الأحد، 13 فبراير 2022

كتاب : الاعتصام للشاطبي {أقسام الكتاب/1234 .} مرفقة بالصفحة

 الصفحة الرئيسية مكتبة القرآن مكتبة علوم القران مكتبة الحديث مكتبة العقيدة مكتبة الفقه مكتبة التاريخ  مكتبة الأدب المكتبة العامة

أقسام الكتاب/1234 .... 

الكتاب : الاعتصام للشاطبي

خطبة الكتاب الحمد لله المحمود على كل حال الذي بحمده يستفتح كل أمر ذي بال خالق الخلق لما شاء وميسرهم على وفق علمه وإرادته لا على وفق أغراضهم لما سر وساء ومصرفهم بمقتضى القبضتين فمنهم شقي وسعيد وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد ومسويهم على قبول الإلهامين ففاجر وتقي كما قدر أرزاقهم بالعدل على حكم الطرفين ففقير وغني كل منهم جار على ذلك الأسلوب فلا يعدوه فلو تمالؤوا على أن يسدوا ذلك الفتق لم يسدوه أو يردوا ذلك الحكم السابق لم ينسخوه ولم يردوه فلا إطلاق لهم على تقييده ولا انفصال { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال }
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة وكاشف الغمة الذي نسخت شريعته كل شريعة وشملت دعوته كل أمة فلم يبق لأحد حجة دون حجته ولا استقام لعاقل طريق سوى لا حب محجته وجمعت تحت حكمتها كل معنى مؤتلف فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف فالسالك سبيلها معدود في الفرقة الناجية والناكب عنها مصدود إلى الفرق المقصرة أو الفرق الغالية صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة واقتفوا آثاره اللائحة وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة وبين كل حجة بالغة وحجة مبيرة وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل سائر المنتمين إلى ذلك القبيل وسلم تسليما كثيرا
أما بعد : فإني أذكرك أيها الصديق الأوفى والخالصة الأصفى في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم

في معنى قول صلى الله عليه و سلم بدىء الإسلام غريبا
وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بدىء الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون عند فساد الناس ] وفي رواية قيل : [ ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : النزاع من القبائل ] وهذا مجمل ولكنه مبين في الرواية الأخرى وجاء من طريق آخر [ بدىء الإسلام غريبا ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء حين يفسد الناس ] وفي رواية لابن وهب قال عليه الصلاة و السلام : [ طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تطفى ] وفي رواية : [ إن الإسلام بدىء غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء قالوا : يا رسول الله كيف يكون غريبا ؟ قال : كما يقال للرجل في حي كذا وكذا إنه لغريب ] وفي رواية : [ أنه سئل عن الغرباء قال : الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي ] وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل وفي جاهلية جهلاء لا تعرف من الحق رسما ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكما بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها وما استحسنه أسلافها من الآراء المنحرفة والنحل المخترعة والمذاهب المبتدعة فحين قام فيهم صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر وغيروا في وجه صوابه بالإفك ونسبوا إليه إذ خالفهم في الشرعة ونابذهم في النحلة كل محال ورموه بأنواع البهتان فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق الذي لم يجربوا عليه قط خبرا بخلاف مخبره وآونة يتهمونه بالسحر وفي علمهم أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدعيه وكرة يقولون : إنه مجنون مع تحققهم بكمال عقله وبراءته من مس الشيطان وخبلة وإذا دعاهم إلى عبادة المعبود بحق وحده لا شريك له قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة الصادقة : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة أنكروا ما يشاهدون من الأدلة على إمكانه وقالوا : { أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد } وإذا خوفهم نقمة الله قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } اعتراضا على صحة ما أخبرهم به مما هو كائن لا محالة وإذا جاءهم بآية خارقة افترقوا في الضلالة على فرق واخترقوا فيها بمجرد العناد ما لا يقبله أهل التهدي إلى التفرقة بين الحق والباطل كل ذلك منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون إذ رأوا خلاف المخالف لهم في باطلهم ردا لما هم عليه ونبذا لما شدوا عليه يد الظنة واعتقدوا إذ لم يتمسكوا بدليل أن الخلاف يوهن الثقة ويقبح جهة الاستحسان وخصوصا حين اجتهدوا في الانتصار بعلم فلم يجدوا أكثر من تقليد الآباء ولذلك أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في محاجة قومه : { ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } فحادوا كما ترى عن الجواب القاطع المورد مورد السؤال إلى الاستمساك بتقليد الآباء وقال الله تعالى : { أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } فرجعوا عن جواب ما ألزموا إلى التقليد فقال تعالى : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فأجابوا بمجرد الإنكار ركونا إلى ما ذكروا من التقليد لا بجواب السؤال
فكذلك كانوا مع النبي صلى الله عليه و سلم فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم لأنه خرج عن معتادهم وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم حتى أرادوا أن يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ليوقعوا بينهم وبين المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال أو على بعض الوجوه ويقنعوا منه بذلك ليقف لهم بتلك الموافقة واهي بنائهم فأبى عليه الصلاة و السلام إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب وأنزل الله : { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } إلى آخر السورة فنصبوا له عند ذلك حرب العدواة ورموه بسهام القطيعة وصار أهل السلم كلهم حربا عليه عاد الولي الحميم عليه كالعذاب الأليم فأقربهم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالاته كأبي جهل وغيره وألصقهم به رحما كانوا أقسى قلوبا عليه فأي غربة توازي هذه الغربة ؟ ومع ذلك فلم يكله الله إلى نفسه ولا سلطهم على النيل من أذاه إلا نيل المصلوفين بل حفظه وعصمه وتولاه بالرعاية والكلاء حتى بلغ رسالة ربه
ثم ما زالت الشريعة في أثناء نزولها وعلى توالي تقريرها تبعد بين أهلها وبين غيرهم وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا ولكن على وجه من الحكمة عجيب وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأول الأصيل ففي العرب نسبتهم إلى أبيهم إبراهيم عليه السلام وفي غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الأنبياء : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين }
وما زال عليه الصلاة و السلام يدعو لها فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء خوفا من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام فلما اطلعوا على المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيلة فحموه على إغماض أو على دفع العار في الإخفار ومنهم من فر من الإذاية وخوف الغرة هجرة إلى الله وحبا في الإسلام ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ولا ملجأ يركن إليه فلقي منهم من الشدة والغلطة والعذاب أو القتل ما هو معلوم حتى زل منهم من زل فرجع أمره بسبب الرجوع إلى الموافقة وبقي منهم من بقي صابرا محتسبا إلى أن أنزل الله تعالى الرخصة في النطق بكلمة الكفر على حكم الموافقة ظاهرا ليحصل بينهم وبين الناطق الموافقة وتزول المخالفة فنزل إليها من نزل على حكم التقية ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه وقلبه مطمئن بالإيمان وهذه غربة أيضا ظاهرة وإنما كان هذا جهلا منهم بمواقع الحكمة وأن ما جائهم به نبيهم صلى الله عليه و سلم هو الحق ضد ما هم عليه فمن جهل شيئا عاداه فلو علموا لحصل الوفاق ولم يسمع الخلاف ولكن سابق القدر حتم على الخلق ما هم عليه قال الله تعالى : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك }
ثم استمر تزيد الإسلام واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه و سلم ومن بعد موته وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة واصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج وهي التي نبه عليها الحديث بقوله : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ] يعني لا يتفقهون فيه بل يأخذونه على الظاهر : كما بينه حديث ابن عمر الآتي بحول الله وهذا كله في آخر عهد الصحابة
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى الله عليه و سلم في قوله :
[ افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] وفي الحديث الآخر :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ] وهذا أعم من الأول فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء وهذا الثاني عام في المخالفات ويدل على ذلك من الحديث قوله : [ حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم ]
وكل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها ويخص سؤاله بل سواه عليها إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة وبسببه تقع في المخالف المخالفة وتحصل من الموافق المؤالفة ومنه تنشأ العدواة والبغضاء للمختلفين
كان الإسلام في أوله وجدته مقاوما بل ظاهرا وأهله غالبون وسوادهم أعظم الأسودة فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون فصار على استقامة وجرى على اجتماع واتساق فالشاذ مقهور مضطهد إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود وقوته إلى الضعف المنتظر والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده واقتضى سر التأسي المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب فتكالبت على سواد السنة البدع والأهواء فتفرق أكثرهم شيعا وهذه سنة الله في الخلق : إن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل لقوله تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } ولينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه و سلم من عود وصف الغربة إليه فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وتصير السنة بدعة والبدعة سنة فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولا يقام على أهل البدعة طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة السنة عادة وسمعا بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم لا يزالون في جهاد ونزاع ومدافعة وقراع آناء الليل والنهار وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم
فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالفة بالموافقة جار مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان ومن خالف فهو المخطىء المصاب ومن وافق فهو المحمود السعيد ومن خالف فهو المذموم المطرود ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية
وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره وذلك أني ولله الحمد لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر العلم طلبي أنظر في عقلياته وشرعياته وأصوله وفروعه لم أقتصر منه على علم دون علم ولا أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر حسبما اقتضاه الزمان والمكان وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء حتى كدت أتلف في بعض أعماقه أو أنقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي غائبا عن مقال القائل وعذل العاذل ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللائم إلى أن من علي الرب الكريم الرؤوف الرحيم فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد فيه وإن الدين قد كمل والسعادة الكبرى فيما وضع والطلبة فيما شرع وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى محصل لكليتي الخير دنيا وأخرى وما سواهما فأحلام وخيالات وأوهام وقام لي على صحة ذلك البرهان الذي لا شبهة تطرق حول حماه ولا ترتمي نحو مرماه : { ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } والحمد لله والشكر كثيرا كما هو أهله فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه فابتدأت بأصول الدين عملا واعتقادا ثم بفروعه المبينة على تلك الأصول وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن أو من البدع كما أبين ما هو من الجائز وما هو من الممتنع وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية والفقهية ثم أطالب نفسي بالمشي مع للجماعة التي سماها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسواد الأعظم في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة
وكنت في اثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة فكيف في زماننا هذا فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير كما [ روي عن أبي الدرداء أنه قال : لو خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة ] قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم ؟ قال عيسى بن يونس : فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان ؟
وعن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدراداء وهو غضبان فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا
وعن أنس بن مالك قال : ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم غير قولكم : لا إله إلا الله قلنا : بلى يا أبا حمزة ؟ قال : قد صليتم حتى تغرب الشمس أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ وعن أنس قال : لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا قال : ووضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة ثم قال : أما والله على ذلك لمن عاش في النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجرا عظيما وكذلك فكونوا إن شاء الله
وعن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف ما عرف غير هذه القبلة
وعن سهل بن مالك عن أبيه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات تدخل في المشروعات وأن ذلك قد كان قبل زماننا وإنما تتكاثر على توالي الدهور إلى الآن
فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد ولا سيما إذا ادعى أهلها أم ما هم عليه هو السنة لا سواها إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك إلا أني أوافق المعتاد وأعد من المؤالفين لا من المخالفين فرأيت أن الهلاك في أتباع السنة هو النجاة وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور فقامت علي القيامة وتواترت علي الملامة وفوق إلي العتاب سهامه ونسبت إلى البدعة والضلالة وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا لوجدت غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن رقى بي مرتقى صعبا وضيق علي مجالا رحبا وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات وإن خالفت السلف الأول
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكب ويسألون عنها يوم القيامة فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزى إلى بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب وقد سئل ( أصبغ ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال : هو بدعة ولا ينبغي العمل به وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة قيل له : فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال : ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه وأما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما فإني أكره ذلك ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام : على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة
وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة وذكرهم فيه محدث لم يكن عليه من تقدم
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب ( الموافقات )
وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة بناء منهم على أن الجماعة التي أمر بأتباعها وهي الناجية ما عليه العموم ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وسيأتي بيان ذلك بحول الله وكذبوا علي في جميع ذلك أو وهموا والحمد لله على كل حال
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال : عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين والعارفين والمنكرين فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا دعاني إلى متابعته على ما يقوله وتصديق قوله والشهادة له فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان ـ سماني موافقا وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله ـ سماني مخالفا وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجيا وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد سماني مشبها وإن كان في الرؤية سماني سالميا وإن كان في الإيمان سماني مرجئيا وإن كان في الأعمال سماني قدريا وإن كان في المعرفة سماني كراميا وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيا وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريا وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيا وإن أجبت بتأويل سماني أشعريا وإن جحدتهما سماني معتزليا وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شفعويا وإن كان في القنوت سماني حنفيا وإن كان في القرآن سماني حنبليا وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار ـ إذ ليس في الحكم والحديث محاباة ـ قالوا : طعن في تزكيتهم ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يشتهون من هذه الأسامي ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى ولن يغنوا عني من الله شيئا وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم
هذا تمام الحكاية فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع فقلما تجد عالما مشهورا أو فاضلا مذكورا إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها لأن الهوى قد يداخل المخالف بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة إنه غير صاحبها ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب
وقد نقل عن السيد العباد بعد الصحابة ( أويس ) القرني أنه قال : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون في ذلك أعوانا من الفاسقين حتى ـ والله لقد رموني بالعظائم وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه
فمن هذا الباب يرجع الإسلام غريبا كما بدأ لأن المؤالف فيه على وصفه الأول قليل فصار المخالف هو الكثير فاندرست رسوم السنة حتى مدت البدع أعناقها فأشكل مرماها على الجمهور فظهر مصداق الحديث الصحيح
ولما وقع علي من الإنكار ما وقع مع ما هدى الله إليه وله الحمد لم أزل أتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم وحذر منها وبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة وأشار العلماء إلى تمييزها والتعريف بجملة منها لعلي أجتنبها فيما استطعت وأبحث عن السنن التي كادت تطفىء نورها تلك المحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها وأعد يوم القيامة فيمن أحياها إذ ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنن ما هو في مقابلتها حسبما جاء عن السلف في ذلك فعن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدعة وتموت السنن وفي بعض الأخبار : لا يحدث رجل بدعة إلا ترك من السنة ما هو خير منها وعن لقمان بن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع بها عنهم سنة وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو مشاهد معلوم حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وجاء من الترغيب في إحياء السنن ما جاء فقد خرج ابن وهب حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله رسوله فإن عليه إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا ] وأخرجه الترمذي باختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقال فيه : حديث حسن
وفي الترمذي [ عن أنس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم :
يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة ] حديث حسن
فرجوت بالنظر في هذا الموضع الانتظام في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة وفروع طالت أفنانها لكنها تنتظمها تلك الأصول وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر فمالت إلى بثها النفس ورأت أنه من الأكيد الطلب لما فيه من رفع الالتباس الناشىء بين السنن والبدع لأنه لما كثرت البدع وعم ضررها واستطار شررها ودام الإكباب على العمل بها والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها صارت كأنها سنن مقررات وشرائع من صاحب الشرع محررات فاختلط المشروع بغيره فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما تقدم فالتبس بعضها ببعض فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم وقلما صنف فيها على الخصوص تصنيف وما صنف فيها فغير كاف في هذه المواقف مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين فالموالي لم يخلد به إلى الأرض ويلقي له باليد إلى العجز عن بث الحق بعد رسوخ العوائد في القلوب والمعادي يريسه بالأردبيس ويروم أخذه بالعذاب البئيس لأنه يرد عوائده الراسخة في القلوب المتداولة في الأعمال دينا يتعبد به وشريعة يسلك عليها لا حجة له إلا عمل الآباء والأجداد مع بعض الأشياخ العالمين كانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا ولم يلتفتوا إلى أنهم عند موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح فالمعترض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال : ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره
وكذلك ما نحن بصدد الكلام عليه غير أنه أمر لا سبيل إلى إهماله ولا يسع أحدا ممن له منة إلا الأخذ بالحزم والعزم في بثه بعد تحصيله على كماله وإن كره المخالف فكراهيته لا حجة فيها على الحق إلا يرفع منارة ولا تكشف وتجلى أنواره فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده [ إلى أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له :
يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلمه فإنك إن مت وأنت كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق وعلم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك ]
قال أبو عبد الله بن القطان : وقد جمع الله له ذلك كله من إفراء كتاب الله والتحديث بالسنة أحب الناس أم كرهوا وترك الحدث حتى إنه كان لا يتأول شيئا مما روى تتميما للسلامة من الخطأ
على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس : إن بلدنا كثير البدع وإنه ألف كلاما في الرد عليهم فكتب إليه مالك يقول له : إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطىء فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك
وهذا الكلام يقضي لمثلي بالإحجام دون الإقدام وشياع هذا النكر وفشوا العمل به وتظاهر أصحابه يقضي لمن له بهذا المقام منة بالإقدام دون الإحجام لأن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غير مغير ملء أعنتها
وحكى ابن وضاح عن غير واحد : أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتب إليك ما أنكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك مما أظهرت من السنة وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم واذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين فأبشر يا أخي بثواب الله واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ ومن أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه وقال أيما داع دعا إلى هذه فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة ] فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من عمله ؟ ! وذكر أيضا : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها وينطق بعلامتها فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فأوصاه وقال :
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا ] وأعظم القول فيه فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب إلى يوم القيامة كما جاء الأثر فاعمل على بصيرة ونية حسنة فيرد الله بك المبتدع والمفتون الزائغ الحائر فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه و سلم فأحي كتاب الله وسنة نبيه فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه
انتهى ما قصدت إيراده من كلام أسد رحمه الله وهو مما يقوي جانب الإقدام مع ما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه خطب الناس فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال : والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت أو أن أميت بدعة قد أحييت لكرهت أن أعيش فيكم فواقا
وخرج ابن وضاح في كتاب القطعان وحديث الأوزاعي أنه بلغه عن الحسن أنه قال : لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب الله فإذا وافقوه حمدوا الله وإذا خالفوه عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل وهدى من اهتدى فأولئك خلفاء الله
وفيه عن سفيان قال : اسلكوا سبيل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهله فوقع الترديد بين النظرين
ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الأخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء وقاموا لي في عامة أدواء نفسي مقام الدواء فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولا وفروعا وسميته بـ الإعتصام والله أسأل أن يجعله عملا خالصا ويجعل ظل الفائدة به ممدودا لا قالصا والأجر على العناء فيه كاملا لا ناقصا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وينحصر الكلام فيه بحسب الغرض المقصود في جملة أبواب وفي كل باب منها فصول اقتضاها بسط المسائل المنحصرة فيه وما انجر معها من الفروع المتعلقة به


الباب الأول في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا وأصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق ومنه قول الله تعالى : { بديع السموات والأرض } أي مخترعها من غير مثال سابق متقدم وقوله تعالى : { قل ما كنت بدعا من الرسل } أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل ويقال : ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق وهذا أمر بديع يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة وهو إطلاق أخص منه في اللغة حسبما يذكر بحول الله
ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة : حكم يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب وحكم يقتضيه معنى النهي كان للكراهة أو التحريم وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة : مطلوب فعله ومطلوب تركة ومأذون في فعله وتركه والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفا للقسمين الأخيرين لكنه على ضربين :
أحدهما : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك وهو إن كان محرما سمي فعلا معصية وإثما وسمي فاعله عاصيا وآثما وإلا لم يسم بذلك ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير هذا الموضع ولا يسمى بحسب الفعل جائزا ولا مباحا لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين
والثاني : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك
وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعا فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول : البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة فحقيقتها إذا أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤذي
وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس
وكذلك أصول الدين وهو علم الكلام إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به كما كان الفقه تقريرا لأدلتها في الفروع العبادية
( فإن قيل ) : فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع
( فالجواب ) : أن له أصلا في الشرع ففي الحديث ما يدل عليه ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة وسيأتي بسطها بحول الله
فعلى القول بإثباتها أصلا شرعيا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد فليست ببدعة البتة
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات إذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال كما يأتي بيانه إن شاء الله
ويلزم من ذلك أن يكون كتب ا لمصحف وجمع القرآن قبيحا وهو باطل بالإجماع فليس أذا ببدعة
ويلزم أن يكون له دليل شرعي وليس إلا هذا النوع من الاستدلال وهو المأخوذ من جملة الشريعة
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة ثبت مطلق المصالح المرسلة
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلا
ومن سماه بدعة فإما على المجاز كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة وإما جهلا بمواقع السنة والبدعة فلا يكون قول من قال ذلك معتدا به ولا معتمدا عليه
وقوله في الحد تضاهي الشرعية يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها من أوجه متعددة
منها : وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد ضاحيا لا يستظل والاختصاص في الانقطاع للعبادة والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة
ومنها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه و سلم عيدا وما أشبه ذلك
ومنها : التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يرم النصف من شعبان وقيام ليلته
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة ـ لأنها تصير من باب الأفعال العادية
وأيضا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة حتى يكون ملبسا بها على الغير أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعا ولا يدفع به ضررا ولا يجيبه غيره إليه
ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير
فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما أحدثوا احتجاجا منهم كقولهم في أصل الإشراك { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وكترك الحمس الوقوف بعرفة لقولهم : لا نخرج من الحرم اعتدادا بحرمته وطواف من طاف منهم بالبيت عريانا قائلين : لا نطوف بثياب عصينا الله فيها وما أشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع فما ظنك بمن عد أو عد نفسه من خواص أهل الملة ؟ فهم أحرى بذلك وهم المخطئون وظنهم الإصابة وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد
وقوله : يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك لأن الله تعالى يقول : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف فرأى من نفسه أنه لا بد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة
وأيضا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة فإذا جدد لها أمر لا تعهده حصل بها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول ولذلك قالوا : ( لكل جديد لذة ) بحكم هذا المعنى كمن قال : كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : فيوشك قائل أن يقول ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتتبعني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة
وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل فإنها لا تسمى بدعا على إحدى الطريقتين
وأما الحد على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله : يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه وإن تعلقت بالعادات فكذلك لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها
فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول
وكذلك البناءات المشيدة المختلفة التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب
ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات فيعد المبتدع هذا من ذلك
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله


فصل في الحد وفي الحد أيضا معنى آخر مما ينظر فيه وهو أن البدعة من حيث قيل فيها : أنها طريقة في الدين مخترعة ـ إلى آخره ـ يدخل في عموم لفظها البدعة التركية كما يدخل فيه البدعة غير التركية فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريما للمتروك أو غير تحريم فإن الفعل ـ مثلا ـ يكون حلالا بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصدا
فبهذا الترك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعا أو لا فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك فلا مانع هنا من الترك : بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح
فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرات وأصله قوله عليه الصلاة و السلام : [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ] ـ إلى أن قال ـ : [ ومن لم يستطع فعليه بالصوم ] الذي يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين وكتارك المتشابه حذرا من الوقوع في الحرام واستبراء للدين والعرض
وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تدينا أو لا فإن لم يكن تدينا فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة : إن البدعة تدخل في العادات وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل لكن هذا التارك يصير عاصيا بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله
وأما إن كان الترك تدينا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين إذ قد فرضنا الفعل جائزا شرعا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل وفي مثله نزل قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } فنهى أولا عن تحريم الحلال ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء لا يحبه الله
وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله
لأن بعض الصحابة هم أن يحرم على نفسه النوم بالليل وآخر الأكل بالنهار وآخر إتيان النساء وبعضهم هم بالاختصاء مبالغة في ترك شأن النساء وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ]
فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه و سلم والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه
فإن قيل : فتارك المطلوبات الشرعية ندبا أو وجوبا هل يسمى مبتدعا أم لا ؟
فالجواب : أن التارك للمطلوبات على ضربين :
أحدهما : أن يتركها لغير التدين إما كسلا أو تضييعا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندب فليس بمعصية إذا كان الترك جزئيا وإن كليا فمعصية حسبما تبين في الأصول
والثاني : أن يتركها تدينا فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله ومثاله أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي حدوه
فإذا قوله في الحد : طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية كما يشمل غيرها لأن الطريقة الشرعية أيضا تنقسم إلى ترك وغيره
وسواء علينا قلنا : إن الترك فعل أم قلنا : إنه نفي الفعل الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه
وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضا ضد ذلك
وهو ثلاثة أقسام :
قسم الاعتقاد وقسم القول وقسم الفعل فالجميع أربعة أقسام
وبالجملة فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع


الباب الثاني في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية وبيان ذلك من جهة النظر والنقل الشرعي العام
أما النظر فمن وجوه :
أحدهما : أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها استجلابا لها أو مفاسدها استدفاعا لها لأنها إما دنيوية أو أخروية
فأما الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتة لا في ابتداء وضعها أولا ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها إما في السوابق وإما في اللواحق لأن وضعها أولا لم يكن إلا بتعليم الله تعالى
لأن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض علم كيف يستجلب مصالح دنياه إذ لم يكن ذلك من معلومة أولا إلا على قول من قال : إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } وعند ذلك يكون تعليما غير عقلي ثم توارثته ذريته كذلك في الجملة لكن فرعت العقول من أصولها تفريعا تتوهم استقلالها به
ودخل في الأصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات إذ لم تجر مصالح الفترات على استقامة لوجود الفتن والهرج وظهور أوجه الفساد
فلولا أن من الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين
وأما المصالح الأخروية فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها وهي العبادات مثلا فإن العقل لا يشعر بها على الجملة فضلا عن العلم بها على التفصيل
ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر بها
ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل قبل النظر في الشرع فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل والأنبياء أيضا لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية
غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس بعث الله نبيا من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله وهو التعبد لله فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة بعدها ـ بعض الأصول المعلومة
فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقفوها أو تلقفوا منها فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا وليس الأمر كما زعموا
فالعقل غير مستقل البتة ولا ينبني على غير أصل وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي
ولهذا المعنى بسط سيأتي إن شاء الله
فعلى الجملة العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي فالابتداع مضاد لهذا الأصل لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها ما رام تحصيله من جهتها فصارت كالعبث
هذا إن قلنا : إن الشرائع جاءت لمصالح العباد
وأما على القول الآخر فأحرى أن لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها لأنها إذ ذاك مجرد تعبد وإلزام من جهة الآمر للمأمور والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الأصول وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في أرفع مطالبة لا ثقة بها ويلقي من يدها ما هو على ثقة منه
والثاني : أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان لأن الله تعالى قال فيها : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }
وفي حديث العرباض بن سارية :
[ وعظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب فقلنا : يا رسول الله إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي ] الحديث
وثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة
فإذا كان كذلك فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حالة أو مقالة : إن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم
قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة زعم أن محمدا صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا
والثالث : أن المبتدع معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها ـ إلى غير ذلك لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين فالمبتدع راد لهذا كله فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر ليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية فكتب إليه :
أما بعد فإني أوصيك يتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه و سلم وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته فعليك بلزوم السنة فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وقفوا وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى وبفضل كانوا فيه أحرى فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم ورغب بنفسه عنهم إنهم لهم السابقون فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصرا وما فوقهم محسر لقد قصر عنهم آخرون فغلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم
ثم ختم الكتاب بحكم مسألته
فقوله فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها فهو مقصود الاستشهاد
والرابع : أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع وفتح للاختلاف بابا ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك
والخامس : أنه ابتاع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين ألا ترى قول الله تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده وهو الحق والهوى وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك وقال : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه }
فجعل الأمر محصورا بين أمرين اتباع الذكر واتباع الهوى وقال : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }
وهي مثل ما قبلها وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضل منه
وهذا شأن الميتدع فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله وهدى الله هو القرآن وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين :
أحدهما : أن يكون تابعا للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه وهو شأن المؤمن التقي
والآخر : أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول كان الأمر والنهي تابعين بالسنة إليه أو غير تابعين وهو المذموم
والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى
وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين :
أحدهما : الشريعة ولا مرية في أنها علم وحق وهدى والآخر : الهوى وهو المذموم لأنه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم ولم يجعل ثم طريقا ثالثا ومن تتبع الآيات ألفى ذلك كذلك
ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله كقوله تعالى : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } وقال بعد ذلك : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم } وقال : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله وقال : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب }
وهو اتباع الهوى في التشريع إذ حقيقته افتراء على الله وقال : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله } أي لا يهديه دون الله شيء وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى
وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى فهو إذا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام
ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة فلا كلام فيه هنا وإن كان أهله قد زلوا أيضا بالابتداع فإنما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع ولذلك عذر الجميع قبل إرسال الرسل أعني في خطئهم في التشريعات والعقليات حتى جاءت الرسل فلم يبق لأحد حجة يستقيم إليها { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ولله الحجة البالغة
فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر في هذا المقام وإن كانت أصولية فهذه نكتتها مستنبطة من كتاب الله انتهى


فصل في النقل الوجه الأول وأما النقل فمن وجوه :
أحدهما : ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة
فمن ذلك قول الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } فهذه الآية أعظم الشواهد وقد جاء في الحديث تفسيرها فصح [ من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } قال : فإذا رأيتهم فاعرفيهم ]
وصح عنها أنها قالت : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ]
وهذا التفسير مبهم ولكنه جاء في رواية عن عائشة أيضا قالت : [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } الآية ـ قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم ] وهذا أبين لأنه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن وهذا الجدال مقيد باتباع المتشابه
فإذا الذم إنما لحق من جادل فيه بترك المحكم ـ وهو أم الكتاب ومعظمه ـ والتمسك بمتشابهه ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير أظهر فجاء [ عن أبي غالب واسمه حزور قال : كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج فنصبوا على درج دمشق فكنت على ظهر بيت لي فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال : سبحان الله ! ما يصنع السلطان ببني آدم ! ـ قالها ثلاثا ـ كلاب جهنم كلاب جهنم شر قتلى تحت ظل السماء ـ ثلاث مرات ـ خير قتلى من قتلوه طوبى لمن قتلهم أو قتلوه ثم التفت إلي فقال : أبا غالب إنك بأرض هم بها كثير فاعاذك الله منهم قلت : رأيتك بكيت حين رأيتهم قال : بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت نعم : فقرأ : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } حتى بلغ : { وما يعلم تأويله إلا الله } وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ بهم ثم قرأ : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } إلى قوله { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم قلت من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا مرة ولا مرتين ـ حتى عد سبعا ـ ثم قال :
إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم قلت : يا أبا أمامة ألا ترى ما فعلوا ؟ قال : { عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } ] خرجه إسماعيل القاضي وغيره
وفي رواية قال : قال [ ألا ترى ما فيه السواد الأعظم ] وذلك في أول خلافة عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر قال : عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وخرجه الترمذي مختصرا وقال فيه : حديث حسن وخرجه الطحاوي أيضا باختلاف في بعض الألفاظ وفيه فقيل له : يا أبا أمامة تقول لهم هذا القول ثم تبكي ! ـ يعني قوله : شر قتلى ـ إلى آخره ـ قال : رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ثم تلا : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } حتى ختمها ثم قال : هم هؤلاء ثم تلا هذه الآية : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } حتى ختمها ثم قال : هم هؤلاء
وذكر الآجري عن طاوس قال : ذكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن فقال يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وقرأ : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به }
فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع لأن أبا أمامة رضي الله عنه جعل الخوارج داخلين في عموم الآية وأنها تتنزل عليهم وهم من أهل البدع عند العلماء إما على أنهم خرجوا ببدعتهم عن أهل الإسلام وإما على أنهم من أهل الإسلام لم يخرجوا عنهم على اختلاف العلماء فيهم
وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغ فزيغ بهم وهذا الوصف موجود في أهل البدع كلهم مع أن لفظ الآية عام وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم
ألا ترى أن صدر هذه السورة غنما نزل في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم في اعتقادهم في عيسى عليه السلام حيث تأولوا عليه أنه الإله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة بأوجه متشابهة وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله أهل السير ! ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل أصحابها تحت حكم اللفظ كالخوارج فهي ظاهرة في العموم
ثم تلا أبو أمامة الآية الأخرى وهي قوله سبحانه : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } إلى قوله : { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وفسرها بمعنى ما فسر به الآية الأخرى فهي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته ونهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم
ونقل عبيد عن حميد بن مهران قال : سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } قال : نبذوها ورب الكعبة وراء ظهورهم
وعن أبي أمامة أيضا قال : هم الحرورية
وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : { يوم تبيض وجوه } إلى قوله : { بما كنتم تكفرون } قال مالك : فاي كلام أبين من هذا ؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء ورواه ابن القاسم وزاد : قال لي مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة وما ذكره في الآية قد نقل عن غير واحد كالذي تقدم للحسن
وعن قتادة في قوله تعالى : { كالذين تفرقوا واختلفوا } يعني أهل البدع
وعن ابن عباس في قوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة
ومن الآيات قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا عليه وهو السنة والسبل هي سبل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع وليس المراد سبل المعاصي لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات
ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال :
[ خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما خطا طويلا وخط لنا سليمان خطا طويلا وخط عن يمينه وعن يساره فقال : هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } ـ يعني الخطوط ـ { فتفرق بكم عن سبيله } ]
وعن عمر بن سلمة الهمداني قال : كنا جلوسا في حلقة ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل أن يحصب فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب وكان أتى غازيا : ما الصراط المستقيم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ثم خط في البطحاء خطا بيده وخط بجنبيه خطوطا وقال : ترككم نبيكم صلى الله عليه و سلم على طرفه وطرفه الآخر في الجنة فمن ثبت عليه دخل الجنة ومن أخذ في هذه الخطوط هلك
وفي رواية : يا أبا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ؟ وعليها رجال يدعون من مر بهم : هلم لك فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار ومن استقام إلى الطريق الأعظم أنتهى به إلى الجنة ثم تلا ابن مسعود : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } الآية كلها
وعن مجاهد في قوله : { ولا تتبعوا السبل } قال : البدع والشبهات
وعن عبد الرحمن بن مهدي : قد سئل مالك بن أنس عن السنة قال : هي ما لا إسم له غير السنة تلا : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
قال بكر بن العلاء : يريد ـ إن شاء الله ـ حديث ابن مسعود [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خط له خطا ] وذكر الحديث
فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع لا تحتص ببدعة دون أخرى
ومن الآيات قول الله تعالى : { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين } فالسبيل القصد هو طريق الحق وما سواه جار عن الحق أي عادل عنه وهي طرق البدع والضلالات أعاذنا الله من سلوكها بفضله وكفى بالجائر أن يحذر منه فالمساق يدل على التحذير والنهي
وذكر ابن وضاح قال : سئل عاصم بن بهدلة وقيل له : أبا بكر هل رأيت قول الله تعالى : { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين } قال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال : [ خط عبد الله خطا مستقيما وخط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله فقال : خط رسول الله صلى الله عليه و سلم هكذا فقال للخط المستقيم : هذا سبيل الله وللخطوط التي عن يمينه وشماله : هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعوإليه ] والسبيل مشتركة قال الله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } إلى آخرها
عن التستري : قصد السبيل طريق السنة ومنها جائر والتقصير وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر وكلاهما من أوصاف البدع
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها و منكم جائر قالوا : يعني هذه الأمة فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد
ومنها قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون }
هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عائشة { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } من هم ؟ قلت : الله وسوله أعلم قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة وأنا بريء منهم وهم مني برآء ] ؟
قال ابن عطية : هذه الآية نعم أهل الأهواء والبدع الشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد ويريد ـ والله أعلم ـ بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له وسيأتي ذكره بحول الله
وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة فسألته عن شيء فقال : من أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت : نعم قال : من أي الأصناف أنت قلت : ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحدا بذنب فقال عطاء : عرفت فالزم
وعن الحسن قال : خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا فقطعوا عليه كلامه فتراموا بالبطحاء حتى جعلت ما أبصر أديم السماء قال : وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فقيل : هذا صوت أم المؤمنين قال : فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برىء ممن فرق دينه واحتزب وتلت : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء }
قال القاضي إسماعيل : أحسبه يعني بقوله : أم المؤمنين أم سلمة وأن ذلك قد ذكر في يعض الحديث وقد كانت عائشة في ذلك الوقت حاجة
وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة وعن أبي أمامة هم الخوارج
قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا
ومنها قوله تعالى : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون }
قرىء فارقوا دينهم وفسر عن أبي هريرة أنهم الخوارج ورواه أبو أمامة مرفوعا
وقيل : هم أصحاب الأهواء والبدع قالوا : روته عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وذلك لأن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إسماعيل القاضي وكما تقدم في الآي الأخر
ومنها قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون }
فعن ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الأهوء المختلفة ويكون على هذا قوله : { ويذيق بعضكم بأس بعض } تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا كما جرى للخوارج حين خرجوا على أهل السنة والجماعة وقيل معنى { أو يلبسكم شيعا } ما فيه إلباس من الاختلاف
وقال مجاهد وأبو العالية : إن الآية لأمة محمد صلى الله عليه و سلم قال أبو العالية : هن أربع ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم بخمس وعشرين سنة فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض وبقيت اثنتان فهما ولا بد واقعتان الخسف من تحت أرجلكم والمسخ من فوقكم وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ومذموم غير محمود
وفيما نقل عن مجاهد في قول الله : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } قال في المختلفين : إنهم أهل الباطل { إلا من رحم ربك } قال : فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف
وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال : لو كانت الأهواء واحدا لقال القائل : لعل الحق فيه فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق
وعن عكرمة { ولا يزالون مختلفين } يعني في الأهواء { إلا من رحم ربك } هم أهل السنة
ونقل أبو بكر ثابت الخطيب عن منصور بن عبد الله بن الرحمن قال : كنت جالسا عند الحسن ورجل خلفي قاعد فجعل يأمرني أن أسأله عن قول الله : { ولا يزالون مختلفين } قال : نعم لا يزالون مختلفين على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم غير مختلف
وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أن أهل الرحمة لا يختلفون
ولهذه الآية بسط يأتي بعد إن شاء الله
وفي البخاري عن عمرو عن مصعب قال : سألت أبي عن قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } هم الحرورية ؟ قال : لا : هم اليهود والنصارى أما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه و سلم وأما النصارى فكذبوا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب والحرورية { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } وكان شعبه يسميهم الفاسقين
وفي تفسير سعيد بن منصور عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبي : { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } أهم الحرورية ؟ قال : لا ! أولئك أصحاب الصوامع ولكن الحرورية الذين قال الله فيهم : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }
وخرج عبد بن حميد في تفسيره هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الآية : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } إلى قوله : { يحسنون صنعا } قلت : أهم الحرورية ؟ قال : لا ! هم اليهود والنصارى أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ولكن الحرورية : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض }
فالأول : لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه
والثاني : لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف
فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } عن قوله : { يحكم به ذوا عدل } وغيرهما
وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله
ومنه روى عمرو بن مهاجر قال : بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن غيلان القدري يقول في القدر فيعث إليه فحجبه أياما ثم أدخله عليه فقال يا غيلان ! ما هذا الذي بلغني عنك ؟ قال عمرو بن مهاجر : فأشرت إليه ألا يقول شيئا قال فقال : نعم يا أمير المؤمنين : إن الله عز و جل يقول { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } قال عمر إقرأ إلى آخر السورة : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما * يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما } ثم قال : ما تقول يا غيلان ؟ قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالا فهديتني فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا وإلا فاصلبه ! قال فأمسك عن الكلام في القدر فولاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق فلما مات عمر بن عبد العزيز وأفضت الخلافة إلى هشام تكلم في القدر فبعث إليه هشام فقطع يده فمر به رجل والذباب على يده فقال : يا غيلان ! هذا قضاء وقدر قال : كذبت لعمر الله ما هذا قضاء ولا قدر فبعث إليه هشام فصلبه
والثالث : لأن الحرورية جردوا السيوف على عباد الله وهو غاية الفساد في الأرض وذلك كثير من أهل البدع شائع وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام
وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبه عليها الكتاب والسنة كقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } وقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } وأشباه ذلك
وفي الحديث : إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة
وهذا التفسير في الرواية الأولى لمصعب بن سعد أيضا فقد وافق أباه على المعنى المذكور
ثم فسر سعد بن أبي وقاص في رواية سعيد بن منصور : أن ذلك بسبب الزيغ الحاصل فيهم : وذلك قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وهو راجع إلى آية أل عمران في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } الآية فإنه أدخل رضي الله عنه الحرورية في الآيتين بالمعنى وهو الزيغ في إحداهما والأوصاف المذكورة في الأخرى لأنها فيهم موجودة فآية الرعد تشمل بلفظها لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة وإن حملناها على الكفار خصوصا فهي تعطي أيضا فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الأصول وكذلك آية الصف لأنها خاصة بقوم موسى عليه السلام ومن هنا كان شبعة يسميهم الفاسقين ـ أعني الحرورية ـ لأن معنى الآية واقع عليهم وقد جاء فيها : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } والزيغ أيضا كان موجودا فيهم فدخلوا في معنى قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة بالحرورية بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ وهو الميل عن الحق ابتاعا للهوى وإنما فسرها سعد رضي الله عنه بالحرورية لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص والله أعلم لأنهم أول من ابتدع في دين الله فلا يقتضي ذلك تخصيصا
وأما المسؤال عنها أولا وهي آية الكهف فإن سعدا نفى أن تشمل الحرورية
وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر الأخسرين أعمالا بالحرورية أيضا فروى عبد بن حميد عن ابن الطفيل قال : قام ابن الكواء إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ! من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟ قال : منهم أهل حروراء وهو أيضا منقول في تفسير سفيان الثوري وفي جامع ابن وهب أنه سأله عن الآية فقال له : ارق إلي أخبرك ـ وكان على المنبر ـ فرقى إليه درجتين فتناوله بعصا كانت في يده فجعل يضربه بها ثم قال له علي : أنت وأصحابك وخرج عبد بن حميد أيضا عن محمد بن جبير بن مطعم قال : أخبرني رجل من بني أود أن عليا خطب الناس بالعراق وهو يسمع فصاح به ابن الكواء من أقصى المسجد فقال : يا أمير المؤمنين ! من الأخسرين أعمالا ؟ قال : أنت فقتل ابن الكواء يوم الخوارج ونقل بعض أهل التفسير أن ابن الكواء سأله فقال : أنتم أهل حروراء وأهل الرياء والذين يحبطون الصنيعة بالمنة فالرواية الأولى تدل على أن أهل حروراء بعض من شملته الآية
ولما قال سبحانه في وصفهم : { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموما كانوا من أهل الكتاب أولا من حيث قال النبي : [ كل بدعة ضلالة ] وسيأتي شرح ذلك بعون الله فقد يجتمع التفسيران في الآية : تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى وتفسير علي بأنهم أهل البدعة لأنهم قد اتفقوا على الابتداع ولذلك فسر كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه وهو التأويل بالرأي فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة وأشعر كلام سعد ين أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف المبتدعة فهم مقصدون بما فيها من الذم والخزي وسوء الجزاء إما بعموم اللفظ وإما بمعنى الوصف
وروى ابن وهب [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بكتاب في كتف فقال :
كفى بقوم حمقا ـ أو قال ضلالا ـ أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم أو كتاب إلى غير كتابهم فنزلت : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } ]
وخرج عبد الحميد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الآية : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } إلى آخر الآية ]
وخرج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } قال : ما قدمت من عمل خيرأو شر وما أخرت من سنة يعمل بها من بعده وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير فروي عن عبد الله قال : ما قدمت من خير وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها فغن له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وما أخرت من سنة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا : أخرجه ابن مبارك وغيره
وجاء عن سفيان بن عيينة و أبي قلابة وغيرهما أنهم قالوا : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل واستدلوا بقول الله تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين }
وخرج ابن وهب عن مجاهد في قول الله : { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } يقول : ما قدموا من خير وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلالة
وخرج أيضا عن ابن عون عن محمد بن سيرين أنه قال : إني أرى أسرع الناس ردة أصحاب الأهواء : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره }
وذكر الآجري عن أبي الجوزاء أنه ذكر أصحاب الأهواء فقال : والذي نفس أبي الجوزاء بيده لأن تمتلىء داري قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني رجل منهم ولقد دخلوا في هذه الآية : { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } إلى قوله : { إن الله عليم بذات الصدور }
والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة فلنقتصر على ما ذكرنا ففيه ـ إن شاء الله ـ الموعظة لمن اتعظ والشفاء لما في الصدور


فصل الوجه الثاني من النقل ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك ـ بحول الله ـ ما هو أقرب إلى الصحة
فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ] وفي رواية ل مسلم : [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية
وخرج مسلم عن جابر بن عبد الله [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول في خطبته :
أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ]
وفي رواية قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ]
وفي رواية لل نسائي [ وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار ]
وذكر أن عمر رضي الله عنه كان يخطب بهذه الخطبة وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا : أنه كان يقول :
إنما هما اثنتان ـ الكلام والهدى ـ فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدى هدى محمد ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها إن كل محدثة بدعة وفي لفظ غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار كان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس
وفي رواية أخرى عنه : إنما هما اثنتان ـ الهدى والكلام ـ فأفضل الكلام ـ أو أصدق الكلام ـ كلام الله وأحسن الهدى هدى الله بل محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسوا قلوبكم ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب ألا إن بعيدا ما ليس آتيا
وفي رواية أخرى عنه : أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها و { إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين }
وروى ابن ماجة مرفوعا عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة ] والمشهور أنه موقوف على ابن مسعود
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ]
وفي الصحيح أيضا عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال :
[ من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من أتبعه غير منقوص من أجورهم شيء ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيء ] خرجه الترمذي
وروى الترمذي أيضا وصححه وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال :
[ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله ؟ كأن هذا موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل ضلالة ] وروى على وجوه من طرق
وفي الصحيح [ عن حذيفة أنه قال : يا رسول الله ! هل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي قال فقلت : هل بعد ذلك الشر من شر ؟ قال : نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها قلت : يا رسول الله صفهم لنا قال نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت : فإن لم يكن إمام ولا جماعة ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك ] وخرجه البخاري على نحو آخر
وفي حديث الصحيفة :
[ المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ] وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع والبدع من أقبح الحدث وقد استدل به مالك في مسألة تأتي في موضعها بحول الله وهو وإن كان مختصا بالمدينة فغيرها أيضا يدخل في المعنى
وفي الموطأ من حديث أبي هريرة :
[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى المقبرة : فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ] الحديث ـ إلى أن قال فيه [ فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ! ألا هلم ! فيقال : أنهم قد بدلوا بعدك فأقول : فسحقا ! فسحقا ! فسحقا ] حمله جماعة من العلماء على أنهم أهل البدع وحمله آخرون على المرتدين عن الاسلام والذي يدل على الأول ما خرجه خثيمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال : سألت أنس بن مالك فقلت : إن ها هنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ويكذبون بالحوض والشفاعة فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك شيئا ؟ قال : نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ بين العبد والكفر ـ أو الشرك ـ ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كنجوم السماء ـ أو قال : كعدد نجوم السماء ـ له ميزابان من الجنة كلما نضب أمداه من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا وسيرده أقوام ذابلة شفاههم فلا يطعمون منه قطرة واحدة من كذب به اليوم لم يصب منه الشراب يومئذ ] فهذا الحديث على أنهم من أهل القبلة فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج والتكذيب بالحوض من أوصاف أهل الاعتزال وغيرهم مع ما في حديث الموطأ من قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا هلم ] لأنه عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته وإلا فلو لم يكونوا من الأمة لم يعرفهم بالعلامة المذكورة
وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال :
[ قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالموعظة فقال : إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } قال ـ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ـ وإنه يستدعى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول كما قال العبد الصالح : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فيقال هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ]
ويحتمل هذا الحديث أن يراد به أهل البدع كحديث الموطأ ويحتمل أن يراد به من ارتد بعد النبي صلى الله عليه و سلم
وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] حسن صحيح
وفي الحديث روايات أخرى سيأتي ذكرها والكلام عليها إن شاء الله ولكن الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع وفي الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ] وهو آت على وجوه كثيرة في البخاري وغيره
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
[ من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله عز و جل شرع لنبيكم صلى الله عليه و سلم سنن الهدى وأنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم لضللتم ] الحديث
فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة ! وفي رواية :
[ لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم لكفرتم ] وهو أشد في التحذير
وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ـ وفي رواية فيه الهدى ـ من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل وفي رواية : من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة ]
ومما جاء في هذا الباب أيضا ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ سيكون في أمتي دجالون كذابون يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤهم فإياكم إياهم لا يفتنونكم ]
وفي الترمذي أنه عليه الصلاة و السلام قال :
[ من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن يتقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ] حديث حسن
ولابن وضاح وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها :
[ من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الاسلام ]
وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك ]
وعنه عليه الصلاة و السلام أنه قال :
[ من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني ]
وخرج الطحاوي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في دين الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز به من أذل الله والتارك لسنتي والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتي ما حرم الله ]
وفي رواية أبي بكر بن ثابت الخطيب : [ ستة لعنهم الله ولعنتهم ] وفيه : [ والراغب عن سنتي إلى بدع ]
وفي الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن لكل عابد شرة ولكل شرة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ـ فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك ]
وفي معجم البغوي عن مجاهد قال : دخلت أنا وأبو يحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم مولاة لبني عبد المطلب فقالوا : إنها قامت الليل وصامت النهار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
لكني أنام وأصلي وأصوم وأفطر فمن اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني إن لكل عامل شرة ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ]
وعن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي وإمام ضلالة وممثل من المسلمين ]
وفي منتقى حديث خثيمة عن سليمان عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فيحدثون البدعة قال عبد الله بن مسعود : فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال : تسألني يا ابن أم عبد الله كيف تصنع ؟ لا طاعة لمن عصى الله ]
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقة دخل الجنة فقال رجل : يا رسول الله إن هذا اليوم في الناس لكثير قال : وسيكون في قرون بعدي ] حديث غريب
وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ كيف بكم وبزمان ـ أو قال : يوشك أن يأتي زمان ـ يغربل الناس فيه غربلة وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم اختلفوا فصارت هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ قالوا : وكيف بنا يا رسول الله ؟ قال : تأخذون بما تعرفون وتذرون ما تنكرون وتقبلون على أمر خاصتكم ـ وتذرون أمر عامتكم ]
وخرج ابن وهب مرسلا [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إياكم والشعاب قالوا : وما الشعاب يا رسول الله ؟ قال الأهواء ]
وخرج أيضا :
[ إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها ] وفي كتاب السنة للآجري من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل قال : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ إذا حدث في أمتي البدع وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ]
قال عبد الله بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم : ما إظهار العلم ؟ قال : إظهار السنة والأحاديث كثيرة
وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وإنما أتى بها عملا بما أصله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح فما زيد من غيره فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله


فصل الوجه الثالث من النقل ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذم البدع وأهلها وهو كثير
فما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : أيها الناس ! قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وصفق بإحدى يديه على الأخرى ثم قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ـ أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا ـ إلى آخر الحديث
وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا يعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
وروى عنه من طريق آخر أنه كان يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول : يا معشر القراء اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وفي رواية ابن المبارك : فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا الحديث
وعنه أيضا : أخوف ما أخاف على الناس اثنتان : أن يؤثروا ما يرون على ما يعملون وأن يضلوا وهم لا يشعرون قال سفيان : وهو صاحب البدعة
وعنه أيضا : أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلا قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة
وعنه أنه قال : أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة وليطئن نساءكم وهن حيض ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقهم ولا تخطىء بكم وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } لا تصلون إلا ثلاثا
وتقول الأخرى : إنما المؤمنون بالله كإيمان الملائكة ما فيها كافر ولا منافق حق على الله أن يحشرهما مع الدجال
وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ] فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن أخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة
فلذلك يقول القائل : لقد ضل من كان قبلنا إلى آخره
وهذه الآثار عن حذيفة من تخريج ابن وضاح
وخرج أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
وخرج عنه ابن وهب أيضا انه قال : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه بذهاب أهله عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق
وعنه أيضا : ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول : عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم
وقال أيضا : كيف أنتم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يحدثونها سنة وإذا غيرت قيل : هذا منكر
وقال أيضا : أيها الناس ! لا تبتدعوا ولا تنطوا ولا تعمقوا وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون
وعنه أيضا : القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة
وقد روي معناه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم :
[ عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة ]
وعنه أيضا خرجه قاسم بن أصبغ أنه قال : [ أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ومصور ورجل قتل نبيا أو قتله نبي ]
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ
خرج ابن المبارك عن عمر بن الخطاب : أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام فقال عمر لمولى له ـ يقال له يرفأ ـ إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني فلما حضر عشاؤه أعلمه فأتاه عمر فسلم عليه فاستأذن فأذن له فدخل فقرب عشاؤه فجاء بثريد لحم فأكل عمر معه منها ثم قرب شواء فبسط يزيد يده وكف عمر يده ثم قال : والله يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام ؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم
وعن ابن عمر : صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر
وخرج الآجري عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن فقال : اللهم أمكني منه قال : فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا } فقال عمر : أنت هو ؟ فقام غليه محسرا عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيبا ثم ليقل : إن صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه
وخرج ابن المبارك وغيره عن أبي بن كعب أنه قال : عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبدا وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها فإن اقتصادا في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم
وخرج ابن وضاح عن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن
وعنه أنه قال : عليكم بالاستفاضة والأثر وإياكم والبدع
وخرج ابن وهب عنه أيضا قال : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز و جل
وخرج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال يوما : إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيه القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق
قال الراوي : قلت لمعاذ : وما يدريني يرحمك الله إن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا
وفي رواية مكان المشتهرات المشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حتى يقال : ما أراد بهذه الكلمة ؟ ويريد ـ والله أعلم ـ ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حتى تنكره القلوب ويقول الناس : ما هذه ؟ وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال : صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا
وخرج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني أنه قال : لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها
وعن الفضيل بن عياض : اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين
وعن الحسن : لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك أو تخالفه فيمرض قلبك
وعنه أيضا في قول الله تعالى : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } قال : كتب الله صيام رمضان على أهل الإسلام كما كتبه على من كان قبلهم فأما اليهود فرفضوه وأما النصارى فشق عليهم فزادوا فيه عشرا وآخروه إلى أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث قال : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة
وعن أبي قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون قال أيوب : وكان ـ والله ـ من الفقهاء ذوي الألباب
وعنه أيضا : أنه كان يقول : إن أهل الأهواء أهل ضلالة ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار
وعن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك
وعن أيوب السخياني أنه كان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا
وعن أبي قلابة : ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف
وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الإسم واجتمعوا على السيف
وخرج ابن وهب عن سفيان قال : كان رجل فقيه يقول : ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلا واحدا
وخرج عنه أنه كان يقول : لا يستقيم قول إلا بعمل ولا قول وعمل إلا بنية ولا قول ولا عمل ولا نية إلا موافقا للسنة
وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء
وعن إبراهيم : ولا تكلموهم إني أخاف أن ترتد قلوبكم
وعن هشام بن حسان قال : لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا ـ زاد ابن وهب عنه ـ وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل فإذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرق
وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر
وعن بعض السلف : من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه
وعن العوام بن حوشب أنه كان يقول لابنه : يا عيسى أصلح قلبك وأقلل مالك وكان يقول : والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط والأشربة والباطل أحب إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات
قال ابن وضاح : يعني أهل البدع
وقال رجال لـ أبي بكر بن عياش : يا أبا بكر من السني ؟ قال : الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها
وقال يونس بن عبيد : إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب وأغرب منه صاحبها
وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال : كان يقال يأبى لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها
وعن أبي العالية : تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تحرفوا يمينا ولا شمالا وعليكم بسنة نبيكم وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء فحدث الحسن بذلك فقال : رحمه الله صدق ونصح
خرجه ابن وضاح وغيره
وكان مالك كثيرا ما ينشد :
( وخيرأمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع )
وعن مقاتل بن حيان قال : أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد صلى الله عليه و سلم أنهم يذكرون النبي صلى الله عليه و سلم وأهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ومن يسقي السهم القاتل باسم الترياق ! فأبصرهم فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غورا وأشد اضطرابا وأكثر صواعق وأبعد مذهبا من البحر وما فيه ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة
وعن ابن المبارك قال : أعلم أي أخي ! إن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة فإنا لله وإنا إليه راجعون فإلى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان وقلة الأعوان وظهور البدع وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع
وكان إبراهيم التيمي يقول : اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ومن اتباع الهوى ومن سبل الضلالة ومن شبهات الأمور ومن الزيغ والخصومات
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يكتب في كتبه : إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة
ولما بايعه الناس صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد كتابكم كتاب ولا بعد سنتكم سنة ولا بعد أمتكم أمة ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع ألا وإني لست بقاض ولكني منفذ ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملا ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ثم نزل
وفيه : قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه بها :
( وأحييت في الإسلام علما وسنة ... ولم تبتدع حكما من الحكم أسحما )
( ففي كل يوم كنت تهدم بدعة ... وتبني لنا من سنة ما تهدما )
ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدا وهو أن قال : سن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه من عمل بها مهتد ومن انتصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا
وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة : منها ما نحن فيه لأن قوله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها قطع لمادة الابتداع جملة وقوله : من عمل بها مهتد ـ إلى آخر الكلام ـ مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه وتعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي صلى الله عليه و سلم فهو سنة لا بدعة فيه البتة وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه و سلم نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه : [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ] فقرن عليه السلام ـ كما ترى ـ سنة الخلفاء الراشدين بسنته وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم وإن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها وإما متبعون لما فهموا من سنته صلى الله عليه و سلم في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله لا زائد على ذلك وسيأتي بيانه بحول الله
على أن أبا عبد الله الحاكم نقل عن يحيى بن آدم قول السلف الصالح : سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن المعنى فيه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم مات وهو على تلك السنة وأنه لا يحتاج مع قول النبي صلى الله عليه و سلم إلى قول أحد وما قال صحيح في نفسه فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده لعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي صلى الله عليه و سلم من غير أن يكون له ناسخ لأنهم كانوا يأخذون بالأحداث فالأحداث من أمره وعلى هذا المعنى بنى مالك بن أنس في احتجاجه بالعمل ورجوعه إليه عند تعارض السنن
ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم لقوله : الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أصولا حسنة وفوائد مهمة
ومما يعزى ل أبي إلياس الألباني : ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن وفيهن خير الدنيا والآخرة اتبع لا تبتدع اتضع لا ترتفع ومن ورع لا يتسع ولآثار هنا كثيرة


فصل الوجه الرابع من النقل ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية لأن كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم ( أبو القاسم القشيري ) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ لا فضيلة فوقها ثم سمي من يليهم التابعين ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية من الدين الزهاد والعباد قال : ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف هذا معنى كلامه فقد عد هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم
وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم نموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها ؟ وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه و سلم وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا وطربقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله
فقد قال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة
وقيل ل إبراهيم بن أدهم : إن الله يقول في كتابه { ادعوني أستجب لكم } ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا ! فقال : ماتت قلوبكم في عشرة أشياء أولها عرفتم الله فلم تؤدوا حقه والثاني : قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به والثالث : ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه و سلم وتركتم سنته والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه والخامس : قلتم نحب الجنة وما تعملون لها إلى آخر الحكاية
وقال ذو النون المصري : من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه و سلم في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته
وقال : إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء الأول : ضعف النية بعمل الآخرة والثاني : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم والثالث : غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه و سلم والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم
وقال لرجل أوصاه : ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك واتقاء ما نهاك عنه فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على أحكام ما ينغبي فإن الذي قطع العباد عن ربهم وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وايديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته وفوائد كرامته ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب وتهانوا بالقليل مما هم فيه من العيوب فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل
وقال بشر الحافي : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في المنام فقال لي : يا بشر ! تدري لم رفعك الله بين أقرانك ؟ قلت : لا يا رسول الله قال : لاتباعك سنتي وحرمتك للصالحين ونصيحتك لإخوانك ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار
وقال يحيى بن معاذ الرازي : اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول فلكل واحد منها ضد فمن سقط عنه وقع في ضده : التوحيد وضده الشرك والسنة وضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية
وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران الجنيد : كنت مارا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة فهتف بي هاتف : كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر
وقال أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني : من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه وموافقة السنة في أفعاله وصحبته لأهل الصلاح وحسن أخلاقه مع الإخوان وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ومراعاته لأوقاته
وسئل كيف الطريق إلى الله ؟ فقال : الطرق إلى الله كثيرة وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية لأن الله يقول : { وإن تطيعوه تهتدوا } فقيل له : كيف الطريق إلى السنة ؟ فقال : مجانية البدع واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام والتباعد عن مجالس الكلام وأهله ولزوم طريقة الاقتداء وبذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم }
وقال أبو بكر الترمذي : لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة وإنما أخذوا ذلك باتباع السنة ومجانية البدعة فإن محمد صلى الله عليه و سلم كان أعلى الخلق كلهم همة وأقربهم زلفى
وقال أبو الحسن الوراق : لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه صلى الله عليه و سلم في شرائعه ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال : الصدق استقامة الطريق في الدين واتباع السنة في الشرع وقال : علامة محبة الله متابعة حبيبه صلى الله عليه و سلم
ومثله عن إبراهيم القمار قال : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه
وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي : لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابا ومن صوابها إلا ما كان خالصا ومن خالصها إلا ما وافق السنة
و إبراهيم بن شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص وكان شديدا على أهل البدع متمسكا بالكتاب والسنة لازما لطريق المشايخ والأئمة حتى قال فيه عبد الله بن منازل : إبراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات
وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب الجنيد وغيره : الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات
وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد و الثوري وغيرهما : كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فردهم إلى الشريعة والاتباع فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه
وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي ولقي الجنيد وغيره : ما الذي لا بد للعبد منه ؟ فقال : ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة
وقال أبو عثمان المغربي التونسي : هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها قال الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه }
وقال أبو يزيد البسطامي : عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لشقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد ومتابعة العلم هي متابعة السنة لا غيرها
وروي عنه أنه قال : قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية ـ كان رجلا مقصودا مشهورا بالزهد ـ قال الرواي : فمضينا فلما خرج من نبيه ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال : هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه ؟
وهذا أصل أصله أبو يزيد رحمه الله للقوم : وهو أن الولاية لا تحصل لتارك السنة وإن كان ذلك جهلا منه فما ظنك به إذا كان عاملا بالبدعة كفاحا ؟
وقال : هممت أن أسأل الله أن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النساء ثم قلت : كيف يجوز أن أسأل الله هذا ؟ ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أسأله ؟ ثم إن الله سبحانه كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أم حائط
وقال : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة
وقال سهل التستري : كل فعل يفعله العبد بالاقتداء : طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس ـ يعني باتباع الهوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعني لأنه لا هوى له فيه ـ واتباع الهوى هو المذموم ومقصود القوم تركه البتة
وقال : أصولنا سبعة أشياء التمسك بكتاب الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكل الحلال وكف الأذى واجتناب الآثام والتوبة وأداء الحقوق وقال : قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث : ملازمة التوبة ومتابعة السنة وترك أذى الخلق وسئل عن الفتوة فقال : اتباع السنة
وقال أبو سليمان الداراني : ربما تقع في قلبي النكتة من نكتة القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين ـ الكتاب والسنة
وقال أحمد بن أبي الحواري : من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله
وقال أبو حفص الحداد : من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال وسئل عن البدعة فقال : التعدي في الأحكام والتهاون في السنن واتباع الآراء والأهواء وترك الاتباع والاقتداء قال : وما ظهرت حالة عالية إلا من ملازمة أمر صحيح
وسئل حمدون القصار : متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس ؟ فقال : إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في عمله أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها
وقال : من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال
وهذه ـ والله أعلم ـ إشارة إلى المثابرة على الاقتداء بهم فإنهم أهل السنة
وقال أبو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الله تعالى وإليه يرجعون فيها قال : ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها
وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه و سلم
وقال : مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة
وقال : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وقال : هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال أبو عثمان الجبري : الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة إلى آخر ما قال
ولما تغير عليه الحال مزق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه ففتح أبو عثمان عينيه وقال خلاف السنة يا بني في
الظاهر علامة رياء في الباطن
وقال : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قال الله تعالى : { وإن تطيعوه تهتدوا }
قال أبو الحسين النوري : من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه
وقال محمد بن الفضل البلخي : ذهاب الإسلام من أربعة : لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ويمنعون الناس من التعلم
هذا ما قال وهو وصف صوفيتنا اليوم عياذا بالله
وقال : أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره وأتبعهم لسنة نبيه
وقال شاة الكرماني : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشبهات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وعود نفسه أكل الحلال لم تخطىء له فراسه
وقال أبو سعيد الحراز : كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل
وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد : من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه و سلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه
وقال أيضا : أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عز و جل وغفلته عن أوامره وغفلته عن آداب معاملته
وقال إبراهيم الخواص : ليس العالم بكثرة الرواية وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم
وسئل عن العافية فقال : العافية أربعة أشياء دين بلا بدعة وعمل بلا آفة وقلب بلا شغل ونفس بلا شهوة
وقال : الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة
وقال بنان الحمال ـ وسئل عن أصل أحوال الصوفية فقال : الثقة بالمضمون والقيام بالأوامر ومراعاة السر والتخلي من الكونين
وقال أبو حمزة البغدادي : من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول صلى الله عليه و سلم في أحواله وأفعاله وأقواله
وقال أبو إسحاق الرقاشي : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه اهـ ودليله قوله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }
وقال ممشاذ الدينوري : آداب المريد في التزام حرمات المشايخ وحرمة الإخوان والخروج عن الأسباب وحفظ آداب الشرع على نفسه
وسئل أبو علي الروزباري عمن يسمع الملاهي ويقول : هي لي حلال لأني قد وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال فقال : نعم قد وصل ولكن إلى سقر
وقال أبو محمد عبد الله بن منازل : لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ولم يبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يبتلي بالبدع
وقال أبو يعقوب النهرجوري : أفضل الأحوال ما قارن العلم
وقال أبو عمرو بن نجيد : كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه
وقال بندار بن الحسين : صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق
وقال أبو بكر الطمستاني : الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم فمن صحب منا الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه والخلق وهاجر بقلبه إلى الله
فهو الصادق المصيب
وقال أبو القاسم النصراباذي : أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة ـ وترك البدع والأهواء وتعظيم حرمات المشايخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات
وكلامهم في هذا الباب يطول وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخا جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال ـ والسلوك عليه تيه واستعماله رمي في عماية وأنه مناف لطلب النجاة وصاحبه غير محفوظ وموكول إلى نفسه ومطرود عن نيل الحكمة وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجموعون على تعظيم الشريعة مقيمون على متابعة السنة غير مخلين بشيء من آدابها أبعد الناس عن البدع وأهلها ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرق من الفرق الضالة ولا من يميل إلى خلاف السنة وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون وممن يؤخذ عنه الدين أصولا وفروعا ومن لم يكن كذلك فلا بد من أن يكون فقهيا في دينه بمقدار كفايته
وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على منهاجهم بل يأتي ببدع محدثات وأهواء متبعات وينسبها إليهم تأويلا عليهم من قول محتمل أو فعل من قضايا الأحوال أو استمساكا بمصلحة شهد الشرع بإلغائها أو ما أشبه ذلك فكثيرا ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعا ويحتج بحكايات هي قضايا أحوال إن صحت لم يكن فيها حجة لوجوه عدة ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح والاتباع الصحيح شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه بها
ولما كان أهل التصرف في طريقهم بالنسبة إلى إجماعهم على أمر كسائر أهل العلوم في علومهم أتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على مدعي السنة وذم البدعة في طريقتهم حتى يكون دليلا لنا من جهتهم على أهل البدع عموما وعلى المدعين في طريقهم خصوصا وبالله التوفيق


فصل الوجه الخامس من النقل ما جاء منه في ذم الرأي المذموم وهو المبني على غير أسس والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة لكنه وجه تشريعي فصار نوعا من الابتداع بل هو الجنس فيها فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ولذلك وصف بوصف الضلال ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون ]
فإذا كذلك فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة
وخرج ابن المبارك وغيره عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون به ما حرم ]
قال ابن عبد البر : هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالتخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث : يحلون الحرام ويحرمون الحلال ؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغيرعلم وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه
وخرج ابن المبارك حديثا قال : إن من أشراط الساعة ثلاثا وإحداهن : أن يلتمس العلم عند الأصاغر قيل لابن المبارك : من الأصاغر ؟ قال : الذين يقولون برأيهم فأما صغير يروي عن كبير فليس بصغير
وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم قال سحنون : يعني البدع
وفي رواية : إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
وفي رواية ل ابن وهب : أن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياكم
قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز و جل
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : قراؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم
وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال : السنة ما سنه الله ورسوله لا تجعلوا حظ الرأي سنة للأمة
وخرج أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال : لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل
وعن الشعبي : إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس
وعن الحسن : إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا
وعن دراج بن السهم بن أسمح قال : يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ونفي عذاب القبر ونفي الميزان والصراط وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض ـ إلى أشياء يطول ذكرها ـ وهي مذكورة في كتب الكلام
وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي وخروج عن الشرع وهذا هو القول الأظهر إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعا دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة كانت من الأصول أو الفروع كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } بعدما حكى أنها نزلت في الخوارج وكأن القائل بالتخصيص ـ والله أعلم ـ لم يقل به بالقصد الأول بل أتى بمثال مما تتضمنه الاية كالمثال المذكور فإنه موافق لما كان مشتهرا في ذلك الزمان فهو أولى ما يمثل به ويبقى ما عداه مسكوتا عن ذكره عند القائل به ولو سئل عن العموم لقال به وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران ؟ ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ـ إنما يحملون على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغة وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين وهو الأولى لمناصبهم في العلم ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع
وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفرعت قبل أن تقع وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياء منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن وما جاء من النهي عن الأغلوطات وهي صعاب المسائل وعن كثرة السؤال وأنه كره المسائل وعابها وإن كثيرا من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل
وهذا القول غير مخالف لما قبله لأن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيع منع ما حواليه وما دار به ورتع حول حماه ألا ترى إلى قوله عله السلام :
[ الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة ] وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائز وبحسب عظم المفسدة في الممنوع يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته
وما تقدم من الأدلة يبين ذلك عظم النفسدة في الابتداع فالحرم حول حماه يتسع جدا ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق ها هنا وها هنا ] وصح نهيه عليه الصلام عن كثرة السؤال وقال :
[ إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها ] وأحال بها جماعة على الأمراء فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ويسمونها : صوافي الأمراء
وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة وأنه رأي ليس بعلم كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ثم أجاب
وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ثم سأله عن رأيه فأجابه فكتب الرجل فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل : ناولنيها فناوله الصحيفة فخرقها
وسئل القاسم بن محمد عن شيء فأجاب فلما ولى الرجل دعاه فقال له : لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ولكن إن اضطررت إليه عملت به
وقال مالك بن أنس : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نتبع الرأي فإنه متى أتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فأتبعته فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته أرى هذا لا يتم
ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ولكن كثيرا ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : { إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه لم يزل يذمه ويذم م تعمق فيه فقد كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به في الأحكام فحكي عنه في ذلك أشياء من أخفها قوله : الاستحسان تسعة أعشار العلم ولا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة
والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد فهذه كلها تشديدات في الرأي وإن كان جاريا على الأصول حذرا من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل
ولابن عبد البر ـ هنا ـ كلام كثير كرهنا الإتيان به
والحاصل من جيمع ما تقدم أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه وما كان منه ذريعة إليه وإن كان في أصله محمودا وذلك راجع إلى أصل شرعي فالأول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه أدلة الذم والثاني خارج عنه ولا يكون بدعة أبدا


فصل الوجه السادس من النقل يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة وأنواع الشؤم وهو كالشرح لما تقدم أولا وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال
فاعملوا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاةولا صيام ولا صدقة ولا غير ها من القربات ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ويزداد من الله بعبادته بعدا ؟ ! وهي مظنة إلقاء العدواة والبغضاء ومانعة من الشفاعة المحمدية ورافعة للسنن التي تقابلها وعلى مبتدعها إثم من عمل بها وليس له من توبة وتلقى عليه الذلة والغضب من الله ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه و سلم ويخاف عليه أن يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ويسود وجهه في الآخرة يعذب بنار جهنم وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه و سلم وتبرأ منه المسلمون ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة
فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل فقد روي عن الأوزاعي أنه قال : كان بعض أهل العلم يقول : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياما ولا صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا
وفيما كتب به أسد بن موسى : وإياك أن يكون لك من البدع أخ أوجليس أو صاحب فإنه جاء الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى إلى هدم الإسلام وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى ووقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم على أهل البدع وإن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا وكلما ازدادوا اجتهادا ـ صوما وصلاة ـ ازدادوا من الله بعدا فارفض مجالستهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم وأذلهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأئمة الهدى بعده
وكان أيوب السخيتاني يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا
وقال هشام بن حسان : لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا صياما ولا زكاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا
وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال : من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا لقي الله فأدحض حجته وأخرس لسانه وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا وقطع به الأسباب وكبه في النار على وجهه
وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه
أما أولا : فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد بن عمر :
إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه :
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ [ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم ] الحديث
وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع بخاف عليه مثل من ذكره
وأما ثانيا : فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه
فأما الأول : فيمكن على أحد أوجه ثلاثة
الأول : أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت فأعماله لا تقبل معها ـ داخلتها تلك البدعة أم لا ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفا ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة فقال والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها فإذا فيها ـ أسنان الإبل وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا من أحدث فيها حدثا فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة وهذا شديد جدا على أهل الإحداث في الدين
الثاني : أن تكون بدعته أصلا يتفرع عليه سائر الأعمال كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق فإن عامة التكليف مبني عليه لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله وما تفرع منهما راجع إليهما فإن كان واردا من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم متواترا وإن كان واردا من الكتاب فإنما تبينه السنة فكل ما لم يبين في القرآن فلا بد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء كما في الصحيح من قوله عليه السلام :
[ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل فإن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى
ومن أمثلة ذلك قول من يقول : إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه بناء منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره
وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ! ]
وفي رواية : [ ألا ! هل عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكىء على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ( قال ) فما وجدنا فيه حلالا حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله ] حديث حسن
وإنما جاء هذا الحديث على الذم وإثبات أن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التحليل والتحريم ككتاب الله فمن ترك ذلك فقد بنى أعماله على رأيه على كتاب الله ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف إذ للعملاء في تكفير أهل البدع قولان وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } ونحو الظواهر المتقدمة
الوجه الثالث : أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصير اعتقاده في الشريعة ضعيفا وذلك يبطل عليه جميع عمله بيان ذلك أمثلة :
منها : أن يترك العقل مع الشرع في التشريع وإنما يأتي الشرع كاشفا لما اقتضاه العقل فما ليت شعري هل حكم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم ؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكما متبعا وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة فكل ما عمل هذا العامل مبنيا على ما اقتضاه عقله وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع وكل بدعة ضلالة
ومنها : أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد فلا يكون لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } معنى يعتبر به عندهم ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق وإلى الاقتداء بهم يجري أغمار العوام والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة وأما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات ولذلك تجد كثيرا من المعتزين بهم والمائلين إلى جهتهم يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ويعدونهم من المحجوبين عن أنوارهم فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح وبين حدوده الفقهاء الراسخون في العلم إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل والعياذ بالله !
وأما الثاني : وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضا وعليه يدل الحديث المتقدم : [ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] والجميع من قوله : [ كل بدعة ضلالة ] أي أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم وهو معنى عدم القبول وفاق قول الله : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ولا على الصيام دون الزكاة ولا على الزكاة دون الحج ولا على الحج دون الجهاد إلى غير ذلك من الأعمال لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع وهو الهوى والجهل بشريعة الله كما سيأتي إن شاء الله
وفي المبسوطة عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع ثم قال : قوم أرادوا وجها من الخير فلم يصيبوه فقيل له : يا أبا محمد ! أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟ قال : ليس في خلاف السنة رجاء ثواب
وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله ومعناه ظاهر جدا فإن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلا ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلا على غير كمال ولا من مصالحنا الأخروية قليلا ولا كثيرا بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه و سلم لزوال الريب والالتباس وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس كما قال الله تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين } إلى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } وقوله : { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } ولم يكن حاكما بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم وتجتمع به كلمتهم وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق فانخفضت الأديان والدماء والعقل والأنساب والأموال من طرق يعرف مآخذها العلماء وذلك القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه و سلم قولا وعملا وإقرارا ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة والعطايا الجزيلة وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلا فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه فهو حقيق بالبعد عن الرحمة قال الله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } بعد قوله : { اتقوا الله حق تقاته } فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقا وأن ما سوى ذلك تفرقة لقوله : { ولا تفرقوا } والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام
روى عبد بن حميد بن عبد الله : أن حبل الله الجماعة
وعن قتادة : حبل الله المتين هذا القرآن وسنته وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله إلى آخر ما قال ومن ذلك قوله تعالى : { واعتصموا بالله هو مولاكم }
وأما أن الماشي إليه والموقر له معين على هدم الإسلام فقد تقدم من نقله
وروي أيضا مرفوعا :
[ من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام ]
وعن هشام بن عروة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ]
ويجامعها في المعنى ما صح من قوله عليه الصلاة و السلام : [ من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] الحديث
فإن الإيواء يجامع التوقير ووجه ذلك ظاهر لأن المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو اشد من هذا كالضرب والقتل فصار توقيره صدودا عن العمل بشرع الإسلام وإقبالا على ما يضاده وينافيه والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه
وأيضا فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم :
إحداهما : التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم
والثانية : أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن وهو هدم الإسلام بعينه
وعلى ذلك دل حديث معاذ : فيوشك قائل أن يقول : ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة فهو يقتضي أن السنن تموت إذا أحييت البدع وإذا ماتت انهدم الإسلام
وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين
وأيضا فمن السنة الثابتة ترك البدع فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة
فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ! ما نرى بينهما إلا قليلا قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة وله آخر قد تقدم
وعن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله بها عنهم سنته
وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة
وعن بعض السلف يرفعه :
[ لا يحدث رجل في الإسلام بدعة إلا ترك من السنة ما هو خير منها ]
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة فلقوله عليه الصلاة و السلام :
[ من أحدث حدثا آو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ]
وعد من الأحاديث والاستنان بسنة سوء لم تكن
وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه وقد شهد أن بعثه النبي صلى الله عليه و سلم حق لا شك فيها وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي وذلك قول الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق } إلى قوله : { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } إلى آخرها
واشترك أيضا مع من كتم ما أنزل الله وبينه في كتابه وذلك قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } إلى آخرها
فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين وذلك مضادة الشارع فيما شرع لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع وبين الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان فضادها الكافر بأن جحدها جحدا وضادها كاتمها بنفس الكتمان لأن الشارع يبين ويظهر وهذا يكتم ويخفي وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بين وإخفاء ما أظهر لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات من أجل اتباع المتشابهات لأن الواضحات تهدم له ما بنى عليه من المتشابهات فهو آخذ في إدخال الإشكال على الواضح حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين
قال أبو مصعب صاحب مالك : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا وكان قد صلى خلف الإمام فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه فحبس فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ؟ ] فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ولا في غيره
وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن خوفا من تلك اللعنة فما ظنك بما سوى وضع الثوب ؟
وتقدم حديث الطحاوي : ستة ألعنهم لعنهم الله فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلاة و السلام أخذا بالبدعة
وأما أنه يزداد من الله بعدا فلما روي عن الحسن أنه قال : صاحب البدعة ما يزداد من الله اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا
وعن أيوب السختياني قال : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا


فصل : الوجه السادس من النقل ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة و السلام في الخوارج :
[ يخرج من ضئضىء هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] فبين أولا اجتهادهم ثم بين آخرا بعدهم من الله تعالى
وهو بين أيضا من جهة أنه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه والفساد الداخل على الناس به في أصل الشريعة وفي فروع الأعمال والاعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة
وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه إلى الله إلا العمل بما شرع وعلى الوجه الذي شرع ـ وهو تاركه وأن البدع تحبط الأعمال ـ وهو ينتحلها
وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام فلأنها تقتضي التفرق شيعا
وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقوله : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقوله : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقوله : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى
وقد بين عليه الصلاة و السلام :
[ أن الفساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين ] هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع
وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضا حسبما بينه جميع أهل الأخبار
ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال : لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم
وعن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمرو بن عبيد : كيف حدث الحسن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها ؟ فقال : إن فعل عثمان لم يكن سنة
وقيل له : كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين ؟ فقال : ما تصنع بسمرة ! قبح الله سمرة اهـ بل قبح الله عمرو بن عبيد وسئل يوما عم شيء فأجاب فيه
قال الراوي : قلت ليس هكذا يقول أصحابنا قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ويونس وأبن عون والتميمي قال أولئك أنجاس أرجاس أموات غير أحياء
فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق { ويأبى الله إلا أن يتم نوره }
وأصل هذا الفساد من قبل الخوراج فهم أول من لعن السلف الصالح وكفر الصحابة رضي الله عن الصحابة ومثل هذا كله يورث العدواة والبغضاء
وأيضا فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم يالقتل فما دونه وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقا كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة ؟
وأما أنها مانعة من شفاعة محمد صلى الله عليه و سلم فلما روي أنه عليه السلام قال :
[ حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة ] ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال :
[ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وأنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ] الحديث وقد تقدم ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما قال : [ فأقول لهم سحقا كما قال العبد الصالح ] ويظهر من أول الحديث أن ذلك الارتداء لم يكن ارتداد كفر لقوله : [ وإنه سيؤتى برجال من أمتي ] ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نسبوا إلى أمته ولأنه عليه السلام أتى بالآية وفيها { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ولو علم النبي صلى الله عليه و سلم أنهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها لأن من مات على الكفر لا غفران له البتة وإنما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام لقول الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
ومثل هذا الحديث حديث الموطأ لقوله فيه : [ فأقول فسحقا فسحقا ]
وأما أنها رافعة للسنن التي تقابلها فقد تقدم الاستشهاد عليه في أن الموقر لصاحبها معين على هدم الإسلام
وأما أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة فلقوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة و السلام :
[ من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ] الحديث
وإلى ذلك أشار الحديث الآخر :
[ ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل ]
وهذا التعليل يشعر بمقتضى الحديث قبله إذ علل تعليق الإثم على ابن آدم لكونه أول من سن القتل فدل على أن من سن ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله إذ لم يتعلق الإثم بمن سن القتل لكونه قتلا دون غيره بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقا مسلوكة
ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم أو يأتي كقوله :
[ ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ] وغير ذلك من الأحاديث
فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره يثق بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان شيئاته مما ليس في حسابه ولا شعر أنه من عمله فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده إلا كتب عليه إثم ذلك العامل زيادة إلى إثم ابتداعه أولا ثم عمله ثانيا
وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضيا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارا وانتشارا فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها كما أن من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وأيضا فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها كان على المبتدع إثم ذلك أيضا فهو إثم زائد على إثم الابتداع وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت في قول إماتة السنة كذلك
واعتبروا ذلك ببدعة الخوراج فإن النبي صلى الله عليه و سلم عرفنا بأنهم :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] الحديث إلى آخره ففيه بيان أنهم لم يبق لهم من الدين إلا ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى هل هو موجود فيهم أم لا ؟ وإنما سببه الابتداع في دين الله وهو الذي دل عليه قوله : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ] وقوله : [ يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ] فهذه بدع ثلاث إعاذة الله بفضله
وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة و السلام :
[ إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة ]
وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها
ونحوه عن طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه
خرج هذه الآثار ابن وضاح
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع وصاحب هوى فإنهما لا ينزعان
وعن ابن شوذب قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه إلا ما هو شر منه قال : فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم :
[ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه ]
وعن أيوب قال : كان رجل يرى رأيا فرجع فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره فقلت : أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : انظر إلام يتحول ؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول وأوله : [ يمرقون من الدين ] وآخره : [ ثم لا يعودون ] وهو حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ سيكون من أمتي قوم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة ]
فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار وحاصلها أنه [ لا ] توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث أيوب أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز
ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه :
[ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ] وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ولكنه قد يحمل على العموم العادي إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ولكن الغالب في الواقع الإصرار
ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى وصاد عن سبيل الشهوات فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه وكل بدعة فللهوى فيها مدخل لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أ خرى وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة
ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبداة مفتون واحتج بقوله عليه الصلاة و السلام : [ يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه ] إلى آخر الحديث
ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات بل التعظيم على شهوات الدنيا ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات ؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم قال الله : { وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية } وقال : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره واعتقاد أنه أوفق وأعلى ؟ أفيفيد البرهان مطلبا ؟ { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء }
وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى : فلقوله تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه لما سمعوا من خواره ولما ألقى إليهم السامري فيه فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم قال الله تعالى : { وكذلك نجزي المفترين } فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله }
فإذا كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء وأيضا فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين وفيما بعد ذلك ؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور وعمل بأعمالها على التقية
وقد أخبر الله أن هؤلاء الذين اتخذوا العجل سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده فقال : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله } وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون أذلاء مقهورين : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل هذا بالنسبة إلى الذلة وأما الغضب فمضمون بصادق أن يكون المبتدع داخلا في حكم الغضب والله الواقي بفضله
وأما البعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه و سلم فلحديث الموطأ :
[ فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ] الحديث وفي البخاري عن أسماء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ أنا على حوضي أنتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول : أمتي ! فيقال : إنك لا تدري مشوا القهقرى ] وفي حديث عبد الله :
[ أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني فأقول : أي رب ! أصحابي يقول : لا تدري ما أحدثوه بعدك ]
والأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض كان كفرهم أصلا أو ارتدادا
ولقوله : [ قد بدلوا بعدك ] ولو كان الكفر لقال : قد كفروا بعدك وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة وهو واقع على أهل البدع ومن قال : إنه النفاق فذلك غير خارج عن مقصودنا لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقية لا تعبدا فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنة والعمل بها حيلة وذريعة إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى لأنه تبديل لها وإخراج لها عن وضعها الشرعي
وأما الخوف عليه من أن يكون كافرا فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ودل ذلك ظاهر قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الآية وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت والعلماء إذا اختلفوا في أمر : هل هو كفر أم لا ؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطه خسف كهذه بحيث يقال له : إن العلماء اختلفوا : هل أنت كافر أم ضال غير كافر ؟ أو يقال : إن جماعة من أهل العلم قالوا
بكفرك وأنت حلال الدم
وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله فلأن صاحبها مرتكب إثما وعاص لله تعالى حتما ولا تقول الآن : هو عاص بالكبائر أو بالصغائر بل نقول : هو مصر على ما نهى الله عنه والأصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة وإن كانت كبيرة فأعظم ومن مات مصرا على المعصية فيخاف عليه فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه حتى يموت على التغيير والتبديل وخصوصا حين كان مطيعا له فيما تقدم من زمانه مع حب الدنيا المستولي عليه
قال عبد الحق الإشبيلي : إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم أو لمن كان مستقيما ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه وأخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سببا لسوء خاتمته وسوء عاقبته والعياذ بالله قال الله تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }
فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم لأن المبتدع مع كونه مصرا على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله غير مسلم لها في تحصيل أمره معتقدا في المعصية أنها طاعة حيث حسن ما قبحه الشارع وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمه نظره فهو قد قبح ما حسنه الشارع ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله وقد قال تعالى في جملة ذم : { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }
والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له وسوء الخاتمة من مكر الله إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به اللهم إنا نسألك العفو العافية
وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وفيها أيضا الوعيد بالعذاب لقوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وقوله قبل ذلك : { وأولئك لهم عذاب عظيم }
حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال : لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئا ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس لأن كل كبيرة بين العبد وربه وهو منها على رجاء وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم
وأما البراءة منه ففي قوله : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وفي الحديث :
[ أنا بريء منهم وهم براء مني ]
وقال ابن عمر رضي الله عنه في أهل القدر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني
وجاء عن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك
وعن سفيان الثوري : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار وإما أن يقول : والله لا أبالي ما تكلموا به وإني واثق بنفسي فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه
وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر
وعن أبي قلابة قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون
وعن إبراهيم قال : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم
والآثار في ذلك كثيرة ويعضدها ما روي عنه عليه السلام أنه قال :
[ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] ووجه ذلك ظاهر منبه عليه في كلام أبي قلابة إذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنة فيلقي له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا أصل له أو يزيد له فيه قيدا من رأيه فيقبله قلبه فإذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلما فإما أن يشعر به فيرده بالعلم أو لا يقدر على رده وأما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك
قال ابن وهب : وسمعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول : أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ثم قرأ :
{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة }
فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب أن يسمع كلامه
ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله : { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال له : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وأراك صاحب بدعة ثم أمر بإخراج السائل
ومثل ما لا يقدر على رده ما حكى الباجي قال : قال مالك : كان يقال : لا تمكن زائغ القلب من أذنك فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك
ولقد سمع رجل من الأنصار من أهل المدينة شيئا من بعض أهل القدر فعلق قلبه فكان يأتي إخوانه الذين يستنصحهم فإذا نهوه قال : فكيف بما علق قلبي لو علمت أن الله يرضى أن ألقي نفسي من فوق هذه المنارة فعلت
ثم حكى أيضا عن مالك أنه قال : لا تجالس القدري ولا تكلمه إلا أن تجلس إليه فتغلظ عليه لقوله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } فلا توادوهم
وأما أنه يخشى عليه الفتنة فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكا عمن أحرم من المدينة وراء الميقات ؟ فقال : هذا مخالف لله ورسوله أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يهل من المواقيت
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ ـ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد فقال لا تفعل قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال : واي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ إني سمعت الله يقول : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه صلى الله عليه و سلم دون ما اهتدوا إليه بعقولهم
وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روي عن ابن وضاح : لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ـ إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله فيقول القوم ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله فيقول القوم
ثم إن ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شان المنافقين حين أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفر الخندق وهم الذين كانوا يتسللون لواذا
وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة لأنه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ولذلك لما أخبر تعالى عن المنافقين قال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون أيضا من باب أحرى
فهذه جملة يستدل بها على ما بقي إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير وبسط معانيها طويل فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق


فصل وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع شرح معنى عام يتعلق بما تقدم
وهو أن البدع ضلالة وأن المبتدع ضال ومضل والضلالة مذكورة في كثير من النقل المذكور ويشير إليها في آيات الاختلاف والتفرق شيعا وتفرق الطرق بخلاف سائر المعاصي فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه البدعة وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفو ـ لا يسمى ضلالا ولا يطلق على المخطىء اسم ضال كما لا يطلق على المعتمد لسائر المعاصي وإنما ذلك ـ والله أعلم ـ لحكمة قصد التنبيه عليها وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهدي والهدى والعرب تطلق الهدى حقيقة في الظاهر المحسوس فتقول : هديته الطريق وهديته إلى الطريق ومنه : نقل إلى طريق الخير والشر قال تعالى : { إنا هديناه السبيل } { وهديناه النجدين } { اهدنا الصراط المستقيم } والصراط والطريق والسبيل بمعنى واحد فهو حقيقة في الطريق المحسوس ومجاز في الطريق المعنوي وضده الضلال وهو الخروج عن الطريق ومنه البعير الضال والشاة الضالة ورجل ضل عن الطريق إذا خرج عنه ؟ لأنه التبس عليه الأمر ولم يكن له هاد يهديه وهو الدليل
فصاحب البدعة لما غلب الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة وإن كان بزعمه يتحرى قصدها فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه وأخذ الأدلة بالتبع ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر فكما تجد فيه نصا لا يحتمل التأويل تجد فيه الظاهر الذي يحتمله احتمالا مرجوحا حسبما قرره من تقدم في غير العلم وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ويتأول على غير ما قصد فيه فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع
فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنة وأمكن في ضلال البدعة فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما اراد منها
والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها قال تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } وقال : { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح والقليل منها كالكثير وهو أدل الدليل على اتباع الهوى فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الحق فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل فكان من حق الظاهر رد القليل إلى الكثير والمتشابه إلى الواضح غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه فهو في تيه من حيث يظن أنه على الطريق بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه وأخر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحا في الطلب الذي بحث عنه فوجد الجادة وما شذ له عن ذلك فإما أن يرده إليه وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله
وفيصل القضية بينهما قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } إلى قوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } فلا يصح أن يسمى من هذه حالة مبتدعا ولا ضالا وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه
أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقيا إليه حكمة الانقياد باسطا يد الافتقار مؤخرا ومقدما لأمر الله
وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك وإليها لجأ فإن خرج عنها يوما فأخطأ فلا حرج عليه بل يكون مأجورا حسبما بينه الحديث الصحيح :
[ إذ اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ] وإن خرج متعمدا فليس على أن يجعل خروجه طريقا مسلوكا له أو لغيره وشرعا يدان به
على أنه إذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استنانا فيعامل من سنه كما جاء في الحديث :
[ من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ] الحديث وقوله عليه السلام :
[ ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل ] فسمي القتل سنة بالنسبة إلى من عمل به عملا يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة لأنه لم يوضع على أن يكون تشريعا ولا يسمى ضلالا لأنه ليس في طريق المشروع أو في مضاهاته له
وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع في تسمية البدع ضلالات ويشهد له أيضا أحوال من تقدم قبل الإسلام وفي زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الله تعالى قال : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } فإن الكفار لما أمروا بالإنفاق شحوا على أموالهم وأرادوا أن يجعلوا لذلك الشح مخرجا فقالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟ ومعلوم أن الله لو شاء لم يحوج أحدا إلى أحد لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون فقص هواهم على هذا الأصل العظيم واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة إليه فلذلك قيل لهم : { إن أنتم إلا في ضلال مبين }
وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } فكأن هؤلاء قد أقروا بالتحكيم غير أنهم أرادوا أن يكون التحيكم على وفق أغراضهم زيغا عن الحق وظنا منهم أن الجميع حكم وأن ما يحكم به كعب بن الأشرف أو غيره مثل ما يحكم به النبي صلى الله عليه و سلم وجهلوا أن حكم النبي صلى الله عليه و سلم هو حكم الله الذي لا يرد وأن حكم غيره معه مردود إن لم يكن جاريا على حكم الله فلذلك قال تعالى : { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } لأن ظاهر الآية يدل على أنها نزلت فيمن دخل في الإسلام لقوله : { ألم تر إلى الذين يزعمون } كذا ـ إلى آخره وجماعة من المفسرين قالوا : إنما نزلت في رجل من المنافقين أو في رجل من الأنصار
وقال سبحانه : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } فهم شرعوا شرعة وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه السلام هذه البدعة توهما أن ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه السلام من الحق فنزلوا وافتروا على الله الكذب إذ زعموا أن هذا من ذلك وتاهوا في المشروع فلذلك قال الله تعالى على أثر الآية : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وقال سبحانه : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله } فهذه فذلكه لجملة بعد تفصيل تقديم وهو قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الآية فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ثم قال : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } وهو تشريع أيضا بالرأي مثل الأول ثم قال : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } إلى آخرها فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع فلذلك قال تعالى : { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } ثم قال تعالى بعد تعزيزهم على هذه المحرمات التي حرموها وهي ما في قوله : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } وإلى قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقوله : { عليه أرحام } يعني أنه يضله
والآيات التي قرر فيها حال المشركين في إشراكهم أتى فيها بذكر الضلال لأن حقيقته أنه خروج عن الصراط المستقيم لأنهم وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم فقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله إذ كان أول وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونهم ويتبركون بهم ثم عبدت فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد وهو الضلال المبين
وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد } فزعموا في الإله الحق ما زعموا من الباطل بناء على دليل عندهم متشابه في نفس الأمر حسبما ذكره أهل السير فتاهوا بالشبهة عن الحق لتركهم الواضحات وميلهم إلى المتشابهات كما أخبر الله تعالى في آية آل عمران فلذلك قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وهم النصارى ضلوا في عيسى عليه السلام ومن ثم قال تعالى بعد ذكر شواهد العبودية في عيسى : { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } وبعد ذكر دلائل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعالى عن اتخاذ الولد وذكر اختلافهم في مقالاتهم الشنيعة قال : { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين }
وذكر الله المنافقين وأنهم يخادعون الله والذين آمنوا وذلك لكونهم يدخلون معهم في احوال التكاليف على كسل وتقية أن ذلك يخلصهم أو أنه يغني عنهم شيئا وهم في الحيقية إنما يخادعون أنفسهم وهذا هو الضلال بعينه لأنه إذا كان يفعل شيئا يظن أنه له فإذا هو عليه فليس على هدى من عمله ولا هو سالك على سبيله فلذلك قال : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } إلى قوله : { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }
وقال تعالى حكاية عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى : { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } ؟ معناه كيف أبعد من دون الله ما لا يغني شيئا وأترك إفراد الرب الذي بيده الضر والنفع ؟ هذا خروج عن طريق إلى غير طريق { إني إذا لفي ضلال مبين }
والأمثلة في تقرير هذا الأصل كثيرة جميعها يشهد بأن الضلال في غالب الأمر إنما يستعمل في موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له أو تقليد من عرضت له الشبهة فيتخذ ذلك الزلل شرعا ودينا يدين به مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب
ولما لم يكن الكفر في الواقع مقتصرا على هذا الطريق بل ثم طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عنادا أو ظلما ذكر الله تعالى الصنفين في السورة الجامعة وهي أم القرآن فقال : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم } فهذه هي الحجة العظمى التي دعا الأنبياء عليهم السلام إليها ثم قال : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فالمغضوب عليهم هم اليهود لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ألا ترى إلى قول الله فيهم : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }
[ يعني اليهود والضالون هم النصارى ] لأنهم ضلوا في الحجة في عيسى عليه السلام وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين وهو مروي عن النبي صلى الله عليه و سلم
ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين أشركوا مع الله إلها غيره لأنه قد جاء في أثناء القرآن ما يدل على ذلك لأن لفظ القرآن في قوله : { ولا الضالين } يعمهم وغيرهم فكل من ضل عن سواء السبيل داخل فيه
ولا يبعد أن يقال : إن الضالين يدخل فيه كل من ضل عن الصراط المستقيم كان من هذه الأمة أو لا إذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله فقوله تعالى : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } عام في كل ضال كان ضلاله كضلال الشرك أو النفاق أو كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية وهو أبلغ وأعلى في قصد حصر أهل الضلال وهو اللائق بكلية فاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه و سلم
وقد خرجنا عن المقصود بعض خروج ولكنه عاضد لما نحن فيه وبالله التوفيق


الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها ويدخل تحت هذه الترجمة جملة من شبه المبتدعة التي احتجوا بها
فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه :
أحدها : أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى ولا جاء فيها : كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا ولا شيء من هذه المعاني فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات لذكر ذلك في آية أو حديث لكنه لا يوجد فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد
والثاني : أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضيع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكررها وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى : { ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وما أشبه ذلك وبسط الاستدلال على ذلك هناك فما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة :
أن كل بدعة ضلالة وأن كل محدثة بدعة وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها
والثالث : إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية فهو ـ بحسب الاستقراء ـ إجماع ثابت فدل على أن كل بدعة ليست بحق بل هي من الباطل
والرابع : أن متعقل البدعة ذلك بنفسه لأنه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع وقد تقدم بسط هذا في أول الباب الثاني وأيضا فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها إذ لو قال الشارع : المحدثة الفلانية حسنة لصارت مشروعة كما أشاروا إليه في الاستحسان حسبما يأتي إن شاء الله
ولما ثبت ذمها ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط بل من حيث اتصف بها المتصف فهو إذا المذموم على الحقيقة والذم خاص التأثيم فالمبتدع مذموم آثم وذلك على الاطلاق والعموم ويدل على ذلك أربعة أوجه :
أحدهما : أن الأدلة المذكورة إن جاءت فيهم نصا فظاهر كقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } إلى آخر الآية وقوله عليه السلام :
[ فليذادن رجال عن حوضي ] الحديث إلى سائر ما نص فيه عليهم وإن كانت نصا في البدعة فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير إشكال وإذا رجع الجميع إلى ذمهم رجع الجميع إلى تأثيمهم
والثاني : أن الشرع قد دل على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم ألا ترى إلى قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فأثبت لهم الزيغ أولا وهو الميل عن الصواب ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى الذي هو أم الكتاب ومعظمه ومتشابهه على هذا قليل فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله وطلبا لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله أو يعلمه الله والراسخون في العلم وليس إلا برده إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك فانظروا كيف اتبعوا أهواءهم أولا في مطالبة الشرع بشهادة الله
وقال الله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم } الآية
فنسب إليهم التفريق ولو كان التفريق من مقتضى الدليل لم ينسبه إليهم ولا أتى به في معرضهم الذم وليس ذلك إلا باتباع الهوى
وقال تعالى : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فجعل طريق الحق واضحا مستقيما ونهى عن البنيات والواضح من الطرق والبنيات كل ذلك معلوم بالعوائد الجارية فإذا وقع التشبيه بها بطريق الحق مع البنيات في الشرع فواضح أيضا فمن ترك الواضح واتبع غيره فهو متبع لهواه لا للشرع
وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } فهذا دليل على مجيء البيان الشافي وأن التفرق إنما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل فهو إذا من تلقاء أنفسهم وهو اتباع الهوى بعينه والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه وإذا اتبع هواه كان مذموما وآثما والأدلة عليه أيضا كثيرة كقوله : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقوله : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد } وقوله :
{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } وما أشبه ذلك فإذا كل مبتدع مذموم آثم
والثالث : أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسن والتقبيح فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر حتى يردوا كثيرا من الأدلة الشرعية
وقد علمت ـ أيها الناظر ـ أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقا ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهبا ويرجعون عنه غدا ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث ولو كان كل ما يقضي به حقا لكفى في إصلاح معاش الخلق ومعادهم ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة ولكان على هذا الأصل تعد الرسالة عبثا لا معنى له وهو كله باطل فما أدى إليه مثله
فأنت ترى أنهم قدموا أهواءهم على الشرع ولذلك سموا في بعض الأحاديث وفي إشارة القرآن أهل الأهواء وذلك لغلبة الهوى على عقولهم واشتهاره فيهم لأن التسمية بالمشتق إنما يطلق إطلاق اللقب إذا غلب ما اشتقت منه على المسمى بها فإذا تأثيم من هذه صفته ظاهر لأن مرجعه إلى اتباع الرأي وهو اتباع الهوى المذكور آنفا
والرابع : أن كل راسخ لا يبتدع أبدا وإنما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه حسبما دل عليه الحديث ويأتي تقريره بحول الله فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون أنهم علماء وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهي عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد فهو على أصل العمومية ولما كان العامي حراما عليه النظر في الأدلة والاستنباط كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهلات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به فإذا أقدم على محرم عليه كان آثما بإطلاق
وبهذه الأوجه الأخيرة ظهر وجه تأثيمه وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطىء في اجتهاده وسيأتي له تقرير أبسط من هذا إن شاء الله
وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملا بالبدعة المكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة التنزيه ـ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز وإما نائ


فصل لا يخلو المنسوب إلىالبدعة أن يكون مجتهدا أو مقلدا لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهدا فيها أو مقلدا والمقلد إما مقلد مع الاقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلا والأخذ فيه بالنظر وإما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف فهذه ثلاثة أقسام :
فالقسم الأول : على ضربين : أحدهما أن يصح كونه مجتهدا فالابتداع منه لا يقع إلا فلته وبالعرض لا بالذات وإنما تسمىغلطة أو زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة تأويل الكتاب أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقر به
ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه وقال : وأول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون
وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالسا إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : وإذا هو قد ذكر الجهنميين قال : فقلت له : يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون ؟ ـ والله يقول : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } و { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } فما هذا الذي تقولون ؟ قال : فقال : أفتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم قال : فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه و سلم ؟ ـ يعني الذي بعثه الله فيه ـ قلت : نعم قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه و سلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال : ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه قال : وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك قال : غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يونوا فيها قال : يعني فيخرجون كأنهم القراطيس فرجعنا وقلنا : ويحكم ! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال
ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث وثقة ابن معين وأبو زرعة وقال أبو حاتم : صدوق وخرج عنه البخاري
وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة أهل الحديث ومن كبار العلماء العارفين بالسنة إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكى عنه من أنه كان يقول : بأن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره وحكى القتيبي عنه كان يقول : إن القرآن يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب ومن قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين
وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الإجبار قال : كل مصيب هؤلاء قوم عظموا الله وهؤلاء قوم نزهوا الله قال : وكذلك القول في الأسماء فكل من سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب ومن سماه كافرا فقد أصاب ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني قال : وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه والقول بالسعاية وخلافه وقتل المؤمن بالكافر ولا يقتل مؤمن بكافر وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب قال : ولو قال قائل : إن القاتل في النار كان مصيبا ولو قال : في الجنة كان مصيبا ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيبا إذا كان إنما يريد بقوله إن الله تعبده بذلك وليس عليه علم الغيب
قال ابن أبي خثيمة : أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال : كان عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي الحريقي العنبري البصري اتهم بأمر عظيم وروى عنه كلام رديء
قال بعض المتأخرين : هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب وقال : إذا أرجع وأنا من الأصاغر ولأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي أن أكون رأا في الباطل اهـ
فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق لأنه بحسب ظاهر حالة فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه ولم يتبع عقله ولا صادم الشرع بنظره فهو أقرب من مخالفة الهوى
ومن ذلك الطريق ـ والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق
وكذلك يزيد الفقير فيما ذكره عنه لا كما عارض الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنه إذ طالبه بالحجة فقال بعضهم : لا تخاصموه فإنه ممن قال الله فيه : { بل هم قوم خصمون } فرجحوا المتشابه على المحكم وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم
وأما إن لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع الهوى الباعث عليه في الأصل وهو التبعية إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد حتى قال الصوفية : حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين فكيف إذا انضاف إليه الهوى من الأصل وانضاف إلى هذين الأمرين دليل ـ في ظنه ـ شرعي على صحة ما ذهب إليه فيتمكن الهوى من قلبه تمكنا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه
كما جاء في حديث الفرق فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سن سنة سيئة
ومن أمثلته أن الامامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفة دون النبي صلى الله عليه و سلم وتزعم أنه مثل النبي صلى الله عليه و سلم في العصمة بناء على أصل متوهم فوضعوه على أن الشريعة أبدا مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع المكلفين إما بالمسافهة أو بالنقل ممن شافه المعصوم وإنما وضعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادىء الرأي من غير دليل عقلي ولا نقلي بل بشبهة زعموا أنها عقلية وشبه من النقل باطلة إما في أصلها وإما في تحقيق مناطها وتحقيق ما يدعون ولما يرد عليهم به مذكرو في كتب الأئمة وهو يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى دعاو وإذا طولبوا بالدليل عليها سقط في أيديهم إذ لا برهان لهم من جهة من الجهات
وأقوى شبههم مسألة اختلاف الأمة وأنه لا بد من واحد يرتفع به الخلاف أن الله يقول : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } ولا يكون كذلك إلا إذا أعطي العصمة كما أعطيها النبي صلى الله عليه و سلم لأنه وارث وإلا فكل محق أو مبطل يدعي أنه المرحوم وأنه الذي وصل إلى الحق دون من سواه فإن طولبوا بالدليل على العصمة لم يأتوا بشيء غير أن لهم مذهبا يخفونه ولا يظهرونه إلا لخواصهم لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان
قال ابن العربي في كتاب العواصم : خرجت من بلادي على الفطرة فلم ألق في طريقي إلا مهتديا حيث بلغت هذه الطائفة ـ يعني الإمامية والباطنية من فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت ولو فجأتني بدعة مشبهة كالقول بالمخلوق أو نفي الصفات أو الارجاء لم آمن الشيطان فلما رأيت حماقاتهم أقمت على حذر وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ولبثت بينهم ثمانية أشهر ثم خرجت إلى الشام فوردت بيت المقدس فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين ـ مدرسة الشافعية بباب الأسباط وأخرى للحنفية ـ وكان فيها من رؤوس العلماء المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنة
ثم نزلت إلى الساحل لأغراض وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والإمامية ـ فطفت في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر ونزلت بعكا وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكي وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا ولع أبي فيهم ـ لعمر الله وإن كانوا على باطل ـ انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر فكان لا يفارقني ويساومني الجدال ولا يفاترني فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعليم من المعصوم بما يطول ذكره
ومن جملة ذلك أنهم يقولون : إن الله في عباده أسرارا وأحكاما والعقل لا يستقل بدركها فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم فقلت لهم : أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد ؟ فقال لي : مات وليس هذا بمذهبه ولكنه تستر معي فقلت : هل خلفه أحد ؟ فقال : خلفه وصيه علي قلت : فهل قضى بالحق وأنفذه ؟ قال : لم يتمكن لغلبة المعاند قلت : فهل أنفذه حين قدر ؟ قال : منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى فلم يمكن إلا المدارة لئلا تنفتح عليه أبواب الاختلال قلت : وهذه المدارة حق أم لا ؟ فقال : باطل أباحته الضرورة قلت : فأين العصمة ؟ قال : إنما نعني العصمة مع القدرة قلت : فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا ؟ قال : لا قلت : فالدين مهمل والحق مجهول مخمل ؟ قال : سيظهر قلت : بمن ؟ قال : بالإمام المنتظر قلت : لعله الدجال فما بقي أحد إلا ضحك وقطعنا الكلام على غرض مني لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده
ثم قلت : ومن أعجب ما في هذا الكلام أن الكلام أن الإمام إذا أوصى إلى من لا قدرة له فقد ضيع فلا عصمة له وأعجب منه أن الباري تعالى ـ على مذهبه ـ إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم فكأنه ما علمه وما بعثه وهذا عجز منه وجور لا سيما على مذهبهم
فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة وشاع الحديث فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي وقال : إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك فقلت : أنا مشغول فقال : هنا موضع مرتب قد جاء إليه وهو محرس الطبرانيين مسجد في قصر على البحر وتحامل علي فقمت ما بين حشمة وحسبة ودخلت قصر المحرس وطلعنا إليه فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية فرأيت النكر في وجوههم فسلمت ثم قصدت جهة المحراب فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم والخلاص منهم فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم إن ما كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس فأقول : هذا قبري الذي يدفنوني فيه وأنشد في سري :
( ألا ! هل إلى الدنيا معاد ؟ وهل لنا ... سوى البحر قبر ؟ أو سوى الماء أكفان )
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري الذي أنقذني الله منها فلما سلمت استقبلتهم وسألتهم عن أحوالهم عادة وقد اجتمعت إلي نفسي وقلت : أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين فقال لي أبو الفتح ـ وأشار إلى فتى حسن الوجه ـ هذا سيد الطائفة ومقدمها فدعوت له فسكت فبادرني وقال : قد بلغتني مجالسك وأنهي إلي كلامك وأنت تقول : قال الله وفعل فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه ؟ أخبرني وأخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب فعمدت ـ بتوفيق الله إلى كنانتي واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه فسقط لليدين وللفم
وشرح ذلك أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ الجرجاني قال : كنت أبغض الناس فيمن يقرأ علم الكلام فدخلت يوما إلى الري ودخلت جامعها أول دخولي واستقبلت سارية أركع عندها وإذا بجواري رجلان يتذكران علم الكلام فتطيرت بهما وقلت : أول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما أكره وجعلت أخفف الصلاة حتى أبعد عنهما فعلق بي من قولهما : إن هؤلاء الباطنية أسخف خلق الله عقولا وينبغي للنحرير أن لا يتكلف لهم دليلا ولكن يطالبهم بلم فلا قبل لهم بها وسلمت مسرعا
وشاء الله بعد ذلك أن كشف رجل من الإسماعيلية القناع في الإلحاد وجعل يكاتب وشمكير الأمير يدعوه إليه ويقول له : إني لا أقبل دين محمد إلا بالمعجزة فإن أظهرتموها رجعنا إليكم وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلا له دهاء ومنة ( أي قوة ) فورد على وشمكير رسولا فقال له : إنك أمير ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العلوم ولا تقلد أحدا في عقيدة وإنما حقهم أن يفصحوا عن البراهين فقال وشمكير : أختار رجلا من أهل مملكتي ولا أنتدب للمناظرة بنفسي فيناظرك بين يدي فقال له الملحد : اختر أبا بكر الإسماعيلي لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد وإنما كان إماما في الحديث ولكن كان وشمكير ـ لعاميه فيه ـ يعتقد أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم فقال وشمكير : ذلك مرادي فإنه رجل جيد فأرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي بجرجان ليرحل إليه إلى غزنه فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين وقال سيبهت الإسماعيلي الكافر مذهبا الإسماعيلي الحافظ مذهبا ولم يمكنهم أن يقولوا للملك : إنه لا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم فلجأوا إلى الله في نصر دينه
قال الإسماعيلي الحافظ : فلما جائني البريد وأخذت في المسير وتدانت لي الدار قلت : إنا لله وكيف أناظر فيما لا أدري ؟ هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ويعلم بحجج الله على دينه ؟ ندمت على ما سلف من عمري إذا لم أنظر في شيء من علم الكلام ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الري فقويت نفسي وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي وبلغت البلد فتلقاني الملك ثم جميع الخلق وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب وقال الملك للباطني : أذكر قولك يسمعه الإمام فلما أخذ في ذكره واستوفاه قال له الحافظ : لم ؟ سمعها الملحد قال : هذا إمام قد عرف مقالتي ففهمت قال الإسماعيلي : فخرجت من ذلك الوقت وأمرت بقراءة علم الكلام وعملت أنه عمدة من عمد الإسلام
قال ابن العربي : وأنا حين انتهى بي الأمر إلى ذلك قلت : إن كان في الأجل تنفس فهذا شبيه بيوم الإسماعيلي فوجهت إلى أبي الفتح الكلام وقلت له : لقد كنت في لا شيء ولو خرجت من عكا قبل أن أجتمع بهذا العالم ما رحلت إلا عريا عن نادرة الأيام ونظر إلى حذقه بالكلام ومعرفته حيق قال لي : أي شيء هو الله ؟ ولا يسأل بمثل هذا إلا مثله ولكن بقيت ها هنا نكتة لا بد من أن نأخذها اليوم عنه وتكون ضيافتنا عنده لم قلت : أي شيء هو الله فاقتصرت من حروف الاستفهام على أي وتركت الهمزة وهل وكيف وأنى وكم وما هي أيضا من ثواني حروف الاستفهام وعدلت عن اللام من حروفه وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية وهو أن لـ أي معنيين في الاستفهام فأي المعنيين قصدت بها ؟ ولم سألت بحرف محتمل ؟ ولم تسأل بحرف مصرح بمعنى واحد ؟ هل وقع ذلك بغير علم ولا قصد حكمة ؟ أم بقصد حكمة ؟ فبينها لنا
فما هو إلا أن افتتحت هذا الكلام وانبسطت فيه وهو يتغير حتى اصفر آخرا من الوجل كما اسود أولا من الحقد ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يمينه إلى آخر كان بجانبه وقال له : ما هذا الصبي إلا بحر زاخر من العلم ما رأينا مثله قط وهم ما رأوا واحدا به رمق إلا أهلكوه لأن الدولة لهم ولولا مكاننا من رفعة دولة ملك الشام ووالي عكا كان يحظينا ما تخلصت منهم في العادة أبدا
وحين سمعت تلك الكلمة من إعظامي قلت : هذا مجلس عظيم وكلام طويل يفتقر إلى تفصيل ولكن نتواعد إلى يوم آخر وقمت وخرجت فقاموا كلهم معي وقالوا : لا بد أن تبقى قليلا فقلت : لا وأسرعت حافيا وخرجت على الباب أعدو حتى أشرفت على قارعة الطريق وبقيت هناك مبشرا نفسي بالحياة حتى خرجوا بعدي وأخرجوا لي ( لا يكي ) ولبستها ومشيت معهم متضاحكا ووعدوني بمجلس آخر فلم اوف لهم وخفت وفاتي في وفائي
قال ابن العربي : وقد قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى : إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة الإمامية فشكا إليه فساد الخلق وأن هذا الأمر لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر فقال نصر : هل لخروجه ميقات أم لا ؟ قال الشيعي : نعم قال له أبو الفتح : ومعلوم هو أو مجهول ؟ قال : معلوم قال نصر : ومتى يكون ؟ قال : إذا فسد الخلق قال أبو الفتح : فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم فلو فسدتم لخرج فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا فبهت وأظنه سمعها عن شيخه أبي الفتح سليمان بن أيوب الرازي الزاهد
انتهى ما حكاه ابن العربي وغيره وفيه غنية لمن عرج عن تعرف أصولهم وفي أثناء الكتاب منه أمثلة كثيرة
القسم الثاني : يتنوع أيضا وهو الذي لم يستنبط بنفسه وإنما اتبع غيره من المستنبطين لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها وقام بالدعوة بها مقام متبوعه لانقداحها في قلبه فهو مثل الأول وإن لم يصر إلى تلك الحال ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى
وصاحب هذا القسم لا يخلو من استدلال ولو على أعم ما يكون فقد يلحق بمن نظر في الشبهة وإن كان عاميا لأنه عرض للاستدلال وهو علم أنه لا يعرف النظر ولا ما ينظر فيه ومع ذلك فلا يبلغ من استدل بالدليل الجملي مبلغ من استدل على التفصيل وفرق بينهما في التمثيل :
أن الأول أخذ شبهات مبتدعة فوقف وراءها حتى إذا طولب فيها بالجريان على مقتضى العلم تبلد وانقطع أو خرج إلى ما لا يعقل وأما الثاني فحسن الظن بصاحب البدعة فتبعه ولم يكن له دليل على التفصيل يتعلق به إلا تحسين الظن بالمبتدع خاصة وهذا القسم في العوام كثير
فمثال الأول حال حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة إذ كان أحد دعاة الباطنية فاستجاب له جماعة نسبوا إليه وكان رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقه فقال له حمدان ـ وهو لا يعرف حاله ـ : أراك سافرت عن موضع بعيد فأين مقصدك ؟ فذكر موضعا هو قرية حمدان فقال له حمدان : اركب بقرة من هذا البقر لتستريح به عن تعب المشي فلما رآه مائلا إلى الديانة أتاه من ذلك الباب وقال : إني لم أؤمن بل أؤمر بذلك فقال له : وكأنك لا تعمل إلا بأمر فقال : نعم فقال حمدان : وبأمر من تعمل ؟ قال بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة قال : ذلك هو رب العالمين قال : صدقت ولكن الله يهب ملكه من يشاء قال : وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها ؟ قال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاوة إلى السعادة وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب فقال له حمدان : أنقذني أنقذك الله وافض علي من العمل ما تحييني به فما أشد احيتاجي لمثل ما ذكرت ! فقال : فما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه فقال : فما عهدك ؟ فاذكره فإني ملتزم له فقال : أن تجعل لي وللإمام عهد الله على نفسك وميثاقك ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضا فالتزم حمدان عهده ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه واستجاب له في جميع ما ادعاه ثم انتدب للدعوة وصار أصلا من أصول هذه البدعة فسمي أتباعه القرامطة
ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } وقوله تعالى : { قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون }
وحكى المسعودي أنه كان في أعلى صعيد مصر رجل من القبط ممن يظهر دين النصرانية وكان يشار إليه بالعلم والفهم فبلغ خبره أحمد بن طولون فاستحضره وسأله عن أشياء كثيرة من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد أحضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية فسألوه عن ذلك فقال : دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية تدفعها العقول وتنفر منها النفوس لتباينها وتضادها لا نظر يقويها ولا جدل يصححها ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل فيها والفحص عنها ورأيت مع ذلك أمما كثيرة وملوكا عظيمة ذوي معرفة وحسن سياسة وعقول راجحة قد انقادوا إليها وتدينوا بها مع ما ذكرت من تناقضها في العقل فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها إلا بدلائل شاهدوها وآيات ومعجزات عرفوها أوجبت انقيادهم إليها والتدين بها
فقال له السائل : وما التضاد الذي فيها ؟ وهل يدرك ذلك أم تعلم غايته ؟ منها قولهم بأن الثلاثة واحد وأن الواحد ثلاثة ووصفهم للأقانيم والجوهر وهو الثالوثي وهل الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم لا ؟ وفي اتحاد ربهم القديم بالانسان المحدث وما جرى في ولادته وصلبه وقتله وهل في التشنيع أكبر وأفحش من إله صلب وبصق في وجهه ؟ ووضع على رأسه إكليل الشوك وضرب رأسه بالقضيب ؟ وسمرت قدماه ونخز بالأسنة والخشب جنباه ؟ وطلب الماء فسقي الخل من بطيخ الحنظل ؟ فأمسكوا عن مناظرته لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده اهـ
والشاهد من الحكاية الاعتماد على الشيوخ والآباء من غير برهان ولا دليل
القسم الثالث : يتنوع أيضا وهو الذي قلد غيره على البراءة الأصلية فلا يخلو أن يكون ثم من هو أولى بالتقليد منه بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير إليه في أمور دينهم من عالم وغيره وتعظيمهم له بخلاف الغير أو لا يكون ثم من هو أولى منه لكنه ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة فإن كان هناك منتصبون فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتين فهو غير معذور إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم
وهذا حال من بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنهم تركوا دينهم الحق ورجعوا إلى باطل آبائهم ولم ينظروا نظر المستبصر حتى لم يفرقوا بين الطريقين وغطى الهوى على عقولهم دون أن يبصروا الطريق فكذلك أهل هذا النوع
وقل ما تجد من هذه صفته إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد
خرج البغوي [ عن أبي الطفيل الكناني أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتي به النبي صلى الله عليه و سلم فدعا له بالبركة وأخذ بجبهته فنبتت شعرة بجبهته كأنها سلفة فرس قال : فشب الغلام فلما كان زمن الخوارج أجابهم فسقطت الشعرة عن جبهته فأخذه أبوه فقيده وحبسه مخافة أن يلحق بهم أحد قال : فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له : ألم تر بركة النبي صلى الله عليه و سلم وقعت ؟ قال : فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم قال : فرد الله عز و جل الشعرة في جبهته إذ تاب ]
وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين ففي تأثيمه نظر ويحتمل أن يقال فيه : إنه آثم
ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم واستنامة لما عليه أهل عصرهم من عبادة غير الله وما أشبه ذلك لأن العلماء يقولون في حكمهم : إنهم على قسمين : قسم غابت عليه الشريعة ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أنه يقرب إلى الله ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله والتحريم والتحليل بالرأي ووافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوا من الباطل فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها فكذلك ما نحن في الكلام عليه إذ لا فرق بينهما
ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول : كيفما كان لا يعذب أحد إلا بعد الرسل وعدم القبول منهم وهذا إن ثبت قولا هكذا فنظيره في مسألتنا أن يأتي عالم أعلم من ذلك المنتصب يبين السنة من البدعة فإن راجعه هذا المقلد في أحكام دينه ولم يقتصر على الأول فقد أخذ بالاحتياط الذي هو شأن العقلاء ورجاء السلامة وإن اقتصر على الأول ظهر عناده لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارىء وإذا لم يرضه كان ذلك لهوى داخله وتعصب جرى في قلبه مجرى الكلب في صاحبه وهو إذا بلغ هذا المبلغ لم يبعد أن يقتصر لمذهب صاحبه ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه في عموميته وحكمه قد تقدم في القسم قبله
فأنت ترى صاحب الشريعة صلى الله عليه و سلم ـ حين بعث إلى أصحاب أهواء وبدع وقد استندوا إلى آبائهم وعظمائهم فبها وردوا ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وغطى على قلوبهم رين الهوى حتى التبست عليهم المعجزات بغيرها ـ كيف صارت شريعته صلى الله عليه و سلم حجة عليهم على الإطلاق والعموم وصار الميت منهم مسوقا إلى النار على العموم من غير تفرقة بين المعاند صراحا وغيره وما ذاك إلا لقيام الحجة عليهم بمجرد بعثته وإرساله لهم مبينا للحق الذي خالفوه فمسألتنا شبيهة بذلك فمن أخذ بالحزم فقد استبرأ لدينه ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك وحسبنا الله


فصل ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان ولنرد هذا الموضع شيئا من البيان فإنه أكيد لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل فنقول وبالله التوفيق :
إن لفظ أهل الأهواء وعبارة أهل البدع إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها والاستدلال على صحتها في زعمهم حتى عد خلافهم وشبههم منظورا فيها ومحتاجا إلى ردها والجواب عنها كما نقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنط لها وناصرلها وذاب عنها كلفظ أهل السنة إنما يطلق على ناصريها وعلى من استنبط على وفقها والحامين لذمارها
ويرشح ذلك أن قول الله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق وليس إلا المخترع أو من قام مقامه
وكذلك قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } وقوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيره
وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم :
[ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم ] لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها بخلاف العوام فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة ولا هم متبعون للهوى وإنما يتبعون ما يقال لهم كائنا ما كان فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل البدع مدلول واحد وهو أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيرها وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبل رؤساهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به فالمقتدي به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لأنه في حكم المتبع والمبتدع هو المخترع أو المستدل على صحة ذلك الاختراع وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم أو كان من قبيل الاستدلال العامي فإن الله سبحانه ذم أقواما قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل وقد كانوا على هذا الدين وليس إلا لأنه صواب فنحن عليه لأنه لو كان خطأ لما ذهبوا إليه
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل ولكن مثل هذا يعد استدلالا في الجملة من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطراح ما سواه فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ودخل في مسمى أهل الابتداع إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه أو الباطل فيجتنبه ولذلك قال تعالى ردا على المحتجين بما تقدم : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } وفي الآية الأخرى : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } فقال تعالى : { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } وفي الآية الأخرى : { أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } وأمثال ذلك كثير
وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي ويتعصب لما هو عليه غير ملتفت إلى غيره وهو عين اتباع الهوى فهو المذموم حقا وعليه يحصل الإثم فإن من كان مسترشدا مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده وهو المعتاد في طالب الحق ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تبين لهم الحق
فإن لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة ولم يدخل مع المتعاصيين لكنه عمل بها فإن قلنا : إن أهل الفترة معذبون على الاطلاق إذا اتبعوا من اخترع منهم فالمتبعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقا مؤخذون أيضا وإن قلنا : لا يعذبون حتى يبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلاء لا يؤخذون ما لم يكن فيه محق فإذا ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين : إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه وإما أن لا يتبعوه فلا بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة ( أهل الأهواء ) فيأثمون
وكل من اتبع بيان سمعان في بدعته التي اشتهرت عند العلماء مقلدا فيها على حكم الرضاء بها ورد ما سواها فهو في الإثم مع من اتبع فقد زعم أن معبوده في صورة الإنسان وأنه يهلك كله إلا وجهه ثم زعم أن روح الإله حل في علي ثم في فلان ثم في بيان نفسه
وكذلك من اتبع المغيرة بن سعيد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم أنه يحيى الموتى بالإسم الأعظم وأن لمعبوده أعضاء على حروف الهجاء على كيفية يشمئز منها قلب المؤمن إلى إلحادات أخر
وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرا لها ومحتجا عليها وقانا الله شر التعصب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته


فصل إذا ثبت أن المبتدع آثم إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الواقع عليه على رتبة واحدة بل هو على مراتب مختلفة من جهة كون صاحبها مستترا بها أو معلنا ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ومن جهة كونها بينة أو مشكلة ومن جهة كونها كفرا أو غير كفر ومن جهة الإصرار عليها أو عدمة إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن
وهذا المعنى وإن لم يخف على العالم بالأصول فلا يترك التنبيه على وجه التفاوت بقول جملي فهو الأولى ي هذا المقام
فأما الاختلاف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد أو مقلدا فظاهر لأن الزيغ في قلب الناظر في المتشابهات ابتغاء تأويلها أمكن منه في قلب المقلد وإن ادعى النظر أيضا لأن المقلد الناظر لا بد من استناده إلى مقلده في بعض الأصول التي يبنى عليها أو المقلد قد انفرد بها دونه فهو آخذ بخط ما لم يأخذ فيه الآخر إلا أن يكون هذا المقلد ناظرا لنفسه فحينئذ لا يدعي رتبة التقليد فصار في درجة الأول وزاد عليه الأول بأنه أول من سن تلك السنة السيئة فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها وهذا الثاني ممن عمل بها فيكون على الأول من إثمه ما عينه الحديث الصحيح فوزره أعظم على كل تقدير والثاني دونه لأنه إن نظر وعاند الحق واحتج لرأيه فليس له إدلة جملية لا تفصيلية والفرق بينهما ظاهر فإن الأدلة التفصيلية أبلغ في الاحتجاج على عين المسألة من الأدلة الجملية فتكون المبالغة في الوزر بمقدار المبالغة في الاستدلال
وأما الاختلاف من جهة وقوعها في الضروريات أو غيرها فالإشارة إليه ستأتي عند التكلم على أحكام البدع
وأما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان فظاهر أن المسر بها ضرورة مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة هي باقية على أصل حكمها فإذا أعلن بها ـ وإن لم يدع إليها ـ فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به
وسيأتي ـ بحول الله ـ أن الذريعة قد تجري مجرى المتذرع إليه أو تفارقه فانضم إلى وزر العمل بها وزر نصبها لمن يقتدي به فيها والوزر في ذلك أعظم بلا إشكال
ومثاله ما حكى الطرطوشي في أصل القيام ليلة النصف من شعبان عن أبي محمد المقدسي قال : لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان وأول ما أحدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة : قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن أبي الحمراء وكان حسن التلاوة فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهما ثالث ورابع فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة ثم جاء في العالم القابل فصلى معه خلق كثير وشاعت في المسجد وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا فقلت له : فرأيتك تصليها في جماعة
قال : نعم ! وأستغفر الله منها
وأما الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضا لأن غير الداعي وإن كان عرضة بالاقتداء فقد لا يقتدى به ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به إذ قد يكون خامل الذكر وقد يكون مشتهرا ولا يقتدي به لشهرة من هو أعظم عند الناس منزلة منه
وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر ولا سيما المبتدع اللسان الفصيح الآخذ بمجامع القلوب إذا أخذ في الترغيب والترهيب وأدلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها كما كان معبد الجهني يدعو الناس إلى ما هو عليه من القول بالقدر ويلوي بلسانه نسبته إلى الحسن البصري
فروي عن سفيان بن عيينة أن عمرو بن عبيد عن مسألة فأجاب فيها وقال : هو من رأي الحسن فقال له رجل : إنهم يروون عن الحسن خلاف هذا فقال : إنما قلت لك هذا من رأيي الحسن يريد نفسه
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري : كان عمرو بن عبيد إذا سئل عن شيء قال : هذا من قول الحسن فيوهم
أنه الحسن بن أبي الحسن وإنما هو قوله
وأما الاختلاف من جهة كونه خارجا على أهل السنة أو غير خارج فلآن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليه إثم والخارج زاد الخروج على الأئمة ـ وهو موجب للقتل ـ والسعي في الأرض بالفساد وإثارة الفتن والحروب إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق فله من الإثم العظيم أوفر حظ
ومثاله قصة الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] وأخبارهم شهيرة
وقد لا يخرجون هذا الخروج بل يقتصرون على الدعوة لكن على وجه أدعى إلى الإجابة لأن فيه نوعا من الإكراه والإخافة فلا هو مجرد دعوة ولا هو شق العصا من كل وجه وذلك أن يستعين على دعوة بأولي الأمر من الولاة والسلاطين فإن الاقتداء هنا أقوى بسبب خوف الولاة في الإيقاع بالآبي سجنا أو ضربا أو قتلا كما اتفق لبشر المريسي في زمن المأمون ولأحمد بن أبي داؤد في خلافة الواثق وكما اتفق لعلماء المالكية بالأندلس إذ صارت ولايتها للمهديين فمزقوا كتب المالكية وسموها كتب الرأي ونكلوا بجملة من الفضلاء بسبب أخذهم في الشريعة بمذهب مالك وكانوا هم مرتكبين للظاهرية المحضة التي هي عند العلماء بدعة ظهرت بعد المائتين من الهجرة ويا ليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه ! لكنهم تعدوا ذلك إلى أن قالوا برأيهم ووضعوا للناس مذاهب لا عهد لهم بها في الشريعة وحملوهم عليها طوعا أو كرها حتى عم داؤها في الناس وثبتت زمانا طويلا ثم ذهب منها جملة وبقيت أخرى إلى اليوم ولعل الزمان يتسع إلى ذكر جملة منها في أثناء الكتاب بحول الله
فهذا الوجه الوزر فيه أعظم من مجرد الدعوة من وجهين : الأول الإخافة والإكراه بالإسلام والقتل والآخر كثرة الداخلين في الدعوة لأن الإعذار والإنذر الأخريين قد لا يقوم له كثير من النفوس بخلاف الدنيوي ولأجل ذلك شرعت الحدود والزواجر في الشرع و إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن بالمبتدع إذا لم ينتصر بإجابة دعوته بمجرد الإعذار والإنذار الذي يعظ به حاول الانتهاض بأولي الأمر ليكون ذلك أحرى بالإجابة
وأما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية فإن الحقيقية أعظم وزرا لأنها التي باشرها المنتهي بغير واسطة ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر كالقول بالقدر والتحسين والتقبيح والقول بإنكار خبر لواحد وإنكار الإجماع وإنكار تحريم الخمر والقول بالإمام المعصوم وما أشبه ذلك
فإذا فرضت غضافية : فمعنى الإضافية أنها مشروعة من وجه ورأي مجرد من وجه
إذ يدخلها من جهة المخترع رأي في بعض أحوالها فلم تناف الأدلة من كل وجه هذا وإن كانت تجري مجرى الحقيقة ولكن الفرق بينهما ظاهر كما سيأتي إن شاء الله
وبحسب ذلك الاختلاف يختلف الوزر ومثاله جعل المصاحف في المساجد للقراءة آخر صلاة الصبح بدعة
قال مالك : أول من جعل مصحفا الحجاج بن يوسف يريد أنه أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة الصبح في المسجد قال ابن رشد : مثل ما يصنع عندنا إلى اليوم
فهذه محدثة ـ أعني وضعه في المسجد ـ لأن القراءة في المسجد مشروع في الجملة معمول به إلا أن تخصيص المسجد بالقراءة على ذلك الوجه هو المحدث
ومثله وضع المصاحف في زماننا للقراءة يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد
وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة لإمكان أن لا تكون بدعة والإقدام على المحتمل أخفظ رتبة من الإقدام على الظاهر ولذلك عذ العلماء ترك المتشابه من قبيل المندوب إليه في الجملة ونبه الحديث على أن ترك المتشابه لئلا يقع في الحرام فهو حمى له وإن الواقع في المتشابه واقع في الحرام وليس ترك الحرام في الجملة من قبيل المندوب بل من قبيل الواجب فكذلك حكم الفعل المشتبه في البدعة فالتقارب بينهما بين
وإن قلنا : إن ترك المتشابه من باب المندوب وإن مواقعته من باب المكروه فالاختلاف أيضا واقع من هذه الجهة فإن الإثم في المحرمة هو الظاهر وأما المكروهة فلا إثم فيها في الجملة ما لم يقترن بها ما يوجبها كالإصرار عليها إذ الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة فكذلك الإصرار على المكروه فقد يصيره صغيرة ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة في مطلق التأثيم وإن حصل الفرق من جهة أخرى بخلاف المكروه مع الصغيرة والشأن في البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ في الدوام عليها وإظهارها من المقتدى بهم في مجامع الناس وفي المساجد فقلما تقدم بل تقع منهم على أصلها من الكراهية إلا ويقترن بها ما يدخلها في مطلق التأثيم من إصرار أو تعليم أو إشاعة أو تعصب لها أو ما أشبه ذلك فلا يكاد يوجد في البدع ـ بحسب الوقوع ـ مكروه لا زائد فيه على الكراهية والله أعلم
وأما الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيرا فيعظم بالإصرار عليه كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها فإذا كانت فلته فهي أهون منها إذا داوم عليها ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها نظير الذنب إذا تهاون به فالمتهاون أعظم وزرا من غيره
وأما الاختلاف من جهة كونها كفرا وعدمه فظاهر أيضا لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب ـ عافانا الله ـ وليس كذلك ما لم يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر في المعاصي فلا بدعة أعظم وزرا من بدعة تخرج عن الإسلام كما أنه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج عن الإسلام فبدعة الباطنية والزنادقة ليس كبدعة المعتزلة والمرجئة وأشباههم ووجوه التفاوت كثيرة ولظهورها عند العلماء لم نبسط الكلام عليها والله المستعان بفضله


فصل ويتعلق بهذا الفصل أمر آخر وهو الحكم في القيام على أهل البدع من الخاصة أو العامة وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين وفسادهم في الأرض وخروجهم عن جادة الإسلام إلى بنيات الطريق التي نبه عليها قول الله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وهو فصل من تمام الكلام على التأثيم لكنه مفتقر إلى النظر في شعب كثيرة منها ما تكلم عليها العلماء ومنها ما لم يتكلموا عليها لأن ذلك حدث بعد موت المجتهدين وأهل الحماية للدين فهو باب يكثر التفريغ فيه بحيث يستدعي تأليفا مستقلا فرأينا أن بسط ذلك يطول مع أن العناء فيه قليل الجدوى في هذه الأزمنة المتأخرة لتكاسل الخاصة عن النظر فيما يصلح العامة وغلبة الجهل على العامة حتى إنهم لا يفرقون بين السنة والبدعة
بل قد انقلب الحال إلى أن عادت السنة بدعة فقاموا في غير موضع القيام واستقاموا إلى غير مستقام فعم الداء وعدم الأطباء حسبما جاءت به الأخبار فرأينا أن لا نفرد هذا المعنى بباب يخصه وأن لا نبسط القول فيه وأن نقتصر من ذلك على لمحة تكون خاتمة لهذا الباب في الإشارة إلى أنواع الأحكام التي يقام عليهم بها في الجملة لا في النفصيل وبالله التوفيق
فنقول : إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكائر هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين أم لا وكون صاحبها مشتهرا بها أو لا وداعيا إليها أو لا ومستطيرا بالأتباع وخارجا عن الناس أو لا وكونه عاملا بها على جهة الجهل أو لا
وكل من هذه القسام له حكم اجتهادي يخصه إذ لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه كما جاء في كثير من المعاصي كالسرقة والحرابة والقتل والقذف والجراح والخمر وغير ذلك لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل وحكموا باجتهاد الرأي تفريعا على ما تقدم لهم في بعضها من النص كما جاء في الخوارج من الأثر بقتلهم وما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صبيغ العراقي
فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء أنواع
أحدهما : الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كمسألة ابن عباس رضي الله عنه حين ذهب إلى الخوارج فكلمهم حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف
والثاني : الهجران وترك الكلام والسلام حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي
والثالث : كما غرب عمر صبيغا ويجري مجراه السجن وهو :
الرابع : كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة
والخامس : ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يحذروا ولئلا يغتر بكلامهم كما جاء عن كثير من السلف في ذلك
السادس : القتل إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل علي رضي الله عنه الخوارج وغيره من خلفاء السنة
والسابع : القتل إن لم يرجعوا من الاستتابة وهو قد أظهر بدعته وأما من أسرها وكانت كفرا أو ما يرجع إليه فالقتل بلا استتابة وهو :
الثامن : لأنه من باب النفاق كالزنادقة
والتاسع : تكفير من دل الدليل على كفره كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية والقائلين بالحلول كالباطنية أو كانت المسألة في باب التكفير بالمآل فذهب المجتهد إلى كابن الطيب في تكفيره جملة من الفرق وينبني على ذلك :
والعاشر : وذلك أنه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون أحدا منهم ولا يغسلون إذا ماتوا ولا يصلون عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين ما لم يكن المستتر فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث
والحادي عشر : الأمر بأن لا يناكحوا وهو من ناحية الهجران وعدم المواصلة
والثاني عشر : تجريحهم على الجملة فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ولا يكونون ولاة ولا قضاة ولا ينصبون في مناصب العدالة من إمامة أو خطابة إلا أنه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم واختلفوا في الصلاة خلفهم من باب الأدب ليرجعوا عما هم عليه
والثالث عشر : ترك عيادة مرضاهم وهو من باب الزجر والعقوبة
والرابع عشر : ترك شهود جنائزهم كذلك
والخامس عشر : الضرب كما ضرب عمر رضي الله عنه صبيغا
وروي عن مالك رضي الله عنه في القائل بالمخلوق : أنه يوجع ضربا ويسجن حتى يموت
ورأيت في بعض تواريخ بغداد عن الشافعي أنه قال : حكم في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجرائد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام يعني أهل البدع


فصل فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات وفرع العلماء منها كثيرا من المسائل وأصلوا منها أصولا يحتذى حذوها على وفق ما ثبت نقله ؟ إذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد وبالحري إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيسا على محل التخصيص فلذلك قسم الناس البدع ولم يقولوا بذمها على الإطلاق
وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه :
أحدها : ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم :
[ من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ]
وخرج الترمذي وصححه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ من دل على خير فله أجر فاعله ]
وخرج أيضا عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من سنة سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا ] حسن صحيح
فهذه الأحاديث صريحة في أن من سن سنة خير فذلك خير ودل على أنه فيمن ابتدع من سن فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ولو كان المراد : من عمل سنة ثابتة في الشرع لما قال : من سن ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه و سلم :
[ ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ] فسن ـ ها هنا ـ على حقيقته لأنه اخترع ما لم يكن قبل معمولا به في الأرض بعد وجود آدم عليه السلام
فكذلك قوله : [ من سن سنة حسنة ] أي من اخترعها من نفسه لكن بشرط أن تكون حسنة فله من الأجر ما ذكر فليس المراد : من عمل سنة ثابتة
وإنما العبارة عن هذا المعنى أن يقال : من عمل بسنتي أو سنة من سنتي وما أشبه ذلك كما خرج الترمذي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لبلال بن الحارث :
أعلم قال : أعلم يا رسول الله ( ؟ ) قال : اعلم يا بلال قال : أعلم يا رسول الله قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا ] حديث حسن
[ وعن أنس رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم :
يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ـ ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة ] حديث حسن
فقوله : [ من أحيا سنة من سنتي قد أمييت بعدي ] واضح في العمل بما ثبت أنه سنة وكذلك قوله : [ من أحيا سنتي فقد أحبني ] ظاهر في السنن الثايتة بخلاف قوله : من سن كذا فإنه في الاختراع أولا من غير أن يكون ثابتا في السنة
وأما قوله لبلان بن الحارث [ ومن ابتدع بدعة ضلالة ] فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق بل بشرط أن تكون ضلالة وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا لم تكن لم يلحقها ذم ولا تبع صاحبها وزر فعادت إلى أنها سنة حسنة ودخلت تحت الوعد بالأجر
والثاني : أن السلف الصالح رضي الله عنهم ـ وأعلاهم الصحابة ـ قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسنا وأجمعوا عليه ولا تجمتع أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة وإنما يجتمعون على هدى وما هو حسن
فقد أجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية واطراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يكن في ذلك نص ولا حظر ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ومن سباقهم في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه وقد كان من أشدهم اتباعا وأبعدهم من الابتداع
هذا وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عن الحفظ والتحصيل وما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب أو سنة
ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر وقل المجتهدون في التحصيل فخافوا على الدين جملة
قال اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه وخرج عليه الإجارة على كتبه وحكى الخلاف وقال : لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب
قال مالك : ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح ولقد قلت لابن شهاب : أكنت تكتب العلم ؟ فقال : لا فقلت : أكنت تحب أن يقيدوا عليك الحديث ؟ فقال : لا فهذا كان شأن الناس فلو سار الناس سيرتهم لضاع العلم ولم يكن بيننا منه ولو رسمه أو اسمه وهكذا الناس اليوم يقرؤون كتبهم ثم هم في التقصير على ما هم عليه
وأيضا فإنه خلاف عندنا في مسائل الفروع أن القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب وإذا كان كذلك كان إهمال كتبها وبيعها يؤدي إلى التقصير في الاجتهاد وأن لا يوضع مواضعه لأن في معرفة أقوال المتقدمين والترجيح بين أقاويلهم قوى وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه
انتهى ما قاله اللخمي وفيه إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم لأن له وجها صحيحا فكذلك نقول : كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح فليس بمذموم بل هو محمود وصاحبه الذي سنه ممدوح فأين ذمها بإطلاق أو على العموم ؟
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور
فأجاز ـ كما ترى ـ إحداث الأقضية واحترعها على قدر اختراع الفجار للفجور وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل وقتل الجماعة بالواحد وهو محكي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم
وأخذ مالك وأصحابه بقول الميت : دمي عند فلان ولم يأت له في الموطأ بأصل سماعي وإنما علل بأمر مصطلحي وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة فإن كان ذلك جائزا مع أنه مخترع فلم لا يجوز مثله ـ وقد اجتمعا في العلة ـ لأن الجميع مصالح معتبرة في الجملة وإن لم يكن شيء من ذلك جائزا فلم اجتمعوا على جملة وفرع غيرهم على بعضها ؟ ولا يبقى إلا أن يقال : إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيرهم وإن اجتمعا في العلة المسوغة للقياس وعند ذلك يصير الاقتصار تحكما وهو باطل فما أدى إليه مثله فثبت أن البدع تنقسم
فالجواب وبالله التوفيق أن يقول :
أما الوجه الأول : وهو قوله صلى الله عليه و سلم :
[ من سن سنة حسنة ] الحديث فليس المراد به الاختراع البتة وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية ـ إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به فإن زعم أنه مظنون فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به فيلزم التعارض بين القطعي والظني والاتفاق من المحققين ولكن فيه بحثا ـ أو نظرا ـ من وجهين :
أحدهما : أنه يقال : إنه من قبيل المتعارضين إذ تقدم اولا أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص لم يقبل بعد ذلك التخصيص
والثاني : على التنزل لفقد التعارض فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية وذلك لوجهين :
أحدهما : أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الل ه رضي الله عنهما قال :
[ كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار ـ أو العباء ـ متقلدي السيوف عامتهم مضر بل كلهم من مضر فتعمر وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رآهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال :
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } والآية التي في سورة الحشر : { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة قال : فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ]
فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من سن سنة سيئة ؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قال : [ من سنة في الإسلام سنة حسنة ] الحديث فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي وهو العمل بما ثبت كونه سنة وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر : [ من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ـ الحديث إلى قوله ـ ومن ابتدع بدعة ضلالة ] فجعل مقابل تلك السنة الابتداع فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم : [ ومن أحيا سنتي فقد أحبني ]
ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر لأنه صلى الله عليه و سلم لما مضى على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله فليس معناه من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة
ونحو هذا الحديث في رقائق ابن المبارك مما يوضع معناه عن حذيفة رضي الله عنه قال : [ قام سائل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل فسكت القوم ثم إن رجلا أعطاء فأعطاه القوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
من استن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن استن شرا فاستن به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم ] فإذا قوله : [ من سنة سنة ] معناه من عمل بسنة لا من اخترع سنة
والوجه الثاني من وجهي الجواب : أن قوله : [ من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة ] لا يمكن حمله على الاختراع من أصل لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة وإنما يقول به المبتدعة أعني التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإنا قبيحة بالشرع فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليه السلام : [ لأنه أول من سن القتل ] وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم
وأما قوله : [ من ابتدع بدعة ضلالة ] فهو على ظاهره لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب ويصح أن يحمل على نحو ذلك قوله : [ ومن سن سنة سيئة ] أي من اخترعها وشمل ما كان منها مخترعا ابتداء من المعاصي كالقتل من أحد ابني آدم وما كان مخترعا بحكم الحال إذ كانت قبل مهملة متناساة فاثارها عمل هذا العامل
فقد عاد الحديث ـ والحمد لله ـ حجة على أهل البدع من جهة لفظه وشرح الأحاديث الأخر له
وإنما يبقى النظر في قوله : [ ومن ابتدع بدعة ضلالة ] وإن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما والأمر فيه قريب لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوما وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول فإن الدليل دل على تعطليه في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيرة على تعطيل المفهوم في قوله الله تعالى : { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق بالأدلة المتقدمة فلا مفهوم أيضا
والجواب عن الإشكال الثاني : أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة لا من قبيل البدعة المحدثة والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول وإن كان فيها خلاف بينهم ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه
أما جمع لمصحف وقصر الناس عليه فهو على الحقيقة من هذا الباب إذ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف تسهيلا على العرب المختلفات اللغات فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح لباب الاختلاف في القرآن حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله تعالى فخاف الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ اختلاف الأمة في ينبوع الملة فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه واطرحوا ما سوى ذلك علما بأن ما اطرحوه مضمن فيما أثبتوه لأنه من قبيل القراءات التي يؤدي بها القرآن
ثم ضبطوا ذلك بالرواية حين فسدت الألسنة ودخل في الإسلام أهل العجمة خوفا من فتح باب آخر من الفساد وهو أن يدخل أهل الإلحاد في القرآن أو في القراءات ما ليس منها فيستعينوا بذلك في بث إلحادهم ألا ترى أنه لما لم بمكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى
فحق ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن له أصلا يشهد له في الجملة وهو الأمر بتبليغ الشريعة وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } وأمته مثله وفي الحديث :
[ ليبلغ الشاهد منكم الغائب ] وأشباهه والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة لأنه من قبيل المعقول المعنى فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها وكذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى إذا لم يعد على الأصل بإبطال كمسألة المصحف ولذلك أجمع عليه السلف الصالح
وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل فقد ثبت في السنة كتابة العلم ففي الصحيح قوله صلى الله عليه و سلم :
[ اكتبوا لأبي شاه ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب
وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره منهم عثمان وعلي معاوية والمغيرة بن شعبة وأبي كعب وزيد بن ثابت وغيرهم وأيضا فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ وخوف اندراس العلم كما خيف دروسه حينئذ وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم
وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة وأن البناء عليها غير صحيح عند جماعة من الأصوليين فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه وإذا ثبت اعتبارها في صورة ثبت اعتبارها مطلقا ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع
وفي الصحيح قوله صلى الله عليه و سلم :
[ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ] فأعطى الحديث ـ كما ترى ـ أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين : إما أن يكون مقصودا بدليل شرعي فذلك سنة لا بدعة وإما بغير دليل ـ ومعاذ الله من ذلك ـ ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة صلى الله عليه و سلم ودليله من الشرع ثابت فليس ببدعة ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلاق ولو كان عملهم ذلك بدعة لوقع في الحديث التدافع
وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد لأنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أحد الخلفاء الراشدين وتضمين الصناع وهو منقول عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم
وأما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز فلم أره ثابتا من طريق صحيح وإن سلم فراجع إما لأصل المصالح المرسلة ـ إن لم نقل : إن أصله قصة البقرة وإن ثبت أن المصالح المرسلة مقول بها عند السلف مع أن القائلين بها يذمون البدع وأهلها ويتبرؤن منهم ـ دل على أن البدع مباينة لها وليست منها في شيء ولهذه المسألة باب تذكر فيه


فصل ومما يورد في هذا الموضع ومما يورد في هذا الموضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة ولم يعدوها قسما واحدا مذموما فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم وبسط ذلك القرافي بسطا شافيا ـ وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلام وها أنا آتي به على نصه ـ فقال :
اعلم أن الأصحاب ـ فيما رأيت متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره والحق النفصيل وأنها خمسة أقسام :
قسم واجب وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع وأن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا وإهمال ذلك حرام إجماعا فمثل هذا النوع لا ينبغي أن يختلف في وجوبه
القسم الثاني المحرم : وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة كالمكوس والمحدثات من المظالم والمحدثات المنافية لقواعد الشريعة كتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح بطريق التوريث وجعل المستند في ذلك كون المنصب كان لأبيه وهو في نفسه ليس بأهل
القسم الثالث : أن من البدع ما هو مندوب إليه وهو ما تنالولته قواعد الندب وأدلته كصلاة التراويح ولإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس وكان الناس في زمن الصحابة رضي الله عنهم معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسبق الهجرة
ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدت قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى تحفظ النظام ولذلك لما قدم الشام وجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجاب واتخذ المراكب النفسية والثياب الهائلة العلية وسلك ما سلكه الملوك فسأله عن ذلك فقال : إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا فقال له : لا آمرك ولا أنهاك ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إليه فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأمصار والقرون وأحوال فكذلك يحتاج إلى تجديد زخارف وسيايات لم تكن قديمة وربما وجبت في بعض الأحوال
القسم الرابع : بدعة مكروهة وهي ماتناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادة ولذلك ورد في الصحيح ـ خرجه مسلم وغيره :
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلة بقيام
ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات
كما ورد في التسبيح عقب الفريضة ثلاثا وثلاثين فتفعل مائة
وورد صاع في زكاة الفطر فيجعل عشرة أصواع بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع وقلة أدب معه بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده وعد الخروج عنه قلة أدب
ولازيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل والمزيد عليه ولذلك نهى مالك رضي الله عنه عن إيصال ستة أيام من شوال لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج أبو داود في سننه [ أن رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فهكذا من قبلنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اصاب الله بك يا ابن الخطاب ] يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض واعتقدوا الجميع واجبا وذلك تغيير للشرائع وهو حرام إجماعا
القسم الخامس : البدع المباحة وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة كاتخاذ المناخل للدقيق ففي الآثار : أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم اتخاذ المناخل لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله مباحة
فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشرع وأدلته فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرها وإن نظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر فيما يتقاضاها كرهت فإن الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع
وذكر شيخه في قواعده في فصل البدع منها ـ بعد ما قسم أحكامها إلى الخمسة ـ أن الطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة إلى أن قال : وللبدع الواجبة أمثلة
أحدها : الاشتغال بالذي يفهم به كلام الله تعالى وكلاك رسوله صلى الله عليه و سلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب
والثاني : حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة
والثالث : تدوين أصول الفقه
والرابع : الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم
ثم قال : والبدع المحرمة أمثلة ( منها ) مذهب القدرية ومذهب الجبرية والمرجئة والمجسمة والرد على هؤلاء من البدع الواجبة
قال : وللمندوب أمثلة ( منها ) إحداث الربط والمدارس وبناء القناطر ( ومنها ) كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول ( ومنها ) الكلام في دقائق التصوف والكلام في الجدل ( ومنها ) جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجهه تعالى
قال : وللكراهة أمثلة ( ومنها ) زخرفة المساجد وتزويق المصاحف وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي فالأصح أنه من البدع المحرمة
قال : وللبدع المباحة أمثلة ( ومنها ) المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ( ومنها ) التوسع في اللذيذ من المأكل والمشرب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام وقد اختلف في بعض ذلك فجعله بعض العلماء من البدع المكروهة وجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فما بعده كالاستعاذة والبسملة في الصلاة انتهى محصول ما قال
وهو يصرح مع ما قبله بأن البدع تنقسم بأقسام الشريعة فلا يصح أن تحمل أدلة ذم البدع على العموم بل لها مخصصات
والجواب : أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمورة بها أو المخير فيها فالجميع بين عد تلك الأشياء بدعا وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين
أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعا لا من جهة أخرى إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه
فما ذكر القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع صحيح وما قسمه فيها غير صحيح ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع وكأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعا بناء ـ والله أعلم ـ على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة وإن كانت تلائم قواعد الشرع فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها بتسمية لها بلفظ البدع وهو من حيث فقدان الدليل المعين على المسألة واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد ولما بنى على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة وصار من القائلين بالمصالح المرسلة وسماها بدعا في اللفظ كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى
أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه ولا على مراد الناس لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفا للإجماع
ثم نقول : أما قسم الواجب فقد تقدم ما فيه آنفا فلا نعيده وأما قسم التحريم فليس فيه ما هو بدعة هكذا بإطلاق بل ذلك كله مخالفة للأمر المشروع فلا يزيد على تحريم أكل المال بالباطل إلا من جهة كونه موضوعا على وزان الأحكام الشرعية اللازمة كالزكوات المفروضة والنفقات المقدرة وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وقد تقدم في الباب الأول منه طرف
فإذا لا يصح أن يطلق القول في هذا القسم بأنه بدعة أن يقسم الأمر ذلك
وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد فقد قام بها النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد واجتمع الناس خلفه
فخرج أبو داود عن أبي ذر قال :
[ صمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا ؟ فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ؟ ـ قال ـ فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة قال : فلما كانت الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ـ قال ـ قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور ] ثم لم يقم بنا بقية الشهر ونحوه في الترمذي وقال فيه حسن صحيح
لكنه صلى الله عليه و سلم لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه و سلم فلما أصبح قال :
قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم ] وذلك في رمضان وخرجه مالك في الموطأ
فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا لأن زمانه كان زمان زحي وتشريع فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالألزام فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى الله عليه و سلم رجع الأمر إلى أصله وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له
وإنما لم يقم ذلك أبو بكر رضي الله عنه لأحد أمرين : إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ذكره الطرطوشي وإما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح
فلما تمهد الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه ورأى الناس في المسجد أوزاعا ـ كما جاء في الخبر ـ قال : لو جمعت الناس على قارىء واحد لكان أمثل فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره والأمة لا تجتمع على ضلالة
وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي
فإن قيل : فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعة وحسنها بقوله : نعمت البدعة هذه وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع
فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه و سلم واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه لا أنها بدعة في المعنى فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأساسي وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :
إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم
وقد نهى النبي صلى ا لله عليه وسلم عن الوصال رحمة بالأمة وقال :
[ إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ] وواصل الناس بعده لعلمهم بوجه علة النهي حسبما يأتي إن شاء الله تعالى
وذكر القرافي من جملة الأمثلة إقامة صور الأئمة والقضاة إلخ ما قال وليس ذلك من قبيل البدع بسبيل أما أولا فإن التجمل بالنسبة إلى ذوي الهيئات والمناصب الرفيعة مطلوب وقد كان للنبي صلى الله عليه و سلم حلة يتجمل بها للوفود ومن العلة في ذلك ما قاله القرافي من أن ذلك أهيب وأوقع في النفوس من تعظيم العظماء ومثله التجمل للقاء العظماء كما جاء في حديث أشج عبد القيس وأما ثانيا : فإن سلمنا أن لا دليل عليه بخصوصه فهو من قبيل المصالح المرسلة وقد مر أنها ثابتة في الشرع وما قاله من أن عمر كان يأكل خبز الشعير ويفرض لعامله نصف شاة فليس فيه تفخيم صورة الإمام ولا عدمه بل فرض له ما يحتاج إليه خاصة وإلا فنصف شاة لبعض العمال قد لا يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يحتاج إليه من لباس وركوب وغيرهما فذلك قريب من أكل الشعير في المعنى وأيضا فإن ما يرجع إلى المأكول والمشروب لا تجمل فيه بالنسبة إلى الظهور للناس
وقوله : فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة وربما وجبت في بعض الأحوال مفتقر إلى التأمل ففيه ـ على الجملة ـ أنه مناقض لقوله في آخر الفصل : الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع مع ما ذكره قبله
فهذا كلام يقتضي أن الابتداع شر كله فلا يمكن أن يجتمع مع فرض الوجوب وهو قد ذكر أن البدعة قد تجب وإذا وجبت لزم العمل بها وهي لما فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها الأمر بها والأمر بتركها ولا يمكن فيهما الانفكاك ـ وإن كانا من جهتين ـ لأن الوقوع يستلزم الاجتماع وليسا كالصلاة في الدار المغصوبة لأن الانفكاك في الوقوع ممكن وها هنا إذا وجبت فإنما تجب على الخصوص وقد فرض أن الشر فيها على الخصوص فلزم التناقض وأما على التفصيل فإن تجديد الزخارف فيه من الخطأ ما لا يخفى
وأما السياسات فإن كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع وإن خرجت عن ذلك فكيف يندب إليها ؟ وهي مسألة النزاع
وذكر في قسم المكروه أشياء هي من قبيل البدع في الجملة ولا كلام فيها أو من قبيل الاحتياط على العبادات المحضة أن لا يزداد فيها ولا ينقص منها وذلك صحيح لأن الزيادة فيها والنقصان منها بدع منكرة فحالتها وذرائعها يحتاط بها في جانب النهي
وذكر في قسم المباح مسألة المناخل وليست ـ في الحقيقة ـ من البدع بل هي من باب التنعم ولا يقال فيمن تنعم بمباح : إنه قد ابتدع وإنما يرجع ذلك ـ إذا اعتبر ـ إلى جهة الإسراف في المأكل لأن الإسراف كما يكون في جهة الكمية يكون في جهة الكيفية فالمناخل لا تعدو القسمين فإن كان الإسراف من ماله فإن كره وإلا اغتفر مع أن الأصل الحواز
ومما يحكيه أهل التذكير من الآثار أو أول ما أحدث الناس أربعة أشياء : المناخل والشبع وغسل اليدين بالأشنان بعد الطعام والأكل على الموائد وهذا كله ـ إن ثبت نقلا ـ ليس ببدعة وإنما يرجع إلى أمر آخر وإن سلم أنه بدعة فلا نسلم أنها مباحة بل هي ضلالة ومنهي عنها ولكنا نقول بذلك


فصل وأما ما قاله عز الدين وأما ما قاله عز الدين فالكلام فيه على ما تقدم فأمثلة الواجب منها من قبل ما لا يتم الواجب إلا به ـ كما قال ـ فلا يشترط أن يكون معمولا به في السلف ولا أن يكون له أصل في الشريعة على الخصوص لأنه من باب المصالح المرسلة لا البدع
أما هذا الثاني فقد تقدم وأما الأول لو كان ثم من يسير إلى فريضة الحج طيرانا في الهواء أو مشيا على الماء لم يعد مبتدعا بمشيه كذلك لأن المقصود إنما هو التوصل إلى مكة لأداء الفرض وقد حصل على الكمال فكذلك هذا
على أن هذه أشياء قد ذمها بعض من تقدم من المصنفين في طريقة التصوف وعدها من جملة ما ابتدع الناس وذلك غير صحيح ويكفي في رده إجماع الناس قبله على خلاف ما قال
على أنه نقل عن القاسم بن مخيمرة : أنه ذكرت عنده العربية فقال : أولها كبر وآخرها بغي وحكي أن بعض السلف قال : النحو يذهب الخشوع من القلب ومن أراد أن يزدري الناس كلهم فلينظر في النحو ونقل نحو من هذه وهذه كلها لا دليل فيها على الذم لأنه لم يذم النحو من حيث هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد كما يذم سائر علماء السوء لا لأجل علومهم بل لأجل ما يحدث لهم بالعرض من الكبر به والعجب وغيرهما ولا يلزم من ذلك كون العلم بدعة فتسمية العلوم التي يكتسب بها أمر مذموم بدعا إما على المجاز المحض من حيث لم يحتج إليها أولا ثم احيتج بعد أو من عدم المعرفة بموضوع البدعة إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكبر والزهو وغيرهما ولا يعود ذلك عليها بذم
ومما حكى بعض هذه المتصوفة عن بعض علماء الخلف قال : العلوم تسعة أربعة منها سنة معروفة من الصحابة والتابعين وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف فأما الأربعة المعروفة فعلم الإيمان وعلم القرآن وعلم الآثار والفتاوى وأما الخمسة المحدثة : فالنحو والعروض وعلم المقاييس والجدل في الفقه وعلم المعقول بالنظر
وهذا ـ إن صح نقله ـ فليس أولا كما قال فإن أهل العربية يحكون عن أبي الأسود الدؤلي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي أشار عليه بوضع شيء في النحو حين سمع أعرابيا قارئا { أن الله بريء من المشركين ورسوله } ـ بالجر ـ وقد روي عن ابن مليكة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو والعروض من جنس النحو وإذا كانت الإشارة من واحد من الخلفاء الراشدين صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنة الخلفاء الراشدين وإن سلم أنه ليس كذلك فقاعدة المصالح تعم علوم العربية أي تكون من قبيل المشروع فهي من جنس كتب المصحف وتدوين الشرائع وما ذكر عن القاسم بن مخيمرة قد رجع عنه
قال أحمد بن يحيى ثعلبا ( ؟ ) قال : كان أحد الأئمة في الدين يعيب النحو ويقول : أول تعلمه شغل وآخره يزدري العالم به الناس فقرأ يوما : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } برفع الله ونصب العلماء فقيل له : كفرت من حيث لا تعلم : تجعل الله يخشى العلماء ؟ فقال : لا طعنت ( ؟ ) قال عن علم يدل إلى معرفة هذا أبدا
قال عثمان بن سعيد الداني : الإمام الذي ذكره أحمد بن يحيى هم القاسم بن بن مخيمرة قال : وقد جرى لعبد الله بن أبي إسحاق مع محمد بن سيرين كلام وكان ابن سيرين ينتقص النحويين فاجتمعا في جنازة فقرأ ابن سيرين { إنما يخشى الله من عباده العلماء } برفع اسم الله فقال له ابن أبي إسحاق : كفرت يا أبا بكر تعيب على هؤلاء الذين يقيمون كتاب الله ؟ فقال ابن سيرين : إن كنت أخطأت فأستغفر الله
وأما علم المقاييس فأصله في السنة ثم في علم السلف بالقياس ثم قد جاء في ذم القياس أشياء حملوها عل


فصل ومما يتعلق به بعض المتكلفين ومما يتعلق به بعض المتكلفين أن الصوفية هم المشهورون باتباع السنة المقتدون أفعال السلف الصالح المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على أكل الحلال واتباع السنة والإخلاص وهذا هو الحق ولكنهم في كثير من الأمور يستحسنون أشياء لم تأت في كتاب ولا سنة ولا عمل بأمثالها السلف الصالح فيعملون بمقتضاها ويثابرون عليها ويحكمونها طريقا لهم مهيعا وسنة لا تخلف بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال فلولا أن في ذلك رخصة لم يصح لهم ما بنوا عليه
فمن ذلك أنهم يعتمدون في كثير من الأحكام على الكشف والمعاينة وخرق العادة فيحكمون بالحل والحرمة ويثبتون على ذلك الإقدام والإحجام كما يحكى عن المحاسبي أنه كان إذا تناول طعاما في شبهة ينبض له عرق في أصبعه فيمتنع منه
وقال الشبلي : اعتقدت وقتا أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين فمددت يدي إليها لآكل فنادتني الشجرة : احفظ عليك عهدك لا تأكل مني فإني ليهودي
وقال إبراهيم الخواص رحمه الله : دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة بالليل فإذا فيها سبع عظيم فخفت فهتف بي هاتف : اثبت فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك
فمثل هذه الأشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ظهر عدم البناء عليها إذ المكاشفة أو الهاتف المجهول أو تحرك بعض العروق لا يدل على التحليل ولا التحريم لإمكانه في نفسه وإلا لو حضر ذلك حاكم أو غيره لكان يجب عليه أو يندب البحث عنه حتى يستخرج من يد واضعة بين أيديهم إلى مستحقه ولو هتف هاتف بأن فلانا قتل المقتول الفلاني أمر أخذ مال فلان أو زنى أو سرق أكان يجب عليه العمل بقوله ؟ و يكون شاهدا في بعض الأحكام ؟ شرعي ؟ هذا مما لا يعهد في الشرع مثله
ولذلك قال العلماء : لو أن نبيا من الأنبياء ادعى الرسالة وقال : إنني إن أدع هذه الشجرة تكلمني ثم دعاها فأتت وكلمته وقالت : إنك كاذب لكان ذلك دليلا على صدقة لا دليلا على كذبه لأنه تحدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه وكون الكلام تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن مقتضى الدعوى لا حكم له
فكذلك نقول في هذه المسألة : إذا فرضنا أن انقباض العرق لازم لكون الطعام حراما لا يدل ذلك على أن الحكم بالأمساك عنه إذا لم يدل عليه دليل معتبر في الشرع معلوم
فكذلك مسألة الخواص فإن التوقي من مظان المهلكات مشروع فخلافه يظهر أنه خلاف المشروع وهو معتاد في أهل هاته الطريقة
وكذلك كلام الشجرة للشبلي من جملة الخوارق وبناء الحكم عليه غير معهود
ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة حتى إن شيخهم الذي مهد لهم الطريقة أبا القاسم القشيري قال في باب وصية المريدين من رسالته : إن اختلف على المريد فتاوى الفقهاء يأخذ بالأحوط ويقصد أبدا الخروج عن الخلاف فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال وهؤلاء الطائفة ـ يعني الصوفية ـ ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه ولهذا قيل : إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عقده ونقص عهده فيما بينه وبين الله
فهذا الكلام ظاهر في أنه ليس من شأنهم الترخص في مواطن الترخص المشروع وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين فالتزام العزائم مع وجود مضار الرخص التيي قال فيها رسول الله عليه وسلم :
[ إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ] فيه ما فيه وظاهره أنه بدعة استحسنوها قمعا للنفس عن الاسترسال في الميل إلى الراحة وإيثارا إلى ما يبني عليه من المجاهدة
ومن ذلك


الباب الرابع في مأخذ أهل البدع بالاستدلال كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصات مسائلهم وإلا كذب اطراحها دعواهم بل كل مبتدع من هذه الأمة إما أن تدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فلا يمكنه الرجوع إلى التعلق بشبهها وإذا رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها كما كان السلف الأول يأخذونها إلا أن هؤلاء ـ كما يتبين بعد ـ لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية وإما لعدم الأمرين جميعا فبالحري أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين
وإذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ لكي تحذر وتتقى فنقول :
قال الله سبحانه وتعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو على طريق الخطأ
أحدهما : الراسخون في العلم وهم الثابتو الأقدام في علم الشريعة ولما كان ذلك متعذرا إلا على من حصل الأمرين المتقدمين لم يكن بد من المعرفة بهما معا على حسب ما تعطيه المنة الإنسانية وإذ ذاك يطلق عليه ( أنه راسخ في العلم ) ومقتضى الآية مدحه فهو إذا أهل للهداية والاستنباط
وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه فإذا لا يتبعون إلا المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه
فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح وما سواه فاسد إذ ليس بين الصحيح والفاسد واسطة في الأدلة يستند إليها وإذ لو كان ثم ثالث لنصت عليه الآية
ثم لما خص الزائغون بكونهم يتبعون المتشابه أيضا علم أن الراسخين لا يتبعونه فإن تأولوه فبالرد إلى المحكم بأن أمكن حمله على المحكم بمقتضى القواعد فهذا المتشابه الإضافي لا الحقيقي وليس في الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين فليرجع عندهم إلى المحكم الذي هو أم الكتاب وإن لم يتأولوه بناء على أنه متشابه حقيقي فيقاتلون بالتسليم وقولهم : { آمنا به كل من عند ربنا } وهؤلاء هم أولو الألباب
وكذلك ذكر في أهل الزيغ أنهم يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة فهم يطلبون به أهواءهم لحصول الفتنة فليس في نظرهم إذا في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه بل نظر من حكم بالهوى ثم أتى بالدليل كالشاهد له ولم يذكر مثل ذلك في الراسخين فهم إذن بضد هؤلاء حيث وقفوا في المتشابه فلم يحكموا فيه ولا عليه سوى التسليم وهذا المعنى خاص بمن طلب الحق من الأدلة لا يدخل فيه من طلب في الأدلة ما يصحح هواه السابق
ولاقسم الثاني : من ليس براسخ في العلم وهو الزائغ فحصل له من الأدلة وصفان :
أحدهما بالنص وهو الزيغ لقوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } والزيغ هو الميل عن الصراط المستقيم وهو ذم لهم
والوصف الثاني بالمعنى الذي أعطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ في العلم وكل منفي عنه الرسوخ فإلى الجهل ما هو مائل ومن جهة الجهل حصل له الزيغ لأن من نفي عنه طريق الاستنباط واتباع الأدلة لبعض الجهالات لم يحل له أن يتبع الأدلة المحكمة ولا المتشابهة ولو فرضنا أنه يتبع المحكم لم يكن اتباعه مفيدا لحكمه لإمكان أن يتبعه على وجه واضح البطلان أو متشابه فما ظنك به إذا اتبع المتشابه
ثم اتباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة الاسترشاد به لا للفتنة به ـ لم يحصل به مقصودا على حال فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة ؟ وهكذا المحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به فكثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيح اقتصارا بالنظر على دليل ما واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له
وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض أو أعرض عن غرض له عرض في الفتيا كجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا على طريقة من عز بز لا طريقة الشرع بناء على نقل بعض العلماء أنه يجوز تنفيل السرية جميع ما غنمت ثم عزا ذلك ـ وهو مالكي المذهب ـ إلى مالك حيث قال في كلام روي عنه : ما نفل الإمام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصا على جواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنم ولم يلتفت في النفل إلى أن السرية هي القطعة من الجيش بعينه ولا التفت أيضا إلى أن النفل عند مالك لا يكون إلا من الخمس لا اختلاف عنه في ذلك أعلمه ولا عن أحد من أصحابه فما نفل الإمام منه فهو جائز لأنه محمول على الاجتهاد
وكذلك الأمر في كل مسألة فيها الهوى أولا ثم يطلب لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع وكلام العرب أبدا لاتساعه وتصرفه واحتمالاتها كثيرة لكن يعلم الراسخون المراد منه من أوله إلى آخره وفحواه أو بساط حاله أو قرائنه فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابتنى عليه زل في فهمه وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض فيوشك أن يزل وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه
فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجري على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد البتة


فصل إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر فنقول :
إن للراسخين طريقا يسلكونها في اتباع الحق وأن الزائغين على طريق غير طريقهم فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها وقد بين ذلك أهل أصول الفقه وبسطوا القول فيه ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين فهل يمكن حصر مآخذها أو لا ؟ فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين وهي قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة وأن للباطل طرقا متعددة لا واحدة وتعددها لم يحص بعدد مخصوص وهكذا الحديث المفسر للآية وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه
[ خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا فقال : هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ] ثم تلا هذه الآية
ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل ولا لنا أيضا سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء
أما العقل فإنه لا يقضي بعدد دون آخر لأنه غير راجع إلى أمر محصور ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات ؟ ووجوه الجهل لا تنحصر فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة
وأما الاستقراء فغير نافع أيضا في هذا المطلب لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت وجدناها تزداد على الأيام ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث إلى زماننا هذا
وإذا كان كذلك فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا يها فيما تقدم لا سيما عند كثرة الجهل وقلة العلم وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد فلا يمكن إذا حصرها من هذا الوجه ولا يقال : إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق فإن أوجه المخالفة لا تنحصر أيضا
فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها
فمنها : اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه و سلم والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها
وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن لإلحاقه عند المحدثين بالصحيح لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرحه متفق عليها وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلا من حيث ألحق بالصحيح في أن المتروك ذكره كالمذكور والمعدل فأما ما دون ذلك فلا يؤخذ به بحال عند علماء الحديث
ولو كان من شأن أهل الإسلام إذا يبين ( ؟ ) عنه الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى مع أنهم قد أجمعوا على ذلك ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل فلذلك جعلوا الإسناد من الدين ولا يعنون حدثني فلان عن فلان مجردا بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين براويته عنهم حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا منهم إلا عمن تحصل الثقة بروايته لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه و سلم لنعتمد عليه في الشريعة ونسند إليه الأحكام
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها فلا يمكن أن يسند إليها حكم فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب ؟
نعم الحامل على اعتمادها في الغالب إنما هو ما تقدم من الهوى المتبع وهذا كله على فرض أن لا يعارض الحديث أصل من أصول الشريعة وأما إذا كان له معارض فأجرى أن لا يؤخذ به فهو هدم لأصل من أصول الشريعة والإجماع على منعه إذا كان صحيحا في الظاهر وذلك دليل على الوهم من بعض الرواة أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان فما الظن به إذا لم يصح ؟ على أنه قد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال : الحديث الضعيف خير من القياس وظاهره يقتضي العمل بالحديث غير الصحيح لأنه قدمه على القياس المعمول به عند جمهور المسلمين بل هو إجماع السلف رضي الله عنهم فدل على أنه عنده أعلى رتبة في العمل من القياس
والجواب عن هذا : أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب إذ ليس له على ذلك دليل يقطع العذر وإن سلم فيمكن حمله على خلاف ظاهره لإجماعهم على طرح الضعيف الإسناد فيجب تأويله على أن يكون أراد به الحسن السند وما دار به على القول بإعماله أو أراد خير من القياس لو كان مأخوذا به فكأنه يرد القياس بذلك الكلام مبالغة في معارضة من اعتمده أصلا حتى رد به الأحاديث وقد كان رحمه الله تعالى يميل إلى نفي القياس ولذلك قال : ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنونا حتى جاء الشافعي فخرج بيننا أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع ففضل عليه الحديث الضعيف وإن لم يعمل به وأيضا فإذا أمكن أن يحمل كلام أحمد على ما يسوغ لم يصح الاعتماد عليه في معارضة كلام الأئمة رضي الله عنهم
فإن قيل : هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحيح فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد كذلك نصوا أيضاعلى أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للإعتماد صحة الإسناد بل إن كان ذلك فبها ونعمت وإلا فلا حرج على من نقلها واستند إليها فقد فعله الأئمة كـ مالك في الموطأ و ابن المبارك في رقائقه و أحمد بن حنبل في رقائقه و سفيان في جمع الخير وغيرهم
فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب وإذا جاز اعتماد مثله جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه كصلاة الرغائب والمعراج وليلة النصف من شعبان وليلة أول جمعة من رجب وصلاة الإيمان والأسبوع وصلاة بر الوالدين ويوم عاشوراء وصيام رجب والسابع والعشرين منه وما أشبه ذلك فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح فالصلاة على الجملة ثابت أصلها وكذلك الصيام وقيام الليل كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص
وإذا ثبت هذا فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث فهو من باب الترغيب فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد بخلاف الأحكام
فإذا هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ حيث فرقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك
فالجواب : أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة وبيانه : أن العمل المتكلم فيه إما أن يكون منصوصا على أصله جملة وتفصيلا أو لا يكون منصوصا عليه لا جملة ولا تفصيلا أو يكون منصوصا عليه جملة لا تفصيلا
فالأول : لا إشكال في صحته كالصلوات المفروضات والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها وكالصيام المفروض أو المندوب على الوجه المعروف إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان كصيام عاشوراء أو يوم عرفة والوتر بعد نوافل الليل وصلاة الكسوف فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحا على ما شرطوا فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها أو تحذير من ترك الفرض منها وليست بالغة مبلغ الصحة ولا هي أيضا من الضعف بحيث لا يقبلها أحد أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح
والثاني : ظاهر أنه غير صحيح وهو عين البدعة لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأي المبني على الهوى وهو أبدع البدع وأفحشها كالرهبانية المنفية عن الإسلام والخصاء لمن خشي العنت والتعبد بالقيام في الشمس أو بالصمت من غير كلام أحد فالترغيب في مثل هذا لا يصح إذ لا يوجد في الشرع ولا أصل له يرغب في مثله أو يحذر من مخالفته
والثالث : ربما يتوهم أنه كالأول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة فمطلق التنفل بالصلاة مشروع فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة وكذلك إذا ثبت أصل صيام ثبت صيام السابع والعشرين من رجب وما أشبه ذلك وليس كما توهموا لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم غثباته في التفصيل فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك حتى يثبت بالفصيل بدليل صحيح ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثايت بالدليل الصحيح
وليس فيما ذكر في السؤال شيء من ذلك إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلي والنهاري في الجملة وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة يقرأ في كل لاكعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلاني حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص ليس في شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام
والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص كما ثبت لعاشوراء مثلا أو لعرفة أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصلاة النافلة لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف في الجملة وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة التي قبله فهو أمر زائد على مطلق المشروعية ومساقه يفيد له مزية في الرتبة وذلك راجع إلى الحكم
فإذا هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناء على قولهم : إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بد فيها من الزيادة على المشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما فليزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح وهو ناقض لما أسسه العلماء
ولا يقال : إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط لأنا نقول : هذا تحكم من غير دليل بل الأحكام خمسة فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في أحاديث الترغيب والترهيب ولا عليك فعلى كل تقدير : كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر وإن لم يثبت إلا من
أقسام الكتاب/1234 ....  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق