الثلاثاء، 8 فبراير 2022

ج 2/طريق الهجرتين وباب السعادتين/2..

ويكي مصدر *
ج 2/طريق الهجرتين وباب السعادتين/2 
طريق الهجرتين وباب السعادتين


وفصل الخطاب فى هذه المسألة يظهر بمسأَلة يرتضع معها من لبانها ويخرج من مشكاتها.

وهى أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه ثم تاب من ذنبه هل يعود إلى مثل ما كان؟ أو لا يعود، بل إن رجع رجع إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟ فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأُولى فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا محى أثر الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأَنه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله. قالوا: ولأَن التوبة هى الرجوع إلى الله بعد الإباق منه، فإن المعصية إباق العبد من ربه، فإذا تاب إلى الله فقد رجع إليه وإذا كان مسمى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأُولى مع الله لم تكن توبته تامة، والكلام إِنما هو فى التوبة النصوح.

قالوا: ولأن التوبة كما ترفع أثر الذنب فى الحال بالإقلاع عنه وفى المستقبل بالعزم على أن لا يعود فكذلك ترفع أثره فى الماضى جملة، ومن أَثره فى الماضى انحطاط منزلته عند الله ونقصانه عنده، فلابد من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله.

قالوا: ولأَنه لو بقى نازلاً من مرتبته منحطاً عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها لم تكن التوبة قد محت أثر الذنب ولا أفادت فى الماضى شيئاً، وإِن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إنما كان بالتوبة فلو ضعف تأْثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأُولى لضعف عن تبليغه تلك المنزلة التى وصل إليها، وإن لم تكن التوبة ضعيفة التأْثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأْثير عن إِعادته إلى المنزلة الأولى.

قالوا: وأيضاً ربط [فالله سبحانه ربط] الجزاء بالأعمال ربط الأسباب بمسبباتها، فالجزاء من جنس العمل، فكما رجع التائب إلى الله بقلبه رجوعاً تاماً رجع الله عليه بمنزلته وحاله، بل ما رجع العبد إلى الله حتى رجع [الله] بقلبه إليه أولاً فرجع الله إليه وتاب عليه ثانياً، فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله: توبة منه إذناً وتمكيناً فتاب بها العبد، وتاب الله عليه قبولاً ورضى. فتوبة العبد بين توبتين من الله، وهذا يدل على عنايته سبحانه وبره ولطفه بعبده التائب، فكيف يقال: إنه لا يعيده مع هذا اللطف والبر إلى حاله؟ قالوا: وأيضاً فإن التوبة من أجلِّ الطاعات وأوجبها على المؤمنين: وأعظمها عناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كل شئ، وهى من أحب الطاعات إلى الله [سبحانه] فإنه يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، وإذا كانت بهذه المثابة فالآتى بها آت بما هو أفضل القربات وأجل الطاعات، فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاط ونزول مرتبة فبالتوبة يحصل [له] مزيد تقدم وعلو درجة، فإن لم تكن درجته بعد التوبة أعلى فإنها لا تكون أنزل.

قالوا: وأيضاً فإنا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الحاصل من التوبة [أرجح من الأثر الحاصل من المعصية والكلام إنما هو فى التوبة] النصوح الكاملة، وجانب [العدل ولهذا كان من جانب العدل آحاد بآحاد وجانب] الفضل أرجح من جانب الفضل آحاد بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدل على رجحان جانب الفضل وغلبته، وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة فإن رحمة الرب تغلب غضبه.

قالوا: وأيضاً فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية، والعبد إذا مرض ثم عوفى وتكاملت عافيته رجعت صحته إلى ما كانت، بل ربما رجعت أقوى وأكمل مما كانت عليه، لأنه ربما كان معه فى حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتل ظهرت تلك الأسقام ثم زالت بالعافية جملة فتعود قوته خيراً مما كانت وأكمل، وفى مثل هذا قال الشاعر:

لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل




وهذا الوجه هو أحد ما احتج به من قال: أنه يعود خيراً بالتوبة مما كان قبل التوبة واحتجوا لقولهم أيضاً بأن التوبة تثمر للعبد محبة من الله خاصة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط فى حصولها، وإن حصل له محبة أُخرى بغيرها من الطاعات فالمحبة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإن الله يحب التوابين، ومن محبته لهم فرحه بتوبة أحدهم أعظم فرح وأكمله، فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة ورجع بها إلى طاعاته التى كان عليها أولاً انضم أثرها إلى أثر تلك الطاعات فقوى الأثران فحصل له المزيد من القرب والوسيلة وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذى كان له منه قبل الجناية، واحتجوا فى ذلك بأثر إسرائيلى مكذوب أن الله قال لداود عليه السلام: يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود.

وهذا كذب قطعاً، فإن الود يعود [بعد] التوبة النصوح أعظم مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبته، وأيضاً فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم [فرح] وأكمله وهو لا يحبه.

وتأمل سر اقتران هذين الاسمين فى قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْودُود }* [البروج: 13- 14] تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: لا يعود الود والمحبة منه لعبده أبداً، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يهيج القلب السليم ويأْخذ بمجامعه ويجعله عاكفاً على ربه- الذى لا إله إلا هو ولا رب له سواه- عكوف المحب الصادق على محبوبه الذى لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبداً.

واحتجوا أيضاً بأن العبد قد يكون بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة لأن الذنب يحدث له من الخوف والخشية والانكسار والتذلل لله والتضرع بين يديه والبكاء على خطيئته والندم عليها والأسف [والإشفاق] ما هو من أفضل أحوال العبد وأنفعها له فى دنياه وآخرته، ولم تكن هذه الأُمور لتحصل بدون أسبابها إذ حصول الملزوم بدون لازمة محال، والله يحب من عبده كسرته وتضرعه وذله بين يديه واستعطافه وسؤاله أن يعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن جرمه وخطيئته، فإذا قضى عليه بالذنب فترتبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن.

ولهذا قال بعض السلف:

@لو لم تكن التوبة أحب الأشياءِ إليه لما أصاب بالذنب أكرم الخلق عليه.

وقيل: إن فى بعض الآثار يقول الله تعالى لداود عليه السلام: يا داود، كنت تدخل على دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل على دخول العبيد على الملوك.

قالوا: وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا: ولهذا قال سبحانه: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِنْدَنَا لزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }* [سورة ص: 25]، فزاده على المغفرة أمرين: الزلفى وهى درجة القرب منه وقد قال فيها سلف الأُمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف. والثانى: حسن المآب وهو حسن المنقلب وطيب المأْوى عند الله. قالوا: ومن تأمل زيادة القرب التى أعطيها داود بعد المغفرة علم صحة ما قلنا، وأن العبد بعد التوبة يعود خيراً مما كان.

قالوا: وأيضاً فإن للعبودية لوازم وأحكاماً وأسراراً وكمالات لا تحصل إلا بها ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم، فإن الله سبحانه يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هى حقيقة العبودية واشتقاقها يدل على ذلك، فإن العرب تقول: طريق معبَّد أى مذلل بوطءِ الأقدام.

والذل أنواع: أكملها ذل المحب لمحبوبه، الثانى: ذل المملوك لمالكه، الثالث: ذل الجانى بين يدى المنعم عليه المحسن إليه المالك له، الرابع: ذل العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدى القادر عليها التى هى فى يده وبأمره.

وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذل له فى أن يجلب له ما ينفعه. والثانى: ذل له فى أن يدفع [عنه] ما يضره على الدوام. ويدخل فى هذا ذل المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن.

فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفاها العبد حقها وشهدها كما ينبغى وعرف ما يراد به منه وقام بين يدى ربه مستصحباً لها شاهداً لذله من كل وجه ولعزة ربه وعظمته وجلاله كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره.

قالوا: وهذه أسرار لا تدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضره أَن يخلى المطى وحاديها، ويعطى القوس باريها.

فللكثافة أَقوام لها خلقوا وللمحبة أَكباد وأجفان

قالوا: وأيضاً فقد ثبت عن النبى ﷺ أنه قال: ((للهُ أَشدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم [ضل] راحلته))، قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهى مركبه الذى يقطع به مسافة سفره، فلو عدمه لانقطع فى طريقه فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه. ثم إنه عدمها فى أرض دوّية لا أَنيس بها ولا معين ولا من يأْوى له ويرحمه ويحمله ثم إنها مهلكة لا ماءَ بها ولا طعام، فلما أَيس من الحياة بفقدها وجلس ينتظر الموت، إذا هو براحلته قد أشرفت عليه ودنت منه، فأَى فرحة تعدل فرحة هذا؟ ولو كان فى الوجود فرح أعظم من هذا لمثل به النبى ﷺ، ومع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاءُ، فإِن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادى الخفا وهو وادى المحرّفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو واد قد سلكه خلق وتفرقوا فى شعابه وطرقه ومتاهاته ولم تستقر لهم فيه قدم ولا لجؤوا منه إلى ركن وثيق، بل هم كحاطب الليل وحاطم السيل.

مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى بأحسن عبارة وأوجزها، فكيف يليق به أَنْ يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكال المزيل للإجمال، ويوقع الأُمة فى أودية التأْويلات شعاب الاحتمالات والتجويزات، سبحانك هذا بهتان عظيم.

وهل قدر الرسول حق قدره أو مرسله حق قدره من نسب كلامه سبحانه أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته يحيل عليه أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرفون للكلم عن مواضعه المتأولون له غير تأْويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجى. والحمد لله رب العالمين.

فإن قلت: فهل من مسلك غير هذا الوادى الذى ذممته فنسلك فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلت: نعم، بحمد الله [الطريق واضحة المنار بينة الأعلام مضيئة للسالكين وأولها أن تحذف خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفات رب العالمين] فإن هذه العقدة هى أصل بلاء الناس، فمن حلها فما بعدها أيسر منها، ومن هلك بها فما بعدها أشد منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الرب ونعوت جلاله إلا لسبق نظره الضعيف إليها واحتجاجه بها عن أصل الصفة وتجردها عن خصائص المحدث، فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها فيظن القاصر إذا رأى ذلك اللازم فى المحل المحدث أنه لازم لتلك الصفة مطلقاً فهو يفر من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرد فى ظنه عن ذلك اللازم، وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح والمحبة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض، وردها كلها إلى الإرادة، فإنه فهم فرحاً مستلزماً لخصائص المخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضباً هو غليان دم القلب طلباً للانتقام، وكذلك فهم محبة ورضى [وكرهة] ورحمة مقرونة بخصائص المخلوقين [فإن] ذلك هو السابق إلى فهمه، وهو المشهود فى علمه الذى لم تصل معرفته إلى سواه ولم يحط علمه بغيره.

ولما كان [ذلك] هو السابق إلى فهمه لم يجد بداً من نفيه عن الخالق، والصفة لم تتجرد فى عقله عن هذا اللازم فلم يجد بداً من نفيها.

ثم لأصحاب هذه الطريق مسلكان: أحدهما: مسلك التناقض البين، وهو إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال، بل يثبتها مجردة عن خصائص المخلوق- كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها- فإِن كان إثبات تلك الصفات التى نفاها يستلزم [المحذور] الذى فرّ منه فكيف لم يتسلزم إثبات ما أثبته وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذوراً فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟ وهل فى التناقض أعجب من هذا؟

والمسلك الثانى: [مسلك النفى العام والتعطيل المحض هرباً من التناقض والتزاماً] لأعظم الباطل وأمحل المحال، فإذا الحق المحض فى الإثبات المحض الذى أثبته الله لنفسه فى كلامه وعلى لسان رسوله من غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تبديل ومنشأ غلط المحرّفين إنما هو ظنهم أن ما يلزم الصفة فى المحل المعين يلزمها لذاتها، فينفون ذلك اللازم عن الله، فيضطرون فى نفيه إلى نفى الصفة، ولا ريب أن الأمور ثلاثة: أمر يلزم الصفة لذاتها من حيث هى، فهذا لا يجب- بل لا يجوز- نفيه، كما يلزم العلم والسمع والبصر من تعلقها بمعلوم ومسموع ومبصر فلا يجوز نفى هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ لا تحقق لها بدونها، وكذلك الإرادة [مثلاً] تستلزم العلم لذاتها فلا يجوز نفى لازمها عنها، وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفى لوازمها، وكذلك كون المرئى مرئياً حقيقة له لوازم لا ينفك عنها ولا سبيل إلى نفى تلك اللوازم إلا بنفى الرؤية، وكذلك الفعل الاختيارى له لوازم لا بد فيه منها، فمن نفى لوازمه نفى الفعل الاختيارى ولا بد.

ومن هنا كان أهل الكلام أكثر الناس تناقضاً واضطراباً فإنهم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه، ويثبتون الشيء وينفون لازمه، فتتناقض أقوالهم وأدلتهم، ويقع السالك خلفهم فى الحيرة والشك.

ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشك والحيرة، حاشى من هو فى خفارة بلادته منهم، أو من قد خرق تلك الخيالات وقطع تلك الشبهات وحكم الفطرة والشرعة والعقل المؤيد بنور الوحى عليها فنقدها نقد الصيارف فنفى [زغلها]، وعلم أن الصحيح منها إما أن يكون قد تولت النصوص بيانه، وإما أن يكون فيها غنية عنه بما هو خير منه وأقرب طريقاً وأسهل تناولاً، ولا يستفيد المؤمن- البصير بما جاء به الرسول العارف به- من المتكلمين سوى مناقضة بعضهم بعضاً ومعارضته وإبداء بعضهم عوار بعض ومحاربة بعضهم بعضاً، فيتولى بعضهم محاربة بعض ويسلم ما جاء به الرسول.

فإذا رأى المؤمن العالم الناصح لله ولرسوله أحدهم قد تعدى إلى ما جاء به الرسول يناقضه ويعارضه [ويضاده] فليعلم أنهم لا طريق لهم إلى ذلك أبداً، ولا يقع ردهم إلا على آراءِ أمثالهم وأشباههم. وأما [ما] جاء به الرسول فمحفوظ محروس مصون من تطرق المعارضة والمناقضة إليه فإن وجدت شيئاً من ذلك فى كلامهم فبدار بدار إلى إِبداء فضائحهم وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم وتبيين كذبهم على العقل والوحى، فإنهم لا يردون شيئاً مما جاءَ به الرسول إلا بزخرف من القول يغتر به ضعيف العقل والإيمان، فاكشفه ولا تهن، تجده كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءَه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب، ولولا أَن كل مسائل القوم وشبههم التى خالفوا فيها النصوص بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقر به عيون أهل الإِيمان السائرين إلى الله على طريق الرسول ﷺ وأصحابه، وإن وفق الله سبحانه جردنا لذلك كتاباً مفرداً، وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية [قدس الله روحه ونور ضريحه] هذا المقصد فى عامة كتبه، لا سيما كتابه الذى وسمه ببيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح، فمزق فيه شملهم كل ممزق، وكشف [فيه] أسرارهم وهتك أَستارهم، فجزاه الله عن الإسلام وأَهله من أفضل الجزاء.

واعلم أنه لا ترد شبهة صحيحة قط على ما جاءَ به الرسول، بل الشبهة التى يوردها أهل البدع والضلال على أهل السُّـنَّة لا تخلو من قسمين: إما أن يكون القول الذى أُوردت عليه ليس من أقوال الرسول بل تكون نسبته إليه غلطاً، وهذا لا يكون متفقاً عليه بين أهل السنة أبداً، بل يكون قد قاله بعضهم وغلط فيه، فإن العصمة إنما هى لمجموع الأُمة لا لطائفة معينة منها. [وإما أن يكون القول الذى أوردت عليه قولاً صحيحاً لكن لا ترد تلك الشبهة عليه وحينئذ فلابد لها من أحد أمرين].

وإما أن تكون لازمة، وإما أَلا تكون لازمة. فإن كانت لازمة لما جاء بها الرسول فهى حق لا شبهة، إذ لازم الحق حق، ولا ينبغى الفرار منها كما يفعل الضعفاءُ من المنتسبين إلى السنة، بل كل ما لزم من الحق فهو حق يتعين القول به كائناً ما كان، وهل تسلط أهل البدع والضلال على المنتسبين للسنة إلا بهذه الطريق، ألزموهم بلوازم تلزم الحق فلم يلتزموها ودفعوها وأَثبتوا ملزوماتها، فتسلطوا عليهم بما أَنكروه لا بما أثبتوه فلو أَثبتوا لوازم الحق ولم يفروا منها لم يجد أَعداؤهم إليهم سبيلا، وإن لم تكن لازمة لهم فإلزامهم إياها باطل، وعلى النقدين فلا طريق لهم إلى رد أقوالهم، وحينئذ فلهم جوابان مركب مجمل، ومفرد مفصل.

أما الأول فيقولون لهم: هذه اللوازم التى تلزمونا بها إما أن تكون لازمة فى نفس الأمر، وإما أن لا تكون لازمة، فإن كانت لازمة فهى حق إذ قد ثبت أن ما جاء به الرسول ﷺ فهو الحق الصريح، ولازم الحق حق، وإن لم تكن لازمة فهى مندفعة ولا يجوز إلزامها، وأما الجواب المفصل فيفردون كل إلزام بجواب، ولا يردونه مطلقاً [ولا يقبلونه مطلقاً] بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام ومعانيه، فإن كان لفظها موافقاً لما جاءَ به الرسول ﷺ يتضمن إثبات ما أثبته [أو] ونفى ما نفاه فلا يكون المعنى إلا حقاً، فيقبلون ذلك الإلزام.

وإن كان مخالفاً لما جاء به الرسول ﷺ متضمناً لنفى ما أثبته أو إثبات ما نفاه كان باطلاً لفظاً ومعنى فيقابلونه بالرد.

وإن كان لفظاً مجملاً محتملاً لحق وباطل لم يقبلوه مطلقاً، ولم يردوه مطلقاً حتى يستفسروا قائله ماذا أراد به، فإن أراد معنى صحيحاً مطابقاً لما جاء به الرسول ﷺ قبلوه ولم يطلقوا اللفظ المحتمل إطلاقاً، وإن أراد معنى باطلاً ردوه ولم يطلقوا نفى اللفظ المحتمل أيضاً.

فهذه قاعدتهم التى بها يعتصمون وعليها يعولون. وبسط هذه الكلمات يستدعى أسفاراً لا سفراً واحداً، ومن لا ضياءَ له لا ينتفع بها ولا بغيرها فلنقتصر عليها، ولنعد إلى المقصود فنقول وبالله التوفيق.

فرح الرب سبحانه هذا الفرح العظيم بتوبة عبده إذا تاب إليه هو من ملزومات محبته ولوازمها، أعنى كونه محباً لعباده المؤمنين، محبوباً لهم، وإنما خلق خلقه لعبادته المتضمنة لكمال محبته والخضوع له، ولهذا خلق الجنة والنار، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهذا هو الحق الذى خلق به السماوات والأرض وأنزل به الكتاب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ}* [الحجر: 85]، وقال تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفلا تَذَكّرُونَ} إلى قوله: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَد السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ}* [يونس: 3]، وقوله: {آلَم * اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَى القَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}* [آل عمران: 1- 3].

فهذا أمره وتنزيله مصدره الحق والأول خلقه وتكوينه مصدره الحق أيضاً، فبالحق كان الخلق والأَمر وعنه صدر الخلق والأمر، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}* [الذاريات: 56]، فأخبر سبحانه أن الغاية المطلوبة من خلقه هى عبادته التى أصلها كمال محبته، وهو سبحانه كما أنه يحب أن يعبد، [أو] يحب أن يحمد ويثنى عليه ويذكر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى.

كما قال النبى ﷺ فى الحديث الصحيح: ((لا أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك أثنى على نفسه)).

وفى المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسول الله، إنى حمدت ربى بمحامد فقال: ((إن ربك يحب الحمد))، فهو يحب نفسه ومن أجل ذلك يثنى على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدس نفسه، ويحب من يحبه ويحمده ويثنى عليه. بل كلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثنى عليه.

ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به ولهذا لا يغفر الله [سبحانه] أن يشرك به لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة والتسوية فيها بينه وبين غيره، ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التى [ينقص] بها من عينه [وتنحط] بها مرتبته عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره فى المحبة.

والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات فى حقه، ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب ولم يقربه إليه.

هذا مقتضى الطبيعة والفطرة، أفلا يستحى العبد أن يسوى بين إلهه ومعبوده وبين غيره فى هذه العبودية والمحبة، قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله }* [البقرة: 165]، فأخبر سبحانه أن من أحب شيئاً [من] دون الله كما يحب الله فقد اتخذه نداً، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: { تَالله إِن كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }* [الشعراء: 97- 98]، فهذه تسوية فى المحبة والتألية، لا فى الذات والأفعال والصفات والمقصود أنه سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك، وهذا هو محض الحق الذى به قامت السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذى خلق له فرضى عنه صانعه وبارئه وأحبه إذ كان يحب ويرضى، فإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه وأبق عن مالكه وسيده أبغضه ومقته، لأنه خرج عما خلق له وصار إلى ضد الحال التى هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه وعقوبته بدلاً من رحمته، فكأَنه استدعى من رحمته أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحب، فإنه سبحانه عفوّ يحب العفو، محسن يحب الإحسان، جواد يحب الجود سبقت رحمته غضبه. فإذا أبق منه العبد وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته وعقوبته على إحسانه، وهو سبحانه يحب من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه. وهو بمنزلة عبد السوء الذى يحمل أستاذه من المخلوقين المحسن إليه، الذى طبيعته الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيته، فأُستاذه يحب لطبعه الإحسان، وهو بإِساءَته ولؤمه يكلفه ضد طباعه ويحمله على خلاف سجيته، فإذا راجع هذا العبد ما يحب سيده [إليه وأقبل عليه وأعرض عن عدوه فقد صار إلى الحال التى تقتضى محبة سيده له] وإنعامه عليه وإحسانه إليه، فيفرح به ولا بد أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل [عليه] غاية الكمال والغنى والمجد.

فليتدبر اللبيب وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجد فى طيه من المعارف الإلهية ما لا تتسع له إلا القلوب المهيأَة لهذا الشأْن المخلوقة له، وهذا فرح محسن بر لطيف جواد غنى حميد، لا فرح محتاج إلى حصول [ما يفرح به] متكمل به مستقيل له من غيره، فهو عين الكمال، لازم للكمال، ملزوم له.

وأَلطف من هذا الوجه أن الله سبحانه خلق عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغ َ عَلَيْكُمْ نِعمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }* [لقمان:02].

وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق فقال: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم وحملناهم فِى الْبِرِّ وَالْبَحْرِ وَرزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }* [الإسراء: 70]، [وقال] لصالحيهم وصفوتهم: { إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآل إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين }* [آل عمران: 33]. وقال [تعالى] لموسى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى }* [طه: 41]، واتخذ منهم الخليلين، والخلة أعلى درجات المحبة.

وقد جاء فى بعض الآثار: يقول تعالى: ((ابن آدم خلقتك لنفسى، وخلقت كل شيء لك فبحقى عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له)).

وفى أثر آخر يقول تعالى: ((ابن آدم، خلقتك لنفسى فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبنى تجدنى فإن وجدتنى وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء)).

فالله سبحانه خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم فيما أخبر به على لسان رسوله ﷺ، ليسلموا إليه النفوس التى خلقها له.

وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له مصطفاة عنده، مرضية لديه. وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها، هذا إذا جهل قدرها فى نفسها، فإذا عرف قدر السلعة وعرف مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها علم شأْنها ومرتبتها فى الوجود. فالسلعة أنت، والله المشترى والثمن جنته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه فى دار الأمن والسلام.

والله [سبحانه] لا يصطفى لنفسه إلا أعز الأشياء وأَشْرَفَهَا وأعظمها قيمة. وإذا كان قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً فى جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون فى مصالحه فى يقظته ومنامه وحياته وموته، ثم إنَّ العبد أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه وصالح عدوه ووالاه من دونه وصار من جنده مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه- التى اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه- من عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه ولعنته برحمته ومحبته.

فأى مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدلاً}* [الكهف: 50].

فتأمل ما تحت هذه المعاتبة وما فى طى هذا الخطاب من سوءِ هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزى والهوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إلى العود إلى وليه ومولاه الحق الذى هو أولى به، فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو بمثابة من أَسر له العدو محبوباً له، واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب وجاءَ إلى محبه اختياراً وطوعاً حتى توسد عتبة بابه فخرج المحب من بيته فوجد محبوبه متوسداً عتبة بابه واضعاً خده وذقنه عليها، فكيف يكون فرحه ربه؟ ولله المثل الأعلى.

ويكفى فى هذا المثل الذى ضربه رسول الله ﷺ لمن فتح الله عين قلبه فأبصر ما فى طيه وما فى ضمنه، وعلم أنه ليس كلام مجاز ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلام معصوم فى منطقة وعلمه وقصده وعمله، كل كلمة [منه] فى موضعها ومنزلتها ومقرها لا يتعدى بها عنه ولا يقصر بها.

والذى يزيد هذا المعنى تقريراً أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه، فإن لولا محبة الله له لما جعل محبته فى قلبه، [فلما أحبه] ألهمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها فإنه من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه مشياً أتاه هرولة.

وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذى يحبه فوق محبة العبد له. [فإذا] تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذى فر من محبه وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله، والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل، فلو لم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان فى الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت للشريعة المنزلة إلى [الفطرة المكملة إلى العقل الصحيح] المنور، فذلك الذى لا غاية له بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.

فصل

ومتى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التى يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذة التى تحصل له، والجزاءُ من جنس العمل.

فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أَعقبه فرحاً عظيماً. وهاهنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه فى هذا الشأْن. وهى أن كل تائب لا بد له فى أول توبته من عصرة وضغطة فى قلبه من هم أَو غم أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تأَلمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره، فأَكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه [المحنة].

والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم، ولذلك أسباب عديدة: منها أن هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميتاً واستعداده ضعيفاً لم يحصل له ذلك..

وأيضاً فإن الشيطان لص الإيمان، واللص إنما يقصد المكان المعمور، وأما المكان الخراب الذى لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن فى قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه.

وأيْضاً فإن قوة المعارض والمضاد تدل على قوة معارضة وضده، ومثل هذا إما أن يكون رأساً فى الخير أو رأساً فى الشر، فإن النفوس الأبية القوية إن كانت خيرة رأست فى الخير، وإن كانت شريرة رأست فى الشر.

وأيضاً فإن بحسب موافقته لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب زيادة انشراحه وطمأنينته. وأيضاً فإنه كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه، هذه سنة الله فى الخلق.

فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التى حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها، وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه والإنابة إليه والتبتل إليه وحده والأُنس به واتخاذه ولياً ووكيلاً [وكافياً] وحسيباً هل يكتسب العبد شيئاً أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه، والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقه وجمعيته وحظه من ربه، والمطلوب منهم وراءَ ذلك كله.

والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجل الأُمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن، ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاءُ ويتميز من يصلح ممن لا يصلح، قال تعالى: {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}* [العنكبوت: 1- 3]، وقال: {لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}* [الملك: 2]، ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأُنس وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.

والمقصود أن هذا الفرح من الله بتوبة عبده- مع أنه لم يأْت نظيره فى غيرها من الطاعات- دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، فهذا بعض ما احتج به لهذا القول.

وأما الطائفة التى قالت: لا يعود إلى مثل ما كان، بل لا بد أن ينقص حاله، فاحتجوا بأن الجناية توجب الوحشة وزوال المحبة ونقص العبودية بلا ريب.

فليس العبد الموفر أوقاته على طاعة سيده كالعبد المفرط فى حقوقه، وهذا مما لا يمكن جحده ومكابرته، فإذا تاب إلى ربه ورجع إليه أثرت توبته برك مؤاخذته بالذنب والعفو عنه، وأَما مقام القرب والمحبة فهيهات أن يعود.

قالوا: ولأن هذا فى زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السير إلى الله، فلو كان واقفاً فى موضعه لفاته التقدم فكيف وهو فى زمن المعصية كان سيره إلى وراءَ وراء؟ فإذا تاب واستقبل سيره، فإنه [يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافة حتى يصل إلى الوضع الذى] تأخر منه. قالوا: ونحن لا ننكر أنه قد يأْتى بطاعات وأعمال تبلغه إلى منزلته [وإنما انكرنا أن يكون بمجرد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته]، وهذا مما لا يكون فإنه بالتوبة قد وجه وجهه إلى الطريق، فلا يصل إلى مكانه الذى رجع منه إلا بسير مستأْنف يوصله إليه، ونحن لا ننكر أن العبد بعد التوبة يعمل أعمالاً عظيمة لم يكن ليعملها قبل الذنب توجب له التقدم.

قالوا: وأيضاً، فلو رجع إلى حاله التى كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالاً منه، فكيف يكون هذا، وأين مسير صاحب الطاعة فى زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقى رجلان أحدهما سائر نحو المشرق والآخر نحو المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر والآخر مجدٌ على سيره، فإنه لا يزال سابقه ما لم يعرض له فتور أو توان؟ هذا مما لا يمكن جحده ودفعه.

قالوا: وأيضاً فمرض القلب بالذنوب على مثل مرض الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ، والمريض إذا شرب الدواءَ وصح فإنه لا تعود إليه قوته قبل المرض، وإنْ عادت فبعد حين.

قالوا: وأيضاً فهذا فى زمن معالجة التوبة ملبوك فى نفسه، مشغول بمداوتها ومعالجتها، وفى زمن الذنب مشغول بشهواتها، والسالم من ذلك مشغول بربه قد قرب منه فى سيره فكيف يلحقه هذا؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة لقولها.

وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية، فسمعته يحكى هذه الأَقوال الثلاثة حكاية مجردة، فإما سألته وإما سئل عن الصواب منها، فقال: الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود إلى أكمل منها، [مما كانت]، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان. فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة وأشد حذراً وأعظم تشميراً وأعظم ذلاً وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان، وإن كان قبل الخطيئة أكمل فى هذه الأُمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه، وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته. هذا معنى كلامه [رضى الله عنه].

قلت: وهاهنا مسألة هذا الموضع أخص المواضع ببيانها، وهى أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً، فهل تمحى تلك السيئات ويذهب لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه من المفسرين وغيرهم قديماً وحديثاً، فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.

قال ابن عطية: يجعل أَعمالهم بدل معاصيهم الأُولى طاعة، فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو فى يوم القيامة، قال: وقد ورد حديث فى كتاب مسلم من طريق أبى ذر يقتضى أن الله سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذى والطبرى، وهذا تأْويل سعيد بن المسيب فى هذه الآية. قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو، هذا آخر كلامه.

قلت: سيأتى إن شاء الله ذكر الحديث بلفظه والكلام عليه. قال المهدوى: وروى معنى هذا القول عن سلمان الفارسى وسعيد بن جبير وغيرهما. وقال الثعلبى: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: {يبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}* [الفرقان: 70] يبدلهم الله بقبيح أعمالهم فى الشرك محاسن الأعمال فى الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصاناً. وقال آخرون: يعنى يبدل الله سيئاتهم التى عملوها فى حال إسلامهم حسنات يوم القيامة.

وأصل القولين أن هذا التبديل هل هو فى الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال: إنه فى الدنيا قال: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها، وهى حسنات، وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة لا تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفِّر ويذهب أثرها فأما أن تنقلب حسنة فلا، فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب فكيف تنقلب محبوبة مرضية.

قالوا: وأيضاً فالذى دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله تعالى: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}* [آل عمران: 193]، وقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}* [الشورى: 30] [المائدة: 15] وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}* [الزمر: 53]، والقرآن مملوءٌ من ذلك.

وفى الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله ﷺ يقول فى النجوى؟ قال: سمعته يقول: ((يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، قال: فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل))، فهذا الحديث المتفق عليه الذى تضمن العناية بهذا العبد إنما فيه ستر ذنوبه عليه فى الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة.

فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها، وقد قال الله فى حق الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَْحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ}* [الزمر: 35]، فهؤلاء خيار الخلق، وقد أخبر أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم، ويجزيهم بأحسن ما يعملون، وأحسن ما عملوا [إنما هو الحسنات لا السيئات فدل على أن الجزاء بالحسنى] إنما يكون على الحسنات وحدها، وأما السيئات [فإن فحسبها أن] تلغى ويبطل أثرها، قالوا: وأيضاً فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات فى حق التائب لكان أحسن حالاً من الذى لم يرتكب منها شيئاً وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساءَ شاركه فى حسناته التى فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه، وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئته له؟

قالوا: وأيضاً فكما أن العبد إذا فعل حسنات، ثم أتى بما يحبطها فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها، فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات. فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، [لم ننازعكم] فى هذا، وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضى ثواباً وجودياً.

واحتجت الطائفة الأخرى التى قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة.

وهذا إنما يكون فى السيئة المحققة وهى التى قد فعلت ووقعت، فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأُثبت مكانها حسنة قالوا: ولهذا قال تعالى: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}* [الفرقان: 70]، فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم [لأنها] من غير صنعهم وكسبهم، بل هى مجرد فضل الله وكرمه.

قالوا: وأيضاً فالتبديل فى الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم، فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات، والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها كما قال الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ}* [البقرة: 59] وأما ما كان من غير الفاعل فإنه يجعله من تبديله هو كما قال الله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ}* [سبأ: 16]، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذى يبدل سيئاتهم حسنات دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاءَ أنفسهم، وإن كان سببه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.

قالوا: ويدل عليه ما رواه مسلم فى صحيحه من حديث الأعمش عن المعرور ابن سُويد عن أبى ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ((إنى لأعلم آخر أهل الْجَنَّة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها: رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أْن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياءَ لا أراها [هاهنا]))، فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبى ذر قال: قال رسول الله ﷺ: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، قال: فتعرض عليه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا؟ وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبار، فيقال: اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، قال: فيقول: إن لى ذنوباً ما أراها))، فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه.

قالوا: وأيضاً فروى أبو حفص المستملى عن محمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة، حدثنا الفضل بن موسى القطيعى عن أبى العنبس عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات))، قيل: من هم؟ قال: ((الذين بدل سيئاتهم حسنات)).

قالوا: وهؤلاء هم الأبدال فى الحقيقة، فإنهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التى عملوها حسنات، قالوا: وأيضاً فالجزاءُ من جنس العمل، فكما بدلوهم أَعمالهم السيئة بالحسنة بدلها الله من صحف الحفظة حسنات جزاءً وفاقاً.

قالت الطائفة الأُولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبى ذر على صحة قولكم وهو صريح فى أن هذا الذى قد بدلت سيئاته حسنات قد عذب عليها فى النار حتى كان آخر أهلها خروجاً منها؟ فهذا قد عوقب على سيئاته فزال أثرها بالعقوبة، فبدل مكان كل سيئة منها حسنة، وهذا حكم غير ما نحن فيه، فإن الكلام فى التائب من السيئات، لا فيمن مات مصراً عليها غير تائب، فأَين أحدهما من الآخر؟

وأما حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسناداً ومتناً، إلا أنه مختصر.

(يتبع...)

@ وأما حديث أبى هريرة [فلا] يثبت مثله، ومَن أبو العنبس، ومن أبوه حتى يقبل منهما تفردهما بمثل هذا الأمر الجليل؟ وكيف يصح مثل هذا الحديث عن رسول الله ﷺ مع شدة حرصه على التنفير من السيئات وتقبيح أهلها وذمهم وعيبهم والإخبار بأنها تنقص الحسنات وتضادها؟ فكيف يصح عنه ﷺ أنه يقول: ((ليتمنين أقوام أنهم أكثروا منها))؟، ثم كيف يتمنى المرءُ إكثاره منها، مع سوءِ عاقبتها، وسوءِ مغبتها؟ وإنما يتمنى الإكثار من الطاعات؟ وفى الترمذى مرفوعاً: ((ليتمنينَّ أقوام يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاءِ)).

فهذا فيه تمنى البلاءِ يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله، وهو تمنى الحسنات، وأما تمنى الحسنات فهذا لا ريب فيه، وأما تمنى السيئات فكيف يتمنى العبد أَنه أَكثر من السيئات؟ هذا مال لا يكون أبداً، وإنما يتمنى المسيء أن لو لم يكن أساءَ، وأما تمنيه أنه ازداد من إساءته فكلا.

قالوا: وأَما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة فحق. وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت فى مكان السيئة التى لولا الحسنة لحلت محلها. قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم وذلك يقتضى أن تكون هى السيئات الواقعة.

وتنكير الحسنات وهو يقتضى أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها مقارناً لكسبهم إياها بفضله؟ قالوا: وأما قولكم: إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم وذلك يقتضى أنه هو الذى بدلها [سبحانه] من الصحف لا أنهم هم الذين بدلوا الأَعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم فيه، فإن الله خالق أفعال العباد، فهو المبدل للسيئات حسنات خلقاً وتكويناً، وهم المبدلون لها فعلاً وكسباً.

قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاءَ من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم بدلها الله كذلك فى صحف الأعمال، فهذا حق وبه نقول، وأنه بدلت السيئات التى كانت مهيأة ومعدة أن تحل فى الصحف بحسنات حلت موضعها.

فهذا منتهى أقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما، فقد أدلى كل منهما بحجته، فأقام بينته، والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما، فأَرشد الله من أعان على هدى فنال به درجة الداعين إلى الله القائمين ببيان حججه ودينه، أو عذر طالباً منفرداً فى طريق مطلبه قد انقطع رجاؤه من رفيق فى الطريق، فغاية أُمنيته أن يخلى بينه وبين سيره وأن لا يقطع عليه طريقه.

فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه فقد رضى بالدون، وحصل على صفقة المغبون، ومن شمر إليه ورام أن لا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأْوائها وشدتها فهو والله الفوز المبين والحظ الجزيل.. وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب.

فالصواب إن شاءَ الله فى هذه المسألة أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنما هى أمر وجودى يقتضى ثواباً، ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهى، وذلك الكف والحبس أمر وجودى وهو متعلق الثواب.

وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلاً ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه، ولو أُثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب لكان مثاباً على ترك ذنوب العالم التى لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى، فإن التَرك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ هذا مما لا يتوهم.

وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمراً وجودياً فالتائب من الذنوب التى عملها قد قارن كلَّ ذنب منها ندماً عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة قد بدلت تلك السيئة حسنة.

وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.

وقال بعض المفسرين فى هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساؤوها حسنة، وعلى هذا فقد زال بحمد الله الإشكال، واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.

وأما حديث أبى ذر - وإن كان التبديل فيه فى حق المصرّ الذى عذب على سيئاته - فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته، فإن الذنوب التى عذب عليها المصر لما زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها مع العقوبة [لاقتضى] زوال أثرها وتبديلها حسنات، فإن الندم لم يكن فى وقت ينفعه، فلما عوقب عليها وزال أثرها بدلها الله له حسنات.




فزوال أثرها بالتوبة النصوح أعظم من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة حسنات فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات أولى وأحرى. وتأثير التوبة فى هذا المحو والتبديل أقوى من تأْثير العقوبة لأن التوبة فعل اختيارى أَتى به العبد طوعاً ومحبة لله وفرقاً منه.

وأما العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التى تصيبه بغير اختياره بل بفعل الله، ولا ريب أن تأْثير الأفعال الاختيارية التى يحبها الله ويرضاها فى محو الذنوب أعظم من تأْثير المصائب التى تناله بغير اختياره.

ولنرجع الآن إلى المقصود وهو [الكلام على] ما ذكره أبو العباس بن الصائف فى علل المقامات، فقد ذكرنا كلامه فى علة مقام الإرادة، [والكلام عليه وذكرنا كلامه فى مقام الزهد وقوله أنه من مقامات العامة] وذكرنا أن الكلام على ذلك من وجوه هذا آخر الوجه الثانى منها.

الوجه الثالث أن يقال: قوله: ((الزهد تعظيم للدنيا، واحتباس عن الانتفاع بها)) إلى آخر الفصل، إن أراد به أن زهده دليل على تعظيم الدنيا وأن لها فى قلبه من بالقدر والمنزلة ما يكره لأجله نفسه على تركها، أو مستلزم لذلك، فإن الزهد لا يدل على هذا التعظيم، ولا يستلزمه - وإن كان من عوارض غلبات الطبع التى تذم مساكنتها وانحجاب القلب بها - بل زهده فيها دليل على خروج عظمها من قلبه [ وقلة ] مبالاته بها وترك الاهتبال بشأْنها، فكيف يكون هذا نقصاً بوجه؟ بل النقص فى الزهد يكون من أحد وجوه:

أولها: أن يزهد فيما ينفعه منها، ويكون قوة له على سيره ومعونة له على سفره، فهذا نقص. فإن حقيقة الزهد هى أَن تزهد فيما لا ينفعك، والورع أن تتجنب ما قد يضرك. فهذا الفرق بين الأمرين.

الثانى: أن يكون زهده مشوباً إما بنوع عجز أو ملالة وسآمة وتأَذية بها وبأَهلها، وتعب قلبه بشغله بها، ونحو هذا من المزهدات فيها، كما قيل لبعضهم: ما الذى أوجب زهدك فى الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها. فهذا زهد ناقص، فلو صفت للزاهد [من] تلك العوارض لم يزهد فيها بخلاف من كان زهده فيها لامتلاءِ قلبه من الآخرة، ورغبته فى الله وقربه، فهذا لا نقص فى زهده ولا علة من جهة كونه زهداً.

الثالث: أن يشهد زهده ويلحظه ولا يفنى عنه بما زهد لأجله فهذا نقص أيضاًً فالزهد كله أن تزهد فى رؤية زهدك وتغيب عنه برؤية الفضل ومطالعة المنة، وأن لا تقف عنده فتنقطع، بل أعرض عنه جاداً فى سيرك غير ملتفت إليه مستصغراً لحاله بالنسبة إلى مطلوبك، مع أن هذه العلة مطردة فى جميع المقامات على ما فيها كما سننبه عليه إن شاء الله، فإن ربط هذا الشأْن بالنصوص النبوية والعقل الصريح والفطرة الكاملة من أهم الأمور فلا يحسن بالناصح لنفسه أن يقنع فيه بمجرد تقليد أهله، فما أكثر غلطهم [فيهم] وتحكيمهم مجرد الذوق، وجعل حكم ذلك الذوق كلياً عاماً، فهذا ونحوه من مثارات الغلط.

الوجه الرابع: أن الزهد على أربعة أقسام:

أحدها: فرض على كل مسلم وهو الزهد فى الحرام، وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب، فلا بد من وجود مسببه ما لم ينعقد سبب آخر يضاده.

الثانى: زهد مستحب، وهو على درجات فى الاستحباب بحسب المزهود فيه. وهو الزهد فى المكروه وفضول المباحات والتفنن فى الشهوات المباحة.

الثالث: زهد الداخلين فى هذا الشأْن، وهم المشمرون فى السير إلى الله وهو نوعان:

أحدهما: الزهد فى الدنيا جملة، وليس [المراد] تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفراً منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت فى يده. فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهى فى قلبك وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهى فى يدك.

وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذى يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد آدم ﷺ حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، ولا يزيده ذلك إلا زهداً فيها.

ومن هذا الأثر المشهور، وقد روى مرفوعاً وموقوفاً: ((ليس الزهد فى الدنيا [بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد فى الدنيا] أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أَرغب منك فيها لو أنها بقيت لك)).

والذى يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء:

أحدها: علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر وأنها كما قال الله تعالى فيها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهُوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً}* [الحديد: 20]، وقال الله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضِ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَهَا حَصِيداً كَأَن لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}* [يونس: 24]، وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقْتَدِراً}* [الكهف: 45]، وسماها سبحانه: ((متاع الغرور)) ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين [بها] وحذرنا مثل مصارعهم، وذم من رضى بها واطمأن إليها.

وقال النبى ﷺ: ((مالى وللدنيا إنما أن كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها)).

وفى المسند عنه ﷺ حديث معناه: أن الله جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلاً للدنيا فإنه وإن فوَّحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير، فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية وعقل حقير، وقدر خسيس.

الثانى: علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً وهى دار البقاءِ، وأن نسبتها إليها كما قال النبى ﷺ: ((ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع))، فالزاهد فيها بمنزلة رجل فى يده درهم زغل قيل له: اطرحه [ولك] عوضه مائة ألف دينار مثلاً، فألقاه من يده رجاءَ ذلك العوض، فالزهد فيها لكمال [رغبته] فيما هو أعظم منها زهد فيها.

الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها، فإنه متى تيقن ذلك وثلج له صدره وعلم أن مضمونه منها سيأْتيه بقى حرصه وتعبه وكده ضائعاً، والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك. فهذه الأُمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها، وتثبت قدمه فى مقامه. والله الموفق لمن يشاءُ.

النوع الثانى: الزهد فى نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأَكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد يسهل عليه الزهد فى الحرام لسوءِ مغبته وقبح ثمرته، وحماية لدينه وصيانة لإيمانه، وإيثاراً للذة والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأْثر لعدوه، ويسهِّل عليه الزهد فى المكروهات وفضول المباحات علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم.

ويسهل عليه زهده فى الدنيا معرفته بما وراءَها وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأَعلى. وأما الزهد فى النفس فهو ذبحها بغير سكين، وهو نوعان:

أحدهما: وسيلة وبداية، وهو أن تميتها فلا يبقى [لها] عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها، قد سبَّلت عرضها ليوم فقرها وفاقتها، فهى أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذُمت، بل هى عندك أخس مما قيل فيها، أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك، وإن كان صعباً عليها، وهذا وإن كان ذبحاً لها وأماتة عن طباعها وأخلاقها فهو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا البتة.

وهذه العقبة هى آخر عقبة يشرف منها على منازل المقربين، وينحدر منها إلى وادى البقاءِ ويشرب من عين الحياة، ويخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق، فيا قرة عينها ويا نعيمها وسرورها بقربه، ويا بهجتها بالخلاص من عدوها، [ومصيرها إلى وليها] مولاها ومالك أمرها ومتولى مصالحها. وهذا الزهد هو أول نقدة من مهر الحب، فيا مفلس تأَخر.

والنوع الثانى: غاية وكمال، وهو أن يبذلها للمحبوب جملة، بحيث لا يستبقى منها شيئاً. بل يزهد فيها زهد المحب فى قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به، فهل يجد من قلبه رغبة فى إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ فهكذا زهد المحب الصادق فى نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه، فهو يبذلها له دائماً بتعرض منه لقبولها.

وجميع مراتب الزهد المتقدمة مباد ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب، فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها [فتمعن] متمنَّ كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلَّم.

قال بعض السلف: إنما حرموا الوصول بتضييع الأُصول، فمن ضيع الأُصول حرم الوصول، وإذا عرف هذا فكيف يدعى أن الزهد من منازل العوام وأنه نقص فى طريق الخاصة؟ وهل الكمال إلا فى الزهد؟ وما النقص إلا فى نقصانه. والله الموفق للصواب.

فصل

المثال الرابع: التوكل، قال أبو العباس: ((هو للعوام أيضاً، لأنه وكل أمرك إلى مولاك والتجاؤك إلى علمه ومعرفته لتدبير أَمرك وكفاك همك، وهذا فى طريق الخواص عمى عن الكفاية به ورجوع إلى الأسباب، لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل فصار بدلاً عن تلك الأسباب، فإنك معلق بما [رفضته] من حيث معتقدك الانفصال. وحقيقة التوكل عند القوم التوكل فى تخليص القلب من علة التوكل وهو أن يعلم أن الله [تعالى] لم يترك أمراً مهملاً بل فرغ من الأشياء وقدرها، وإن اختلف منها شيء فى العقول أو تشوش فى المحسوس أو اضطراب فى المعهود فهو المدبر له، وشأنه سوق المقادير إلى المواقيت، والمتوكل من أراح نفسه من كل النظر فى مطالعة السبب سكوناً إلى ما سبق من القسمة مع استواءِ الحالين عنده وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع والتوكل لا يمنع، ومتى طالع بتوكله عرضاً كان توكله مدخولاً وقصده معلولاً، فإذا خلص من رق هذه الأسباب ولم يلاحظ فى توكله سوى خالص حق الله كفاه الله [تعالى] كل مهم)).

ثم ذكر حكاية عن موسى ﷺ أنه فى رعايته نام عن غنمه، فاستيقظ فوجد الذئب واضعاً عصاه على عاتقه يرعاها فعجب من ذلك، فأوحى الله إليه: يا موسى، كن لى كما أُريد، أَكن لك كما تريد.

فيقال: الكلام على هذا من وجوه:

أحدها: إن جعله التوكل من منازل العوام باطل كما تقدم، بل الخاصة أحوج إليه من العامة، وتوكل الخواص أعظم من توكل العوام. والتوكل مصاحب للصادق من أول قدم يضعه فى الطريق إلى نهايته، وكلما ازداد قربه وقوى سيره ازداد توكله. فالتوكل مركب السائر الذى لا يتأتى له السير إلا به، ومتى نزل عنه انقطع لوقته، وهو من لوازم الإيمان ومقتضياته، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}* [المائدة: 23]، فجعل التوكل شرطاً فى الإيمان، فدل على انتفاءِ الإيمان عند انتفاء التوكل، وفى الآية الأُخرى: {وَقَال مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُمْ مُسْلِمِين}* [يونس: 84] فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال تعالى: { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }* [آل عمران: 122، 160] [المائدة: 11] [التوبة: 51] [إبراهيم: 11] [المجادلة: 10] [التغابن: 13]، فذكر اسم الإيمان هاهنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاءِ الإيمان للتوكل، وإن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوى إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً، فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد، والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والهداية.

فأما التوكل والعبادة، فقد جمع [سبحانه] بينهما فى سبعة مواضع من كتابه، أحدها: فى سورة أُم القرآن فقال [تعالى]: {إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِينُ}* [الفاتحة:5]، والثانى: قوله حكاية عن شعيب أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}* [هود: 88]، الثالث: قوله حكاية عن أوليائه وعبادة المؤمنين أنهم قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}* [الممتحنة: 4]، الرابع: قوله تعالى لنبيه محمد ﷺ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذُهُ وَكِيلاً}* [المزمل:8-9]، الخامس: قوله: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَّوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلِ عَمَّا تَعْمَلُونَ}* [هود: 123]، السادس: قوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}* [الحج: 78]، السابع: قوله: {قُلْ هُوَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْه مَتَابِ}* [الرعد: 30].

فهذه السبعة مواضع جمعت الأصلين: التوكل وهو الوسيلة والإنابة وهى الغاية، فإن العبد لا بد له من غاية مطلوبة، ووسيلة موصلة إلى تلك الغاية فأَشرف غاياته التى لا غاية له أجل منها عبادة ربه، والإنابة إليه. وأعظم وسائله التى لا وسيلة له غيرها البتة التوكل على الله والاستعانة به، ولا سبيل له إلى هذه الغاية إلا بهذه الوسيلة، فهذه أشرف الغايات، وتلك أشرف الوسائل، وأما الجمع بين الإيمان والتوكل، ففى مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}* [الملك: 29]، ونظيره قوله: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِين}* [المائدة: 23]، وقوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}* [آل عمران: 122، 160] [المائدة: 11] [التوبة: 51] [إبراهيم: 11] [المجادلة: 10] [التغابن: 13].

وأما الجمع بين التوكل والإسلام ففى قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُسْلِمِينَ}* [يونس: 84].

وأما الجمع بين التقوى والتوكل، ففى مثل قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِى اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِع الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِين} إلى قوله تعالى: {وَتوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً}* [الأحزاب: 1- 3]، وقوله: { وَمَن يَتَقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}* [الطلاق: 2- 3].

وأما الجمع بين التوكل والهداية ففى مثل قول الرسل [صلوات الله وسلامه عليهم] لقومهم: {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}* [إبراهيم:12]، وقال الله تعالى لنبيه ﷺ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}* [النمل: 79]، فأمر [رسوله] بالتوكل عليه، وعقب هذا الأمر بما هو موجب للتوكل مصحح له مستدع لثبوته وتحققه، وهو قوله تعالى: ((إنَّك على الحقِّ المبين فإن كون العبد على الحق يقتضى تحقيق مقام التوكل على الله، والاكتفاء به، والإيواءَ إلى ركنه الشديد، فإن الله هو الحق، وهو ولى الحق وناصره ومؤيده، وكافى من قام به،)) [مخلصاً للحق] أن لا يتوكل عليه؟ وكيف يخاف وهو على الحق؟ كما قالت الرسل لقومهم: {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}* [إبراهيم: 12]، فعجبوا من تركهم التوكل على الله [وهو] هداهم، [وأقروا] أن ذلك لا يكون أبداً.

وهذا دليل على أن الهداية والتوكل متلازمان: فصادف الحق- لعلمه بالحق [وليقينه] بأن الله ولى الحق وناصره- مضطر إلى توكله على الله لا يجد بداً من توكله. فإن التوكل يجمع أصلين: علم القلب وعمله. أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه فى ذلك. وأما عمله: فسكونه إلى وكيله، وطمأٌنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أَمره إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه فى ذلك. ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه. فبهذين الأصلين يتحقق التوكل، وهما جُماعه، وإن كان التوكل دخل فى عمل القلب من عمله، كما قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب، ولكن لا بد فيه من العلم، وهو إما شرط فيه، وإما جزءٌ من ماهيته.

والمقصود أن القلب متى كان على الحق كان أعظم لطمأنينته ووثوقه بأن الله وليه وناصره وسكونه إليه، فما له أن لا يتوكل على ربه؟ وإذا كان على الباطل علماً وعملاً أو أحدهما لم يكن مطمئناً واثقاً بربه فإنه لا ضمان له عليه، ولا عهد له عنده، فإن الله [سبحانه] لا يتولى الباطل ولا ينصره، ولا ينسب إليه بوجه، فهو منقطع النسب إليه بالكلية، فإنه سبحانه هو [الحق]، وقوله الحق، ودينه الحق ووعده حق، ولقاؤه حق، وفعله [كله] حق.

ليس فى أفعاله شيء باطل، بل أفعاله سبحانه بريئة من الباطل، كما أقواله [سبحانه] كذلك، فلما كان الباطل لا يتعلق به [سبحانه]، بل هو مقطوع [عليه] البتة كان صاحبه كذلك. ومن لم يكن له تعلق بالله العظيم، وكان منقطعاً عن ربه لم يكن الله وليه ولا ناصره ولا وكيله.

فتدبر هذا السر العظيم فى اقتران التوكل والكفاية بالحق والهدى وارتباط أحدهما بالآخر، لو لم يكن فى هذه الرسالة إلا هذه الفائدة السرية لكانت حقيقة أن تودع فى خزانة القلب، لشدة الحاجة إليها. والله المستعان وعليه التكلان

فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأْس، فكما لا يقوم الرأْس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل. والله أعلم.

الوجه الثانى: أن قوله فى التوكل: ((إنه فى طريق الخواص عمى عن الكفاية، ورجوع إلى الأسباب.. إلى آخر كلامه)) مضمونه أن التوكل لا يتم إلا برفض الأسباب، والإعراض عنها جملة. والتوكل من أقوى الأسباب وأعظمها فى حصول المطلوب فكأَنه قد رفض سبباً وتعلق بسبب، وقد ناقض فى أمره، ولهذا قال: ((فصار بدلاً عن تلك الأسباب))، وكأَنك تعلقت بما رفضته فهذه هى النكتة التى لأجلها صار التوكل عنده من منازل العوام، وهذه هى غير مسألة الجمع بين التوكل والسبب، بل هذه مسألة تعليل نفس التوكل. فيقال: قولك: ((إنه عمى عن الكفاية)) ليس كذلك، بل هو نظر إلى نفس الكفاية وملاحظة لها.

ولا ريب أن الكفاية من الله لا تنال إلا بأسبابها من عبوديته، وسببها المقتضى لها هو التوكل، كما قال الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}* [الطلاق: 3]، أى كافية، فجعل التوكل سبباً للكفاية فربط الكفاية بالتوكل كربط سائر الأسباب بمسبباتها، فكيف يقال: ((إن التوكل عمى عن الكفاية))؟ وهل التوكل إلا محض العبودية التى جزاؤها الكفاية، وهى لا تحصل بدونه؟ بل العلة ههنا شهود حصولها بفعلك وتوكلك، غير ناظر إلى مسبب الأسباب الذى أجرى عليك هذا السبب ليوصلك به إلى الكفاية، فأول الأمر وآخره منه، فهو المنعم بالسبب والمسبب جميعاً، ولكن لا يوجب نظر العبد إلى المسبب المنعم بالسبب قطع نظره عن السبب والقيام به، بل الواجب القيام بالأمرين معاً.

الوجه الثالث: أن قوله: ((إنه رجوع إلى الأسباب)) إن أراد به أنه رجوع إلى سبب ينقص العبودية ويضعف التوكل فليس كذلك، وظاهر أن الأمر ليس كذلك، وإن أراد به أنه رجوع إلى سبب نصبه الله مقتضياً للكفاية منه، ورتب عليه جزاءً لا يحصل بدونه فهذا حق، ولكن القيام بهذا السبب محض الكمال، ونفس العبودية. وهو كجعل الإسلام والإيمان والإحسان أسباباً مقتضية للفلاح والسعادة، بل كجعل سائر أعمال القلوب والجوارح أسباباً مقتضية لما رتب عليها من الجزاءِ، وهل الكمال إلا القيام بهذه الأسباب؟ فالأسباب التى تكون مباشرتها نقصاً هى الأسباب التى تضعف التوكل، وأَما أَن يكون التوكل نفسه ناقصاً لكون التحقق به تحققاً بالسبب فقلب للحقائق،

الوجه الرابع: أن قوله: ((لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل)) إن أراد به رفض الأسباب جملة، فهذا كما أنه ممتنع عقلاً وحساً فهو محرَّم شرعاً وديناً، فإن رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين، وإن أراد به رفض الوقوف معها والوثوق بها، وأنه يقوم [بها] قيام ناظر إلى سببها، فهذا حق ولكن النقص لا يكون فى السبب ولا فى القيام به، وإنما يكون فى الإعراض عن المسبب تعالى كما تقدم، فمنع الأسباب أن تكون أَسباباً قدح فى العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح فى التوحيد والتوكل، والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر، وهو الكمال، والله أعلم.

الوجه الخامس: قوله: ((فصار التوكل بدلاً عن تلك الأسباب)) هذا حق، فإن التوكل من أعظم الأسباب، ولكنه بدل عنها، كما تكون الطاعة بدلاً عن المعصية، والتوحيد بدلاً عن الشرك، فهو بدل واجب مأْمور به مطلوب من العبد والمذموم أن يجعل العبد الأَسباب بدلاً عن التوكل، لا أن يجعل التوكل بدلاً عن الأسباب.

الوجه السادس: قوله: ((فكأنك تعلقت بما رفضته من حيث معتقدك الانفصال)) ليس كذلك، فإن المرفوض هو التعلق بغير الله والالتفات إلى سواه، فهذا هو الذى رفضه، وأما الذى تعلق به فهو التوكل على الله واللجأْ إِليه والتفويض إِليه والاستعانة به. فقد رفض المخلوق وتعلق بالخالق، فكيف يقال: إنه تعلق بما رفضه؟

الوجه السابع: أن قوله: ((من حيث معتقدك الانفصال)) يشير به إِلى أَن التوكل نوع تفرقة وانفصال يشهد فيه مع الله غيره، وهذا مناف للفناءِ فى التوحيد، وأن لا يشهد مع الله غيره أصلاً، وهذا قطب رحى السير الذى يشير إليه القوم، والعلم الذى يشمرون إليه، ولأجله يجعلون كل ما دونه من المقامات معلولاً، ولا بد من فصل القول فيه بعون الله وتأْييده، فإنه نهاية إِقدامهم وغاية مرماهم. فنقول وبالله التوفيق:

الفناءُ الذى يشار إِليه على أَلسنة السالكين ثلاثة أَقسام: فناءٌ عن وجود السوى، وفناءُ عن شهود السوى، وفناءٌ عن عبادة السوى وإرادته، وليس هنا قسم رابع.

فأما القسم الأول: فهو فناءُ القائلين بوحدة الوجود، فهو فناءٌ باطل فى نفسه، مستلزم جحد الصانع [سبحانه]، وإِنكار ربوبيته وخلقه وشرعه، وهو غاية الإِلحاد والزندقة. وهذا هو الذى يشير إليه علماءُ الاتحادية، ويسمونه ((التحقيق))، وغاية أحدهم فيه أن لا يشهد رباً وعبداً، وخالقاً ومخلوقاً، وآمراً ومأْموراً، وطاعة ومعصية، بل الأمر كله واحد، فيكون السالك عندهم فى بدايته يشهد طاعة ومعصية.

ثم يرتفع [عن] هذا الفرق بكشف عندهم إلى أن يشهد الأفعال كلها طاعة لله لا معصية فيها، وهو شهود الحكم والقدر، فيشهده طاعة لموافقتها الحكم والمشيئة. وهذا ناقص عندهم أيضاً، إذ هو متضمن للفرق، ثم يرتفع عندهم عن هذا الشهود إلى أن لا يشهد لا طاعة ولا معصية، إذ الطاعة والمعصية إنما تكون من غير لغير، وما ثم غير.

فإذا تحقق بشهود ذلك وفنى فيه فقد فنى عن وجود السوى، فهذا هو غاية التحقيق عندهم ومن لم يصل إليه فهو محجوب. ومن أشعارهم فى هذا قول قائلهم:

وما أنت غير الكون، بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق

وقول آخر:

ما الأمر إلا نسق واحـــــد ما فيه من مـدح ولا ذم

وإنما العادة قد خصصــــت والطبع والشارع بالحكم

وقول الآخر:

وما الموج إلا البحر لا شيء غيره وإن فرقته كثرة المتـعدد

والقسم الثانى من أقسام الفناء هو الذى يشير إليه المتأخرون من أرباب السلوك، وهو الفناء عن شهود السوى، مع تفريقهم بين الرب والعبد وبين الطاعة والمعصية وجعلهم وجود الخالق غير وجود المخلوق. ثم هم مختلفون فى هذا الفناء على قولين: أحدهما أنه الغاية المطلوبة من السلوك، وما دونه بالنسبة إليه ناقص، ومن هنا يجعلون المقامات [والمنازل] معلولة. والقول الثانى: أنه من لوازم الطريق لا بد منه للسالك، ولكن البقاء أكمل منه وهؤلاء يجعلونه ناقصاً ولكن لا بد منه، وهذه طريقة كثير من المتقدمين. وهؤلاء يقولون: إن الكمال شهود العبودية مع شهود المعبود، فلا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته ولكن لقوة الوارد وضعف المحل وغلبة استيلاءِ الوارد على القلب- حتى يملكه من جميع جهاته- يقع الفناءُ. والتحقيق أن هذا الفناء ليس بغاية، ولا هو من لوازم الطريق، بل هو عارض من عوارض الطريق يعرض لبعض السالكين دون جميعهم وسببه أُمور ثلاثة:

أحدها: قصده وإرادته والعمل عليه، فإنه إذا علم أنه الغاية المطلوبة شمر سائراً إليه عاملاً عليه، فإذا أشرف عليه وقف معه ونزل بواديه وطلب مساكنته. فهؤلاء إنما يحصل لهم الفناءُ لأن سيرهم كان على طلب حظهم ومرادهم من الله وهو الفناء لم يكن سيرهم على تحصيل مراد الله منهم وهو القيام بعبوديته والتحقق بها. والسائر على طلب تحصيل مراد الله منه لا يكاد الفناءُ يحل بساحته ولا يعتريه.

السبب الثانى: قوة الوارد بحيث يغمره ويستولى عليه، فلا يبقى فيه متسع لغيره أصلاً.

السبب الثالث: ضعف المحل عن احتمال ما يرد عليه.

فمن هذه الأسباب الثلاثة يعرض الفناءُ. ولما رأى الصادق فى طريقه السالك إلى ربه أن أكثر أصحاب الفرق محجوبون عن هذا المقام مشتتون فى أودية الفرق وشهدوا نقصهم ورأوا ما هم فيه من الفناءِ أكمل ظنوا أنه لا كمال [وراء] ذلك، وأنه الغاية المطلوبة، فمن هنا جعلوه غاية.

ولكن أكمل من ذلك وأعلى [وأجل هو القسم الثالث] وهو الفناءُ عن عبادة السوى وإرادته ومحبته وخشيته ورجائه والتوكل عليه والسكون إليه [فيفنى بعبادة ربه ومحبته وخشيته ورجائه وخشيته ورجائه ورجائه والتوكل عليه إليه عن عبادة غيره وعن محبته رجائه والتوكل عليه] مع شهود الغير ومعاينته. فهذا أكمل من فنائه عن عبودية الغير ومحبته مع عدم شهوده له وغيبته عنه، فإذا شهد الغير فى مرتبته أوجب شهوده له زيادة فى محبة معبوده، وتعظيماً له وهروباً إليه وظناً به، فإن نظر المحب إلى مباديء محبوبه ومضاده يوجب زيادة حبه له، وفى هذا المعنى قال القائل:

وإذا نظرت إلى أميرى زادنى حباً له نظرى إلى الأُمراءِ

(يتبع...)

@ وكان النبى ﷺ يقول فى دعائه: ((اللَّهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت)). وفى سجوده: ((اللَّهم لك سجدت، وبك آمنت))، وكذلك فى ركوعه: ((اللَّهم لك ركعت، وبك آمنت)).

فهذا دعاءُ من قد جمع بين شهود عبوديته وشهود معبوده، ولم يغب بأحدهما عن الآخر، وهل هذا إلا كمال العبودية: أن يشهد ما يأْتى به من العبودية موجهاً لها إلى المعبود الحق، محضراً لها بين يديه، متقرباً بها إليه. فأما الغيبة عنها بالكلية بحيث تبقى الحركات كأَنها طبيعية غير واقعة بالإرادة فهذا- وإن كان أكمل من حال الغائب بشهود عبوديته عن معبوده- فحال الجامع بين شهود العبودية والمعبود أكمل منهما. وإذا عرفت هذه القاعدة ظهر أن تعليله التوكل بما ذكر تعليل باطل.

الوجه الثامن: أن التوكل على الله نوعان: أحدهما: توكل عليه فى تحصيل حظ العبد من الرزق والعافية وغيرهما، والثانى: توكل عليه فى تحصيل مرضاته.

فأما النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادة لأنها محض حظ العبد، فالتوكل على الله فى حصوله عبادة، فهو منشأُ لمصلحة دينه ودنياه.

وأما النوع الثانى فغايته عبادة، وهو فى نفسه عبادة. فلا علة فيه بوجه فإنه استعانة بالله على ما يرضيه. فصاحبه متحقق بإياك نعبد وإياك نستعين، فتركه ترك لشطر الإيمان. والعلة إنما هى فى ضعف هذا التوكل.

فهب أن التوكل فى حصول الحظ معلول فيلزم من هذا أن يكون التوكل فى حصول مراد الرب سبحانه ومرضاته معلولاً.

الوجه التاسع: قوله: ((وحقيقة التوكل عند القوم التوكل فى تخليص القلوب من علة التوكل))، فيقال: إذا كان هذا التوكل عندك ليس بمعلول، ولا هو عمى عن الكفاية، ولا رجوع إلى الأسباب بعد رفضها، بطل تعليل التوكل بما عللته به.

وإن كانت هذه العلة بعينها موجودة فى هذا التوكل بطل أن يكون [علة]، فلزم بطلان كونه معلولاً على التقديرين، وظهر أن العلة فى التوكل لا تخرج عن أحد شيئين: إما أن يكون متعلقة حظاً من حظوظك، وإما وقوفك معه وركونك إليه فقط، فإذا خلص التوكل من هذا وهذا فلا علة تلحقه ولا نقيضة تدركه.

الوجه العاشر: أن علة التوكل عنده هى ترك التوكل كما فسره فكيف يتوكل فى ترك التوكل؟ وهل هذا إلا جمع بين متضادين؟

الوجه الحادى عشر: قوله: ((وهو أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يترك أمراً مهملاً، بل فرغ من الأشياءِ وقدرها، وإِن اختلف منها شيء فى العقول أو تشوش فى المحسوس أو اضطرب فى المعهود فهو المدبر له، وشأْنه سوق المقادير إلى المواقيت. المتوكل من أراح نفسه من كد النظر فى مطالعة السبب، سكوناً إلى ما سبق من القسمة مع استواءِ الحالين عنده)) إلى آخر كلامه.

فيقال: هو سبحانه فرغ من الأشياء وقدرها بأسبابها المفضية إليها، فكما أن المسببات من قدره الذى فرغ منه فأسبابها [أيضاً من قدره الذى فرع منه. فتقريره المقادير بأسبابها] لا ينافى القيام بتلك الأسباب، بل يتوقف حصولها عليها.

وقد سئل النبى ﷺ فقيل له: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: ((هى من قدر الله))، وسئل ﷺ: أعُلم أهل الجنة والنار؟ قال: ((نعم))، قالوا: ففيم العمل؟ قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))، فأمرهم بالأعمال، وأخبرهم أن الله يسر كل عبد لما خلق له فجعل عمله سبباً لنيل ما خلق له من الثواب والعقاب، فلا بد من إِثبات السبب والمسبب جميعاً.

الوجه الثانى عشر: قوله: ((المتوكل من أراح نفسه من كد النظر فى مطالعة السبب سكوناً إلى ما سبق من القسمة، مع استواءِ الحالين عنده))، فهذا الكلام إن أُخذ على إطلاقه فهو باطل قطعاً، فإن السكون إلى ما سبق من القسمة وترك السبب فى أعمال البر عين العجز وتعطيل الأمر والشرع، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً التسوية بين الحالين. وأما السكون إلى ما سبق من القسمة فى أسباب المعيشة فهو حق، ولكن الكمال أن يكون ساكناً إلى ما سبق مع قيامه، وهذه حال الكملة من الصحابة ومن بعدهم. فالكمال مع قيامه، هو تنزيل الأسباب منازلها علماً وعملاً لا الإعراض عنها ومحوها، ولا الانتهاءُ إليها والوقوف عندها.

الوجه الثالث عشر: قوله: ((مع استواءِ الحالين عنده، وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع)) يشير به إلى استواءِ الحالين فى مباشرة السبب وتركه نظراً إلى ما سبق. وهذا ليس بمأْمور ولا معذور، فإنه لا تستوى الحالتان شرعاً ولا قدراً، وكيف يستوى ما لم يسوِّه الله شرعاً ولا قدراً؟

الوجه الرابع عشر: قوله: ((الطلب لا يجمع، التوكل لا يمنع فقد بين أن التوكل لا ينافى الطلب، بل حقيقة التوكل وكماله مقارنته للطلب ومصاحبته للسبب، وأما توكل مجرد عن الطلب والسبب فعجز وأمانى. فتوكل الحراث إنما هو بعد شق الأرض وبذرها، وحينئذ يصح منه التوكل فى طلوع الزرع. وأما توكله من غير حرث ولا بذر فعجز وبطالة.

الوجه الخامس عشر: قوله: ((ومتى طالع بتوكله عرضاً كان توكله مدخولاً وقصده معلولاً. فإذا خلص من رق هذه الأسباب ولم يلاحظ فى توكله سوى خالص حق الله كفاه كل مهم))، فيقال: التوكل يكون فى أحد شيئين: إما فى حصول حظ العبد ورزقه ونصره وعافيته، وإما فى حصول مراد ربه منه، وكلاهما عبادة مأْمور بها، والثانى أكمل من الأول بحسب المتوكل فيه. ولكن توكله فى الأول لا يكون معلولاً من حيث هو توكل، وإِنما تكون علته أن صرف توكله إلى غيره أولى بالتوكل منه. وهذا إنما يكون نقصاً إذا أضعف توكله فى الأَمر ومراد الله منه.

وأما إن لم يضعفه بل أعطى كل مقام حقه من التوكل فهذا محص العبودية. والله أعلم.

فصل

المثال الخامس: الصبر. قال أبو العباس: ((وهو من منازل العوام أيضاً، لأن الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته. وهذا فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة، فإن حاصله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحمل الأذى بالبلوى. وتحقيقه الخروج عن الشكوى بالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى.

وقيل: إنه على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول: التصبر، وهو تحمل مشقة، وتجرع غصة، والثبات على ما يجرى من الحكم. وهذا هو التصبر لله وهو صبر العوام. والثانى: الصبر، وهو نوع سهولة تخفف عن المبتلى بعض الثقل، وتسهل عليه صعوبة المراد، وهو الصبر لله، وهو نوع سهولة، وهو صبر المريدين. والثالث: الاصطبار وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى، وهذا هو الصبر على الله، وهو صبر العارفين)). والكلام على هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال الصبر نصف الدين، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}* [سبأ:19]، وقال النبى ﷺ: ((والذى نفسى بيده، لا يقضى الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له: إن أصابته سراءٌ شكر فكان خيراً له، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)). فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر، والذى يوضح هذا:

الوجه الثانى: وهو أن العبد لا يخلو قط من أَن يكون فى نعمة أَو بلية، فإن كان فى نعمة ففرضها الشكر والصبر. أما الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيل بمزيدها، وأما الصبر فعن مباشرة الأَسباب التى تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التى تحفظها فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلى. ومن هنا يعلم سر مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر، وأن كلا منهما محتاج إلى الشكر والصبر، وأنه قد يكون صبر الغنى أكمل من صبر الفقير. كما قد يكون شر الفقير أكمل، فأفضلهما أعظمهما شكراً وصبراً، فإن فضل أحدهما فى ذلك فضل صاحبه.

فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به، والصبر مستلزم للشكر لا يتم إلا به. فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر، وإن كان فى بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً: أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه فى تلك البلية، فإن لله على العبد [عبودية فى البلاء كما له عليه عبودية فى النعماء وعليه] أن يقوم بعبوديته فى هذا وهذا. فعلم أنه لا انفكاك له عن الصبر، ما دام سائراً إلى الله.

الوجه الثالث: أن الصبر ثلاثة أقسام: إما صبر عن المعصية فلا يرتكبها وإما صبر على الطاعة حتى يؤديها وإما صبر على البلية فلا يشكو ربه فيها وإن كان العبد لا بد له من واحد من هذه الثلاثة فالصبر لازم له أبداً لا خروج له البتة.

الوجه الرابع: أن الله سبحانه ذكر الصبر فى كتابه فى نحو تسعين موضعاً، فمرة أمر به، ومرة أثنى على أهله، ومرة أمر نبيه ﷺ أن يبشر به أهله، ومرة جعله شرطاً فى حصول النصر والكفاية ومرة أخبر أنه مع أهله، وأثنى به على صفوته من العالمين وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيه أيوب: {إِنَا وَجَدْنَاهُ صَابِرَاً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب}* [سورة ص: 44]، وقال [تعالى] لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنِ الرُّسُلِ}* [الأحقاف: 35]، وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}* [النمل: 127]، وقال يوسف الصديق، وقد قال له إخوته: {أَإِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيَعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}* [يوسف:90]، وهذا يدل على أن الصبر من أجل مقامات الإيمان، وأن أخصّ الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأن الخاصة أحوج إليه من العامة.

الوجه الخامس: أن الصبر سبب فى حصول كل كمال، فأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص.

فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل، ولهذا فى دعاء النبى ﷺ الذى رواه الإمام أحمد وابن حبان فى صحيحه: ((اللَّهم إنى أسألك الثبات فى الأمر والعزيمة على الرشد))، ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر، فلو علم العبد الكنز الذى تحت هذه الأحرف الثلاثة أعنى اسم ((الصبر)) لما تخلف عنه.

قال النبى ﷺ: ((ما أُعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر))، وقال عمر بن الخطاب [رضى الله عنه] حين غشى عليه: أدركناه بالصبر. وفى مثل هذا قال القائل:

نزه فؤادك عن سوانا والقنا فجنابنا حـــل لكل منزه

والصبر طلّسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلَّسم فاز بكنزه

فالصبر طلسم على كنز السعادة، من حله ظفر بالكنز.




الوجه السادس: قوله: ((الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته))، فيقال: هذا أحد أقسام الصبر، وهو الصبر على البلاءِ. وأما الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد لا يعرض فيه، بل [يتجلى] بها ويأْتى بها محبة ورضى، ومع هذا فالصبر واقع عليها، فإنه حبس النفس على مداومتها والقيام بها، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى}* [الكهف: 28]، وأما الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، لتمكن الصابر من قهر داعيها وغلبته.

وإذا كان ما ذكر من الأُمور الأربعة إِنما يعرض فى الصبر على البلية فقوله: ((إنه فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة)) ليس كذلك، وإنما فيه التجلد، فأين المناوأة [والجرأة] والمنازعة؟

وأما لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تعدم فلا يصح أن يقال: إن وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى جرأَة ومنازعة، بل هو محض العبودية والاستكانة وامتثال الأَمر، وهو من عبودية الله المفروضة على عبده فى البلاءِ، فالقيام بها عين كمال العبد ولوازم الطبيعة لا بد منها، ومن رام أن لا يجد البرد والحر والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها فقد رام الممتنع.

وهل يكون الأَجر إلا على وجود تلك الآلام والمشاق والصبر عليها؟ وقد ثبت عن النبى ﷺ أنه قال: ((أشد الناس بلاءَ الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل))، وقيل له فى مرضه: إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: ((أجل إن لى أجر رجلين منكم)) يعنى فى وعكة [ﷺ].

ولا ريب أن ذلك الوعك مؤلم له ﷺ، وأيضاً فى مرض موته قال: ((وارأْساه))، وهذا إنما هو من وجود أَلم الصداع، وكان يقول فى غمرات الموت: ((اللَّهم أَعنِّى على سكرات الموت)) [ويدخل يده فى القدح ويمسح وجهه بالماء من كرب الموت]، وهذا كله لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته ﷺ.

وهل كان ذلك إلا محض العبودية وعين الكمال؟ وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا فى ترك الصبر، وفى التسخط والشكوى؟

الوجه السابع: قوله: ((فإن حامله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحامل الأذى بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى))، فيقال: الذى يمكن الخروج عنه هو الشكوى، وأما أن يخرج عن ذوق البلوى فلا يجده أو يتلذذ بها، فهذا غير ممكن، ولا هو فى الطبيعة، وإنما الممكن أن يشاهد العبد فى تضاعيف البلاءِ لطف صنع الله به وحسن اختياره له وبره به فى حمله عنه [فيخفف عنه] مؤنة حمله، وتشتغل النفس باستخراج لطائف صنع الله به وبره وحسن اختياره عن شهود حمله فيحصل له لذة بما شهده من ذلك، وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهى أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وإنه بمرأى منه ومسمع، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التى خلعها عليه ليرفل له فى أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله، فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هى موافقة المحبوب فى محابه فيحب ما يحبه محبوبه، فيحب العبد تلك الحال من حيث موافقته لمحبوبه وإن كرهها من حيث الطبع البشرى، فإن هذه الكراهة لا تنافى محبته لها كما يكره طبعه الدواءَ الكريه وهو يحبه من وجه آخر، وهذا لا ينكر فى المحبة المتعلقة بالمخلوق مع ضعفها وضعف أسبابها، كما قال القائل فى ذلك:

أهوى هواه وبعدى عنه يعجبه فالبعد قد صار لى فى حبه أَربا

وقال الآخر:

أريد وصاله ويريد هجـرى فـأترك ما أريد لما يـريـد

وقال الآخر:

وأَهنتنى فأَهتت نفسى جاهداً ما من يهون عليك ممن أُكرم

وإنه لتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه عن مراده هو منه. فإذا شهد مراد محبوبه أَحبه، وإن كان كريهاً إليه. فهذا لا ينكر ولا ينافى التأَلم بمراد المحبوب المنافى للمحب وصبره عليه، بل يجتمع فى حقه الأَمران، وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة، فكلما قوى علمه بذلك وقويت محبته لمن ذكره بابتلائه ازداد تلذذه بها مع الكراهية الطبيعية التى هى من لوازم الخلقة ولا سيما إِذا علم المحب الذى أَحب الأشياءَ إليه أن يجرى ذكره على بال محبوبه أَن محبوبه قد ذكره بنوع من الامتحان، فإنه يفرح بذكره له وإن ساءه ما ذكره به كما قال القائل:

لئن ساءَنى أن نلتنى بمساءَة لقد سرنى أَنى خطرت ببالكا

الوجه الثامن: قوله: ((وهو على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول التصبر- إلى قوله- وهو صبر العوام))، فيقال: لا ريب أن التصبر مؤذن بتكلف وتحمل على كره، ولكن هذا لا بد منه فى الصبر. وهو سببه الذى ينال به، فالتصبر من العبد، والصبر ثمرته التى يفرعها الله إذا تعاطاه وتكلفه، كما قال النبى ﷺ: ((ومن يتصبر يصبره لله))، فمنزلة التصبر من الصبر منزلة التعلم والتفهم من العمل والفهم، فلا بد منه فى حصول الصبر.

الوجه التاسع: قوله: ((والثانى الصبر، وهو نوع سهولة يخفف عن المبتلى بعض الثقل، ويسهل عليه صعوبة المراد وهو الصبر للله، وهو صبر المريدين))، فقد تقدم أن الصبر ثمرة التصبر وكلاهما إنما يحمد إذا كان الله. وإنما يكون إذا كان بالله فما لم يكن به لا يكون، وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر، فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصوده إلا أن يكون بالله ولله. قال تعالى فى الصبر به: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}* [النحل: 127]، وقال فى الصبر له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}* [الطور: 48].

واختلف الناس أى [الله] الصبرين أعلى وأفضل: الصبر له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحب [كتاب] ((منازل السائرين)): وأضعف الصبر الصبر لله وهو صبر العامة، وفوقه الصبر بالله، [وهو صبر المريد وفوقهما الصبر على الله ووجه هذا القول السالك ووجه هذا القول إن الصبر لله]هو صبر العابد الذى تصبر نفسه لأَمر الله طالباً لمرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل صابر عن المحرمات، وأما الصبر به فهو تبرؤ من الحول والقوة، وإضافة ذلك إلى الله [عز وجل] وهو صبر المريد.

وأما الصبر على الله فصبر السالك على ما يجيء به متعلق أقداره وأحكامه. والصواب أن الصبر لله أكمل من الصبر به، فإِن الصبر له متعلق بإلهيته ومحبته، والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته، وما هو له أكمل مما هو به، فإن ما هو له [هو] الغاية وما به هو الوسيلة، فالصبر به وسيلة والصبر له غاية، وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل.

وأيضاً فإن الصبر له متعلق بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}* [الفاتحة: 5]،وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين الله، كما ثبت عن النبى ﷺ فيما يروى عن ربه و((إِيَّاك نعبد)) هى التى لله، و((إيَّاك نستعين)) هى التى للعبد، وما لله أكمل مما للعبد فما تعلق بما هو له أفضل مما تعلق بما هو للعبد، وأيضاً فالصبر له مصدره المحبة، والصبر به مصدره الاستعانة والمحبة أكمل من الاستعانة. وأما الصبر على الله [سبحانه] فهو الصبر على أحكامه الدينية والكونية، فهو يرجع إلى الصبر على أوامره والصبر على ابتلائه، فليس فى الحقيقة قسماً ثالثاً، والله أعلم.

فقد تبين أن الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل لكمال العبد الذى لا كمال له بدونه، ولا يذم منه إلا قسم واحد وهو الصبر عن الله [سبحانه] فإنه صبر المعرضين المحجوبين، فالصبر عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤُه، وهو الذى يسقط المحب من عين محبوبه، فإن المحب كلما كان أَكمل محبة كان صبره عن محبوبه متعذراً.

الوجه العاشر: قوله: ((الثالث الاصطبار، وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على الله وهو صبر العارفين)). فيقال: الاصطبار افتعال من الصبر كالاكتساب والاتخاذ، وهو مشعر بزيادة المعنى على الصبر، كأَنه صار سجية وملكة: فإن هذا البناء مؤذن بالاتخاذ والاكتساب، قال تعالى: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِر} [القمر: 27] ، فالاصطبار أبلغ من الصبر كما أن الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان فى العمل الذى يكون على صاحبه، والكسب فيما له، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}* [البقرة: 286] تنبيهاً على أن الثواب يحصل لها بأَدنى سعى وكسب، وأن العقاب إنما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه.

وإذا علم هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار الله سبحانه لا يخص الاصطبار، بل يكون مع الصبر ومع [التصبر]. ولكن لما كان الاصطبار أبلغ من الصبر وأقوى كان بهذا التلذذ والاستبشار أولى. والله أعلم

























قـاعـدة

الصبر عن المعصية ينشأُ من أسباب عديدة:

أحدها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمى الوالد الشفيق [والده] عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب.

السبب الثانى: الحياءُ من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأَى منه ومسمع- وكان [حياً] حييّاً- استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.

السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}* [الرعد: 11]، وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها.

وقال بعض السلف: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل سنة. وقال آخر: أذنبت ذنباً فحرمت فهم القرآن. وفى مثل هذا قيل:

إذا كنت فى نعمة فارعها فإن المعاصى تزيل النعم

وبالجملة فإن المعاصى نار النعم تأْكلها كما تأْكل النار الحطب، عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.

السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه. وهذا إنما يثبت بتصديقه فى وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}* [فاطر:28]، وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار بالله جهلاً.

السبب الخامس: محبة الله [سبحانه] وهى أقوى الأسباب فى الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوى سلطان المحبة فى القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده، وفى هذا قال عمر: ((نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)) يعنى أنه لو لم يخف من الله لكان فى قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته.

فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.

وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهى أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى [فيه] نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه. وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم، فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.

السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التى تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوى بينها وبين السفلة.

السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشيء منها: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وأَلمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله. وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته والحيرة فى أَمره وتخلى وليه وناصره عنه، وتولى عدوه المبين له، وتوارى العلم الذى كان مستعداً له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أَو ضعفه ولا بد، ومرضه الذى إذا استحكم به فهو الموت ولا بد، فإِن الذنوب تميت القلوب، ومنها ذله بعد عزة، ومنها أن يصير أسيراً فى يد أعدائه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه، ومنها أن يضع تأثيره فلا يبقى له نفوذ فى رعيته ولا فى الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أَمرها، ولا ينفذ فى غيرهم، ومنها زوال أَمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأُنس والاستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة، ومنها زوال الرضى واستبداله بالسخط، ومنها زوال الطمأْنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه، ومنها وقوعه فى بئر الحسرات، فلا يزال فى حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى [غيرها] إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.

فيالها ناراً قد عذب بها القلب فى هذه الدار قبل نار الله الموقدة التى تطلع على الأفئدة، ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأْس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب رأْس ماله أصبح فقيراً معدماً، فإما أن يسعى بتحصيل رأْس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير [وإلا] فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأْس ماله، ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها ضعف بدنه، ومنها زوال المهابة والحلاوة التى لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغضة والنفرة منه فى قلوب الناس، ومنها ضياع أعز الأشياءِ عليه وأنفسها وأعلاها، وهو الوقت الذى لا عوض منه، ولا يعود إليه أبداً، ومنها طمع عدوه فيه وظفره به، فإِنه إِذا رآه منقاداً مستجيباً لما يأْمره اشتد طمعه فيه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دن مولاه الحق، ومنها الطبع والرين على قلبه، فإن العبد إذا أذنب نكت فى قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أُخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران، قال الله تعالى: {كَلا بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكسِبُونَ}* [المطففين: 14]، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها فى قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة فى الآخرة، فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد. ومنها أن تمنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة، فإن القلب لا يزال مشتتاً مضيعاً حتى يرحل من الدنيا وينزل فى الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أَطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده، وما لم يترحل إلى الآخرة ويحضرها فالتعب والعناءُ والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة.

ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه، ومنها أن الذنب يستدعى ذنبا آخر، ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثاً، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعى رابعاً، وهلم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته.

قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات فى الدنيا ولذة ما فى الآخرة.

كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}* [الأحقاف: 20]، فالمؤمن لا يذهب طيباته فى الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة.

وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته فى الدنيا، ومنها علمه بأن أعماله هى زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته، ومنها علمه بأَن عمله هو وليه فى قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه، ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها، وأعمال الفجور تهوى به وتجذبه إلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين، وبحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث [تستقر] به، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَالِحُ يَرْفَعُهُ}* [فاطر: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ}* [الأعراف: 40]، فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أُغلقت عنها.

وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها فى عليين، ومنها خروجه من حصن الله الذى لا ضيعة على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهباً للصوص وقطاع الطريق.

فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه [آفة] إلى خربة موحشة هى مأْوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئاً من متاعه؟

ومنها أنه بالمعصية قد تعرّض لمحق بركته [فى كل شيء من أمر دنياه وآخرته فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء والمعصية متحق منه كل بركة].

وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً فخير الدنيا والآخرة بحذافيره فى طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره فى معصيته، وفى بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: من ذا الذى أطاعنى فشقى بطاعتى؟ ومن ذاى الذى عصانى فسعد بمعصيتى؟

السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال فى ظل شجرة ثم سار وتركها. فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل.

السبب التاسع: مجانبة الفضول فى مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعى إلى المعاصى إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام. ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد.

السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان فى القلب، فصبر العبد عن المعاصى إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، وامتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.

ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصى بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى سراج الإيمان فى القلب، وأَضاءَت جهاته كلها به، وأشرق نوره فى أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعى الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته. فهو كل وقت يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته. والله يختص برحمته من يَشاءُ، والله ذو الفضل العظيم.

@

فصل

والصبر على الطاعة ينشأُ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أَقوى أسبابها: الإيمان والمحبة، فكلما قوى داعى الإيمان والمحبة فى القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.

وههنا مسألة تكلم فيها الناس، وهى أى الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟ فطائفة رجحت الأول وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصى إلا صدّيق. قالوا: ولأن داعى المعصية أشد من دواعى ترك الطاعة، فإن داعى المعصية إلى [داع أمر] أمر وجودى تشتهيه النفس وتلتذ به، والداعى إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعى المعصية أقوى.

قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعى النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناءُ الرجل وطلب التشبه والمحاكاة وميل الطبع، وكل واحد من هذه الدواعى يجذب العبد إلى المعصية ويطلب أثره، فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأى صبر أَقوى من صبر عن إجابتها؟ ولولا أَن الله يصبره لما تأْتى منه الصبر.

وهذا القول كما ترى حجته فى غاية الظهور، ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناءً منها على أن فعل المأْمور أَفضل من ترك المنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة. ولا ريب أن فعل المأمورات إنما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل، وفصل النزاع فى ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية: فالصبر على الطاعة [العظيمة] الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة، وصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة [الضحى]

وصوم يوم تطوعاً ونحوه، فهذا فصل النزاع فى المسألة. والله أعلم.




فصل

والصبر على البلاء ينشأُ من أسباب عديدة:

أحدها: شهود جزائها وثوابها.

الثانى: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.

الثالث: شهود القدر السابق الجارى بها، وأنها مقدرة فى أُم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.

الرابع: شهوده حق الله عليه فى تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأُمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأْمور بأداء حق الله وعبوديته عليه فى تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.

الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: {وَمَآ أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَكُمْ}* [الشورى: 30]، فهذا عام فى كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذى هو أعظم الأسباب فى دفع تلك المصيبة. قال على بن أبى طالب: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة.

السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية تقتضى رضاه بما رضى له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى الحق.

السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هى دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأْه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً.

الثامن: أن يعلم أن فى عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحة وزوال الأَلم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأْثيره. قال [الله] تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}* [البقرة: 216].

وقال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}* [النساء: 19] وفى مثل هذا القائل:

لعلّ عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل

التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءَت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وأَلبسه ملابس الفضل وجعل أولياءَه وحزبه خدماً له وعوناً له، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأُقصى وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر فى الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة فى حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة فى حقه صارت نعماً عديدة.

وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب فى تلك الساعة. والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأَنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل الْعظيم.

العاشر: أن يعلم أن الله يربى عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته فى جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذى يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته. فلا ريب أن الإيمان الذى يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاءِ والعافية.

فالابتلاء كير العبد [محل] إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً [غضاً]، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهباً خالصاً فلو علم العبد أن نعمة الله عليه فى البلاءِ ليست بدون نعمة الله عليه فى العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللَّهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه فى داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر.

فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.




فصل

المثال السادس: الحزن، قال أبو العباس: ((وهو من منازل العوام، وهو انخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة لتأَسف عن فائت أو توجع لممتنع. وإنما كان من منازل العوام لأن فيه نسيان المنة، والبقاءَ فى رق الطبع، وهو فى مسالك الخواص حجاب، لأن معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة. فبذلك فليفرحوا.

وقيل: أوحى الله إلى داود: يا داود بى فافرح، وبذكرى فتلذذ، وبمعرفتى فافتخر. فعما قليل أُفرغ الدار من الفاسقين، وأُنزل نقمتى على الظالمين)).

اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين. ولهذا لم يأْمر الله به فى موضع قط ولا أَثنى عليه، ولا رتب عليه جزاء ولا ثواباً، بل نهى عنه فى غير موضع كقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}* [آل عمران: 139]، وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِى ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}* [النحل: 127]، وقال تعالى: {فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}* [المائدة: 26]، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا}* [التوبة: 40]، فالحزن هو بلية من البلايا التى نسأَل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحزَن}* [فاطر: 34]، فحمده على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها.

وفى الصحيح عن النبى ﷺ أنه كان يقول فى دعائه: ((اللَّهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال)).

فاستعاذ ﷺ من ثمانية أشياء كل شيئين منها قرينان: فالهم والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم. فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضى أثر الحزن، وإن كان مصدره خوف الآتى أثر الهم. والعجز والكسل قرينان، فإن تخلف مصلحة العبد وبعدها عنه إن كان من عدم القدرة فهو عجز، وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل والجبن والبخل قرينان، فإن الإحسان يفرح القلب ويشرح الصدر ويجلب النعم ويدفع النقم، وتركه يوجب الضيم والضيق ويمنع وصول النعم إليه، فالجبن ترك الإحسان بالبدن، والبخل ترك الإحسان بالمال، [وضلع الدين وغلبة الرجال] قرينان، فإن القهر والغلبة الحاصلة للعبد إما منه وإما من غيره، وإن شئت قلت: إما بحق وإما بباطل من غيره.

والمقصود أن النبى ﷺ جعل الحزن مما يستعاذ منه. وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}* [المجادلة: 10]، فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التى يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأْموراً بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات. ولكن يحمد فى الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يحزن.. على تفريطه وتقصيره خدمة ربه وعبوديته، وأما أن يحزن على تورّطه فى مخالفته ومعصيه وضياع أيامه وأوقاته.

وهذا يدل على صحة الإيمان فى قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكن الحزن لا يجدى عليه، فإنه يضعفه كما تقدم.

بل الذى ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته فى السفر، فجلس فى الطريق حزيناً كئيباً يشهد انقطاعه ويحدث نفسه باللحاق بالقوم. فكلما فتر وحزن حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع. فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين وأخص من هذا الحزن حزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجده فى سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك، ولا سيما فى ابتداء أمره، فالأول حزن على التفريط فى [الأعمال]، وهذا حزن على نقص حاله مع الله وتفرقة قلبه وكيف صار ظرفاً لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده.

وأخص من هذا الحزن حزنه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه كيف هو خال من محبة الله؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو منصرف فى غير محاب الله؟ فهذا حزن الخاصة، ويدخل فى هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج.

فهذه المراتب من الحزن لا بد منها فى الطريق ولكن الكيس [من] لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفى حصوله عن الفكرة فى الأسباب التى يدفعها به فأَورثها الحزن، وإن كانت نفساً كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها فإن علمت منه مخرجاً فكرت فى طريق ذلك المخرج وأسبابه وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت فى عبودية الله فيه. وكان ذلك عوضاً لها من الحزن، فعلى كل حال لا فائدة لها فى الحزن أصلاً والله أعلم.

وقال بعض العارفين: ليست الخاصة من الحزن فى شيء. وقوله [رحمه الله:]: ((معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة)) كلام فى غاية الحسن، فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، [وانكشفت] عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح وأقبلت إليه وفود التهانى والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبداً، ولهذا قال [تعالى] حكاية عن نبيه ﷺ أنه قال لصاحبه أبى بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}* [التوبة: 40]، فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أى شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأَى شيء يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}* [يونس: 58]، فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه.

فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به: من حبيب أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك. يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها فى قلبه ومضرتها فى وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقّاهم الله نضرة وسروراً.

فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذى شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم.

تلك المكارم لا قعبانِ من لبن شيباً بماءٍ [فماذا] بعد أبوالا




فصل

والمثال السابع: الخوف. قال أبو العباس: ((هو الانخلاع عن طمأْنينة الأمن والتيقظ لنداءِ الوعيد، والحذر من سطوة العقاب. وهو من منازل العوام أيضاً، وليس فى منازل الخواص خوف، لأنه لا أمان للغافل، إنما يعبد مولاه على وحشة من نظره، ونفرة من الأُنس به عند ذكره: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}* [الشورى: 22].

وأما الخواص أهل الاختصاص، فإنهم جعلوا الوعيد منه وعداً، والعذاب فيه عذباً لأنهم شاهدوا المبتلى فى البلاءِ، والمعذب فى العذاب، فاستعذبوا ما وجدوا فى جنب ما شاهدوا فى ذلك. قال قائلهم:

سقمى فى الحب عاقـبتى ووجودى فى الهوى عدمي

وعذاب ترتضون بــه فى فمى أحلى من النـعم

ومن كان مستغرقاً فى المشاهدة حل فى بساط الأُنس، فلا يبقى للخوف بساحته ألم. لأن المشاهد توجب الأُنس، والخوف يوجب القبض)).

ثم ذكر حكاية المضروب الذى ضرب مائة سوط فلم يتألم لأجل نظر محبوبه إليه، ثم ضرب سوطاً فصاح لما توارى عنه محبوبه. قال: ((وقد قيل فى قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}* [الشورى: 26]، دليل خطابه أن المؤمنين لهم عذاب ولكن ليس بشديد، وإنما كان عذاب الكافرين شديداً لأنهم لا يشاهدون المعذب لهم، والعذاب على شهود المعذب عذب، والثواب على الغفلة من المعطى صعب فالخوف إذاً من منازل العوام))

والكلام على ما ذكره من وجوه:

أحدها: أن الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التى عليها مدار مقامات السالكين جميعها وهى: الخوف، والرجاءُ، والمحبة وقد ذكره سبحانه

فى قوله: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تحويلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذَابَهُ}* [الإسراء: 56- 57]، فجمع بين المقامات الثلاثة، فإن ابتغاءَ الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه. ثم يقول: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُون عَذَابَهُ )، فذكر الحب والخوف والرجاءَ، والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين يتقربون إلى ربهم ويخافونه ويرجونه، فهم عبيده كما أنكم عبيده، فلماذا تعبدونهم من دونه وأَنتم وهم عبيد له؟ وقد أَمر سبحانه بالخوف منه فى قوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}* [آل عمران: 175]، فجعل الخوف منه شرطاً فى تحقق الإيمان، وإن كان الشرط داخلاً فى الصيغة على الإيمان فهو المشروط فى المعنى، والخوف شرط فى حصوله وتحققه، وذلك لأن الإيمان سبب الخوف الحاصل عليه، وحصول المسبب شرط فى تحقق السبب كما أن حصول السبب موجب لحصول مسببه، فانتفاءُ الإيمان عند انتفاء الخوف انتفاءٌ للمشروط عند انتفاءِ شرطه، وانتفاءُ الخوف عند انتفاءِ الإِيمان انتفاءٌ للمعلول عند انتفاءِ علته. فتدبره.

والمعنى: إن كنتم مؤمنين فخافونى. والجزاءُ محذوف مدلول عليه بالأول عند سيبويه وأصحابه، أو هو المتقدم نفسه، وهو جزاءٌ وإن تقدم كما هو مذهب الكوفيين.

وعلى التقديرين فأداة الشرط قد دخلت على السبب المقتضى للخوف وهو الإيمان، وكل منهما مستلزم للآخر لكن الاستلزام مختلف، وكل منهما منتف عند انتفاءِ الآخر، لكن جهة الانتفاءِ مختلفة كما تقدم.

والمقصود: أن الخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يختلف عنه. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}* [المائدة: 44].

وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}* [الأنبياء: 90]، فالرغب: الرجاءُ والرغبة، والرهب: الخوف والخشية، وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}* [النحل: 50].

وفى الصحيح عن النبى ﷺ أنه قال: ((إنى أعلمكم بالله وأشدكم له خشية))، وفى لفظ آخر: ((إنى أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقى))، وكان ﷺ يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاءِ، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}* [فاطر: 28]، فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف.

قال ابن مسعود: وكفى بخشية الله علماً. ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأَعرف الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له، وكلما ازداد معرفة ازداد حياءً وخوفاً وحباً، فالخوف من أَجلّ منازل الطريق، وخوف الخاصة أَعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم أَليق، ولهم ألزم. فإن العبد إما أن يكون مستقيماً أو مائلاً عن الاستقامة فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف

وهو ينشأ من ثلاثة أُمور:

أحدها: معرفته بالجناية وقبحها.

والثانى: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.

والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب. فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه بقبحه، وإما عدم علمه بسوءِ عاقبته، وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان، فإذا علم قبح الذنب وعلم سوءَ مغبته وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال بينه وبينها اشتد خوفه. هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد.

وبالجملة فمن استقر فى قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج فى قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو. وأما إن كان مستقيماً مع الله فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عَزَّ وجَلَّ، فإن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإِن شاءَ أن يزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبى ﷺ، وكانت أكثر يمينه: ((لا ومقلب القلوب، لا ومقلب القلوب))، وقال بعض السلف: القلب أشد تقلباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً.

وقال بعضهم: مثل القلب فى سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن. ويكفى فى هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}* [الأنفال: 24]، فأى قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحق بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له فى كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أُخرى عليه. فالخوف حشو قلبه، لكن توارى عنه بغلبة غيره، فوجود الشيء غير العلم به، فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له المقلب له كيف يشاءُ لا إِلَهَ إلا هو.

الوجه الثانى: قوله: ((وليس فى منازل الخواص خوف)) قد تبين فساده، وأن الخاصة أشد خوفاً [للله] من العامة.

الوجه الثالث: قوله: العاقل يعبد ربه على وحشة من نظره ونفرة من الأُنس به عند ذكره: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ}* [الشورى: 22]، فهذا إِنما هو وحشة ونفار، وهو غير الخوف، فإن الوحشة إما تنشأُ من عدم الخوف، وأَما الخوف فإنه يوجب هروباً إلى الله وجمعية عليه وسكوناً إليه، فهى مخافة مقرونة بحلاوة وطمأْنينة وسكينة ومحبة، بخلاف خوف المسيء الهارب من الله فإنه خوف مقرون بوحشة ونفرة فخوف الهارب إليه سبحانه محشو بالحلاوة والسكينة والأُنس لا وحشة معه، وإنما يجد الوحشة من نفسه.

فله نظران: نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة، ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفاً مقروناً بأُنس وحلاوة وطمأنينة.

الوجه الرابع: إن استشهاده بقوله: {تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}* [الشورى: 22]، ليس استشهاداً صحيحاً، فإن هذا وصف لحالهم فى الآخرة عند معاينة العذاب أو عند الموت.

فهذا إشفاق مقرون بالاستيحاش، لأنه قد علم أنه صائر إليه كمن قدم إلى العقوبة ورأَى أسبابها، فهو مشفق منها إذا رآها لعلمه بأَنه صائر إليها. فليست الآية من الخوف المأْمور به فى شيء.

الوجه الخامس: أن الخوف يتعلق بالأَفعال، وأَما الحب فإنه يتعلق بالذات والصفات. ولهذا يزول الخوف فى الْجنة، وأما الحب فيزداد.

ولما كان الحب يتعلق بالذات كان من أسمائه سبحانه ((الودود))، قال البخارى فى صحيحه: ((الحبيب))، وأما الخوف فإن متعلقه أفعال الرب [سبحانه] ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، وإن كانت جنايته من قدر الله. ولهذا قال على بن أبى طالب [رضى الله عنه]: لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه.

فمتعلق الخوف ذنب العبد وعاقبته، وهى مفعولات للرب، فليس الخوف عائداً إلى نفس الذات. والفرق بينه وبين الحب أن الحب سببه الكمال، وذاته تعالى لها الكمال المطلق، وهو متعلق الحب التام.

وأما الخوف فسببه توقع المكروه، وهذا إنما يكون فى الأَفعال والمفعولات. وبهذا يعلم بطلان قول من زعم أنه سبحانه يُخاف لا لعلة ولا لسبب، بل كما يخاف السيل الذى لا يدرى العبد من أين يأْتيه. وهذا بناءٌ من هؤلاءِ على نفى محبته سبحانه وحكمته.

وأنه ليس إلا محض المشيئة والإرادة التى ترجح مثلاً على مثل بلا مرجح، ولا يراعى فيها حكمة ولا مصلحة. وهولاء عندهم الخوف يتعلق بنفس الذات من غير نظر إلى فعل العبد وأنه سبب المخافة، إذ ليس عندهم سبب ولا حكمة، بل إرادة محضة يفعل بها ما يشاءُ من تنعيم وتعذيب. وعند هؤلاءِ فالخوف لازم للعبد فى كل حال، أحسن أم أساءَ. وليس [لأفعالهم] تأْثير فى الخوف. وهذا من قلة نصيبهم من المعرفة بالله وكماله وحكمته.

وأين هذا من قول أمير المؤمنين على [رضى الله عنه] لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه؟ فجعل الرجاءَ متعلقاً بالرب سبحانه وتعالى، لأن رحمته من لوازم ذاته، وهى سبقت غضبه. وأما الخوف فمتعلق بالذنب، فهو سبب المخافة، حتى لو قدر عدم الذنب بالكلية لم تكن مخافة.

فإن قيل: فما وجه خوف الملائكة [وهم] معصومون من الذنوب التى هى أسباب المخافة، وشدة خوف النبى ﷺ مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأَخر وأنه أقرب الخلق إلى الله؟ قيل: عن هذا أربعة أجوبة:

الجواب الأول: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده. وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد، لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره.

ونظير هذا فى المشاهد أن [الماثل] بين يدى أحد الملوك المشاهد له أشد خوفاً منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، وأنه يطالب من [حقوقه] الخدمة وأَدائها بما لا يطالب به غيره، فهو أحق بالخوف من البعيد.

ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله ﷺ: ((إنى أعلمكم بالله وأشدكم له خشية))، وفهم قوله ﷺ فى الحديث الذى رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبى ﷺ أنه قال: ((إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم)).

وليس المراد به لو عذبهم لتصرف فى ملكه- والمتصرف فى ملكه غير ظالم- كما يظنه كثير من الناس، فإن هذا يتضمن مدحاً، والحديث إنما سيق للمدح [وبيان عظم حق الله على عباده وأنه لو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم ولم يكن] بغير استحقاق، فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف أضعاف ما أَتوا. ولهذا قال بعده: ((ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أَعمالهم)) يعنى أن رحمته لهم [ليست ثمناً لأعمالهم ولا تبلغ أعمالهم رحمته فرحمته لهم] ليست على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التى يستحقها عليهم لم يقوموا بها، فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيباً لحقه، وهو غير ظالم لهم فيه. ولا سيما فإن أعمالهم لا توازى القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداءِ حقه الذى ينبغى له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالماً لهم.

فإن قيل: فهم إذا [فعلوا] مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغى له مقدوراً لهم. فكيف يحسن العذاب عليه؟ قيل: الجواب من وجهين:

أحدهما: أن المقدور للعبد لا يأْتى به كله، بل لا بد من فتور وإعراض وغفلة وتوان. وأيضاً ففى نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامة لله فيها، بحيث يبذل مقدوره كله فى تحسينها وتكميلها ظاهراً وباطناً، فالتقصير لازم فى حال الترك وفى حال الفعل، ولهذا سأل الصديق النبى، دعاءً يدعو به فى صلاته، فقال له: ((قل: اللَّهم إنى ظلمت نفسى ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم))، فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكداً له بأن المقتضية ثبوت الخبر وتحققه، ثم أكده بالمصدر النافى للتجوز والاستعارة، ثم وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده وتكثره، ثم قال: ((فاغفر لى مغفرة من عندك))، أى لا ينالها عملى ولا سعيى بل عملى يقصر عنها، وإنما هى من فضلك وإحسانك، لا بكسبى ولا باستغفارى وتوبتى. ثم قال: ((وارحمنى)) أى ليس معولى إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتى وإلا فالهلاك لازم لى فليتدبر اللبيب هذا الدعاء وما فيه من المعارف والعبودية، وفى ضمنه: إنه لو عذبتنى لعدلت فى ولم يتظلمنى، وإنى لا أنجو إلا برحمتك ومغفرتك. ومن هذا قوله ﷺ: ((لن ينجى أحداً منكم عمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل))، فإذا كان عمل العبد لا يستقل بالنجاة، فلو لم ينجه الله فلم يكن قد بخسه شيئاً من حقه ولا ظلمه، فإنه ليس معه ما يقتضى نجاته، وعمله ليس وافياً بشكر القليل من نعمه، فهل يكون ظالماً له لو عذبه؟ وهل تكون رحمته له جزاءً لعمله، ويكون العمل ثمناً لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغى له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياءِ والمراقبة، والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدى الله فى العمل له؟ ومن علم هذا علم السر فى كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار، ففى صحيح مسلم عن ثوبان قال: ((كان رسول الله ﷺ إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثاً. وقال: اللَّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام))، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}* [الذاريات: 17- 18]، فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله.

وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقيب الإفاضة فى الحج فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}* [البقرة: 199]، وشرع رسول الله ﷺ للمتوضيء أن يختم وضوءَه بالتوحيد والاستغفار فيقول: ((أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، اللَّهمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِين وَاجْعَلْنِى مِنَ الْمُتَطَهِّرِين))، فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر، وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته، وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلاً.

الجواب الثانى: أنه لو فرض أن العبد يأْتى بمقدوره كله من الطاعة ظاهراً وباطناً، فالذى ينبغى لربه [سبحانه] فوق ذلك وأضعاف أضعافه. فإذا عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاءِ. والذى أتى به لا يقابل أَقل النعم. فإذا حرم جزاءَ العمل الذى ينبغى للرب [سبحانه] من عبده كان ذلك تعذيباً له، ولم يكن الرب ظالماً له فى هذا الحرمان.

ولو كان عاجزاً عن أسبابه فإنه لم يمنعه حقاً يستحقه عليه فيكون ظالماً بمنعه. فإذا أعطاه الثواب كان مجرد صدقة منه وفضل تصدق بها عليه لا ينالها عمله، بل هى خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معوضة عليه. والله أعلم.

الجواب الثالث عن السؤال الأول: إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرءِ وقلبه وأنه تعالى [سبحانه] كل يوم [هو فى] شأْن، يفعل ما يشاءُ ويحكم ما يريد وأنه يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ، ويرفع من يشاءُ ويخفض من يشاءُ، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}* [آل عمران: 8]، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم.

(يتبع...)

@ وكان من دعاء النبى ﷺ: ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك، ومثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك))، وفى الترمذى عنه ﷺ أنه كان يدعو: ((أعوذ بعزتك أن تضلنى أنت الحى الذى لا تموت)).

وكان من دعائه: ((اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطكَ وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ)).

فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين. وكأن فى استعاذته منه جمعاً لما فصله فى الجملتين قبله.

فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها، مع تضمنها فائدة شريفة وهى كمال التوحيد وأن الذى يستعيذ به [العائد] ويهرب منه إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره، فهو وحده المنفرد بالحكم. فإذا أراد بعبده سوءاً لم يعذه منه إلا هو. فهو الذى يريد به ما يسوؤه، وهو الذى يريد دفعه عنه. فصار سبحانه مستعاذاً به منه باعتبار الإرادتين: {وَإِنْ يمسسك اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ}* [الأنعام: 17]، فهو الذى يمس بالضر، وهو الذى يكشفه، لا إله إلا هو فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأُ منه إليه، كما أَن الاستعاذة منه، فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه.فهو الذى يحركه ويقلبه، ويصرفه كيف يشاءُ.

الجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذى يجعل الإيمان والهدى فى القلب ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة والتفويض وأضدادها والعبد فى كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله فى قلبه وحركات يحركها بها فى طاعته.

وهذا إلى الله سبحانه وتعالى فهو خلقه وقدره، وكان من دعاءِ النبى ﷺ: ((اللَّهم آت نفسى تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) وعلم حصين بن المنذر أن يقول: ((اللَّهم ألهمنى رشدى وقنى شر نفسى))، وعامة أدعيته ﷺ متضمنة لطلب توفيق ربه وتزكيته له واستعماله فى محابه، فمن هداه وصلاحه وأسباب نجاته بيد غيره، وهو المالك له ولها، المتصرف فيه بما يشاءُ ليس [له] من أمره شيء، من أحق بالخوف منه؟ وهب أنه قد خلق له فى الحال الهداية، فهل هو على يقين وعلم أن الله سبحانه وتعالى يخلقها له فى المستقبل ويلهمه رشده أبداً؟ فعلم أن خوف المقربين عند ربهم أعظم من خوف غيرهم والله المستعان، ومن هاهنا كان خوف السابقين من فوات الإيمان كما قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنب، وأنا أخاف الكفر.

وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: نشدتك الله هل سمانى لك رسول الله ﷺ؟ يعنى فى المنافقين فيقول: لا، ولا أزكى بعدك أحداً)) رواه البخارى يعنى لا أفتح على هذا الباب فى سؤال الناس لى، وليس مراده أنه لم يخلص من النفاق غيرك.

[الوجه الخامس]: قوله: ((وأَما الخواص فإنهم جعلوا الوعيد منه وعداً، والعذاب فيه عذباً، لأنهم شاهدوا المبتلى والمعذب فاستعذبوا ما وجدوا فى جنب ما شاهدوا)) إلى آخر كلامه.

فيقال: هذا الكلام ونحوه من رعونات النفس، ومن الشطحات التى يجب إنكارها. فمن ذا الذى جعل وعيد الله وعداً، وعقابه ثواباً وعذابه [عذباً]؟ وهل هذا إلا إنكار لوعيده وعذابه فى الحقيقة؟ وأى عذاب أشد من عذابه نعوذ بالله منه؟ قال تعالى: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}* [الحج: 2] وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}* [الفجر: 25- 26]، وهذا أظهر فى كل ملة من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه.

وإنما ينسب هذا المذهب إلى الملاحدة من القائلين بوحدة الوجود كما قال قائلهم:

ولم يبق إلا صادق الوعد وحده فما لوعيد الحق عين تعايــنُ

وإن دخلوا دار الشقــاءِ فإنهم على لذة فيهـا نعيم مبايــن

يسمى عذاباً من عذوبة طـعمه وذاك له كالقشر والقشر صائن

نعيم جنان الخلد والأمر واحـد وبينهما عند التجلى تبايــن

فهذا القائل خط على تلك النقطة التى نقطها أبو العباس ولعل الكلامين من مشكاة واحدة، وهذا مباين للمعلوم بالاضطرار من دين الرسل وما أخبرت به عن الله وأخبر به على لسان رسله .

فإن قيل: ليس مراده ما ذكرتم وفهمتم من كلامه، وإنما مراده أنه سبحانه إذا ابتلى عبده فى الدنيا فهو لكمال محبته له يتلذذ بتلك البلوى ويعدها نعمة، وليس مراده عذاب الآخرة.

قيل قوله عن الخواص: ((أنهم جعلوا الوعيد منه وعداً)) ينفى ما ذكرتم من التأْويل، فإن ابتلاءِ الدنيا غير الوعيد. وأيضاً فإنه فى مقام الخوف ونفيه عن الخاصة محتجاً عليه بأنهم يرون العذاب عذباً والوعيد وعداً، فما لهم وللخوف؟ هذا مقصوده من سياق كلامه واحتجاجه عليه بهذا الهذيان الذى يسخر منه العقلاءُ.

بل نحن لا ننكر أن العبد إذا تمكن حب الله فى قلبه حتى ملك جميع أجزائه فإنه قد يتلذذ بالبلوى أحياناً، وليس ذلك دائماً ولا أكثرياً، ولكنه يعرض عند هيجان الحب وغلبة الشوق، فيقهر شهود الألم، ثم يراجع طبيعته فيذوق الألم. ولكن أين هذا من جعل الوعيد وعداً، والعذاب عذباً؟ وإن أحسن الظن بصاحب هذا الكلام ظن به أَنه ورد عليه وارد من الحب يخيل فى نفسه أن محبوبه إذا توعده كان ذلك منه وعداً وإن عذَّبه كان عذابه عنده عذباً لموافقته مراد محبوبه، وهذا خيال فاسد وتقدير فى النفس، وإلا فالحقيقة الخارجية تكذِّب هذا الخيال الباطل.

بل لو صب عليه أدنى شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافية. وحكمة الله تقتضى تعجيز هذه النفوس الجاهلة الرعناءِ الحمقاءِ بأدنى شيء يكون من الألم والوجع، حتى يتبين لها دعاويها الكاذبة، وشطحها الباطل.

وهذا سيد المحبين وسيد ولد آدم استعاذته بالله من عذابه وبلائه وسؤاله عافيته ومعافاته، معلومة فى أدعيته وتضرعه إلى ربه وابتهاله إليه فى ذلك، وهى أكثر وأشهر من أن تذكر ههنا، وإن ما فى سيد المحبين أسوة وقدوة، ولكن قد ابتلى كثير من أهل الإرادة بالشطح، كما ابتلى كثير من أهل الكلام بالشك. والمعافى من عافاه الله من هذا وهذا. فنسأل الله عافيته ومعافاته.

[الوجه السادس] قوله: ((إن عذاب الكافرين إنما كان شديداً لأنهم لا يشاهدون المعذب لهم، والمؤمنون يشاهدونه فلم يكن عذابهم شديداً)) وليس كذلك، فإن عذاب الكافرين شديد فى نفسه لغلظ جرمهم وهو الكفر، وهو دائم لا انقطاع له. وأما المؤمنون الذين يعذبون بذنوبهم فعذابهم أضعف من عذاب الكافرين، لأن عذابهم على الذنوب وهى دون الكفر، وهو منقطع.

والآية لم يرد بها إثبات عذاب المؤمنين دون عذاب الكافرين، وإنما سيقت لبيان عذاب الكافرين حسب مفهومها نفى العذاب عن المؤمنين، لا إثبات عذاب غير شديد. والله أعلم.

[الوجه السابع] قوله: ((وللخواص الهيبة، وهى أقصى درجة يشار إليها فى غاية الخوف، والخوف يزول بالأمن وينتهى به خوف الشخص على نفسه من العقاب، فإذا أمن العقاب زال الخوف، والهيبة لا تزول أبداً لأنها مستحقة للرب بوصف التعظيم والإجلال، وذلك الوصف مستحق على الدوام.

وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصدم المشاهد أحيان المشاهدة وتعصم العائن بصدمة العزة، ومنه قال قائلهم:

أشتاقه، فإذا بدا أطرقت من إجلاله

لا خيفة، بل هيبة وصيانة لجمالــه

وأصدّ عنه تجلداً وأَروم طيف خياله

فيقال من العجائب أن المعنى الذى أمر الله به فى كتابه وأَثنى به على خاصة عباده وأقربهم إليه- وهم أنبياؤه ورسله وملائكته- يُجعل ناقصاً من منازل العوام، ويعمد إلى معنى لم يذكره الله ولا رسوله، ولا علق به على المدح والثناءِ فى موضع واحد. فيجعل هو الكمال، وهو للخواص من العباد.

فأين فى القرآن والسنة ذكر الهيبة [والأمر بها ووصف خاصته بها؟ ونحن لا ننكرر أن الهيبة] من لوازم الإيمان وموجباته، ولكن المنكر أن يكون الوصف الذى وصف به أنبياءَه وملائكته ناقصاً والوصف الذى لم يذكره هو الكامل التام، وهذا المعنى المعبر عنه بالهيبة حق، ولكن لم تجيء العبارة عنه فى القرآن والسُّـنَّة بلفظ الهيبة، وإنما جاءت بلفظ الإجلال، كقول النبى ﷺ: ((إن من إجلال الله إجلال ذى الشيبه المسلم وحامل القرآن غير الغالى فيه والجافى عنه، والإمام العادل))، فالإجلال هو التعظيم وكذلك الهيبة. يوضح هذا.

[الوجه الثامن]: وهو أن الهيبة والإجلال يجوز تعلقهما بالمخلوق، ما قال النبى ﷺ: ((إن من إجلال [الله إجلال] ذى الشيبة المسلم...)) الحديث.

وقال ابن عباس عن عمر: هبته وكان مهيباً، وأما الخشية والمخافة فلا تصلح إلا لله وحده، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوا النَّاسَ وَاخْشَوْن}* [المائدة: 44]، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] ، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}* [التوبة: 18].

فالخوف عبودية القلب فلا تصلح إلا لله [وحده] كالذل والمحبة والإنابة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب، [فكيف] يجعل المهابة المشتركة أفضل منه وأعلى؟ وتأمل قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ}* [النور: 52]، كيف جعل الطاعة لله ولرسوله، والخشية والتقوى له وحده، وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}* [الفتح: 9]، كيف جعل التوقير والتعزيز للرسول وحده، والتوقير هو التعظيم الصادر عن الهيبة والإجلال.

هذه حقيقته، فعلم أن الخوف من أجلّ مقامات الخواصّ وأنهم إليه أحوج وبه أقوم من غيرهم.

[الوجه التاسع]: قوله: ((الخوف يزول بالأمن، والهيبة لا تزول أبداً...إلخ))، فيقال: هذا حق، فإن الخوف إنما يكون قبل دخول الجنة، فإذا دخلوها زال عنهم الخوف الذى كان يصحبهم فى الدنيا وفى عرصات القيامة، وبدلوا به أمناً، لأنهم قد أمنوا العذاب فزايلهم الخوف منه.

ولكن لا يدل هذا على أنه كان مقاماً ناقصاً فى الدنيا، كما أن الجهاد من أشرف المقامات، وقد زال عنهم فى الآخرة. وكذلك الإيمان بالغيب أجلّ المقامات على الإطلاق، وقد زال فى الآخرة وصار الأمر شهادة. وكذلك الصلاة والحج والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبذل النفس لله، وهى من أشرف الأعمال، وكلها تزول فى الجنة.

وهذا لا يدل على نقصانها فإن الجنة ليست دار سعى وعمل، إنما هى دار نعيم وثواب.

الوجه العاشر: أن الخوف إنما زال فى الجنة لأن تعلقه إنما هو بالأَفعال لا بالذات كما تقدم، وقد أمنهم ما كانوا يخافون منه. فقد أمنوا أن لا يفعلوا ما يخافون منه وأن يفعل بهم ربهم ما يخيفهم. ولكن كان الخوف فى الدنيا أنفع لهم فبه وصلوا إلى الأمن التام، فإن الله سبحانه وتعالى لا يجمع على عبده مخافتين [ولا أمنين]، فمن خافه فى الدنيا أمنه يوم القيامة ومن أمنه فى الدنيا ولم يخفه أخافه فى الآخرة. وناهيك شرفاً وفضلاً بمقام ثمرته الأمن الدائم المطلق.

الوجه [الحادى عشر]: أن الإجلال والمهابة والتعظيم إنما لم تزل لأنها متعلقة بنفس الذات، وهى موجودة فى دار النعيم. وأما الخوف فإنه إنما زال لأنه وسيلة إلى توفية العبودية والقيام بالأمر.

والوسيلة تزول عند حصول الغاية، ولكن زوال الوسيلة عند حصول الغاية لا يدل على أنها ناقصة. وإذا كانت تلك الغاية لا كمال للعبد بدونها فالوسيلة إليها كذلك.

الوجه [الثانى عشر]: قوله: ((وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصون المشاهد أحيان المشاهدة، وتعصم المعانى بصدمة العزة. فيقال: لا ريب أن الحب والأنس المجرد عن التعظيم والإجلال يبسط النفس، ويحملها على بعض الدعاوى والرعونات والأمانى الباطلة وإساءَة الأدب والجناية على حق المحبة.

فإذا قارن المحبة مهابة المحبوب وإجلاله وتعظيمه وشهود عز جلاله وعظيم سلطانه، انكسرت نفسه له وذلت لعظمته واستكانت لعزته وتصاغرت لجلاله وصفت من رعونات النفس وحماقاتها ودعاويها الباطلة وأمانيها الكاذبة، ولهذا فى الحديث: ((يقول الله عَزَّ وجَلَّ: أين المتحابون بجلالى؟ اليوم أُظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى))، فقال: ((أين المتحابون بجلالى))، فهو حب بجلاله [سبحانه] وتعظيمه ومهابته ليس حباً لمجرد جماله، فإنه سبحانه الجليل الجميل.

والحب الناشيء عن شهود هذين الوصفين هو الحب النافع الموجب لكونهم فى ظل عرشه يوم القيامة. فشهود الجلال وحده يوجب خوفاً وخشية وانكساراً، وشهود الجمال وحده يوجب حباً بانبساط وإدلال ورعونة. وشهود الوصفين معاً يوجب حباً مقروناً بتعظيم وإجلال ومهابة.

وهذا هو غاية كمال العبد. والله أعلم، وإنشاده هذه الأبيات الثلاثة فى هذا المقام فى غاية القبح، فإن هذا المحب ينفى خوفه من محبوبه [أخر أنه يصد عن محبوتبه] ويعرض عنه إظهاراً للتجلد أمام رقيبه، وذلك قبيح فى حكم المحبة، فإن التذلل للمحبوب وتملقه واستعطافه والانكسار له أَولى بالمحب من تجلده وتعززه كما قيل:

اخضع وذل لمن تحب فليس فى شرع الهوى أنف يشال ويعقد

ثم أخبر أنه يروم طيف خياله، فهو طالب لحظِّه من محبوبه لا لمراد محبوبه منه. فهذا محب لنفسه، وقد جعل طيف محبوبه وسيلة إلى حصول مراده فأَحبه حب الوسائل، بخلاف من قد أحب محبوبه لذات المحبوب ففنى عن مراده هو منه بمراد محبوبه فصار مراده مراد محبوبه، فحصل الاتحاد فى المراد لا فى الإرادة ولا فى المريد، هذا إن كان صبده عنه تجلداً عليه، وإن كان تجلداً على الرقيب خوفاً منه، فهو ضعيف المحبة، لأن فيه بقية ليست مع محبوبه بل مع رقيبه، فهلا ملأ الحب قلبه فلم يبق فيه بقية يلاحظ بها الرقيب والعاذل؟ كما قيل:

لا كان من لسواك فيه بقية يجد السبيل بها إليه العذل

وبالجملة فهذه الأبيات ناقصة المعنى لا يصلح الاستشهاد بها [فى هذا المقام] والله أعلم.




فصل

والمقصود الكلام على علل المقامات وبيان ما فيها من خطإٍ وصواب ؛ ولما كان أبو العباس بن العريف [رحمه الله] قد تعرض لذلك فى كتابه ((محاسن المجالس)) ذكرنا كلامه فيه وما له وما عليه، ثم ذكر بعد هذا فصلاً فى المحبة وفصلاً فى الشوق، فنذكر كلامه فى ذلك وما يفتح الله به تتميماً للفائدة ورجاءً للمنفعة، وأن يمن الله العزيز الوهاب بفضله ورحمته ويرقى عبده من العلم إلى الحال، ومن الوصف إلى الاتصاف. إنه قريب مجيب.

قال أبو العباس [رحمه الله]: ((وأما المحبة فقد أشار أهل التحقيق فى العبارة عنها، وكل نطق بحسب ذوقه، وانفسخ بمقدار شوقه)).

قلت: الشيء إذا كان فى الأُمور الوجدانية الذوقية التى إنما تعلم بآثارها وعلاماتها، وكان مما يقع [فيه] التفاوت بالشدة والضعف، وكان له لوازم وآثار وعلامات متعددة، اختلفت العبارات عنه بحسب اختلاف هذه الأشياء.

وهذا شأن المحبة، فإنها ليست- بحقيقة معانيها- ترى بالأبصار، فيشترك الواصفون لها فى الصفة. وهى فى نفسها متفاوتة أعظم تفاوت. كما بين العلاقة التى هى تعلق القلب بالمحبوب، والخلة التى هى أعلى مراتب الحب، وبينهما درجات متفاوتة تفاوتاً لا ينحصر.

ولها آثار توجبها وعلامات تدل عليها، فكل أدرك بعض [آثارها أو بعض] علاماتها فعبر بحسب ما أدركه وهى وراءَ ذلك كله: ليس اسمها كمسماها، ولا لفظها مبين لمعناها. وكذلك اسم المصيبة والبلية والشدة والألم إنما تدل أسماؤها عليها نوع دلالة لا تكشف حقيقتها،ولا تعلم حقيقتها إلا بذوقها ووجودها. وفرق بين الذوق والوجود وبين التصور والعلم. فالحدود والرسوم التى قيلت فى المحبة صحيحة غير وافية بحقيقتها بل هى إشارات وعلامات وتنبيهات.

فصـل

قال: ((وهى- على الإجمال قبل أن ننتهى إلى التفصيل- وجود تعظيم فى القلب يمنع الانقياد لغير [المحبوب])). فيقال: هذا التعظيم المانع من الانقياد لغير المحبوب هو أثر من آثار المحبة وموجب من موجباتها، لا أنه نفس المحبة. فإن المحبة إذا كانت صادقة أَوجبت للمحب تعظيماً لمحبوبه يمنعه من انقياده إلى غيره.

وليس مجرد التعظيم هو المانع له من الانقياد إلى غيره بل التعظيم المقارن للحب هو الذى يمنع من الانقياد إلى غير [المحبوب فإن التعظيم إذا كان مجرد عن الحب لم يمنع انقياد القلب إلى غير] المعظم. وكذلك إذا كان الحب خالياً عن التعظيم [لم يمنع المحب أن ينقاد إلى غير محبوبه فإذا اقترن الحب بالتعظيم] وامتلأَ القلب بهما امتنع انقياده إلى غير المحبوب.

والمحبة المشتركة ثلاثة أنواع:

أحدها: محبة طبيعية مشتركة، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء وغير ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم.

والنوع الثانى: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم.

والنوع الثالث: محبة أُنس وإلف، وهى محبة المشتركين- فى صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر- بعضهم بعضاً وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً.

فهذه الأنواع الثلاثة هى المحبة التى تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً فى محبة الله سبحانه.

ولهذا ((كان رسول الله ﷺ يحب الحلواءَ [و] العسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان يحب نساءه، وكانت عائشة رضى الله عنها أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق [رضى الله عنه].

وأما المحبة الخاصة التى لا تصلح إلا لله وحده ومتى أحب العبد بها غيره كان شركاً لا يغفره الله، فهى محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة وإيثاره على غيره.

فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً، وهى التى سوَّى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً للهِ}* [البقرة: 165]، وأصح القولين أن المعنى يحبونهم كما يحبون الله. وسوُّوا بين الله وبين أندادهم فى الحب. ثم نفى ذلك عن المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشدُّ حُبّاً لله} [البقرة: 165] فإن الذين آمنوا وأَخلصوا حبهم لله لم يشركوا به معه غيره، وأما المشركون فلم يخلصوا لله.

والمقصود من الخلق والأَمر إنما هو هذه المحبة وهى أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذى إذا مات عليه دخل الجنة اعترافه وإقراره بهذه المحبة وإفراد الرب [تعالى] بها، فهو أول ما يدخل به فى الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله ؛ وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل ؛ فهى قطب رحى السعادة، وروح الإيمان وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد.

فالكتاب هاد إليها ودال عليها ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها وأشرك فيها مع الله غيره، ولأجلها خلقت الجنة النار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره وسوى بينه وبين الله فيها، كما أخبر تعالى عن أهلها أنهم يقولون فى النار لآلهتهم: {تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلالِ مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}* [الشعراء:97-98]، وهذه التسوية لم تكن منهم فى الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه فى أفعاله وصفاته، وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها فى المحبة والعبودية [فقط] مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها، فتصحيح هذه [المسألة] هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله، فحقيق لمن نصح نفسه وأحب سعادتها ونجاتها أن يتيقظ لهذه المسألة علماً وعملاً وحالاً وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله.

فإن الشأن كله فيها والمدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}* [الحجر: 92- 93]، قال غير واحد من السلف: هو عن قول: ((لا إله إلا الله))، وهذا حق.

فإن السؤال كله عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها، فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها، قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالسؤال عمّاذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها، والسؤال عمَّاذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها: هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها، فعاد الأمر كله إليها.

وأمر هذا شأْنه حقيق بأن تنعقد عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضله، بل يجعل هو المطلب الأعظم وما سواه إنما يطلب على الفضلة. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.

فصل

قال: ((وقيل: المحبة إيثار المحبوب على غيره)) وهذا الحد أيضاً من جنس ما قبله، فإن إيثار المحبوب على غيره موجب المحبة ومقتضاها، فإذا استقرت المحبة فى القلب استدعت من المحب إيثار محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها، فإذا آثر غير المحبوب عليه لم يكن محباً له، وإن زعم أنه محب فإنما هو محب لنفسه ولحظه ممن يحبه، فإذا رأى حظاً آخر هو أحب إليه من حظه الذى يريده من محبوبه آثر ذلك الحظ المحبوب إليه.

فهذا موضع يغلط فيه الناس كثيراً إذ أكثرهم إنما هو يحب لحظِّه ومراده، فإذا علم أنه عند غيره أحب ذلك الغير حب الوسائل لا حباً له لذاته، ويظهر هذا عند حالتين:

إحداهما: أنه يرى حظاً له آخر عند غيره فيؤثر ذلك الحظ ويترك محبوبه.

الثانية: أنه إذا نال ذلك الحظ من محبوبه فترت محبته وسكن قلبه وترحل قاطن المحبة من قلبه، كما قيل: من ودَّك لأمر ولَّى عند انقضائه. فهذه محبة مشوبة بالعلل.

بل المحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله، وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته. وأن الذى يوجب هذه المحبة فناءُ العبد عن إرادته لمراد محبوبه، فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه لا على مراده هو من محبوبه. فهذه هى المحبة الخالصة من درن العلل وشوائب النفس، وهى التى [تستلزم إيثار المحبوب على غيره ولا بد وكلما كان سلطان هذه المحبة أقوى كان هذا الإيثار أتم] تتزايد، وفى مثل هذا قيل:

تعصى الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمرك فى القياس شنيع

لو كان حبك صادقاً لأطعته إِن المحب لمن يحب مطيــع

وهاهنا دقيقة ينبغى التفطن لها، وهى أن إيثار المحبوب نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حب وإرادة.

فالأول: يؤثر محبوبه على غيره طلباً لحظه منه، فهو يبذل ما يؤثره ليعاوضه بخير منه.

والثانى: يؤثره إجابة لداعى محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائماً إلى إيثار محبوبه، فإيثاره هو أجلّ حظوظه، فحظه فى نفس الإيثار لا فى العوض المطلوب بالإيثار، وهذا لا تفهمه إلا النفس اللطيفة الورعة المشرقة، وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعشها فتلدرج.

@

فصل

والدين كله والمعاملة فى الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، حتى [قيل] أن من شرطه الاحتياج من جهة المؤثر، إذ لو لم يكن محتاجاً إليه لكان بذله سخاءً وكرماً.

وهذا إنما يصح فى إيثار المخلوق، والله سبحانه يؤثر عبده على غيره من غير احتياج منه سبحانه فإنه الغنى الحميد، وفى الدعاء المرفوع: ((اللَّهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا)).

وقيل: من آثره الله على غيره آثره الله على غيره. والفرق بين الإيثار والأثرة أن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك والأثرة اختصاصك به على الغير، وفى الحديث: ((بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة فى عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا)).

فإذا عرف هذا، فالإيثار إما أن يتعلق بالخلق، وإما أن يتعلق بالخالق. وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتاً، ولا يفسد عليك حالاً، ولا يهضم لك ديناً ولا يسد عليك طريقاً، ولا يمنع لك وارداً.

فإن كان فى إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن الرجل من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان.

وهذا فى غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه. فإن الإيثار المحمود الذى أثنى الله على فاعله: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفَسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}* [الحشر: 9].

فأخبر أن إيثارهم إنما هو بالشيء الذى إذا وقى الرجل الشح به كان من المفلحين، وهذا إنما هو فضول الدنيا لا الأوقات المصروفة فى الطاعات.

فإن الفلاح كل الفلاح فى الشح بها فمن لم يكن شحيحاً بوقته تركه الناس على الأرض [عياناً] مفلساً، فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأْس ماله.

ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر بالمسابقة فى أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها، وهذا ضد الإيثار بها. قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}* [آل عمران: 133]، وقال تعالى: {فَاسْتَبقُوا الْخَيْرَاتِ}* [البقرة: 148] [المائدة: 48]، وقال تعالى: {وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}* [المطففين: 26]، وقال النبى ﷺ: ((لو يعلم الناس ما فى النداءِ والصف الأول لكانت قرعة)). والقرعة إنما تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاءُ: لا يستحب الإيثار بالقربات والسر فيه- والله أعلم- أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذى يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثر والمؤثر، بل لا يسع إلا أحدهما، وأما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلفة فى الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم ووسعتهم كلهم، وإن قدِّر التزاحم فى عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع- بحيث إذا فعله واحد فات على غيره، فإن فى العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله كما ثبت عن النبى ﷺ فى غير حديث، فإذا قدر فوت مباشرته له فلا يفوت عليه عزمه ونيته لفعله.

وأيضاً فإنه إذا فات عليه كان فى غيره من الطاعات والقربات عوض منه: إما مساوٍ له، وإما أَزيد، وإما دونه. فمتى أتى بالعوض وعلم الله من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت أعطاه الله ثوابه وثواب ما تعوض [ به عنه فجمع له الأمرين. وذلك فضلا الله يؤتيه] من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.

وأَيضاً فإن المقصود رغبة العبد فى التقرب إلى الله، وابتغاء الوسيلة إليه والمنافسة فى محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه، وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه إذا كان أخوه محتاجاً إليه، فإذا اختص به أحدهما فات الآخر، فندب الله [سبحانه] عبده إذا وجد من نفسه قوة وصبراً على الإيثار به ما لم يجزم عليه ديناً، أو يجلب له مفسدة، أو يقطع عليه طريقاً عزم على سلوكه إلى ربه، أو شوش عليه قلبه، بحيث يجعله متعلقاً بالخلق، فمفسدة إيثار هذا أرجح من مصلحته، فإذا ترجحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمن إنقاذ نفسه من هلكة أو عطب أو شدة ضرورة- وليس للمؤثر نظيرها- تعين عليه الإيثار، فإن كان به نظيرها لم يتعين عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان، فإنه من آثر حياة غيره على حياته وضرورتة على ضرورته فقد استولى على أَمد الكرم والسخاء وجاوز أقصاه وضرب فيه بأوفر الحظ.

وفى هذا الموضع مسائل فقهية ليس هذا موضع ذكرها. فإن قيل: فما الذى يسهل على النفس هذا الإيثار، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟ قيل: يسهله أُمور:

أحدها: رغبة العبد فى مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله. والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خلق الفضل. وخلق القسمة والتسوية، وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها، وصاحب الاستئثار النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل فى حدوره. وهل أزال الممالك وقلعها إلا الاستئثار؟ فإن النفوس لا صبر لها عليه. ولهذا أمر رسول الله ﷺ أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر وإن استأْثروا عليهم، لما فى طاعة المستأْثر من المشقة [والكره].

الثانى: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.

الثالث: تعظيم الحقوق التى جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حده، فإن ذلك عسر جداً، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو [لخوفه] من تضييع الحق والدخول فى الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر فى الدنيا وجزيل الأجر فى الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله. ومن جرب هذا عرفه، ومن لم يجربه فليستقر أحوال العالم. والموفق من وفقة الله سبحانه وتعالى

فصل

والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار [رضاه على] رضى غيره، وإيثار حبه على حب غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذل له [و] الخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره. وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره، فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر الله على غيره ونفسه من أعظم الأغيار. فآثر الله عليها فترك محبوبها لمحبوب الله.

وعلامة هذا الإيثار شيئان، أحدهما: فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه، الثانى: ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبه وتهواه، فبهذين الأَمرين يصح مقام الإيثار، ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعى العادة والطبع، فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة، ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به، وأنه ليسير على من يسره الله عليه، فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المنحة، ويحمل فيه خطراً يسيراً لملك عظيم وفوز كبير، فإن ثمرة هذا فى العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، ويسير منه يرقى العبد ويسيره ما لا يرقى غيره إليه فى المدد المتطاولة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ، ولا تتحقق المحبة إلا بهذا الإيثار.




والذى يسهله على العبد أُمور: أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة. الثانى: أن يكون إيمانه راسخاً ويقينه قوياً، فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. الثالث: قوة صبره وثباته.

فبهذه الأمور الثلاثة الأُمور ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه. والنقص والتخلف فى النفس عن هذا يكون من أمرين: أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك، بل بطيئة ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسر، وإن رأتها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات، فلا يتخلص له رؤيتها وعيانها، الثانى أن تكون القريحة وقادة دراكة، لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره، فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض، كلما ساقه خطوة وقف خطوة، أو كسوق الطفل الصغير الذى تعلقت نفسه بشهواته ومأْلوفاته، فهو يسوقه إلى رشده وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرهاً. فإذا رزق العبد قريحة وقادة، وطبيعة منقادة: إذا زجرها انزجرت وإذا قادها انقادت بسهولة وسرعة ولين، [وأُيد] مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ، أقبلت إليه وفود السعادة من كل جانب.

ولما كانت هذه القرائح والطبائع ثابتة للصحابة رضى الله عنهم، وكملها الله لهم بنور الإسلام وقوة اليقين ومباشرة الإيمان لقلوبهم، كانوا أفضل العالمين بعد الأنبياء والمرسلين وكان من بعدهم لو أنفق مثل جبل أُحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.

ومن تصور هذا الموضع حق تصوره علم من أين يلزمه النقص والتأخر، ومن أين يتقدم [ويتأخر] ويترقى فى درجات السعادة وبالله التوفيق. والله أعلم.

فصل

[عود لمعرفة حدود المحبة]

قال: ((وقيل: المحبة موافقة المحبوب فيما ساءَ وسر، ونفع وضر، كما قيل:

وأَهنتنى فأَهنتُ نفسى صاغراً ما من يهون عليك ممن أُكرم))

فيقال: وهذا الحد أيضاً [من] جنس ما قبله، فإن موافقة المحبوب من موجبات المحبة وثمراتها، وليست نفس المحبة، بل المحبة تستدعى الموافقة، وكلما كانت المحبة أقوى كانت الموافقة أتم، قال الله تعالى: {قُل إِن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ}* [آل عمران: 31]، قال الحسن: قال قوم على عهد النبى ﷺ: إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {قُل إِن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ}* [آل عمران: 31]، وقال الجنيد: ادَّعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة: {قُل إِن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ}* [آل عمران: 31]، يعنى أن متابعة الرسول هى موافقة حبيبكم، [فإنه] المبلغ عنه ما يحبه وما يكرهه [وهى قوله] [فمتابعته موافقة لله فى فعل ما يحب وترك ما يكره].

وقال مالك فى هذه الآية: من أحب طاعة الله أحبه الله وحببه إلى خلقه وإنما كانت موافقة المحبوب دليلاً على محبته لأن من أحب حبيباً فلا بد أن يحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه، وإلا لم يكن محباً له محبة صادقة، بل تخلف ذلك عنه وإلا لم يكن [محباً] له، بل يكون محباً لمراده [أحبه محبوبه أم كرهه ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد] فلو حصل له حظه من غيره ترحل عوضه. فهذه المحبة المدخولة الفاسدة، وإذا كانت المحبة الصحيحة تستدعى حب ما يحبه المحبوب وبغض ما يبغضه فلا بد أن يوافقه فيه.

ولكن هاهنا مسألة يغلط فيها كثير من المدعين للمحبة، وهى أن موافقة المحبوب فى مراده ليس المعنى بها مراده الخلقى الكونى، فإن كل الكون مراده، وكل ما يفعله الخلائق فهو موجب مشيئته وإرادته الكونية، فلو كانت موافقته فى هذا المراد هى محبته لم يكن له عدو أصلاً، وكانت الشياطين والكفار والمشركون عباد الأوثان والشمس والقمر أولياءَه وأحبابه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وإنما يظن ذلك من يظنه من أعدائه الجاحدين لمحبته ودينه، الذين يسوون بين أوليائه وأعدائه. قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفسِدِينَ فِى الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار}* [ص: 28]، وقال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيئَاتِ أَنْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}* [الجاثية: 21]، وقال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلَ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}* [القلم: 35- 36] [فأنكر سبحانه على من سوى بين المسلمين والمجرمين]، وبين المطيعين والمفسدين مع أن الكل تحت المراد الكونى والمشيئة العامة.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية [قدس الله روحه] يقول: قال لى بعض شيوخ هؤلاءِ المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منه))، قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب قد أبغض بعض ما فى الكون، فأبغض قوماً ومقتهم ولعنهم وعاداهم فأحببتهم أنت وواليتهم، تكون موالياً للمحبوب موافقاً له، أو مخالفاً له معادياً له؟ قال: فكأنما أُلقم حجراً. ويبلغ الجهل والكفر ببعض هؤلاءِ إلى حد بحيث إذا فعل محظوراً يزعم أنه مطيع لله سبحانه وتعالى، ويقول أَنا مطيع لإرادته، وينشد فى ذلك:

أصبحتُ منفعلاً لما يختاره منى ففعلى كله طاعات

ويقول أحدهم: إبليس وإن عصى الأمر، لكنه أطاع الإرادة، يعنى أن فعله طاعة لله من حيث موافقة إرادته، وهذا انسلاخ من ربقة العقل والدين، وخروج عن الشرائع كلها، فإن طاعة الله إنما هى موافقة الأمر الدينى الذى يحبه الله ويرضاه، وأما دخوله تحت القدر الكونى الذى يبغضه ويسخطه ويكفر فاعله ويعاقبه، فهى المعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينه. ولا ريب أن المسرفين على أنفسهم المنهمكين فى الذنوب والمعاصى المعترفين بأنهم عصاة مذنبون أقرب إلى الله من هؤلاءِ العارفين المنسلخين عن دين الأنبياءِ كلهم، والذين لا عقل لهم ولا دين فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه:

أما البيت الذى استشهد به فهو من أبيات لأبى الشيص من قصيدة يقول فيها:

وقف الهوى بى حيث أنت فليس لى متأخر عنه ولا متقـدم

وأهنتنى فأَهنت نفسى جاهداً ما من يهون عليك ممن يـكرم

أشبهت أعدائى فصرت أحبهم إذ كان حظى منك حظى منهم

أجد الملامة فى هواك لذيــذة حباً لذكرك فلْيلُمـــنى اللوم

وقد ناقض فيها فى دعواه مناقضة بينه، فإنه أخبر أن هواه قد صار وقفاً عليها لا يزول ولا يتحول بتقدم ولا تأخر، ثم أخبر أنه قد بلغ به حبها وهواها إلى أن صار مرادها من نفسه غير مراده هو، فلما أرادت إهانته بالصد والهجران والبعد سعى هو فى إهانة نفسه بجهده موافقة لها فى إرادتها، فصارت إهانته لنفسه مرادة محبوبة له من حيث هى مرادة محبوبة لها، وزعم أنه لو أكرم نفسه لكان مخالفاً لمحبوبته مكرماً لمن أهانته.

ثم نقض هذا الغرض من حيث شبهها بأعدائه الذين هم أبغض شيء إليه. ووجه هذا التشبيه أنه لم يحصل منها من حظه ومراده على شيء، بل الذى يحصل له منها مثل ما يحصل له من أعدائه [من إهانتهم له وأذاه فصار حظه منها ومن أعدائه] واحداً، فصارت شبيهة [بهم]، فأين هذا من الموافقة التامة لها فى مرادها، بحيث يهين نفسه لمحبتها فى إهانته؟ ثم أخبر أن له منها حظاً مراداً وأن ذلك الحظ الذى يريده لم يحصل له، وإنما حصل له منه نظير ما يحصل له من أعدائه.

وهذه شكاية فى الحقيقة وإخبار عن [محبه معلول] بالحظ، وشكاية للحبيب بتفويته عليه [ثم إنه أخبر عن جناية أخرى وهى أنه شرك بينها وبين أعدائه] فى حبه لها، فصار حبه منقسماً بعضه له وبعضه لأعدائه لشبههم إياها، ثم إن فى الشعر جناية أُخرى عليها وهو أنه شبهها بمن جبلت القلوب على بغضه وهو العدو، واللائق تشبيه الحبيب بما هو أحب الأشياء إلى النفس كالسمع والبصر والحياة والروح والعافية، كما هو عادة الشعراءِ والناس فى نظمهم ونثرهم كما هو معروف بينهم وهو جادة كلاهم.

ثم أخبر بمحبته لأعدائه لشبههم بها، فتضمن كلامه معاداة من يحبه ومحبة من يعاديه، فإنها إذا أشبهت أعداءه لزم أن يحصل لها نصيب من معاداته وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن يحصل لهم نصيب من محبته كما صرح به فى جانبهم وترك التصريح فى جانبها، وهو مفهوم من كلامه، ثم أخبر أنه يلتذ بملامة اللوام فى هواها لما يتضمن من ذكراها، وهذا يدل على قوة محبتها وسماع ذكرها، وهذا غرض صحيح مع أنه مدخول أيضاً، فإن محبوبته قد تكره ذلك لما يتضمن من فضيحتها به وجعلها مضغة للماضغين، فيكون محباً لنفس ما تكرهه، وهذه محبة فاسدة معلولة ناقضة [لدعواه] موافقتها فى محابها.

فصل

قال: ((وقيل: المحبة القيام بين يديه وأنت قاعد، ومفارقة المضجع وأنت راقد، والسكوت وأنت ناطق، ومفارقة المأْلوف والوطن وأنت مستوطن)).

فيقال: وهذا أيضاً أثر من آثار المحبة وموجب من موجباتها وحكم من أحكامها. وهو صحيح، فإن المحبة توجب سفر القلب نحو المحبوب دائماً، والمحبة وطنه وتوجب مثوله وقيامه بين يدى محبوبه وهو قاعد، وتجافيه عن مضجعه ومفارقته إياه وهو فيه راقد، وفراغه لمحبوبه كله وهو مشغول فى الظاهر بغيره. كما قال بعضهم:

وأُديم نحو محدثى ليرى أن قد عقلت وعندكم عقلي

وقال بعض المريدين لشيخه: أيسجد القلب بين يدى الله؟ فقال: نعم سجدة لا يرفع رأْسه منها إلى يوم القيامة. فهذه سجدة متصلة بقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وحركته وسكونه.

وكذلك يكون جسده فى مضجعه وقلبه قد قطع المراحل مسافراً إلى حبيبه، فإذا أخذ مضجعه اجتمع عليه حبه وشوقه، فيهزه المضجع إلى مسكنه. كما قال الله تعالى فى حق المحبين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَعَماً}* [السجدة: 16]، فلما تجافت جنوبهم عن المضاجع جافت الجنوب عنها واستخدمتها وأمرتها فأطاعتها. وقال القائل:

نهارى نهار الناس، حتى إذا بدا لى الليل هزتنى إليك المضاجع

ويحكى أن بعض الصالحين اجتاز بمسجد، فرأَى الشيطان واقفاً ببابه لا يستطيع دخوله فنظر فإذا فيه رجل نائم وآخر قائم يصلى.فقال له: أيمنعك هذا المصلى من دخوله؟ فقال: كلا، إنما يمنعنى ذلك الأسد الرابض، ولولا مكانه لدخلت.

وبالجملة فقلب المحب دائماً فى سفر لا ينقضى نحو محبوبه، كلما قطع مرحلة له ومنزلة تبدّت له أُخرى كما قيل: ((إذا قطعت علماً بدا علم))، فهو مسافر بين أهله، وظاعن وهو فى داره، وغريب وهو بين إخوانه وعشيرته، ويرى كل أحد عنده ولا يرى نفسه عند أحد. فقوة تعلق المحب [بمحبوبه] توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه، وكلما هدأَت حركاته وقلت شواغله اجتمعت عليه شئون قلبه، بل قوى سيره إلى محبوبه.

ومحك هذا الحال يظهر فى مواطن أربعة:

أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغ حواسه وجوارحه الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه. فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه وشغل قلبه به.

الموطن الثانى: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه. [فإنه] إذا استيقظ وردت إليه روحه رد معها إليه ذكر محبوبه الذى كان قد غاب عنه فى النوم. ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، فلما ردت إليه الروح أسرع من الطرف رد إليه ذكر محبوبه متصلاً بها، مصاحباً لها.

فورد عليه قبل كل وارد، وهجم عليه قبل كل طارق. فإذا وردت عليه الشواغل والقواطع وردت على محل ممتليء بمحبة ما يحبه فوردت على ساحته من ظاهرها، فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما فى قلبه من الحب.

فإنه قد لزمه ملازمة الغريم لغريمه ولذلك يسمى غراماً، وهو الحب اللازم الذى لا يفارق: فسمع بمحبوه وأبصر به وبطش به ومشى به، فصار [محبوبه فى وجوده فى] محل سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها. هذا مثل محبوبه فى وجوده وهو غير متحد به، بل هو قائم بذاته مباين له.

وهذا المعنى مفهوم بين الناس لا ينكره منهم إلا غليظ الحجاب، أو قليل العلم، ضعيف العقل، يجد محبوبه قد استولى على قلبه وذكره، فيظن أنه هو نفس ذاته الخارجة قد اتحدت به أو حلت فيه، فينشأُ من قسوة الأول وكثافته غلظ حجاب، ومن قله علم الثانى ومعرفته وضعف تمييزه ضلال الحلول والاتحاد وضلال الإنكار والتعطيل والحرمان، ويخرج [للبصير] من بين فرث هذا ودم هذا لبن الفطرة الأُولى خالصاً سائغاً للشاربين.

الموطن الثالث: عند دخوله فى الصلاة، فإنها محك الأحوال وميزان الإيمان، بها يوزن إيمان الرجل [و] يتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من الله ونصيبه منه، فإنها محل المناجاة والقربة ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربه، فلا شيء أقر لعين المحب ولا ألذ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها [إن] كان محباً فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له ومثوله بين يديه، وقد أقبل [بقلبه على محبوبه]، وكان قبل ذلك معذباً بمقاساة الأغيار ومواصلة الخلق والاشتغال بهم فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى الله إليه وآوى عنده واطمأن بذكره وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته، فلا شيء أهم إليه من الصلاة، كأنه فى سجن وضيق وغم حتى تحضر الصلاة فيجد قلبه قد انفسخ وانشرح واستراح، كما قال النبى ﷺ لبلال: ((يا بلال، أرحنا بالصلاة))، ولم يقل: أرحنا منها، كما يقول المبطلون الغافلون.

وقال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل فى هم وغم حتى تحضر الصلاة فيزول همه وغمه، أو كما قال. فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة، فَلَهُمْ فيها شأْن وللنفَّارين شأْن، يشكون إلى الله سوءَ صنيعهم بها إذا ائتموا بهم، كما يشكوا الغافل [وللنقارين شأن يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها إذا ائتموا بهم كما يشكوا] المعرض تطويل إمامه، فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم. وبالجملة فمن كان قرة عينه فى الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها، ويودّ أَن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها، وإنما يسلى نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب فهو دائماً يثوب إليها ولا يقضى منها وطراً، فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة، فإنها الميزان العادل، الذى وزنه غير عائل.

الموطن الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب فى هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده. ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبونهم عند الحرب واللقاءِ، وهو كثير فى أشعارهم كما قال:

ذكرتك والخطى يخطر بيننا وقد نهلت منى المثقفة السمر

وقال غيره:

ولقد ذكرتك والرماح كأنها أَشطان بئر فى لبان الأَدهـم

وقد جاءَ فى بعض الآثار: يقول تبارك وتعالى: ((إن عبدى كل عبدى الذى يذكرنى وهو ملاق قرنه))، والسر فى هذا- والله أعلم- أن عند مصائب الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياءِ إليه، وهى حياته التى لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذى يفوت بفوات حياته.

ولهذا- والله أعلم- كثيراً ما يعرض للعبد عند موته لهجه بما يحبه وكثرة ذكره له، وربما خرجت روحه وهو يلهج به. وذكر ابن أبى الدنيا فى كتاب ((المحتضرين)) عن زفر [رحمه الله] أنه جعل يقول عند موته: لها ثلاثة أخماس الصداق، لها ربع الصداق، لها كذا ومات، لامتلاءِ قلبه من محبة الفقه والعلم، وأيضاً فإنه عند الموت تنقطع شواغله وتبطل حواسه فيظهر ما فى القلب ويقوى سلطانه، فيبدو ما فيه من غير حاجب ولا مدافع. وكثيراً ما سمع من بعض المحتضرين عند الموت: شاه مات، وسمع من آخر بيت شعر لم يزل يغنى به حتى مات وكان مغنياً، وأخبرنى رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت- وكان تاجراً يبيع القماش- قال: فجعل يقول: هذه قطعة جيدة هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوى كذا وكذا حتى مات.

والحكاية فى هذا كثيرة جداً، فمن كان مشغولاً بالله وبذكره ومحبته فى حال حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومن كان مشغولاً بغيره فى حال حياته وصحته فيعسر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت ما لم تدركه عناية من ربه، ولأجل هذا كان جديراً بالعاقل أن يلزم قلبه ولسانه ذكر الله حيثما كان لأَجل تلك اللحظة التى إن فاتت شقى شقاوة الأبد. فنسأَل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

فصل

وقد قيل فى المحبة حدود كثيرة غير ما ذكره أبو العباس، فقيل: المحبة ميل القلب إلى محبوبه. وهذا الحد لا يعطى تصور حقيقة المحبة. فإن المحبة أَعرف عند القلب من الميل. وأيضاً فإن الميل لا يدل على حقيقة المحبة.

فإنها أخص من مجرد ميل القلب، إذ قد يميل قلب العبد إلى الشيء ولا يكون محباً له لمعرفته بمضرته له، فإن سمى هذا الميل محبة فهو اختلاف عبارة. وقيل: المحبة علم المحب بجمال المحبوب ومحاسنه. وهذا حد قاصر، فإن العلم بجماله ومحاسنه هو السبب الداعى إلى محبته، فعبر عن المحبة بسببها. وقيل: المحبة تعلق القلب بالمحبوب. وقيل: انصباب القلب إلى المحبوب. وقيل: سكون القلب إليه. وقيل: اشتغال القلب بالمحبوب، بحيث لا يتفرغ قلبه لغيره. وقيل: المحبة بذل المجهود فى معرفة محبوبك، وبذل المجهود فى مرضاته. وقيل: هيجان القلب عند ذكر المحبوب، وقيل: شجرة تنبت فى القلب تسقى بماء [الموافقة]، وإيثار رضى المحبوب. وقيل: المحبة حفظ الحدود، فليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده. وقيل: المحبة إرادة لا تنقص بالجفاءِ ولا تزيد بالبر [وقيل: فطام والجوارح عن إستعمالها فى غير مرضاة المحبوب] وقيل: المحبة هى السخاءُ بالنفس للمحبوب وقيل: المحبة أن لا يزال عليك رقيب من المحبوب لا يمكنك من الانصراف عنه أبداً. وأنشد فى ذلك:

أبت غلبات الشوق إلا تقــرباً إِليك، ويأْبى العذل إلا تجنباً

وما كان صدى عنك صد ملامة ولا ذلك الإعراض إلا تقربا

وما كان ذاك العذل إلا نصيحة ولا ذلك الإغضاءُ إلا تهيبـاً

على رقيب منك حل بمهجـتى إذا رمت تسهيلاً على تصعباً

وقيل: المحبة سقوط كل محبة من القلب سوى محبة حبيبك، وقيل: المحبة صدق المجاهدة فى أوامر الله، وتجريد المتابعة لسنة رسول الله؟ ﷺ. وقيل: المحبة أن لا يفتر من ذكره، [ولا يمل من حقه] ولا يأْنس بغيره.

وقال أبو يزيد: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. وقيل: المحبة أن يميتك حبيبك وتحيا به. وقال أبو عبد الله القرشى: المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء. وقيل: أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب، وقيل: المحبة نسيان حظك من محبوبك وفقرك بكلك إليه.

وقال النصر أباذى: المحبة مجانبة السلوّ على كل حال. وقال الحارث بن أسد: المحبة ميلك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سراً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك فى حبه.

وقيل: المحبة سكر لا يصحو إلا بمشاهدة المحبوب. وقيل: المحبة إقامتك بالباب على الدوام. وقيل: المحبة حرفان: حاءٌ، وباءٌ. فالحاءُ الخروج عن الروح، وبذلها للمحبوب، والباءُ الخروج عن البدن وصرفه فى طاعة المحبوب.

وقال أبو عمر الزجاجى: سألت الجنيد عن المحبة فقال: تريد الإشارة؟ قلت: لا. قال: تريد الدعوى؟ قلت: لا. قال: فإيش تريد؟ قلت: عين المحبة، فقال: أن تحب ما يحب الله فى عباده، وتكره ما يكرهه الله فى عباده. وقيل: المحبة معية القلب والروح مع المحبوب معيةً لا تفارقه، فإن المرءَ مع من أحب، وقد قيل فى المحبة حدود أكثر من هذا وكل هذا تعن، ولا توصف المحبة ولا تحد بحد أوضح من المحبة، ولا أقرب إلى الفهم من لفظها.




@ وأما ذكر الحدود والتعريفات فإنما يكون عند حصول الإشكال والاستعجام على الفهم، فإذا زال الإشكال وعدم الاستعجام، فلا حاجة إلى ذكر الحدود والتعريفات، كما قال بعض العارفين: إن كل لفظ يعبر به عن الشيء فلا بد أن يكون ألطف وأرق منه. والمحبة ألطف وأرق من كل ما يعبر به عنها.

فصل

قال أبو العباس: ((وقال قوم: ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها.

فإن الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأْبى إلا التستر والاختفاءَ، وكل من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق، وإنما حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئاً لغاب عن الشرح والوصف. فإن المحبة لا تظهر على المحب بلفظه وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع اقتداح الأسرار من القلوب، كما قيل:

تشير فأَدرى ما تقول بطرفها وأُطرق طرفى عند ذاك فتعلـم

تكلم منا فى الوجوه عيوننـا فنحن سكوت والهوى يتكلم))

قلت: كل معنى فله صيغة تعبر به عنه، ولا سيما إذا كانت من المعانى المعروفة للخاص والعام. ولكن العبارة قد تكون كاشفة للمعنى مطابقة له، كلفظ الدراهم والخبز والماء واللبن ونحوها، وهى أكبر الألفاظ.

وقد يكون المعنى فوق ما يشير إليه اللفظ ويعبر عنه، وهو أجل من أن يدل لفظه على كمال ماهيته وهذا كأسماءِ الرب سبحانه وأسماء كتابه.

وكذلك اسم الحب فإنه لا يكشف اسمه مسماه، بل مسماه فوق لفظه، وكذلك اسم الشوق والعشق والموت والبلاءِ ونحوها. وقد يكون المعنى دون اللفظ بكثير، واللفظ أجل منه وأعظم.

وهذا كلفظ الجوهر الفرد الذى هو عبارة عن أَقل شيء وأصغره وأدقه وأحقره، فليس معناه على قدر لفظه، وإذا عرف هذا فقولهم: ((ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها)) المراد به أن لفظها لا يفهم حقيقة معناها ومعناها فوق ما يفهم من لفظها.

وقوله: ((الغيرة من أوصاف المحبة، وهى تأْبى إلا التستر والاختفاءَ)) هذا كلام فى حكم المحبة ومقتضاها، لا فى حقيقتها ومعناها، والمحبون متباينون فى هذا الحكم، فمنهم من يجعل الغيرة من لوازم المحبة وعلامة ثبوتها وتمكنها ويجعل نداءَ المرءِ عليها وبسط لسانه بالإخبار بها دليلاً على أنه دعى فيها، وأن ما معه منها رائحتها لا حقيقتها، وحقيقتها تأْبى إلا التستر والكتمان. وهذه طريقة الملاميين، كما قيل:

لا تنكرى جحدى هواك، فإنما ذاك الجحود عليه ستر مسبل

ولهذا قيل: المحبة كتمان الإرادة، وإظهار الموافقة. وهذه الطائفة رأت أن كمال المحبة بكتمانها لأسباب عديدة:

أحدها: أن الحب كلما كان مكتوماً كان أشد وأعظم سرياناً وسكوناً فى أجزاءِ القلب كلها، كما قيل: الحب أَقتله أكتمه فإذا أفشاه المحب وأظهره وباح به ونادى عليه ضعف أثره وصار عرضة للزوال.

الثانى: أن الحب كنز من الكنوز، بل هو أعظم الكنوز المودعة فى سر العبد وقلبه، فلا طريق للصوص إليه، فإذا باح به ونادى عليه فقد دل قطاع الطريق واللصوص على موضع كنزه، وعرضه لسلبه منه، فإن النفوس غيارة مغيرة، تغار على المحبوب أن يشاركها فى حبه أحد. فإذا غارت عليه أغارت على القلوب التى فيها حبه فانتزعته منه.

وهذه الآفة قد ابتلى بها كثير من السالكين الذين هم فى الحقيقة قطاع الطريق على السالكين إلى الله، وسولت لهم أنفسهم أن هذه غيرة منهم على محبوبهم أن يجب مثل هذه النفوس المتلوثة بالدنيا، وغرتهم أنفسهم ومنتهم أنهم يغارون على الله [ويحولون بين تلك النفوس وبين محبته فغاروا وأغاروا ونهبوا واستلبوا وهذه الطريقة عند المحبين المخلصين أولياء الله الداعين إلى الله] عداوة لله فى الحقيقة ومعاونة للشيطان، وقعود على طريق الله المستقيم الذى خلق عباده لأجله وأمرهم به.

فالحذر من هؤلاء القطاع اللصوص حمل أهل المحبة على المبالغة فى كتمانها، وإظهار التخلى منها بأسباب يلامون عليها ظاهراً وقلوبهم مغمورة بالمحبة مأْهولة بها.

وهذا الذى ظنوه غيرة هو من تلبيس الشيطان وخدعه لهم ومكره بهم، وإنما [هو حسد حملهم على أن يردوه وصالوا به وسموه غيرة]، وإنما غيرة المحبين لله أن يغار أحدهم لمحارم الله إذا انتهكت، فيغار لله لا على الله، كما قال النبى ﷺ: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأْتى العبد ما حرم عليه))، فغيرة المحب هى الموافقة لغيرة محبوبه، وهى أن يغار مما يغار منه المحبوب [وأما]، وإذا كان المحبوب ممن يحبه وهذا يغار ممن يحبه الله فهو فى الحقيقة ساع فى خلاف مراد محبوبه، وفى إعدام ما يحبه محبوبه، فأَين هذا من الغيرة المحبوبة لله؟ وإنما هذه غيرة من أخيه المسلم كيف خصه الله بعطائه وألبسه ثوب نعمائه، فهى غيرة منه لا غيرة على الله، فإن الله لا يغار عليه بل يغار له. وسنفرد إن شاءَ الله للغيرة فصلاً نذكر فيه أقسامها وحقيقتها.

الثالث: أن المحبة التامة تستدعى شغل القلب بالمحبوب وعدم تفرغه للشرح والوصف، فلو صدقت محبته لاستغرق فيها عن شرح حاله ووصفه، فهذه طريقة هولاء، ومنهم من يجعل تهتكه وبوحه بها وإعلامه لها من تمامها وقوتها، ومن علامات قهرها له وأنها غلبت على سره حتى لم يطق صبره كتمانها، كما قال النووى: المحبة هتك الأستار، وكشف الأسرار. فهذا حال النووى وأضرابه.

وعند هؤلاء التكتم ضعف فى المحبة وجور فيها، وحقيقتها أن تخليها ومقتضاها من ظهور آثارها على الجوارح والبدن، فإن أثرت حركة لم يسكنها وإن [أثرت دمعه لم يرسلها وإن أثرت تنفساً لم يكظمه وإن] أثرت بذلاً وإيثاراً لم يمسكه.

وكمال المحبة عندهم أن تنادى عليه أعضاؤه وألفاظه وألحاظه وحركاته وسكناته بالحب نداء لا يملك إنكاره.

وقال على بن عبيد وكتب يحيى بن معاذ إلى أبى يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأْس محبته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض ما روى بعد، ولسانه خارج وهو يقول هل من مزيد. فلم ير هذان العارفان التكتم بها وإخفاءَها وجحدها وهما هما. وكان الأُستاذ أبو على الدقاق ينشد كثيراً:

لى سكرتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي

وجاء رجل إلى عبد الله بن المنازل فقال: رأَيت فى المنام كأَنك تموت إلى سنة، فقال عبد الله: لقد أجلتنى إلى أجل بعيد أعيش إلى سنة، لقد كان لى أنس ببيت سمعته من أبى على [الثقفى]:

يا من شكى شوقه من طول فرقته اصبر لعلك تلقى من تحب غداً

وقال الشبلى: المحب إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك.

والتحقيق: أن هذا هو حال المتمكن فى حبه، الذى تزول الجبال الراسيات وقلبه على الود لا يلوى ولا يتغير.

والأول حال المريد المبتديء الذى قد علقت نار المحبة فى قلبه، ولم يتمكن اشتعالها، فهو يخاف عليها عواصف الرياح أن تطفئها، فهو يخبئها ويكتمها ويسترها من الرياح جهده، فإذا اشتغلت وتمكن وقودها فى القلب لم تزدها كثرة الرياح إلا وقوداً واشتعالاً.

فهذا يختلف باختلاف الناس وتفاوتهم فى قوة المحبة وضعفها. والمقصود أن من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها وأحكامها لن يؤمن أن يكون من أهل العلم بالمحبة لا من المتصفين بها حالاً، فكم بين العلم بالشيء والاتصاف به ذوقاً وحالاً، فعلم المحبة شيء ووجودها فى القلب شيء. وكثير من المحبين الذين امتلأت قلوبهم محبة لو سئل عن حدها وأحكامها وحقيقتها لم يطق أن يعبر عنها، ولا يتهيأ له أن يصفها ويصف أحكامها، وأكثر المتكلمين فيها إنما تكلموا فيها بلسان العلم لا بلسان الحال.

وهذا والله أعلم هو معنى قول بعض المشايخ:أعظم الناس حجاباً عن الله أكثرهم إليه إشارة، فإنه إنما حظه منه الإشارة إليه لا [عكوف] القلب عليه، كالفقير الذى دأْبه وصف الأغنياء وأموالهم، ووصف الدنيا وممالكها، وهو خلو من ذلك.

ولا ريب أن وجود الحب فى القلب وترك الكلام [منه] علماً، [غير من كثرة الكلام فى هذه المسألة وخلو القلب منها]، وخير من الرجلين من امتلأ قلبه منها حالاً وذوقاً، وفاضت على لسانه إرشاداً وتعليماً ونصيحة للأُمة. فهذا حال الكملة من الناس. والله المسئول من فضله وكرمه.

قوله: ((المحبة لا تظهر على المحب بلفظه، وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله)) هذا حق، فإن دلالة الحال على المحبة أعظم من دلالة القال عليها، بل الدلالة عليها فى الحقيقة هو شاهد الحال لا صريح المقال. ففرق بين من يقول لك بلسانه: إنى أحبك، ولا شاهد عليه من حاله، وبين من هو ساكت لا يتكلم وأنت ترى شواهد أحواله كلها ناطقة بحبه لك.

قال جعفر: قال الجنيد: دفع السرى إليه رقعة، وقال: هذه خير لك من سبعمائة قصة وكذا [وكذا] فإذا فيها:

ولما ادعيت الحب قالت كذبتــنى فما لى أَرى الأعضاء منك كواسيا

فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا وتذبل حتى لا تجيـــب المناديا

وتبخل حتى [لا] يبقى لك الهوى سوى مقلة تبكى بها وتناجيـــا

وبالجملة فشاهد [المحبه] الذى لا يكذب هو شاهد الحال، وأما شاهد المقال فصادق وكاذب.

قوله: ((ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع اقتداح الأسرار من القلوب)) يعنى أن حقيقة المحبة وسرها لا يفهمه من المحب إلا محبوبه. وذلك لشدة الاتصال الذى بينه وبين محبوبه فى الباطن، فروحه أَقرب شيء إليه، [وأما] الغير وإن علم أنه محب بظهور أثر المحبة عليه وقيام شاهدها لكن لا يدرك تلك اللطيفة والحقيقة التى يدركها المحبوب من محبه، لموضع اتصال سره، وقرب ما بين الروحين، ولا سيما إذا كانت المحبة من الطرفين فهناك العجب والمناجاة والملاطفة والإشارة والعتاب والشكوى، وهما ساكنان لا يدرى جليسهما بشأْنهما [فعجيب شأنهما].

فصل فى محبة العوام

قال: ((وأما محبة العوام فهى محبة تنبت من [مطالعة] المنة وتثبت باتباع السنة، وتنمو على الإجابة للغاية، وهى محبة تقطع الوسواس، وتلذذ الخدمة، وتسلى عن المصائب، وهى [فى] طريق العوام عمدة الإيمان)). فيقال: لا ريب أن المحبة درجات متفاوتة، بعضها أكمل من بعض. وكل درجة خاصة بالنسبة إلى ما تحتها، عامة بالنسبة إلى ما فوقها، فليس انقسامها إلى خاص وعام انقساماً حقيقياً متميزاً بالنسبة بفصل يميز أحد النوعين عن الآخر، وإنما تنقسم باعتبار الباعث عليها وسببها، وتنقسم بذلك إلى قسمين:

أحدهما: محبة تنشأُ من الإحسان، ومطالعة الآلاء والنعم، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليه، ولا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده فى كل نفس ولحظة، وهو يتقلب فى إحسانه فى جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلاً عن أنواعه أو عن أفراده، ويكفى أن من بعض أنواعه نعمة النفس التى لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه فى كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس فى اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس، وكل نفس نعمة منه سبحانه، فإذا كان أدنى نعمة عليه فى كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا}* [إبراهيم: 34] [النحل: 18]، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التى تقصده، ولعلها توازن النعم فى الكثرة، والعبد لا شعور به بأكثرها أصلاً، والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ}* [الأنبياء:42]، وسواء كان المعنى من يكلؤكم ويحفظكم منه إذا أراد بكم سوءاً ويكون يكلؤكم مضمناً معنى يجيركم وينجيكم من بأْسه، أو كانت ((من)) البدلية أى من يكلؤكم بدل الرحمن [سبحانه] أى هو الذى يكلؤكم وحده لا كاليء لكم غيره، ونظير ((من)) هذه قوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَلائِكَةً فِى الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}* [الزخرف: 60]، على أحد القولين، أى عوضكم وبدلكم، واستشدوا على ذلك بقول الشاعر:

جارية لم تأْكل المرقَّقا ولم تذق من البقول الفستقا

أى لم تأكل الفستق بدل البقول، وعلى كلا القولين فهو سبحانه منعم عليهم بكلاءَتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التام عنهم وفقرهم التام إليه من كل وجه، وفى بعض الآثار يقول تعالى: ((أنا الجواد، ومن أعظم منى جوداً وكرماً؟ أبيت أكلأُ عبادى فى مضاجعهم وهم يبارزوننى بالعظائم)).

وفى الترمذى أن النبى ﷺ لما رأى السحاب قال: ((هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يذكرونه، ولا يعبدونه)).

وفى الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليجعلون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم)).

وفى بعض الآثار: ((يقول الله: ابن آدم، خيرى إليك نازل، وشرك إلى صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم، وأنا غنى عنك، وكم تتبغض إلى بالمعاصى، وأنت فقير إلى، وإلا يزال الملك الكريم يعرج إلى منك بعمل قبيح))

ولو لم يكن من تحببه إلى عباده وإحسانه إليهم وبره بهم إلا أنه [سبحانه] خلق لهم ما فى السموات والأرض وما فى الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وكرمهم، وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم فى مناجاته كل وقت أرادوا وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وكتب لهم بالسيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأَثبت مكانها حسنة، وإذا بلغت ذنوب أحدهم عَنان السماءِ ثم استغفره غفر له، لو لقيه بقراب، الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئاً لأَتاه بقرابها، مغفرة وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم وشرع لهم الحج الذى يهدم ما قبله فوفقهم لفعله وكفر عنهم سيئاتهم به، وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات وهو الذى أمرهم بها وخلقها لهم وأعطاهم إياها ورتب عليها جزاءَها، فمنه السبب ومنه الجزاءُ، ومنه التوفيق ومنه العطاءُ أولاً وآخراً.

وهم محل إحسانه كله منه [ليس منهم شيئاً إنما الفضل كله والنعمة كلها والإحسان كله] أولاً وآخراً: أعطى عبده [ماله] وقال: تقرّب بهذا إلى أقبله منك، فالعبد له والمال له والثواب منه، فهو المعطى أولاً وآخراً فكيف لا يحب من هذا شأْنه؟ وكيف لا يستحى العبد أن يصرف شيئاً من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناءِ والمحبة منه؟ ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه؟ فسبحانه وبحمده لا إله إلا هو العزيز الحكيم ويفرح سبحانه وتعالى بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه ذنوبه، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذى ألهمه إياها ووفقه لها وأعانه عليها، وملأ سبحانه وتعالى سماواته من ملائكته، واستعملهم فى الاستغفار لأهل الأرض واستعمل حملة العرش منهم فى الدعاءِ لعباده المؤمنين والاستغفار لذنوبهم ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته.

فانظر إلى هذه العناية وهذا الإحسان وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد واللطف التام بهم، ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم ويستعرض حوائجهم بنفسه ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئهم إلى التوبة ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه وفقيرهم إلى أن يسأله غناه وذا حاجتهم يسأله قضاءَها كل ليلة، ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه وعذبوا أولياءَه وأحرقوهم بالنار. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}* [البروج: 10].

وقال بعض السلف: انظروا إلى كرمه كيف عذبوا أولياءه وحرقوهم بالنار، ثم هو يدعوهم إلى التوبة. فهذا الباب يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه وتعالى، فإن نعمته على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات.

وقد روى فى بعض الأحاديث مرفوعاً: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبونى بحب الله))، فهذه محبة تنشأْ من مطالعة المنن [والإحسان] ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب [بفكره] فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف سفر القلب عندها، بل كلما ازداد فيها نظراً ازداد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه، والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إدا دخلوا منه دعوا من الباب الآخر وهو باب الأسماءِ والصفات الذى إنما يدخل منه إليه خواص عباده وأوليائه، وهو باب المحبين حقاً الذى لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كلما بدا له منه علم ازداد شوقاً ومحبة [وظمأ].

فإذا انضم داعى الإحسان والإنعام إلى داعى الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصاً وأبعدها من كل خير، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل فى أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التى فطر عليها قلوب عباده، فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه وتعالى ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال فى المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وهو الذى لا يجد كماله، ولا يوصف جلاله وجماله، ولا يحصى أحد من خلقه ثناءً عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه.

وإذا كان الكمال محبوباً لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته، إذ لا شيء أكمل منه، وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته [تستدعى محبه خاصة فإن اسمائه كلها حسنى وهى مشتقة من صفاته]، وأفعاله دالة عليها [فهو المحبوب المحمود لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه].

فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل أمر، إذ ليس فى أفعاله عبث ولا فى أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناءَ والمحبة عليه، وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل: فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته:

ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعى لديه ضائـع

إن عذبوا فبعدله، أو نعموا فبفضله، وهو الكريم الواسع

فصل

ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له ﷺ يقول: ((لا أُحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك))، ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله فإنهم لم يروه فى هذه الدار، وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب، فلو شاهدوه ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه وتعالى لكان لهم فى حبه شأْن آخر، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم فى محبته على حسب تفاوت مراتبهم فى معرفته والعلم به. فأعرفهم بالله أشدهم حباً له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حباً له [من غيره] والخليلان من بينهم أعظمهم حباً، وأعرف الأُمة به أشدهم له حباً، ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به، فإنهم منكرون لحقيقة إلهيته ولخلة الخليلين [ﷺ] ولفطرة الله التى فطر الله عباده عليها، ولو رجعوا إلى قلوبهم لوجدوا حبه فيها، ووجدوا معتقدهم [وبحثهم] يكذب فطرهم، وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأوُلى التى فطرت عليها، وإنما دعوا إلى القيام بحقوقها ومراعاتها لئلا تفسد وتنتقل عما خلقت له.

وهل الأوامر والنواهى إلا خدم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟ وهل خلق الله سبحانه وتعالى خلقه إلا لعبادته التى هى غاية محبته والذل له؟ وهل هييء الإنسان إلا لها؟ كما قيل:

قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأْ بنفسك أَن ترعى مع الهمل

وهل فى الوجود محبة حق غير باطلة إلا محبته سبحانه؟ فإن كل محبة متعلقة بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها، وأما محبته سبحانه فهو الحق الذى لا يزول ولا يبطل، كما لا يزول متعلقها ولا يفنى. وكل ما سوى الله باطل، ومحبة الباطل باطل.

فسبحان الله كيف ينكر المحبة الحق التى لا محبة أحق منها، ويعترف بوجود المحبة الباطلة المتلاشية؟ وهل تعلقت المحبة بوجود محدث إلا الكمال فى وجوده بالنسبة إلى غيره؟ وهل ذلك الكمال إِلا من آثار صنع الله الذى أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كله إلا له)) فكل من أحب شيئاً لكمال ما يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة الله، وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء. ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها.

والمقصود أن العبد إذا اعتبر كل كمال فى الوجود وجده من آثار كماله سبحانه، فهو دال على كمال مبدعه، كما أن كل علم فى الوجود فمن آثار علمه، وكل قدرة فمن آثار قدرته، ونسبة الكمالات الموجودة فى العالم العلوى والسفلى إلى كماله كنسبة علوم الخلق وقدرهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته وقوته وحياته، فإذن لا نسبة أصلاً بين كمالات العالم وكمال الله [جل جلاله]، فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبة غيره من الموجودات له، بل يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً للهِ}* [البقرة: 165]، فالمؤمنون أشد حباً لربهم ومعبودهم [تعالى] من كل محب لكل محبوب. هذا مقتضى عقد الإيمان الذى لا يتم إلا به.

وليست هذه المسألة من المسائل التى للعبد عنها غنى أو منها بد، كدقائق العلم والمسائل التى يختص بها بعض الناس دون بعض، بل هذه مسألة تفرض على العبد، وهى أصل عقد الإيمان الذى لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها، فليشتغل بها العبد أو ليعرض عنها، ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة أن لا إِله إلا الله، فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن علمه الجاهلون.

فإن الإِله هو المحبوب المعبود الذى تؤلهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه فى شدائدها وتدعوه فى مهماتها وتتوكل عليه فى مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه وليس ذلك إلا الله وحده، ولهذا كانت [لا إله إلا الله] أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته.

فهذه المسألة قطب رحى الدين الذى عليه مداره، وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له فى علومه وأعماله، وأحواله وأقواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فلنرجع إلى شرح كلامه فقوله: ((وأما محبة العوام فهى محبة تنبت من مطالعة المنة)) يعنى أن لهذه المحبة منشأ وثبوتاً ونمواً. [فمنشأها] الإحسان ورؤية فضل الله ومنته على عبده، وثبوتها باتباع أوامره التى شرعها على لسان رسول الله ﷺ، ونموها وزيادتها يكون بإجابة العبد لدواعى فقره وفاقته إلى ربه، فكلما دعاه فقره وفاقته إلى ربه أجاب هذا الداعى وهو فقير بالذات فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإن دامت استجابته له بدوام الداعى لم تزل المحبة تنمو وتتزايد، فكلما أخطر الرّب فى قلبه خواطر الفقر والفاقة بادر قلبه بالإجابة والانكسار بين يديه ذلاً وفاقة وحباً وخضوعاً، وإنما كانت هذه محبة العوام عنده لأن منشأها من الأفعال، لا من الصفات والجمال، ولو قطع الإحسان عن هذه القلوب لتغيرت وذهبت محبتها أو ضعفت، فإن باعثها إنما هو الإحسان، ومن ودَّك لأمر ولى عند انقضائه، فهو برؤية الإحسان مشغول، وبتوالى النعم عليه محمول.

قوله: ((وهى محبة تقطع الوسواس، وتلذذ الخدمة، وتسلى على المصائب، وهى فى طريق العوام عمدة للإيمان)). إنما كانت هذه المحبة قاطعة للوسواس لإحضار المحب قلبه بين يدى محبوبه. والوسواس إنما ينشأُ من الغيبة والبعد، وأما الحاضر المشاهد فماله وللوسواس؟ فالموسوس يجاهد نفسه وقلبه ليحضر بين يدى معبوده، والمحب لم يغب قلبه عن محبوبه فيجاهده على إحضاره، فالوسواس والمحبة متنافيان، ومن وجه آخر أن [المحب قد انقطعت عن قلبه وساوس الأطماع لامتلأ قلبه من] محبة حبيبه فلا تتوارد على قلبه جواذب الأطماع والأمانى لاشتغاله بما هو فيه.

وأيضاً فإن الوسواس والأمانى إنما تنشأُ من حاجته وفاقته إلى ما تعلق طمعه به. وهذا عبد قد جنى من الإحسان، وأُعطى من النعم ما سد حاجته وأغنى فاقته، فلم يبق له طمع ولا وسواس، بل بقى حبه للمنعم عليه وشكره له وذكره إياه فى محل وساوسه وخواطره لمطالعة نعم الله عليه، وشهوده منها ما لم يشهد غيره.

وقوله: ((وتلذذ الخدمة)) هو صحيح، فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه فى طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان، ولينظر هل هو ملتذ [بخدمته كالمد والمحب بخدمة محبوبه]، أو متكره لها يأْتى بها على السآمة والملل [واللوامة]؟ فهذا [محل] إيمان العبد ومحبته لله.

قال بعض السلف: إنى أدخل الصلاة فأحمل هم خروجى منها ويضيق صدرى إذا [عرفت] أنى خارج منها، ولهذا قال النبى ﷺ ((جعلت قرة عينى فى الصلاة))، ومن كانت قرة عينه فى شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به.

وقال بعض السلف: إنى لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلتذ به عيشى وتقر به عينى من مناجاة من أُحب، ((وخلوتى بخدمته والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع، لما اشتغل به بالنهار عن ذلك، فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته.

وقال بعضهم: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة. وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة [على النكرة] والتعب أولاً، فإذا صبر عليه وصدق فى صبره أفضى به إلى هذه اللذة.

قال أبو زيد: سقت نفسى إلى الله وهى تبكى، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهى تضحك، ولا يزال السالك عرضة للآفات والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحالة، فحينئذ يصير نعيمه فى سيره ولذته فى اجتهاده وعذابه فى فتوره ووقوفه، فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته ووقوفه عن سيره، ولا سبيل إلى هذا إلا بالحب المزعج.

وقوله: (([تسلى] عن المصائب)) صحيح، فإن المحب يتسلى [بمحبوبه] عن كل مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يبال لما فاته فلا يجزع على ما ناله، فإنه يرى فى محبوبه عوضاً عن كل شيء، ولا يرى فى شيء غيره عوضاً منه أصلاً، فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه.

ولهذا لما خرجت تلك المرأة الأنصارية يوم أُحد تنظر ما فعل برسول الله ﷺ مرت بأبيها وأخيها مقتولين، فلم تقف عندهما، وجاوزتهما تقول: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فقيل لها: ها هو ذا حى، فلما نظرت إليه قالت: ما أُبالى إذا سلمتَ هلك من هلك.

ولو لم يكن فى المحبة من الفوائد إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها شرفاً، فإن المصائب لازمة للعبد لا محيد له عنها، ولا يمكن دفعها بمثل المحبة وهكذا مصائب الموت وما بعدها إنما تسهل وتهون بالمحبة، وكذلك مصائب القيامة، وأعظم المصائب مصيبة النار ولا يدفعها إلا محبة الله وحده ومتابعة رسوله ﷺ.

فالمحبة أصل كل خير فى الدنيا والآخرة كما قال سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة، فإن النبى ﷺ قال: ((المرءُ مع من أحب)) فهم مع الله تعالى.

وقوله: ((وهى فى طريق العوام عمدة الإيمان)) كلام قاصر، فإنها عمود الإيمان وعمدته وساقه الذى لا يقوم إلا عليه، فلا إيمان بدونها البتة.

وإنما [أن] مراده هذه المحبة الخاصة التى تنشأُ من رؤية النعم هى عمدة إيمان العوام، وأما الخواص فعمدة إيمانهم محبة تنشأُ من معرفة الكمال ومطالعة الأسماءِ والصفات. والله أعلم.

قال أبو العباس: ((وأما محبة الخواص فهى محبة خاطفة: تقطع العبارة، وتدقق الإشارة، ولا تنتهى بالنعوت، ولا تعرف إلا بالحيرة والسكوت.))

وقال بعضهم:

يقول وقد أُلبست وجدا وحيرة وقد ضمَّنا بعد التفرق محضر

ألست الذى كنا نحــدث أنه ولوع بذكراها، فأَين التذكر؟

فرد عليها الوجد: أفنيت ذكـره فلم يبــق إلا زفرة وتحسر

(يتبع...)

@ فيقال: [ها هنا] مرتبتان من المحبة مختلف فى أيتهما أكمل من الأُخرى: إحداهما هذه المرتبة التى أشار إليها المصنف، وهى الدرجة الثالثة التى ذكرها شيخ الإسلام فى منازله: فقال: ((والدرجة الثالثة محبة خاطفة تقطع العبارة، وتدقق الإشارة، ولا تنتهى بالنعوت وهذه المحبة قطب هذا الشأْن، وما دونها مجال تنادى عليها الأَلسن، وادعتها الخليقة، وأوجبتها العقول)).

والمرتبة الثانية عند صاحب المنازل ومن تبعه دون هذه المرتبة، وهى المحبة التى تنشأُ من مطالعة الصفات، فقال فى منزله: ((والدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحق على غيره، ويلهج اللسان بذكره، ويعلق القلب بشهوده، وهى محبة تظهر من مطالعة الصفات والنظر فى الآيات والارتياض بالمقامات))، وإنما جعل هؤلاء هذه المحبة أنقص من المحبة الثالثة بناءً على أُصولهم، فإن الفناءَ هو غاية السالك التى لا غاية له وراءَها، فهذه المحبة لما أفنت المحب واستغرقت روحه، بحيث غيبته عن شهوده وفنى فيها المحب وانمحت رسومه بالكلية ولم يبق هناك إلا محبوبه وحده، فكأَنه هو المحب لنفسه بنفسه، إذ فنى من لم يكن وبقى من لم يزل.

ولما ضاق نطاق النطق بهم عن التعبير عنها عدلوا إلى التعبير عنها بكونها ((قاطعة للعبارة، مدققة للإشارة)) يعنى تدق عنها الإشارة، ولأن الإشارة تتناول محباً ومحبوباً، وفى هذه المحبة قد فنى المحب فانقطع تعلق الإشارة به إذ الإشارة لا تتعلق بمعدوم.

وسر هذا المقام عندهم هو الفناءُ فى الحب بحيث لا يشاهد له رسماً ولا محبة ولا سبباً، ولهذا كانت الدرجتان اللتان قبله عنه معلولتين، لأنهما [مصحوبان] بالبقاءِ وشهود الأسباب، بخلاف الثالثة، ولهذا قال: ((ولا تنتهى بالنعوت)) يعنى أن النعت لا يصل إليها ولا يدركها.

وهذا بناء على قاعدته فى كل باب من أبواب كتابه، يجعل الدرجة [الثالثة] التى تتضمن الفناءَ أكمل مما قبلها والصواب أن الدرجة الثانية أكمل من هذه وأتم، وهى درجة الكملة من المحبين، ولهذا كان إمامهم وسيدهم وأعظمهم حبا ًﷺ فى الذروة العليا من المحبة، وهو مراع لجريان الأُمور ولجريان الأُمة، مثل سماعه بكاءَ الصبى فى الصلاة فيخففها لأجله، ومثل التفاتة فى صلاته إلى الشِّعب الذى بعث منه العين يتعرف له أَمر العدو، وهذا هو فى أعلى درجة المحبة.

ولهذا رأى ما رأى فى ليلة الإسراءِ وهو ثابت الجأْش حاضر القلب لم يفن عن تلقى خطاب ربه وأوامره، ومراجعته فى أمر الصلاة مراراً ولا ريب أن هذا الحال أكمل من حال موسى الكليم [صلوات الله وسلامه عليهما] فإن موسى خرَّ صعقاً وهو فى مقامه فى الأرض لما تجلى ربه للجبل، والنبى ﷺ قطع تلك المسافات وخرق تلك الحجب ورأى ما رأى وما زاغ بصره وما طغى، ولا [اضطرب] فؤاده ولا صعق [صلوات الله وسلامه عليه].

ولا ريب أن الوراثة المحمدية أكمل من الوراثة الموسوية وتأَمل شأْن النسوة اللاتى رأَين يوسف كيف [أدهشهن] حسنه وتعلقت [قلوبهن]، به، وأفناهن عن أنفسهن حتى قطعن أيديهن وامرأة العزيز أكمل حباً منهن له وأشد ولم يعرض لها ذلك، مع أن حبها أقوى وأتم، لأن حبها كان مع البقاءِ وحبهن كان مع الفناءِ، فالنسوة غيبهن حسنه وحبه عن أنفسهن، فبلغن من تقطيع أيديهن ما بلغن، امرأة العزيز لم [يغيبها حبها له]عن نفسها، بل كانت حاضرة القلب متمكنة فى حبها، فحالها حال الأقوياءِ من المحبين، وحال النسوة حال أصحاب الفناءِ.

ومما يدل على أن حال البقاء فى الحب أكمل من حال الفناءِ أن الفناءَ إنما يعرض لضعف النفس عن وارد المحبة، فتمتليء به وتضعف عن حمله فيفنيها ويغيبها عن تمييزها وشهودها فيورثها الحيرة والسكوت، وأما حال البقاءِ فيدل على ثبات النفس وتمكنها، وأنها حملت من الحب ما لم يطق حمله صاحب الفناءِ، فتصرفت فى حبها ولم يتصرف فيها، والكمال من إذا ورد عليه الحال تصرف هو فيه ولا يدع حاله يتصرف فيه.

وأيضاً فإن البقاءَ متضمن لشهود كمال المحبوب، ولشهود ذل عبوديته ومحبته، ولشهود مراضيه وأوامره، والتمييز بين ما يحبه ويكرهه، والتمييز بين المحبوب إليه والأحب، والعزم على إيثار الأحب إليه، فكيف يكون [الفانى عن شهوة هذا يتعيب الحب له أكمل وأقوى؟ وأى عبودية للمحبوب فى فناءِ المحب فى محبته؟].

وهل العبودية كل العبودية إلا فى البقاءِ والصحو وكمال التمييز وشهود عزة محبوبه وذله وهو فى حبه واستكانته فيه، واجتماع إرادته كلها فى تنفيذ مراد محبوبه؟ فهذا وأمثاله مما يدل على أن الدرجة الثانية التى أشار إليها أكمل من الثالثة وأتم وهكذا فى جميع أبواب الكتاب والله أعلم.

وكأَنى بك تقول لا يقبل فى هذا إلا كلام من قطع هذه المفاوز حالاً وذوقاً، وأما الكلام فيها بلسان [العلم] المجرد فغير مقبول، والمحبون أصحاب الحال والذوق فى المحبة لهم شأْن وراءَ الأدلة والحجج.

فاعلم أولاً أن كل حال وذوق ووجد وشهود لا يشرق عليه نور العلم المؤيد بالدليل فهو من عبث النفس وحظوظها، فلو قدر أن المتكلم إنما تكلم بلسان العلم المجرد فلا ريب أن ما كشفه العلم الصحيح المؤيد بالحجة أنفع من حال يخالف العلم والعلم يخالفه.

وليس من الإنصاف رد العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين فى تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم، فكانت فتنة فى الأرض وفساد كبير. وكم قد ضل وأضل محكم الحال على العلم، بل الواجب تحكيم العلم على الحال ورد الحال إليه، فما زكاه شاهد العلم فهو المقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو المردود، وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق [رضى الله عنه] يوصون بذلك ويخبرون أن كل ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل، ويقال ثانياً: ليس من شرط قبول العلم بالشيء من العالم به أن يكون ذائقاً له، أفتراك لا تقبل معرفة الآلام والأوجاع وأدويتها إلا ممن قد مرض بها وتداوى بها؟ أفيقول هذا عاقل؟ ويقال ثالثاً: أتريد بالذوق أن يكون القائل قد بلغ الغاية القصوى فى هذه المرتبة فلا يقبل إلا ممن هذا شأْنه، أو تريد أنه لا بد أن يكون له أذواق أهله من حيث [الحملة]؟ فإن أردت الأول لزمك أن لا يقبل أحد من أحد، إذ ما من ذوق إلا وفوقه أكمل منه، وإن أردت الثانى فمن أين لك نفيه عن صاحب العلم؟ ولكن لإعراضك عن العلم وأهله صرت تظن أن أهل العلم لهم العلم والكلام والوصف، وللمعرضين عنه الذوق والحال والاتصاف، والظن يخطيء تارة ويصيب، والله أعلم.

فصل

قال أبو العباس: ((فعند القوم كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته، وإنما عين الحقيقة عندهم أن يكون قائماً بإقامته له، محباً بمحبته له، ناظراً بنظره، لا من غر أن يبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بنظر أو تنعت بنعت أو توصف بوصف أو تنسب إلى وقت، صم بكم عمى لدينا محضرون)).

فيقال: هذا هو مقام الفناءِ الذى يشير إليه كثير من المتأخرين، ويجعلونه غاية الغايات ونهاية النهايات وكل ما دونه فمرقاة إليه وعيلة عليه. ولهذا كانت المحبة عندهم آخر منازل الطريق، وأول أودية الفناءِ، والعقبة التى ينحدر منها على منازل المحو، وهى آخر منزل يلقى فيه مقدمة العامة ساقة الخاصة، وما دونها إعراض الإعراض.

فجعلوا المحبة منزلاً من المنازل ليست غاية، وجعلوها أول الأودية التى يسلك فيها أصحاب الفناءِ، فهى أول أوديتهم والعقبة التى ينحدرون منها إلى منازل الفناءِ والمحو.

فليست هى الغاية عندهم، وأصحابها عندهم مقدمة العامة، وساقة أصحاب الفناءِ عندهم مقدمون عليهم سابقون لهم، فإنهم ساقة الخاصة وهؤلاءِ مقدمة العامة، فهذا كله بناء على أن الفناءَ هو الغاية التى لا غاية للعبد وراءَها ولا كمال له يطلبه فوقها. وقد تبين ما فى ذلك، وما هو الصواب بحمد الله، فقوله [رحمه الله]: ((كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته)) يقال له: إذا كان إنما [منه] العبودية التى يحبها الله كسباً ومباشرة فهو قائم بها شاهد لمقيمه فيها مطالع [لمنه]، وفضله، فأى علة هنا سوى وقوفه مع شهودها منه، وغيبته عن شهود إقامة الله وتحريكه إياه، وتوفيقه له؟ فالعلة هى بهذا الشهود وهذه الغيبة المنفاية لكمال الافتقار والفاقة إلى الله، وأما شهود فقره وفاقته ومجموع حالاته وحركاته وسكناته إلى وليه [وبارئه] مستعيناً به أن يقيمه فى عبودية خالصة له، فلا علة هناك.

قوله: ((وإنما عين الحقيقة أَن يكون قائماً بإقامته له)) إلى آخر كلامه، يقال: إن أردت أنه يشهد إقامة الله له حتى قام ومحبته له حتى أحبه ونظره إلى عبده حتى أقبل عبده عليه ناظراً إليه بقلبه فهذا حق، فإن ما من الله سبق ما من العبد، فهو الذى أحب عبده أولاً فأحبه العبد، وأقام العبد فى طاعته فقام بإقامته، ونظر إليه فأقبل العبد عليه، وتاب عليه أولاً فتاب إليه [عبده].

وإن أردت أنه لا يشهد فعله البتة بل يفنى عنه جملة ويشهد أن الله وحده هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً [حرماً] فى شهوده، وإن لم تفن وتعدم فى الخارج- وهذا هو مراد القوم- فدعوى [أن هذا هو الكمال الذى لا كمال فوقه ولا غاية وراءه دعوى] مجردة لا يستدل عليها مدعيها بأكثر من الذوق والوجد، وقد تقدم أن هذا ليس بغاية، وإنما غايته أن يكون من عوارض الطريق، وأن شهود الأشياء فى مراتبها ومنازلها التى أنزلها سبحانه إياها أكمل وأتم.

ويكفى فى بعض هذا الاحتجاج عليه بصفات الكفار، فإن الله ذمهم بأنهم صم بكم عمى، فهذه صفات نقص وذم لا صفات كمال ومدحة، وهل الكمال إلا فى حضور السمع والبصر والعقل وكمال التمييز وتنزيل الخلق والأمر منازلهما والتفريق بين ما فرق الله بينه؟ فالأَمر كله فرقان وتمييز وتبيين، فكلما كان تمييز العبد وفوقانه أتم كان حاله أكمل وسيره أصح وطريقه أقوم وأقرب. والحمد لله رب العالمين.

فصل

قال أبو العباس: وأما الشوق فهو هبوب القلب إلى غائب، وإعواز الصبر عن فقده، وارتياح السر إلى طلبه. وهو من مقامات العوام، وأما الخواص فهو عندهم مخلة عظيمة لأن الشوق إنما يكون إلى غائب. ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة والطريق عندهم أن يكون العبد غائباً والحق ظاهراً. ولهذا المعنى لم ينطق بالشوق كتاب ولا سنة صحيحة.

[لأن] الشوق مخبر عن بعد ومشير [إلى] غائب، وهو يطلع إلى إدراك: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ}* [الحديد: 4]، وقيل:

ولا معنى لشكوى الشوق يوماً إلى من لا يزول عن العيـان

اختلف الناس فى الشوق والمحبة أيهما أعلى؟ فقالت طائفة: المحبة أعلى من الشوق هذا قول ابن عطاء وغيره، واحتجوا بأن الشوق غايته أن يكون أثراً من آثار المحبة، ومتولداً عنها: فهى أصله وهو فرعها. قالوا: والمحبة توجب آثاراً كثيرة فمن آثارها الشوق. وقالت طائفة منهم سرى السقطى وغيره: الشوق أعلى. قال الجنيد: سمعت السرى يقول: الشوق أجل مقامات العارف، إذا تحقق فى الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه. وإنما يظهر سر المسألة بذكر فصلين: الأول فى حقيقة الشوق، والثانى فى الفرق بينه وبين المحبة.

ويتبع ذلك خمس مسائل:

إحداها: هل يجوز إطلاقه على الله كما يطلق عليه أنه يحب عباده أم لا؟

الثانية: هل يجوز إطلاقه على العبد فيقال: يشتاق إلى الله كما يقال يحبه؟

الثالثة: أنه هل يقوى بالوصول والقرب، أم يضعف بهما؟ فأى الشوقين أعلى: شوق القريب الدانى، أم شوق البعيد الطالب؟

الرابعة: ما الفرق بينه وبين الاشتياق، فهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟

الخامسة: فى بيان مراتبه وأقسامها ومنازل أهله فيه.

الفصل الأول - فى حقيقة الشوق:

هو سفر القلب فى طلب محبوبه، بحيث لا يقر قراره حتى يظفر به ويحصل له. وقيل: هو لهيب ينشأ بين أثناء الحشا، سببه الفرقة، فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب. وقيل: الشوق هبوب القلب إلى محبوب غائب.

وقال ابن خفيف [الشوق ارتياح القلوب ومحبه اللقاء بالقرب: وقيل] الشوق [تروح] القلوب نحو المحبوب من غير منازع. ويقال: الشوق انتظار اللقاء بعد البعاد. فهذه الحدود ونحوها مشتركة فى أن الشوق إنما يكون مع الغيبة من المحبوب وأما مع حضوره ولقائه فلا شوق.

وهذه حجة من جعل المحبة أعلى منه، فإن المحبة لا تزول باللقاءِ، وبهذا يتبين الكلام فى الفصل الثانى وهو الفرق بينه وبين المحبة.

الفصل الثانى - الفرق بينهما:

فرق ما بين الشيء وأثره. فإن الحامل على الشوق هو المحبة، ولهذا يقال: لمحبتى له اشتقت إليه وأحببته فاشتقت إلى لقائه، ولا يقال: لشوقى إليه أحببته، ولا اشتقت إلى لقائه فأحببته.

فالمحبة بذر فى القلب، والشوق بعض ثمرات ذلك البذر، وكذلك من ثمراتها حمد المحبوب والرضى عنه وشكره وخوفه ورجاؤه والتنعيم بذكره والسكون إليه والأُنس به والوحشية بغيره، وكل هذه من أحكام المحبة... وثمراتها، وهو حياتها، فمنزلة الشوق من المحبة منزلة الهرب من البغضاءِ والكراهة: فإن القلب إذا أبغض الشيء وكرهه جد فى الهرب منه، وإذا أحبه جد فى الهرب إليه وطلبه، فهو حركة القلب فى الظفر بمحبوبه ولشدة ارتباط الشوق بالمحبة يقع كل واحد منهما موقع صاحبه ويفهم منه ويعبر عنه.

فصل

وأما المسائل [الخمس] فإحداها: هل يجوز إطلاقه على الله؟ فهذا مما لم يرد به القرآن ولا السُّـنَّة بصريح لفظه. قال صاحب ((منازل السائرين)) وغيره: وسبب ذلك أن الشوق إنما يكون لغائب.

ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة، ولهذا السبب عندهم لم يجيء فى حق الله ولا فى حق العبد.. وجوزت طائفة إطلاقه كما يطلق عليه سبحانه، ورووا فى أثر أنه يقول: ((طال شوق الأبرار إلى لقائى، وأنا إلى لقائهم أشوق)). قالوا: وهذا الذى تقتضيه الحقيقة، وإن لم يرد به لفظ صريح، فالمعنى حق، فإن كل محب فهو مشتاق إلى لقاء محبوبه.

قالوا: وأما قولكم إن الشوق إنما يكون إلى الغائب وهو سبحانه لا يغيب عن عبده ولا يغيب العبد عنه، فهذا حضور العلم، وأما اللقاءُ والقرب فأمر آخر، فالشوق يقع بالاعتبار الثانى وهو قرب الحبيب ولقاؤه والدنو منه، وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله.

قال تعالى: {مَن كَانَ يرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ}* [العنكبوت: 5]، قال أبو عثمان الحيرى: هذا تعزية للمشتاقين، معناه: إنى أعلم أن اشتياقكم إلى غالب، وأنا أجلت للقائكم أجلاً، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه. والصواب أن يقال: إطلاقه [اللفظ] متوقف على السمع، ولم يرد به، فلا ينبغى إطلاقه. وهذا كلفظ العشق أيضاً، فإنه لما لم يرد به سمع فإنه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه.

واللفظ الذى أطلقه سبحانه على نفسه وأخبر به عنها أتم من هذا وأجل شأْناً هو لفظ المحبة، فإنه سبحانه يوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعلاها، فيوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بإرادته كما قال تعالى: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ }* [هود: 107] [البروج: 16]، وبإرادة اليسر لا العسر كما قال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}* [البقرة: 185]، وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده كقوله: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتَ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً}* [النساء: 27]، [فإرادة] التوبة [له] وإرادة الميل لمبتغى الشهوات.

وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيجْعَلَ عَلَيْكُمْ مَّنْ حَرَجٍ وَلَكِنُ يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}* [المائدة: 6]، وكذلك الكلام يصف نفسه منه بأعلى أنواعه كالصدق والعدل والحق، وكذلك الفعل [يصنف] نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة.

وهكذا المحبة وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها فقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهَ}* [المائدة: 54]، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}* [البقرة: 222]، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}* [البقرة: 195] [آل عمران: 134] [آل عمران: 148] [المائدة: 13] [المائدة: 93]، و{يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}* [آل عمران: 146].

ولم يصف نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها، فإن مسمى المحبة أشرف وأكمل من هذه [المسميات]، فجاء فى حقه إطلاقه دونها. وهذه [المسميات] لا تنفك عن لوازم ومعان تنزه تعالى عن الاتصاف بها، وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنى ولفظاً مما لم يطلقه.

فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف، والكريم الجواد أكمل من السخى، والخالق الباريء المصور أكمل من الصانع الفاعل، ولهذا لم تجيء هذه فى أسمائه الحسنى، والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق [والمشفق] فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماءِ والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقاً لمعنى أسمائه وصفاته، وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته له دون اللفظ ولا سيما إذا كان مجملاً أو منقسماً إلى ما [يمدح] به، وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيداً، وهذا كلفظ الفاعل والصانع، فإنه لا يطلق عليه فى أسمائه الحسنى إلا إطلاقاً مقيداً أطلقه على نفسه كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}* [البروج: 16]، {وَيَفعلُ الله مَا يَشَآءُ}* [إبراهيم: 27]، وقوله: {صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}* [النمل: 88]، فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم.

ولهذا المعنى- والله أعلم- لم يجيء فى الأسماء الحسنى المريد كما جاءَ فيها السميع البصير، ولا المتكلم ولا الآمر الناهى لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها.

ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقة الفاحش فى اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسماً مطلقاً فأدخله فى أسمائه الحسنى، فاشتق له اسم الماكر، والخادع، والفاتن، والمضل، والكاتب، ونحوها من قوله: {وَيَمْكُرُ اللهُ}* [الأنفال: 30]، ومن قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ}* [النساء: 142]، ومن قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}* [طه: 131]، ومن قوله: {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ}* [الرعد: 27] [النحل: 93] [فاطر: 8]، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَ}* [المجادلة: 21]، وهذا خطأ من وجوه:

أحدها: أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه السماء، فإطلاقها عليه لا يجوز.

الثانى: أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة، فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق.

الثالث: أن مسمى هذه الأسماءِ منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به، وإلى ما يذم، فيحسن فى موضع، ويقبح فى موضع، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل.

الرابع: أن هذه ليست من الأسماء الحسنى التى يسمى بها سبحانه [يجوز أن يسمى بها فإن أسماء الرب تعالى كلها حسنى]، كما قال تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}* [الأعراف: 180]، وهى التى يحب سحبانه أن يثنى عليه ويحمد بها دون غيرها.

الخامس: أن هذا القائل لو سُمى بهذه الأسماء، وقيل له هذه مدحتك وثناءٌ عليك، فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون به علواً كبيراً.

السادس: أن هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه اللاعن والجائى والآتى والذاهب والتارك والمقاتل والصادق والمنزل والنازل [والمذموم] والمدمر وأضعاف أضعاف ذلك، فيشتق له اسماً من كل فعل أخبر به عن نفسه، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، ولا أحد من العقلاءِ طرد ذلك، فعلم بطلان قوله والحمد لله رب العالمين.




فصل

وأَما المسأَلة الثانية وهى: هل يطلق على العبد أنه يشتاق إلى الله وإلى لقائه؟ فهذا غير ممتنع، فقد روى الإمام أحمد فى مسنده والنسائى وغيرهما من حديث حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقلت: خففت يا أَبا اليقظان، فقال: وما على من ذلك ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله ﷺ، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال: ((اللَّهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينى ما علمت الحياة خيراً لى وتوفنى إذا علمت الوفاة خيراً لى، اللَّهم إنى أسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر فى وجهك والشوق إلى لقائك، فى غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين)).

فهذا فيه إثبات لذة النظر إلى وجهه الكريم، وشوق أحبابه إلى لقائه، فإن حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه، قال أبو القاسم القشيرى: سمعت الأستاذ أبا على يقول فى [قوله]، ﷺ: ((أسألك الشوق إلى لقائك)) قال: كان الشوق مائة جزءٍ فتسعة وتسعون له، وجزءٌ متفرق فى الناس فأراد أن يكون ذلك الجزءُ له أيضاً، فغار أن تكون شظية من الشوق فى لغيره. قال: وسمعته يقول فى قول موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}* [طه: 84]، قال: معناه شوقاً إليك، فستره بلفظ [الرضا]، وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه.

وقيل: إن شعيباً بكى حتى عمى بصره، فأوحى الله إليه: إن كان هذا لأجل الجنة فقد أبحتها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها. فقال: لا بل شوقاً إليك، وقال بعض العارفين: من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء.

وقال بعضهم: قلوب [المشتاقين] منوّرة بنور الله [عز وجل] فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إلّى، أشهدكم أنى إليهم أشوق، وإذا كان الشوق هو سفر القلب فى طلب محبوبه ونزوعه إليه فهو من أشرف مقامات العبيد وأجلها وأعلاها، ومن أنكر شوق العبد إلى ربه فقد أنكر محبته له، لأن المحبة [تستلذم] الشوق [فالمحب] دائماً مشتاق إلى لقاء [حبيبه]: لا يهدأُ قلبه ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه.

[وأما] قوله:((إن الشوق عند الخواص علة عظيمة، لأن الشوق إنما يكون إلى غائب، ومذهب [هذه] الطائفة إنما قام على المشاهدة)) فيقال:المشاهدة نوعان: مشاهدة عرفان،ومشاهدة عيان، وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان، ولا ريب أن مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس بالمعرفة ورسوخهم فيها، وليس للمعرفة نهاية تنتهى إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب، بل كلما وصل منها إلى معلم ومنزلة اشتد شوقه إلى ما وراءَه، وكلما ازداد معرفة ازداد شوقاً، فشوق العارف أعظم الشوق فلا يزال فى مزيد من الشوق ما دام فى مزيد من المعرفة، فكيف يكون الشوق عنده علة عظيمة؟ هذا من المحال البين.

بل من عرف الله اشتاق إليه، وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها فشوق العارف لا نهاية له. هذا مع الشوق الناشيء عن طلب اللقاءِ والرؤية والمعرفة العيانية، فإذا كان القلب حاضراً عند ربه وهو غير غائب عنه لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقاً إلى لقائه ورؤيته، بل هذا يكون أتم لشوقه وأعظم.

فظهر أن قوله: ((وإن الشوق علة عظيمة فى طريق الخواص)) كلام باطل على كل تقدير، وإن الشوق بالحقيقة إنما هو شوق الخواص العارفين بالله، والعبد إذا كان له مع الله حال أو مقام وكشف له عما هو أفضل منه وأجل اشتاق إليه بالضرورة، ولم يكن شوقه علة له ونقصاً فى حاله بل زيادة وكمالاً، ويكون ترك الشوق هو العلة.

وقد تقدم أن لا غاية للمعرفة تنتهى إليها فيبطل الشوق بنهايتها، بل لا يزال العارف فى مزيد من معرفته وشوقه والله المستعان.

فصل

وأما المسألة [الثالثة] وهى: هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى؟ فقالت طائفة: الشوق يزول باللقاء، لأنه طلب، فإذا حصل المطلوب زال الطلب، لأن تحصيل الحاصل محال، ولا معنى للشوق إلى شيء حاصل، وإنما يكون الشوق إلى شيء مراد الحصول محبوب الإدراك، وقالت طائفة أُخرى: ليس كذلك بل الشوق يزيد بالوصول واللقاء ويتضاعف بالدنوّ، ولهذا قال القائل:

وأعظم ما يكون الشوق يوماً إذ دنت الديار من الديار

ولهذا قال بعضهم: شوق أهل القرب أتم من شوق المحبوبين واحتجت هذه الطائفة بأن الشوق من آثار الحب ولوازمه، [وكما] أن الحب لا يزول باللقاءِ فهكذا الشوق الذى لا يفارقه.

قالوا: ولهذا لا يزول الرضى والحمد والإجلال والمهابة التى هى من آثار المحبة باللقاء، فهكذا الشوق يتضاعف ولا يزوال، والقولان حق.

وفصل الخطاب فى المسألة أن المحب إذا اشتاق إلى لقاءِ محبوبه فإذا حصل له اللقاءِ زال ذلك الشوق الذى كان متعلقاً بلقائه وخلفه شوق آخر أَعظم منه وأبلغ إلى ما [مزيد] قربه والخظوة عنده، وأما إذا قدر أنه لقيه ثم احتجب عنه ازداد شوقه إلى لقاءِ آخر ولا يزال يحصل له الشوق كلما احتجب عنه، فهذا لا ينقطع شوقه أبداً، فهو إذا رآه بلّ شوقه برؤيته. وإذا زال عنه الطرف عاوده الشوق كما قيل:

ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته حتى يعود إليه الطرف مشتاقاً

وإنما الشأْن فى دوام الشوق حال الوصول واللقاءِ، فاعلم أن الشوق نوعان:

شوق إلى اللقاء، فهذا يزول باللقاء. وشوق فى حال اللقاء، وهو تعلق الروح بالمحبوب تعلقاً لا ينقطع [أبدلاً]، فلا تزال الروح مشتاقة إلى مزيد هذا التعلق وقوته اشتياقاً لا يهدأُ. وقد أفصح بعد المحبين للمخلوق عن هذا المعنى بقوله:

أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها وهل بعد العناق [تدانى]

وأَلثم فاها كى تزول صبابتى فيشتد ما ألقى من الهيمان

فالشوق فى حال الوصل والقرب إلى مزيد النعيم واللذة لا ينقطع والشوق فى حال السير إلى اللقاءِ ينقطع. ونستغفر الله من الكلام فيما لسنا بأهل له:

فالخــوف أولى بالمسي إذا تــأله والحــــزن

(يتبع...)

@والحـب يحمـل بالتقـي و [بـ] النقــاءِ من الدرن

لكـن إذا ما لم يحــب ـكم المسـيء إذن فمـن

وإذا تخــوّن فعلنـــا فعـــل المحبــة مؤتمن

أيحــب شـيء غيركم وحياتكــم كــلا ولن

أيحب مـن تأْتى محبـــ ـته بأَنـــواع المحــن

والسعـد فيهــا ذابـح والقــلب فيهـا ممتحـن

دون الــذى فى حبـه نيــل السـعادة والمنـن

ومحـل بـدر كمالهــا سعد السعود هو الوطــن

والقـلب حين يحـل فى تلــك المنازل والدمــن

يمسـى ويصبح من رضـا ه ومـن منـاه فى وطــن

أيحـــبهم قلـب ويخـ شى أَن يضـــام؟ فلا إِذن

فصل

وأما المسألة الرابعة وهى: الفرق بين الشوق والاشتياق، فقال أبو عبد الرحمن السلمى: سمعت النصر أباذى يقول: للخلق كلهم مقام الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل فى حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار. وهذا يدل على أن الاشتياق عنده غير الشوق.

ولا ريب أن الاشتياق مصدر اشتاق يشتاق اشتياقاً، كما أن التشوق مصدر تشوق تشوقاً، والشوق فى الأصل اسم مصدر شاقه يشوقه شوقاً مثل شاقه شوقاً إذا دعاه إلى الاشتياق، فالاشتياق مطاوع شاقة يقال شاقنى فاشتقت إليه، ثم صار الشوق اسم مصدر الاشتياق وغلب عليه حتى لا يفهم [منه] عند الإطلاق إلا الاشتياق القائم بالمشوق والمشوق هو الصب المشتاق، والشائق هو الذى قام به وادعى الشوق.

[فهاهنا] ألفاظ الشوق والاشتياق والتشوق والشائق والمشوق والشيق. فهذه ستة ألفاظ: أحدها: الشوق، وهو فى الأصل مصدر الفعل المتعدى شاقه يشوقه، ثم صار اسم مصدر الاشتياق. اللفظ الثانى: الاشتياق، وهو مصدر اشتاق اشتياقاً، والفرق بينه وبين الشوق هو الفرق بين المصدر واسم المصدر. اللفظ الثالث: التشوق وهو مصدر تشوق إذا اشتاق مرة بعد مرة كما يقال: تجرع وتعلم وتفهم. وهذا البناءُ مشعر بالتكلف وتناول الشيء على مهلة. اللفظ الرابع: الشائق، وهو الداعى للمشوق إلى الاشتياق. واللفظ الخامس: المشوق، وهو المشتاق الذى قد حصل له الشوق. اللفظ السادس: الشيق، وهو فعل بمنزلة هين ولين، وهو المشتاق.

فهذه فروق ما بين هذه الألفاظ، وأما كون الاشتياق أبلغ من الشوق فهذا قد يقال فيه: إنه الأصل وهو أكثر حروفاً من الشوق، وهو يدل على المصدر الفاعل. وأما المشوق ففرع عليه لأنه اسم مصدر وأقل حروفاً وهو إنما يدل على المصدر المجرد، فهذه ثلاثة فروق [بينهما]. والله أعلم.

فصل

وأما المسألة الخامسة وهى فى مراتب الشوق ومنازله، فقال صاحب ((منازل السائرين)): ((هو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: شوق العابد إلى الجنة ليأْمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل.

والدرجة الثانية: شوق إلى الله [عز وجل] زرعه الحب الذى ينبت على حافات المنن تعلق قلبه بصفاته المقدسة واشتاق إلى معانيه لطائف كرمه وآيات بِرّهِ وعلامة فضله. وهذا شوق تغشاه المبار، وتخالجه المسار ويقارنه الاصطبار. والدرجة الثالثة: نار أضرمها صفو المحبة فنغصت العيش وسلبت السلو، ولم ينهنهها مقر دون اللقاءِ)).

قلت: الدرجة الأولى هى شوق إلى فضل الله وثوابه. والثانية: شوق إلى لقائه ورؤيته. والثالثة: شوق إليه لا لعلة ولا لسبب ولا ملاحظة فيه غير ذاته.

فالأول: حظ المشتاق من إفضاله وإنعامه، والثانى: حظه من لقائه ورؤيته، والثالث: قد فنيت فيه الحظوظ واضمحلت فيه الأقسام.

وقوله فى الدرجة الأُولى: ((ليأْمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل)) هذه ثلاث فوائد ذكرها فى هذا الشوق: أمن الخائف، وفرح الحزين، والظفر [بالأمل]. فهذه المقاصد لما كانت حاصلة بدخول الجنة كانت مصورة للنفس أشد الشوق لها حصول هذه المطالب وهى الفوز والفرح.

وجماع ذلك أمران: أحدهما: النجاة من كل مكروه، والثانى: الظفر بكل محبوب. فهذان هما المشوقان إلى الجنة.

وقوله فى الثانية: ((شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب)) قد تقدم أن الشوق ثمرة الحب.

وقوله: ((الذى ينبت على حافات المنن)) أى أنشأه الفكر فى منن الله [تعالي] وأياديه وأنعامه المتواترة، وفيه إشارة إلى أن هذا الحب الذى هو نابت على الحافات والجوانب بعده حب أكمل منه وهو الحب الناشيء من شهود كمال الأسماء والصفات، وذلك ليس من نبات الحافات، ولكن من الحب الأول يدخل فى هذا كما تقدم، ولهذا قال: ((تعلق قلبه بصفاته المقدسة)).

وقوله: ((اشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعلامة فضله)) يشير به إلى ما يكرم الله به عبده من أنواع كراماته التى يستدل بها على أنه مقبول عند ربه ملاحظ بعنايته، وأنه قد استخدمه وكتبه فى ديوان أوليائه وخواصه.

ولا ريب أن العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات قوى قلبه وفرح بفضل ربه وعلم [أنه] أهل فطاب له السير ودام اشتياقه وزالت عنه العلل، وما لم ينعم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيباً حزيناً خائفاً أن يكون ممن لا يصلح لذلك الجناب ولم يصل لتلك المنزلة.

وقوله: ((وهذا شوق تغشاه المبارّ)) هى جمع مبرة وهى البر، أى أن هذا الشوق مشحون بالبر مغشى به، وهو إِما بر القلب وهو كثرة خيره، فهذا القلب أكثر القلوب خيراً، فيفعل البر [تقرباً] إلى من هو مشتاق إليه، فهو يجيش بأَنواع البر، وهذه من فوائد المحبة أن قلب صاحبها ينبع منه عيون الخير وتتفجر منه ينابيع البر، يريد به بأن مبارّ الله ونعمه تغشاه على الدوام.

وقوله: ((وتخالجه المسار)) [أى مخالطة] السرور فى غضو أشواقه، فإنها أشواق لا وحشة معها ولا ألم، بل هى محشوة بالمسرات.

وقوله: ((ويقارنه الاصطبار)) أى صاحبه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه شوقه إليه، وإنما يضعف الصبر لضعف المحبة والمحب من أصبر الخلق كما قيل:

نفس المحب على الآلام صابرة لعل مسقمها يوماً يداويها

وقوله فى الدرجة الثالثة: ((إنها نار أضرمها صفو المحبة)) يعنى أن هذا الشوق يتوقد من خالص المحبة التى لا تشوبها علة، فهو أشد أنواع الشوق، ولهذا (([نغصت] العيش)) أى كدرته ونغصت المشتاق فيه لأنه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه، فهو يترقب مفارقته.

وقوله: ((وسلبت السلوّ)) يعنى أن صاحبه لم يبق له مطمع فى سلوه أبداً، وهذا أعظم ما يكون من الحب والشوق، أن المحب أَيس من السلو [وينقطع] طمعه منه كما [ييأس] من الأُمور الممتنعة كرجوع أيام الشباب عليه وعوده طفلاً ونحو ذلك.

وقوله: ((ولم ينهنهها مقرّ دون اللقاءِ)) أى أن هذه النار لا يبردها ولا يفتر حرها مقصود ولا مطلب ولا مراد دون لقاءِ محبوبه، فليس لا سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاءِ محبوبه.






































فـصـل

قال أبو العباس: ((فهذه كلها علل أنف الخواص منها وأسباب انفطموا عنها، فلم يبق لهم مع الحق إرادة، ولا فى عطائه تشوق إلى استزادة.

فهو منتهى زادهم وغاية رغبتهم فيعتقدون أن ما دونه قاطع عنه: {قُلْ أَى شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ}* [الأنعام: 19]، وإنما زهدهم جمع الهمة عن تعريفات الكون لأَن الحق عافاهم بنور الكشف عن التعلق بالأَحوال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَينَ الأَخْيَارِ}* [سورة ص: 46- 47].

قلت: يشير بذلك إلى المحو ومقام الفناءِ الذى هو غاية الغايات عنده، وقد تقدم الكلام عليه وأن مقام الصحو والبقاءِ أفضل منه وأتم عبودية. وينبغى أن يعرف أن مراعاة مقام الفناءِ الذى جعلوه غاية آلَ بكثير من طالبيه إلى ترك القيام بالأعمال جملة ورأَوا أنها علل قاطعة عنه، واشتد نكير الشيوخ والأئمة عليهم حتى قال شيخ الطائفة الجنيد [رحمه الله] إن الذى يزنى ويسرق خير من هؤلاء.

وهم نوعان: نوع جردوا الفناءَ فى شهود الحكم: وهو الحكم القدرى ورأوا أنه نهاية التوحيد، فآل بهم استغراقهم فيه إلى اطراح الأسباب حتى قال قائلهم: العارف لا يعرّف معروفاً ولا ينكر منكراً لاستبصاره بشر الله فى القدر.

والنوع الثانى: أصحاب تجريد الفناءِ والإرادة فجردوا الفناءَ والإرادة تجريداً آل بهم إلى ترك الأسباب جملة، والطائفتان منحرفتان ضالتان خارجتان عن العلم والدين، ولهذا قال لهم شيخ القوم الجنيد: عليكم بالفرق الثانى. يعنى أن الفرق فرقان: فرق بالطبع والهوى، وهو الفرق الذى شهدوه وفروا منه إلى معنى الجمع.

ولكن بعد الجمع فرق ثان وهو الفرق بالأمر والمحبة، لا بالشهوة والطبع، وهو دين الرسل [صلوات الله عليهم وسلم] فإن دينهم مبناه على الفرق الأَمرى الشرعى بين محبوب الرب ومأْموره وبين مسخوطه ومنهيه، فمن لم يشهد هذا الفرق ولم يكن من أهله لم يكن من أَتباع الرسل، فإن الكمال شهود الجمع فى هذا الفرق فيشهد انفراد الله وحده بالخلق والأمر، ويشهد الفرق بين ما يحبه فيؤثره ويقدمه وبين ما يبغضه فيتركه ويتجنبه فيصير له هذا الفرق فى محل فرقه الطبعى الحسى بين ما يلائمه وينافره.

ومن المعلوم أن صاحب الجمع لا بد أن يفرق بطبعه وحسه، وإن ادعى عدم التفريق طبعاً فإنه كاذب مفتر، إذا كان لا بد من الفرق فالفرق الشرعى الإيمانى الذى بعث الله به رسله أدلى به من الفرق الطبعى الحيوانى الذى شاركه فيه سائر البهائم.

وأبطل من هذا الجمع الجمع فى الوجود، وهو أن يرى الوجود كله واحداً لا فرق فيه أصلاً، وإنما التفريق بالعادة والوهم فقط ما يقوله زنادقة القائلين بوحدة الوجود الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق بل يجعلون وجود أحدهما وجود الآخر بل ليس عندهم فرق بين أحدهما والآخر إذ ما ثم غير.

فهذا جمع فى الوجود وجمع أُولئك جمع فى الشهود: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}* [البقرة: 213] [فكانوا أصحاب الجمع فى الفرق ففرقوا بين ما فرق الله بينه بإذنه وجمعوا الأشياء كلها فى خلقه وأمره وجمعوا إراداتهم ومحبتهم وشهودهم فيه]، فكانوا أصحاب جمع فى فرق وفرق فى جمع. فهؤلاء خواص الخلق، فنسأل الله العظيم من فضله وكرمه أن يجعلنا منهم.

فهؤلاء هم الذين لم يبق لهم مع الحق إرادة، بل صارت إرادتهم تابعة لإرادته، فحصل الاتحاد فى المراد فقط لا فى الإرادة ولا فى المريد، فأصحاب الوحدة ظنوا الاتحاد فى المريد وأصحاب الحلول توهموا الاتحاد فى الإرادة: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}* [البقرة: 213]، فعلموا أن المراد واحد فالاتحاد وقع فى المراد فقط، لا فى الإرادة ولا فى المريد.

وقوله ((فيعتقدون أن ما دونه قاطع عنه)) إنما يكون ما دونه قاطعاً عنه إذا وقف العبد معه وتعلقت إرادته به وانصرف طلبه إليه، وأما إذا جعله وسيلة إلى الله وطريقاً يصل بها إليه لم يكن قاطعاً ولا حجاباً، بل يكون حاجباً موصلاً إليه، وقوله تعالى: {قُلْ أَى شَيءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ}* [الأنعام: 19]، المراد بالآية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته، فإن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ: من يشهد لك على ما تقول؟ فأنزل الله [تعالى] آيات شهادته له وشهادة ملائكته وشهادة علماءِ أهل الكتاب [له]، فقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}* [الرعد: 43]، أى ومن عنده علم الكتاب يشهد لى وشهادته مقبولة لأنها شهادة بعلم، قال الله تعالى: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً}* [النساء: 166]، وقال تعالى {قُلْ أَى شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً، قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ}* [الأنعام: 19]، فأخبر سبحانه فى هذه المواضع بشهادته لرسوله وكفى بشهادته إثباتاً لصدقه وكفى به شهيداً.

فإن قيل: وما شهادته [سبحانه] لرسوله؟ قيل: هى ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمة لصدقه بعد العلم بها ضرورة، فدلالتها على صدقه أعظم من دلالة كل بينة وشاهد على حق، فشهادته سبحانه لرسوله أصدق شهادة وأعظمها وأدلها على ثبوت المشهود به، فهذا وجه.

ووجه آخر: أنه صدقه بقوله وأقام الأدلة القاطعة على صدقه فيما يخبر به عنه، فإذا أخبر عنه أنه شهد له قولاً لزم ضرورة صدقه فى ذلك الخبر وصحت الشهادة له به قطعاً، فهذا معنى الآية وكان أجنبياً عما [استشهد] به المصنف.

ونظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، قُلِ اللهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ}* [الأنعام: 91] حتى رتب على ذلك بعضهم أن الذكر بالاسم المفرد وهو ((الله، الله)) أفضل من الذكر بالجملة المركبة كقوله: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))، وهذا فاسد مبنى على فاسد. فإن الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلاً، ولا مفيد شيئاً، ولا هو كلام أصلاً، ولا يدل على مدح ولا تعظيم، ولا يتعلق به إيمان، ولا ثواب ولا يدخل به الذاكر فى عقد الإسلام جملة.

فلو قال الكافر: ((الله، الله)) من أول عمره إلى آخره لم يصر بذلك مسلماً فضلاً عن أن يكون من جملة الذكر [أو يكون أفضل الأذكار وبالغ بعضهم فى ذلك حتى قال الذكر] بالاسم المضمر أفضل من الذكر [بالاسم الظاهر، يذكر بقوله [هو، هو أفضل من الذكر] بقولهم: ((الله، الله))، وكل هذا من أنواع الهوس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات، فهذا فساد هذا البناءِ الهائر، وأما فساد المبنى عليه فإنهم ظنوا أن قوله تعالى: {قُلِ اللهُ}* [الأنعام: 19]، أى قل هذا الاسم، فقل: الله الله، وهذا من عدم فهم القوم لكتاب الله، فإن اسم الله هنا جواب لقوله: {قُلِ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَه قَرَاطِيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً}* [الأنعام: 91]، إلى أن قال: {قُلِ اللهُ} ، أى قل: الله أنزله: فإن السؤال معاد فى الجواب فيتضمنه فيحذف اختصاراً كما يقول: من خلق السموات والأرض؟ فيقال: الله. أى الله خلقهما، فيحذف الفعل لدلالة السؤال عليه، فهذا معنى الآية الذى لا تحتمل غيره.

قوله: ((وإنما زهدهم جمع [الهمة] عن تعريفات الكون لأَن الحق عافاهم بنور الكشف عن التعلق بالأَحوال)) فيقال: الكشف الذى أوجب لهم هذا الجمع وقطع هذا التعلق هو الكشف الإيمانى القرآنى فهو فى الحقيقة الكشف النافع الجاذب لصاحبه إلى سلوك منازل الأبرار والوصول إلى مقامات القرب، ولا سيما إذا قارنه الكشف عن عيوب النفس وعلى الأعمال، فناهيك به من كشف.

والكرامة المرتبة عليه هى لزوم الاستقامة ودوام العبودية، فهذا أفضل كشف يعطاه العبد، وهذه أفضل كرامة يكرم بها الولى. رزقنا الله من فضله وبره.

وأما استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ}* [ص: 64] فهذه الآية يخبر فيها سبحانه عما أخلص له أنبياؤه ورسله من اختصاصهم بالآخرة، وفيها قولان: أحدهما أن المعنى نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وإيثارها والعمل بها. والقول الثانى: إنا أخلصناهم بأفضل ما فى الدار الآخرة واختصصناهم به عن العالمين.

قوله: وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق، وتخلصهم من تدبيرهم، وفراغ [همهم] من احتيالها فى إصلاح شئونها، بوقوفهم على فراغ المدبر منها، ومرها على علمه بمصالحهم فيها، ونفوسهم مطمئنة بذلك: {يَأَيتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ}* [الفجر: 27] الآية.

وقد تقدم الكلام على التوكل وبيان أنه من مقامات العارفين، وأنه لا انفكاك للمؤمن منه، وذكر العلة فيه ما هى. وقوله: ((وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق)) الرضا بالتدبير ثمرة التوكل وموجبه لا أنه نفس التوكل والمقدور، يكشفه أمران: التوكل قبل وقوعه، والرضا به بعد وقوعه.

ومن هنا قال بعضهم: حقيقة التوكل الرضا لأنه لما كان ثمرته وموجبه استدل له عليه استدلالاً بالأثر على المؤثر وبالمعلول على العلة، ولهذا قال فى الحديث الذى رواه الإمام أحمد والنسائى: وغيرهما عن النبى ﷺ أنه قال فى دعائه: ((اللهم إنى أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينى ما كانت الحياة خيراً لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى، اللهم وأسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاءِ، وأسألك برد العيش بعد الموت)) الحديث. وقد تقدم، فقال: ((وأسألك الرضا بعد القضاء)).

وأما التوكل فإنما يكون قبله، وقوله: ((وتخلصهم من تدبيرهم)) هذا مقام كثيراً ما يشير إليه السالكون، وهو ترك التدبير، وينبغى أن لا يؤخذ على إطلاقه بل لا بد فيه من التفصيل فيقال: العبد دائر بين مأمور يفعله، ومحظور يتركه. وقد يجرى عليه بلا إرادة منها ولا كسب فوظيفته فى المأْمور كمال التدبير والجد والتشمير، وأن يدبر الحيلة فى [تنفيذه] بكل ما يمكنه، فترك التدبير هنا تعطيل للأمر. بل يدبر فعله ناظراً إلى تدبير الحق له، وأن تدبيره إنما يتم بتدبير الله له، فلا يكون هنا قدرياً مجوسياً ناظراً إلى فعله جاحداً لتدبير الله وتقديره ومعونته، ولا قدرياً مجبراً ولا واقفاً مع القدر جاحداً لفعله وتدبيره ومجلى أمر الله ونهيه.

فإن فعله الاختيارى هو محل الأمر والنهى، فمن جحد فعل نفسه فقد عطل الأمر والنهى وجحد محلهما، ووظيفته فى المحظور الفناءُ عن إرادته وفعله، فإن عارضته أسباب الفعل، فالواجب عليه الجد فى الهرب والتشمير فى الكف والبعد، وهذا تدبير للنهى.

وأما القدر الذى يصيبه بغير إرادته، فهذا الذى يحسن فيه إسقاط التدبير جملة، وصبره ورضاه بما قسم له من محبوب ومكروه.

فعلى هذا التفصل ينبغى أن يوضع إسقاط التدبير، وجماع ذلك أنك تسقط التدبير فى حظك وتكون قائماً بالتدبير فى حق ربك، وهكذا ينبغى أن تفرغ الهمة من إجالتها فى إصلاح شأْنك، فإن إصلاح شأنك بحصول حظوظك يحصل فيه فراغ الهمة وترك التدبير، وأما إصلاح شأْنك بأداءِ حق الله فالواجب شغل الهمة وإجالتها فى القيام به.

وقوله: ((بوقوفهم على الفراغ المدبر منها، ومرها على علمه بمصالحهم فيها)) فلا ريب أن الله سبحانه وتعالى قضى القضية وفرغ من تدبير أُمور الخلائق، ولكن قدرها بأسبابها المفضية إليها، فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه وتعالى من أقضيته فى خلقه وتدبيره مانعاً له من قيامه بالأسباب التى جعلها طرقاً لحصول ما قضاه منها. وكذلك يباشر العبد الأسباب التى بها حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس والمسكن، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبر منها مانعاً له من تعاطيها.

وكذلك يباشر الأسباب الموجبة لبقاءِ النوع من النكاح والتسرى، ولا يكون وقوفه مع فراغ الله من خلقه مانعاً له [من ذلك] وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغاً منها قضاءً وقدراً، فهى منوطة بأسبابها التى يتوقف حصولها عليها شراً وخلقاً.

وأما استدلاله بقوله تعالى: {يأَيتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكَ }* [الفجر: 27-28]، فالنفس المطمئنة هى التى اطمأنت إلى ربها وسكنت إلى حبه واطمأنت بذكره وأيقنت بوعده ورضيت بقضائه، وهى ضد النفس الأمارة بالسوءِ، فلم تكن طمأنينتها بمجرد إسقاط تدبيرها، بل القيام بحقه والطمأّنينة بحبه وبذكره.

فصل

قال: وصبرهم صونهم قلوبهم عن خاطر السوءِ أن الله قضى قضاءً عارياً عن المرافقة خارجاً عن الخيرة، قال الله تعالى: {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً}* [الأنفال: 17]، قد تقدم الكلام فى الصبر وأقسامه وبيان مرتبته من الإيمان.

وما ذكره فى تفسيره [هاهنا] غير مطابق لمعناه، وهو تفسير بعيد جداً، فإن الصبر من أعمال القلوب، وهو حبس النفس وكفها عن السخط، وأما صون القلب عن اعتقاد ما لا يليق بالله فلا يقال له صبر بل هذا من لوازم الإيمان، وهو كاعتقاد أنه سبحانه وتعالى حكيم رحيم عليم سميع بصير إلى غير ذلك من صفات كماله.

فلا يقال: الصبر صون القلب عن اعتقاد أضدادها، هذا بعيد جداً وتكلف زائد لتفسير الصبر، وهل فهم أحد قط هذا المعنى من قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}* [آل عمران: 200]، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}* [الطور: 48] وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}* [النمل: 127]، وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}* [طه: 130، وسورة ق: 39] [وقوله تعالى:] {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}* [الأنفال:46]، وسائر نصوص الصبر.

ومن العجب جعل الصبر الذى هو نصف الإيمان من منازل العوام، وتفسيره بهذا التفسير، نعم يجب على كل مسلم أن ينزه الله سبحانه وتعالى عن أن يقضى قضاءً ينافى حكمته وعدله وفضله وبره وإحسانه، بل كل أقضيته لا تخرج عن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، وإن كان كثير من المتكلمين ينازع فى هذا الأصل ويقول: الذى ينزه الله عنه من الأقضية هو المستحيل الممتنع، وأما الممكن فلا يقبح منه شيء، وهؤلاء لا [معنى] صون القلب عن خواطر السوءِ المتعلقة بما يقضيه الله عندهم إلا صونها عن خواطر الممتنعات والمستحيلات فقط.

وبالجملة هذا مقام آخر غير مقام الصبر، بل هذا باب من أبواب المعرفة والعلم، ولكل مقام مقال. وأما استشهاده بقوله تعالى: {وَلِيُبْلِى الْمُوْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً}* [الأنفال: 17]، فالبلاءُ الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداءِ، وليس من الابتلاءِ الذى هو الامتحان بالمكروه، بل من أَبلاه بلاءً حسناً إذا أنعم عليه، يقال: أبلاك الله ولا ابتلاك، فأبلاه بالخير، وابتلاه بالمكاره غالباً كما فى الحديث: ((إنى مبتليك ومبتل لك)).

فصل

قال: وحزنهم يأْسهم عن أنفُسهم الأمارة بالسوءِ: {إِنَّ الإِنْسَانِ لِرَبِّهِ لَكَنُود}* [العاديات: 6]، وقد تقدم أيضاً الكلام على ما ذكره فى الحزن، وأما تفسيره إياه أنه ((يأْسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء)) فليس بالبين، فإن الحزن هو الأسف على فوت محبوب أو حصول مكروه، وإن تعلق ذلك بالماضى كان حزناً وإن تعلق بالمستقبل كان خوفاً وهمّاً.

وأما ((اليأْس عن النفس الأَمارة بالسوءِ)) فليس بحزن، ويمكن أن يكون مراده أن حزنهم ينشأُ عن النفس الأمارة بالسوءِ))لا عن المطمئنة، فإن [النفس] المطمئنة لا تحزن وإنما تحزن الأمارة لفوات محبوبها، وليس هذا كما قال، فإن النفس المطمئنة تحزن على تقصيرها فى أداءِ الحق وعلى تضييعها الوقت وإيثارها غير الله عليه فى الأحيان، وهذا الحزن لا بد منه، إذ التقصير والتضييع لازم، وأما استشهاده على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود}* [العاديات:6]، فوجهه أن الكنود هو الكفور، وهو الذى يذكر المصائب، وينسى النعم، ولا ريب أن الحزن ينشأ عن هذين، ولا ريب أن الحزن الناشيء عن الكنود حزن ناشيء عن النفس الأَمارة بالسوءِ، وأما الحزن على تقصيره وتضييع وقته فليس من هذا، وقد تقدم ذلك وذكر أقسام الحزن ومتعلقاته والله أعلم.

فصل

قال: وخوفهم هيبة الجلال لا خوف العذاب، فإن خوفهم مناضلة عن النفس وضن بها، وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس: {يَخَافُونَ رَبَّهِمْ مِن فَوْقِهِمْ}* [النمل: 50]، وقال فى حق العوام: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}* [النور: 37]، وقد تقدم أيضاً الكلام على ما ذكره فى الحديث وعلته.

وقوله هو: ((هيبة الجلال لا خوف العذاب)) تقدم بيان بطلانه، وأن الله سبحانه أثنى على خاصة أوليائه من الملائكة والأنبياءِ وغيرهم ممن عبدهم المشركون بأَنهم: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابِهِ}* [الإسراء: 57]، [فكيف] يقال: إن خوف العذاب نقص ومناضلة عن النفس؟ هذا من الترهات، والزعومات، ودعاوى الأنفس.

وقوله: ((إن الخوف مناضلة عن النفس)) فسبحان الله، هل يقال لمن خاف الله وخاف عقوبته إنه مناضل ربه؟ ولو كان مناضلة فهو مناضلة العدو والهوى والشهوة، وهذه المناضلة من أعظم أنواع العبودية، فإن من خاف شيئاً ناضل عنه فهو مناضلة عن العذاب وأسبابه، وما ثمَّ إلا مناضلة وإلقاء باليد إلى التهلكة، ولولا هذه المناضلة لحصل الاستسلام للعقوبة.

والمناضلة المحذورة: المناضلة عن محبوبات الرب وأوامره، وليس الضن بالنفس عن عذاب الله نقصاً، بل الكمال والفوز والنعيم فى ضن العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب الله، ومن لم يضن بنفسه فليس فيه خير البتة، والضن بالنفس إنما يذم إذا ضن بها عن بذلها فى محبوب الرب وأوامره، وأما إذا ضن بها عن عذابه فهل يكون هذا علة؟ وهل العلة كلها إلا فى عدم هذه المناضلة والضن؟ قوله: ((وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس)) قد تقدم الكلام فى الهيبة والتعظيم وأنهما غير الخوف والخشية.

ولا تستلزم هذه الهيبة أيضاً نسبان النفس، ولا يكون شعور العبد بنفسه فى هذا المقام نقصاً ولا علة كما تقدم، بل هو أكمل لاستلزامه البقاء الذى هو أقوى وأكمل من الفناءِ، وأما قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِن فَوْقِهِمْ}* [النمل:50]، فهو حجة عليه كما تقدم ولا يصح تفسير الخوف هنا بالهيبة لوجهين: أحدهما أنه خروج عن حقيقة اللفظ ووضعه الأصلى بلا موجب، الثانى أن هذا وصف للملائكة وقد وصفهم سبحانه بخوفه وخشيته فالخوف فى هذه الآية والخشية فى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلَفَهُم وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَن ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}* [الأنبياء: 28] فوصفهم بالخشية والإشفاق. ووصفهم بخوف العذاب فى قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إَلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابِهِ}* [الإسراء: 57]، وهم خواص خلقه، فإياك ورعونات النفس وحماقاتها وجهالاتها، ولا تكن ممن لا يقدر الله حق قدره، وقد قال النبى ﷺ: ((إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم))، فإذا علم المقرب العارف أن الله لو عذبه لم يظلمه، فمن أحق بالخوف منه؟ قوله: وقال فى حق العوام: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقلُوبُ وَالأَبْصَارُ}* [النور: 37] هذا من الشطحات القبيحة الباطلة، فإن هذا صفة خواص عباده وعارفيهم، وهم الذين قال فيهم:

@{رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}* [النور:37-38]

فهولاء هم خواص الخلق ، وهم أصحاب رسول الله ﷺ ومن تبعهم بغحسان ، أفلا يشحى من جعل هذا الوصف للعوام؟ لا ريب أن هذا مصدره إما جهل مفرط ، وإما تقليد لقائل لا يدرى لازم قوله.

هذا إن أحسن الظن بقائله وإن كان مصدره غير ذلك فأدهى وأمر. ولولا أن هذه الكلمات ونحوها مهاو ومعاطب في الطريق لكان الإعراض عنها إلى ما هو أهم منها أولى. والله المستعان.

فصل

كلام آخر فى مقام الرجاء

قال : ورجاؤهم ظمؤهم إلى الشراب الذي هم فيه غرقى ، وبه سكرى ، {أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظِّلَّ}* [الفرقان:45]

هذا أيضاً من ذلك النمط ، ورجاء الأنبياء والرسل فمن دونهم إنما هو طمعهم فى رحمته ومغفرته وانظر إلى دعوى هؤلاء وإلى قوم إمام الحنفاء خليل الرحمن ﷺ: {وَالّذِيَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ}* [الشعراء:82]، كيف علق رجاءه وطمعه بمغفرة الله له ، وقال تعالى عن خاصة خلقه وأعلمهم به انهم: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}* [الإسراء:57]

ومن العجب استدلاله بقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ}* [الفرقان:45]، فما لهذه الآية وما للرجاء ، ولا سيما ما ذكره المصنف فى تفسيره رجاء القوم والاستشهاد بهذا من جنس الألغاز ومعنى الآية: التنبيه على هذه الدلالة الباهرة على قدرة الرب سبحانه وعجائب مخلوقاته الدالة عليه ، والمعنى انظر كيف بسط ربك الظل ، والظل ما قبل الزوال ، والفئ بعده ، فمده سبحانه وبسطه عند طلوع الشمس فإنه يكون مديداً أطول ما يكون وجعل الشمس دليلاً عليه فإنها هى التى تظهره وتبينه ثم كلما ارتفعت الشمس شيئاً انقبض من الظل جزء، فلا يزال ينقص يسيراً [يسيراً]، حتى ينتهى إلى غايته، فإذا أخذت الشمس فى الجانب الغربى انبسط بعد انقباضه شيئاً فشيئاً، حتى يصير كهيئته عند طلوعها.

ولهذا كان الزوال يعرف بانتهاءِ الظل فى قصره، فإذا أخذ فى الزيادة بعد تناهى قصره فقد تحقق الزوال، ولو شاءَ الله لجعله ساكناً دائماً على حالة واحدة فلا يتحرك بالزيادة والنقصان، فالظل أحد الأدلة على الخالق سبحانه وأما دلالة هذه الآية على الرجاء فيحتاج إلى إشارة وتكلف غير مقصود بها، وآيات الرجاء فى القرآن أكثر وأظهر وأصرح فى المقصود ظاهرة واستنباطاً، فالظاهرة كقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}* [الكهف: 110]، وقوله تعالى: {وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ}* [الإسراء: 57]، وقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله}* [العنكبوت: 5].

والمستنبطة كآيات البشارة كلها كقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}* [البقرة: 223] {وَبَشِّرْ الصَابِرِينَ}* [البقرة: 155]، {فَبَشِّرْ عِبَاد * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}* [الزمر: 17- 18]، {ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّر اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}* [الشورى: 23].

فصل

قال: وشكرهم وسرورهم بموجودهم واستبشارهم بلقائه: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعَكُمْ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ}* [التوبة: 111] وهذا أيضاً من النمط المتقدم وشكر القوم هو عملهم بطاعة الله واستعانتهم بنعمه على محابه، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً}* [سبأ: 13].

وقال النبى ﷺ لما قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أَفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً)). فسمى الأعمال شكراً وأخبر أن شكره قيامه بها ومحافظته عليها، فحقيقة الشكر هو الثناءُ على النعم ومحبته والعمل بطاعته، كما قال:

أفادتكم النعماءُ عندى ثلاثة يدى ولسانى والضمير المحجبا

فاليد للطاعة، واللسان للثناءِ، والضمير للحب والتعظيم، وأما السرور به وإن كان من أجل المقامات فإن العبد إنما يسرُّ بمن هو أحب الأشياء إليه، وعلى قدر حبه له يكون سروره، وهذا السرور ثمرة الشكر لا أنه نفس الشكر، فكذلك الاستبشار والفرح بلقائه إنما هو ثمرة الشكر وموجبه، وهو كالرضا من التوكل وكالشوق من المحبة، وكالأُنس من الذكر، وكالخشية من العلم وكالطمأننة من اليقين، فإنها ثمرات لها وآثار وموجبات، فعلى قدر شكره بالأعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية يكون سروره واستبشاره بلقائه، وأما قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ}* [التوبة: 111] فهذا إنما قاله للشاكرين الذين يقاتلون فى سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَائِحُون الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَن المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله}* [التوبة: 112]، فهؤلاء المستبشرون ببيعهم جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

فصل

قال: ((ومحبتهم فناؤهم فى محبة الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال))؟ وقد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية، وبينا أن البقاءَ فى المحبة أفضل وأكمل من الفناءِ فيها من وجوه متعددة، وأن الفناءَ إنما هو لضعف المحب عما حمل، وأما الأقوياءُ فهم- مع شدة محبتهم- فى مقام البقاء والتمييز.

وأما استدلاله بقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ}* [يونس: 32] فالآية إنما سبقت فى الكلام على من يعبد غير الله ويشرك به، قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَن يَمْلِكُ السَّمْعُ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَى مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَى وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرُ؟ فَسَيَقُولُونَ الله، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}* [يونس: 31- 32]، [فمن] عبد غير الله فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت، وأما من عبد الله بأَمره وكان فى مقام التمييز بين محابه ومساخطه مفرقاً بينهما يحب هذا ويبغض هذا ناظراً بقلبه إلى ربه عاكفاً بهمته عليه منفذاً لأوامره فهو مع الحق المحض. والله أعلم.

فصل

قال: وشوقهم هزمهم من رسمهم وسماتهم استعجالاً للوصول إلى غاية المنى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}* [طه: 84]، قد تقدم الكلام فى الشوق مستوفى وليس الهرب من الغير والضد هو الشوق، بل هنا مهروب منه ومهروب إليه، فالشوق هو سفر القلب نحو المحبوب، وهذا لا يتم إلا بالهرب من ضده، فليس الشوق هو نفس الهرب من الرسوم والسمات.

فصل

قال: ((والإرادة والزهد والتوكل والصبر والحزن والخوف والرجاءُ، والشكر والمحبة والشوق من منازل أَهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شاهدوا عين الحقيقة اضمحلت فيها أحوال الشاهدين حتى يفنى ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل)).

قلت: الحقائق التى أشار إليها على لسان أهل السلوك ثلاث: ((حقيقة إيمانية نبوية))، وهى حقيقة العبودية التى هى كمال الحب وكمال الذل، وسير أهل الاستقامة إنما هو إلى هذه الحقيقة ومنازل السير التى ينزلون فيها هى منازل الإيمان الموصلة إليها والمنحرفون لا يرضون بهذه الحقيقة ولا يقفون معها ويرونها منزلة من منازل العامة،

الحقيقة الثانية: ((حقيقة كونية قدرية)) يشاهدون فيها انفراد الرب [تعالى] بالتكوين والإيجاد وحده، وأن العالم كالميت يقلبه ويصرفه كيف يشاءُ، وهم يعظمون هذا المشهد ويروون الفناءَ فيه غاية ما بعدها شيء.

وهذا من أغلاطهم فى المعرفة والسلوك، فإن هذا المشهد لا يدخل صاحبه فى الإيمان فضلاً عن أن يكون أفضل مشاهد أولياءِ الله المقربين، فإن عباد الأصنام شهدوا هذا المشهد ولم ينفعهم وحده، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ العظِيمِ * سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يَجِيرُ وَلا يُجَارُ عَليْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}* [المؤمنون: 84- 89]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ}* [الزخرف: 87]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}* [الزخرف:20]، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}* [الأنعام: 148]، وهذا كثير فى القرآن، فالفناءُ فى هذا المشهد لا يدخل العبد فى دائرة الإسلام، فكيف يجعله هو الحقيقة التى ينتهى إليها سير السالكين، ويجعل حقيقة الإيمان ودعوة الرسل منزل من منازل العامة، وهل هذا إلا غاية الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم وقلب للحقائق؟

وكم قد هلك فى هذه الحقيقة من أُمم لا يحصيهم إلا الله، وكم عطل لأجلها الواقفون معها من الشرائع، وخربوا من المنازل وما نجا من معاطبها إلا من شملته العناية الربانية، ونفذ ببصره من هذه الحقيقة إلى الحقيقة الإيمانية النبوية، حقيقة رسل الله وأنبيائه وأتباعهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.

والحقيقة الثالثة: ((حقيقة اتحادية)) بل واحدية لا يفرق فيها بين الرب والعبد، ولا بين القديم والمحدث، ولا بين صانع ومصنوع، بل الأمر كله واحد، والأمر المخلوق هو عين الأمر الخالق.

وهذه الحقيقة التى يشير إلى عينها طائفة الاتحادية، ويعدون من لم يكن من أهلها محجوباً، وهذه حقيقة كفرية اتحادية، وهى مع ذلك خيال فاسد، وعقل منكوس، وذوق من عين منتنة، وكفر أهلها أعظم من كفر كل أُمة، فإنهم جحدوا الصانع حقاً وإن أثبتوه جعلوا وجوده وجود كل موجود، والذين أثبتوا الصانع وعدلوا به غيره وسووا بينه وبين غيره فى العبادة مقالتهم خير من مقالة هؤلاء الذين جعلوه وجود كل موجود وعين كل شيء تعالى الله عما يقول الكاذبون المفترون علواً كبيراً.

فعليك بالفرق بين السائرين إلى هذه الحقيقة، والسائرين إلى عين الحقيقة الكونية الحكمية، والسائرين إلى عين الحقيقة المحمدية الإبراهيمية الحنيفية التى هى حقيقة جميع الأنبياءِ والمرسلين، وفيها تفاوتت مراتب السالكين ومنازلهم من القرب من رب العالمين.

قال شيخ هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام لما تحقق فناءُ تلك الرسوم وأفولها: {إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}* [الأنعام: 79]، وهذا التوجه يتضمن محبته دون غيره، وعبادته وطاعته دون غيره. فهذه هى الحقيقة حقاً وما سواها باطل حقيقة، قال تعالى لأكرم خلقه عليه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}* [النحل: 123]، فأمره تعالى أن يقتدى بأبيه إبراهيم فى هذه الحقيقة، وكان ﷺ يعلم أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: ((أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين))، فنسأل الله العظيم أن يهب لنا هذه الحقيقة ويثبتنا عليها، ويعيدنا مما سواها، إنه قريب مجيب بمنه وكرمه. والله أعلم.




فصل

فى مراتب المكلفين فى الدار الآخرةوطبقاتهم فيها، وهم ثمان عشرة طبقة

الطبقة الأولى: وهى العليا على الإطلاق مرتبة الرسالة، فأكرم الخلق على الله وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده الذين سلم عليهم فى العالمين كما قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}* [الصافات: 181]، وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ}* [الصافات: 79]، وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيم * كذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ}* [الصافات: 109-110]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}* [الصافات: 130]، وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}* [النمل: 59].

وكلمة ((السلام)) هنا تحتمل أن تكون داخلة فى حيز القول، فتكون معطوفة على الجملة الخبرية وهى ((الحمد لله))، ويكون الأمر بالقول متناولاً للجملتين معاً، وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب محكية بالقول، ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.

وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون السلام من الله عليهم، وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه وتعالى على رسله عليهم السلام.

وعلى التقدير الأول يكون أمرَ بالسلام عليهم، ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما؟ فلا يحسن أن يقال: قم وذهب زيد، ولا: اخرج وقعد وعمرو، أو يجاب على هذا بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه، وهذا نظير قوله تعالى: {قُلْ انْظرُوا مَاذَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}*

[يونس: 101]، فقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ ليس معطوفاً على القول وهو انظروا بل معطوف على الجملة الكبرى، على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ، وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}* [الأنبياء: 112]، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}* [المؤمنون: 118]، والمقصود أنه على هذا القول يكون الله سبحانه وتعالى قد سلم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه أخلصهم: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لِمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}* [سورة ص: 46-47]، ويكفى فى فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه، وجعلهم أمناءَ على رسالته وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته: فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً علياً على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخول إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً منهم بكرامة إلا على أيديهم، فهم أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه وأكرمهم عليه.

وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد علي((أيديهم وبهم عرف الله وبهم عبد وأُطيع وبهم حصلت محابه [الله] تعالى فى الأرض، وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم المذكورون فى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}* [الشورى: 13]، وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم ﷺ.

الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل على مراتبهم من [تفضيل الله] بعضهم على بعض.

الطبقة الثالثة: الذين لم يرسلوا إلى أُممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة، فاختصوا عن الأُمة بإيحاء الله إليهم، وإْرساله ملائكته إلَيْهِمْ واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأُمة بدعوتهم إلى الله بشريعته وأمره، واشتركوا فى الوحى ونزول الملائكة عليهم.

الطبقة الرابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم فى أُممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ودعوة للخلق إلى الله، على طرقهم ومنهاجهم، [ولهذا أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهى مرتبة الصديقيه] قرنهم الله فى كتابه بالأنبياء فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِع الله والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحُسْنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}* [النساء:69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون فى العلم، وهم الوسائط بين الرسول ﷺ وأُمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأْتى أمر الله وهم على ذلك، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}* [الحديد: 19]، وقيل: إن الوقف على قوله تعالى: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ}* ثم يبتديءُ ((وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ))، فيكون الكلام جملتين أخبر فى إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون والإيمان التام يستلزم العلم والعمل والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه، وأخبر فى الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداءِ، ولهذا قدمهم عليهم فى الآيتين، هنا وفى سورة النساء، وهكذا جاءَ ذكرهم مقدماً على الشهداءِ فى كلام النبى ﷺ فى قوله: ((اثبت أُحد فإنما عليك نبى وصديق وشهيد، ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين [أبو] بكر الصديق [رضى الله عنه] ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضى الله عنه، وقيل: إن الكلام كله جملة واحدة وأخبر عن المؤمنين بأنهم هم الصديقون والشهداءُ عند ربهم، وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشدهم الله على الناس يوم القيامة وهو قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}* [البقرة: 143]، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون فى الدنيا وشهداءُ على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين، وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا فى سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ويكون قوله: ((والشهداءُ)) مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً فى سبيل الله.

ويرجحه أيضاً أنه لو كان الشهداء داخلاً فى جملة الخبر [عند المؤمنين] لكان قوله تعالى: {لَهُم أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}* [الحديد: 19] داخلاً [أيضاً] فى جملة الخبر عنهم ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنهم هم الصديقون، والثانى: أنهم هم الشهداءُ، والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم، وذلك يتضمن عطف الخبر الثانى على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف، وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال والأحسن فى هذا تناسب الأخبار بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً فتقول: زيد كريم عالم له مال، أو كريم وعالم وله مال فتأمله.

ويرجحه أيضاً أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون [والشهداء والصالحون وهم المذكورون فى الآية وهم المتصدقون] الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً، فهؤلاد ثلاثة أصناف ثم ذكر الرسل فى قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}* [الحديد: 25]، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة فى سورة النساء، فهؤلاء هم السعداء، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار، ومنافقون، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}* [الحديد: 19]، وذكر المنافقون فى قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ}* [الحديد: 13]، فهؤلاء أصناف العالم كلهم، وترك سبحانه وتعالى ذكر المخلط صاحب الشائبتين على طريقة القرآن فى ذكر السعداء والأشقياء دون [المخلصين] غالباً لسر اقتضته حكمته [سبحانه وتعالى].

فليحذر صاحب التخليط، فإنه لا ضمان له على الله، ولا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه. وهذا هو الذى لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا فى تخليده فى النار، ولو نزلوه منزلة بين المنزلتين ووكلوه إلى المشيئة وقالوا بأنه يخرج من النار بتوحيده وإيمانه لأصابوا، ولكن منزلة بين منزلتين وصاحبهما مخلد فى النار مما لا يقتضيه عقل ولا سمع،

بل النصوص الصريحة المعلومة الصحة تشهد ببطلان قولهم والله أعلم، وأيضاً فصاحب الشائبتين يعلم حكمه من نصوص الوعد والوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى رتب على كل عمل جزاءً فى الخير والشر، فإذا أتى العبد بهما كان فيه سبب الجزاءَين، والله لا يضيع عمل مثقال ذرة، فإن كان عمل الشر مما يوجب سقوط أثر الحسنة كالكفر كان التأثير [له] وإن لم يسقطه كالمعصية ترتب فى حقه الأثران ما لم يسقط أحدهما بسبب من الأسباب التى نذكرها إن شاء الله فيما بعد، والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هى أفضل درجات الأُمة، ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علم غيره شيئاً من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جارياً فى الأمة على آباد الدهور، وقد صح عن النبى ﷺ أنه قال لعلى بن أبى طالب: ((والله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)).

وصح عنه ﷺ أنه قال: ((من سن فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أُجورهم شيئاً)).

وصح عنه ﷺ أيضاً أنه قال: ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).

وصح عنه ﷺ أنه قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين)).

وفى السنن عنه ﷺ أنه قال: ((إن العالم يستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض حتى النملة فى جحرها)).

وعنه ﷺ أنه قال: ((إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير))، وعنه ﷺ أنه قال: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ عظيم وافر)) .

وعنه ﷺ: ((العالم والمتعلم شريكان فى الأجر، ولا خير فى سائر الناس بعد))، وعنه ﷺ أنه قال: ((نضر الله امرءاً سمع مقالتى فوعاها وأداها كما سمعها)) .

والأحاديث فى هذا كثيرة، وقد ذكرنا مائتى دليل على فضل العلم وأهله فى كتاب مفرد، فيالها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها وأسناها، أن يكون المرءُ فى حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو فى قبره قد صار أشلاء متمزقاً وأوصالاً متفرقة، وصحف حسناته متزايدة يملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب تلك والله المكارم والغنائم، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها، ويسبق السابقون إليها، وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات، فنسأل الله الذى بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه وأصحاب هذه المرتبة يُدعون عظماءَ فى ملكوت السماءِ كما قال بعض السلف: من علم وعمل وعلَّم، فذلك يدعى عظيماً فى ملكوت السماء.

وهؤلاء هم العدول حقاً بتعديل رسول الله ﷺ لهم، إذ يقول فيما يروى عنه من وجوه [سند] بعضها بعضاً ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).

وما أحسن ما قال فيهم الإمام أحمد فى خطبة كتابه فى ((الرد على الجهمية)): ((الحمد لله الذى جعل فى كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أجبروه، ومن ضال جاهل قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين)). وذكر ابن وضاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب.

الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته الذين تؤمن بهم السبل ويستقيم بهم العالم ويستنصر بهم الضعيف ويذل بهم الظالم ويأْمن بهم الخائف وتقام بهم الحدود ويدفع بهم الفساد ويأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقام بهم حكم الكتاب والسنة وتطفأُ بهم نيران البدع والضلالة، وهؤلاء الذين تنصب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن عز وجل يوم القيامة فيكونون عليها- والولاة الظلمة قد صهرهم حر الشمس وقد بلغ منهم العرق مبلغه وهم يحملون أثقال مظالمهم العظيمة على ظهورهم الضعيفة فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيل أحدهم إما إلى الجنة وإما إلى النار.

قال النبى ﷺ: ((المقسطون [عند الله] على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارك وتعالى وكلتا يديه يمين، الذى يعدلون فى حكمهم وأهلم وما ولوا))، وعنه ﷺ: ((إن أحب الخلق إلى الله وأقربهم منه منزلة يوم القيامة إمام عادل، وإن أبغض الخلق إلى الله وأبعدهم منه منزلة يوم القيامة إمام جائر)) أو كما قال.

وهم أحد السبعة الأصناف الذين يظلهم الله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وكما كان الناس فى ظل عدلهم فى الدنيا كانوا فى ظل عرش الرحمن يوم القيامة ظلاً بظل جزاءً وفاقاً، ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أن أهل السموات والأرض والطير فى الهواء يصلون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم، وولاة الظلم يلعنهم من بين السموات والأرض حتى الدواب والطير، كما أن معلم الناس الخير يصلى عليه الله وملائكته، وكاتم العلم والهدى الذى أنزله الله وحامل أهله على كتمانه يلعنه الله وملائكته ويلعنه اللاعنون، فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلها وأشرفها أن يكون الوالى والإمام على فراشه و [غيره] يعمل بالخير وتكتب الحسنات فى صحائفه فهى متزايدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من غيره، فأين هذا من [صفه] الغاش لرعيته الظالم لهم [الذى] حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار.

ويكفى فى فضله وشرفه أنه يكف عن الله دعوة المظلوم كما فى الآثار: أيها الملك المسلط المغرور، إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتكف عنى دعوة المظلوم، إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، فإنى لا أحجبها ولو كانت من كافر. فأين من هو نائم وأعين العباد ساهرة تدعو الله له، وآخر أعينهم ساهرة تدعو عليه؟

الطبقة السادسة: المجاهدون فى سبيل الله، وهم جند الله، الذين يقيم بهم دينه ويدفع بهم بأْس أعدائه ويحفظ بهم بيضة الإسلام ويحمى لهم حوزة الدين، وهم الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هى العليا، قد بذلوا أنفسهم فى محبة الله ونصر دينه وإعلاءِ كلمته ودفع أعدائه، وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم فى أعمالهم التى يعملونها وإن [باتوا] فى ديارهم، ولهم مثل أُجور من عبد الله بسبب جهادهم وفتوحهم فإنهم كانوا هم السبب فيه.

والشارع قد نزل المتسبب منزلة الفاعل التام فى الأجر والوزر، ولهذا كان الداعى إلى الهدى والداعى إلى الضلال لكل منهما بتسببه مثل أجر من تبعه.

وقد تظاهرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنة على الترغيب فى الجهاد والحض عليه ومدح أهله والإخبار عما لهم عند ربهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات، ويكفى فى ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكَمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}* [الصف: 10]، فتشوقت النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التى الدال عليها رب [العالمين العليم] الحكيم فقال: {تُؤْمِنُون بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفَسِكُمْ}* [الصف: 11]، فكأن النفوس ضنت بحياتها وبقائها فقال: {ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}* يعنى أن الجهاد خير لكم من قعودكم للحياة والسلامة، فكأنها قالت: فما لنا فى الجهاد من الحظ؟ فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبِكُمْ}*، مع المغفرة: {يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنِ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}* [الصف: 12]، فكأنها قالت: هذا فى الآخرة فما لنا فى الدنيا؟ فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}* [الصف: 13].

[فلله] ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذباً لها وتسييراً إلى ربها، وما ألطف موقعها من قلب كل محب، وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشه حين تباشره معانيها، فنسأل الله من فضله إنه جواد كريم.

ومن هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمِنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ الله لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ، وَاللهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينْ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرجَةً عِندَ اللهِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}* [التوبة: 19- 22]، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يستوى عنده عمار المسجد الحرام، وهم عماره بالاعتكاف والطواف والصلاة، هذه هى عمارة مساجده المذكورة فى القرآن، وأهل سقاية الحاج لا يستوون هم وأهل الجهاد فى سبيل الله، وأخبر أن المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنات فنفى التسوية بين المجاهدين وعمار المسجد الحرام مع أنواع العبادة مع ثنائه على عمارة بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاة وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَى إِلا اللهَ، فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ}* [التوبة: 18]، فهؤلاءِ هم عمار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم. وقال تعالى: {لا يَسْتَوِى القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّل اللهَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً}* [النساء: 95- 96]، فنفى سبحانه وتعالى التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثم أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة ثم أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات.

وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات إن كانوا هم [أهل الضرر والقاعدون الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات هم أولو] الضرر فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقاً، وعلى هذا فما وجه استثناءِ أُولى الضرر من القاعدين وهم لا يستوون والمجاهدين أصلاً؟

فيكون حكم المستثنى والمستثنى منه واحداً، فهذا وجه الإشكال، ونحن نذكر [ما قاله فى الأية ثم نذكر] ما يزيل الإشكال بحمد الله، فاختلف القراءُ فى إعراب ((غير))، فقريء رفعاً ونصباً وهما فى السبعة، وقريء بالجر فى غير السبعة وهى قراءَة أبى حيوة، فأما قراءَة النصب فعلى الاستثناءِ لأن غيراً يعرب فى الاستثناء إعراب الاسم الواقع بعد إلا وهو النصب، هذا هو الصحيح.

وقالت طائفة: إعرابها نصب على الحال، أى لا يستوى القاعدون غير مضرورين، أى لا يستوون فى حال صحتهم هم والمجاهدون، والاستثناء أصح، فإن ((غير)) لا تكاد تقع حالاً فى كلامهم إلا مضافة إلى نكرة كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ}* [البقرة: 173] [الأنعام: 145] [النحل: 115]، وقوله عَزَّ وجَلَّ فى أول المائدة: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ}*[المائدة: 1]

وقوله ﷺ: ((مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى)).

فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعة لما قبلها، كقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}* ولو قلت: مرحباً بالوفد غير الخزايا ولا الندامى، لجررت غير، هذا هو المعروف من كلامهم والكلام فى عدم تعرف غير بالإضافة وحسن وقوعها إذ ذاك حالاً له مقام آخر. وأما الرفع فعلى النعت للقاعدين، هذا هو الصحيح.

وقال أبو إسحاق وغيره: هو خبر مبتدإٍ محذوف تقديره هم غير أولى الضرر، والذى حمله على هذا ظنه أن غيراً لا تقبل التعريف بالإضافة فلا تجرى صفة للمعرفة، وليس مع من ادعى ذلك حجة يعتمد عليها سوى [قولهم] أن غيراً توغلت فى الإبهام فلا تتعرف بما يضاف إليه.

وجواب هذا أنها إذا دخلت بين [ن] تقابلين لم يكن فيها إبهام لتعيينها ما تضاف إليه، وأما قراءة الجر ففيها وجهان أيضاً: أحدهما- وهو الصحيح- أنه نعت للمؤمنين، والثانى- وهو قول المبرد- أنه بدل منه، بناءً على أنه نكرة فلا تنعت به المعرفة.

وعلى الأقوال كلها فهو مفهوم معنى الاستثناء، وإن نفى التسوية غير مسلط على ما أُضيف إليه غيره، وقوله: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرجَةَ}* [النساء: 95]، هو مبين لمعنى نفى المساواة. قالوا: والمعنى فضل الله [المجاهدين] على [القاعدين] من أُولى الضرر درجة واحدة لامتيازه عنه بالجهاد بنفسه وماله. ثم أخبر سبحانه وتعالى أن الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال: {وَكُلا وَعَدَ الله الْحُسْنَى}*[النساء: 95] أى المجاهد والقاعد المضرور، لاشتراكهما فى الإيمان.




@ قالوا: وفى هذا دليل على تفضيل الغنى المنفق على الفقير، لأن الله [سبحانه] أخبر أن المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وأما الفقير فنفى عنه الحرج بقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قلت لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}* [التوبة: 92]، فأين مقام من حكم له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرج.

قالوا: فهذا حكم القاعد من أولى الضرر والمجاهد، وأما القاعد من غير أولى الضرر فقال [سبحانه]: {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجراً عَظِيماً * درجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً}* [النساء: 95- 96]، وقوله: { دَرَجَاتٍ}* قيل: هو نصب على البدل من قوله {أجراً عظيماً}* ، وقيل: تأكيد له وإن كان بغير لفظه، لأنه هو فى المعنى، قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة فى الإسلام درجة والجهاد فى الهجرة درجة، والقتل فى الجهاد درجة.

وقال ابن زيد: الدرجات التى فضل الله [الجهاد] بها المجاهد على القاعد سبع، وهى التى ذكرها الله تعالى إذ يقول تعالي:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدو نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}* [التوبة: 120]، فهذه خمس ثم قال: {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيْرَةً ولا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ}* [التوبة: 121] به عمل صالح، فهاتان اثنتان، وقيل: الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين حُضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.

والصحيح أن الدرجات هى المذكورة فى حديث أبى هريرة الذى رواه البخارى فى صحيحه [عنه] عن النبى ﷺ أنه قال: ((من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر فى سبيل الله أو جلس فى أرضه التى ولد فيها)) قالوا: يا رسول الله، أفلا نخبر الناس بذلك؟ قال: ((إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله، كل درجتين كما بين السماءِ والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)).

قالوا: وجعل سبحانه وتعالى التفضيل الأَول بدرجة فقط، وجعله [ها هنا] بدرجات ومغفرة ورحمة، وهذا يدل على أنه يفضل على غير أُولى الضرر، فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه.

ولكن بقى أن يقال: إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقاً لزم أن لا يستوى مجاهد وقاعد مطلقاً، فلا يبقى فى تقييد القاعدين بكونهم من غير أُولى الضرر فائدة، فإنه لا يستوى المجاهدون والقاعدون من أُولى الضرر أيضاً.

وأيضاً فإن القاعدين المذكورين فى الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولى الضرر لا القاعدون الذين هم أولوا الضرر، فإنهم لم يذكر حكمهم فى الآية، بل استثناهم وبين أن التفضيل على غيرهم، فاللام فى ((القاعدين)) للعهد والمعهود هم غير أولى الضرر لا المضررون وأيضاً فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد، كما ثبت عن النبى ﷺ أنه قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً))، وقال ﷺ: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم)) قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة حبسهم العذر))، وعلى هذا فالصواب أن يقال: الآية دلت على أن القاعدين من غير أُولى الضرر لا يستوون هم والمجاهدون، وسكت [عن القاعدين من أولى الضرر فلم يدل على حكمهم بطريق منطوقها] عن حكمهم بطريق منطوقها ولا يدل مفهومها على مساواتهم للمجاهدين.

بل هذا النوع منقسم إلى معذور من أهل الجهاد غلبه عذره وأقعده عنه ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها، وإنما أقعده العجز، فهذا الذى تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد.

وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفى التسوية، وهذا لأن قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه فى الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام كما دل عليه قوله ﷺ: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار))، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)).

وفى الترمذى ومسند الإمام أحمد من حديث أبى كبشة الأنمارى عن النبى ﷺ أنه قال: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقى فى ماله ربه ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل [عند الله]، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وهما فى الأجر سواءٌ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو لا يتقى فى ماله ربه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوإِ المنازل عند الله، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، وهما فى الوزر سواءٌ))، فأخبر ﷺ أن وزر الفاعل والناوى الذى ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواءٌ، لأنه أتى بالنية ومقدوره التام، وكذلك أجر الفاعل والناوى الذى اقترن قوله بنيته. وكذلك المقتول الذى سل السيف وأراد به قتل أخيه المسلم فقتل، نزل منزلة القاتل لنيته التامة التى اقترن بها مقدورها من السعى والحركة.

ومثل هذا قوله ﷺ: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))، فإن بدلالته ونيته نزل منزلة الفاعل. ومثله: ((من دعا إلى هدى فله مثل أُجور من اتبعه))، ومن دعا إلى ضلالة عليه من الوزر مثل آثام من تبعه لأجل نيته واقتران مقدورها بها من الدعوة، ومثله: ((إذ جاءَ المصلى إلى المسجد ليصلى جماعة فأدركهم وقد صلوا فصلى وحده كتب له مثل أجر صلاة الجماعة بنيته وسعيه))، كما قد جاءً مصرحاً به فى حديث مروى.

ومثل هذا من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم إليه فغلب عينه نوم كتب له أجر ورده، وكان نومه عليه صدقة، ومثله المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله، فشغل عنه بالمرض والسفر كتب له مثل عمله وهو صحيح مقيم، ومثله: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغة الله، منازل الشهداءِ ولو مات على فراشه))، ونظائر ذلك كثيرة.

والقسم الثانى معذور ليس من نيته الجهاد، ولا هو عازم عليه عزماً تاماً، فهذا لا يستوى هو والمجاهد فى سبيل الله، بل قد فضل الله المجاهدين عليه وإن كان معذوراً لأنه لا نية له تلحقه بالفاعل التام كنية أصحاب القسم الأول.

وقد قال النبى ﷺ فى حديث عثمان ابن مظعون: ((إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته))، فلما كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوى بالمجاهد مطلقاً، ولا ينفى عنه المساواة مطلقاً، ودلالة المفهوم لا عموم لها، فإن العموم إنما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض الألفاظ.

والدليل الموجب للقول بالمفهوم لا يدل على أن له عموماً يجب اعتباره.

فإن أدلة المفهوم ترجع إلى شيئين: أحدهما التخصيص، والآخر التعليل.

فأما التخصيص فهو أن تخصيص الحكم بالمذكور يقتضى نفى الحكم عما عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا لا يقتضى العموم وسلب حكم المنطوق عن جميع صور المفهوم لأن فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكم عن بعضها ويثبت لبعضها ثبوت تفصيل فيه، فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه، إما بشرط لا تجب مراعاته فى المنطوق، وإما فى وقت دون وقت، بخلاف حكم المنطوق فإنه ثابت أبداً، ونحو ذلك من فوائد التخصيص.

وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة فإثباته [بمجرد] التحكم، وأما التعليل فإنهم قالوا: ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضى نفى الحكم عما عداه وإلا لم يكن الوصف المذكور علة.

وهذا أيضاً لا يستلزم عموم النفى عن كل ما عداه، وإنما غايته اقتضاؤه نفى الحكم المرتب على ذلك الوصف عن الصور المنفى عنها الوصف، وأما نفى الحكم جملة فلا تجوز ثبوته بوصف آخر وعلة أُخرى، فإن الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة، وفى الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه.

ومثال هذا ما نحن فيه [فإن] قوله تعالى: { لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ أُولِى الضَرَّرِ وَالُْمُجاهِدُونَ }* [النساء: 95] لا يدل على مساواة المضرورين [للمجاهدين] مطلقاً من حيث الصورة، بل إن ثبتت المساواة فإنها معللة بوصف آخر وهى النية الجازمة والعزم التام، والضرر المانع من الجهاد فى ذلك الحال لا يكون [مانعاً] من المساواة فى الأجر، والله أعلم.

والمقصود الكلام على طبقات الناس فى الآخرة. وأما النصوص والأدلة الدالة على فضل الجهاد وأهله فأكثر من أن تذكر هنا ولعلها أن تفرد فى كتاب على هذا النمط إن شاء الله.

فهذه الدرجات الثلاث هى درجات السبق، أعنى درجة العلم والعدل والجهاد وبها سبق الصحابة [رضى الله عنه] وأدركوا من قبلهم وفاتوا من بعدهم واستولوا على الأمد البعيد وحازوا قصبات العلى، وهم كانوا السبب فى [بلوغ] الإسلام إلينا وفى تعليم كل خير وهدى وسبب تنال به السعادة والنجاة، وهم أعدل الأُمة فيما ولوه، وأعظمها جهاداً فى سبيل الله.

والأُمة فى آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة، فلا ينال أحد منهم مسألة علم نافع إلا على أيديهم ومن طريقهم ينالها، ولا يسكن بقعة من الأرض آمناً إلا بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدى إلا كانوا هم السبب فى [وصوله] إليه، فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف والقلوب بالإيمان وعمروا البلاد بالعدل والقلوب بالعلم والهدى، فلهم من الأجر بقدر أجور الأُمة إلى يوم القيامة مضافاً إلى أجر أعمالهم التى اختصوا بها، فسبحان من يختص بفضله ورحمته من يشاءُ وإنما نالوا هذا بالعلم والجهاد والحكم بالعدل، وهذه مراتب السبق التى يهبها الله لمن يشاءُ من عباده.




الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم ودفع ضروراتهم وكفايتهم فى مهماتهم وهم أحد الصنفين اللذين قال النبى ﷺ فيهم: ((لا حسد إلا فى اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً وسلطه على هلكته فى الحق))، يعنى أنه لا ينبغى لأحد أن يغبط أحداً على نعمة ويتمنى مثلها، إلا أحد هذين، وذلك لما فيهما من منافع النفع العام والإحسان المتعدى إلى الخلق، فهذا ينفعهم بعلمه وهذا ينفعهم بماله، والخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.

ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله، ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين ولا يعمر العالم إلا بهما، قال تعالى: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أنفقوا مِنَّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَحْزَنُونَ }* [البقرة: 262]، [وقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا يحزنون وقال تعالى: {إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالمصَّدِّقَات وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}* [الحديد:18] قال تعالى {من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فَيْضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}* [البقرة: 542]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}* [الحديد: 11]، فصدَّر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب، وهو أبلغ فى الطلب من صيغة الأمر، والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن فيجازى عليه أضعافاً مضاعفة؟ وسمى ذلك الإنفاق قرضاً حسناً حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوّعت له نفسه بذله وسهل عليه إخراجه.

فإن علم أن المستقرض ملى وفى محسن كان أبلغ فى طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمرة حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاءٌ كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة فى نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهاناً لصاحبها.

وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التى تضمنتها الآية، فإنه [سبحانه] سماه قرضاً، وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة، ولكن قرض إحسان إلى المقرض [استدعاه] لمعاملته، وليعرف مقدار الربح فهو الذى أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به، ثم أخبر [عن ما] يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة، ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو الأجر الكريم.

وحيث جاءَ هذا القرض فى القرآن قيده بكونه حسناً، وذلك يجمع أموراً ثلاثة: أحدها أن يكون من طيب ماله لا من رديئه وخبيثه. الثانى: أن [يخرجه] طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاءَ مرضاة الله. الثالث: أن لا يمن به ولا يؤذى. فالأول يتعلق بالمال، والثانى يتعلق بالمنفق بينه وبين الله، والثالث بينه وبين الآخذ. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَل حَبّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سنَابِلَ فِى كُلِّ سُنْبُلَةٍ مَائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}* [البقرة: 261]، وهذه الآية كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التى يضاعفها للمقرض، ومثل سبحانه بهذا المثل إحضاراً لصورة التضعيف فى الأذهان بهذه الحبة التى غيبت فى الأرض فأنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة، حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التى من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العيانى الشاهد الإيمانى القرآنى فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق.

وتأمل كيف جمع السنبلة فى هذه الآية على سنابل وهى من [مجموع] الكثرة، إذ المقام مقام تكثير وتضعيف، وجمعها على سنبلات فى قوله تعالى: {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يَابِسَاتٍ}* [يوسف: 43]، فجاءَ بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير. وقوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}* [البقرة: 261]، قيل: المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاءُ لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاءُ، وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق فى نفسه، [وفى صفات] المنفق وأحواله [و] فى شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع.

وقيل: والله يضاعف لمن يشاءُ فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة، بل يجاوز فى المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة.

واختلف فى تفسير الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون فى سبيل الله كمثل حبة. وقيل: مثل الذين ينفقون فى سبيل الله كمثل باذر حبة، ليطابق الممثل للممثل به. [فها هنا] أربعة أُمور: منفق، ونفقة، وباذر، وبذر. فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه، فذكر من شق الممثل المنفق إذ المقصود ذكر حاله وشأْنه، وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها. وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذى حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره.

فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان. وهذا كثير فى أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط، ثم ختم الآية بإسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها، وهما الواسع والعليم، فلا [يستبعد] العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطنه، فإن المضاعف [سبحانه] واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضى حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها، فإن كرمه [سبحانه] وفضله تعالى لا يناقض حكمته، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من [أهل] بحكمته وعلمه. ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}* [البقرة:262]، هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون فى سبيله أى فى مرضاته والطريق الموصلة إليه، ومن أنفعها سبيل الجهاد.

[فسبيل] الله خاص وعام، والخاص جزءٌ من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمنّ ولا أذى، فالمن نوعان: أحدهما: منّ [بقلبه] من غير أن يصرح به بلسانه، وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من [نقصان] شهود منة الله عليه فى إعطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فللَّه المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه منه لغيره؟ والنوع الثانى: أن يمن عليه بلسانه [فيتعدى] على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقاً وطوقه منة فى عنقه فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده.

قال سفيان: يقول أعطيتك فما شكرت. وقال عبد الرحمن بن [زيد]، كان أبى يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه وكانوا يقولون: إذا [اصنعتم] صنيعة فانسوها، وإذا أُسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها. وفى ذلك قيل:

وإن امرءاً أَهدى إلى صنيعة وذكَّرنيها مرة لبخيل

وقيل: صنوان من منح سائله ومنَّ، ومن منع نائله وضنَّ وحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه، لأن منَّ العباد تكدير [تعبير]، ومنَّ الله سبحانه إفضال وتذكير، وأيضاً فإنه هو المنعم فى نفس الأَمر والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده فى الحقيقة. وأيضاً فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.

وأيضاً فالمنة أن يشهد المعطى أنه هو رب الفضل والإنعام، وأنه ولى النعمة ومسديها، وليس ذلك فى الحقيقة إلا الله، وأيضاً فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفعاً على الآخذ مستعلياً عليه غنياً عنه عزيزاً، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغى ذلك للعبد، وأيضاً فإن المعطى قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقى عوض ما أعطى عند الله.

فأى حق بقى له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلماً بيناً، وادعى أن حقه فى قلبه. ومن هنا- والله أعلم- بطلت صدقته بالمن، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده فمنَّ عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له.

فتأمل هذه النصائح من الله لعباده، ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه فى شيء من ربوبيته وإلهيته لا إله غيره ولا رب سواه ونبه بقوله: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذَى}* [البقرة: 262]، على أن المنَّ والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ولم يحصل له مقصود الإنفاق، ولو أتى بالواو وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، لأوهمت تقييد ذلك بالحال، وإذا كان المن والأذى المتراخى مبطلاً لأثر الإنفاق مانعاً من الثواب فالمقارن أولى وأحرى.

وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاءِ فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ}* [البقرة: 262]، وقرنه بالفاءِ فى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَّةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ}* [البقرة: 274]، فإن الفاءَ الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاءِ [وأن الخبر] مستحق بما تضمنه المبتدأُ من الصلة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضى بيان حصر المستحق للجزاءِ دون غيره جرد الخبر عن الفاءِ، فإن المعنى أن الذى ينفق ماله لله ولا يمن ولا يؤذى، هو الذى يستحق الأجر المذكور، لا الذى ينفق لغير الله [ولا من] ويمن ويؤذى بنفقته، فليس المقام مقام شرط وجزاءٍ بل مقام بيان للمستحق [من] غيره [وفى الآيه الأخرى للمستحق دون غيره].

وفى الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سراً وعلانية، فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال، فأتى بالفاءِ فى الخبر ليدل على أن الإنفاق فى أى وقت وجد من ليل أو نهار، وعلى [أية] حالة وجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله، ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر ولا بنفقة السر وقت العلانية، فإن نفقته فى أى وقت وعلى أى حال وجدت سبب لأجره وثوابه، فتدبر هذه الأسرار فى القرآن فلعلك لا تظفر بها تمر بك فى التفاسير، والمنة والفضل لله وحده لا شريك له.

ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صدَقةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِى حَلِيمٌ}* [البقرة: 263]، فأخبر [سبحانه] أن القول المعروف وهو الذى تعرفه القلوب ولا تنكره، والمغفرة وهى العفو عمن أساءَ إليك خير من الصدقة [المقرون] بالأذى. فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة، فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها.

ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة.[ويدخل فى هذا القول المعروف الرد الجميل على السائل والعدة الحسنة والدعاء والصالح له نحو ذلك].

ويدخل فى المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى بسبب رده، فيكون عفوه عنه خيراً من أن يتصدق عليه ويؤذيه هذا على المشهور من القولين فى الآية، والقول الثانى: أن المغفرة من الله، أى مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى. وفيها قول ثالث: أى مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر [المسؤول] خير من أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى.

وأوصح الأقوال هو الأول، ويليه الثانى، والثالث ضعيف جداً لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ والمعنى أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدق عليه وتؤذيه. ثم ختم الآية بصفتين [مناسبتين] لما تضمنته فقال: {وَاللهُ غَنِى حَلِيمٌ}* [البقرة: 263]، وفيه معنيان: أحدهما أن الله غنى عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنما الحظ الأوفر لكم فى الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى، فكيف يمنُّ بنفقته ويؤذى مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه، ومع هذا فهو حليم إذ يعاجل المانّ بالعقوبة، وضمن هذا الوعيد [له] والتحذير. والمعنى الثانى: أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة، فكيف يؤذى أحدكم بمنه وأذاه، مع قلة ما يعطى ونزارته وفقره.

ثم قال الله تعالى: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوًَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}* [البقرة: 264]، تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة، وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى: {يَا أَيَّهُا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صوْتِ النَّبِى وَلا تجهروا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ}* [الحجرات: 2]، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة فى أول الرسالة فلا حاجة إلى إعادته.

وقد يقال: إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذى يبطلها دون ما يلحقها بعدها، إلا أنه ليس فى اللفظ ما يدل على هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقاً. وقد يقال: تمثيله بالمرائى الذى لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياءِ وعدم الإيمان، فإن الرياءَ لو تأخر عن العمل لم يبطله.

ويجاب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن التشبيه وقع فى الحال التى يحبط بها العمل، وهى حال المرائى والمانّ المؤذى فى أن كل واحد منهما يحبط العمل. الثانى: أن الرياءَ لا يكون إلا مقارناً للعمل، لأنه ((فعال)) من الرؤية التى صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخياً، وهذا [خلاف] المن والأذى فإنه يكون مقارناً ومتراخياً، وتراخيه أكثر من مقارنته.

وقوله: { كَالَّذِى يُنفِقُ إما أن يكون المعنى كإبطال الذى ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال، أو المعنى لا تكونوا كالذى ينفق ماله رئاءَ الناس، فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق. وقوله: {فَمَثَلُهُ} أى مثل هذا المنفق الذى قد بطل ثواب نفقته: {كَمَثَلَ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس، وفيه قولان: أحدهما: أنه واحد، والثانى: جمع صفوة، ((عَلَيْهِ تُرَابٌ فأَصَابَهُ وابِلٌ ))وهو المطر الشديد، ((فَتَرَكَهُ صَلْداً ))وهو الأملس الذى لا شيء عليه من نبات ولا غيره وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها، فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائى- الذى لم يصدر إنفاقه عن [إيمانه] واليوم الآخر- بالحجر لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به. وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذى علق بذلك الحجر، والوابل الذى أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذى أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذى على الحجر فيتركه صلداً فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله.

وفيه معنى آخر: وهو أن المنفق لغير الله هو فى الظاهر عامل عملاً يرتب عليه الأجر [يزكوا] له كما تزكو الحبة التى إذا بذرت فى التراب الطيب أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة، ولكن وراءَ هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجراً يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئاً ثم قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَل، وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}* [البقرة: 265].

هذا مثل الذى مصدر نفقته [على] الإخلاص والصدق، فإن ابتغاءَ مرضاته سبحانه هو الإخلاص، والتثبيت من النفس هو الصدق فى البذل، فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره فى هذه الآية، إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناءً أو غرضاً من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين والآفة الثانية: ضعف نفسه [بالبذل وتقاعسها] وترددها، هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى تزول بابتغاءِ مرضاة الله، والآفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل. وهذا هو صدقها، وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها، فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة- وهى البستان الكثير الأشجار- فهو مجتنّ بها أى مستتر ليس قاعاً فارغاً. والجنة بربوة- وهو المكان المرتفع- [لأنها] أكمل من الجنة التى بالوهاد والحضيض، لأنها إذا ارتفعت كانت بمدرجة [الأهوية] والرياح، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فكانت أنضج ثمراً وأطيبه وأحسنه وأكثره، فإن الثمار تزداد طيباً وزكاءَ بالرياح والشمس، بخلاف الثمار التى تنشأُ فى الظلال، وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة [الشرب] فقال تعالى: {أصابَها وَابِلٌ}* [البقرة: 265]، وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها وأعطت بركتها فأخرجت [ثمرتها] ضعفى ما يثمر غيرها أو ضعفى ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل، فهذا حال السابقين المقربين: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَل}* [البقرة: 265]، فهو دون الوابل، فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفى فى إخراج بركتها بالطل، وهذا حال الأبرار المقتصدين فى النفقة وهم درجات عند الله، فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وأصحاب الطل مقتصدوهم.

فمثَّل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة [والقليلة] بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاءَ [أو] ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف، فكذلك نفقتهم كثيرة أو قليلة بعد أن صدرت عن ابتغاءِ مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم فهى زاكية عند الله نامية مضاعفة.

واختلف فى الضعفين، فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائداً عليه وضعفه مثله، وقيل: ضعفه مثلاه [ضعفاء] ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفاً زاد مثلاً. والذى حمل هذا القائل [على] ذلك فراره من استواءِ دلالة المفرد والتثنية، فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا [ضم] إلى المثل صار مثلين، وهما الضعف. فلو قيل: لها ضعفان لم يكن فرق بين المفرد والمثنى، فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه أمثال مضافة إلى الأصل [هكذا ابداً والصواب أن الضعفين هى المثلات فقط الأصل ومثله] . وعليه يدل قوله تعالى: {فآتَتْ أُكُلهَا ضِعْفَيْنِ}* [البقرة: 265]، أى مثلين، وقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}* [الأحزاب: 30]، أى مثلين، ولهذا قال فى الحسنات: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}* [الأحزاب: 31]، وأما ما توهموه من استواءِ دلالة المفرد والتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل وليس كذلك، بل المثل له اعتباران: إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان. والله أعلم.

واختلف فى رافع قوله: ((فَطَل)) فقيل: هو مبتدأٌ خبره محذوف أى وطله يكفيها، وقيل: فى ((أصَابَهَا)) إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة وهما متلازمان. ثم قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فأَصَابَها إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}* [البقرة: 266]، قال الحسن: هذا مثلٌ قلَّ والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

وفى صحيح البخارى عن عبيد بن عمير قال: سأل عمر يوماً أصحاب النبى ﷺ: فيم هم يرون هذه الآيات نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّنْ نَخِيلٍ}* [البقرة: 266] الآية؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: فى نفسى منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: قم يا ابن أخى ولا تحقر بنفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل. قال عمر: أى عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل عمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصى حتى أغرق أعماله.

فقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكارى، وهو أبلغ من النفى والنهى وألطف موقعاً، كما ترى غيرك يفعل فعلاً قبيحاً فنقول: لا يفعل هذا عاقل، لا يفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة. وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام، كما تقول يفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ فى الإنكار من أن يقول أيودون. وقوله: ((أَيَوَدُّ )) أبلغ فى الإنكار من لو قيل: أَيريد، لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.

وقوله تعالى: { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاءَ والدواءَ والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطباً ويابساً، ومنافعهما كثيرة جداً.

وقد اختلف فى الأنفع والأفضل منهما فرجحت طائفة النخيل، ورجحت طائفة العنب وذكرت كل طائفة حججاً لقولها، فذكرناها فى غير هذا الموضع وفصل الخطاب أن هذا يختلف باختلاف البلاد، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر، فالأرض التى يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلاً ولا كثيراً، لأنه إنما يخرج فى الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة فينمو فيها فيكثر، وأما النخيل فنموه وكثرته فى الأرض الحارة السبخة، وهى لا تناسب العنب، فالنخل فى أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها، والعنب فى أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. والله أعلم.

والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها، فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان، ومع هذا فالأنهار تجرى تحت هذه الجنة، وذلك أكمل لها وأعظم فى قدرها، ومع ذلك فلم تعدم شيئاً من أنواع الثمار المشتهاة بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب، فلا تنافى بين كونها من نخيل وأعناب، و{فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}* [البقرة: 266]، ونظير هذا قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً}* [الكهف: 32] إلى قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}* [الكهف: 34]، وقد قيل: إن الثمار [هنا] وفى آية [البقرة: 266] المراد بها المنافع والأموال، والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها، لقوله هنا: { لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ }* [البقرة: 266]، ثم قال تعالى: ((فأَصَابَهَا ))أى الجنة ((إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ))، وفى [الكهف]: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِى خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}* [الكهف: 42]، وما ذلك إلا ثمار الجنة.

ثم قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه، أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها، الثانى: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه، الثالث: أن له ذرية فهو حريص على بقاءِ جنته لحاجته وحاجة ذريته، الرابع: أنهم ضعفاءُ فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم، الخامس: أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم، [وهذه] نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة: لخطرها فى نفسها وشدة حاجته وذريته إليها.

فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار- وهى الريح التى تستدير فى الأرض ثم ترتفع فى طبقات الجو كالعمود- وفيه نار مرت بتلك الجنة فأحرقتها وصيرتها رمادا ً، فصدق والله الحسن- هذا مثلٌ قلَّ من يعقله من الناس- ولهذا نبه سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}* [البقرة: 266]، فلو فكر العاقل فى هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه، فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصى الله كانت كالإعصار ذى النار المحرق للجنة التى غرسها بطاعته وعمله الصالح، ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده- من ذكر مجرد الطبقات- لم نذكرها، ولكنها من أهم المهم، والله المستعان الموفق لمرضاته.

فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغى لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه [بذلك]عند المعصية، ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فهو جاهل.

فإن قيل: الواو فى قوله تعالى: ((وَأصَابَهُ الْكِبَرُ ))واو الحال، أم واو العطف؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها؟ قلت فيه وجهان: أحدهما: أنه واو الحال اختاره الزمخشرى، والمعنى: أيود أحدكم أن تكون له جنة شأْنها كذا وكذا فى حال كبره وضعف ذريته. والثانى: أن تكون للعطف على المعنى، فإن فعل التمنى وهو قوله: ((أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ))لطلب الماضى كثيراً، فكان المعنى: أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر.

وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائى- الذى لم [يصدد] إنفاقه عن الإيمان- بالصفوان الذى عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئاً أصلا، بل ذهب [بذره] ضائعاً، لعدم إيمانه وإخلاصه.

ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصاً بنيته لله ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التى هى من أحسن الجنان وأطيبها [وأزهارها]، ثم سلط عليها الإعصار النارى [فأحرقها]، فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثم احترق، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق.

فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاءً للصدور وهدى ورحمة، ثم قال: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسِبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}* [البقرة: 267]، أضاف سبحانه الكسب إليهم وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنه فعلهم القائم بهم، وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلاً لهم، ولا هو مقدور لهم، فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذى لا قدرة لهم عليه إليه، ففى ضمنه الرد على من سوَّى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأْثيره عنها بالكلية.

وخص سبحانه هذين النوعين- وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشى- إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع، فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما، وإما لأنهما أُصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأُ، فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها، وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض فكان ذكرهما أهم، ثم قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}* [البقرة: 267]، فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء [كما هو عادة أكثر النفوس تمسك الجيد لها وتخرج الرديء] للفقير، ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم بل [إما] عن اتفاق، إذا كان هو الحاضر إذ ذاك أو كان ماله من جنسه، فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما منَّ الله عليه، وموقع قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ موقع الحال، أى لا تقصدوه منفقين منه.

ثم قال [تعالى]: {وَلَسْتُمْ بِآخذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ}* [البقرة: 267]، أى لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه فى حقوقكم إلا بأن تتسامحوا فى أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقه، ويقال للبائع: أغمض- أى لا تستقص- كأَنك لا تبصر وحقيقته من إغماض الجفن فكأَن الرائى لكراهته له لا يملأُ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضاً، ومنه قول الشاعر:

لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ م رجال يرضون بالإغماض

وفيه معنيان: أحدهما كيف تبذلون لله وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له، والله أحق من يخير له [خيار] الأشياءِ وأنفسها؟ والثانى كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً؟ ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِى حَمِيدٌ}* [البقرة: 267] فغناه وحمده يأْبى قبول الرديء، فإن قابل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأْباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغنى عنه الشريف القدر الكامل الأَوصاف فإنه لا يقبله.

ثم قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بِالْفَحَشَاءِ وَاللهِ يَعِدُكُمْ مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}* [البقرة: 268] هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعانى، فإنها اشتملت على بيان الداعى إلى البخل والداعى إلى البذل والإنفاق، وبيان ما يدعوه إليه داعى البخل وما يدعو إليه داعى الإنفاق وبيان ما يدعو به داعى الأمرين.

فأخبر سبحانه أن الذى يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان، وأخبر أن دعوته هى بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم، وهذا هو الداعى الغالب على الخلق، فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد فى قلبه داعياً يقول له: متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه.

فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهى البخل الذى هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل، فهذا وعده وهذا أمره، وهو الكاذب فى وعده، الغارّ الفاجر فى أمره. [فالمستجيب] لدعوته مغرور مخدوع مغبون، فإنه يدلى من يدعوه بغروره، ثم يورده شر الموارد. كما قال:

دلاهم بغُرور ثم أوردهم إن الخبيث لمن والاه غرّار

هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبة فى بقائه غنياً، بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته، وإنما وعده له بالفقر وأَمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان.

وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما فى الدنيا أو فى الدنيا والآخرة، فهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أى الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه؟ والله يوفق من يشاءُ ويخذل من يشاءُ وهو الواسع العليم.

وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين، فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله، فيعطى هذا بفضله ويمنع هذا بعدله وهو بكل شيء عليم. فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها، فإن لها شأْناً لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}* [العنكبوت: 43].

وتأمل ختم هذه السورة التى هى سنام القرآن بأحكام الأموال وأَقسام الأغنياء وأحوالهم، وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: محسن وهم ((المتصدقون))، فذكر جزاءَهم ومضاعفته وما لهم فى قرض أموالهم للمليء الوفى، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداءً من الرياءِ، ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأَطيبها ولا يتيمموا أَردأَها وخبيثها، ثم حذرهم من الاستجابة لداعى البخل والفحش وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم، وأخبر أن هذا من حكمته التى يؤتيها من يشاءُ من عباده، وأن من أُوتيها فقد أُوتى خيراً كثيراً: أُوتى ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها، لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة فقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}* [النساء: 77]، وقال تعالى: {و مَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَيْراً كَثِيراً}* [البقرة: 269].

فدل على أن ما يؤتيه عبده من حكمته خير من الدنيا وما عليها ولا يعقل هذا كل أحد بل لا يعقله إلا من له لب وعقل زكى، فقال تعالى:

{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}* [البقرة: 269]، ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه، فلا يضيع لديه، بل يعلم ما كان لوجهه، ويكل جزاءَ من عمل لغيره إلى من عمل له، فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير، ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه فى صدقاتهم، وأنه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة لوجهه فقال: {إِن تُبْدُوا الصِّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى}* [البقرة: 271] أى فنعم شيء هى، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أَثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاءَ فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها، فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر، وهذه كانت حال الصحابة.

ثم قال: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}* [البقرة: 271]، فأخبر أن إعطاءَها للفقير فى خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها. وتأمل تقييده تعالى الإخفاءَ بإيتاءِ الفقراءِ خاصة ولم يقل: وإن تحفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناءِ قنطرة وإجراءِ نهر أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففى إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هى اليد السفلى وأنه [فقير] لا شيء له فيزهدون فى معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءَاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيراً من إِظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبى ﷺ صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم فى ظل عرش الرحمن يوم القيامة.

ولهذا جعله سبحانه خيراً للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته، ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنه بما تعملون خبير، ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفاسهم يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه، فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها.

@ وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاءَ وجهه خالصاً لأنها صادرة عن إيمانهم، وأن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة، ولا يظلم منها مثال ذرة. وصدر هذا الكلام بأن الله [سبحانه] هو الهادى الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته، وأنه ليس على رسوله هداهم، بل عليه إبلاغهم، وهو سبحانه الذى يوفق من يشاءُ لمرضاته.

ثم ذكر [سبحانه] المصرف الذى توضع فيه الصدقة فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينِ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِى الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}* [البقرة: 273]، فوصفهم بست صفات: إحداها: الفقر، الثانية: حبسهم أنفسهم فى سبيله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه، وأصل الحصر المنع، فمنعوا أنفسهم من تصرفها فى أشغال الدنيا، وقصروها على بذلها لله فى سبيله، الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسب، والضرب فى الأرض هو السفر، قال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتبَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ}* [المزمل: 20]، وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}* [النساء: 101]،

الرابعة: شدة تعففهم، وهو حسن صبرهم، وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل أغنياءَ من تعففهم وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم،

الخامسة: أنهم يعرفون بسيماهم، وهى العلامة الدالة على حالتهم التى [وصفهم] الله بها، وهذا لا ينافى حسبان الجاهل أنهم أغنياءُ لأن الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف هو المتوسم المتفرس الذى يعرف الناس بسيماهم [ولهذا وصف الجاهل أغنياء وقال يعرفهم بسيماهم]، فالمتوسمون خواص المؤمنين كما قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}* [الحجر: 75]،

السادسة: تركهم مسألة الناس فلا يسألونهم [شيئاً] والإلحاف هو الإلحاح والنفى متسلط عليهما معاً، أى لا يسألون ولا يلحفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله: ((على لا حبٍ لا يهتدى لمناره)) أى ليس فيه منار فيهتدى به، وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال هو سؤال الإلحاف، فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم.

فهذه ستة صفات للمستحقين للصدقة، فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته، وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز، والله يختص بتوفيقه من يشاءُ. فهؤلاء هم المحسنون فى أموالهم.

القسم الثانى: ((الظالمون))، وهم ضد هؤلاءِ الذين يذبحون المحتاج المضطر، فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له وهم أهل الربا.

فذكرهم تعالى بعد هذا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِى مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}* [البقرة: 278]، فصدَّر الاية بالأمر بتقواه المضادة للربا وأمر بترك ما بقى من الربا بعد نزول الآية وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم والمعلق على شرط منتف عند انتفائه.

ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده، وهى محاربة المرابى لله ورسوله فقال تعالى: {فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}* [البقرة: 279] ففى ضمن هذا الوعيد أن المرابى محارب لله ورسوله، قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد فى كبيرة سوى الربا وقطع الطريق والسعى فى الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد فى الأرض، قاطع الطريق على الناس، هذا بقهره لهم وتسليطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها.

فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله وآذن هؤلاءِ إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله، ثم قال: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}* [البقرة: 279] يعنى إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتهم عليه، [فإنما] لكم رؤُوس أموالكم، لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها.

فإن كان هذا القابض معسراً فالواجب إنظاره إلى ميسرة، وإن تصدقتم عليه وأبرأْتموه فهو أفضل لكم وخير لكم، فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل والواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوماً ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم فيوفيكم جزاءَ أعمالكم أحوج ما أنتم إليه، فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه [بالظالم] وهو المرابى.

ثم ذكر ((العادل)) فى آية التداين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}* [البقرة: 282] الآية، ولولا أن هذه الآية تستدعى سفراً وحدها لذكرت بعض تفسيرها. والغرض إنما هو التنبيه والإشارة، وقد ذكر أيضاً العادل، وهو آخذ رأْس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان، ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التى هى من كنز تحت عرشه، والشيطان يفر من البيت الذى تقرأُ فيه، وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعى بيانه كتاباً مفرداً.

والمقصود ذكر طبقات الخلائق فى الدر الآخرة، ولنعد إلى المقصود، فإن هذا من سعى القلم، ولعله أهم مما نحن بصدده: فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدى وهم العلماءُ، وأئمة العدل، وأهل الجهاد، وأهل الصدقة وبذل الأَموال فى مرضاة الله، فهؤلاء ملوك الآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تملى فيها الحسنات وهم فى بطون الأرض، ما دامت آثارهم فى الدنيا فيا لها من نعمة ما أجلها، وكرامة ما أعظمها، يختص الله بها من يشاءُ من عباده.

الطبقة الثامنة: طبقة من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة والحج، والعمرة، وقراءة القرآن، والصوم والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافاً إلى أداءِ فرائض الله عليه فهو جاهد فى تكثير حسناته، وإملاءِ صحيفته، وإذا عمل خطيئته تاب إلى الله منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة. ولكن ليس له إلا علمه، فإذا مات طويت صحيفته [بموته] فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضاً عند الله.

الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة، وهى طبقة من يؤدى فرائض الله ويترك محارم الله، مقتصراً عل ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه. فلا يتعدى إلى ما حرم الله عليه، ولا يزيد على ما فرض عليه.

هذا من المفلحين بضمان رسول الله ﷺ لمن أخبره بشرائع الإسلام فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ؛ فقال ﷺ: ((أفلح إن صدق))، وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على الله تكفير سيئاتهم، إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه.

قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تَنْهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}* [النساء: 31].

وصح عنه ﷺ أنه قال: ((الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما لم تغش كبيرة))، فإن غشى أهل هذه الطبقة كبيرة وتابوا منها توبة نصوحاً لم يخرجوا من طبقتهم [وكانوا] بمنزلة من لا ذنب له.

فتكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية، و الثانى: اجتناب الكبائر. وقد نص عليها سبحانه وتعالى فى كتابه فقال تعالى:

{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِى النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}* [هود: 114]، وقال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}* [النساء:31].

الطبقة العاشرة: طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم، وغشوا كبائر ما نهى الله عنه ولكن رزقهم الله التوبة النصوح قبل الموت، فماتوا على توبة صحيحة. فهؤلاءِ [ناجون من عذاب الله إما قطعا عند قوم وإما ظنا ورجاء عند آخرين وهم] موكولون إلى المشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنة تدل على نجاتهم وقبول توبتهم، وهو وعد وعدهم الله إياه، والله لا يخلف الميعاد. فإن قيل: فما الفرق بين أهل هذه الطبقة والتى قبلها؟ فإن الله إذا كفر عنهم سيئاتهم، وأثبت لهم بكل سيئة حسنة كانوا كمن قبلهم أو أرجح؟ قيل: قد تقدم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية، فعليك بمعاودته هناك. وكيف يستوى عند الله من أنفق عمره فى طاعته ولم يغش كبيرة، ومن لم يدع كبيرة إلا ارتكبها وفرط فى أوامره، ثم تاب؟ فهذا غايته أن تمحى سيئاته ويكون لا له ولا عليه. وأما أن يكون هو ومن قبله سواءً أو أرجح منه فكلا.

الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً: فعملوا حسنات وكبائر، ولقو الله مصرّين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم، فإذا وزنت بها رجحت كفة الحسنات، فهؤلاءِ أيضاً ناجون فائزون قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الذِينَ خَسِرُوا أنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُون}* [الأعراف: 8- 9].

قال حذيفة وعبد الله بن مسعود وغيرهما من الصحابة: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف.

وهذه الموازنة تكون بعد [القصاص]، واستيفاءِ المظلومين حقوقهم من حسناته، فإذا بقى شيء منها وزن هو وسيئاته.

ولكن هنا مسألة، وهى: إذا وزنت السيئات بالحسنات فرجحت الحسنات، هل يلغى المرجوح جملة ويصير الأثر للراجح فيثاب على حسناته كلها، أو يسقط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة ويبقى التأْثير للرجحان فيثاب عليه وحده؟ فيه قولان: هذا عند من يقول بالموازنة والحكمة، وأما من ينفى ذلك فلا عبرة عنده بهذا، وإنما هو موكول إلى محض المشيئة، وعلى القول الأول فيذهب أثر السيئات جملة بالحسنات الراجحة، وعلى القول الثانى يكون تأْثيرها فى نقصان ثوابه لا فى حصول العقاب له، ويترجح هذا القول الثانى بأن السيئات لو لم تحبط ما قبلها من الحسنات، وكان العمل والتأْثير للحسنات كلها لم يكن فرق بين وجودها وعدمها، ولكان لا فرق بين المحسن الذى محض عمله حسنات، وبين من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

وقد يجاب عن هذا بأنها أثرت فى نقصان ثوابه ولا بد، فإنه لو اشتغل فى زمن إيقاعها بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه، وإذا كان كذلك فقد ترجح القول الأول بأن الحسنات لما غلبت السيئات ضعف تأْثير المغلوب المرجوح وصار الحكم للغالب دونه لاستهلاكه فى جنبه كما يستهلك يسير النجاسة فى الماءِ الكثير والماءُ إذا بلغ [قلتين] لم يحمل الخبث))، والله أعلم.

الطبقة الثانية عشر: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فتقابل أثراهما [فتقاوما] فمنعتهم حسناتهم المساوية من دخول النار وسيئاتهم المساوية من دخول الجنة.

فهؤلاء هم أهل أهل [الأعراف]، لم يفضل لأحدهم حسنة يستحق بها الرحمة من ربه، ولم يفضل عليه سيئة يستحق بها العذاب.

وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل هذه الطبقة فى سورة الأعراف- بعد أن ذكر دخول أهل النار وتلاعنهم فيها ومخاطبة أتباعهم لرؤسائهم وردهم عليهم، ثم مناداة أهل الجنة أهل النار- فقال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ، وَنَادوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمَ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}* [الأعراف: 46- 47]، فقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}* [الأعراف: 46] أى بين أهل الجنة والنار حجاب، قيل: [هو] السور الذى يضرب بينهم له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب: باطنه الذى يلى المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذى يلى الكفار من [جهته]العذاب.

والأعراف جمع عرف وهو المكان المرتفع، وهو سور عال بين الجنة والنار [قيل: هو هذا السور الذى يضرب بينهم وقيل جبال بينم الجنة والنار] عليه أهل الأعراف.

قال حذيفة وعبد الله بن عباس: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم ما يشاءُ ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته.

قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا أبو بكر الهذلى قال: كان سعيد بن جبير يحدث عن ابن مسعود قال: يحاسب الله الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر [من حسناته بواحده] بواحدة دخل النار، ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}* [الأعراف: 8- 9]، ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح. قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف.

فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين }* [الأعراف: 47]، فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نوراً يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطى كل عبد يومئذ نوراً، فإذا أتوا على الصراط سلب الله تعالى نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل الجنة ما لقى المنافقون قالوا: { رَبَّنَا أَتمِمْ لَنَا نُورَنَا }* [التحريم: 8]، وأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من أيديهم [ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا وبقى فى قلوبهم الطمع إذا لم يزغ النور من أيديهم] فيقول الله: { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ }* [الأعراف: 46]، فكان الطمع للنور الذى فى أيديهم ثم أدخلوا الجنة وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً. يريد آخر أهل الجنة دخولاً ممن لم يدخل النار.

وقيل: هم قوم خرجوا فى الغزو بغير إذن آبائهم فقتلوا، فأُعتقوا من النار لقتلهم فى سبيل الله وحبسوا عن الجنة لمعصية آبائهم. وهذا من جنس القول الأول، وقيل: هم قوم رضى عنهم أحد الأبوين دون الآخر، يحبسون على الأعراف حتى يقضى الله بين الناس ثم يدخلهم الجنة، وهى من جنس ما قبله فلا تناقض بينهما. وقيل: هم أصحاب الفترة وأطفال المشركين. وقيل: هم أُولو الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف، فيطلعون على أهل النار وأهل الجنة جميعاً. وقيل: هم الملائكة لا من بنى آدم.

والثابت عن الصحابة هو القول الأول، وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت [أسانيدها]. وآثار الصحابة فى ذلك المعتمدة.

وقد اختلف فى تفسير الصحابى هل له حكم المرفوع، أو الموقوف؟ على قولين: الأول اختيار أبى عبد الله الحاكم، والثانى هو الصواب، ولا نقول على رسول الله ﷺ ما لم نعلم أنه قاله. وقوله تعالى: { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ }* [الأعراف: 46] صريح فى أنهم من بنى آدم ليسوا من الملائكة. وقوله تعالى: { يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ }* [الأعراف: 46]، يعنى يعرفون الفريقين بسيماهم، { وَنَادوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ }* [الأعراف: 46]، أى نادى أهل الأعراف أهل الجنة بالسلام. قوله تعالى: { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطمَعُونَ الضميرات فى الجملتين لأصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون فى دخولها.

قال أبو العالية: ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريدها بهم، وقال الحسن: الذى [جعل] الطمع فى قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون، وفى هذا رد على وقول من قال: إنهم أفاضل المؤمنين علوا على الأعراف يطالعون أحوال الفريقين، فعاد الصواب إلى تفسير الصحابة، وهم أعلم الأُمة بكتاب الله، ومراده منه.

ثم قال تعالى: { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هذا دليل على [أنهم] بمكان مرتفع بين الجنة والنار، فإذا أشرفوا على أهل الجنة نادوهم بالسلام وطمعوا فى الدخول إليها، وإذا أشرفوا على أهل النار سألوا الله أن لا يجعلهم معهم، ثم قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونهُمْ بِسِيمَاهُمْ يعنى من الكفار الذين فى النار، فقالوا لهم: { مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ }* [الأعراف:48] يعنى ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على [أهل] الحق ولا استكباركم، وهذا إما نفى، وإما استفهام وتوبيخ، وهو أبلغ وأفخم.

ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم فى الدنيا ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم بفضله كما لم يختصهم دونهم فى الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أيها المشركون أن الله تعالى لا ينالهم برحمة، فها هم فى الجنة يتمتعون ويتنعمون وفى رياضها يحبرون ثم يقال لأهل الأعراف: { ادْخُلُوا الْجنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ }* [الأعراف: 49].

وقيل: إن أصحاب الأعراف إذا عيروا الكفار وأخبروهم أنهم لم يغن عنهم [جموعهم] واستكبارهم، عيرهم الكفار بتخلفهم عن الجنة، وأقسموا أن الله لا ينالهم برحمة، لما رأوا من تخلفهم عن الجنة، وأنهم يصيرون إلى النار، فتقول لهم الملائكة حينئذ: { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللهُ بِرَحْمَةٍ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ }* [الأعراف: 49]، والقولان قويان محتملان، والله أعلم.

فهؤلاء الطبقات هم أهل الجنة الذين لم تمسهم النار.

الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية، نعوذ بالله. وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير، وهم قوم مسلمون خفت موازينهم ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات، فهذه الطبقة التى اختلفت فيها أَقاويل الناس وكثر فيها خوضهم وتشعبت مذاهبهم وتشتَتَتْ آرآوهم، فطائفة كفرتهم، وأوجبت لهم الخلود فى النار، وهذا مذهب أكثر الخوارج، بل يكفرون من هو أحسن حالاً منهم وهو مرتكب الكبيرة الذى لم يتب منها ولو استغرقتها حسناته. وطائفة أوجبت لهم الخلود فى النار ولم تطلق عليهم اسم الكفر، بل سموهم منافقين.

وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أُخت عبد الواحد.

وطائفة نزلتهم منزلة بين منزلة الكفار والمؤمنين، فجعلوا أقسام الخلق ثلاثة: مؤمنين، وكفاراً، وقسماً لا مؤمنين ولا كفاراً بل بينهما، وأوجبت لهم الخلود فى النار، وهذا هو الرأى الذى عليه أهل الاعتزال، وهو أحد أُصولهم الخمسة التى هى قواعد مذهبهم وهى: التوحيد الذى مضمونه جحد صفات الخالق ونعوت كماله والتعطيل المحض، والعدل الذى مضمونه نفى عموم قدرة الله وأنه لا قدرة له على أفعال الحيوانات بل هى خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته، وأنه يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فإنه لا يقدر أن يهدى ضالاً ولا أن يضل مهتدياً ولا يجعل المصلى مصلياً ولا الذاكر ذاكراً ولا الطائف طائقاً، تعالى الله عن إفكهم وشركهم علواً كبيراً. والمنزلة بين المنزلتين التى مضمونها إيجاب [الخلود فى النار] للمسلم المبالغ فى طاعة ربه الذى أفنى عمره فى عبادته وطاعته ومات مصراً على كبيرة واحدة، تعالى الله عما نسبوه إليه من ذلك وجل عن هذا الافتراءِ. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة جماعة المسلمين. والأصل

الخامس: النبوة مع أنهم لم يوفوها حقها، بل هضموها غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها.

والمقصود أن مذهبهم تخليد هذه الطبقة فى النار، وإن لم يسموهم كفاراً، فوافقوا الخوارج فى الحكم وخالفوهم فى الاسم.

ولهذا تسمى هذه المسألة من مسائل الأسماء والأحكام. فهذه ثلاث فرق أوجبت لهذه الطائفة الخلود فى النار وقالت المرجئة على اختلاف آرائهم: لا يدرى ما يفعل الله بهم فيجوز أن يعذبهم كلهم، وأن يعفو عنهم كلهم، وأن يعذب بعضهم ويعفو عن بعضهم، غير أنهم لا يخلد أحد منهم فى النار فجوزوا

أن يلحق بعضهم بمن ترجحت حسناته على سيئاته، بل جوزوا أن يرفع عليه فى الدرجة. فهم موكلون عندهم إلى محض المشيئة لا يدرى ما يفعل الله بهم، بل يرجأُ أمرهم إلى الله وحكمه، وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء والصوفية وغيرهم.

فهذه الأقوال [هى] التى يعرفها أكثر الناس، ولا يحكى أهل الكلام غيرها، وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا [يعرفونه] ولا يحكونه [وهو] الذى ذكرناه عن ابن عباس وحذيفة وابن مسعود [رضى الله عنهم] أن من ترجحت سيئاته بواحدة دخل النار.

وهؤلاء هم القسم الذين جاءَت فيهم الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله ﷺ، فإنهم يدخلون النار فيكونون فيها على مقدار أعمالهم: فمنهم من تأْخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ويلبثون فيها على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها، فينبتون على [أنهار] الجنة: فيفيض عليهم أهل الجنة من الماءِ حتى تنبت أجسادهم، ثم يدخلون الجنة. وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأْمر الله سيد الشفعاءِ مراراً أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان.

وإخبار النبى ﷺ أنهم يكونون فيها على قدر أعمالهم مع قوله تعالى: { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }* [الأعراف: 43] [النحل:32، الزخرف 72، الطور:19 السجدة:14، المرسلات:43]، و{ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }* [النمل: 90]، وقوله تعالى: { ثُمَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }* [آل عمران: 171].

وأضعاف ذلك من نصوص القرآن والسنة يدل على ما قاله أفضل الأُمة وأعلمها بالله وكتابه وأحكام الدارين أصحاب محمد ﷺ، والعقل والفطرة تشهد له، وهو مقتضى حكمة العزيز الحكيم الذى بهرت حكمته العقول.

فليس الأمر سبباً خارجاً عن الضبط والحكمة بل مربوط بالأساليب، والحكم مرتب عليها أكمل ترتيب، جار على نظام اقتضاه السبب واستدعته الحكمة. وأى الطريق سلكها سالك غير هذه الطريق من الطرق المتقدمة أفضت به إلى ترك بعض النصوص ولا بد، فإنها تتناقض فى حقه لما أصله من الأصل الذى لا يلتئم عليه جمع النصوص، فلا بد أن يرد بعضها ببعض أو يستشكلها أو يتطلب لها مستنكر التأْويلات [ووجوه] التحريفات. كما رد الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة [ف] كذبوا بها وقالوا: لا سبيل لمن دخل النار إلى الخروج منها بشفاعة ولا غيرها.

ولما بهرتهم نصوص الشفاعة وصاح بهم أهل السنة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب ورموهم بسهام الرد عليهم أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط لا على الخروج من النار، فردوا السنة المتواترة قطعاً وصاروا مضغة فى أفواه الأُمة وعاراً فى فرقها، فإن أمر الشفاعة أظهر عند الأُمة من أن يقبل شكاً أو نزاعاً، وهو عندهم مثل الصراط والحساب ونحوهما مما يعلم إخبار الرسول ﷺ به قطعاً، ولكن إنما أتى القوم لأنهم فى غاية البعد عما جاءَ به الرسول ﷺ، أجانب عنه، ليسوا من الورثة، وأما الخوارج فكذبوا الصحابة صريحاً، وأما المرجئة فإنهم يجوزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد.

وهذا بخلاف المعلوم المتواتر من نصوص السنة بدخول بعض أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها بالشفاعة، ومع هذا التواتر الذى لا يمكن دفعه لا يجوز أن يقال بجواز أن لا يدخل أحد منهم النار، بل لا بد من دخول بعضهم، وذلك البعض هو الذى خفت موازينه ورجحت سيئاته كما قال الصحابة [رضى الله عنهم] وحكى أبو محمد بن حزم هذا إجماعاً من أهل السنة.

ولولا أن المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها، وبينا تناقض أهلها، وما وافقوا فيه الحق وما خالفوه بالعلم والعدل لا بالجهل والظلم، فإن كل طائفة منها معها حق وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق، ورد ما قالوه من الباطل. ومن فتح الله له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب، ويسر عليه فيهما الأسباب. والله المستعان.

الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان.

وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذى لا يعقل شيئاً ولا يميز، ومنهم الأصم الذى لا يسمع شيئاً أبداً، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئاً.

فاختلفت الأُمة فى حكم هذه الطبقة اختلافاً كثيراً، والمسألة التى وسعوا فيها الكلام هى مسألة أطفال المشركين. وأما أطفال المسلمين فقال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد [يعنى] أنهم فى الجنة. وحكى ابن عبد البر عن جماعة: أنهم توقفوا فيهم، وأن جميع الولدان تحت المشيئة قال: وذهب إلى هذا القول جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق ابن راهويه قالوا: وهو شبه ما رسم مالك فى موطئه فى أبواب القدر، وما أورده من الأحاديث فى ذلك. وعلى أكثر أصحابه، وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين فى الجنة وأطفال المشركين خاصة فى المشيئة.

وأما أطفال المشركين فللناس فيهم ثمانية مذاهب:

أحدها: الوقف فيهم، وترك الشهادة بأنهم فى الجنة أو فى النار، بل يوكل علمهم إلى الله تعالى، ويقال الله أعلم ما كانوا عاملين. واحتج هؤلاء بحجج: منها ما أخرجاه فى الصحيحين من حديث أبى هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاءَ، هل [يحسن] فيها من جدعاءَ))؟ قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، ومنها ما فى الصحيحين أيضاً عن ابن عباس أن النبى ﷺ سئل عن أولاد المشركين فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).

وفى صحيح أبى حاتم بن حبان من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاءَ [العطاردى] يقول وهو على المنبر: قال رسول الله ﷺ: ((لا يزال أمر هذه الأُمة قواماً- أو مقارباً- ما لم يتكلموا فى الولدان والقدر)). قال أبو حاتم: الولدان أراد به أطفال المشركين.

وفى استدلال هذه الفرقة على ما [ذهبت] إليه من الموقف بهذه النصوص نظر. فإن النبى ﷺ لم يجب فيهم بالوقف، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله سبحانه وتعالى. والمعنى: الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا.

فهو سبحانه وتعالى يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش، [و] لكن لا يدل هذا على أنه يجزيهم [بمجرد] علمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنما يدل على أنه [سبحانه وتعالى] يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم.

وهذا الجواب خرج عن النبى ﷺ على وجهين: أحدهما: جواب لهم إذ سألوه عنهم: ما حكمهم؟ فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، وهو فى هذا الوجه يتضمن أن الله سبحانه وتعالى يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير الحياة، وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه ﷺ.

وفى صحيح أبى عوانة الإسفراينى عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس: كان النبى ﷺ فى بعض مغازيه، فسأله رجل: ما [تقول] فى اللاهين؟ فسكت عنه، فلما فرغ من [غزوه وطاف] إذا هو بصبى يبحث فى الأرض، فأمر مناديه فنادى: ((أين السائل عن اللاهين))؟ فأقبل الرجل، فنهى رسول الله ﷺ عن قتل الأطفال، وقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)).

والوجه الثانى: جواب لهم حين أخبرهم أنهم من آبائهم، فقالوا: بلا عمل؟ فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، كما روى أبو داود عن عائشة [رضى الله عنه] قالت: قلت: يا رسول الله، ذرارى المؤمنين؟ قال: ((من آبائهم))، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) [قلت: يا رسول الله، فذرارى المشركين؟ قال: ((هم من آبائهم))، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين])). ففى هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوه به. فهؤلاء مع آبائهم، ولا يقتضى أن كل واحد من الذرية مع أبيه فى النار.

فإن الكلام فى هذا الجنس سؤالاً وجواباً، والجواب يدل على التفصيل، فإن قوله ﷺ: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) يدل على أنهم متباينون فى التبعية، بحسب نياتهم [فى] معلوم الله فيهم.

بقى أن يقال: فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرها عليه السلام فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه فى الدنيا، وهو الذى فهمته عائشة.

ولا ينفى هذا أن يلحقوا بهم [بأسباب آخر يمتحنهم بها فى عرصات القيامة كما سيأتى بيانه] إن شاءَ الله. فحينئذ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه فى الدنيا، وعائشة [رضى الله عنه] إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباءِ، وأجابها النبى ﷺ بأن الله سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملوه، ولم يقل لها: إنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم. وهذا ظاهر بحمد الله لا إشكال فيه.

وأما حديث أبى رجاء العطاردى عن ابن عباس، ففى القلب من رفعه شيء وإن أخرجه ابن حبان فى صحيحه، وهو يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم، أو ضرب النصوص بعضها ببعض فيهم، كما ذم من تكلم فى القدر بمثل ذلك، وأما من تكلم فيهم بعلم وحق فلا.

المذهب الثانى: أنهم فى النار. وهذا قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضى نصاً عن أحمد، واحتج هؤلاءِ بحديث عائشة المتقدم، واحتجوا بما رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة: سألت رسول الله ﷺ عن أولاد المسلمين أين هم؟ قال: ((فى الجنة))، وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: ((فى النار))، فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام. قال: ((ربك أعلم بما كانوا عاملين))، قلت: يحيى بن المتوكل لا يحتج بحديثه، فإنه فى غاية من الضعف.

وأما حديث عائشة المتقدم فهو من حديث عمر بن ذر، وتفرد به عن يزيد عن أبى أُمية أن البراء بن عازب أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال، فذكرت الحديث هكذا، قال مسلم بن قتيبة [عنه]، وقال غيره: عن عمر بن ذر عن يزيد عن رجل عن البراء، ورواه الإمام أحمد فى مسنده من حديث عتبة بن ضمرة بن حبيب: حدثنى عبد الله بن أبى قيس مولى غطيف أنه سأل عائشة، فذكرت الحديث. وعبد الله هذا ينظر فى حاله، وليس بالمشهور.

واحتجوا بما رواه عبد الله بن أحمد فى مسند أبيه عن عثمان بن أبى شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان عن محمد بن عثمان عن زاذان عن على قال: سألت خديجة رسول الله ﷺ عن ولدين لها ماتا فى الجاهلية فقال: ((هما فى النار)) رأى الكراهية فى وجهها قال: ((لو رأيت مكانهما لأبغضتهما)) قالت: يا رسول الله، فولدى منك؟ قال: ((إن المؤمنين وأولادهم فى الجنة، وإن المشركين وأولادهم فى النار))، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانِ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}* [الطور: 21].

وهذا معلول من وجهين، أحدهما: أن محمد بن عثمان مجهول، والثانى: أن زاذان لم يدرك علياً. وقال جماعة عن داود بن أبى هند عن الشعبى عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعى قال: أتيت أنا وأخى النبى ﷺ فقلنا: إن أمنا ماتت فى الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتفعل وتفعل، فهل نافعها ذلك شيئاً؟ قال ﷺ: ((لا))، قلنا: فإنها كانت وأدت أُختاً لنا فى الجاهلية لم تبلغ الحنث؟ [فقال]: ((الوائدة والموؤدة فى النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم))، وهذا إسناد لا بأْس به، وبحديث خديجة أنها سألت رسول الله ﷺ عن أولادها الذين ماتوا فى الشرك؟ فقال: ((إن شئت أسمعتك تضاغيهم فى النار))، قال شيخنا: وهذا حديث باطل موضوع.

واحتجوا أيضاً بما روى البخارى فى صحيحه فى حديث احتجاج الجنة والنار عن النبى ﷺ أنه قال: ((وأما النار فينشيء الله لها خلقاً يسكنهم إياها)) قالوا: فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل، فلأن يدخلها من ولد فى الدنيا بين كافرين أولى. وهذه حجة باطلة، فإن هذه اللفظة وقعت غلطاً من بعض الرواة، وبينها البخارى فى الحديث الآخر وهو الصواب فقال فى صحيحه: حدثنى عبد الله بن محمد انبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن همام عن أبى هريرة قال النبى ﷺ: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة:مالى لا يدخلنى إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم؟ قال الله عز وجل للجنة:أنت رحمتى أرحم بك من أشاءُ من عبادى، وقال تعالى للنار: أنت عذابى أعذب بك من أشاءُ من عبادى، ولكل واحدة منكما ملؤها: فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الجبار عز وجل رجله، فتقول: قط، قط، فهناك تمتليء ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً. وأما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقاً))، فهذا هو الذى قاله رسول الله ﷺ بلا ريب، وهو الذى ذكره فى التفسير [وقال] وفى باب ما جاء فى قوله تعالى: {إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}* [الأعراف: 56]: حدثنا عبد الله بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبى عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبى ﷺ قال: ((اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم، وقالت النار: إنى أُوثرت بالمتكبرين، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتى، وقال تعالى للنار: أنت عذابى أُصيب بك من أَشاءُ، ولكل واحدة منكما ملؤها قال: فأما الجنة فإن الله تعالى لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشيء للنار من يشاءُ فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد ثلاثاً حتى يضع قدمه فيها فتمتليء ويرد بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط قط))، فهذا غير محفوظ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعاً كما انقلب على بعضهم قوله ﷺ: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم))، فقال: ((إن ابن مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)).

وله نظائر وحديث الأعرج عن أبى هريرة لم يحفظ كما ينبغى وسياقه يدل على أن رواية لم يقم متنه، بخلاف حديث همام عن أبى هريرة، واحتجوا بما رواه أبو داود عن عامر الشعبى قال: قال رسول الله ﷺ: ((الوائدة والمؤودة فى النار)).

قال يحيى بن زكريا: فحدثنى أبو إسحاق السبيعى: أن عامراً حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى ﷺ ويأْتى الجواب عن هذا الحديث إن شاءَ الله. والله أعلم.

المذهب الثالث: أنهم فى الجنة، وهذا قول طائفة من المفسرين والمتكلمين وغيرهم. واحتج هؤلاء بما رواه البخارى فى صحيحه عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله ﷺ [يعنى] مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم رؤيا))؟ قال: فنقصّ عليه ما شاء الله أن نقص، وأنه قال لنا ذات غداة: ((إنى أتانى الليلة آتيان- فذكر الحديث، وفيه: فأتينا على روضة [معتمة] فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهرى الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً فى السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط- وفيه- وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة))، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال الرسول ﷺ: ((وأولاد المشركين))، فهذا الحديث الصحيح صريح فى أنهم فى الجنة، ورؤيا الأنبياءِ وحى.

وفى مستخرج البرقانى على البخارى من حديث عوف الأعرابى عن أبى رجاء العطاردى عن سمرة عن النبى ﷺ قال: ((كل مولود يولد على الفطرة))، فقال الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)).

(يتبع...)

@ وقال أبو بكر بن حمدان القطيعى: حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف عن خنساءَ بنت معاوية قالت: حدثتنى عمتى قالت: يا رسول الله، من فى الجنة؟ قال: ((النبى فى الجنة والشهيد فى الجنة والمؤودة فى الجنة))؟، وكذلك رواه بندار عن غندر عن عوف.

واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى آدَمَ مِن ظُهوُرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}* [الأعراف: 172]، وبقوله تعالى: {لا يَصْلاهاَ إِلا الأَشْقَى}* [الليل: 15]، وبقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ}* [البقرة: 24]، وبقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثْ رَسُولاً}* [الإسراء: 15]، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله بالرسل فلا يعذبهم [واحتجوا بقوله تعالى {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل}* [النساء: 165]

واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثُ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}* [القصص:95]، فإذا كان سبحانه لا يهلك القرى فى الدنيا ويعذب أهلها إلا بظلمهم، فكيف يعذب فى الآخرة العذاب الدائم من لم يصدر منه ظلم؟ ولا يقال: كما أهلكه فى الدنيا تبعاً لأبويه وغيرهم، [فكذلك] يدخله النار تبعاً لهم، لأن مصائب الدنيا إذا وردت لا تخص الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره ويبعثون على نياتهم وأعمالهم كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةٍ}* [الأنفال: 25]، وكالجيش الذى يخسف بهم جميعهم وفيهم المكره والمستبصر وغيره.

فأما عذاب الآخرة فلا يكون إلا للظالمين خاصة، ولا يتبعهم فيه من لا ذنب له أصلاً. وقال تعالى فى النار: {كُلَّمَا أُلْقِى فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ}* [الملك:8،9]، وقال [تعالى] لإبليس: {لأَملأَنَ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}* [النمل: 85]، وإذا امتلأت بإبليس وأتباعه فأين يستقر فيها من لم يتبعه؟ قالوا: وأيضاً فالقرآن مملوءُ من الأخبار بأن دخول النار إنما يكون بالأعمال كقوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}* [النمل: 90]، وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}*

[الكهف: 49]، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يظلمون}* [البقرة: 281]، وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوَا هُمُ الظَّالِمِينَ}* [الزخرف: 76] إلى غير ذلك من النصوص. قالوا: وقد أخبر النبى ﷺ أن كل مولود [يولد] على الفطرة، وإنما يهوده وينصره أبواه، فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة، فكيف يستحق النار؟ وفى صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبى ﷺ قال: ((يقول الله: إنى خلقت عبادى حنفاءَ، فجاءَتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم))، وقال محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ عن عياض عن النبى ﷺ قال: ((إن الله خلق آدم وبنيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالاً لا حراماً))، فزاد ((مسلمين)).

قالوا: وأيضاً فإن النار دار عدله [تعالى] والجنة دار فضله، فلهذا ينشيء للجنة من لم يعمل عملاً قط، وأما النار فإنه لا يعذب بها إلا من عمل بعمل أهلها. وقالوا: وأيضاً فإن النار دار جزاءٍ، فمن لم يعص الله طرفة عين كيف يجازى بالنار خالداً مخلداً أبد الآباد؟ قالوا: وأيضاً فلو عذب هؤلاءِ لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف.

والقسمان ممتنعان: أما الأول فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلاً، وأما الثانى فيمتنع أيضاً بالنصوص التى ذكرناها وأمثالها من أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه. وقالوا: وأيضاً فلو كان تعذيب هؤلاءِ لأجل عدم الإيمان المانع من العذاب لاشتركوا هم وأطفال المسلمين فى ذلك، لاشتراكهم فى عدم الإيمان الفعلى علماً وعملاً.

فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم [من] العذاب، بخلاف أطفال المشركين، قلنا: الله [تعالى] لا يعذب أحداً بذنب غيره، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازرِةٌ وِزْرَ أُخْرَى}* [الأنعام: 164]، وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}* [يس: 54]، وهذه حجج كما ترى قوة وكثرة، ولا سبيل إلى دفعها وسيأْتى إن شاء الله فصل النزاع فى هذه المسألة، والقول بموجب هذه الحجج الصحيحة كلها، على أن عادتنا فى مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق. لا نستثنى من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك، ونموت عليه ونلقى الله به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المذهب الرابع: أنهم فى منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار فإنهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنة ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلاً لثوابهم وزيادة فى نعيمهم، وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار.

وهذا قول طائفة من المفسرين قالوا: وهم أهل الأعراف. وقال عبد العزيز ابن يحيى الكنانى: ((هم الذين ماتوا فى الفترة))، والقائلون بهذا إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبداً فباطل، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة أو النار، وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ثم يصيرون إلى دار القرار فهذا ليس بممتنع.

المذهب الخامس: أنهم تحت مشيئة الله تعالى، يجوز أن يعمهم بعذابه، وأن يعمهم برحمته، وأن يرحم بعضاً ويعذب بعضاً بمحض الإرادة والمشيئة، ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه، ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة. وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، وقول كثير من مثبتى القدر وغيرهم.

المذهب السادس: أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقائهم وممالكيهم فى الدنيا. واحتج هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القارى عن أبى حازم المدينى عن يزيد الرقاشى عن أنس، قال الدارقطنى: ورواه عبد العزيز الماجشون عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشى عن أنس عن النبى ﷺ قال: ((سألت ربى للاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم، فهم خدام أهل الجنة)) يعنى الصبيان.

فهذان طريقان، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى عن أنس، قال ابن قتيبة: اللاهون من لهيت عن الشيء إذ غفلت عنه، وليس هو من لهوت، وهذه الطرق ضعيفة، فإن يزيد الرقاشى واه وفضيل بن سليمان متكلم فيه، وعبد الرحمن بن إسحق ضعيف.

المذهب السابع: أن حكمهم حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة فلا يفردون عنهم بحكم فى الدارين، فكما هم منهم فى الدنيا فهم منهم فى الآخرة.

والفرق بين هذا المذهب ومن مذهب من يقول هم فى النار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعاً لهم، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار وصاحب القول الآخر يقول هم فى النار لكونهم ليسوا بمسلمين لم يدخلوها تبعاً.

وهؤلاء يحتجون بحديث عائشة الذى تقدم ذكره، واحتجوا بما فى الصحيحين عن الصعب بن جثامة قال: سئل رسول الله ﷺ عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: ((هم منهم))، ومثله من حديث الأسود بن سريع. وقد تقدم حديث أبى وائل عن ابن مسعود يرفعه: ((الوائدة والموءودة فى النار))، وهذا يدل على أنها كانت فى النار تبعاً لها. قالوا: ويدل عليه قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا واتبعتهم ذُرِّيتُهُمْ بِإِيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِن شَيءِ كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}* [الطور: 21]، فهذا يدل على أن إتباع الذرية لآبائهم ونجاتهم إنما كان إكراماً لآبائهم وزيادة فى ثوابهم وأن الاتباع [إنما يستحق بإيمان الآباء فإذا انتفى إيمان الآباء انتفى اتباع] النجاة، وبقى اتباع العذاب. ويفسره قوله ﷺ: ((هم منهم)).

وأجيب عن حجج هؤلاءِ: أما حديث عائشة الذى فيه: ((إنهم فى النار)) فقد تقدم ضعفه. وأما حديثها الآخر: ((هم من آبائهم)) فمثل حديث الصعب والأسود بن سريع، وليس فيه تعرض للعذاب بنفى ولا إثبات، وإنما فيه أنهم تبع لآبائهم فى الحكم، وأنهم إذا أُصيبوا فى الجهاد والبيات لم يضمنوا بدية ولا كفارة.

وهذا مصرح به فى حديث الصعب والأسود أنه فى الجهاد، أما حديث عائشة الآخر فضعفه غير واحد. قالوا: وعبد الله بن أبى قيس مولى غطيف رواية عنها ليس بالمعروف فيقبل حديثه. وعلى تقدير ثبوته فليس فيه تصريح بأن السؤال وقع عن الثواب والعقاب.

والنبى ﷺ قال: ((هم من آبائهم)) ولم يقل هم معهم. وفرق بين الحرفين. وكونهم منهم لا يقتضى [أن يكونوا معهم فى أحكام الآخرة بخلاف كونهم منهم فإنه يقتضى] أن تثبت لهم أحكام الآباءِ فى الدنيا من التوارث والحضانة والنسب وغير ذلك من أحكام الإيلاد، والله سبحانه يخرج الطيب من الخبيث والمؤمن من الكافر.

وأما حديث ابن مسعود فليس فيه أن هذا حكم كل واحد من أطفال المشركين وإنما يدل على أن بعض أطفالهم فى النار، وأن من هذا الجنس- وهن المؤودات- من يدخل النار، وكونها موؤودة [لا يمنع من دخولها النار بسبب آخر وليس المراد أن كونها موءودة] هو السبب الموجب لدخول النار، حتى يكون اللفظ عاماً فى كل موؤدة وهذا ظاهر [ولكن كونها موءودة لا يرد عنها النار إذا استحقتها بسبب]، كما سيأْتى بيانه بعد هذا إن شاء الله. وأحسن من هذا أن يقال: هى فى النار ما لم يوجد سبب يمنع من دخولها النار كما سنذكره إن شاء الله. ففرق بين أن تكون جهة كونها موؤدة هى التى استحقت بها دخول النار، وبين كونها غير مانعة من دخول النار بسبب آخر، وإذا كان تعالى يسأَل [الوائدة] عن وأْد ولدها بغير استحقاق ويعذبها على وأْدها كما قال تعالى: {وَإِذَا المَوءودةُ سُئلَتْ}* [التكوير:8]، فكيف يعذب الموءودة بغير ذنب؟ والله سبحانه لا يعذب من وأَدها بغير ذنب.

وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}* [الطور: 21] فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق ذرية المؤمنين بهم فى الجنة، وإنهم يكونون معهم فى درجتهم.

ومع هذه فلا يتوهم نزول [الأباء إلى درجة الذرية فإن الله لم يلتهم- أى لم ينقصهم من أعمالهم من شيئاً بل رفع ذرياتهم إلى درجاتهم مع توفير أجور] الآباءِ عليهم، [و] لما كان إلحاق الذرية بالآباءِ فى الدرجة إنما هو بحكم التبعية لا بالأَعمال، ربما توهم متوهم أن ذرية الكفار يلحقون بهم فى العذاب تبعاً وإن لم يكن لهم أعمال الآباءِ، فقطع تعالى هذا التوهم بقوله تعالى: {كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}، وتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيْمَانٍ}* [الطور: 21]، كيف أتى بالواو العاطفة فى اتباع الذرية وجعل الخبر عن المؤمنين الذين هذا شأْنهم، فجعل الخبر مستحقاً بأمرين: أحدهما إيمان الآباءِ، والثانى إتباع الله ذريتهم إياهم، وذلك لا يقتضى أن كل مؤمن يتبعه كل ذرية له، ولو أُريد هذا المعنى لقيل: [والذين] آمنوا تتبعهم ذرياتهم فعطف الاتباع بالواو يقتضى أن يكون المعطوف بها قيداً وشرطاً فى ثبوت الخبر، لا حصوله لكل أفراد المبتدأ. وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم فى صحيحه عن عائشة قالت أُتى النبى ﷺ بصبى من الأنصار يصلى عليه: فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا لم يعمل شراً، ولم يدره به. قال: ((أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم فى أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم فى أصلاب آبائهم))، فهذا الحديث يدل على أنه لا يشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين فى الجملة أنهم فى الجنة لكن الشهادة للمعين ممتنعة، كما يشهد للمؤمنين مطلقاً أنهم فى الجنة، ولا يشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبى ﷺ.

فهذا وجه الحديث الذى يشكل على كثير من الناس ورده الإمام أحمد وقال: لا يصح. ومن يشك أن أولاد المسلمين فى الجنة؟ وتأوله قوم تأويلات بعيدة.

المذهب الثامن: أنهم يمتحنون فى [عرصة] القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله النار. وعلى هذا فيكون بعضهم فى الجنة وبعضهم فى النار. وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها. وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله [عز وجل] الذى أحال عليه النبى ﷺ حيث يقول: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، يظهر حينئذ ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلوماً علماً خارجياً لا علماً مجرداً، ويكون النبى ﷺ قد رد جوابهم إلى علم الله فيهم، والله [تعالى] يرد ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم، فالخبر عنهم مردود إلى علمه ومصيرهم مردود إلى معلومه، وقد جاءَت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضاً: فمنها ما رواه الإمام أحمد [فى مسنده] والبزار أيضاً بإسناد صحيح، فقال الإمام أحمد: حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبى ﷺ قال: ((أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات فى الفترة، أما الأصم فيقول: رب لقد جاءَ الإسلام وأنا ما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحدفوننى بالبعر، وأما الهرم [رب لقد جاء الإسلام وما أغفل وأما الذى فى الفترة] فيقول: رب ما أتانى رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه. فيرسل إليم رسولاً أن ادخلوا النار، فوالذى نفسى بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً))، قال معاذ [بن هشام]: وحدثنى أبى عن قتادة عن الحسن عن أبى رافع عن أبى هريرة بمثل هذا الحديث وقال فى آخره: ((فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها رد إليها)).

وهو فى مسند إسحاق عن معاذ بن هشام أيضاً، ورواه البزار ولفظه عن الأسود ابن سريع عن النبى ﷺ قال: ((يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذى لا يسمع شيئاً، والأحمق والهرم، ورجل مات فى الفترة، فيقول الأصم: رب جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، والأحمق يقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً يقول الذى مات فى الفترة: رب ما أتانى لك رسول، وذكر الهرم وما يقول، قال: فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم [تبارك وتعالى]: ادخلوا النار، فوالذى نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً))، قال الحافظ عبد الحق فى حديث الأسود: قد جاءَ هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم، والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكن الله يخص من يشاءُ بما يشاءُ، ويكلف من [يشاء ما شاء] وحيثما شاءَ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

قلت: وسيأتى الكلام على وقوع التكليف فى الدار الآخرة وامتناعه عن قريب إن شاء الله، ورواه على بن المدينى عن معاذ بنحوه. قال البيهقى: حدثنا على ابن محمد بن بشران، أخبرنا أبو جعفر الرازى، أخبرنا حنبل بن الحسين، أخبرنا زيد بن جدعان عن أبى رافع عن أبى هريرة عن النبى ﷺ نحوه، ورواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة قوله.

وروى محمد بن المبارك الصورى ثقة، حدثنا عمرو بن واقد ضعيف، حدثنا يونس بن ميسرة ثقة عن أبى إدريس الخولانى عن معاذ يرفعه: ((يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك فى الفترة، وبالهالك صغيراً. فيقول الممسوخ عقلاً: يا رب لو آتيتنى عقلاً ما كان مَن آتيته عقلاً بأسعد منى، ويقول الهالك فى الفترة: يا رب لو آتانى منك عهد ما كان من آتاه منك عهد بأسعد بعهده منى، منى، فيقول الرب سبحانه: لئن أمرتكم بأمر فتطيعونى؟ فيقولون: نعم وعزتك فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، فلو دخلوها ما ضرتهم قال: فيخرج عليهم قوابص يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك ويقولون: يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأْمرهم الثانية فيرجعون كذلك ويقولون مثل قولهم، فيقول الله: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمى خلقتكم وإلى علمى تصيرون، فتأْخذهم النار))، فهذا وإن كان عمرو بن واقد لا يحتج به، فله أصل وشواهد والأُصول تشهد له.

وفى الباب أحاديث غير هذا. وقد رويت أحاديث الامتحان فى الآخرة من حديث الأسود بن سريع وصححه عبد الحق والبيهقى من حديث أبى هريرة وأنس ومعاذ وأبى سعيد.

فأما حديث الأسود فرواه معاذ [عن] هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبى ﷺ قال معاذ: وحدثنى أبى عن قتادة عن الحسن عن أبى رافع عن أبى هريرة، ورواه أحمد وإسحاق عن معاذ [ورواه] حماد بن سلمة عن على بن زيد بن جدعان عن رافع عن أبى هريرة، ورواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة موقوفاً عليه، وهذا لا يضر الحديث فإنه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق المعارضة فغايتها تحقق الوقف، ومثل هذا لا يقدم عليه بالرأْى إذ لا مجال له فيقبل بجزم بأن هذا توقيف لا عن رأْى.

وأما حديث أنس فرواه جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبى سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبى ﷺ: ((يؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود وبالمعتوه، وبمن مات فى الفترة، وبالشيخ الفانى كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب سبحانه لعنق من جهنم: ابرزى. ويقول لهم: إنى كنت أبعث إلى عبادى رسولاً من أنفسهم وإنى رسول نفسى إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاءُ: أَنى ندخلها ومنها كنا نفر؟ فيقول الله: فأنتم لرسلى أشد تكذيباً قال: وأما من كتب عليهم السعادة فيمضى فيقتحم فيها، فيدخل هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار)).

وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرده لمكان ليث بن أبى سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبى ﷺ [وأما حديث معاذ فتقدم الكلام عليه. وأما حديث أبى سعيد فرواه محمد بن يحيى الذهلى: أخبرنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبى سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: ((الهالك فى الفترة والمعتوه والمولود يقول الهالك فى الفترة: لم يأْتنى كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لى عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً. ويقول المولود: رب لم أُدرك العقل فيرفع لهم ناراً فيقول: ردوها، قال: فيردها من كان فى علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان فى علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول: إياى عصيتم، فكيف لو رسلى أتتكم))، تابعه الحسن بن موسى عن فضيل. ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه. فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به، وإن لم يكن حجة. وأما الوقف فقد تقدم نظيره من حديث أبى هريرة. فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة نقله عنهم الأشعرى رحمه الله فى المقالات وغيرها.

فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك فى وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟ [فـ] الجواب من وجوه:




أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم، وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم.

الثانى: أن أبا الحسن الأشعرى حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.

الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التى يحتج بها فى الأحكام، ولهذا رواه الأئمة أحمد وإسحق وعلى بن المدينى.

الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان فى الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقى عن غير واحد من السلف.

الخامس: ما ثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وأبى سعيد فى الرجل الذى هو آخر أهل الجنة دخولاً إليها أن الله سبحانه وتعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غير الذى يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: ((ما أغدر كغدرك))، وهذا الغدر منه هو لمخلفته للعهد الذى عاهد ربه عليه.

السادس: قوله: وليس ذلك فى وسع المخلوقين. جوابه من وجهين:

أحدهما: أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس فى الوسع، وإنما تكليف بما فيه مشقة شديدة، وهو كتكليف بنى إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا فى الذى يرونه ناراً.

والثانى: أنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يستطع.

السابع: أنه قد ثبت أنه سبحانه وتعالى يأْمرهم فى القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه.

وهذا تكليف بما ليس فى الوسع قطعاً، فكيف ينكر التكليف بدخول النار فى رأْى العين إذا كانت سبباً كما قال أبو سعيد الخدرى هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف)) رواه مسلم، فركوب هذا الصراط الذى هو فى غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم.

الثامن: أن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث والناس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجردة لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجة تنفى أن يكون هذا التكليف موافقاً للحكم، بل الأدلة الصحيحة تدل على أن مقتضى الحكمة كما ذكرناه.

التاسع: أن فى أصح هذه الأحاديث وهو حديث الأسود أنهم يعطون ربهم المواثيق ليطيعنه فيما يأْمرهم به، فيأْمرهم أن يدخلوا نار الامتحان فيتركون الدخول معصية لأمره لا لعجزهم عنه. فكيف يقال أنه ليس فى الوسع.

فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون فى غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما فى البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين فى البرزخ وهى تكليف.

وأما فى عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}* [القلم: 42]، [فهذا] صريح فى أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف، بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به فى الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم، ولهذا قال تعالى: {وَقدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}* [القلم: 43] [يعنى أصحابه لا أحد يمنعهم منه فلما تركوه وهم سالمون] دعوا إليه فى وقت حيل بينهم وبينه كما فى الصحيح من حديث زيد ابن أسلم عن عطاء عن أبى سعيد رضى الله عنه: ((إن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا))- فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال- ((فيقول تتبع كل أُمه ما كانت تعبد فيقول المؤمنون: فارقنا الناس فى الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً- مرتين أو ثلاثاً- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها)) فيقولون نعم، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره:)) [طبقة] واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم)) وذكر الحديث.

وهذا التكليف نظير تكليف البرزخ بالمسألة، فمن أجاب فى الدنيا طوعاً واختياراً أجاب فى البرزخ، [ومن امتنع من الإجابة فى الدنيا منع منها فى البرزخ] ولم يكن تكليفه فى الحال وهو غير قادر قبيحاً، بل هو مقتضى الحكمة الإلهية، لأنه كلف وقت القدرة فأَبى، فإذا كلف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل كان عقوبة له وحسرة.

والمقصود أن التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار، وقد تقدم أن حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف فى عرصة القيامة. فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة.

فعلم أن الذى تدل عليه الأدلة الصحيحة وتأْتلف به النصوص ومقتضى الحكمة هذا القول والله أعلم.

وقد حكى بعض أهل المقالات عن عامر بن أشرس أنه ذهب إلى أن الأطفال يصيرون فى يوم القيامة تراباً، وقد نقل عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية والقاسم بن محمد وغيرهم أنهم كرهوا الكلام فى هذه المسألة جملة.

الطبقة الخامسة عشرة: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله [ورسوله]. وهؤلاء المنافقون، وهم فى الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}* [النساء: 145]، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم فى دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا فى الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى فى حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}* [المنافقون: 4]، ومثل هذا اللفظ يقتضى الحصر، أى لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا [حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم بل هذا] من إثبات الأولوية والأحقية لهم فى هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم [لهم] ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعدواة ممن باينهم فى الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإن ضرر هؤلاءِ المخالطين لهم المعاشرين لهم- وهم فى الباطن على خلاف دينهم- أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم ينقضى ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم فى الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْوهُمْ}* [المنافقون: 4]، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدواً من الكفار المجاهرين. ونظير ذلك قول النبى ﷺ: ((ليس المسكين الطواف الذى ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذى لا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه))، فليس هذا نفياً لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذى لا يسمونه مسكيناً أحق بهذا الاسم من الطواف الذى يسمونه مسكيناً.

ونظيره قوله ﷺ: ((ليس الشديد بالصُّرعة، ولكن الذى يملك نفسه عند الغضب))، ليس نفياً للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأن من يملك نفسه عند الغضب أحق منه بهذا الاسم.

ونظيره قوله ﷺ: ((ما تعدون المفلس فيكم))؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: ((المفلس من يأتى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأْتى قد لطم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه فأُلقى فى النار))، ونظيره قوله ﷺ: ((ما تعدون الرقوب فيكم))؟ قالوا: من لا يولد له؟ قال: ((الرقوب من لم يقدم من ولده شيئاً))، ومنه عندى قوله ﷺ: ((الربا فى النسيئة)).

وفى لفظ: ((إنما الربا فى النسيئة)) هو إثبات لأن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل، وليس فيه اسم الربا عن ربا الفضل. فتأمله.

والمقصود أن هذه الطبقة أشقى الأشقياءِ، ولهذا يستهزأُ بهم فى الآخرة، وتعطى نوراً يتوسطون به على الصراط ثم يطفيء الله نورهم ويقال لهم: {ارْجَعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً}* [الحديد: 13]، ويضرب بينهم وبين المؤمنين: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قَبْلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَـانِى حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغرَّكُمْ بِاللهِ الغرُورِ}* [الحديد: 13]، وهذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح، حتى إذا ظن أنه ناج ورأى منازل السعداءِ اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة ونعوذ بالله من غضبه وعقابه.

وإنما كانت هذه الطبقة فى الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداءِ عنهم، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين.

ولهذا قال تعالى [فى المنافقين]: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَفْقَهُونَ }* [المنافقين: 3]، وقال تعالى فيهم: {صُم بُكْمُّ عُمِى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}* [البقرة: 18]، وقال تعالى فى الكفار: {صُم بُكْم عُمْى فَهُمْ لا يرْجَعُونَ}* [البقرة: 171]، فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم عمى وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفراً وأخبث قلباً وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل.

وفيه معنى آخر أيضاً وهو أن الحامل لهم على النفاق طلب العز والجاه بين الطائفتين فيرضوا المؤمنين ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضاً.

ومن [هاهنا] دخل عليهم البلاءُ، فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين، ولم يكن لهم غرض فى الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وضعوهم وجهتهم إلى الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل وهو أن جعل مستقرهم فى أسفل السافلين تحت الكفار، فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاءِ بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم [من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم فتغلظ كفرهم به، فاستحقوا الدرك الأسفل] من النار ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق فى أول سورة [البقرة: 2-20]فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، وكافر ظاهراً وباطناً، ومؤمن فى الظاهر كافر فى الباطن وهم المنافقون، وذكر فى حق المؤمنين ثلاث آيات 3-5، وفى حق الكفار آيتين 6- 7.

فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية 8- 20 ذمهم فيها غاية الذم وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاءُ المفسدون فى الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون فى اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، فلم يدع ذماً ولا عيباً إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم، وبغضه إياهم، وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه.فظهرت حكمته الباهرة فى تخصص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار.

نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته. ومن تأمل ما وصف [الله به المنافقين فى القرآن من صفات الذم علم أنهم أحق بالدرك الأسلف فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده ووصف] قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد فى الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراءِ الضلالة بالهدى والصمم والبكم والعمى والحيرة والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره، والتردد- والتذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذباً وباطلاً وبالكذب وبغاية الجبن، وبعدم الفقه فى الدين وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله واليوم الآخر وبالرب، وبأنهم مضرة على المؤمنين ولا يحصل كلهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال والإسراع بينهم بالشر وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر الله، ومحو الحق، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الإنفاق فى مرضاة الله وسبيله، وبعيب [المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم فيلزمون المتصدقين ويعيبون] مزهدهم، ويرمون [مكثرهم] بالرياءِ إرادة الثناء فى الناس، وأنهم عبيد الدنيا إن أُعطوا منها رضوا وإن [منعو] سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله ﷺ وينسبونه إلى ما برأه الله منه ويعيبونه بما هو من كماله وفضله وأنهم يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ رب العالمين وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله ﷺ، ويكرهون الجهاد فى سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله عليهم بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله، [وأنهم] مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جُنّة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأْن المنافق أحلف الناس بالله كاذباً قد اتخذ يمينه جنة ووقاية يتقى بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس- والرجس من كل جنس أخبثه وأقذره- فهم أخبث بنى آدم وأقذرهم وأرذلهم وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم فى أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم فى كل زمان، وارتابوا فى الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأمانى الباطلة وغرهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجساماً تعجب الرائى أجسامهم،والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسنده، ولا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراءَ ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مغن عنها وعن الطاعات جملة- كحال كثير من الزنادقة-وإما احتقاراً وازدراءً بمن يدعوهم إلى ذلك، ووصفهم سبحانه بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله وبأنهم مجرمون وبأنهم يأْمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق فى مرضاته، ونسيان ذكره،وبأنهم يتولون الكفار ويدعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلاً، وأنهم حزب الشيطان وأنهم يوادون من حاد الله ورسوله وبأنهم يتمنون ما يعنت المؤمنين ويشق عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.

ومن صفاتهم التى وصفهم بها رسول الله ﷺ الكذب فى الحديث والخيانة فى الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأْخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ .

ومن صفاتهم التى وصفهم الله بها الشح على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بأَلسنة حداد، فهم أحد الناس أَلسنة عليهم كما قيل:

جهلاً علينا وجبناً عن عدوكم لبئست الخلتان الجهل والجبن

وإنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتهم، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم وظهرت المخبآت وبدت الأسرار.

ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة، [وأمرهم] قلوباً وأعظم الناس [مخالفة] بين أعمالهم وأقوالهم ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقه فى دين أبداً ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم.

ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم فى شيء فإنهم قد أعدوا لكل أَمر مخرجاً منه، بحق أو بباطل بصدق أو بكذب، ولهذا سمى منافقاً أخذاً من نافقاءِ اليربوع- وهو بيت يحفره ويجعل له أسراباً مختلفة- فكلما طلب من سرب خرج من سرب آخر، فلا يتمكن طالبه من حصره فى سرب واحد، قال الشاعر:

ويستخرج اليربوع من نافقائه ومن جحره بالشيحة اليتقصع

فأنت منه [كقبض] على الماءِ، ليس معك منه شيء. ومن صفاتهم كثرة التلون، وسرعة التقلب، وعدم الثبات على حال واحد: بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً وتنقلاً، جيفة بالليل قطرب بالنهار.

ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، قال تعالى:

{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَد أمرُوا أَن يَكْفُروا بهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافقِين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْف إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهِمْ ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُم فِى أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}* [النساء: 60-63].

ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول ﷺ بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاءَ. فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى فى آراءِ الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى.

ومن صفاتهم: كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم: فيرمونهم- إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله- بأنهم أهل فتن مفسدون فى الأرض.

وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون فى الأرض، وإذا دعا ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير [مثوبة] رموهم بالبدع والضلال، وإذا رأوهم زاهدين فى الدنيا راغبين فى الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزوكرة، والتلبيس والمحال.

وإذا رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول فى قالبة شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل [ألبسوه] لباس الحق وأخرجوه فى قالبه ليقبل منهم.

وجملة أمرهم أنهم فى المسلمين كالزغل فى النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم، وليس على الأديان أضرَّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم، ولهذا جلا الله أمرهم فى القرآن، وأوضح أوصافهم وبين أحوالهم وكرر ذكرهم، لشدة المؤنة على الأُمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى: وعدوهم ومنوهم، ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور.

فكم من قتيل، ولكن فى سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسير لا يرجى له الخلاص وفارّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار من [علقت] به كلاليب كلبهم ومخاليب رأْيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان وقطعت له مقطعات من البلاءِ والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالاً، ويمشى على عقبيه القهقرى إدباراً منه وهو يحسب ذلك إقبالاً.

فهم والله قطاع الطريق، فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء، حذار منهم حذار، هم الجزارون ألسنتهم شفار البلايا. ففراراً منهم أيها الغنم فراراً.

ومن البلية أنهم الأعداءُ حقاً وليس لنا بد من مصاحبتهم، وخلطتهم أعظم الداءِ وليس بد من مخالطتهم قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعداً للمستجيبين، ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترين. نصبوا الشباك ومدوا الأشراك وأذن مؤذنهم: يا شياه الأنعام حى على الهلاك، حى على التباب. فاستبقوا يهرعون إليهم، فأوردوهم حياض العذاب، لا الموارد العذاب.

وساموهم من الخسف والبلاءِ أعظم خطة، وقالوا: ادخلوا باب الهوان صاغرين ولا تقولوا حطة، فليس بيوم حطة. [فواعجباً] لمن نجا من شراكهم لا من علق، وأنى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خلق، فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلو بالمحل الذى أحلهم الله من دار الهوان وأن ينزلوا فى أردئ منازل أهل العناد والكفران.

وبحسب إيمان العبد ومعرفته بكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأُمة وسابقوها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة، ناشدتك الله، هل سمانى رسول الله ﷺ مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أُزكى بعدك أحداً.

يعنى لا أفتح على هذا الباب فى تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يبرأْ من النفاق غيرك.

وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله؟ ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل.

@




الطبقة السادسة عشرة: رؤساء الكفر وأئمته، ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإيمان وعن الدخول فى دينه رغبة ورهبة فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس عن الدخول فى الإيمان. قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ}* [النحل: 88] فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدهم عن سبيل الله. وقد استقرت حكمة الله وعدله أن يجعل على الداعى إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له، ولا ريب أن عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه وضل به.

وهذا النوع فى الأشقياء مقابل دعاة الهدى فى السعداءِ، فأُولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم، ولهذا كان فرعون وقومه فى أشد العذاب، قال تعالى فى حقهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّا وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلِ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}* [غافر: 46]، وهذا تنبيه على أن فرعون نفسه فى الأشد من ذلك، لأنهم إنما دخلوا أشد العذاب تبعاً له، فإنه هو الذى استخفهم فأطاعوه، وغرهم فاتبعوه. ولهذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرطهم فى هذا الورد، قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ}* [هود: 98].

والمقصود: أنهم استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم، وصدهم عن سبيل الله وعقوبتهم من آمن بالله. فليس عذاب الرؤساء فى النار كعذاب أتباعهم، ولهذا كان فى كتاب النبى ﷺ لهرقل: ((فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)).

والصحيح فى اللفظ أنهم الأتباع ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذاباً، وهو أول من يكسى حلة من النار، لأنه إمام كل كفر وشرك وشر.

فما عصى الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأَمثل فالأمثل من نوابه فى الأرض ودعاته. ولا ريب أن الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر، كما أن الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان.

فكما أن المؤمنين ليسوا فى درجة واحدة، بل هم درجات عند الله، فكذلك الكفار ليسوا فى طبقة واحدة ودرك واحد بل النار دركات كما أن الجنة درجات. ولا يظلم الله من خلقه أحداً. وهو الغنى الحميد.

فصل

وغلظ الكفر الموجب لغلظ العذاب يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: من حيث العقيدة الكافرة فى نفسها، كمن جحد رب العالمين بالكلية وعطل العالم عن الرب الخالق المدبر له، فلم يؤمن بالله وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر. ولهذا لا يقر أرباب هذا الكفر بالجزية عند كثير من العلماءِ، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم اتفاقاً لتغلظ كفرهم، وهؤلاءِ هم المعطلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنه لا وجود للرب سبحانه وتعالى غير وجود هذا العالم.

[الجهة الثانية]: تغلظه بالعناد والضلال عمداً على بصيرة، ككفر من شهد قلبه أن الرسول حق لما رآه من آيات صدقه، وكفر عناداً وبغياً، كقوم ثمود، وقوم فرعون واليهود الذين عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءَهم، وكفر أبى جهل وأُمية ابن أبى الصلت وأمثال هؤلاء.

الجهة الثالثة: السعى فى إطفاءِ نور الله وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم، فهؤلاءِ أشد الكفار عذاباً بحسب تغلظ كفرهم، ومنهم من يجتمع فى حقه الجهات الثلاث، ومنهم من يكون فيه جهتان منها أو واحدة فليس عذاب هؤلاءِ كعذاب من هو دونهم فى الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون من أذاه فى سلامة لا ينالهم منه أذى، ولم يتغلظ كفره كتغلظ هؤلاءِ، بل هو مقر بالله ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر.

وإن شارك أولئك فى كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعاً من الكفر. وهل يستوى فى النار عذاب أبى طالب وأبى لهب وأبى جهل وعقبة بن أبى معيط وأبى ابن خلف وأضرابهم؟

والمقصود أن هذه الطبقة وهى طبقة الرؤساءِ الدعاة الصادين عن دين الله ليست كطبقة من دونهم، وقد ثبت عن النبى ﷺ أنه قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب))، ومعلوم أن كفر أبى طالب لم يكن مثل كفر أبى جهل وأمثاله.

الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لنا نصب له أُولئك أنفسهم من السعى فى إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب.

وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث فى الإسلام.

وقد صح عن النبى ﷺ أنه قال: ((ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))، فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية، ولم يعتبر فى ذلك غير المربى والمنشإِ على ما عليه الأبوان.

وصح عنه أنه قال ﷺ: ((إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة))، وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف فى تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين.

وقد تقدم الكلام عليهم. والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاءَ به، فما لم يأْت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد.

فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله فى القرآن فى غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم وأنهم يتحاجون فى النار وأن الأتباع يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ، قَالَ لِكُلِّ ضِعْفٌ وَلِكِنْ لا تَعْلَمُونَ}* [الأعراف: 38]، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّار * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلّ فِيهَا إِن اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}* [غافر: 47-48]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجَعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الذين اسْتُضْعِفُوا لِلِّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ الَّذِينَ استكبروا للذين اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأمُرُونَنَا أن نَكْفُرِ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً}* [سبأ: 31- 33].

فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا فى العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئاً. وأصرح من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُا مِنَّا}* [البقرة: 166-167].

وصح عن النبى ﷺ أنه قال: ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئاً))، وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم.

نعم لا بد فى هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان فى الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذى لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. الثانى: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدى ونهاية معرفتى. والثانى: راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق: فالأَول كمن طلب الدين فى الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع فى طلبه عجزاً وجهلاً، والثانى كمن لم يطلبه، بل مات فى شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض.

فتأمل هذا الموضع، والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به فى جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.

هذا فى الجملة والتعيين موكول إلى علم الله [عز وجل] وحكمه هذا فى أحكام الثواب والعقاب. وأما فى أحكام الدنيا [فهى جارية مع ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار فى أحكام الدنيا] لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال فى المسألة. وهو مبنى على أربعة أُصول:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نبعث رَسُولاً}* [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}* [النساء: 165]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَلْقِى فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزْنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ}* [الملك: 8- 9]، وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}* [الملك: 11]، وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} * [الأنعام: 130]، وهذا كثير فى القرآن، يخبر أنه إنما يعذّب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذى يعترف بذنبه، وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}* [الزخرف: 76]، والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول أو تمكن من معرفته، وأما من لم [يكن عنده من الرسول خبراً أصلاً ولا يمكن من معرفته بوجه] وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟

الأصل الثانى: أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم [إرادة العلم] بها وبموجبها. الثانى: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض والثانى كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذى نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.

الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار فى زمان دون زمان وفى بقعة وناحية دون أُخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون وإما لعدم فهمه كالذى لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذى لا يسمع شيئاً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم فى حديث الأسود وأبى هريرة وغيرهما.

الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التى لا يخل بها [سبحانه]، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة. وهذا الأصل هو أساس الكلام فى هذه الطبقات [الذى عليه نبنى مع تلقى أحكامها من نصوص التكاب والسنة لا من أراء الرجال وعقولهم ولا يدرى عدد الكلام فى هذه الطبقات]، إلا من عرف ما فى كتب الناس ووقف على أقوال الطوائف فى هذا الباب والنهى إلى غاية مراتبهم ونهاية إقدامهم، والله الموفق للسداد الهادى إلى الرشاد.

وأما من لم يثبت حكمة ولا تعليلاً، ورد الأمر إلى محض المشيئة التى ترجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلها تحت قوله: {لا يَسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}* [الأنبياء: 23]، وهو الفعال لما يريد، وصدق الله وهو أصدق القائلين: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}* [الأنبياء: 23] لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياءَ مواضعها، وأنه ليس فى أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يسأل عنه كما يسأل المخلوق، وهو الفعال لما يريد ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما [هو] خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغنى الحميد العليم الحكيم.

الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن، وقد اتفق المسلمون على أن منهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. قال تعالى إخباراً عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقِ قِدَداً}* [الجن: 11] قال مجاهد: يعنون مسلمين وكافرين.

وقال الحسن والسدى: أمثالكم، فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة. وقال سعيد ابن جبير: ألوانا شتى. وقال ابن كيسان: شيعاً وفرقاً. ومعنى الكلام: أصنافاً مختلفة ومذاهب متفرقة، ثم قيل فى إعراب الآية: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [أى ومنا] قوم دون ذلك، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}* [الصافات: 164]، أى إلا من له مقام معلوم، وكقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}* [المائدة: 41]، أى فريق سماعون، وكقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلَمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}* [النساء: 46] أى فريق يحرفون وكقوله على أظهر القولين: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}* [البقرة: 96] أى فريق يود أحدهم، وقال الشاعر:

فظلوا ومنهم دمعه سابق لهم وآخر يذرى دمعة العين بالمهل

أى ومنهم من دمعه. وقولهم: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً}* [الجن: 11] بيان لقولهم: {مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}* [الجن: 11] أى كنا ذوى طرائق- وهى المذاهب- وأحدها طريقة وهى المذهب، والقدد جمع قدة، كقطعة وقطع وزناً ومعنى. وهى من القد وهو القطع وقيل: كنا فى اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة فى اختلافها، وعلى هذا فالمعنى كنا طرائق قدداً وليس بشيء، وأضعف منه قول من قال: إن طرائق منصوب على الظرف، أى كنا فى طرق مختلفة كقوله: ((عسل الطريق الثعلب))، وهذا مما لا يحمل عليه أفصح الكلام.

وقيل: المعنى كانت طرائقنا طرائق قدداً فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقال تعالى إخباراً عنهم:{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّاالْقَاسِطُونَ}* [الجن:49] فالمسلمون الذين آمنوا بالله ورسوله منهم، والقاسطون الجائرون العادلون عن الحق، قال ابن عباس: هم الذين جعلوا لله أنداداً، يقال أقسط الرجل إذا عدل، فهو مقسط. ومنها: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}* [الحجرات:9]، وقسط إذا جار فهو قاسط، {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهنَّمَ حَطَباً}* [الجن: 15]، قد تضمنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفار.

وهذه الطبقات بإزاءِ طبقات بنى دم فإنها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون وكفار. فالصحالون بإزاء والأبرار]، ومن دونهم بإزاءِ المقتصدين والقاسطون بإزاءِ الكفار. وهذا كما قسم سبحانه بنى إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة فى قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِى الأَرْضِ أُمَّماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ}* [الأعراف: 168]، فهؤلاءِ الناجون منهم، من ذكر الظالمين، وهم خلف السوءِ الذين خلفوا بعدهم، ولما كان الإنس أكمل من الجن وأتم عقولاً ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أُخر ليس شيء منها للجن، وهم: الرسل، والأنبياءُ والمقربون. فليس فى الجن صنف من هؤلاءِ، بل حيلتهم الصلاح: وذهب شذاذ من الناس إلى أن فيهم الرسل والأنبياءَ محتجين على ذلك بقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنَّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}* [الأنعام: 130]، وبقوله: {وَإِذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} إلى قوله: {مُنْذِرِينَ}* [الأحقاف: 29]، وقد قال الله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}* [النساء: 165]، وهذا قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعرف به سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ}* [الأنعام: 130]، لا يدل على أن الرسل من كل واحدة من الطائفتين، بل إذا كانت الرسل من الإنس وقد أُمرت الجن باتباعهم [صح أن يقال للإنس والجن: ألم يأتكم رسل منكم ونظير هذا] أن يقال للعرب والعجم: ألم يجئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم؟ فهذا لا يقتضى أن يكون من هؤلاءِ رسل ومن هؤلاء.

وقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً}* [نوح: 16]، وليس فى كل سماءٍ قمر. وقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، فالإنذار أعم من الرسالة والأعم لا يستلزم الأخص، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَر مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مَنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}* [التوبة: 122]، فهؤلاءِ نذر وليسوا برسل. قال غير واحد من السلف: الرسل من الإنس، وأما الجن ففيهم النذر. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي}* [يوسف:109]، فهذا يدل على أنه لم يرسل جنياً ولا امرأة ولا بدوياً، وأما تسميته تعالى الجن رجالاً فى قوله:

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرَجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}* [الجن:6]، فلم [يطبق] عليهم الرجال، بل هى تسمية مقيدة بقوله: {مِنَ الْجِنِّ} فهم رجال من الجن ولا يستلزم ذلك دخولهم

فى الرجال عند الإطلاق كما تقول: رجال من حجارة، ورجال من خشب ونحوه.




فصل

وقد اتفق المسلمون على أن كفار الجن فى النار وقد دلَّ على ذلك القرآن فى غير موضع كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}* [السجدة: 13]، وقوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}* [ص:85] الآية، فملؤها منه به وبكفار ذريته. وقال تعالى: {ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِى النَّارِ}* [الأعراف: 38]. وقال تعالى فى حكاية عن مؤمنهم: {وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ} إلى قوله: {حَطَباً}* [الجن: 14-15]، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِن الجن والإنس}* [الأعراف: 179] وقال تعالى: { فكبكبِوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُون وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ وجنوده إن لم يختص بالشياطين فهم داخلون فى عمومه.

وبالجملة فهذا أمر معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجن بشرائع الأنبياءِ ووجوب اتباعهم لهم. فأما شريعتنا فأجمع المسلمون على أن محمداً ﷺ بعث إلى الجن والإنس، وأنه يجب على الجن طاعته، كما يجب على الإنس، وأما قبل نبينا ﷺ فقوله تعالى: { ادْخُلُوا فِى أممٍ قَدْ خَلَت مِن قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ يدل على الأمم الخالية من كفار الجن فى النار، وذلك إنما يكون بعد إقامة الحجة عليهم بالرسالة.

وقد دلت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلف الإنس، ولهذا يقول فى إثر كل آية: {فَبِأَى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فدلَّ ذلك على أن السورة خطاب للثقلين معاً، ولهذا قرأها رسول الله ﷺ على الجن قراءَة تبليغ وأخبر أصحابه أنهم كانوا أحسن رداً منهم، فإنهم جعلوا يقولون كلما قرأَ عليهم: {فَبأْى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: لا نكذب بشيء من آلائك ربنا فلك الحمد.

ولما كان أبوهم هو أول من دعا إلى معصية الله، وعلى يده حصل كل كفر وفسوق وعصيان فهو الداعى إلى النار، وكان أول من يكسى حلة من النار يوم القيامة يسحبها وينادى ((واثبوراه))، فأتباعه من أولاده وغيرهم خلفه ينادون ((واثبوراهم)) حتى قيل: إن كل عذاب يقسم على أهل النار يبدأ به فيه، ثم يصير إليهم.




فصل

وأما حكم مؤمنيهم فى الدار الآخرة، فجمهور السلف والخلف على أنهم فى الجنة. وترجم على ذلك البخارى فى صحيحه فقال: ((باب ثواب الجن وعقابهم)) لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى}* [الأنعام: 130] الآية. بخساً نقصاً، قال مجاهد: وَجَعلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنّةِ نَسَباً . قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، وأُمهاتهم بنات سروات الجن. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضِرُونَ}* [الصافات: 158] ستحضر للحساب.

ثم ذكر حديث أبى سعيد: ((إذا كنت فى غنمك أو باديتك فأَذَّنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداءِ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة))، سمعته من رسول الله ﷺ، هذا ما ذكره فى الباب.

وقد ذهب جمهور الناس إلى أن مؤمنيهم فى الجنة وحكى عن أبى حنيفة وغيره أن ثوابهم نجاتهم من النار. واحتج لهذا بقوله تعالى حكاية عنهم:

{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِى اللهِ}* [الأحقاف: 31] الآية، فجعل غاية ثوابهم إجارتهم من العذاب الأليم.

وأما الجمهور فقالوا: مؤمنهم فى الجنة كما أن كافرهم فى النار، ثم اختلفوا فأطلق أكثر الناس دخول الجنة ولم يقيدوه. وقال سهل بن عبد الله: يكونون فى ربض الجنة يراهم المؤمنون من حيث لا يرونهم. فهذه مذاهب الناس فى أحكامهم فى الآخرة، وأما أحكامهم فى الدنيا فاختلف الناس: هل هم مكلفون بالأمر والنهى، أم هم مضطرون على أفعالهم؟ على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعرى فى كتاب ((المقالات)) له فقال: واختلف الناس فى الجن، هل هم مكلفون، أم مضطرون؟ فقال قائلون من المعتزلة وغيرهم: هم مأْمورون منهيون وقد أُمروا ونهوا، وهم مختارون، وزعم زاعمون أنهم مضطرون.

قلت: الصواب الذى عليه جمهور أهل الإسلام أنهم مأْمورون منهيون مكلفون بالشريعة الإسلامية، أدلة القرآن والسنة على ذلك أكثر من أن تحصر.

فإضافة هذا القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال: ذهبت المعتزلة إلى بمعاد الأبدان ونحو ذلك، فما هو من أقوال سائر أهل الإسلام. وقال الله تعالى:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ}* [الأحقاف: 18] فأخبر أن منهم من حق عليه القول أى وجب عليه العذاب وأنه خاسر ولا يكون ذلك إلا فى أهل التكليف المستوجبين العقاب بأعمالهم.

ثم قال بعد ذلك: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}* [الأحقاف: 19] أى فى الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئاً من أعمالهم، وهذا ظاهر جداً فى ثوابهم وعقابهم، وأن مسيئتهم كما يستحق العذاب بإساءَته فمحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه، ولكل درجات مما عملوا فدل ذلك لا محالة أنهم كانوا مأْمورين بالشرائع، متعبدين بها فى الدنيا، ولذلك استحقوا الدرجات بأعمالهم فى الآخرة فى الخير والشر، وقال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لهُمْ قرناء فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيَهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ وحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ..} الآية [فصلت:25]، ومعنى الآية: إن الله قيض للمشركين- أى سبب لهم- قرناءَ من الشياطين يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب، وقيل عكس هذا، وأن ما بين أيديهم هو ترغيبهم فى الدنيا وحرصهم عليها، وما خلفهم هو [التكذيب بالآخرة وقال الحسن: ما بين أيديهم هو] حب ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده.

وفى الآية قول رابع وهو أن التزيين كله راجع إلى أَعمالهم فزينوا لهم ما بين أيديهم: أعمالهم التى عملوها، وما خلفهم: الأعمال التى هم عازمون عليها ولما يعملوها بعد، وكأَن لفظ التزيين بهذا القول أليق. ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار، أى زينوا لهم التكذيب بالآخرة ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر فإنهم زينوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها.

ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتى لم يذكر البغوى غيره، وحكاه عن الزجاج، فقال الزجاج: سببنا لهم قرناءَ نظراءَ من الشياطين حتى أضلوهم فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروا على الآخرة، وما خلفهم من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث.

والمقصود أن قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهُم الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}* [فصلت: 25]، أى وجب عليهم العذاب مع أُمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس، ففى هذا أبين دليل على تكليف الثقلين وتعلق الأمر والنهى بهم، وكذلك تعلق الثواب والعقاب بهم، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الجِّنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنْسِ وَقَالَ أُوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} إلى قوله تعالى: {إِلا مَا شَاء اللهُ}* [الأنعام: 128]، وهذا صريح فى تكليفهم، فإن هذا القول [يقال] للجن فى القيامة، فيذكر الإنس استمتاع بعضهم ببعض فى الدنيا، وذلك الاستمتاع هو ما بين الجن والإنس من طاعتهم إياهم فى معصية الله، وعبادتهم لهم دون الله، ليستعينوا بهم على شهواتهم وأغراضهم فإنهم كانوا يستوحونهم ويعوذون بهم ويذبحون لهم وبأَسمائهم ويوالونهم من دون الله كما هو شأْن أكثر المشركين من أَولياءِ الشيطان.

فهذا هو استمتاع بعضهم ببعض، ولهذا يقول تعالى للملائكة يوم القيامة- وقد جمع العابدين والمعبودين-: {أَهُؤَلاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ؟ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُون الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون}* [سبأ: 40 -41] فهؤلاء عباد الجن وأولياءُ الشياطين.

وأكثرهم يعلم ويرضى به لما ينال به من المتعة بمعبوده. وكثير منهم ملبوس عليه، فهو يعبد الشيطان ولا يشعر. وقد أشار زيد بن عمرو بن نفيل فى شعره إلى هذا الشرك بالجن فقال:

حنانيك إن الجن كانت رجاؤهم وأنت إِلهى ربنا ورجاؤنا

ولهذا يقولون فى القيامة: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} * [الأنعام: 128] قال الله تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ الله}* [الأنعام: 128] فهذا خطاب للصنفين، وهو صريح فى اشتراكهم فى التكليف، كما هو صريح فى اشتراكهم فى العذاب. وهو كثير فى القرآن.

ومما يدل على تكليفهم أيضاً قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى}* إلى قوله تعالى: {كَافِرِينَ}* [الأنعام: 130]، فلما اعترفوا بأنهم كانوا كافرين، وشهدوا على أنفسهم بالكفر دل ذلك على تكليفهم وتوجه الخطاب إليهم.

وقال تعالى: {وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} إلى قوله: {أُولَئِكَ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ }* [ الأحقاف:29-32]، فهذا يدل على تكليفهم من وجوه متعددة:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به ويأتْمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه.

الثانى: أنهم ولوا إلى قومهم منذرين والإنذار هو الإعلام بالخوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنهم منذرون لهم بالنار إن عصوا الرسول.

الثالث: أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن وعقلوه وفهموه وأنه يهدى إلى الحق، وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه، وأن القرآن مصدق له وأنه هاد إلى صراط مستقيم.

وهذا يدل على تمكينهم من العلم الذى تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه والتكليف إنما يستلزم [ العقل] والقدرة.

الرابع: إنهم قالوا لقومهم: {يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِى اللهِ وَآمِنُوا بِهِ }* [الأحقاف:31] وهذا صريح فى أنهم مكلفون مأْمورون بإجابة الرسول، وهى تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر.

الخامس: أنهم قالوا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِن ذُنُوبِكُمْ} والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب وهو مخالفة الأمر.

السادس: أنهم قالوا: {مِن ذُنُوبِكُمْ } والذنب مخالفة الأمر.

السابع: أنهم قالوا: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، وهذا يدل على أن من لم يستجب منهم لداعى الله لم يجره من العذاب الأليم. وهذا صريح فى تعلق الشريعة الإسلامية بهم.

الثامن: أنهم قالوا: {وَمَن لا يُجِبْ دَاعِى اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ }* [الأحقاف: 32]، وهذا تهديد لمن تخلف عن إجابة داعى الله منهم. وقد استدل بها على أنهم كانوا متعبدين بشريعة موسى كما هم متعبدون بشريعة محمد، وهذا ممكن والآية لا تستلزمه، ولكن قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ }* [ الأنعام: 130]، الآية تدل على أن الجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد ﷺ، والآيات المتقدمة تدل على ذلك أيضاً.

وعلى هذا فيكون اختصاص النبى ﷺ بالبعثة إلى الثقلين إلى جميعهم لا إلى بعضهم ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة، وأيضاً فقد قال تعالى عن نبيه سليمان: {وَمِنَ الْجِنِّ من يعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}* [سبأ: 12]، وهذا محض التكليف.

وقد تقدم قوله حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ}* إلى قوله تعالى: {لِجَهَنَّمَ حَطَباً}* [الجن: 14-15]، وقد صح أن رسول الله ﷺ قرأَ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فجعل لهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وكل بعرة علف لدوابهم ونهانا عن الاستنجاءِ بهم.

ولو لم يكن فى هذا إلا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}* [الإسراء: 15]- وقد أخبر أنه يعذب كفرة الجن- لكفى به حجة على أنهم مكلفون باتباع الرسل. ومما يدل على أنهم مأْمورن منهيون بشريعة الإسلام ما تضمنته سورة الرحمن، فإنه سبحانه وتعالى ذكر خلق النوعين فى قوله تعالى: { خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِن نَارٍ ثم خاطب النوعين بالخطاب المتضمن لاستدعاءِ الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بالآية، وترغيبهم فى وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديدهم بقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيهَا الثَّقَلانِ}* [الرحمن: 31]، وتخويفهم من عواقب ذنوبهم، وأنه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يعرف المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم والأقدام، ثم ذكر عقاب الصنفين وثوابهم.

وهذا كله تصريح فى أنهم هم المكلفون المأْمورون المنهيون المثابون المعاقبون.

وفى الترمذى من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: ((لقد قرأْتها على الجن ليلة الجن وكانوا أحسن مردوداً منكم: كنت كلما أتيت على آية: {فَبِأَى آلاءَ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)). وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمؤنة الخطاب، وعلمهم أنهم مقصودون به.

وقوله فى هذه السورة: {سَنَفْرُغُ لَكُمُ أَيُّهَا الثَّقَلان}* [الرحمن: 31] وعيد للصنفين المكلفين بالشرائع، قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها ومجيء الآخرة والجزاءُ فيها، والله سبحانه لا يشغله شيء عن شيء. والفراغ فى اللغة على وجهين: فراغ من الشغل، وفراغ بمعنى القصد.

وهو فى هذا الموضع بالمعنى الثانى، وهو قصد لمجازاتهم بأعمالهم يوم الجزاءِ وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا}* [الرحمن: 33] فيها قولان: أحدهما إن استطعتم أن تنفذوا ما فى السموات والأرض علماً- أى أن تعلموا ما فيها- فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أى إلا ببينة من الله، وعلى هذا فالنفوذ [هاهنا] نفوذ علم الثقلين فى السموات والأرض، والثانى: إن اسطعتم أن تخرجوا عن قهر الله ومحل سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السموات والأرض وخروجكم عن محل حكم الله وسلطانه فافعلوا، ومعلوم أن هذا من الممتنع عليكم، فإنكم تحت سلطانى وفى محل ملكى وقدرتى أين كنتم. وقال الضحاك: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا عند الموت فاهربوا فإنه مدرككم. هذه الأقوال على أن يكون الخطاب لهم بهذا القول فى الدنيا.

وفى الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب فى الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً، كما قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّى أخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَاد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}* [غافر: 32-33]، قال مجاهد: فارّين غير معجزين، وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هرباً، فلا يأْتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذى كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}* [الحاقة: 17] ، وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِن اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفذُوا}* [الرحمن: 33] ، وهذا القول أظهر، والله أعلم.

فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين يقال لهم: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا}* [الرحمن: 33] أى إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم فافعلوا، وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول، فإن قبلها: {سَنَفْرُغُ}* [الرحمن: 31] الآية وهذا فى الآخرة، وبعدها: {فَإِذَا انشَقَّتِ السّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}* [الرحمن: 37] ، وهذا فى الآخرة.

وأيضاً فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن، فإنه أَتى فيه بصيغة العموم وهى قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ}* [الرحمن: 33] فلا بد أن يشترك الكل فى سماع هذا الخطاب ومضمونه.

وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله فى صعيد واحد يسمعهم الداعى وينفذهم البصر. وقال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ}* [الرحمن: 33] ولم يقل إن استطعتما، لإرادة الجماعة كما فى آية أُخرى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ}* [الأنعام: 130]، وقال تعالى: {يُرْسِلُ عَلَيْكُمَا}* [الرحمن: 35]، ولم يقل يرسل عليكم لإرادة الصنفين أى لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً.

وهذا وإن كان مراداً بقوله تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} [الرحمن: 33] فخطاب الجماعة فى ذلك بلفظ الجمع أحسن، أى من استطاع منكم.

وحسن الخطاب بالتثنية فى قوله تعالى: {عَلَيْكُمَا}* [الرحمن: 35] أَمر آخر. وهو موافقة رؤوس الآى، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين فى العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما والله أعلم.

قال ابن عباس: الشواط اللهب الذى لا دخان فيه والنحاس الدخان الذى لا لهب فيه. وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌ}* [الرحمن: 39] فأضاف الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنهما سوياً فى التكليف.

@ واختلف فى هذا السؤال المنفى، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف لا يسأَلون حينئذ ويسأَلون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم ويريحهم من [مقابلهم] ذلك. وقيل: المنفى سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة، أى قد علم الله ذنوبهم فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها، وإنما يحاسبهم عليها.




فصل

فإذا علم تكليفهم بشرائع الأنبياءِ ومطالبتهم بها وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب، علم أن محسنهم فى الجنة كما أن مسيئهم فى النار، وقد دل على ذلك قوله تعالى حكاية عن مؤمنهم: {وَأَنَا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ الآية}* [الجن: 13]، وبهذه الحجة احتج البخارى.

ووجه الاحتجاج بها أن البخس المنفى هو نقصان الثواب، والرهق الزيادة فى العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزداد فى سيئاته. ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِن الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً}* [طه: 112] أى لا يخاف زيادة سيئاته ولا نقصان حسناته. وأيضاً فقد قال تعالى فى سورة الرحمن: {وَلِمَن خَافَ مَقَام رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبانِ}* [الرحمن: 46]، وذكر ما فى الجنتين إلى قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَان}* [الرحمن: 56]، وهذا يدل على أن ثواب محسنهم الجنة من وجوه:

أحدها: أن ((منْ)) صيغ العموم، فتتناول كل خائف.

الثانى: أنه رتب الجزاءَ المذكور على خوف مقامه، فدل على استحقاقه به. وقد اختلف فى إضافة المقام إلى الرب هل هى من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله؟ على قولين: أحدهما: أن المعنى ولمن خاف مقامه بين يدى ربه، فعلى هذا هو من إضافة المصدر إلى المفعول، والثانى: أن المعنى ولمن خاف مقام ربه عليه واطلاعه عليه، فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك القولان فى قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوِى}* [النازعات: 40]، ونظيره قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ}* [إبراهيم: 14]، فهذه ثلاثة مواضع.

وقد يقال: الراجح هو الأول، وأن المعنى خاف مقامه بين يدى ربه لوجوه، أحدها: أن طريقة القرآن فى التخويف أن يخوفهم بالله وباليوم الآخر، فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم كقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُون}* [آل عمران: 175]، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمنْ خَشِى رَبَّهُ}* [البينة: 8]، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبّهُم مِن فَوْقِهِمْ}* [النحل: 50]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}*

[الملك: 12]، ففى هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنما مدحهم بخوفه وخشيته. وقد يذكر الخوف متعلقاً بعذابه كقوله تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}* [الإسراء: 57]، وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن.

الثانى: أن هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}* [الأنعام: 51]، فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

الثالث: أن خوف مقام العبد بين يدى ربه فى الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت. وهذا هو الذى يستحق الجنتين المذكورتين، فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذى جاءَت به الرسل.

وأما مقام الله على عبده فى الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه فهذا يقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر وأكثر الكفار يخافون جزاءَ الله لهم فى الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه والمحسن بإحسانه، وأما مقام العبد بين يدى ربه فى الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل.

فإن قيل: إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه فى الآخرة بالجزاءِ فقد استوى التقديران، فمن أين رجحتم أحدهما؟ قيل: التخويف بمقام العبد بين يدى ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد، ولهذا خوفنا تعالى فى قوله: {يَوْمَ يَقُومَ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين}* [المطففين: 6]، ولأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله وذلك فى يوم القيامة، بخلاف مقام الله على العبد فإنه كل وقت. وأيضاً فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام الله، ولا هذا من المأْلوف إطلاقه على الرب.

وأيضاً فإن المقام فى القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}* [الإسراء: 79]، وقوله تعالى:




{كَمْ ترَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوع ٍوَمَقَامٍ كَرِيمٍ}* [الدخان: 25- 26]، وقوله تعالى: {خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ ندِياً}* [مريم: 73]، والمقصود أن قوله تعالى: { وَلِمَنْ خافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَتَانِ يتناول الصنفين من وجوه تقدم منها وجهان:

الثالث: قوله عقيب هذا الوعد: {فَبِأَى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}* [الرحمن].

الرابع: أنه ذكر فى وصف نسائهم أنهن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} * [الرحمن: 56] وهذا والله أعلم معناه أنه لم يطمث نساءَ الإنس إنس قبلهم ولا نساءَ الجن جن قبلهم.

ومما يدل على أن ثوابهم الجنة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسنَ عَمَلاً * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}* [الكهف: 30- 31]، وأمثال هذه من العمومات.

وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون فى العموم، كما أن كافرهم يدخل فى الكافرين المستحقين للوعيد ودخول مؤمنهم فى آيات الوعد أولى من دخول كافرهم فى آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهى تغلب غضبه.




وأيضاً فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله أُدخل الجنة، وأيضاً فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه.

وأيضاً فقد ثبت أنهم إذا أجابوا داعى الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر له دخل الجنة ولا بد، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار، وأيضاً فإنه قد ثبت [أن الرسول مبعوث إليهم وأنهم مكلفون باتباعه وأن مطيعهم لله] ورسوله مع الذين أنعم الله عليهم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُطَعَ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}* [النساء: 69]، وقد أخبر سبحانه عن ملائكته حملة العرش ومن حولهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا وأنهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبعُوا سبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحِيمَ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَهُمْ}* [غافر: 7- 8]، فدل على أن كل مؤمن غفر الله له ووقاه عذاب الجحيم، فقد وعده الجنة. وقد ثبت فى حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم، فتعين دخولهم الجنة، والله أعلم.

وإذا ثبت تكليفهم بانقسامهم إلى المسلمين والكفار والصالحين ودون ذلك، فهم فى الموازنة على نحو طبقات الإنس المتقدمة، إلا أنهم ليس فيهم رسول. وأفضل درجاتهم درجة الصالحين، ولو كان لهم درجة أفضل منها لذكروها.

فقد دل القرآن على انقسامهم إلى ثلاثة أقسام: صالحين، ودونهم، وكفار. وزاد عليهم الإنس بدرجة الرسالة والنبوة، ودرجة المقربين، والله أعلم.

فهذا ما وصل إليه الإحصاءُ من طبقات المكلفين فى الدار الآخرة، وهى ثمان عشرة طبقة، وكل طبقة منها لها أَعلى وأدنى ووسط. وهم درجات عند الله، والله تعالى يحشر الشكل مع شكله والنظير مع نظيره ويقرن بينهما فى الدرجة.

قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ}* [الصافات: 22]، قال الإمام أحمد وقبله عمر بن الخطاب: ((أزواجهم)) أشباههم ونظراؤهم.

وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}* [التكوير: 7] روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية فقال: بقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء فى النار. وقال الحسن وقتادة: يلحق كل بشيعته، اليهودى باليهودى، والنصرانى بالنصرانى. وقال الربيع: يحشر الرجل مع صاحب عمله.

وفى الآية ثلاثة أقوال أُخر، أحدها: أن تزويج النفوس اقترانها بأجسادها وردها إليها. الثانى: تزويجها اقترانها بأعمالها. الثالث: أنه تزويج المؤمنين الحور العين، وتزويج الكفار بالشياطين.

والقول الأول أظهر الأقوال، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق