأمنا والطيرة بمن كانت فاستحيا منه الوالى ووصله وقال أبو القاسم الزجاجى لم أر أشد تطيرا من ابن الرومى الشاعر وكان قد تجاوز الحد في ذلك فعاتبته يوما على ذلك فقال يا أبا القاسم الفأل لسان الزمان والطيرة عنوان الحدثان وهذا جواب من استحكمت علته فعجز عنها وهو أيضا بمنزلة من قد غلبته الوساوس في الطهارة فلا يلتفت إلى علم ولا إلى ناصح وهذه حال من تقطعت به أسباب التوكل وتقلص عنه لباسه بل تعرى منه ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع والمصائب به أعلق والمحن له ألزم بمنزلة صاحب الدمل والقرحة الذى يهدى إلى قرحته كل مؤذ وكل مصادم فلا يكاد يصدم من جسده او يصاب غيرها والمتطير متعب القلب منكد الصدر كاسف البال سيء الخلق يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه أشد الناس خوفا وأنكدهم عيشا وأضيق الناس صدرا وأحزنهم قلبا كثير الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه وكم قد حرم نفسه بذلك من حظ ومنعها من رزق وقطع
(3/10)
عليها من فائدة ويكفيك من ذلك قصة النابغة مع زياد بن سيار الفزارى حين تجهز إلى الغزو فلما أراد الرحيل نظر النابغة إلى جرادة قد سقطت عليه فقال جرادة تجرد وذات ألوان عزيز من خرج من هذا الوجه ونفذ زياد لوجهه ولم يتطير فلما رجع زياد سالما غانما أنشأ يقول 0 تخير طيرة فيها زياد ليخبره وما فيها خبير أقام كان لقمان بن عاد أشار له بحكمته مشير تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور بلى شىء يوافق بعض شيء أحيايينا وباطله كثير ولم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل كما قالوا لرسلهم انا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون
(3/11)
وكذلك حكى الله سبحانه عن قوم فرعون فقال فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وأن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله حتى إذا أصابهم الخصب والسعة والعافية قالوا لنا هذه أى نحن الجديرون الحقيقون به ونحن أهله وإن أصابهم بلاء وضيق وقحط ونحوه قالوا هذا بسبب موسى وأصحابه أصبنا بشؤمهم ونفض علينا غبارهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده كما قال تعالى عن أعداء رسوله وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وأن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك فهذه ثلاثة مواضع حكى فيها التطير عن أعدائه وأجاب سبحانه عن تطيرهم بموسى وقومه بأن طائرهم عند الله لا بسبب موسى وأجاب عن تطير أعداء رسول الله بقوله قل كل من عند الله وأجاب عن الرسل بقوله إلا طائركم معكم وأما قوله ألا إنما طائركم عند الله فقال ابن عباس طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قبله أى إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله وقال أيضا ان الأزراق والأقدار تتبعكم وهذه كقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج أى ما يطير له من الخير والشر فهو لازم له في عنقه والعرب تقول جرى له الطائر بكذا من الخير والشر قال أبو عبيدة الطائر عندهم الحظ وهو الذى تسميه العامة البخت يقولون هذا يطير لفلان أى يحصل له قلت ومنه الحديث فطار لنا عثمان بن مظعون أى أصابنا بالقرعة لما اقترع الأنصار على نزول المهاجرين عليهم وفي حديث رويفع ابن ثابت حتى أن أحدنا ليطير له النصل والريش والآخر القدح أى يحصل له بالشركة في الغنيمة وقيل في قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أن الطائر ههنا هو العمل قاله الفراء وهو يتضمن الرد على نفاه القدر وخص العنق بذلك من بين سائر أجزاء البدن لأنها محل الطوق الذي يطوقه الإنسان في عنقه فلا يستطيع فكاكه ومن هذا يقال إثم هذا في عنقك وافعل كذا واثمه في عنقي
(3/12)
والعرب تقول طوقها طوق الحمامة وهذا ربقة في رقبته وعن الحسن بن آدم لتنظر لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك فخصوا العنق بذلك لأنه موضع القلادة والتميمة واستعمالهم التعاليق فيها كثير كما خصت الأيدى بالذكر في نحو بما كسبت أيدكم بما قدمت يداك ونحوه وقيل المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار وهو الذي أصابهم في الدنيا وقيل المعنى أن سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجرى عليه ما يسوؤهم ويعاقبون عليهم بعد موتهم بما وعدهم الله ولا طائر أشأم من هذا وقيل حظهم ونصيبهم وهذا لا يناقض قول الرسل طائركم معكم أى حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم
(3/13)
وعدوانكم فطائر الباغى الظالم معه وهو عند الله كما قال تعالى وأن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ولو فقهوا او فهموا لما تطيروا بما جئت به لأنه ليس فيما جاء به الرسول ما يقتضى الطيرة فإنه كله خير محض لا شر فيه وصلاح لا فساد فيه وحكمه لا عبث فيها ورحمة لاجور فيها فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا فإن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير المحض والمصلحة والحكمة والرحمة وليس فيما أتيتهم به لو فهموا ما يوجب تطيرهم بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم وأنصبائهم التى يتناولوها منه باعمالهم وكسبهم ويحتمل أن يكون المعنى طائركم معكم أى راجع عليكم فالطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم وهذا من باب القصاص في الكلام مثل قوله في الحديث أخذنا فالك من فيك ونظيره قول النبي إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم فعلى هذا معنى طائركم معكم اى تصيبكم طيرتكم التى تطيرتم بها لأنهم اعتقدوا الشؤم فيها ولا شؤم فيها البتة فقيل لهم الشؤم منكم وهو نازل بكم فتأمله وهذا يشبه قوله تعالى وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لنزول منه الجبال قيل جزاء مكرهم عنده فمكر بهم كما مكا مكروا برسله ومكره تعالى بهم إنما كان بسبب مكرهم فهو مكرهم عاد عليهم وكيدهم عاد عليهم فهكذا طيرتهم عادت عليهم وحلت بهم وسمى جزاء المكر مكرا وجزاء الكيد كيدا تنبيها على أن الجزاء من جنس العمل ولما ذكر سبحانه أن ما أصابهم من حسنة وسيئة أى نعمة ومحنة فالكل منه تعالى بقضائه وقدره فكأنهم قالوا فما بالك أنت تصبيك الحسنات والسيئات كما تصيبنا فذكر سبحانه أن ما أصابه من حسنة فمن الله من بها عليه وأنعم بها عليه وما أصابه من سيئة فمن نفسه أى بسبب من قبله أى لا لنقص ما جاء به ولا لشر فيه ولا لشؤم يقتضى أن تصيبه السيئة بل بسبب
(3/14)
من نفسه ومن قبله وقد قيل في قوله تعالى طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون أن طائرهم ههنا هو السبب الذي يجىء فيه خيرهم وشرهم فهو عند الله وحده وهو قدره وقسمه إن شاء رزقكم وعافاكم وإن شاء حرمكم وابتلاكم ومن هذا قالوا طائر الله لا طائر كلبى قدر الله الغالب الذي يأتي بالحسنات ويصرف السيئات ومنه اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك وعلى هذا فالمعنى بطائركم نصيبكم وحظكم الذي يطيركم ومن فسره بالعمل فالمعنى طائركم الذي طار عنكم من أعمالكم بهذين القولين فسر معنى قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وأنه ما طار عنه من عمله أو صار لازما له مما قضى الله عليه وقدر عليه وكتب له من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة 0 فصل وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال في وصف
(3/15)
السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون زاد مسلم وحده ولا يرقون فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذه الزيادة وهم من الراوى لم يقل النبي ولا يرقون لأن الراقي محسن إلى أخيه وقد قال النبي وقد سئل عن الرقي فقال من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه وقال لا بأس بالرقي مالم يكن شركا والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مسقط ملتفت إلى غير الله بقلبه والراقي محسن نافع قلت والنبي لا يجعل ترك الإحسان المأذون فيه سببا للسبق إلى الجنان وهذا بخلاف ترك الإسترقاء فإنه توكل على الله ورغبة عن سؤال غيره ورضاء بما قضاه وهذا شيء وهذا شيء وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي لا عدوى ولا طيرة وأحب الفال الصالح ونحوه من حديث انس وهذا يحتمل أن يكون نفيا وأن يكون نهيا أى لا تطيروا ولكن قوله في الحديث ولا عدوى ولا صفر ولا هامة يدل على أن المراد النفى وإبطال هذه الأمور التى كانت الجاهلية تعانيها والنفي في هذا أبلغ من النهى لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره والنهى إنما يدل على المنع منه وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث سفيان عن سلمة عن عيسى بن عاصم عن ذر عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله الطيرة شرك وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل وهذه اللفظة وما منا إلى آخره مدرجة في الحديث ليست من كلام النبي كذلك قاله بعض الحفاظ وهو الصواب فإن الطيرة نوع من الشرك كما هو في أثر مرفوع من ردته الطيرة فقد قارن الشرك وفي أثر من أرجعته الطيرة من حاجة فقد أشرك قالوا وما كفارة ذلك قال أن يقول أحدكم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى أنه قال يا رسول الله ومنا أناس يتطيرون فقال ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنه فأخبر أن تأذية وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لافي المتطير به
(3/16)
فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه فأوضح لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيتة تعالى التى أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دار التوحيد وموجباته وحقوقه والنار دار الشرك ولو ازمه وموجباته فقطع علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علقة منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهله البتة وفي الحديث المعروف أقول
(3/17)
على مكانتها قال أبو عبيدة في الغريب أراد لا تزجروها ولا تلتفتوا إليها أقروها على مواضعها التي جعلها الله لها ولا تتعدوا ذلك إلى غيره أي أنها لا تضر ولا تنفع وقال غيره المعنى أقروها على أمكنتها فإنهم كانوا في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا أو امرا من الأمور أثار الطير من أوكارها لينظر أي وجه تسلك وإلى ناحية تطير فان خرجت ذات اليمين خرج لسفره ومضى لأمره وإن أخذت ذات الشمال رجع ولم يمض فأمرهم أن يقروها في أمكنتها وأبطل فعلهم ذلك ونهاهم عنه كما أبطل الاستقسام بالأزلام وقال ابن جرير معنى ذلك أقروا الطير التي تزجرونها في مواضعها المتمكنة فيها التي هي لها مستقر وامضوا لأموركم فان زجركم إياها غير مجد عليكم نفعا ولا دافع عنكم ضررا وقال آخرون هذا تصحيف من الرواة وخطأ منهم ولا يعرف المكنات إلا أسماء البيض الضباب دون غيرها قال الجوهرى الممكن البيض الضب قال ومكن الضباب طعام العرب لا تشتهيه نفوس العجم وفي الحديث أقروا على الطير مكانها بالضم والفتح قال أبو زياد الكلابي وغيره إنا لا نعرف للطير مكنات فأما المكنات فانما هي الضباب قال أبو عبيد ويجوز في الكلام وإن كان الممكن الضباب في أن يجعل للطير تشبيها بذلك كقولهم مشافر الحبش وإنما المشافر للإبل وكقول زهير يصف الأسد له لبد أظفاره لم تقلم وإنما له مخالب قال هؤلاء فلعل الراوي سمع أقر الطير في وكناتها بالواو ولأن وكنات الطير عشها وحيث تسقط عليه من الشجر وتأوى إليه وفي اثر آخر ثلاث من كن فيه لم ينل الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة وقد رفع هذا الحديث فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين وتوكل على الله قطع بأحسن الطيرة من قبل استقرارها وبادر خواطرها من قبل استمكانها قال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خير خير فقال له ابن عباس لا خير ولا شر مبادرة بالإنكار عليه لئلا يعتقد له
(3/18)
تأثيرا في الخير أو الشر وخرج طاووس مع صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرجل خير فقال طاووس وأي خير عنده والله لا تصحبني وقيل لكعب هل تتطير فقال نعم فقيل له فكيف تقول إذا تطيرت قال أقول اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا غيرك ولا قوة إلا بك وكان بعض السلف يقول عند ذلك طير الله لا طيرك وصياح الله لا صياحك ومساء الله لامساك وقال ابن عبد الحكم لما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة قال مزاحم فنظرت فإذا القمر في الدبر ان فكرهت أن اقول له فقلت ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة قال فنظر عمر فإذا هو في الدبران فقال كأنك اردت أن تعلمني أن القمر في الدبران يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكنا نخرج بالله الواحد القهار فان قيل فما تقولون فيما
(3/19)
روى عن النبي أنه كان يستحب الفأل ففي الصحيحين من حديث أنس وأبي هريرة عن النبي لا عدوى ولا طيرة وخيرها الفأل وفي لفظ وأصدقها الفال وفي لفظ وكان يعجبه الفأل وفي لفظ مسلم ويعجبني الفأل الصالح أي الكلمة الحسنة وقال إذا أبردتم إلى بريدا فاجعلوه حسن الإسم حسن الوجه وروى عن يحيى بن سعيد أن رسول الله قال للقحة تحلب من يحلب هذه فقام رجل فقال النبي ما إسمك فقال الرجل مرة فقال النبي إجلس ثم قال من يجلب هذه فقام رجل فقال النبي ما إسمك فقال الرجل حرب فقال له النبي إجلس ثم قال من يجلب هذه فقام رجل فقال له النبي ما إسمك فقال الرجل يعيش فقال له النبي يعيش احلب فحلب زاد ابن وهب في جامعة في هذا الحديث فقام عمر بن الخطاب فقال أتكلم يا رسول الله أم اصمت قال بل اصمت وأخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير إلا طيرة ولا خير إلا خيره ولكن أحب الفأل وفي جامع ابن وهب أن رسول الله أتى بغلام فقال ما سميتم هذا الغلام فقالوا السائب فقال لا تسموه السائب ولكن عبدالله قال فغلبوا على اسمه فلم يمت حتى ذهب عقله وصحيح البخاري من رواية الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي فقال ما إسمك قال حزن قال أنت سهل قال لا أغير اسما اسمانيه أبي قال ابن المسيب فما زالت الحزونة فينا بعد وروى مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب قال لرجل ما اسمك قال جمرة قال ابن من قال ابن شهاب فقال ممن قال من الحرقة قال أين مسكنك قال بحرة النار قال بأيها قال بذات لظى فقال له عمر أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر وفي غير رواية مالك هذه القصة عن مجالد عن الشعبي قال جاء رجل من جهينة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له ما اسمك قال شهاب قال ابن من قال ابن جمرة قال ابن من قال ابن ضر ام قال ممن قال من الحرقة قال وأين منزلك قال بحرة النار قال ويحك أدرك منزلك أو أهلك فقد احترقوا قال فأتاهم فألفاهم قد احترق
(3/20)
عامتهم وقالت عائشة كان رسول الله يعجبه التيمن ما استطاع في تنعله وترجله ووضوئه وفي شأنه كله وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي قال الشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة وفي الصحيح ايضا من حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله قال إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن يعني الشؤم وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد قال جاءت امرأة إلى رسول الله فقال يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال رسول الله دعوها ذميمة ولما رأى النبي يوم أحد فرسا قد لوح بذنبه ورجل قد استل سيفه فقال له شم سيفك فأني أرى السيوف ستسل اليوم وكذلك قوله لما رمى واقد ابن عبد الله عمر بن الحضرمي فقتله فقال وقدت الحرب وعامر عمرت الحرب وابن الحضرمي
(3/21)
حضرت الحرب ولما خرج النبي إلى بدر استقبل في طريقه جبلين فسأل عنهما فقالوا اسم أحدهما مسلح والأخر مخرىء وأهلهما بنو النار وبنو محراق فكره المرور عليهما وتركهما على يساره وسلك ذات اليمين وعرض عبدالله بن جعفر مالا له على معاوية يقال له الدعان وقال له اشتره مني فقال له معاوية هذا مال يقول دعني ولم نزل الحسين بن علي بكر بلاء قال ما اسم هذا الموضع قالوا كربلاء قال كرب وبلاء ولما خرج عبدالله بن الزبير من المدينة إلى مكة أنشده أحد أخوية وكل بني أم سيمسون ليلة ولم يبق من أغنامهم غير واحد فقال له عبدالله ما أردت إلى هذا قال لم أتعمده قال هو أشد على وقد كره السلف ومن بعدهم أن يتبع الميت بنار إلى قبره من مجمر أو غيره وفي معناه الشمع قالت عائشة لا تجعلوا آخر زاده أن تتبعوه بالنار ولما بايع طلحة بن عبيدالله علي بن أبي طالب وكان أول من بايع قال رجل أول يد بايعته يد شلاء لا يتم هذا الأمر له ولما بعث علي رضي الله عنه معقل بن قيس الرباحي من المدائن في ثلاثة آلاف وأمره أن يأخذ على الموصل ويأتي نصيبين ورأس عين حين يأتي الرقة فيقيم بها فسار معقل حتى نزل الحديثة فبينما هو ذات يوم جالسا إذ نظر إلى كبشين يتناطحان حتى جاء رجلان فأخذ كل منهما كبشا فذهب به فقال شداد بن أبي ربيعة الخثعمي ستصرفون من وجهكم هذا لا تغلبون ولا تغلبون لافتراق الكبشين سليمين فكان كذلك ولما بعث معاوية في شأن حجر بن عدى وأصحابه كان الذي جاءهم أعور يقال له هدبه وكانوا ثلاثة عشر رجلا مع حجر فنظر إليه رجل منهم فقال إن صدق الفأل قتل نصفنا لأن الرسول أعور فلما قتلوا سبعة وافى رسول ثان ينهى عن قتلهم فكفوا عن الباقين وقال عوانه بن الحكم لما دعا ابن الزبير إلى نفسه قام عبدالله بن مطيع ليبايع فقبض عبدالله بن الزبير يده وقال لعبيد الله بن أبي طالب قم فبايع فقال عبدالله قم يا مصعب فبايع فقام فبايع فتفاءل الناس وقالوا أبي أن
(3/22)
يبايع ابن مطيع وبايع مصعبا ليكونن في أمره صعوبة أو شر فكان كذلك وقال سلمة بن محارب نزل الحجاج في محاربته لابن الأشعث دير قرة ونزل عبد الرحمن ابن الأشعث دير الجماجم فقال الحجاج استقر الأمر في يدى وتجمجم به أمره والله لأقتلنه وقال عمرو بن مروان الكلبي حدثني مروان بن يسار عن سلمة مولى يزيد بن الوليد قال كنت مع يزيد بن الوليد بناحية القريتين قبل خروجه على الوليد بن يزيد ونحن نتذاكر أمره إذ عرض لنا ذئب هناك فتناول يزيد قوسه فرمى الذئب فاصاب حلقه فقال قتلت الوليد ورب الكعبة فكان كما قال وقال داود بن عيسى بن محمد بن علي خرج أبي وأبو جعفر غازيين في بلاد الروم ومعه غلام له ومع أبي جعفر مولى فسنحت له اربعة أظب ثم مضت تخاتلنا
(3/23)
حتى غابت عنا ثم رجعت ومضى واحد فقال لنا أبو جعفر والله لا نرجع جميعا فمات مولى أبي جعفر وأمر بعض الأمراء جارية له تغني فاندفعت تقول : هم قتلوه كي يكونوا مكانه كما غدرت يوما بكسرى مرازبه فقال ويلك غني غير هذا فغنت هذا مقام مطرد هدمت منازله ودوره فقال ويلك غني غير هذا فقالت والله يا سيدي ما أعتمد إلا ما يسرك ويسبق إلى لساني ما ترى ثم غنت كليب لعمري كان أكثر ناصرا وأيسر جرما منك ضرج بالدم فقال ما أرى أمري إلا قريبا فسمع قائلا يقول قضى الأمر الذي فيه تستفتيان وقد ذكر في حرب بني تغلب أن تيم اللات أرسل بنيه في طلب مال له فلما أمسى سمع صوت الريح فقال لمرأته أنظرى من أين نشأ السحاب ومن أين نشأت الريح فأخبرته أن الريح طالع من وجه السحاب فقال والله إني لأرى ريحا تهد هذه الصخرة وتمحق الأثر فلما دخل عليه بنوه قال لهم ما لقيتم قالوا سرنا من عندك فلما بلغنا غصن شعثمين إذا بعفر جاثمات على دعص من رمل فقال أمشرقات أم مغربات قالوا مغربات قال فما ريحكم ناطح أم دابر أم بارح أم سانح فقالوا ناطح فقال لنفسه يا تيم اللات دعص الشعثمين والشعثم الشيخ الكبير وأنت شعثم بني بكر وجواثم بدعص وريح ناطح نطحت فبرحت قال ثم ماذا قالوا ثم رأينا ذئبا قد دلع لسانه من فيه وهو يطحر وشعره عليه فقال ذلك حران ثائر ولسان عذول حامى الظهر همه سفك الدماء وهو أرقم الأراقم يعني مهلهلا قال ثم ماذا قالوا ثم رأينا ريحا وسحابا قال فهل مطرتم قالوا بلى قال ببرق قالوا قد كان ذلك فقال أماء سائل فقالوا نعم فقال ذلك دم سائل ومرهفات قال ثم مه قالوا ثم طلعنا قلعة الضعفاء ثم تصوبنا من تل فاران قال فكنتم سواء أو مترادفين قالوا بل سواء قال فما سماؤكم قالوا خبا قال فما ريحكم قالوا ناطح قال فما فعل الجيش الذين لقيتم قالوا نجونا منه هربا وجد القوم في أثرنا قال ثم مه قالوا ثم رأينا عقابا منقضة على عقاب فتشابكا وهويا إلى الأرض
(3/24)
قال ذاك جمع رام جميعا فهو لاقيه قال ثم مه قالوا ثم رأينا سبعا على سبع ينهشه وبه بقية لم يمت فقال ذروني أما والله أنها لقبيلة مصروعة مأكولة مقتولة من بني وائل بعد عز وامتناع وذكروا أن تيم اللات هذا مر يوما بجمل أجرب وعليه ثلاث غرابيب فقال لبنيه ستقفون على مقتولا فكان كما قال وقتل عن قريب وكذلك قول علقمة في مسيره مع أصحابه وقد مروا في الليل بشيخ فان فقال لقيتم شيخا كبيرا فانيا يغالب الدهر والدهر يغالبه يخبركم أنكم ستلقون قوما فيهم ضعف ووهن ثم لقي سبعا فقال دلاج لا يغلب ثم رأى غرابا ينفض
(3/25)
بجؤجؤه فقال أبشروا ألا ترون أنه يخبركم أن قد أطمأنت بكم الدار فكان كذلك وذكر المدائني قال خرج رجل من لهب ولهم عيافة في حاجة له ومعه سقاء من لبن فسار صدر يومه ثم عطش فأناخ ليشرب فإذا الغراب ينعب فأثار راحلته ومضى فلما أجهده العطش أناخ ليشرب فنعب الغراب فاثار راحلته ثم الثالثة نعب الغراب وتمرغ في التراب فضرب الرجل السقاء بسيفه فإذا فيه أسود ضخم ثم مضى فإذا غراب على سدرة فصاح به فوقع على سلمه فصاح به فوقع على صخرة فانتهى إليه فإذا تحت الصخرة كنز فلما رجع إلى أبيه قال له ما صنعت قال سرت صدر يوم ثم أنخت لأشرب فإذا الغراب ينعب قال أثره وإلا لست بابني قال أثرته ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب وتمرغ في التراب قال أضرب السقاء وإلا لست باني قال فعلت فإذا أسود ضخم قال ثم مه قال ثم رأيت غرابا واقعا على سدرة قال أطره وإلا لست بابني قال أطرته فوقع على سلمة قال أطره وإلا لست بابني قال فوقع على صخرة قال أخبرني بما وجدت فأخبرته وذكر أيضا أن أعرابيا أضل ذودا له وخادما فخرج في طلبهما إذ اشتدت عليه الشمس وحمى النهار فمر برجل يحلب ناقة قال أظنه من بني أسد فسأله عن ضالته قال أدن فاشرب من اللبن وأدلك على ضالتك قال فشرب ثم قال ما سمعت حين خرجت قال بكاء الصبيان ونباح الكلاب وصراخ الديكة وثغاء الشاء قال ينهاك عن الغدو ثم مه قال ثم ارتفع النهار فعرض لي ذئب قال كسوب ذو ظفر ثم مه قال ثم عرضت لي نعامة قال ذات ريش واسمها حسن هل تركت في أهلك مريضا يعاد قال نعم قال ارجع إلى أهلك فذودك وخادمك عندهم فرجع فوجدهم وذكر أبو خالد التيمي قال كنت آخذ الإبل بضمان فأرعاها في ظهر البصرة فطردت فخرجت أقفو أثرها حتى انتهيت إلى القادسية فاختلطت على الآثار فقلت لو دخلت الكوفة فتحسست عنها فأتيت الكناسة فإذا الناس مجتمعون على عراف اليمامة فوقفت ثم قلت له حاجتي فقال بعيدة أشيطان الهوى جمع مثلها على العاجز الباغي الغي ذو
(3/26)
تكاليف ولترجعن قال فوجدتها في الشام مع ابن عم لي فصالحت أصحابها عنها وقال المدائني كان بالسواد زاجر يقال له مهر فأخبر به بعض العمال فجعل يكذب زجره ثم أرسل إليه فلما أتاه قال إني قد بعثت بغنم إلى مكان كذا وكذا فانظر هل وصلت أم لم تصل وقد عرف العامل قبل ذلك أن بينها ويبن الكلاء رحلة فقال لغلامه أخرج فانظر أي شيء تسمع قال وكان العامل قد أمر غلامه أن يكمن في ناحية الدار ويصيح صياح ابن آوى فخرج غلاء الزاجر ليسمع وصاح غلام العامل فرجع إلى الزاجر غلامه وأخبره بما سمع فقال للعامل قد ذهبت عنك وقطع عليها الطريق فاستيقت قال فضحك العامل وقال قد جاءني خبرها أني وصلت والصائح الذي صاح غلامي قال إن كان الصائح الذي الصاح ابن آوى فقد ذهبت
(3/27)
وإن كان غلامك فقد ذهب الراعي قال فبلغه بعد ذلك ذهاب الغنم وقتل الراعي وذكر عن العكلي أنه خرج في تسعة نفر هو عاشرهم ليصيبوا الطريق فرأى غرابا واقعا فوق بانة فقال يا قوم أنكم تصابون في سفركم هذا فازدجروا وأطيعوني وارجعوا فأبوا عليه فأخذ قوسه وانصرف وقتلت التسعة فأنشد يقول : رأيت غرابا واقعا فوق بانه ينشنش أعلى ريشه ويطايره فقلت غراب اغتراب من النوى وبانة بين من حبيب تجاوره فما أعيف العكلي لا دردره وازجره للطير لا عز ناصره وذكر عن كثير عزة أنه خرج يريد مصر وكانت بها عزة فلقيه أعرابي من نهد فقال أين تريد قال أريد عزة بمصر قال ما رأيت في وجهك قال رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ينتف ريشه فقال ماتت عزة فانتهى ومضى فوافى مصر والناس منصرفون من جنازتها فأنشأ يقول : فأما غراب فاغتراب وغربة وبان فبين من حبيب تعاشره وذكر عنه أيضا أنه هوى امرأة من قومه بعد عزة يقال لها أم الحويرث وكانت فائقة الجمال كثيرة المال فقالت له أخرج فاصب مالا وأتزوجك فخرج إلى اليمن وكان عليها رجل من بني مخزوم فلما كان ببعض الطريق عرض له قوط والقوط الجماعة من الظباء فمضى ثم عرض له غراب ينعب ويفحص التراب على راسه فأتى كثير حيا من الأزد ثم من بني لهب وهم من أزجر العرب وفيهم شيخ قد سقط حاجباه على عينيه فقص عليه ما عرض له فقال إن كنت صادقا لقد ماتت هذه المرأة أو تزوجت رجلا من بني كعب فاغتم كثيرا لذلك وسقى بطنه فكان ذلك سبب موته وقال في ذلك : تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم وقد رد علم العائفين إلى لهب فيممت شيخا منهم ذو أمانة بصيرا يزجر الطير منحنى الصلب فقلت له ماذا ترى في سواغ وصوت غراب يفحص الأرض بالترب فقال جرى الطير السنيح بينها ونادي غراب بالفراق وبالسلب فان لا تكن ماتت فقد حال دونها سواك حليل باطن من بني كعب وقال رجل من بني أسد تزوجت ابنة عم لي فخرجت أريدها فلقيني شيء كالكلب
(3/28)
مدليا لسانه في شق فقلت أخفت ورب الكعبة فأتيت القوم فلم أصل إليها وناقرني أهلها حرجت عنهم فمكثت ثلاثة أيام ثم بدا لي فيهم فخرجت نحوهم فلقيت كلبة تنظف أطباؤها لبنا فقلت أدركت ورب الكعبة فدخلت بأهلي وحملت مني بغلام ثم آخر حتى ولدت أولادا وذكر عن يحيى بن خالد قال حج رجلان فقيل لهما ههنا امرأة تزجر قال فأتياها فسألاها فقال أحدهما ما نضمر فقالت أنك لتسألني عن رجل مقتول فقال هو والله الذي سال عنه صاحبي فقالت هو كما قلت فسألاها عن تفسير ذلك فقالت أما رأيتما الجارية التي مرت ومعها ديك مشدود الرجلين حين سألني الأول قالا بلى قالت فلذلك قلت أنه محبوس مقيد قالت ورأيت الجارية حين رجعت وسألتنى أنت والديك مذبوح فقلت مقتول 00 وذكر 2المداينى أن أهل بيت من العجم كانوا إذا غاب الرجل عن أهله ولم يأتهم خبره أربع حجج زوجوا امرأته فتزوج منهم رجل جارية وغاب أربع حجح لايأتيهم فأرادوا تزويج الجارية وكانت مشغوفة به فقالت دعونى سنة أخرى فأبوا عليها وأتوا زاجرا لهم فخرج الزاجر ومعه تلميذ له فتلقاهم قوم يحملون ميتا ويد الميت على صدره فقال الزاجر لتلميذه مات الرجل قال ما مات ألا ترى يد الميت على صدره يخبر أنه هو الميت والرجل صحيح فرجعا فأخبرا الحاكم أنه لم يمت فأمر بتأجيلها سنة فجاء زوجها بعد شهر 00 وذكر ابن قتيبة عن إبراهيم بن عبدالله قال دخلت على رجل ضرير زاجر من العرب وقد خبأت سحابة عنوان من كتان فقلت أحبرنى بما خبأت لك فنظر قليلا ثم قال هو من نبات الماء فقلت زدنى فى الشرح قال هو قطعة من كتان قال فسألته عن ذلك فقال سألتنى عن الخبىء فوقعت يدى على الحصير فقلت إنه من نبات الماء قال فقلت زدنى فقال وصاح صائح من جانب الدار فقضيت بالسواد وبأنه صغير للتصفير ثم نظرت فلم يكن ذلك أولى بأن يكون قطعة من كتان قال وسألته عن مقراضين فى يدى قد أدخلت أصبعى فى حلقتيهما فقال فى يدك خاتم من حديد وذكر ابن عيينة عن
(3/29)
الزهرى عن محمد بن جبير بن مطعم عن ابيه عن عمر بن الخطاب رضى الله أنه كان يرمى الجمرة فجاءته حصاة فأصابت جبهته ففصدت منه عرقا فقال رجل من بنى لهب أشعر أمير الؤمنين ورب الكعبة لا يقوم هذا المقام أبدا فقتل بعد ذلك وثبت فى الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى عليه وسلم قال الشؤم فى الدار والمرأة والفرس وفى لفظ فيهما لا عدوى ولا صفر ولا طيرة وإنما الشؤم فى ثلاثة المرأة والفرس والدار وفى لفظ آخر فيهما إن يكن الشؤم فى شىء حقا ففى الفرس والمسكن والمرأة وفى بعض طرق البخارى والدابة بدل الفرس وفى الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد الساعدى قال قال رسول الله إن كان ففى المرأة والفرس والمسكن يعنى الشؤم 00وقال البخارى إن كان شىء وفى صحيح مسلم عن عبدالله عن رسول الله قال إن كان فى شىء ففى الربع والخادم والفرس 00وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى قال لا يورد ممرض على
(3/30)
مصح وفى موطأ مالك أنه بلغه عن بكير بن عبدالله بن الأشج عن أبي عطية أن رسول الله قال لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء قالوا يا رسول الله وما ذاك فقال رسول الله عليه وسلم إنه أذى 00وقال ابن وهب أخبرنى يونس عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال كان أبو هريرة رضى الله عنه يحدثنا عن رسول الله قال أنه لا عدوى وحدثنا أن رسول الله قال لا يورد ممرض على مصح الحديث ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى وأقام أن لا يورد ممرض على مصح الحديث قال فقال الحارث بن أبى ذئاب وهو ابن عم أبى هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر قد سكت عنه كنت تقول قال رسول الله لا عدوى فأبى أبو هريرة أن يحدث ذلك وقال لا يورد ممرض على مصح فمارآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة ورطن بالحبشية فقال للحارث أتدرى ماذا قلت قال لا قال أبو هريرة إني أقول أبيت أبي قال أبو سلمة فلعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله قال لا عدوى فلا أدرى أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر قالوا هذا النهى عن إيراد المريض على المصح إنما هو من أجل الطيرة التى تلحق المصح 00وقال مسدد حدثنا يحي بن هشام عن يحي بن أبى كثير عن الحضرمي بن لاحق عن سعيد بن المسيب قال سألت سعد بن مالك عن الطيرة فانتهرني وقال من حدثك فكرهت أن أحدثه فقال سمعت رسول الله يقول لا عدوى ولا طيرة ولا هامة وإن كانت الطيرة في شىء ففى الفرس والمرأة والدار فإذا كان الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تفروا 00وفي صحيح مسلم عن الشريد بن سويد قال كان فى وفد ثقيفة رجل مجذوم فأرسل إليه النبي أنا قد بايعناك فأرجع وفي حديث آخر فر من المجذوم فرارك من الأسد0 فصل الآن التقت حلقتا البطان وتداعى نزال الفريقان نعم وههنا أضعاف
(3/31)
أضعاف ما ذكرتم وأضعاف أضعافه وللناس ههنا مسلكان عليهما يعتمد المتكلمون في هذا الباب لا نرتضيهما بل نسلك مسلك العدل والتوسط بين طرفي الأفراط والتفريط فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه والوادي بين الجبلين والهدى بين الضلالتين وقد جعل الله هذه الأمة هي الأمة الوسط في جميع أبواب الدين فإذا انحرف غيرها من الأمم إلى أحد الطرفين كانت هي في الوسط كما كانت وسطا في باب أسماء الرب تعالى وصفاته بين الجهمية والمعطلة والمشبهة الممثلة وكان وسطا في باب الإيمان بالرسل بين من عبدهم واشركهم بالله كالنصارى وبين من قتلهم
(3/32)
وكذبهم فأمنوا بهم وصدقوهم وتركوهم من العبودية وكانت وسطا في القدر بين الجبرية الذين ينفون أن يكون للعبد فعل أو كسب أو اختيار البتة بل هو مجبور متهور لا اختيار له ولا فعل وبين القدرية النفاة الذين يجعلونه مستقلا بفعله ولا يدخل فعله تحت مقدور الرب تعالى ولا هو واقع بمشيئة الله تعالى وقدرته فأثبتوا له فعلا وكسبا واختيارا حقيقة وهو متعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب وهو مع ذلك واقع بقدرة الله ومشيئته فما شاء الله من ذلك كان وما لم يشأ لم يكن ولا يتحرك ذرة إلا بمشيئته وإرادته والعباد أضعف وأعجز أن يفعلوا ما لم يشأه الله لا قوة له ولا قدرة عليه وكذلك هم وسط في المطاعم والمشارب بين اليهود الذين حرمت عليهم الطيبات عقوبة لهم وبين النصارى الذين يستحلون الخبائث فأحل الله لهذه الأمة الوسط الطيبات وحرم عليهم الخبائث وكذلك لا تجد أهل الحق دائما إلا وسطا بين طرفي الباطل وأهل السنة وسط في النحل كما أن المسلمين وسط في الملل وكذلك ما نحن فيه من هذا الباب فإنهم وسط بين النفاة الذين ينفون الأسباب جملة ويمنعون ارتباطها بالمسببات وتأثيرها بها ويسدون هذا الباب بالكلية ويضطربون فيما ورد من ذلك فيقابلون بالتكذيب منه ما يمكنهم تكذيبه ويحيلون على الاتفاق والمصادقة مالا قبل لهم بدفعه من غير أن يكون لشيء من هذه الأمور مدخل في التأثير أو تعلق بالسببية البتة وربما يقولون أن أكثر ذلك مجرد خيالات وأوهام في النفوس تنفعل عنها النفوس كانفعال أرباب الخيالات والامراض والأوهام وليس عندهم وراء ذلك شيء وهذا مسلك نفاة الأسباب وارتباط المسببات بها وهذا جواب كثير من المتكلمين والمسلك الثاني مسلك المثبتين لهذه الأمور والمعتقدين لها الذاهبين إليها وهي عندهم أقوى من الأسباب الحسية أو في درجتها ولا يلتفتون إلى قدح قادح فيها والقدح فيها عندهم من جنس القدح في الحسيات والضروريات ونحن لا نسلك سبيل هؤلاء ولا سبيل هؤلاء بل
(3/33)
نسلك سبيل التوسط والإنصاف ونجانب طريق الجور والإنحراف فلا نبطل الشرع بالقدر ولا نكذب بالقدر لأجل الشرع بل نؤمن بالمقدور ونصدق الشرع فنؤمن بقضاء الله وقدره وشرعه وأمره ولا نعارض بينهما فنبطل الأسباب المقدورة أو نقدح في الشريعة المنزلة كما فعله الطائفتان المنحرفتان فإحداهما بطلت ما قدره الله من الأسباب بما فهمته من الشرع وهذا من تقصيرها في الشرع والقدر والأخرى توصلت إلى القدح في الشرع وإبطاله بما تشاهده من تأثير الأسباب وإرتباطها بمسبباتها لما ظنت أن الشرع نفاها وكذبت بالشارع فالطائفتان جانيتان على الشرع لكن الموفقون المهديون آمنوا بقدر الله وشرعه ولم يعارضوا أحدهما بالآخر بل صدر منهما الآخر عندهم وقرره فكان الأمر تفصيلا للقدر وكاشفا عنه وحاكما عليه والا أصل للأمر ومنفذ له وشاهد له ومصدق له فلولا القدر لما وجد الأمر ولا تحقق
(3/34)
على ساقه ولولا الأمر لما تميز القدر ولا تبينت مراتبه وتصاريفه فالقدر مظهر للأمر والأمر تفصيل له والله سبحانه له الخلق والأمر فلا يكون إلا خالقا آمرا فأمره تصريف لقدره وقدره منفذ لأمره ومن أبصر هذا حق البصر وانفتحت له عين قلبه تبين له سر ارتباط الأسباب بمسبباتها وجريانها فيها وأن القدح فيها وإبطالها إبطال للأمر وتبين له أن كمال التوحيد بإثبات الأسباب لا أن إثباتها نقض للتوحيد كما زعم منكروها حيث جعلوا إبطالها من لوازم التوحيد فجنوا على التوحيد والشرع والتزموا تكذيب الحس والعقل ووقعوا في أنواع من المكابرة سلطت عليهم أعداء الشريعة وأوجبت لهم إن أساؤا بها الظن وتنقصوها وزعموا أنها خطابية وإقناعية وجدلية لابرهانية فعظم الخطب وتفاقم الأمر واشتدت البلية بالطائفتين وقد قيل أن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل ونحن بحمد الله نبين الأمر في ذلك ونوضح أيضا ما يتبين به تصديق كل من الأمرين الآخر وشهادته له وتزكيته له ونبين ارتباط كل من الأمرين وعدم انفكاكه عنه فنقول وبالله التوفيق 000 أما ما ذكرتم من أن النبي كان يعجبه الفأل الحسن فلا ريب في ثبوت ذلك عنه وقد قرن ذلك بإبطال الطيرة كما في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد بن عبدالله عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى عليه وسلم لاطيرة وخيرها الفأل قالوا وما الفأل يا رسول الله قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم فابتدأهم النبي بإزالة الشبهة وأبطال الطيرة لئلا يتوهموها عليه في إعجابه بالفأل الصالح وليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شىء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى مايلائمها ويوافقها مما ينفعها كما أخبرهم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب 00 وفي بعض الآثار أنه ﷺ كان يعجبه الفاغية وهى نور الحناء وكان يحب الحلواء والعسل وكان يحب الشراب البارد الحلو ويحب حسن الصوت بالقرآن
(3/35)
والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الإسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم إليه وكذلك جعل فيها الإرتياح والاستبشار والسرور باسم السلام والفلاح والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر والغنم والربح والطيب ونيل الأمنية والفرح والغوث والعز والغنى وأمثالها فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوى بها القلب وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال فأحزنها ذلك وأثار لها خوفا وطيرة وأنكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه فأورث لها ذلك ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة للشرك كما ذكره أبو عمر
(3/36)
في التمهيد من حديث المقري عن أبى لهيعة حدثنا ابن هبيرة عن أبى عبد الرحمن الجيلى عن عبدالله بن عمر عن رسول قال من أرجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك قال وما كفارة ذلك يا رسول الله قال أن يقول أحدهم اللهم لاطير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضى لحاجته 00 وذكر ابن وهب قال أخبرني أسامة بن زيد قال سمعت نافع بن جبير ابن مطعم يقول سأل كعب الأحبار عبدالله بن عمر هل تتطير فقال نعم قال فكيف تقول إذا تطيرت قال أقول اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا رب غيرك ولا قوة إلا بك فقال كعب أنه أفقه العرب والله إنها لكذلك في التوراة وهذا الذي جعله الله سبحانه في طباع الناس وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة والألفاظ المحبوبة وهو نظير ما جعل في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة والرياض المنورة والمياه الصافية والألوان الحسنة والروائح الطيبة والمطاعم المستلذة وذلك أمر لا يمكن دفعه ولا يحد القلب عنه انصرافا فهو ينفع المؤمن ويسر نفسه وينشطها ولا يضرها في إيمانها وتوحيدها وأخبر في حديث أبى هريرة أن الفأل من الطيرة وهو خيرها فقال لا طيرة وخيرها الفأل فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خيرها ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر ونظير هذا منعه من الرقاء بالشرك وإذنه في الرقية إذا لم تكن شركا لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة وقد اعتاص هذا الفرقان على أفهام كثير ممن غلظ عن معرفة الحق والدين حجابه وغلظ عنه طبعه وكشف عنه فهمه فقال السامع إذا سمع مثلا يا بشارة أو أبشر أو لا تخف أو يانجيح ونحوه وسمع ضد ذلك فأما أن يوجب الأمر أن مايشاكلهما وأما وأن لا يوجبا شيئا فأما أن يوجب أحدهما دون الآخر فلا وجه له وهذا من عمى عن الهدى وصم عن سماعه وإنما تحصل الهداية من ألفاظ رسول الله صلى عليه وسلم وتشرق ألفاظها في صدر من تلقاها بالتصديق والقبول
(3/37)
فأذعن لها بالسمع والطاعة وقابلها بالرضى والتسليم وعلم أنها منبع الهدى ومعين الحق ونحن بحمد الله نوضح لمن اشتبه ذلك عليه فرقان ما بينهما وفائدة الفأل ومضرة الطيرة فنقول الفأل والطيرة وإن كان مأخذهما سواء ومجتناهما واحدا فإنهما يختلفان بالمقاصد ويفترقان بالمذاهب فما كان محبوبا مستحسنا تفاءلوا به وسموه الفأل وأحبوه ورضوه وما كان مكروها قبيحا منفرا تشاءموا به وكرهوه وتطيروا منه وسموه طيرة تعرقة بين الأمرين وتفصيلا بين الوجهين وسئل بعض الحكماء فقيل له ما بالكم تكرهون الطيرة وتحبون الفأل فقال لنا في الفأل عاجل البشرى وإن قصر عن الأمل ونكره الطيرة لما يلزم قلوبنا من الوجل وهذا الفرقان حسن جدا وأحسن منه ما قاله ابن الرومي في ذلك الفأل لسان الزمان والطيرة عنوان الحدثان وقد كانت العرب تقلب الأسماء تطيرا وتفاؤل
(3/38)
فيسمون اللديغ سليما باسم السلامة وتطيرا من اسم السقم ويسمون العطشان ناهلا أي سينهل والنهل الشرب تفاؤلا باسم الري ويسمون الفلاة مفازة أي منجاة تفاؤلا بالفوز والنجاة ولم يسموها مهلكة لأجل الطيرة وكانت لهم مذاهب في تسمية أولادهم فمنهم من سموه بأسماء تفاؤلا بالظفر على أعدائهم نحو غالب وغلاب ومالك وظالم وعارم ومنازل ومقاتل ومعارك ومسهر ومؤرق ومصبح وطارق ومنهم من تفاءل بالسلام كتسميتهم بسالم وثابت ونحوه ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ والسعادة كسعد وسعيد وأسعد ومسعود وسعدى وغانم ونحو ذلك ومنهم من قصد لتسميته بأسماء السباع ترهيبا لأعدائهم نحو أسد وليث وذئب وضرغام وشبل ونحوها ومنهم من قصد التسمية بما غلظ وخشن من الأجسام تفاؤلا بالقوة كحجر وصخر وفهر وجندل ومنهم من كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمى ما تلده باسم أول ما يلقاه كائنا ما كان من سبع أو ثعلب أو ضب أو كلب أو ظبي أو حشيش أو غيره وكان القوم على ذلك إلى أن جاء الله بالإسلام ومحمد رسوله ففرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد وبين الحسن والقبيح والمحبوب والمكروه والضار والنافع والحق والباطل فكره الطيرة وأبطلها واستحب الفأل وحمده فقال لا طيرة وخيرها الفأل قالوا وما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم وقال عبدالله بن عباس لا طيرة ولكنه فأل والفأل المرسل يسار وسالم ونحوه من الإسم يعرض لك على غير ميعاد وسئل بعض العلماء عن الفأل فقال أن تسمع وأنت قد أضللت بعيرا أو شيئا يا واجد أو أنت خائف يا سالم وقال الأصمعي سألت ابن عون عن الفأل فقال أن يكون مريضا فيسمع يا سالم وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بمكة وكان طفلا فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن فلم أقدر له على خبر فأيست منه فقال لي إنسان إن هذا عجز اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه فيها فركبت فرسا فما هو إلا أن استقبلت جماعة
(3/39)
يتحدثون في سواد الليل في الطريق وأحدهم يقول ضاع له شيء فلقيه فلا أدري انقضاء كلمته كان اسرع أم وجداني الطفل مع بعض أهل مكة في محملة عرفته بصوته فقوله ولا طيرة وخيرها الفأل ينفي عن الفأل مذهب الطيرة من تأثير أو فعل أو شركة ويخلص الفال منها وفي الفرقان بينهما فائدة كبيرة وهي أن التطير هو التشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفره وامتنع بها مما عزم عليه فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرىء من التوكل على الله وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله والتطير مما يراه أو يسمعه وذلك قاطع له عن مقام إياك نعبد وإياك نستعين وأعبده وتوكل عليه وعليه توكلت وإليه أنيب فيصير قلبه متعلقا بغير الله عبادة وتوكلا فيفسد عليه قلبه وإيمانه
(3/40)
وحاله ويبقى هدفا لسهام الطيرة ويساق إليه من كل أوب ويقيض له الشيطان من ذلك ما ما يفسد عليه دينه ودنياه وكم هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة فأين هذا من الفأل الصالح السار للقلوب المؤيد للآمال الفاتح باب الرجاء المسكن للخوف الرابط للجاش الباعث على الاستعانة بالله والتوكل عليه والاستبشار المقوى لأمله السار لنفسه فهذا ضد الطيرة فالفأل يفضي بصاحبه إلى الطاعة والتوحيد والطيرة تفضي بصاحبها إلى المعصية والشرك فلهذا استحب الفأل وأبطل الطيرة وأما حديث اللقحة ومنع النبي حربا ومرة من حلبها وأذنه ليعيش في حلبها فليس هذا بحمد الله في شيء من الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويبطله ثم يتعاطاه هو وقد أعاذه الله سبحانه من ذلك قال أبو عمر ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله وإنما هو من طلب الفال الحسن وقد كان أخبرهم عن أقبح الأسماء أنه حرب ومرة فأكد ذلك حتى لا يتسمى بها أحد ثم ساق من طريق ابن ربيعة عن جعفر بن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن عامر اليحصبي أن رسول الله قال خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن واصدقها حارث وهمام حارث يحرث لأبنائه وهمام يهم بالخير وكان يكره الإسم القبيح لأنه كان يتفاءل بالحسن من الأشياء ثم ساق من طريق ابن وهب حدثني ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن عبد الرحمن بن جبير عن يعيش الغفاري قال دعا النبي يوما بناقة فقال من يحلبها فقام رجل فقال أنا فقال ما اسمك قال مرة قال اقعد ثم قام آخر فقال ما اسمك قال جمرة قال اقعد ثم قام رجل فقال ما اسمك قال يعيش قال احلبها وروى حماد بن سلمة عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني أن رسول الله كان إذا توجه لحاجة يحب أن يسمع يانجيح يا راشد يا مبارك وقد روى من حديث بريدة أن النبي كان لا يتطير من شيء ولكن كان إذا سال عن اسم الرجل فكان حسنا رؤى البشاشة في وجهه وإن كان سيئا رؤى ذلك في وجهه وإذا سأل عن اسم الأرض وكان حسنا رؤى ذلك فيه
(3/41)
قلت الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا عبدالصمد حدثنا هشام عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله لا يتطير من شيء ولكنه إذا أراد أن يأتي ارضا سال عن اسمها فإن كان حسنا رؤى ذلك في وجهه وكان إذا بعث رجلا سأل عن اسمه فإن كان حسن الإسم رؤى البشر في وجهه وإن كان قبيحا رؤى ذلك في وجهه وقال ابو عمر حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير بن حسين بن حريث ابن عبد الله بن بريده عز الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان النبي لا يتطير ولكن كان يتفاءل فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني أسلم فتلقى النبي ليلا فقال له النبي من أنت قال أنا بريدة فالتفت إلى أبي بكر قال يا أبا بكر
(3/42)
برد أمرنا وصلح ثم قال ممن قال من أسلم قال لأبى بكر سلمنا ثم قال ممن قال من بنى سهم قال خرج سهمنا قال أحمد بن زهير قال أنا أبو عمار سمعت أو كما يحدث هذا الحديث بعد ذلك عن أخيه سهل بن عبدالله عن أبيه عبدالله بن بريدة فأعدت ثلاثا من حدثك قال سهل أخي والذي يكشف أمر حديث اللقحة مازاده ابن وهب في جامعه الحديث فقال بعد أن ذكره فقام عمر بن الخطاب فقال أتكلم يا رسول الله أم أصمت قال بل أصمت وأخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير إلا طيره ولا خير إلا خيره ولكن أحب الفأل الحسن فزال بذلك تعلق المتطيرين بن ووضح أمر الحديث والحمد لله رب العالمين 00 ويمكن أن يكون هذا منه على سبيل التأديب لأمته لئلا يتسموا بالأسماء القبيحة وليبادر من أسلم منهم وله اسم قبيح إلى إبداله بغيره من غير إيجاب منه ولا إلزام ولكن لوجهين من الاستحباب : أحدهما انتقالهم عن مذاهب آبائهم ومقاصد سلفهم الفاسدة القبيحة التي يحزن بها بعضهم بعضا عند سماعها وموافاة أهلها ومخالطتهم ومفاجأتهم لما يبقى في ذلك من آثار الطيرة الكامنة في الغريزة فإن سلم العبد منها وجاهد نفسه كليها عند لقيا صاحبها وسماعه لاسم أخيه لم يسلم من الكمد وحزن القلب وقد يؤدى ذلك إلى البغضاء وإلى ضرب من النفرة والتفرقة كالصديق يدعوه الصديق القبيح الاسم فقد يتمنى خاطره أنه لم يصحبه ولا رآه ولا سمع اسمه حتى إذا طمع به ودعاه ذو الاسم الحسن ابتهج أليه وأقبل عليه وسر بصياحه ودعائه له لراحة قلبه إلى حسن اسمه فقد يدعو البعيد من قلبه ويبعد الصديق من نفسه من أجل اسمه فكيف به إذا رآه من يومه وعبرله تعبير السوء من اشتقاق اسمه كيف يعود متمنيا لفقده في رقاده متكرها للقائه متطيرا لرؤيته وهذا ضد التوادد والتراحم والتوالف الذي قصد الشارع ربطه بين المؤمنين فكره ﷺ لأمته مقامها على حالة يؤذى بها بعضهم بعضا لغير عذر ولا فائدة تعود عليهم لا في الدينا
(3/43)
ولا في الآخر ويؤدى هذا إلى التقاطع والتنافر مع أنه قد ندبهم واستحب لهم إدخال أحدهم السرور على أخيه المسلم ما استطاع ودفع الأذى والمكروه عنه فقال لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم وقد أمرهم يوم الجمعة بالغسل والطيب عند اجتماعهم لئلا يؤذى بعضهم بعضا برائحته التي انما يتجشمها ساعة للاجتماع ثم يفترقا ومنع آكل الثوم والبصل من دخول المسجد لأجل تأذى الناس والملائكة به ومنع الاثنين أن يتناجيا دون صاحبهما خشية تأذيه وحزنه ومنع أحدهم أن يأكل متاع أخيه لاعبا لأن ذلك يؤذيه ومعلوم أن ضرر الاسم القبيح على كثير منهم عليه عند همه وخروجه من منزله ورؤية صاحبه في منامه ودعائه من برائحة الثوم والبصل وهذا من كمال رأفته ورحمته بالمؤمنين وعزة ما عنتوا
(3/44)
عليه ولهذا والله أعلم غير كثيرا من الأسماء القبيحة بأحسن منها وغير أسماء حسنة إلى غيرها خشية الطيرة والتأذى عند نفيها والخروج من عند المسمى أو لتضمنها تزكية النفس ونحوها فالأول كغيره اسم الحباب بن المنذر بعبد الرحمن وقال الحباب اسم الشيطان وغير أبا مرة إلى أبى حلوة وغير أبا المعاصي إلى مطيع وغير عاصية بجميلة وغير أسم بنى الشيطان إلى بنى عبدالله وغير اسم أصرم إلى اسم زرعة وغير اسم حزن جد سعيد بن المسيب إلى سهل فأبى قبول ذلك فلزمه مسمى اسمه من الحزونة له ولذريته 00 وقال أبو داود وغير النبي اسم العاص وعزير وعقلة والشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاما وسمى حربا سلما وسمى المضطجع المنبعث وأرضا اسمها عفرة سماها خضرة وشعب الضلالة سماه شعب الهدى وبنو الزنية سماهم بنى الرشدة وسمى بنى مغويه بنى رشدة قال أبو داود تركت أسانيدها للاختصار 00 وقال مسروق لقيت عمر فقال من أنت فقلت مسروق بن الأجدع فقال عمر سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول الأجدع شيطان وأما الثاني ففي صحيح مسلم عن سمرة قال قال رسول الله صلى وعليه وسلم لاتسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول اثم هو فيقال لا وغير اسم برة بزينب وكره أن يقال خرج من عند برة وأما الثالث فكتغييره أبا الحكم بأبي شريح وتفسيره أيضا برة بزينب وقال لا تزكوا أنفسكم فروى مسلم في صحيحه عن محمد ابن عمرو بن عطاء أن زينب بنت أبى سلمة سألته ما سميت بنتك قال سميتها برة فقالت إن رسول الله صلى عليه وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال النبي لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا ما نسميها قال سموها زينب ومن هذا ما في الصحيحين عن أبى هريرة عن النبي أن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله قال سفيان بن عيينة مثل شاهان شاه وذكر وهب أن رسول الله عليه وسلم أتى بغلام فقال ما سميتم هذا قالوا السائب
(3/45)
فقال لا تسموه السائب ولكن سموه عبد الله قال فغلبوا على اسمه فلم يمت حتى ذهب عقله فإن قيل فقد كان لرسول الله اسمه رباح وكان لأبى أيوب غلام اسمه أفلح ولعبد الله بن عمر غلام اسمه رباح قيل هذا النهى من النبي لم يكن على وجه العزيمة والحتم ولكن كان على جهة الكراهة والدليل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده حزن أنه أتى النبي فقال له ما اسمك قال حزن فقال أنت سهل لا أغير اسما سمانية أبى فلم ينكر عليه النبي ولا أخبره أن ذلك معصية بل سكت عنه وكذلك لما غير اسم السائب فأبوا تغييره لم ينكر عليهم وأيضا فروى مسلم في صحيحه من حديث أبى الزبير عن جابر قال أراد النبي أن ينهى أن يسمى بيعلى وبركة وأفلح ويسار ونافع ونحو ذلك ثم رأيته سكت
(3/46)
بعد عنها فلم يقل شيئا ثم قبض ولم ينه عن ذلك ثم أراد عمر رضى الله عنه أن ينهى عن ذلك ثم تركه ورأيت لبعضهم في الفرق بين الفأل والطيرة كلاما ما أذكره بلفظه قال أما ما روى أن النبي كان يتفاءل ولا يتطير فهما وإن كان معناها واحد في الاستدلال فبينهما افتراق لأن الفأل إبانة والتطير استدلال والإبانة أكثر واشهر وأوضح وأفصح لأن من كان في قلبه وضميره شيء فسمع قائلا يقول أقبل الخير وامض بسلام أو أبشر أو نحو ذلك فقد اكتفى بما سمع من الاستدلال والذي يرى طائرا يصيح أو ينوح فليس معه إلى الاستدلال على اليمن بالسانح والشؤم بالبارح وهذا أمر قد يكون وقد لا يكون وذلك الفأل في الأعم يكون وقال آخرون إن النبي لم يكن يتطير أي لم يكن يسند الأمور الكائنة من الخير والشر إلى الطير كما يفعل الكهنة وقال آخرون إن النبي كان إذا جلس مع أصحابه فتكلم أحدهم بخير أو سمع من تكلم حصهم عليه وعرفهم به ومعلوم أنه لا بد لطائر أن يمر سانحا أو بارحا أو قعيدا أو ناطحا فلا يوقفهم عليه ولا يعرفهم به إذ ذلك من فعل الكهان وكان الحديث المروى عنه أنه كان يتفاءل ولا يتطير من هذا المعنى وقد أغنى الله رسوله باخباره بارسال جبريل إليه بما يحدثه سبحانه من الاستدلال على أحداثه بالأشياء التي ينظر فيها غيره تفرقة منه سبحانه بين النبوة وغيرها فان قيل فهذا الذي نزل بهذين الرجلين وهما السائب وحزن هل كان من أجل اسمهما أم من جهة غير الاسم قيل قد يظن من لا ينعم النظر أن الذي نزل بهما هو من جهة اسميهما ويصحح بذلك امر الطيرة وتأثيرها ولو كان كما ظنوه لوجب أن ينزل بجميع من تسمى باسميهما من أول الدهر ولكان اقتضاء الاسم لذلك كاقتضاء النار الإحراق والماء والتبريد ونحوه ولكن يحمل ذلك والله أعلم على أن الأمرين الجاريين عليهما قد تقدما في أم الكتاب كما تقدم لهما أيضا أن يتسميا باسميهما إلى أن يختار لهما رسول الله وغيرهما فيرغبون عن اختياره
(3/47)
ويتخلفون عن استجابته فيعاقبا بما قد سبق لهما عقوبة تطابق اسمهما ليكون ذلك زاجرا لمن سواهما وقد يكون خوفه على اهل الأسماء المكروهة أيضا من مثل هذه الحوادث إذ قد تنزل بالإنسان بلا مشيئة بما في اسمه فيظن هو أو جميع من بلغه أن ذلك كان من أجل اسمه عاد عليه بشؤمه فيعصي الله عز وجل وقد كره قوم من الصحابة والتابعين أن يسموا عبيدهم عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الملك ونحوه ذلك مخافة أن يعتقهم ذلك قال سعيد بن جبير كنت عند ابن عباس سنة لا أكلمه ولا أعرفه ولا يعرفني حتى أتاه يوما كتاب من امرأة من أهل العراق فدعا غلمانه فجعل يكني عن عبيد الله وعبد الله واشباهم ويدعو يا مخراق يا وثاب وروى أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم
(3/48)
قال كانوا يكرهون أن يسمى الرجل غلامه عبد الله مخافة أن ذلك يعتقه وروى مغيرة عن ابي معشر عن إبراهيم أنه كره أن يسمى مملوكه عبد وعبيد الله وعبد الملك وعبد الرحمن واشباهه مخافة العتق قال بعض أهل العلم كراهتهم لذلك نظير ما كره رسول الله من تسمية المماليك برباح ونافع وأفلح لأن ذلك كان منه حذرا من أن يقال أهاهنا نافع فيقال لا أو أثم أفلح فيقال لا أو بركة أو يسار أو رباح فيقال لا ومعلوم إن السائل عن انسان إسمه أفلح أو نافع أو رباح هل هو في مكان كذا إنما مسئلة تلك عن مسمى شخص من أشخاص بني آدم سمى باسم جعل عليه دليلا يعرف به إذا ذكر إذا كانت الأسماء العوارى المفرقة بين الأشخاص المتشابهة إنما هي أدلة المسمين بها لا مسالة عن شخص صفته النفع والفلاح والبركة وذلك من كراهته نظير كراهته تسمية تلك المرأة برة فحول إسمها جويرية وتحويله اسم أرض كان اسمها عفرة فردها خضرة ونحو ذلك كثير ومعلوم أن تحويله ما حول من هذه الأسماء عما كان عليه لم يكن لأن التسمية بما كان المسمى به منهم مسمى قبل تحويله ذلك كان حرام التسمية ولكن كان ذلك منه وعلى وجه الإستحباب واختيار الأحسن على الذي هو دونه في الحسن إذ كان لا شيء في القبيح من الأسماء إلا وفي الجميل الحسن منها مثله من الدلالة على المسمى به مع تخير الأحسن بفضل الحسن والجمال من غير مؤنة تلزم صاحبه بسبب التسمى وكذلك كراهة من كره تسمية مملوكه عبد الله وعبد الرحمن إنما كانت كراهة ذلك حذرا أن يوجب ذلك له العتق ولا شك أن جميع بني آدم عبيد الله أحرارهم وعبيدهم وصفهم بذلك واصف أو لم يصفهم ولكن الذين كرهوا التسمية بذلك صرفوا هذه الأسماء عن رقيقهم لئلا يقع اللبس على السامع بذلك من اسمائهم فيظن أنهم أحرار إذ كان استعمال أكثر الناس التسمية بهذه الاسماء في الأحرار فتجنبوا ذلك إلى ما يزيل اللبس عنهم من أسماء المماليك والله أعلم
(3/49)
فصل وأما الأثر الذي ذكره مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل ما اسمك قال جمرة الحديث الى آخره فالجواب عنه أنه ليس بحمد الله فيه شيء من الطيرة وحاشا أمير المؤمنين رضي الله عنه من ذلك وكيف يتطير وهو يعلم أن الطيرة شرك من الجبت وهو القائل في حديث اللقحة ما تقدم ولكن وجه ذلك والله أعلم أن هذا القول كان منه مبالغة في الإنكار عليه لاجتماع أسماء النار والحريق في اسمه واسم أبيه وجده وقبيلته وداره ومسكنه فوافق قوله اذهب فقد احترق منزلك وقدرك ولعل قوله كان السبب وكثيرا ما يجري مثل هذا لمن هو دون عمر بكثير فكيف بالمحدث الملهم الذي ما قال لشيء اني
(3/50)
لأظنه كذا إلا كان كما قال وكان يقول الشيء ويشير به فينزل القرآن بموافقته فاذا نزل الأمر الديني بموافقة قوله فكذلك وقوع الأمر الكوني القدرى موافقا لقوله ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه كان يقول قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد منهم فعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وفي صحيح البخارى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله لقد كان فيمن كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يعلمون من غير أن يكونوا أنبياء فان يكن في أمتي منهم أحد فعمر وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه قال وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي اساري بدر وفي صحيح البخاري عن أنس قال قال عمر وافقني الله في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وبلغني معاتبة النبي بعض نسأله فدخلت عليهن فقلت ان انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتيت أحدى نسائه فقالت يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله عز وجل عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن الآية وفي الصحيحين أنه لما قام ليصلى على عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس المنافقين قام عمر فأخذ ثوبه وقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين وصلى رسول الله فأنزل الله عز وجل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فترك الصلاة عليهم فإذا كانت هذه موافقة عمر لربه في شرعه ودينه وينطق بالشيء فيكون هو المأمور المشروع فكذلك لا يبعد موافقته له تعالى في قضائه وقدره ينطق بالشيء فيكون هو المقضى المقدور فهذا لون والطيرة لون وكذلك
(3/51)
جرى له تطير مع رجل آخر ساله عن اسمه فقال ظالم فقال ابن من قال ابن سارق قال تظلم أنت ويسرق أبوك وذكر المدائني عن أبي صفرة وهو أبو المهلب أنه ابتاع سلعة بتأخير من رجل من بني سعد فأراد أن يشهد عليه فقال له ما اسمك قال ظالم قال ابن من قال ابن سراق قال لا والله لا يكون عليك شيء أبدا فصل وأما محبة النبي التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله فليس هذا من باب الفأل ولا التطير بالشمال في شيء ولكن تفضيل اليمين على الشمال فكان يعجبه أن يباشر الافعال التي هي من باب الكرامة باليمين كالأكل والشرب والأخذ والعطاء وضدها بالشمال كالاستنجاء وامساك الذكر وإزالة النجاسة فإن كان الفعل مشتركا بين العضوين بدأ باليمين في افعال التكريم وأماكنه كالوضوء ودخول المسجد وباليسار في ضد ذلك كدخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوه والله تعالى فضل بعض مخلوقاته على بعض وفضل بعض جوارح الإنسان وأعضائه على بعض ففضل العين على الكعب والوجه على الرجل وكذلك فضل اليد اليمين على اليسار وخلق خلقه صنفين سعداء وجعلهم أصحاب اليمين وأشقياء وجعلهم أصحاب الشمال وقال النبي المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا وفي الصحيح عنه لما أسرى به رأى آدم في سماء الدنيا وإذا عن يمينه اسودة وعن يساره اسودة فإذا نظر قبل يمينه عنه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا آدم وهذه الاسودة عن يمينه ويساره بنوه فأهل اليمين أهل السعادة من ذريته وأهل اليسار أهل الشقاوة وفي المسند عن عائشة قالت كانت يد رسول الله اليمين لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى وفي المسند أيضا وسنن أبي داود عن حفصة بنت عمر زوج النبي كان يجعل يمينه لطعامه ويجعل شماله لما سوى ذلك وقال أحمد كانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وشأنه وكانت شماله لما سوى ذلك
(3/52)
فصل وأما قوله الشؤم في ثلاث الحديث فهو حديث صحيح من رواية ابن عمر وسهل بن سعد ومعاوية بن حكيم وقد روى أن أم سلمة كانت تزيد السيف يعني في حديث الزهرى عن حمزة وسالم عن أبيهما في الشؤم وقد اختلف الناس في هذا الحديث وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تنكر أن يكون من كلام النبي وتقول إنما حكاه رسول الله عن أهل الجاهلية وأقوالهم فذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم عن سعيد عن قتادة عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة وقالا إن أبا هريرة يحدث أن النبي قال إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شقة منها في السماء وشقة في الارض ثم قالت كذب والذي أنزل الفرقان على ابي القاسم من حدث عنه بهذا ولكن رسول الله كان يقول كان أهل الجاهلية يقولون ان الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت عائشة ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن في ذلك على الله يسير قال أبو عمر وكانت عائشة
(3/53)
تنفي الطيرة ولا تعتقد منها شيئا حتى قالت لنسوة كن يكرهن البناء بأزواجهن في شوال ما تزوجني رسول الله إلا في شوال وما دخل بي إلا في شوال فمن كان احظى مني عنده وكان تستحب أن يدخلن على أزواجهن في شوال قال أبو عمر وقولها في أبي هريرة كذب فإن العرب تقول كذبت بمعنى غلطت فيما قدرت وأوهمت فيما قلت ولم تظن حقا ونحو هذا وذلك معروف من كلامهم موجود في أشعارهم كثيرا قال أبو طالب : كذبتم وبيت الله نترك مكة ونظعن الا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نبري محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل وقال شاعر من همدان : كذبتم وبيت الله لا تأخذونه مراغمة مادام للسيف قائم وقال زفر بن الحارث العبسي : أفي الحق إما بحدل وابن بحدل فيحي وأما ابن الزبير فيقتل كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ولما يكن أمر أغر محجل قال ألا ترى أن هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضد الصدق وإنما هو من باب الغلط وظن ما ليس بصحيح وذلك أن قريشا زعموا أنهم يخرجون بني هاشم من مكة ان لم يتركوا جوار محمد فقال لهم أبو طالب كذبتم أي غلطتم فيما قلتم وظننتم وكذلك معنى قول الهمداني والعبسي وهذا مشهور في كلام العرب قلت ومن هذا قول سعيد بن جبير كذب جابر بن زيد يعني في قوله الطلاق بيد السيد أي أخطأ ومن هذا قول عبادة ابن الصامت كذب ابو محمد لما قال الوتر واجب أي أخطأ وفي الصحيح أن النبي قال كذب ابو السنابل لما أفتى أن الحامل المتوفى عنها زوجها لا تتزوج حتى تتم لها أربعة أشهر وعشرا ولو وضعت وهذا كثير والمقصود أن عائشة رضي الله عنها ردت هذا الحديث وأنكرته وخطأت قائله ولكن قول عائشة هذا مرجوح ولها رضي الله عنها اجتهاد في رد بعض الحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة وهي رضي الله عنها لما طنت أن هذا احديث يقتضي إثبات الطيرة التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده ولكن الذين رووه ممن
(3/54)
لا يمكن رد روايتهم ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده ولو انفرد به فهو حافظ الأمة على الإطلاق وكلما رواه النبي فهو صحيح بل قد رواه عن النبي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسهل بن سعد الساعدى وجابر بن عبد الله الأنصاري وأحاديثهم في الصحيح فالحق أن الواجب بيان معنى الحديث ومباينته للطيرة الشركية فنقول وبالله التوفيق هذا الحديث قد روى على وجهين أحدهما بالجزم والثاني بالشرط فأما الأول فرواه مالك عن ابن شهاب عن سالم وحمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيهما أن رسول الله قال الشؤم في الدار والمرأة والفرس متفق عليه وفي لفظ في الصحيحين عنه لا عدوى ولا صفر ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة المرأة والفرس والدار وأما الثاني ففي الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد قال قال رسول الله إن كان ففي المرأة والفرس والممكن يعني الشؤم وقال البخاري إن كان في شيء وفي صحيح مسلم عن جابر مرفوعا إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا إن يكن من الشؤم شيء حقا ففي الفرس والمسكن والمرأة وروى زهير بن معاوية عن عتبة بن حميد قال حدثني عبيد الله بن أبي بكر أنه سمع أنسا يقول قال رسول الله لا طيرة والطيرة على من تطير وإن يكن في شيء ففي المرأة والدار والفرس ذكره أبو عمر وقالت طائفة أخرى لم يجزم النبي بالشؤم في هذه الثلاثة بل علقه على الشرط فقال إن يكن الشؤم في شيء ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من مفرديها فقد يصدق التلازم بين المستحيلين قالوا ولعل الوهم وقع من ذلك وهو أن الراوي غلط وقال الشؤم في ثلاثة وإنما الحديث إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة قالوا وقد اختلف على ابن عمر والروايتان صحيحتان عنه قالوا وبهذا يزول الإشكال ويتبين وجه الصواب وقالت طائفة أخرى إضافة رسول الله صلى عليه وسلم الشؤم إلى هذه الثلاثة مجاز واتساع أي قد يحصل مقارنا لها وعندها لا أنها هي أنفسها مما يوجب الشؤم قالوا وقد
(3/55)
يكون الدار قد قضى الله عز وجل عليها أن يميت فيها خلقا من عباده كما يقدر ذلك في البلد الذي ينزل الطاعون به وفي المكان الذي يكثر الوباء به فيضاف ذلك إلى المكان مجازا والله خلقه عنده وقدره فيه كما يخلق الموت عند قتل القاتل والشبع والري عند أكل الآكل وشرب الشارب فالدار التي يهلك بها أكثر ساكنيها توصف بالشؤم لأن الله عز وجل قد قصها بكثرة من قبض فيها كتب الله عليه الموت في تلك الدار حسن إليه سكناها وحركه إليها حتى يقبض روحه في المكان الذي كتب له كما ساق الرجل من بلد إلى بلد للأثر والبقعة التي قضى أنه يكون مدفنه بها قالوا وكذلك ما يوصف من طول أعمار بعض أهل البلدان ليس ذلك من أجل صحة هواء ولا طيب تربة ولا طبع يزداد به الأجل وينقص بفواته ولكن الله سبحانه قد خلق ذلك المكان وقضى أن يسكنه أطول خلقه أعمارا فيسوقهم إليه ويجمعهم فيه ويحببه إليهم قالوا وإذا كان هذا على ما وصفنا في الدور والبقاع جاز مثله في النساء والخيل فتكون المرأة قد قدر الله عليها أن تتزوج عددا من الرجال ويموتون معها فلا بد من انفاذ قضائه وقدره حتى أن الرجل ليقدم عليها من بعد علمه بكثرة من مات عنها لوجه من الطمع يقوده إليها حتى
(3/56)
يتم قضاؤه وقدره فتوصف المرأة بالشؤم لذلك وكذلك الفرس وإن لم يكن لشيء من ذلك فعل ولا تأثير وقال ابن القاسم سئل مالك عن الشؤم في الفرس والدار فقال إن ذلك كذب فيما نرى كم من دار قد سكنها ناس فهلكوا ثم سكنها آخرون فملكوا قال فهذا تفسيره فيما نرى والله أعلم وقالت طائفة أخرى شؤم الدار مجاورة جار السوء وشؤم الفرس أن يغزى عليها في سبيل الله وشؤم المرأة أن لا تلد وتكون سيئة الخلق وقالت طائفة أخرى منهم الخطائي هذا مستثنى من الطيرة أي الطيرة منهى عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فإنه شؤم وقد سلك هذا المسلك أبو محمد بن قتيبة في كتاب مشكل الحديث له لما ذكر أن بعض الملاحدة اعترض بحديث هذه الثلاثة وقالت طائفة أخرى الشؤم في هذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها فيكون شؤمها عليه ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشؤمة عليه قالوا ويدل عليه حديث أنس الطيرة على من تطير وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببا لحلول المكروه به كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به وسر هذا أن الطيرة إنما تتضمن الشرك بالله تعالى والخوف من غيره وعدم التوكل عليه والثقة به كان صاحبها غرضا لسهام الشر والبلاء فيتسرع نفوذها فيه لأنه لم يتدرع من التوحيد والتوكل بجنة واقية وكل من خاف شيئا غير الله سلط عليه كما أن من أحب مع الله غيره عذب به ومن رجا مع الله غيره خذل من جهته وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلتها والنفس لا بد أن تتطير ولكن المؤمن القوي الايمان يدفع موجب تطيره بالتوكل على الله فان من توكل على الله وحده كفاه من غيره قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم
(3/57)
يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ولهذا قال ابن مسعود وما منا إلا يعني من يقارب التطير ولكن الله يذهبه بالتوكل ومن هذا قول زبان بن سيار : أطار الطير إذ سرنا زياد لتخبرنا وما فيها خبير أقام كان لقمان بن عاد أشار له بحكمته مشير تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور بل شيء يوافق بعض شيء أحايينا وباطله كثير قالوا فالشؤم الذي في الدار والمرأة والفرس قد يكون مخصوصا بمن تشاءم بها وتطير وأما من توكل على الله وخافه وحده ولم يتطير ولم يتشاءم فان الفرس والمرأة والدار لا يكون شؤما
(3/58)
في حقه وقالت طائفة أخرى معنى الحديث إخباره عن الأسباب المثيرة للطيرة الكامنة في الغرائز يعنى أن المثير للطيرة في غرائز الناس هي هذه الثلاثة فأخبرنا بهذا لنأخذ الحذر منها فقال الشؤم في الدار والمرأة والفرس أي أن الحوادث التي تكثر مع هذه الأشياء والمصائب التي تتوالى عندها تدعو الناس إلى التشاؤم بها فقال الشؤم فيها أي أن الله قد يقدره فيها على قوم دون قوم فخاطبهم بذلك لما استقر عندهم منه من إبطال الطيرة وإنكار العدوى ولذلك لم يستفهموا في ذلك عن معنى ما أراده كما تقدم لهم في قوله لا يورد الممرض على المصح فقالوا عنده وما ذاك يا رسول الله فأخبرهم أنه خاف في ذلك الأذى الذي يدخله الممرض على المصح لا العدوى لأنه أمر بالتوادد وإدخال السرور بين المؤمنين وحسن التجاوز ونهى عن التقاطع والتباغض والأذى فمن اعتقد أن رسول الله نسب الطيرة والشؤم إلى شيء من الأشياء على سبيل إنه مؤثر بذلك دون الله فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله وضل ضلالا بعيدا والنبي ابتداهم بنفي الطيرة والعدوى ثم قال الشؤم في ثلاث قطعا لتوهم المنفية في الثلاثة التي أخبر أن الشؤم يكون فيها فقال لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاثة فابتدأهم بالمؤخر من الخير تعجيلا لهم بالأخبار بفساد العدوى والطيرة المتوهمة من قوله الشؤم في ثلاثة وبالجملة فإخباره بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها وإنما غايته إن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤمة على من قاربها وسكنها وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر وهذا كما يعطى سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه ويعطى غيرهما ولدا مشؤما نذلا يريان الشر على وجهه وكذلك ما يعطاه العبد ولاية أو غيرها فكذلك الدار والمرأة والفرس والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة ويقضى سعادة من قارنها وحصول اليمن له والبركة
(3/59)
ويخلق بعض ذلك نحوسا يتنحس بها من قارنها وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة فكما خلق المسك وغيره من حامل الأرواح الطيبة ولذذ بها من قارنها من الناس وخلق ضدها وجعلها سببا لإيذاء من قارنها من الناس والفرق بين هذين النوعين يدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر 0 فصل وأما الأثر الذي ذكره مالك عن يحيى بن سعيد جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي
(3/60)
دعواها ذميمة وقد ذكر هذا الحديث غير مالك من رواية أنس أن رجلا جاء إلى رسول الله فقال يا رسول الله أنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا ثم تحولنا إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل فيها عددنا فقال رسول الله وذكره فليس هذا من الطيرة المنهي عنها وإنما أمرهم بالتحول عنها عند ما وقع في قلوبهم منها لمصلحتين ومنفعتين إحداهما مفارقتهم لمكان هم له مستثقلون ومنه مستوحشون لما لحقهم فيه ونالهم ليتعجلوا الراحة مما داخلهم من الجزع في ذلك المكان والحزن والهلع لأن الله عز وجل قد جعل في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم الشر فيه وإن كان لاسبب له في ذلك وحب ما جرى لهم على يديه الخير وإن لم يردهم به فأمرهم بالتحول مما كرهوه لأن الله عز وجل بعثه رحمة ولم يبعثه عذابا وأرسله ميسرا ولم يرسله معسرا فكيف يأمرهم بالمقام في مكان قد أحزنهم المقام به واستوحشوا عنده لكثرة من فقدوه فيه لغير منفعته ولا طاعة ولا مزيد تقوى وهدى فلا سيما وطول مقامهم فيها بعد ما وصل إلى قلوبهم منها ما وصل قد يبعثهم ويدعوهم إلى التشاؤم والتطير فيوقعهم ذلك في أمرين عظيمين أحدهما مقارنة الشرك والثاني حلول مكروه أحزنهم بسبب الطيرة التي إنما تلحق المتطير فحماهم بكمال رأفته ورحمته من هذين المكروهين بمفارقة تلك الدار والاستبدال بها من غير ضرر يلحقهم بذلك في دنيا ولا نقص في دين وهو حين فهم عنهم في سؤالهم ما أرادوه من التعرف عن حال رحلتهم عنها هل ذلك لهم ضار مؤد إلى الطيرة قال دعوها ذميمة وهذا بمنزلة الخارج من أرض بها الطاعون غير فار منه ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم المصائب والمحن فيها وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة للزم ذلك أن كل من ضاق عليه رزق في بلد أن لا ينتقل منه إلى بلد آخر ومن قلت فائدة صناعته أن لا ينتقل عنها إلى غيرها 0 فصل وأما قول النبي للذي سل سيفه يوم أحد شم سيفك فإني
(3/61)
أرى السيوف ستنسل اليوم فهذه القصة لم يكن الرجل قد سل فيها السيف ولكن الفرس لوح بذنبه فسل السيف ولم يرد صاحبه سله هكذا في القصة ولا ريب أن الحرب تقوم بالخيل والسيوف ولما لوح الفرس بذنبه فاستل السيف قال النبي أنى أرى السيوف ستنسل اليوم فهذا له محمل من ثلاثة محامل أحدها أن النبي أخبر عن ظن ظنه في ذلك ولم يجعل هذا دليلا تماما في كل واقعة تشبه هذه وإذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو أحد أتباع رسول الله صبى الله عليه وسلم ورجل من أمته كان إذا قال أظن كذا أو أرى كذا خرج الأمر كما ظنه وحسبه فكيف الظن برسول الله الثاني ان النبي كان قد علم قبل مخرجه أن السيوف ستنسل ويقع القتال ولهذا أخبرهم أنه رأى في منامه أنه يقرأ النحل وعلم أن ذلك شهادة من قتل من أصحابه الثالث أن الوحي الذي كان يعرف به رسول الله الحوادث والنوازل كان مغنيا له عن الإشارات والعلامات والامارات وما في معناها مما يحتاج إليه غيره وأما من يأتيه خبر السماء صباحا ومساء فإخباره بقوله أرى السيوف اليوم ستنسل لم يكن عن تلك الأمارة وإنما وقع الإخبار به عقيبها والشيء بالشيء يذكر فصل وأما ما احتج به ونسبه إلى قوله وقدت الحرب لما رأى واقد بن عبد الله الحضري والحضرمي حضرت الحرب فكذب عليه وإنما قال ذلك أعداؤه من اليهود فتطيروا بذلك وتفاءلوا به فكانت الطيرة عليهم و وقدت الحرب عليهم فصل وأما استقباله الجبلين في طريقه وهما مسلح ومخرىء وترك
(3/62)
المرور بينهما وعدله ذات اليمين فليس هذا أيضا من الطيرة وإنما هو من العدول عما يؤذى النفوس ويشوش القلوب إلى ما هو بخلافه كالعدول عن الاسم القبيح وتغييره بأحسن منه وقد تقدم تقرير ذلك بما فيه كفاية وأيضا فإن الأماكن فيها الميمون المبارك والمشؤم المذموم فاطلع رسول الله على شؤم ذلك المكان وأنه مكان سوء فجاوزه إلى غيره كما جاوز الوادي الذي ناموا فيه عن الصبح إلى غيره وقال هذا مكان حضرنا فيه الشيطان والشيطان يحب الأمكنة المذمومة وينتابها وأيضا فلما كان المرور بين ذينك الجبلين قد يشوش القلب على أنا نقول في ذلك قولا كليا نبين به سر هذا الباب بحول الله وعونه و توفيقه أعلم أن بين الأسماء و مسمياتها ارتباطا قدره العزيز القادر وألهمه نفوس العباد وجعله في قلوبهم بحيث لا تنصرف عنه وليس هذا الارتباط هو ارتباط العلة بمعلولها ولا ارتباط المقتضى الموجب لمقتضاه و موجبة بل ارتباط تناسب وتشاكل اقتضته حكمة الحكيم فقل أن ترى اسما قبيحا إلا وبين مسماه و بينه رابط من القبح وكذلك إذا تأملت الاسم الثقيل الذي تنفر عنه الأسماع وتنبو عنه الطباع فأنك تجد مسماه يقارب أو يلم أن يطابق ولهذا من المشهور على ألسنة الناس أن الألقاب تنزل من السماء فلا تكاد تجد الاسم الشنيع القبيح إلا على مسمى يناسبه وفي ذلك قول القائل وقل أن أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه أن فكرت في لقبه ولهذا كثيرا ما تجد أيضا في أسماء الأجناس والواضع له عناية بمطابقة الألفاظ للمعاني ومناسبتها لها فيجعل الحروف الهوائية الخفيفة لمسمى مشاكل لها كالهواء والحروف الشديدة
(3/63)
للمسمى المناسب لها كالصخر والحجر وإذا تتابعت حركة المسمى تابعوا بين حركة اللفظ كالدوران والغليان والنزوان وإذا تكررت الحركة كرروا اللفظ كفلفل وزلزل ودكدك و صرصر وإذا اكتنز المسمى وتجمعت أجزاؤه جعلوا في أسمه من الضم الدال على الجمع والاكتناز ما يناسب المسمى كالبحتر للقصير المجتمع الخلق وإذا طال جعلوا في المسمى من الفتح الدال على الامتداد نظير ما في المعنى كالعشنق للطويل ونظائر ذلك أكثر من أن تستوعب وإنما أشرنا إليها أدنى إشارة وهذا هو الذي أراده من قال بين الاسم والمسمى مناسبة فلم يفهم عنه بعض المتأخرين مراده فأخذ يشنع عليه بأنه لا تناسب طبعيا بينهما واستدل على إنكار ذلك بما لا طائل تحته فإن عاقلا لا يقول أن التناسب الذي بين الاسم والمسمى كالتناسب الذي بين العلة والمعلول وإنما هو ترجيح وأولوية تقتضي اختصاص الاسم بمسماه وقد يتخلف عنه اقتضاؤها كثيرا والمقصود أن هذه المناسبة تنضم إلى ما جعل الله في طبائع الناس وغرائزهم من النفرة بين الاسم القبيح المكروه و كراهته وتطير أكثرهم به وذلك يوجب عدم ملابسته ومجاوزته إلى غيره فهذا أصل هذا الباب فصل وأما كراهية السلف أن يتبع الميت بشيء من النار أو أن يدخل
(3/64)
القبر شيء مسته النار وقول عائشة رضى الله عنها لا يكون آخر زاده أن تتبعوه بالنار فيجوز أن يكون كراهتهم لذلك مخافة الأحداث لما لم يكن في عصر رسول الله صلى عليه وسلم فكيف وذلك مما يبيح الطيرة به والظنون الرديه بالميت وقد قال غير واحد من السلف منهم عبد الملك بن حبيب وغيره إنما كرهوا ذلك تفاؤلا بالنار في هذا المقام أن تتبعه وذكر ابن حبيب وغيره أن النبي أراد أن يصلى على جنازة فجاءت امرأة ومعها مجمر فما زال يصبح بها حتى توارت بآجام المدينة قال بعض أهل العلم وليس خوفهم من ذلك على الميت لكن على الأحياء المجبولين على الطيرة لئلا تحدثهم أنفسهم بالميت أنه من أهل النار لما رأوا من النار التي تتبعه في أول أيامه من الآخرة ولا سيما في مكان يراد منهم فيه كثرة الاجتهاد للميت بالدعاء فإذا لم يبق له زاد غيره فيظنون أن تلك النار من بقايا زاده إلى الآخرة فتسوء ظنونهم به وتنفر عن رحمته قلوبهم في مكان هم فيه شهداء الله كما جاء في الحديث الصحيح لما مر على النبي بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت فقالوا ما وجبت قال وجبت له الجنة أنتم شهداء الله في الأرض من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار وفي أثر آخر إذا أردتم أن تعلموا ما للميت عند الله فانظروا ما تتعبه من حسن الثناء فقالت عائشة رضى الله عنها لا يكون آخر زاده من الثناء والدعاء أن تتبعوه بالنار فتهيجوا بها خواطر الناس وتبعثوا ظنونهم بالتطير والنار والعذاب والله أعلم
فصل وأما تلك الوقائع التي ذكروها مما يدل على وقوع ما تطير به
(3/65)
من تطير فنعم و هاهنا أضعافها وأضاف أضعافها ولسنا ننكر موافقة القضاء والقدر لهذه الأسباب وغيرها كثيرا موافقة حزر الحازرين وظنون الظانين وزجر الزاجرين للقدر أحيانا مما لا ينكره أحد ومن الأسباب التي توجب وقوع المكروه الطيرة كما تقدم وإن الطيرة على من تطير ولكن نصب الله سبحانه لها أسبابا يدفع بها موجبها وضررها من التوكل عليه وحسن الظن به و إعراض قلبه عن الطيرة وعدم التفاته إليها وخوفه منها وثقته بالله عز وجل ولسنا ننكر أن هذه الأمور ظنون وتخمين وحدس وخرص وما كان هذا سبيله فيصيب تارة و يخطىء تارات وليس كل ما تطير به المتطيرون وتشاءموا به وقع جميعه وصدق بل أكثره كاذب وصادقه نادر والناس في هذا المقام إنما يعولون وينقلون ما صح ووقع ويعتنون به فيرى كثيرا والكاذب منه أكثر من أن ينقل قال ابن قتيبة من شأن النفوس حفظ الصواب للعجب به والاستغراب وتناسي الخطأ قال ومن ذا الذي يتحدث أنه سأل منجما فأخطأ وإنما الذي يتحدث به وينقل أنه ساله فاصاب قال والصواب في مسئلة إذا كان بين أمرين قد يقع للمعتوه والطفل فضلا عن أولى العقل وقد تقدم من بطلان الطيرة وكذبها ما فيه كفاية وقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تستحب أن تتزوج المرأة أو يبنى بها في شوال وتقول ما تزوجني رسول الله إلا في شوال فاي نسائه كان أحظى عنده مني مع تطير الناس بالنكاح في شوال وهذا فعل أولى العزم والقوة من المؤمنين الذين صح توكلهم على الله واطمأنت قلوبهم إلى ربهم ووثقوا به وعلموا إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم وأنهم ما أصابهم من مصيبة إلا وهي في كتاب من قبل أن يخلقهم ويوجدهم وعلموا أنه لا بد أن يصيروا إلى ما كتبه وقدره ولا بد أن يجرى عليهم وإن تطيرهم لا يرد قضاءه وقدره عنهم بل قد يكون تطيرهم من أعظم الاسباب التي يجرى عليهم بها القضاء والقدر فيعينون على أنفسهم وقد جرى لهم القضاء والقدر
(3/66)
بأن نفوسهم هي سبب إصابة المكروه لهم فطائرهم معهم وأما المتوكلون على الله المفوضون إليه العالمون به وبأمره فنفوسهم أشرف من ذلك وهممهم أعلى وثقتهم بالله وحسن ظنهم به عدة لهم وقوة وجنة مما يتطير به المتطيرون ويتشاءم به المتشائمون عالمون أنه لا طير إلا طيره ولا خير إلا خيرة ولا إله غيره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين فصل ومما كان أهل الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس كما يتشاءمون بالبوارح
(3/67)
والسوانح قال رؤية بن العجاج يصف فلاة قطعتها ولا أهاب العطاسا وقال أمرؤ القيس : وقد اغتدى قبل العطاس بهيكل شديد مشيد الجنب فعم المنطق أراد أنه كان ينتبه للصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم ليلا يسمع عطاسا فيتشاءم بعطاسه وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له عمرا وشبابا وإذا عطس من يبغضونه قالوا له وريا وقحابا والورى كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها والقحاب كالسعال وزنا ومعنى فكان الرجل إذا سمع عطاسا يتشاءم به يقول بكلابي إني أسال الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لأبي وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد كما حكى عن بعض الملوك أن سامرا له عطس عطسة شديدة راعته فغضب الملك فقال سميره والله ما تعمدت ذلك ولكن هذا عطاسي فقال والله لئن لم تأتني بمن يشهد لك بذلك لأقتلنك فقال أخرجني إلى الناس لعلى أجد من يشهد لي فأخرجه وقد وكل به الأعوان فوجد رجلا فقال يا سيدي نشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوما فلعلك تشهد لي به عند الملك فقال نعم أنا أشهد لك فنهض معه وقال يا أيها الملك أنا أشهد أن هذا الرجل عطس يوما فطار ضرس من أضراسه فقال له الملك عد إلى حديثك ومجلسك فلما جاء الله سبحانه بالإسلام وأبطل برسوله ما كان عليه الجاهلية من الضلالة نهى أمته عن التشاؤم والتطير وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه الدعاء له بالرحمة كما أمر العائن أن يدعو بالتبريك للمعين ولما كان الدعاء على العاطس نوعا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم وأمر العاطس عمران يدعو لسامعه ويشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال فيقول يغفر الله لنا ولكم أو يهديكم الله ويصلح بالكم فاما الدعاء بالهداية فلما أن اهتدى إلى طاعة الرسول ورغب عما كان عليه أهل الجاهلية فدعا له أن يثبته الله عليها ويهديه إليها وكذلك الدعاء باصلاح البال وهي حكمة جامعة لصلاح شأنه كله وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة فناسب أن
(3/68)
يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت كقوله يغفر الله لنا ولكم ليستحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت له المغفرة والرحمة لهما معا فصلوات الله وسلامه على المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة ولأجل هذا والله أعلم لم يؤمر بتشميت من لم يحمد الله فإن الدعاء له بالرحمة نعمة فلا يستحقها من لم يحمد الله ويشكره على هذه النعمة ويتأسى بابيه آدم فإنه لما نفخت فيه الروح إلى الخياشيم عطس فألهمه ربه تبارك وتعالى أن نطق بحمده فقال الحمد لله فقال الله سبحانه يرحمك الله يا آدم فصارت تلك سنة العطاس فمن لم يحمد الله لم يستحق هذه الدعوة ولما سبقت هذه الكلمة لآدم قبل أن يصيبه ما اصابه كان مآله إلى الرحمة وكان ما جرى عارضا وزال فإن الرحمة سبقت العقوبة وغلبت الغضب وايضا فإنما أمر العاطس بالتحميد عن العطاس لأن
(3/69)
الجاهلية كانوا يعتقدون فيه أنه داء ويكره أحدهم أن يعطس ويود أنه لم يصدر منه لما في ذلك من الشؤم وكان العاطس يحبس نفسه عن العطاس ويمتنع من ذلك جهده من سوء اعتقاد جهالهم فيه ولذلك والله أعلم بنوا لفظه على بناء الأدواء كالزكام والسعال والدوار والسهام وغيرها فاعلموا أنه ليس بداء ولكنه أمر يحبه الله وهو نعمة منه يستوجب عليها من عبده أن يحمده عليها وفي الحديث المرفوع أن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب والعطاس ريح مختنقة تخرج وتفتح السد من الكبد وهو دليل جيد للمريض مؤذن بانفراج بعض علته وفي بعض الأمراض يستعمل ما يعطس العليل ويجعل نوعا من العلاج ومعينا عليه هذا قدر زائد على ما أحبه الشارع من ذلك وأمر بحمد الله عليه وبالدعاء لمن صدر منه وحمد الله عليه ولهذا فالله أعلم يقال شمته إذا قال له يرحمك الله وسمته بالمعجمة والمهملة وبهما روى الحديث فأما التسميت بالمهملة فهو تفعيل من السمت الذي يراد به حسن الهيئة والوقار فيقال لفلان سمت حسن فمعنى سمت العاطس وقرته وأكرمته وتأدبت معه بأدب الله ورسوله في الدعاء له لا بأخلاق أهل الجاهلية من الدعاء عليه والتطير به والتشاؤم منه وقيل سمته دعا له أن يعيده الله إلى سمته قبل العطاس من السكون والوقار وطمأنينه الأعضاء فإن في العطاس من انزعاج الأعضاء واضطر ابها ما يخرج العاطس عن سمته فإذا قال له السامع يرحمك الله فقد دعا له أن يعيده إلى سمته وهيئته وأما التشميت بالمعجمة فقالت طائفة منهم ابن السكيت وغيره أنه بمعنى التسميت وأنهما لغتان ذكر ذلك في كتاب القلب والإبدال ولم يذكر أيهما الأصل ولا أيهما البدل وقال أبو علي الفارسي المهملة هي الأصل في الكلمة والمعجمة بدل واحتج بأن العاطس إذا عطس انتفش وتغير شكل وجهه فإذا دعا له فكأنه أعاده إلى سمته وهيأته وقال تلميذه ابن جنى لو جعل جاعل الشين المعجمة أصلا وأخذه من الشوامت وهي القوائم لكان وجها صحيحا وذلك أن القوائم
(3/70)
هي التي تحمل الفرس ونحوه وبهما عصمته وهي قوامه فكأنه إذا دعا له فقد أنهضه وثبت امره وأحكم دعائمه وأنشد للنابغة طوع الشامت من خوف ومن صرد وقالت طائفة منهم ابن الأعرابي يقال مرضت العليل أي قمت عليه ليزول مرضه ومثله قذيت عينه أزلت قذاها فكأنه لما دعا له بالرحمة قد قصد إزالة الشماته عنه وينشد في ذلك : ما كان ضر الممرضي بجفونه لو كان مرض منعما من أمرضا وإلى هذا ذهب ثعلب والمقصود أن التطير من العطاس من فعل الجاهلية الذي أبطله الإسلام وأخبر النبي أن الله يحب العطاس كما في صحيح البخاري حديث أبي هريره عن النبي قال إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا تثاءب أحدكم فليستره ما استطاع فإنه إذا فتح فاه فقال آه آه ضحك منه الشيطان فصل وأما قوله لا يورد ممرض على مصح فالممرض الذي إبله مراض والمصح
(3/71)
الذي إبله صحاح وقد ظن بعض الناس أن هذا معارض لقوله لا عدوى ولا طيرة وقال لعل أحد الحديثين نسخ الآخر وأورد الحارث بن أبى ذئاب وهو ابن عم أبى هريرة رضى الله عنه جمعه بين الروايتين وظنهما متعارضتين فروى ا بن هرير عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال كان أبو هريرة يحدثنا عن رسول الله لا عدوى ثم حدثنا أن رسول الله قال لا يورد ممرض على مصح قال فقال الحارث بن أبى ذئاب وهو ابن عم أبى هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا حديثا آخر قد سكت عنه كنت تقول قال رسول الله لا عدوى فأبى أبو هريرة أن يحدث بذلك وقال لا يورد ممرض على مصح فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة ورطن بالحبشية ثم قال للحارث أتدرى ما قلت قال لا قال إني أقول أبيت أبيت فلا أدرى أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر قلت قد اتفق مع أبى هريرة سعد بن أبى وقاص و جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وعمر بن سلم على روايتهم عن النبي قوله لا عدوى وحديث أبى هريرة محفوظ عنه بلا شك من رواية أوثق أصحابه وأحفظهم أبى سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والحارث بن أبى ذئاب ولم يتفرد أبو هريرة بروايته عن النبي بل رواه معه من الصحابة من ذكرناه وقوله لا يورد ممرض على مصح صحيح أيضا ثابت عنه فالحديثان صحيحان ولا نسخ تعارض بينهما بحمد الله بل كل منهما له وجه وقد طعن أعداء السنة في أهل الحديث وقالوا يروون الأحاديث التي ينقض بعضها بعضا ثم يصححونها والأحاديث التي تخالف العقل فانتدب أنصار السنة للرد عليهم ونفي التعارض عن الأحاديث الصحيحة وبيان موافقتها للعقل قال أبو محمد بن قتيبة في كتاب مختلف الحديث له قالوا حديثان متناقضان قالوا رويتم عن رسول الله أنه قال لا عدوى ولا طيرة وأنه قيل له أن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل فقال فما أعدي الأول هذا أو معناه ثم رويتم في خلاف ذلك لا يورد ذو عاهة على
(3/72)
مصح وفر من المجذوم فرارك من الأسد وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه البيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن له وقال الشؤم في المرأة والدار والدابة قالوا وهذا كله مختلف يشبه لا يثبه بعضه بعضا قال أبو محمد ونحن نقول أنه ليس في هذا اختلاف ولكل واحد معنى في وقت وموضع فإذا وضع موضعه زال الاختلاف والعدوى جنسان أحدهما عدوى الجذام فإن الجذام تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته وموا كلته وكذا المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى وربما جذمت وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه وكذلك من به سل ودق وتعب الأطباء تأمر أن لا يجالس المجذوم ولا المسلول ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن وشؤم وكذلك النقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب فإذا خالط الإبل أو حاكها واوي في مباركها أوصل إليها بالماء الذي يسيل منه والنطف نحوا مما به فهذا هو المعنى الذي قال رسول الله صلى عليه وسلم لا يورد ذو عاهة على مصح كره أن يخالط المصاب الصحيح فيناله من نطفه وحكمته نحو مما به قال وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك أن لا يظن أن الذي نال إبله من ذوات العاهة فيأثم وليس لهذا عندي وجه إلا الذي خبرتك به عيانا وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوف العدوى حدثني سهل بن محمد قال حدثني الأصمعي عن بعض المصريين أنه هرب من الطاعون فركب حمارا ومضى بأهله نحو حلوان فسمع حاديا يحدو خلفه وهو يقول : لن يسبق الله على حمار ولا على ذي هيعة مطار أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري وقد قال رسول الله إذا كان بالبلد الذي أنتم فيه فلا تخرجوا منه وقال إن كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله لا تخرجوا من البلد أذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله ويريد إن كان ببلد
(3/73)
فلا تدخلوه فإن مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لأنفسكم وأطيب لمعيشتكم ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم والدار فينال الرجل مكروه أو جائحة فيقول أعدتني بشؤمها فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله لا عدوى فأما الحديث الذي رواه أبو هريرة رضى الله عنه أنه قال الشؤم في المرأة والدار والدابة فإن هذا الحديث يتوهم فيه الغلط على أبى هريرة وأنه سمع فيه شيئا من رسول الله فلم يعه حدثني محمد بن القطعي حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبى حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا إن أبا هريرة رضى الله عنه يحدث عن رسول الله أنه قال إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شفقا ثم قالت كذب والذي أنزل الفرقان على أبى القاسم من حدث بهذا عن رسول الله إنما قال رسول الله كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار ثم قرأت ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبراها حدثني أبى قال حدثني أحمد بن الخليل حدثنا موسى بن مسعود النهدي عن
(3/74)
عكرمة بن عمار عن اسحق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله أنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا ثم تحولنا عنها إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل فيها عددنا فقال رسول الله ذروها وهى ذميمه 0قال أبو محمد وهذا ليس ينقض الحديث الأول ولا الحديث الأول ينقض هذا وإنما أمرهم بالتحول منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال لظلها واستيحاش لما نالهم فيها فأمرهم بالتحول وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يده الخير لهم وأن لم يردهم به وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به وكيف يتطير والطيرة من الجبت وكان كثير من الجاهلية لا يرونها شيئا ويمدحون من كذب بها ثم أنشد ما ذكرنا من الأبيات سالفا ثم قال حدثنا اسحق بن راهويه أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أبى أميه قال قال رسول الله ثلاث لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد قيل فما المخرج منهن قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ هذه الألفاظ أو نحوها حدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي عن سعيد بن سالم عن أبيه أنه كان يعجب ممن يصدق بالطيرة ويعيبها أشد العيب وقال فرقت لنا ناقة وأنا بالطائف فركبت في أثرها فلقيني هانيء ين عبيد من بنى وائل وهو مسرع وهو يقول 0 الشرع يلقى مطالع إلا كم 0 ثم لقيني آخر من الحي وهو يقول 0 ولئن بغيت لهم بغاة ما البغاة بواجدينا ثم دفعنا إلى غلام قد وقع في صغره في نار فأحرقته فقبح وجهه وفسد فقلت له هل ذكرت من ناقة فارق قال ههنا أهل بيت من الأعراب فانظر فنظرت فإذا هي عندهم وقد نتجت فأخذناها وولدها قال أبو محمد الفارق التي ضلت ففارقت صواحبها وقال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل خير خير فقال ابن عباس لا خير ولا شر وكان رسول الله يستحب
(3/75)
الاسم الحسن والفأل الصالح حدثني الرياشى حدثنا الأصمعي قال سألت ابن عون عن الفأل فقال هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم أو يكون باغيا فيسمع يا واجد وهذا أيضا مما جعل في غرائز الناس وتركيبهم استحبابه والأنس به وكما جعل على الألسنة من التحية بالسلام والمد في الأصب والتبشير بالخير وكما يقال أنعم وأسلم وأنعم صباحا وكما تقول الفرس عش ألف نوروز والسامع لهذا يعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر ولا يزيد ولا ينقص ولكن جعل في الطباع محبة الخير والارتياح للبشرى والمنظر الأنيق والوجه الحسن والاسم الخفيف وقد يمر الرجل بالروضة المنورة فتسره وهى لا تنفعه وبالماء الصافي
(3/76)
فيعجب به وهو لا يبشر به ولا يرده وفي بعض الحديث أن رسول الله كان يعجب بالأترج ويعجبه الحمام الأحمر وتعجبه الفاغية وهو نور الحناء وهذا مثل إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن وعلى حسب هذا كانت كراهية الاسم القبيح كبني النار وبني حراق وأشباه هذا انتهي كلامه وقد سلك أبو عمر بن عبد البر في هذا الحديث نحوا من مسلك أبى محمد بن قتيبة فقال أما قوله لا عدوى فهو نهى أن يقول أحد إن شيئا يعدى شيئا وإخبار أن شيئالا يعدى شيئا فكأنه لا يعدى شيء شيئا يقول لا يصيب أحد من أحد شيئا من خلق أو فعل أو داء أو مرض وكانت العرب تقول في جاهليتها في مثل هذا أنه إذا اتصل شيء من ذلك بشيء أعداء فأخبرهم رسول الله أن قولهم واعتقادهم في ذلك ليس كذلك ونهى عن ذلك القول إعلاما منه بأنما اعتقد ذلك من اعتقد منهم كان باطلا قال وأما الممرض فالذي إبله مراض والمصح الذي إبله صحاح وروى ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبى الزبير عن جابر قال يكره إن يدخل المريض على الصحيح منها وليس به إلا قول الناس وحماية للقلب مما يستبق إليه من الإفهام ويقع فيه من التطير والتشاؤم بذلك وقد قال أبو عبيد قولا قريبا من ذلك فقال في قوله في هذا الحديث أنه إذا أبى إيراد الممرض على المصح فقال معنى الأذى عندي الماثم يعنى أن المورد يأثم بأذاه من أورد عليه وتعريضه للتشاؤم والتطير وقد سلك بعضهم مسلكا آخر فقال ما يخبر به النبي نوعان : أحدهما يخبر به عن الوحي فهذا خبر مطابق لمخبره من جميع الوجوه ذهنا وخارجا وهو الخبر المعصوم والثاني ما يخبر به عن ظنه من أمور الدنيا التي هم اعلم بها منه فهذا ليس في رتبة النوع الأول ولا تثبت له أحكامه وقد أخبر عن نفسه الكريمة بذلك تفريقا بين النوعين فإنه لما سمع أصواتهم في النخل يؤبرونها وهو التلقيح قال ما هذا فأخبروه بأنهم يلقحونها فقال ما أرى لو تركتموه يضوء شيئا فتركوه فجاء شيصا فقال إنما أخبرتكم عن ظني وأنتم أعلم بأمر
(3/77)
دنياكم ولكن ما أخبرتكم عن الله والحديث صحيح مشهور وهو من أدلة بنوية وأعلامها فأن من خفي عليه مثل هذا من أمر الدينا وما أجرى الله به عادته فيها ثم جاء من العلوم التي لا يمكن البشر أن يطلع عليها البتة إلا بوحي من الله فأخبر عما كان وما يكون وما هو كائن من لدن خلق العالم إلى أن استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وعن غيب السموات والأرض وعن كل سبب دقيق أو جليل تنال به سعادة الدارين وكل سبب دقيق أو جليل تنال به شقاوة الدارين وعن مصالح الدنيا والآخرة وأسبابهما مع كون معرفتهم بالدنيا وأمورها وأسباب حصولها ووجوه تمامها أكثر من معرفته كما أنهم أعرف بالحساب والهندسة والصناعات والفلاحة وعمارة الأرض والكتابة فلو كان ما جاء به مما ينال بالتعلم والتفكر والتطير والطرق التي
(3/78)
يسلكها الناس لكانوا أولى به منه وأسبق إليه لأن أسباب ما ينال بالفكر والكتابة والحساب والنظر والصناعات بأيديهم فهذا من اقوى براهين نبوته وآيات صدقه وإن هذا الذي جاء به لا صنع للبشر فيه البتة ولا هو مما ينال بسعي وكسب وفكر ونظر إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى الذي يعلم السر في السموات والأرض أنزله عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من ارتضى من رسول قالوا فهكذا إخباره عن عدم العدوى إخبار عن ظنه كإخباره عن عدم تأثير التلقيح لا سيما وأحد البابين قريب من الآخر بل هو في النوع واحد فإن اتصال الذكر بالأنثى وتأثره به كاتصال المعدى بالمعدي وتأثره به ولا ريب أن كلهما من أمور الدنيا لا مما يتعلق به حكم من الشرع فليس الإخبار به كالإخبار عن الله سبحانه وصفاته وأسمائه وأحكامه قالوا فلما تبين له من أمر الدنيا الذى أجرى الله سبحانه عادته به ارتباط هذه الأ سباب بعضها ببعض التلقيح فى صلاح الثمار وتأثير إيراد الممرض على المصح أقرهم على تأبير النخل ونهاهم أن يورد ممرض على مصح قالوا وإن سمى هذا نسخآ بهذا الاعتبار فلا مشاحة فى التسمية إذا ظهر المعنى ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن فلا أدرى أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين بالآخر يعنى بحديثه بالحديثين فجوز أبو سلمة النسخ فى ذلك مع أنه خبر وهو بما ذكرنا من الاعتبار وهذا المسلك حسن لولا أنه قد اجتمع الفصلان فى حديث واحد كما فى موطآ مالك أنه بلغه عن بكير بن عبد الله ابن الأشج عن ابن عطية أن رسول قال لا عدوى ولاصفر ولايحلل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء قالوا وما ذاك يا رسول الله فقال رسول الله إنه أذى وقد يجاب عن هذا بحوابين : أحدهما أن الحديث لا يثبت لوجهين : أحدهما إرساله والثاني أن ابن عطية هذا ويقال أبوعطية مجهول لا يعرف إلا في هذا الحديث 00 الجواب الثاني قوله فيه لاعدوى نهى لا نفى أى لا يعدى الممرض المصح بحلوله عليه ويدل على ذلك
(3/79)
ما رواه أبو عمر النمرى حدثنا خلف بن القاسم حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا أبو هشام الرفاعى حدثنا البشر بن عمر الزهر انى قال قال مالك أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبى عطية أو أبن عطية شك بشر عن أبى هريرة قال قال رسول الله لاطيرة ولاهامة ولا يعدى سقم صحيحا وليحل المصح حيث شاء خفى هذا النهى كالإثبات للعدى والنهى عن أسبابها ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فقال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة وإنما مخرج الحديث النهى عن العدوى لا نفيها وهذا أيضا حسن لو لا حديث ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال قال رسول الله فمن أعدى الأول فهذا الحديث قد فهم منه السامع النفي وأقره عليه ولهذا أستشكل نفيه وأورد ما أورده فأجله صلى
(3/80)
الله عليه وسلم بما يتضمن إبطال الدعوى وهو قوله فمن أعدى الأول وهذا أصح من حديث أبي عطيه المتقدم وحينئذ فيرجع إلى مسلك التلقيح المذكور آنفا أو ما قبله من المسالك وعندي في الحديثين مسلك آخر يتضمن إثبات الأسباب والحكم ونفى ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل ووقوع النفي والإثبات على وجهه فإن العوام كانوا يثبتون العدوى على مذهبهم من الشرك الباطل كما يقوله المنجمون من تأثير الكواكب في هذا العالم وسعودها ونحوسها كما تقدم الكلام عليهم ولو قالوا أنها اسباب أو اجزاء اسباب إذ شاء الله صرف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته وأنها مسخرة بأمره لما خلقت له وأنها في ذلك بمنزلة سائر الأسباب التي ربط بها مسبباتها وجعل لها أسبابا أخر تعارضها وتمانعها وتمنع اقتضاءها لما جعلت أسبابا له وإنها لا تقضي مسبباتها إلا بإذنه مشيئته وإرادته ليس لها من ذاتها ضر ولا نفع ولا تأثير البتة إن هي إلا خلق مسخر مصرف مربوب لا تتحرك إلا بإذن خالقها ومشيئته وغايتها أنها جزء سبب ليست سببا تاما فسببيتها من جنس سببية وطء الوالد في حصول الولد فإنه جزء واحد من أجزاء كثيرة من الأسباب التي خلق الله بها الجنين وكسببية شق الأرض وإلقاء البذر فإنه جزء يسير من جملة الأسباب التي يكون الله بها النبات وهكذا جملة أسباب العالم من الغذاء والرواء والعافية والسقم وغير ذلك وأن الله سبحانه جعل من ذلك سببا ما يشاء ويبطل السببية عما يشاء ويخلق من الأسباب المعارضة له ما يحول بينه وبين مقتضاه فهم لو أثبتوا العدوى على هذا الوجه لما أنكر عليهم كما أن ذلك ثابت في الداء والدواء وقد تداوى النبي وأمر بالتداوي وأخبر أنه ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء إلا الهرم فأعلمنا أنه خالق أسباب الداء وأسباب الدواء المعارضة المقاومة لها وأمرنا بدفع تلك الأسباب المكروهة بهذه الأسباب وعلى هذا قيام مصالح الدارين بل الخلق والأمر مبني على هذه القاعدة فإن
(3/81)
تعطيل الأسباب وإخراجها عن أن تكون أسبابا تعطيل للشرع ومصالح الدنيا والإعتماد عليها والركون إليها واعتقاد أن المسببات بها وحدها وأنها أسباب تامة شرك بالخالق عز وجل وجهل به وخروج عن حقيقة التوحيد وإثبات مسببيتها على الوجه الذي خلقها الله عليه وجعلها له إثبات للخلق والأمر للشرع والقدر للسبب والمشيئة للتوحيد والحكمة فالشارع يثبت هذا ولا ينفيه وينفي ما عليه المشركون من اعتقادهم في ذلك ويشبه هذا نفيه سبحانه وتعالى الشفاعة في قوله واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل وفي الآية الأخرى ولا تنفعها شفاعة وفي قوله من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة وإثباتها في قوله ولا يشفعون إلى لمن ارتضى وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه وقوله لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فإنه سبحانه
(3/82)
نفى الشفاعة الشركية التي كانوا يعتقدونها وأمثالهم من المشركين وهي شفاعة الوسائط لهم عند الله في جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم بذواتها وأنفسها بدون توقف ذلك على إذن الله ومرضاته لمن شاء أن يشفع فيه الشافع فهذه الشفاعة التي أبطلها الله سبحانه ونفاها وهي أصل الشرك كله وقاعدته التي عليها بناؤه وأخبيته التي يرجع إليها وأثبت سبحانه الشفاعة التي لا تكون إلا بإذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع قوله وعمله وهي الشفاعة التي تنال بتجريد التوحيد كما قال أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه والشفاعة الأولى هي الشفاعة التي ظنها المشركون وجعلوا الشرك وسيلة إليها فالمقامات ثلاثة أحدها تجريد التوحيد وإثبات الأسباب وهذا هو الذي جاءت به الشرائع وهو مطابق للواقع في نفس الأمر والثاني الشرك في الأسباب بالمعبود كما هو حال المشركين علي اختلاف إصنافهم والثالث إنكار الأسباب بالكلية محافظة من منكرها على التوحيد فالمنحرفون طرفان مذمومان إما قادح في التوحيد بالأسباب وأما منكر للأسباب بالتوحيد والحق غير ذلك وهو إثبات التوحيد والأسباب وربط أحدهما بالآخر فالأسباب محل حكمه الديني والكوني والحكمان عليها يجريان بل عليها يترتب الأمر والنهى والثواب والعقاب ورضى الرب وسخطه ولعنته وكرامته والتوحيد تجريد الربوية والإلهية عن كل شرك فإنكار الأسباب إنكار الحكمة والشرك بها قدح في توحيده واثباتها والتعلق بالسبب والتوكل عليه والثقة به والخوف منه والرجاء له وحده هو محض التوحيد والمعرفة تفرق بين ما أثبته الرسول وبين ما نفاه وبين ما أبطله وبين ما اعتبره فهذا لون وهذا لون والله الموفق للصواب 0 فصل ويشبه هذا ما روى عنه من نهيه عن وطء الغيل وهو
(3/83)
وطء المرأة إذا كانت ترضع وإنه يشبه قتل الولد سرا وأنه يدرك الفارس قيد عثره وقوله في حديث آخر لقد هممت أن أنهى عنه ثم رأيت فارس والروم يفعلونه ولا يضر ذلك أولادهم شيئا وقد قيل أن أحد الحديثين منسوخ بالآخر وإن لم تعلم عين الناسخ منها من المنسوخ لعدم علمنا بالتاريخ وقيل وهو أحسن أن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد فإنه صلى الله علية وسلم أخبر في أحد الجانبين أنه يفعل في الوليد مثل ما يفعل من يصرع الفارس عن فرسه كأنه يدعثره ويصرعه وذلك يوجب نوع أذى ولكنه ليس بقتل للولد وإهلاك له وإن كان قد يترتب عليه نوع أذى للطفل فأرشدهم إلى تركه ولم ينه عنه بل قال علام يفعل أحدكم ذلك ولم يقل لا تفعلوه فلم يجيء عنه لفظ واحد بالنهى عنه ثم عزم على النهى سدا لذريعة الأذى الذي ينال الرضيع فرأى أن سد هذه الذريعة لا يقاوم المفسدة التي تترتب على الإمساك عن وطء النساء مدة الرضاع ولا سيما من الشباب وأرباب الشهوة التي لا يكرها إلا مواقعه نسائهم فرأى أن هذه المصلحة أرجح من مفسدة سد الذريعة فنظر ورأى الأمتين اللتين هما من اكثر الأمم وأشدها بأسا يفعلونه ولا يتقونه مع قوتهم وشدتهم فأمسك عن النهى عنه فلا تعارض إذا بين الحديثين ولا ناسخ منهما ولا منسوخ والله اعلم بمراد رسوله
فصل ويشبه هذا قوله للذي قال له إن لي أمة وأنا أكره
(3/84)
أن تحبل وإني أعزل عنها فقال سيأتيها ما قدر لها فليس بين هذه الأحاديث قوله الأحاديث تعارض فإنه لم يقل أن الولد يخلق من غير ماء الواطىء بل أخبر أنه سيأتيها ما قدر لها ولو عزل فأنه إذا قدر خلق الولد قدر سبق الماء والواطيء لا يشعر بل يخرج منه ماء يمازج ماء المرأة لا يشعر به يكون سببا في خلق الولد ولهذا قال ليس من كل الماء يكون الولد فلو خرج منه نطفة لا يحس بها لجعلها الله مادة للولد قلت مادة الولد ليست مقصورة على وقوع الماء بحملته في الرحيم بل إذا قدر الله خلق الولد من الماء فلو وضع على صخرة لخلق منه الولد كيف والذي يعزل في الغالب إنما يلقى ماءه قريبا من الفرج وذلك إنما يكون غالبا عندما يحس بالإنزال وكثيرا ما ينزل بعض الماء ولا يشعر به فينزل خارج الفرج ولا شعور له بما ينزل في الفرج ولا بما خالط ماء المرأة منه وبالجملة فليس سبب خلق الولد مقصورا على الإنزال التام في الفرج ولقد حدثني غير واحد ممن أثق به أن امرأته حملت مع عزله عنها لرضاع وغيره ورأيت بعض أولادهم ضعيفا ضئيلا فصلوات الله وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض فالاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الإفهام إلا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام والواجب على كل مؤمن أن يكل ما أشكل عليه إلا أصدق قائل ويعلم أن فوق كل ذي علم عليم وأنه لو اعترض على ذي صناعة أو علم من العلوم التي استنبطتها معاول الأفكار ولم يحط علما بتلك الصناعة والعلم لا ندرى على نفسه وأضحك صاحب تلك الصناعة والعلم على عقله والنبي يذكر المقتضى في موضع والمانع في موضع آخر ويثبت الشيء وينفي مثله في الصورة وعكسه في الحقيقة ولا يحيط أكثر الناس بمجموع نصوصه علما ويسمع النص ولا يسمع شرطه ولا موانع مقتضاه ولا تخصيصه ولا ينتبه للفرق بين ما أثبته ونفاه فينشأ من ذلك في حقه من الاشكالات ما ينشأ وينضاف هذا إلى عدم معرفة الخاص بخطابه ومجارى كلامه وينضاف إلى
(3/85)
ذلك تنزيل كلامه على الاصطلاحات التي أحدثها أرباب العلوم من الأصوليين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم فإن لكل من هؤلاء الاصطلاحات حادثة في مخاطباتهم وتصانيفهم فيجيء من قد ألف تلك الاصطلاحات الحادثة وسبقت معانيها إلى قلبه فلم يعرف سواها فيسمع كلام الشارع فيحمله على ما ألفه من الاصطلاح فيقع بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يرده بكلامه ويقع من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه مع قلة البضاعة من معرفة نصوصه فأذا اجتمعت هذه الأمور مع نوع فساد في التصور أو القصد أوهما ما شئت من خبط وغلط واشكالات واشتمالات وضرب كلامه بعضه ببعض وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته والله المستعان
فصل وأما قضية المجذوم فلا ريب أنه روى عن النبي أنه قال
(3/86)
فر من المجذوم فرارك من الأسد وأرسل إلى ذلك المجذوم أنا قد بايعناك فارجع وأخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال كل ثقة بالله وتوكلا عليه ولا تنافي بين هذه الآثار ومن أحاط علما بما قدمناه تبين له وجهها وأن غاية ذلك أن مخالطة المجذوم من أسباب العدوى وهذا السبب يعارضه أسباب آخر تمنع اقتضاءه فمن أقواها التوكل على الله والثقة به فأنه يمنع تأثير ذلك السبب المكروه ولكن لا يقدر كل واحد من الأمة على هذا فأرشدهم إلى مجانبة سبب المكروه والفرار والبعد منه ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة تشريعا منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه وأن لا يتعرض العبد لأسباب البلاء ثم وضع يده معه في القصعة فإنما هو سبب التوكل على الله والثقة به الذي هو من أعظم الأسباب التي يدفع بها المكروه والمحذور تعليما منه للأمة دفع الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها وإعلاما بأن الضرر والنفع بيد الله عز وجل فإن شاء أن يضر عبده ضره وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرقه بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر ويضره بما هو من أسباب النفع فعل ليتبين العباد أنه وحده الضار النافع وأن أسباب الضر والنفع بيديه وهو الذي جعلها أسبابا وإن شاء خلع منها سببيتها وان شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها ليعلم أنه الفاعل المختار وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها وتبيين مرتبتها وأنها محال لمجارى مشيئة الله وحكمته وأنه سبحانه هو الذي يضربها وينفع ليس إليها ولا لها من الأمر شيء وأن الأمر كله لله وأنها إنما ينال ضررها من علق قلبه بها ووقف عندها وتطير بما يتطير به منها فذلك الذي يصيبه مكروه الطيرة والطيرة سبب للمكروه على المتطير فإذا توكل على الله ووثق به واستعان به لم يصده التطير عن حاجته وقال اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت
(3/87)
ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك فإنه لا يضره ما يتطير منه شيئا قال ابن مسعود ما منا إلا من يعنى يتطير ولكن الله يذهبه بالتوكل وقد روى مرفوعا والصواب عن ابن مسعود قوله فالطيرة إنما تصيب المتطير لشركه والخوف دائما مع الشرك وإلا من دائما مع التوحيد قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال في محاجته لقومه وكيف أخاف ما أشركتم به ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون فحكم الله عز وجل بين الفريقين بحكم فقال الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وقد صح عن رسول الله صلى الله علية وسلم تفسير الظلم فيها بالشرك وقال ألم تسمعوا قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم فالتوحيد من أقوى أسباب الأمن من المخاوف والشرك من أعظم أسباب حصول المخاوف ولذلك من خاف شيئا غير الله سلط عليه وكان خوفه منه هو سبب تسليطه عليه ولو خاف الله دونه ولم يخفه لكان عدم خوفه منه وتوكله على الله من أعظم أسباب نجاته منه وكذلك من رجا شيئا غير الله حرم ما رجاه منه وكان رجاؤه غير الله من أقوي أسباب حرمانه فإذا رجا الله وحده كان توحيد رجائه أقوى أسباب الفوز بما رجاه أو بنظيره أو بما هو أنفع له منه والله الموفق للصواب وليكن هذا آخر الكتاب وقد جلبت إليك فيه نفائس في مثلها يتنافس المتنافسون وجليت عليك فيه عرائس إلى مثلهن بادر الخاطبون فإن شئت اقتبست منه معرفة العلم وفضله وشدة الحاجة إليه وشرفه وشرف أهله وعظم موقعه في الدارين وإن شئت اقتبست منه معرفة إثبات الصانع بطرق واضحات جليات تلج القلوب بغير استئذان ومعرفة حكمته في خلقه وأمره وإن شئت اقتبست منه معرفة قدر الشريعة وشدة الحاجة إليها ومعرفة جلالتها وحكمتها وإن شئت اقتبست منه معرفة النبوة وشدة الحاجة إليها بل وضرورة الوجود إليها وأنه يستحيل من أحكم الحاكمين أن يخلى العالم عنها
(3/88)
وإن شئت اقتبست منه معرفة ما فطر الله عليه العقول من تحسين الحسن وتقبيح القبيح وإن ذلك أمر عقلي فطرى بالأدلة والبراهين التي اشتمل عليها هذا الكتاب فلا توجد في غيره وإن شئت اقتبست منه معرفة الرد على المنجمين القائلين بالأحكام بأبلغ طرق الرد من نفس صناعتهم وعلمهم وإلزامهم بالألزامات المفخمة التي لا جواب لهم عنها وإبداء تناقضهم في صناعتهم وفضائحهم وكذبهم على الخلق والأمر وإن شئت اقتبست منه معرفة الطيرة والفأل والزجر والفرق بين صحيح ذلك وباطلة ومعرفة مراتب هذه في الشريعة والقدر وإن شئت اقتبست منه أصولا نافعة جامعة مما تكمل به النفس البشرية وتنال بها سعادتها في معاشها ومعادها إلى غير ذلك من الفوائد التي ما كان منها صوابا فمن الله وحده هو ألمان به وما كان منها من خطأ فمن مؤلفه ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله والله سبحانه المسئول والمرغوب إليه المأمول أن يجعله خالصا لوجهه وأن يعيدنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه إنه قريب مجيب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا كان في آخر الأصل ما نصه  (3/89) 
اخر ثلاثة اجزاء 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق