الأحد، 13 فبراير 2022

مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم /مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله/

مجموعة الرسائل والمسائل/مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله/مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم
مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم
محتويات

1 مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله
1.1 مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم عليه السلام
1.2 تكليم الله ومناداته وكون النداء صوتا والكلام حروفا
1.3 صفة الله ما قام بنفسه لا ما يخلقه في غيره، والطوائف المتنازعة في كلامه
1.4 مذهب الفلاسفة والمتكلمين في كلام الله وفي الخلق والتكوين
1.5 نظريات الفرق في القدم بالذات والزمان والحدوث والتسلسل
1.6 معنى الحدوث وإخبار الرسل بأن الله خلق كل شيء
1.7 تعارض نظريات الفلاسفة وتناقضهم
1.8 نقض نظريات الجهمية والمعتزلة والكلابية في صفة الكلام
1.9 بطلان قول الكلابية وغيرهم أن الله لا يتكلم بمشيئته
1.10 مذهب السلف في كلام الله القائم بذاته وتكليمه بالعربية وغيرها
1.11 فصل في سبب نزاع المتأخرين في الحروف التي في الكلام
1.12 الأقوال في قدم الحروف وخلقها وكلام الله وصفاته
1.13 فصل في أن إنزال الحروف على آدم من الإسرائيليات
1.14 لا يجوز الاعتماد على الإسرائيليات إلا ما ثبت بنص مرفوع متواتر
1.15 ما روي في نزول الحروف على آدم وتفسير "أبجد هوز" إلى آخره كذب باطل
1.16 جرح رواة حديث أبي جاد
1.17 التنازع في معنى أبجد هوز والصواب فيه
1.18 الحروف المفردة وأسماء الأعلام في القرآن وفي كلام الناس
1.19 ما أطلق على الله وعلى عباده من الصفات
1.20 اشتراك صفات الله وصفات عباده بالأسماء للضرورة
1.21 الحكم على الكلام الواحد باعتبار كونه كلام العبد أو كلام الرب
1.22 أصل مسمى الكلام "اللفظ مع المعنى، أم أحدهما باعتبار الآخر"؟
1.23 البحث في قدم الحروف وحدوثها والمراد منها وخطوطها
1.24 التفرقة بين كلام الرب وكلام العبد في أنفسها وفي النطق
 
مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله 
 
مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم عليه السلام
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه عن رجلين تجادلا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنهما قديمة ليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث. فقال الآخر ليست بكلام الله وهي مخلوقة بشكلها ونقطها، والقديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها، وسألا أيهما أصوب قولا وأصح اعتقادا؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أصل هذه المسألة هو معرفة كلام الله تعالى ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة، أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقا منفصلا عنه، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، فكلامه قائم بذاته، ليس مخلوقا بائنا عنه، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، لم يقل أحد من سلف الأمة أن كلام الله مخلوق بائن عنه، ولا قال أحد منهم أن القرآن أو التوراة أو الإنجيل لازمة لذاته أزلا وأبدا، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قالوا أن نفس ندائه لموسى أو نفس الكلمة المعينة قديمة أزلية، بل قالوا لم يزل الله متكلما إذا شاء فكلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء، وكلمات الله لا نهاية لها كما قال تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " والله سبحانه تكلم بالقرآن العربي وبالتوراة العبرية، فالقرآن العربي كلام الله، كما قال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - إلى قوله - لسان عربي مبين " فقد بين سبحانه أن القرآن الذي يبدل منه آية مكان آية نزله الروح القدس وهو جبريل - وهو الروح الأمين كما ذكر ذلك في موضع آخر - من الله بالحق، وبين بعد ذلك أن من الكفار من قال: " إنما يعلمه بشر " كما قال بعض المشركين يعلمه رجل بمكة أعجمي، فقال تعالى: " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " أي الذي يضيفون إليه هذا التعليم أعجمي " وهذا لسان عربي مبين " ففي هذا ما يدل على أن الآيات التي هي لسان عربي مبين نزلها روح القدس من الله بالحق كما قال في الآية الأخرى: " أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين " والكتاب الذي أنزل مفصلا هو القرآن العربي باتفاق الناس، وقد أخبر أن الذين أتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، والعلم لا يكون إلا حقا فقال " يعلمون " ولم يقل يقولون، فإن العلم لا يكون إلا حقا بخلاف القول، وذكر علمهم ذكر مستشهدا به، وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح - إلى قوله - حجة بعد الرسل " فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر، وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - إلى قوله - روح القدس ". وقال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " إلى آخر السورة، فقد بين سبحانه أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة، إما حيا وإما من وراء حجاب وإما أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، فجعل الوحي غير التكليم.
تكليم الله ومناداته وكون النداء صوتا والكلام حروفا
والتكليم من وراء حجاب كان لموسى، وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال: " وناديناه من جانب الطور " الآية. وقال: " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن " الآية، والنداء باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتا مسموعا، فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم، وأهل الكتاب يقولون إن موسى ناداه ربه نداء سمعه بأذنه وناداه بصوت سمعه موسى، والصوت لا يكون إلا كلاما والكلام لا يكون إلا حروفا منظومة، وقال قال تعالى: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقال: " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " وقال: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله.
صفة الله ما قام بنفسه لا ما يخلقه في غيره، والطوائف المتنازعة في كلامه
وهذا معنى قول السلف: منه بدأ، قال أحمد ابن حنبل رحمه الله: منه - أي هو المتكلم به، فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره فبدأ من ذلك المخلوق، فقال السلف: منه بدأ - أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاما لذلك المحل الذي خلقه فيه، فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين، فإذا خلق طعما أو لونا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتكون به، وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علما أو كليهما في محل كان ذلك المحل هو المريد القادر العالم المتكلم بذلك الكلام، ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين، وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات، لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات، فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني، ومن جعل كلامه مخلوقا لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " وهذا ممتنع لا يجوز أن يكون هذا كلاما إلا لرب العالمين، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقا بل كان ذلك لرب العالمين، وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل أن فلانا يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا ألف، فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، فقال: هذا كفر. فأنكر على من قال إن الحروف مخلوقة، لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقا وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة، مخالف للأدلة العقلية والسمعية، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
مذهب الفلاسفة والمتكلمين في كلام الله وفي الخلق والتكوين
والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعا كثيرا، والطوائف الكبار نحو ست فرق، فأبعدها عن الإسلام قول من يقول من المتفلسفة والصابئة أن كلام الله إنما هو ما يفيض على النفوس إما من العقل الفعال، وإما من غيره، وهؤلاء يقولون: إنما كلم الله موسى من سماء عقله أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج، وأصل قول هؤلاء أن الأفلاك قديمة أزلية، وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء، بل يقولون إن الله لا يعلم الجزئيات، فلما جاءت الأنبياء بما جاؤوا به من الأمور الباهرة جعلوا يتأولون ذلك تأويلات يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، ويريدون أن يجمعوا بينها وبين أقوال سلفهم الملاحدة، فقالوا مثل ذلك، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وهم كثيروا التناقض، كقولهم أن الصفة هي الموصوف، وهذه الصفة هي الأخرى فيقولون: هو عقل وعاقل ومعقول، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، وقد يعبرون عن ذلك بأنه حي عالم معلوم محب محبوب، ويقولون نفس العلم هو نفس المحبة، وهو نفس القدرة، ونفس العلم هو نفس العالم، ونفس المحبة هي نفس المحبوب، ويقولون إنه علة تامة في الأزل، فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدما عليها بالعلة لا بالزمان، ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان، فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة، ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان، ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئا بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير للحوادث المتعاقبة، بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم.
نظريات الفرق في القدم بالذات والزمان والحدوث والتسلسل
وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره، وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، والحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث، ولم يهتد الفريقان للقول الوسط، وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخيا عنه، كما قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ولا متراخيا عن تكوينه، كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخيا عنه ولا مقارنا له في الزمان.
والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى، فلزمهم أن الرب لا يمكنه فعل ذلك، فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلما بمشيئته، ويمتنع أن يكون لم يزل قادرا على الفعل والكلام بمشيئته، فافترقوا بعد ذلك، منهم من قال كلامه لا يكون إلا حادثا، لأن الكلام لا يكون إلا مقدورا مرادا، وما كان كذلك لا يكون إلا حادثا، وما كان حادثا كان مخلوقا منفصلا عنه لامتناع قيام الحوادث به وتسلسلها في ظنهم.
ومنهم من قال: بل كلامه لا يكون إلا قائما به، وما كان قائما به لم يكن متعلقا بمشيئته وإرادته، بل لا يكون إلا قديم العين، لأنه لو كان مقدورا مرادا لكان حادثا فكانت الحوادث تقوم به، ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها.
ومنهم من قال: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، لكنه يمتنع أن يكون متكلما في الأزل أو أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته، لأن ذلك يلتزم وجود حوادث لا أول لها، وذلك ممتنع.
قالت هذه الطوائف: ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث ولا تسبقها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث، ثم من هؤلاء من ظن أن هذه قضية ضرورية ولم يتفطن لإجمالها.
ومنهم من تفطن للفرق بين ما لم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة، وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئا بعد شيء، أما الأول فهو حادث بالضرورة لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث.
وأما جنس الحوادث شيئا بعد شيء تنازع فيه الناس، فقيل أن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم وأبي الهذيل، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار. وقال أبو الهذيل: بفناء حركات أهلهما، وقيل بل هو جائز في المستقبل دون الماضي لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، وهو قول كثير من طوائف النظار. وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل، وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلما إذا شاء، وإن كلمات الله لا نهاية لها وهي قائمة بذاته وهو متكلم بمشيئته وقدرته. وهو أيضا قول أئمة الفلاسفة، لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك ويقولون إنه قديم أزلي، وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء، فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض بل هو خالق كل شيء وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن. وأن القديم الأزلي هو الله تعالى بما هو متصف به من صفات الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه، بل من قال عبدت الله ودعوت الله فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها.
معنى الحدوث وإخبار الرسل بأن الله خلق كل شيء
ثم لما تكلم في النبوات من اتبع أرسطو كابن سينا وأمثاله ورأوا ما جاءت به الأنبياء من أخبارهم بأن الله يتكلم وأنه كلم موسى تكليما وأنه خالق كل شيء، أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه، فيقولون: الحدوث نوعان، ذاتي وزماني، ونحن نقول أن الفلك محدث الحدوث الزماني بمعنى أنه معلول وإن كان أزليا لم يزل مع الله، وقالوا: إنه مخلوق بهذا الاعتبار، والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون في أيام.
تعارض نظريات الفلاسفة وتناقضهم
وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق وأحدثه بعد أن لم يكن كما قال: " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " والعقول الصريحة توافق ذلك وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده، وإن الفعل لا يكون إلا بإحداث المفعول، وقالوا لهؤلاء قولكم: " إنه مؤثر تام في الأزل " لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء، ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء، ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره، فإن أردتم الأول لزم أن لا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة، وإن أردتم الثاني لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقا حادثا كائنا بعد أن لم يكن، وإن كان الرب لم يزل متكلما بمشيئته فعالا لما يشاء، وهذا يناقض قولكم ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح، فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء، وإن أردتم الثالث فسد قولكم لأنه يستلزم أنه يشاء حدوثها بعد أن لم يكن فاعلا لها من غير تجدد سبب يوجب الأحداث، وهذا يناقض قولكم، فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثا لشيء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين، وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء، ويلزمكم أن كل ما حدث حدث بدون مؤثر، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر، وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام وبعضها يتراخى عنه.
وأيضا فكونه فاعلا لمفعول معين مقارن له أزلا وأبدا في صريح العقل، وأيضا فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب والضروري الممتنع لا يكون إلا موجودا تارة ومعدوما أخرى، وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضروريا واجبا يمتنع عدمه، وهذا مما اتفق عليه أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا، وذكره في كتبه المشهورة كالشفاء وغيره، ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديما أزليا ولا يزال، وزعم أن الواجب بغيره القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم، وزعم أنه له ماهية غير وجوده، وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع.
نقض نظريات الجهمية والمعتزلة والكلابية في صفة الكلام
والقول الثاني للناس في كلام الله تعالى قول من يقول إن الله لم يقم به صفة من الصفات، لا حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة ولا رحمة ولا غضب ولا غير ذلك، بل خلق كلاما في غيره فذلك المخلوق هو كلامه، وهذا قول الجهمية والمعتزلة. وهذا القول أيضا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو مناقض لأقوال الأنبياء ونصوصهم، وليس مع هؤلاء عن الأنبياء قول يوافق قولهم، بل لهم شبه عقلية فاسدة قد بينا فسادها في غير هذا الموضع، وهؤلاء زعموا أنهم يقيمون الدليل على حدوث العالم بتلك الحجج، وهم لا الإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا.
والقول الثالث، قول من يقول: إنه يتكلم بغير مشيئته وقدرته بكلام قائم بذاته أزلا وأبدا، وهؤلاء موافقون لمن قبلهم في أصل قولهم، لكن قالوا الرب يقوم به الصفات ولا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الصفات الاختيارية.
وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق موافقوه، فمنهم من قال ذلك الكلام معنى واحد هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وقالوا معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، وقالوا الأمر والنهي والخبر صفات الكلام لا أنواع له، ومن محققيهم من جعل المعنى يعود إلى الخبر والخبر يعود إلى العلم.
بطلان قول الكلابية وغيرهم أن الله لا يتكلم بمشيئته
وجمهور العقلاء يقولون قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة، وهؤلاء يقولون تكليمه لموسى ليس إلا خلق إدراك يفهم به موسى ذلك المعنى، فقيل لهم: أفهم كل الكلام أم بعضه؟ إن كان فهمه كله فقد علم علم الله، وإن كان فهم بعضه فقد تبعض، وعندهم كلام الله لا يتبعض ولا يتعدد، وقيل لهم: لقد فرق الله بين تكليمه لموسى وإيحائه لغيره، وعلى أصلكم لا فرق، وقيل لهم: قد كفر الله من جعل القرآن العربي قول البشر، وقد جعله تارة قول رسول من البشر، وتارة قول رسول من الملائكة، فقال في موضع: " إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون " فهذا الرسول محمد ﷺ، وقال في الآية الأخرى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فهذا جبريل، فأضافه تارة إلى الرسول الملكي وتارة إلى الرسول البشري، والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، وكان بعض هؤلاء ادعى أن القرآن العربي أحدثه جبريل أو محمد فقيل لهم: لو أحدثه أحدهما لم يجز إضافته إلى الآخر، وهو سبحانه إضافة إلى كل منهما باسم الرسول الدال على مرسله لا باسم الملك والنبي، فدل على ذلك على أنه قول رسول بلغه عن مرسله لا قول ملك أو نبي أحدثه من تلقاء نفسه، بل قد كفر من قال إنه قول البشر.
والطائفة الأخرى التي وافقت ابن كلاب على أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته قالت بل الكلام القديم هو حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب أزلا وأبدا لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بها شيئا بعد شيء، ولا يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام وبين عين الحروف قديمة أزلية، وهذا أيضا مما يقول جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة، فإن الحروف المتعاقبة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون كل منها قديما أزليا وإن كان جنسها قديما، لإمكان وجود كلمات لا نهاية لها وحروف متعاقبة لا نهاية لها، وامتناع كون كل منها قديما أزليا، فإن المسبوق بغيره لا يكون أزليا، وقد فرق بعضهم بين وجودها وماهيتها فقال: الترتيب في ماهيتها لا في وجودها، وبطلان هذا القول معلوم بالاضطرار لمن تدبره، فإن ماهية الكلام هو حروف لا يكون شيئا بعد شيء، والصوت لا يكون إلا شيئا بعد شيء، فامتنع أن يكون وجود الماهية المعينة أزليا متقدما عليها به، مع أن الفرق بينهما بين لو قدر الفرق بينهما، ويلزم من هذين الوجهين أن يكون وجودها أيضا مترتبا متعاقبا.
ثم من هؤلاء من يزعم أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن والتوراة والإنجيل أو بعض ذلك، وكان أظهر فسادا مما قبله، فإنه يعلم بالضرورة حدوث أصوات العباد.
وطائفة خامسة قالت: بل الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره لكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أولها، وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته ولا على الفعل كما فعله أولئك. ثم جعلوا الفعل والكلام ممكنا مقدورا من غير تجدد شيء، أوجب القدرة والإمكان كما قال أولئك في المفعولات المنفصلة.
مذهب السلف في كلام الله القائم بذاته وتكليمه بالعربية وغيرها
وأما السلف فقالوا: لم يزل الله متكلما إذا شاء، وإن الكلام صفة كمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته ممن يكون الكلام لازما لذاته ليس عليه قدرة ولا له فيه مشيئته، والكمال إنما يكون بالصفات القائمة بالموصوف لا بالأمور المباينة له، ولا يكون الموصوف متكلما عالما قادرا إلا بما يقوم به من الكلام والعلم والقدرة، وإذا كان كذلك فمن لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل ممن حدثت له بعد أن لم يكن متصفا بها لو كان حدوثها ممكنا، فكيف إذا كان ممتنعا؟ فتبين أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال، ومن أجلها الكلام، فلم يزل متكلما إذا شاء ولا يزال كذلك، وهو يتكلم إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن العربي، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقا منفصلا عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة لأن الله تكلم بها.
فصل في سبب نزاع المتأخرين في الحروف التي في الكلام
ثم تنازع بعض المتأخرين في الحروف الموجودة في كلام الآدميين، وسبب نزاعهم أمران: أحدهما أنهم لم يفرقوا بين الكلام الذي يتكلم الله به فيسمع منه، وبين ما إذا بلغه عنه مبلغ فسمع من ذلك المبلغ، فإن القرآن كلام الله تكلم به بلفظه ومعناه بصوت نفسه، فإذا قرأه القراء قرؤوه بأصوات أنفسهم. فإذا قال القارئ " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم " كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله لا كلام نفسه، وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، كما قال النبي ﷺ: " زينوا القرآن بأصواتكم " وكان يقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " وكلا الحديثين ثابت، فبين أن الكلام الذي بلغه كلام ربه وبين أن القارئ يقرأه بصوت نفسه، وقال ﷺ: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال أحمد والشافعي وغيرهما: هو تحسينه بالصوت، قال أحمد بن حنبل: يحسنه بصوته، فبين أن القارئ يحسن القرآن بصوته نفسه.
والسبب الثاني: أن السلف قالوا كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلما إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم، أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم أن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلا منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزليا قديما بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلما إذا شاء، فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض.
الأقوال في قدم الحروف وخلقها وكلام الله وصفاته
فمن قال: إن حروف المعجم كلها مخلوقة وأن الله تعالى مخالفا للمعقول الصريح، والمنقول الصحيح، ومن قال إن نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئا من ذلك قديم فقد خالف أيضا أقوال السلف، وكان فساد قوله ظاهرا لكل أحد، وكان مبتدعا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك، ومن قال إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين، فقد ابتدع قولا باطلا في الشرع والعقل، ومن قال إن جنس الحروف التي كلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة وأن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقا والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة فقد أصاب.
وإذا قال: إن الله هدى عباده وعلمهم البيان فأنطقهم بها باللغات المختلفة وأنعم عليهم بأن جعلهم ينطقون بالحروف التي هي مباني كتبه وكلامه وأسمائه فهذا قد أصاب، فالإنسان وجميع ما يقوم به من الأصوات والحركات وغيرها مخلوق كائن بعد أن لم يكن، والرب تعالى بما يقوم به من صفاته وكلماته وأفعاله غير مخلوق، والعباد إذا قرؤوا كلامه فإن كلامه الذي يقرؤونه هو كلامه لا كلام غيره، وكلامه الذي تكلم به لا يكون مخلوقا وكان ما يقرؤون به كلامه من حركاتهم وأصواتهم مخلوقا، وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوبا في المصاحف وكلامه غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق، وقد فرق سبحانه وتعالى بين كلامه وبين مداد كلماته بقوله تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " وكلمات الله غير مخلوقة والمداد الذي يكتب به كلمات الله مخلوق والقرآن المكتوب في المصاحف غير مخلوق، وكذلك المكتوب في اللوح المحفوظ وغيره قال تعالى: " بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ " وقال: " كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة ". وقال تعالى: " يتلو صحفنا مطهرة، فيها كتب قيمة " وقال: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون ".
فصل في أن إنزال الحروف على آدم من الإسرائيليات
فهذا المتنازعان اللذان تنازعا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنها قديمة وليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث. وقال الآخر: إنها ليست بكلام وإنها مخلوقة بشكلها ونقطها وإن القديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها، وسؤالهما أن نبين لهما الصواب وأيهما أصح اعتقادا؟
يقال لهما: يحتاج بيان الصواب إلى بيان ما في السؤال من الكلام المجمل، فإن كثيرا من نزاع العقلاء لكونهما لا يتصوران مورد النزاع تصورا بينا، وكثير من النزاع قد يكون الصواب فيه في قول آخر غير القولين اللذين قالاهما، وكثير من النزاع قد يكون مبنيا على أصل ضعيف إذا بين فساده ارتفع النزاع.
لا يجوز الاعتماد على الإسرائيليات إلا ما ثبت بنص مرفوع متواتر
فأول ما في هذا السؤال قولهما: الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فإنه قد ذكر بعضهم أن الله أنزل عليه حروف المعجم مفرقة مكتوبة، وهذا ذكره ابن قتيبة في المعارف وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبري ونحوه، وهذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين، مثل وهب بن منبه وكعب الأحبار، ومالك ابن دينار، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولا عن خاتم المرسلين، وأيضا فهذا النقل قد عارضه نقل آخر وهو أن من خط وخاط إدريس، فهذا منقول عن بعض السلف وهو مثل ذلك وأقوى، فقد ذكروا فيه إن إدريس أول من خاط الثياب وخط بالقلم، وعلى هذا فبنو آدم من قبل إدريس لم يكونوا يكتبون بالقلم ولا يقرؤون كتبا. والذي في حديث أبي ذر المعروف عن أبي ذر عن النبي ﷺ: " إن آدم كان نبيا مكلما كلمه الله قبلا " وليس فيه أنه أنزل عليه شيئا مكتوبا، فليس فيه أن الله أنزل على آدم صحيفة ولا كتابا ولا هذا معروف عند أهل الكتاب، فهذا يدل على أن هذا لا أصل له ولو كان هذا معروفا عند أهل الكتاب لكان هذا النقل ليس هو في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ وإنما هو من جنس الأحاديث الإسرائيلية التي لا يجب الإيمان بها، بل ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ".
والله سبحانه علم آدم الأسماء كلها وأنطقه بالكلام المنظوم، وأما تعليم حروف مقطعة لا سيما إذا كانت مكتوبة فهو تعليم لا ينفع، ولكم لما أرادوا تعليم المبتدئ بالخط صاروا يعلمونه الحروف المفردة حروف الهجاء، ثم يعلمونه تركيب بعضها إلى بعض فيعلم أبجد هوز، وليس هذا وحده كلاما.
ما روي في نزول الحروف على آدم وتفسير "أبجد هوز" إلى آخره كذب باطل
فهذا المنقول عن آدم من نزول حروف الهجاء عليه لم يثبت به نقل، ولم يدل عليه عقل، بل الأظهر في كليهما نفيه، وهو من جنس ما يروونه عن النبي ﷺ من تفسير ا ب ت ث، وتفسير أبجد هوز حطي، ويروونه عن المسيح أنه قال لمعلمه في الكتاب، وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة، ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب كالشريف المزيدي والشيخ أبي الفرج وابنه عبد الوهاب وغيرهم، وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين، فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين، وهذا وإن كان قد ذكره أبو بكر النقاش وغيره من المفسرين عن النقاش ونحوه، نقله الشريف المزيدي الحراني وغيره فأجل من ذكر ذلك من المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وقد بين في تفسيره أن كل ما نقل في ذلك عن النبي ﷺ فهو باطل، فذكر في آخر تفسيره اختلاف الناس في تفسير أبجد هوز حطي، وذكر حديثا رواه من طريق محمد بن زياد الجزري عن فرات ابن أبي الفرات عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: " تعلموا أبا جاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد " قال: قالوا يا رسول الله وما تفسيرها؟ قال: " أما الألف فآلاء الله وحرف من أسمائه، وأما الباء فبهاء الله، وأم الجيم فجلال الله، وأما الدال فدين الله، وأما الهاء فالهاوية، وأما الواو فويل لمن سها، وأما الزاي فالزاوية، وأما الحاء فحطوط الخطايا عن المستغفرين بالأسحار " وذكر تمام الحديث من هذا الجنس. وذكر حديثا ثانيا من حديث عبد الرحيم بن واقد حدثني الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: ليس شيء إلا وله سبب وليس كل أحد يفطن له ولا بلغه ذلك، إن لأبي جاد حديثا عجيبا، أما أبو جاد فأبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة، وأما هوز فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما حطي فحطت عنه خطيئته، وأما كلمن فأكله من الشجرة ومن عليه بالتوبة " وساق تمام الحديث من هذا الجنس. وذكر حديثا ثالثا من حديث إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر بن كدام عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: " إن عيسى بن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله، فقال له عيسى: وما بسم الله؟ فقال له المعلم: ما أدري. فقال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم ملكه، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة، أبو جاد ألف آلاء الله، وباء بهاء الله، وجيم جمال الله، ودال الله الدائم، وهوز هاء الهاوية " وذكر حديثا من هذا الجنس وذكره عن الربيع بن أنس موقوفا عليه. وروى أبو الفرج المقدسي عن الشريف المزيدي حديثا عن عمر عن النبي ﷺ في تفسير ا ب ت ث من هذا الجنس.
جرح رواة حديث أبي جاد
ثم قال ابن جرير: ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي ﷺ في ذلك صحاح الأسانيد لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها، وذلك أن محمد بن زياد الحزري الذي حدث حديث معاوية بن قرة عن فرات عنه غير موثوق بنقله، وأن عبد الرحيم بن واقد الذي خالفه في رواية ذلك عن الفرات مجهول غير معروف عند أهل النقل، وإن إسماعيل بن يحيى الذي حدث عن ابن أبي مليكة غير موثوق بروايته ولا جائز عند أهل النقل الاحتجاج بأخباره.
قلت: إسماعيل بن يحيى هذا يقال له التيمي كوفي معروف بالكذب، ورواية إسماعيل بن عياش في غير الشاميين لا يحتج بها، بل هو ضعيف فيما ينقله عن أهل الحجاز وأهل العراق بخلاف ما ينقله عن شيوخه الشاميين فإنه حافظ لحديث أهل بلده كثير الغلط في حديث أولئك، وهذا متفق عليه بين أهل العلم بالرجال، وعبد الرحمن بن واقد لا يحتج به باتفاق أهل العلم، وفرات بن السائب ضعيف أيضا لا يحتج به فهو فرات بن أبي الفرات، ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضا.
التنازع في معنى أبجد هوز والصواب فيه
وقد تنازع الناس في "أبجد هوز حطي.."، فقال طائفة: هي أسماء قوم، قيل: أسماء ملوك مدين أو أسماء قوم كانوا ملوكا جبابرة.
وقيل: هي أسماء الستة الأيام التي خلق الله فيها الدنيا، والأول اختيار الطبري، وزعم هؤلاء أن أصلها أبو جاد مثل أبي عاد وهواز مثل رواد وجواب، وأنها لم تعرب لعدم العقد والتركيب.
والصواب أن هذه ليست أسماء لمسميات وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم، ولفظها: أبجد، هوز، حطي. ليس لفظها أبو جاد هواز. ثم كثير من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحدا، والباء اثنين، والجيم ثلاثة، إلى الياء، ثم يقولون الكاف عشرون... وآخرون من أهل الهندسة والمنطق يجعلونها علامات على الخطوط المكتوبة، أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة كما يقولون كل ألف ب وكل ب ج فكل ألف ج. ومثلوا بهذه لكونها ألفاظا تدل على صورة الشكل. والقياس لا يختص بمادة دون مادة، كما جعل أهل التصريف لفظ فعل تقابل الحروف الأصلية، والزائدة ينطقون بها ويقولون وزن استخرج استفعل، وأهل العروض يزنون بألفاظ مؤلفة من ذلك لكن يراعون الوزن من غير اعتبار بالأصل والزائد ولهذا سئل بعض هؤلاء عن وزن نكتل فقال نفعل، وضحك منه أهل التصريف ووزنه عندهم نفتل فإن أصله نكتال، وأصل نكتال نكتيل تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم لما جزم الفعل سقطت، كما نقول مثل ذلك في نعتد ونقتد من اعتاد يعتاد واقتاد البعير يقتاده.
ونحو ذلك في "نقتيل" فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها وجعلت ثمانية تكون متحركة وهي الهمزة، وتكون ساكنة وهي حرفان على الاصطلاح الأول وحرف واحد على الثاني، والألف تقرن بالواو والياء لأنهن حروف العلة، ولهذا ذكرت في آخر حروف المعجم ونطقوا بأول لفظ كل حرف منها إلا الألف فلم يمكنهم أن ينطقوا بها ابتداء فجعلوا اللام قبلها فقالوا لا، والتي في الأول هي الهمزة المتحركة فإن الهمزة في أولها، وبعض الناس ينطق بها لام ألف، والصواب أن ينطق بها لا، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن العلم لا بد فيه من نقل مصدق ونظر محقق، وأما النقول الضعيفة لا سيما المكذوبة فلا يعتمد عليها، وكذلك النظريات الفاسدة والعقليات الجهلية الباطلة لا يحتج بها.
الحروف المفردة وأسماء الأعلام في القرآن وفي كلام الناس
الثاني: أن يقال هذه الحروف الموجودة في القرآن العربي قد تكلم الله بها بأسماء حروف مثل قوله " الم "، وقوله " المص " قوله " الم طس - حم - كهيعص - حمعسق - ن - ق " فهذا كله كلام الله غير مخلوق.
الثالث: أن هذه الحروف إذا وجدت في الكلام العباد، وكذلك الأسماء الموجودة في القرآن إذا وجدت في كلام العباد مثل آدم ونوح ومحمد وإبراهيم وغير ذلك، فيقال هذه الأسماء وهذه الحروف قد تكلم الله بها لكن لم يتكلم بها مفردة، فإن الاسم وحده ليس بكلام ولكن يتكلم بها في كلامه الذي أنزله في مثل قوله: " محمد رسول الله " وقوله: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا - إلى قوله - رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي " وقوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " ونحو ذلك ونحن إذا تكلمنا بكلام ذكرنا فيه هذه الأسماء فكلامنا مخلوق وحروف كلامنا مخلوقة، كما قال أحمد بن حنبل لرجل: ألست مخلوقا؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك منك؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك مخلوقا؟ قال: بلى، قال: فالله تعالى غير مخلوق، وكلامه منه ليس بمخلوق.
ما أطلق على الله وعلى عباده من الصفات
فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق وهم إنما يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله تعالى، لكن الله تعالى تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق، وصفات الله تعالى لا تماثل صفات العباد. فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة والصوت الذي سمعه منه موسى ليس كأصوات شيء من المخلوقات، والصوت المسموع هو حروف مؤلفة وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين، كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده، فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات، وهو سبحانه فقد علم العباد من علمه ما شاء كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقا ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة، لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقا، فلا يقال إن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقا.
اشتراك صفات الله وصفات عباده بالأسماء للضرورة
وأصل هذا أن ما يوصف الله به ويوصف به العباد يوصف الله به على ما يليق به ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك، مثل الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، فإن الله له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام، فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، والعبد له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام، وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه. فهذه الصفات لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر مضافة إلى الرب. وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب والعبد، فإذا قال العبد: حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك، فهذا كله غير مخلوق ولا يماثل صفات المخلوقين، وإذا قال علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد، فهذا كله مخلوق ولا يماثل صفات الرب، وإذا قال العلم والقدرة والكلام، فهذا مجمل مطلق لا يقال عليه أنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق، بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق، وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق، فالصفة تتبع الموصوف؛ فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق فصفاته مخلوقة، ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق، وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة، ولو قال الجنب: " الحمد لله رب العالمين " ينوي به القرآن منع من ذلك وكان قرآنا، ولو قاله ينوي به حمد الله لا يقصد به القراءة لم يكن قارئا وجاز ذلك، ومنه قول النبي ﷺ: " أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " رواه مسلم في صحيحه. فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن وقال هي من القرآن، فهي من القرآن باعتبار، وليست من القرآن باعتبار، ولو قال القائل: " يا يحيى خذ الكتاب " ومقصوده القرآن كان قد تكلم بكلام الله ولم تبطل صلاته باتفاق العلماء، وإن قصد مع ذلك تنبيه غيره لم تبطل صلاته عند جمهور العلماء، ولو قال لرجل اسمه يحيى وبحضرته كتاب: يا يحيى خذ الكتاب لكان هذا مخلوقا لأن لفظ يحيى هنا مراد به ذلك الشخص وبالكتاب ذلك الكتاب، ليس مرادا به ما أراده الله بقوله: " يا يحيى خذ الكتاب " والكلام كلام المخلوق بلفظه ومعناه.
الحكم على الكلام الواحد باعتبار كونه كلام العبد أو كلام الرب
وقد تنازع الناس في مسمى الكلام في الأصل، فقيل هو اسم اللفظ الدال على المعنى، وقيل المعنى المدلول عليه باللفظ، وقيل لكل منهما بطريق الاشتراك اللفظي، وقيل بل هو اسم عام لهما جميعا يتناولهما عند الإطلاق وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة وهذا تارة. هذا قول السلف وأئمة الفقهاء وإن كان هذا القول لا يعرف في كثير من الكتب، وهذا كما تنازع الناس في مسمى الإنسان هل هو الروح فقط أو الجسد فقط؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعا، وإن كان مع القرينة قد يراد به هذا تارة وهذا تارة، فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق، فمن سمى شخصا محمدا وإبراهيم، وقال: جاء محمد وجاء إبراهيم لم يكن هذا محمد وإبراهيم المذكورين في القرآن، ولو قال: محمد رسول الله، وإبراهيم خليل الله، يعني به خاتم الرسل وخليل الرحمن لكان قد تكلم بمحمد وإبراهيم الذي في القرآن لكن قد تكلم بالاسم وألفه كلامه فهو كلامه لم يتكلم به في القرآن العربي الذي تكلم الله به.
ومما يوضح ذلك أن الفقهاء قالوا في آداب الخلاء أنه لا يستصحب ما فيه ذكر الله واحتجوا بالحديث الذي في السنن: أن النبي ﷺ كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، وكان خاتمه مكتوبا عليه " محمد رسول الله " محمد سطر، رسول سطر، الله سطر. ولم يمنع أحد من العلماء أن يستصحب ما يكون فيه كلام العباد وحروف الهجاء مثل ورق الحساب الذي يكتب فيه أهل الديوان الحساب. ومثل الأوراق التي يكتب فيها الباعة ما يبيعونه ونحو ذلك، وفي السيرة أن النبي ﷺ لما صالح غطفان على نصف تمر المدينة أتاه سعد فقال له: أهذا شيء أمر الله به فسمعا وطاعة، أم شيء تفعله لمصلحتنا؟ فبين له النبي ﷺ أنه لم يفعل ذلك بوحي بل فعله باجتهاده فقال: " لقد كنا في الجاهلية وما كانوا يأكلون منها تمرة إلا بقرى أو بشراء، فلما أعزنا الله بالإسلام يريدون أن يأكلون تمرنا؟ لا يأكلون تمرة واحدة " وبصق سعد في الصحيفة وقطعها فأقره النبي ﷺ على ذلك ولم يقل هذه حروف، فلا يجوز إهانتها والبصاق فيها. وأيضا فقد كره السلف محو القرآن بالرجل ولم يكرهوا محو ما فيه كلام الآدميين.
أصل مسمى الكلام "اللفظ مع المعنى، أم أحدهما باعتبار الآخر"؟
وأما قول القائل: إن الحروف قديمة أو حروف المعجم قديمة فإن أراد جنسها فهذا صحيح، وإن أراد الحرف المعين فقد أخطأ فإن له مبدأ ومنتهى، وهو مسبوق بغيره، وما كان كذلك لم يكن إلا محدثا.
وأيضا فلفظ الحروف مجمل، يراد بالحروف الحروف المنطوقة المسموعة التي هي مباني الكلام، ويراد بها الحروف المكتوبة، ويراد بها الحروف المتخيلة في النفس، والصوت لا يكون كلاما إلا بالحروف باتفاق الناس. وأما الحروف فهل تكون كلاما بدون الصوت؟ فيه نزع. والحرف قد يراد به الصوت المقطع، وقد يراد به نهاية الصوت وحده، وقد يراد بالحروف المداد، وقد يراد بالحروف شكل المداد، فالحروف التي تكلم الله بها غير مخلوقة وإذا كتبت في المصحف قيل كلام الله المكتوب في المصحف غير مخلوق، وأما نفس أصوات العباد فمخلوقة والمداد مخلوق وشكل المداد مخلوق، فالمداد مخلوق بمادته وصورته، وكلام الله المكتوب بالمداد غير مخلوق، ومن كلام الله الحروف التي تكلم الله بها فإذا كتبت بالمداد لم تكن مخلوقة وكان المداد مخلوقا. وأشكال الحروف المكتوبة مما يختلف فيها اصطلاح الأمم.
البحث في قدم الحروف وحدوثها والمراد منها وخطوطها
والخط العربي قد قيل أن مبدأه كان من الأنبار ومنها انتقل إلى مكة وغيرها، والخط العربي تختلف صورته: العربي القديم فيه تكوف، وقد اصطلح المتأخرون على تغيير صوره، وأهل المغرب لهم اصطلاح ثالث حتى في نقط الحروف وترتيبها، وكلام الله المكتوب بهذه الخطوط كالقرآن العربي هو في نفسه لا يختلف باختلاف الخطوط التي يكتب بها.
فإن قيل: فالحرف من حيث هو مخلوق أو غير مخلوق مع قطع النظر عن كونه في كلام الخالق أو كلام المخلوق؟ فإن قلتم هو من حيث هو مخلوق لزم أن يكون غير مخلوق في كلام العباد، وإن قلتم مخلوق لزم أن يكون مخلوقا في كلام الله؟ قيل: قول القائل بل الحرف من حيث هو هو كقوله الكلام من حيث هو هو والعلم من حيث هو هو والقدرة من حيث هي هي، والوجود حيث هو هو، ونحو ذلك.
والجواب عن ذلك: أن هذه الأمور وغيرها إذا أخذت مجردة مطلقة غير مقيدة ولا مشخصة لم يكن لها حقيقة في الخارج عن الأذهان إلا شيء معين، فليس ثم وجود إلا وجود الخالق أو وجود المخلوق، ووجود كل مخلوق مختص مختص به وإن كان اسم الوجود عاما يتناول ذلك كله، وكذلك العلم والقدرة اسم عام يتناول أفراد ذلك وليس في الخارج إلا علم الخالق وعلم المخلوق، وعلم كل مخلوق مختص به قائم به، واسم الكلام والحروف يعم كل ما يتناوله لفظ الكلام والحرف وليس في الخارج إلا كلام الخالق وكلام المخلوقين، وكلام كل مخلوق مختص به واسم الكلام يعم كل ما يتناوله هذا اللفظ، وليس في الخارج إلا الحروف التي تكلم الله بها الموجودة في كلام الخالق، والحروف الموجودة في كلام المخلوقين، فإذا قيل إن علم الرب وقدرته وكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة لم يلزم من ذلك أن يكون علم العبد وقدرته وكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة.
وأيضا فلفظ الحرف يتناول الحرف المنطوق والحرف المكتوب، وإذا قيل إن الله تكلم بالحروف المنطوقة كما تكلم بالقرآن العربي وبقوله: " الم - وحم - وطسم - وطس - ويس - وق - ون " ونحو ذلك فهذا كلامه وكلامه غير مخلوق، وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقا.
التفرقة بين كلام الرب وكلام العبد في أنفسها وفي النطق
وأيضا فإذا قرأ الناس كلام الله فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئا، أمرا يأمر به أو خبرا يخبره ليس هو كلام المبلغ له عن غيره إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله فيقال هذا كلام الله مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد كحركته وحياته، وقد يشار إليهما، فالمشار إليه الأول غير مخلوق، والمشار إليه الثاني مخلوق، والمشار إليه الثالث فمنه مخلوق ومنه غير مخلوق، وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا هو نظير صفة العبد لا نظير صفة الرب أبدا، وإذا قال القائل القاف في قوله: " أقم الصلاة لذكري " كالقاف في قوله: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" - قيل: وما تكلم الله به وسمع منه لا يماثل صفة المخلوقين، ولكن إذا بلغنا كلام الله فإنما بلغناه بصفاتنا وصفاتنا مخلوقة والمخلوق يماثل المخلوق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق