الحمد للّه المتصف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل، وحكم بالموت على كل ذي روح من مخلوقاته، وساوى فيه بين الملك والمملوك، والغني والفقير، والشريف والضعيف، والعاصي والمطيع، من سكان أرضه وسماواته، فهو الذي عدل في الآخرة بين برياته [1]، قبض روح هذا بعد ما عمر الدنيا وزخرف البناء وتوطّنها، وليست لحي وطنا، وتبغي روح الآخر الذي اجتهد في إصلاح آخرته، وجعل الدنيا لجة [2]، واتخذ صالح الأعمال فيها سفنا، فشتان ما بين خروج الروحين من الجسدين، هذه لها السعادة والهناء، وتلك لها الخيبة والشقاء والعناء [3]، هذه ترفع في رياض الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش في لذة ونعيم، وتلك محبوسة تعذب في نار الجحيم. و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، إله تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه، فعياذا بعزته جل جلاله أن يختم بالإساءة وقد بدأنا بالإحسان، فله سبحانه الحمد والشكر والنعمة والفضل والخلق والأمر والثناء الحسن الجميل والامتنان.
و أشهد أن محمدا صلوات اللّه وسلامه، عبده ورسوله الطيب الروح و الجسد، سيد ولد آدم [4]، وأفضل من قام وركع وسجد، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [4:122] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [17:85] وعلى آله وصحبه خير القرون الذين اهتدوا وما بدلوا تبديلا، صلاة دائمة بدوام السموات والأرض، إلى أن يرث سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها للحساب والعرض، وسلم تسليما كثيرا (و بعد)
فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صنف مثله في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفوائد القلائد [5] في كتاب سواه، ويشتمل على جملة من المسائل، تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل: الكتاب والسنّة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسأل مصنفه قدس اللّه روحه عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب، فإني رأيته مجردا عن خطبة وسؤال أصلا مبتدئا فيه بقوله:
(أما المسألة الأولى وهي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا) فأحببت بعد استخارة اللّه سبحانه وتعالى أن أفتتحه بهذه الخطبة المباركة العظيمة.
لكونه كتابا في ضمن مسائلة التي تتأملها وتشاهدها كل درة يتيمة، لينشرح صدر الناظر فيه، ولتقوي همته على النظر في بدائع فوائده ودقائق معانيه. واللّه سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة، أن يعصمنا من الزيغ والزلل، وأن يوفقنا لصالح النية والقول والعمل، وأن يرفع درجات مؤلفه في جنات النعيم، وأن ينفع به الناظر فيه إنه سميع عليم، إنه على كل شي ء قدير وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(قال) الشيخ الإمام العالم العامل ترجمان القرآن، ذو الفنون الحسان، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، أوحد الحفّاظ، فارس المعاني والألفاظ، علّامة العلماء، وارث الأنبياء، عمدة المفسرين، بغية المجتهدين، شمس الدين أبو عبد اللّه محمد ابن الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبي بكر ابن الشيخ الكبير أيوب بن سعد الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي قدس اللّه تعالى روحه، ونور ضريحه، وجعل أبواب الجنان بين يديه مفتوحة ولسائر علماء الإسلام الجهابذة النقّاد الأعلام آمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وآله وصحبه أجمعين.
هامش
القلادة ما يجعل في الصف من حلي ونحوه، أو وسام تمنحه الدولة لمن تشاء تقديرا له، والجمع قائد.
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
تصنيفان:
يُقال: برأ اللّه الخليقة يبرؤها (بفتحتين) أي خلقها، فهو البارئ، والبرية فعيلة بمعنى مفعولة.
اللّجّ: بالضم: الجماعة الكثيرة ومعظم الماء، كاللجة فيهما، ومنه بحر لجي ويكسر.
عني: من باب تعب، إذا نشب في الإسار فهو عان، والجمع عناة، ويتعدى بالهمزة، وعنى الأسير من باب تعب لغة أيضا، ومنه قيل للمرأة عانية لأنها محبوسة عند الزوج، والجمع عوان، وعنا يعنو عنوة: إذا أخذ الشي ء قهرا، وكذلك إذا أخذه صلحا فهو من الأضداد قال (كثير عزة):
"فما أخذوها عنوة عن مودة ... ولقد ضرب المشرفي استقلالها"
أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» انظر سنن أبي داود رقم 4673.
=======
المسألة الأولى (و هي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا)
قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
و في الصحيحين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم، يا فلان بن فلان، ويا فلان ابن فلان، «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال له عمر: يا رسول اللّه ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال:
«و الذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا» [1]. و ثبت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه [2].
و قد شرع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين [3] وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل- ولو لا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
و السلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به.
قال أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء (حدثنا) محمد بن عون حدثنا يحيى بن يمان عن عبد اللّه بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم» (حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري، حدثنا معن بن عيسى القزاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه فسلم عليه، رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام (حدثنا محمد بن الحسين حدثني يحيى بن بسطام الأصغر حدثني مسمع حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قد مت. قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [4]، نتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟
قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت:
فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته (و حدثنا) محمد بن الحسين، حدثني بكر بن محمد، حدثنا حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي الجبان فنقف على القبور فنسلّم عليهم وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يوم: لو صبرت هذا اليوم يوم الاثنين، قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها (حدثني) محمد حدثنا عبد العزيز بن إبان قال: حدثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته الأخيرة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
(حدثنا) خالد بن خداش، حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي التياح قال: كان مطرف يغدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج [5] (قال وسمعت أبا التياح) يقول: بلغنا أنه كان ينور له في سوطه، فأقبل ليلة، حتى إذا كان عند مقابر القوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره، فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة، قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير، قلت: وما [يقولون؟ قالوا: يقولون]: [6] سلام سلام.
(حدثني) محمد بن الحسين حدثني يحي بن أبي بكير، حدثني الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء اللّه، ثم إني أتيته يوما، فبينما أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قام في قبره متوشحا أكفانه [7] عليه سحنة [8] الموتى قال: فكأني بكيت لما رأيته قال: يا بني ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فآنس بك وأسر بك ويسر من حولي بدعائك، قال:
فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا.
(حدثني) محمد، حدثني يحي بن بسطام، حدثني عثمان بن سودة الطفاوي (و كانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة) قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخرتي وذخيرتي [9]، ومن عليه اعتمادي في حياتي و بعد موتي لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني [10] في قبري، فماتت فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي فقلت لها: يا أمي كيف أنت؟ قالت: أي بني أن للموت لكربة شديدة، وأني بحمد اللّه لفي برزخ [11] محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق [12] إلى يوم النشور [13] فقلت لها: أ لك حاجة؟ قالت: نعم، قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يقال: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات:
(حدثني) محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس اللّه وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، قال: فبينما أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت: فإني أعود لذلك، قال: فما تركتها بعد [14]. (حدثني) محمد حدثني أحمد بن سهل حدثني رشد بن سعد عن رجل عن يزيد بن أبي حبيب أن سليم بن عمر مر على مقبرة وهو حاقن [15] قد غلبه البول، فقال له بعض أصحابه: لو نزلت إلى هذه المقابر فبلت في بعض حفرها، فبكى ثم قال: سبحان اللّه، واللّه إني لأستحي من الأموات كما أستحي من الأحياء، ولو لا أن الميت يشعر بذلك لما استحيا منه.
(و أبلغ) من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه، قال عبد اللّه بن المبارك [16]: حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أبي أيوب قال: عظني؟
قال: بم أعظك أصلحك اللّه، بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ما يعرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل [17] لحيته.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني خالد بن عمرو الأموي، حدثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي شرة سمجة [18] فمات أبي، فأنبت وندمت على ما فرطت، قال: ثم زللت أيما زلة، فرأيت أبي في المنام فقال: أي بني ما كان أشد فرحي بك، أعمالك تعرض علينا فنشبهها بأعمال الصالحين، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا، فلا تخزني فيمن حولي من الأموات، فقال: فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر (و كان جار لي بالكوفة): أسألك إنابة لا رجعة فيها ولا حور [19]، يا مصلح الصالحين، ويا هادي المضلين، ويا أرحم الراحمين.
و هذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد اللّه بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد اللّه بن رواحة، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد اللّه.
و يكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولو لا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره هذا، هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية» [20].
و هذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد، وإذا صلى الرجل قريبا منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك.
(قال) يزيد بن هارون: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم وعليه ثياب خفاف، فانتهى إلى قبر، قال:
فصليت ركعتين، ثم اتكأت عليه، فو اللّه إن قلبي ليقظان، إذ سمعت صوتا من القبر، إليك عني لا تؤذني فإنكم [اليوم] [21] تعلمون ولا تعملون، ونحن [اليوم] نعلم ولا نعمل ولأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من كذا وكذا، فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته.
(و قال) ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن علي العجلي، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ثابت بن سليم، حدثنا أبو قلابة قال:
أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلا، فتطهرت وصليت ركعتين بليل، ثم وضعت رأسي على قبر فنمت، ثم انتبهت، فإذا صاحب القبر يشتكيني، قد آذيتني منذ الليلة ثم قال: إنكم تعلمون ولا تعملون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال: الركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها، ثم قال: جزى اللّه أهل الدنيا خيرا، أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نورا مثال الجبال. (و حدثني) الحسين العجلي، حدثنا عبد اللّه بن نمير، حدثنا مالك بن مغول، عن منصور بن زيد بن وهب قال: خرجت إلى الجبّانة فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر فسواه، ثم تحول إلي فجلس قال: فقلت لمن هذا القبر؟
قال: أخ لي، فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في اللّه رأيته فيما يرى النائم فقلت:
فلان عشت، الحمد للّه رب العالمين، قال: قد قلتها، لأن أقدر على أن أقولها أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قال: أ لم تر حيث كانوا يدفنونني، فإن فلانا قام فصلى ركعتين، لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها (حدثني) أبو بكر التيمي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثني الليث بن سعد (حدثني) حميد الطويل، عن مطرف بن عبد اللّه الحرشي قال: خرجنا إلى الربيع في زمانه، فقلنا: ندخل يوم الجمعة لشهودها وطريقنا على المقبرة، قال: فدخلنا فرأيت جنازة في المقبرة، فقلت: لو اغتنمت شهود هذه الجنازة فشهدتها، قال:
فاعتزلت ناحية قريبا من قبر، فركعت ركعتين خففتهما لم أرض إتقانهما ونعمت، فرأيت صاحب القبر يكلمني وقال: ركعت ركعتين لم ترض إتقانهما؟ قلت: قد كان ذلك، قال: تعلمون ولا تعملون ولا نستطيع أن نعمل، لأن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، فقلت: من هاهنا؟ فقال: كلهم مسلم، وكلهم قد أصاب خيرا، فقلت: من هاهنا أفضل؟ فأشار إلى قبر، فقلت في نفسي اللهم ربنا أخرجه إلي فأكلمه، قال: فخرج من قبره فتى شاب، فقلت: أنت أفضل من هاهنا؟ قال: قد قالوا ذلك، قلت: فبأي شي ء نلت ذلك، فو اللّه ما أرى لك ذلك السن فأقول نلت ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل اللّه والعمل، قال قد ابتليت بالمصائب فرزقت الصبر عليها فبذلك فضلتهم.
تنبيه:
و هذه المرائي وإن لم تصح بمجردها لإثبات مثل ذلك فهي على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا اللّه قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شي ء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح، على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها. و قد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه (فروى) مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال:
حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت [22]، فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه، أما بشرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، وإني كنت على أطباق ثلاث [23]، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مني ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل اللّه الإسلام في قلبي لقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي قال: فقال: «ما لك يا عمرو»؟ قال قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط ما ذا»؟ قلت: أن يغفر لي قال: «أ ما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن املأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا عليّ التراب سنا [24]، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور [25]، ويقسم لحمها حتى استأنس بكم وأنظر ما ذا أراجع به رسل ربي [26]. فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم.
و قد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قال عبد الحق: يروى أن عبد اللّه بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك.
و قال الخلال في الجامع كتاب القراءة عند القبور: (أخبرنا) العباس بن محمد الدوري حدثنا يحيى بن معين، حدثنا مبشر الحلبي، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا مت فضعني في اللحد وقل: بسم اللّه وعلى سنّة رسول اللّه، وسن عليّ التراب سنا، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة، فإني سمعت عبد اللّه بن عمر يقول ذلك (قال) عباس الدورمي: سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئا؟ فقال:
لا، وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث.
(قال الخلال) وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق، حدثني علي بن موسى الحداد وكان صدوقا قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد اللّه ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئا؟
قال: نعم، فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن [أن] [27] يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ [28]. (و قال) الحسن بن الصباح الزعفراني: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر، فقال: لا بأس بها [29].
(و ذكر) الخلال عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن. قال: وأخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي، فقرأت عندها (تبارك) لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى اللّه أبا علي خيرا، فقد انتفعت بما قرأ.
(أخبرني) الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نضر بن التمار يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت: أنت فلان ابن فلانة؟ قال: نعم، قالت: إن بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس وجعل ثوابها لأهل المقابر فأصابنا من روح ذلك، أو غفر لنا أو نحو ذلك.
(و في النسائي) وغيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [30] وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه. ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه: (أحدها) أنه نظير قوله: «لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه» [31].
(الثاني) انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ26بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ27﴾ [36:26—27] فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء اللّه فيحب اللّه لقاءها فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.
و قد ذكر أبو الفرج بن الجوزي قال: كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) وقضى.
(الثالث) أن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرؤون «يس» عند المحتضر.
(الرابع) أن الصحابة لو فهموا من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [32]، قراءتها عند القبر: لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم.
(الخامس) إن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت.
و قد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيلي على هذا فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ثم قال: ذكر أبو عمر ابن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام». ويروي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعا قال: «فإن لم يعرفه وسلّم عليه رد عليه السلام».
(قال) ويروى من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم».
و احتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد اللّه عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» [33]. وقال سليمان بن نعيم رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في النوم فقلت: يا رسول اللّه هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم؟ قال: نعم وأرد عليهم، وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر: «السلام عليكم أهل الديار [34] الحديث: قال وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له. (قال أبو محمد) ويذكر عن الفضل بن الموفق قال: كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك، فشهدت يوما جنازة في المقبرة التي أدفن فيها، فتعجلت لحاجتي ولم آته، فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال لي: يا بني لم لا تأتيني؟
قلت له: يا أبت وأنك لتعلم بي إذا أتيتك؟ قال: أي واللّه يا بني، لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إلي وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن بشار الكوفي قال: حدثني الفضل بن الموفق فذكر القصة.
و صح عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وأنهم ليغسلونه ويكفنونه وأنه لينظر إليهم.
و صح عن مجاهد أنه قال: إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده.
هامش
أخرج أبو داود برقم 3237 عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون».
و أخرج الترمذي برقم 1053 عن ابن عباس قال: مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر».
و أخرج ابن ماجه عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها قالت: فقدته (تعني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم) فإذا هو بالبقيع، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم فرط لنا، وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم».
قال الخطابي في معالم السنن: وأما قوله «و إنا إن شاء اللّه بكم لاحقون» فقد قيل أن ذلك ليس على معنى الاستثناء الذي يدخل الكلام لشك وارتياب، ولكنه عادة المتكلم يحسن بذلك كلامه ويزينه، كما يقول الرجل لصاحبه: إنك إن أحسنت إلي شكرتك إن شاء اللّه، وإن ائتمنتني لم أخنك إن شاء اللّه، في نحو ذلك من الكلام، وهو لا يريد به الشك في كلامه، وقد قيل أنه دخل المقبرة ومعه قوم مؤمنون متحققون بالإيمان والآخرون يظنون بهم النفاق، فكان استثناؤه منصرفا إليهم دون المؤمنين، فمعناه اللحوق بهم في الإيمان، وقيل أن الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان إلى الموت لا في نفس الموت.
المسألة الأولى
هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا | فصل تلقين الميت
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
الروح
روى البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 101): حدثنا علي بن عبد اللّه، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثني أبي عن صالح، حدثني نافع: أن ابن عمر رضي اللّه عنهما أخبر وقال: اطلع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على أهل القليب فقال: «وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل له: أ تدعو أمواتا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون».
و روى مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (8/ 163) قال: حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس كنت مع عمر (ح) وحدثنا شيبان بن فروخ (و اللفظ له): حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال: فجعلت أقول لعمر: أ ما تراه؟ فجعل لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللّه»، قال: فقال عمر: فو الذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم اللّه ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني اللّه حقا» قال عمر: يا رسول اللّه كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها!، قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا».
قال النووي رحمه اللّه: قوله عليه الصلاة والسلام: «هذا مصرع فلان» الخ ... هذا من معجزاته صلى اللّه عليه وآله وسلم الظاهرة.
روى أبو داود في سننه في كتاب الجنائز باب المشي في النعل بين القبور برقم 3231 قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا عبد الوهاب- يعني ابن عطاء- عن سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم».
و أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الميت يسمع خفق النعال (2/ 113) وفي باب ما جاء في عذاب القبر. كما أخرجه مسلم في كتاب الجنة باب عرض مقعد الميت (8/ 162) عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا».
و أخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب المسألة في القبر وباب مسألة الكافر (2051 و2053).
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة برقم 249 وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب ما يقول: إذا زار القبور أو مر بها، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ذكر الحوض برقم 4306 ولفظه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أتى المقبرة فسلم على المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه تعالى بكم لاحقون» ثم قال: «لوددنا أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: يا رسول اللّه، أو لسنا إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي، وأنا فرطكم على الحوض» قالوا: يا رسول اللّه، كيف تعرف من لم يأت من أمتك؟ قال:
«أ رأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل وهم بهم، أ لم يكن يعرفها؟» قالوا: بلى، قال: «فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء» قال: «أنا فرطكم على الحوض» ثم قال:
«ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير، فأناديهم: ألا هلموا، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم فأقول: ألا سحقا سحقا».
هو أبو عبد اللّه بكر بن عبد اللّه المزني الفقيه، روى عن المغيرة ابن شعبة وجماعة، توفي سنة ثمان ومائة، وقيل سنة ست.
أدلج: أي سار من أول الليل، والاسم: الدلج، بفتحتين، والدّلجة والدّلجة بوزن الجرعة والضربة، وأدلج بتشديد الدال: سار من آخره.
زيادة على المطبوع لعدم وضوح العبارة في الأصل.
الوشاح بالضم والكسر: كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، وأديم عريض يرصع بالجوهر، تشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها، جمع وشح وأوشحة ووشائح، وقد توشحت المرأة واتشحت ووشحتها توشيحا.
السحنة: الهيئة.
يقال: ذخرته ذخرا: من باب نفع، والاسم: الذخر، بالضم، إذا أعددته لوقت الحاجة إليه، وأذخرته على افتعلت مثله، وهو مذخور وذخيرة أيضا، وجمع الذخر: أذخار، مثل قفل وأقفال، وجمع الذخيرة: ذخائر.
الوحشة: الخلوة والهم، وقد أوحشه اللّه فاستوحش، وأوحش المنزل: أقفر وذهب عنه الناس.
البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، ومن وقت الموت إلى القيامة، ومن مات دخله، وبرازخ الإيمان:
ما بين أوله وآخره، أو ما بين الشك واليقين.
الإستبرق: هو الديباج الغليظ، وهو فارسي معرب، وتصغيره أبيرق.
وهو يوم القيامة.
زيارة القبور للرجال مستحبة، لما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة» والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهاهم أول الأمر عن زيارة القبور لقرب عهدهم بالجاهلية، فلما اطمأنوا إلى الإسلام وعرفوا أحكامه وحدوده وطبقوها كان الأمر بزيارة القبور للاعتبار والاتعاظ فترقق القلب وتصفي النفس وتقلل من خطر الدنيا في نفس المؤمن. أما زيارة النساء للقبور فقد روى الحاكم والبيهقي والإمام أحمد عن عبد اللّه بن أبي مليكة أن السيدة عائشة رضي اللّه عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟
قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: أ ليس كان نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها.
ذكره قوم زيارة النساء للقبور لما رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لعن اللّه زوارات القبور».
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك.
قال الشوكاني: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر.
الحاقن هو الذي به بول شديد، يقال: احتقن المريض: أي احتبس بوله فاستعمل الحقنة.
هو الإمام العلم أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ الزاهد ذو المناقب سمع هشام بن عروة وحميد الطويل وهذه الطبقة وصنف التصانيف الكثيرة وحديثه نحو عشرين ألف حديث، قال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله، وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله.
و عن شعيب بن حرب قال: ما لقي ابن المبارك مثل نفسه، وكانت له تجارة واسعة، كان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم، قال ابن ناصر الدين: الإمام العلّامة الحافظ شيخ الإسلام وأحد أئمة الأنام ذو التصانيف النافعة والرحلة الواسعة، حدث عنه ابن منيع وابن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم، جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر وفصاحة العرب مع قيام الليل والعبادة.
قال ابن الأهدل: تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع في الخلوات شديد الورع. توفي سنة إحدى وثمانين ومائة وله ثلاث وستون سنة، قيل مات بهيت- بالكسر- بلد بالعراق منصرفا من غزوة، وقيل مات في برية سائحا مختارا للعزلة.
قال في العبر: كان أستاذه تاجرا فتعلم منه، وكان أبوه تركيا وأمه خوارزمية.
(انظر شذرات الذهب 1/ 295).
يقال: شيء خضل أي رطب، والخضل: النبات الناعم، وأخضل الشي ء اخضلالا واخضوضل:
أي ابتل.
أي تبيحه.
الحور: الرجوع.
أخرج الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن بريدة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون أنتم فرطنا ونحن تبع لكم، ونسأل اللّه لنا ولكم العافية» وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر».
وردت في المطبوع: يوم ولعله كما أثبتناه.
وردت في مسلم: في سياقة الموت، قال النووي: أي حال حضور الموت.
قال النووي: قوله على أطباق ثلاث أي على أحوال، فلهذا أنت ثلاثا إرادة لمعنى أطباق.
وردت في مسلم: فشنوا على التراب شنا، وضبط النص بالشين والسين، ومعناه على الأول: فرقوا عليّ التراب، ومعناه على الثاني: صبوا عليّ التراب، والمراد به المنع من الترصيص على القبر بنحو طين وآجر.
قال في المصباح: الجزور هي الناقة التي تنحر.
انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان باب كون الإسلام بهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1/ 78).
زيادة على المطبوع لسياق العبارة.
أخرج ابن ماجه برقم 242 عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته».
و من المتفق عليه أن الميت ينتفع بما كان سببا فيه من أعمال البر في حياته ومنها قراءة القرآن وهذا رأي جمهور من أهل السنة، قال النووي: المشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل. و ذهب أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان.
و قال ابن قدامة في المغني: قال أحمد بن حنبل: الميت يصل إليه كل شي ء من الخير للنصوص الواردة فيه، ولأن المسلمين يجتمعون في كل عصر ويقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا. والقائلون بوصول ثواب القراءة إلى الميت يشترطون أن لا يأخذ القارئ على قراءته أجرا، فإن أخذ القارئ أجرا على قراءته حرم على المعطي والآخذ ولا ثواب له على قراءته لما رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن عبد الرحمن بن شبل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «اقرؤوا القرآن واعملوا ... ولا تجفوا عنه ولا تغفلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به».
اختلف الفقهاء في حكم قراءة القرآن عند القبر، فذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى استحبابها، وقال بذلك أيضا القاضي عياض والقرافي من المالكية، وقال الإمام أحمد: لا بأس بها. وكرهها مالك وأبو حنيفة لعدم ورود السنّة بها.
أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما يقال عند المريض إذا حضر برقم 1448 بلفظ: «اقرءوها عند موتاكم» يعني يس. وهو حديث ضعيف.
أخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب تلقين الميت (4/ 5) وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما جاء في تلقين الميت لا إله إلا اللّه برقم 1444 و1445، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده برقم 976، كما أخرجه مسلم في كتاب الجنائز برقم 1، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب في التلقين برقم 3117.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن حبان عن معقل بن يسار رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «يس قلب القرآن، لا يقرأها رجل يريد اللّه والدار الآخرة إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم».
أخرجه أبو داود برقم 2041.
الروح - المسألة الأولى
المؤلف: ابن القيم فصل تلقين الميت ←
=====
المسألة الثانية (و هي: أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا)
و هي أيضا مسألة شريفة كبيرة القدر، وجوابها أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، وروح نبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، قال اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69] وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة.
(و روى) جرير عن منصور عن أبي ضحى بن مسروق قال: قال أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69].
(و قال الشعبي) جاء رجل من الأنصار وهو يبكي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «ما يبكيك يا فلان»؟ فقال: يا نبي اللّه واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إليّ من نفسي وأنا أذكرك وأنا وأهلي فيأخذني كذا حتى أراك، فذكرت موتك وموتي فعرفت أني لن أجامعك إلا في الدنيا وأنك ترفع في النبيين وعرفت أني إن دخلت الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك، فلم يرد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا فأنزل اللّه تعالى ﴿ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ﴾[4:69] إلى قوله ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾[4:70] وقال تعالى ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي29وَادْخُلِي جَنَّتِي30﴾ [89:27—30] أي ادخلي في جملتهم كوني معهم وهذا يقال للروح عند الموت.
(و في قصة الإسراء) من حديث عبد اللّه بن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم بموسى فلم يكن عنده منها علم، حتى أجمعوا الحديث إلى عيسى، فقال عيسى: عهد اللّه فيما إليّ فيما دون وجبتها فذكر خروج الدجال، قال: فأهبط فأقتله، ويرجع الناس إلى بلادهم فتستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فلا يمرون بماء إلا شربوه، ولا يمرون بشي ء إلا أفسدوه، فيجأرون إلي فأدعو اللّه فيميتهم، فتجأر الأرض إلى اللّه من ريحهم، ويجأرون إليّ فأدعو ويرسل اللّه السماء بالماء فيحمل أجسامهم فيقذفها في البحر، ثم ينسف الجبال ويمد الأرض مد الأديم، فعهد اللّه إليّ إذا كان كذلك، فإن الساعة من الناس كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا، ذكره الحاكم والبيهقي وغيرهما.
و هذا نص في تذاكر الأرواح العلم. و قد أخبر اللّه سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم يستبشرون بنعمة من اللّه، وفضل وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه:
(أحدها) أنهم عند ربهم يرزقون وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون.
(الثاني) أنهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم.
(الثالث) أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون.
و قد تواترت المرائي بذلك، (فمنها) ما ذكره صالح بن بشير قال: رأيت عطاء السلمي في النوم بعد موته فقلت له: يرحمك اللّه لقد كنت طويل الحزن في الدنيا، فقال: أما واللّه لقد أعقبني ذلك فرحا طويلا وسرورا دائما، فقلت: في أي الدرجات أنت؟ قال: مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
(و قال) عبد اللّه بن المبارك: رأيت سفيان الثوري [1] في النوم فقلت له: ما فعل اللّه بك؟ قال: لقيت محمدا وحزبه.
(و قال) صخر بن راشد: رأيت عبد اللّه بن المبارك [2] في النوم بعد موته فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: فما صنع اللّه بك؟ قال: غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب، قلت: فسفيان الثوري؟ قال: بخ بخ ذاك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن يقظة بنت راشد قالت: كان مروان المحملي لي جارا وكان قاضيا مجتهدا، قالت:
فمات فوجدت عليه وجدا شديدا قالت: فرأيته فيما يرى النائم قلت: أبا عبد اللّه ما صنع بك ربك؟ قال: أدخلني الجنة، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى أصحاب اليمين، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى المقربين، قلت: فمن رأيت من إخوانكم؟ قال: رأيت الحسن وابن سيرين وميمون بن سياه، قال حماد: قال هشام بن حسان: فحدثتني أم عبد اللّه وكانت من خيار نساء أهل البصرة قالت:
رأيت فيما يرى النائم كأني دخلت دار حسنة ثم دخلت بستانا فذكرت من حسنه ما شاء اللّه، فإذا أنا فيه برجل متكئ على سرير من ذهب وحوله الوصفاء بأيديهم الأكاويب قالت: فإني لمتعجبة من حسن ما أرى إذ قيل هذا مروان المحملي أقبل، فوثب فاستوى جالسا على سريره قالت: واستيقظت من منامي فإذا جنازة مروان قد مر بها على بابي تلك الساعة.
و قد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها.
(قال) ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيغ، أخبرني فضل بن سليمان النميري، حدثني يحيى ابن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جده قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور [3] وجدت عليه أم بشر وجدا شديدا فقالت: يا رسول اللّه إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر، إنهم ليتعارفون كما تتعارف الطير في رءوس الشجر» وكان لا يهلك هالك من بني سلمة، جاءته أم بشر فقالت: يا فلان عليك السلام، فيقول: وعليك، فتقول: اقرأ على بشر السلام.
(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال: أهل القبور يتوكفون الأخبار، فإذا أتاهم الميت قالوا: ما فعل فلان؟
فيقول: صالح، ما فعل فلان؟ يقول: صالح، ما فعل فلان؟ فيقول: أ لم يأتكم أو ما قدم عليكم؟ فيقولون: لا، فيقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون سلك به غير سبيلنا.
(و قال) صالح المري: بلغني أن الأرواح تتلاقى عند الموت فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليها: كيف كان مأواك وفي أي الجسدين كنت في طيب أم خبيث؟ ثم بكى حتى غلبه البكاء.
(و قال) عبيد بن عمير: إذا مات الميت تلقته الأرواح يستخبرونه كما يستخبر الركب ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فإذا قال: توفي ولم يأتهم، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية (و قال) سعيد بن المسيب: إذا مات الرجل استقبله ولده كما يستقبل الغائب؛ (و قال) عبيد بن عميرة أيضا: لو أني آيس من لقاء من مات من أهلي لألفاني قدمت كمدا.
(و ذكر) معاوية بن يحيى عن عبد اللّه بن سلمة أن إبراهيم المسمعي حدثه أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاه أهل الرحمة من عند اللّه كما يتلقى البشير في الدنيا فيقولون: انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد [4] فيسألونه: ما ذا فعل فلان؟ وما ذا فعلت فلانة؟ وهل تزوجت فلانة؟ فإذا سألوه عن رجل مات قبله قال: إنه قد مات قبلي، قالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية.
و قد تقدم حديث يحيى بن بسطام، حدثني مسمع بن عاصم قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: وأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [5] فنتلقى أخباركم، قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات [6] بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح.
هامش
كلمة تبعيد، وهي مبنية على الفتح، وأناس يكسروها على كل حال.
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
هو الإمام أبو عبد اللّه سفيان بن سعيد الثوري الفقيه سيد أهل زمانه علما وعملا، روى عن عمرو بن مرة وسماك بن حرب وخلق كثير، قال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ، ما فيهم أفضل من سفيان. وقال أحمد بن حنبل: لا يتقدم على سفيان في قلبي أحد. ولكن سفيان كثير الحط على المنصور لظلمه، فهمّ به وأراد قتله فما أمهله اللّه. توفي رحمه اللّه تعالى في البصرة متواريا إحدى وستين ومائة قال ابن رجب: وجد في آخر القرن الرابع سفيانيون، ومناقبه تحمل مجلدات. ورآه بعضهم بعد موته فقال:
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد
لقد كنت قواما إذ أظلم الدجى ... بصبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصد أردته ... وزرني فإني منك غير بعيد
هو الإمام العلم أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ ذو المناقب، سمع هشام بن عروة وحميد الطويل وهذه الطبقة، وصنف التصانيف الكثيرة، وحديثه نحو من عشرين ألف حديث. قال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وكانت له تجارة واسعة ينفق منها على الفقراء في السنة مائة ألف درهم. قال الفضيل بن عياض: ورب الكعبة ما رأت عيناي ابن المبارك. قال ابن الأهدل: تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه في الموطأ، وكان كثير الانقطاع في الخلوات شديد الورع. وكذلك أبوه مبارك. قال في العبر: كان أستاذه تاجرا فتعلّم منه، وكان أبوه تركيا وأمه خوارزمية. توفي بهيت (بلد في العراق وقبره يزار هناك) سنة إحدى وثمانين ومائة.
هو بشر بن البراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، توفي رحمه اللّه تعالى بعد أكله من الشاة المسمومة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقصتها معروفة مشهورة.
الكربة: الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذا الكرب، يقال: كربه الغم أي اشتد عليه.
هو أبو عبد اللّه بكر بن عبد اللّه المزني البصري الفقيه، روى عن المغيرة ابن شعبة وجماعة، توفي سنة ثمان ومائة.
=======
المسألة الثالثة (و هي هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا)
شواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من يحصيها إلا اللّه تعالى، والحس والواقع من أعدل الشهود بها، فتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، وقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [39:42][1].
(قال) أبو عبد اللّه بن منده: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد اللّه بن حسين الحراني وحدثنا جدي أحمد بن شعيب حدثنا موسى بن أعين عن مطرف عن جعفر أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك اللّه أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
و قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، حدثنا الحسين، حدثنا عامر، حدثنا إسباط عن السدي وفي قوله تعالى: والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها قال: يتوفاها في منامها فيلتقي روح الحي وروح الميت فيتذاكران و يتعارفان قال: فترجع روح الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجلها، وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس. وهذا أحد القولين في الآية: وهو أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا القول أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى.
و القول الثاني في الآية: إن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفى وفاة النوم، فمن استكملت أجلها أمسكها عنده، فلا يردها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله، واختار شيخ الإسلام [2] هذا القول وقال: عليه يدل القرآن والسنّة قال: فإنه سبحانه ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها وفاة النوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا بإرسال بل هي قسم ثالث.
و الذي يترجح هو القول الأول، لأنه سبحانه أخبر بوفاتين: وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين قسما قضى عليها بالموت فأمسكها عنده وهي التي توفاها وفاة الموت، وقسما لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولا، فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التي لم تمت هي التي توفاها في منامها، فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين وفاة موت ووفاة نوم لم يقل والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فإنها من حين قبضت ماتت وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾[39:42].
و لمن أبصر هذا القول أن يقول قوله تعالى ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾[39:42] بعد أن توفاها وفاة النوم فهو سبحانه توفاها أولا وفاة نوم ثم قضى عليها الموت بعد ذلك، والتحقيق أن الآية تتناول النوعين، فإنه سبحانه ذكر وفاتين، وفاة نوم ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه سبحانه يمسك نفس كل ميت سواء مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت فقوله:
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام.
و قد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته.
و أبلغ من هذا أنه يخبر بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين، وأبلغ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر، وربما أخبره عن أمور يقطع الحي أنه لم يكن يعرفها غيره، وقد ذكرنا قصة الصعب بن جثامة وقوله لعوف بن مالك ما قال له، وذكرنا قصة ثابت بن قيس بن شماس وأخباره لمن رآه تدعه وما عليه من الدين.
و قصة صدقة بن سليمان الجعفري وأخبار ابنه له بما عمل من بعده، وقصة شبيب بن شيبة وقول أمه له بعد الموت: جزاك اللّه خيرا حيث لقنها لا إله إلا اللّه، وقصة الفضل بن الموفق مع ابنه وإخباره إياه بعلمه بزيارته.
و قال سعيد بن المسيب: التقى عبد اللّه بن سلام وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر: إن مت قبلي فالقني فأخبرني ما لقيت من ربك، وإن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك، فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء، قال: فمات فلان فلقيه في المنام فقال: توكل وأبشر فلم أر مثل التوكل قط.
و قال العامر بن عبد المطلب: كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام فما رأيته إلا عند قرب الحول فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول: هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لو لا أن لقيت رؤوفا رحيما.
و لما حضرت شريح بن عابد الثمالي الوفاة دخل عليه غضيف بن الحارث وهو يجود بنفسه فقال: يا أبا الحجاج إن قدرت على أن تأتينا بعد الموت فتخبرنا بما ترى فافعل قال: وكانت كلمة مقبولة في أهل الفقه قال: فمكث زمانا لا يراه ثم رآه في منامه فقال له: أ ليس قد مت؟ قال: بلى، قال: فكيف حالك؟ قال: تجاوز ربنا عنا الذنوب فلم يهلك منا إلا الأحراض، قلت: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع في الشي ء.
و قال عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة، فدفع إلي تفاحات فأولتهن الولد، فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟
فقال: الاستغفار أي بني.
و رأى مسلمة بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بعد موته فقال: يا أمير المؤمنين ليت شعري إلى أي الحالات صرت بعد الموت؟ قال: يا مسلمة هذا أوان فراغي، واللّه ما استرحت إلا الآن، قال: قلت: فأين أنت يا أمير المؤمنين؟
قال: مع أئمة الهدى في جنة عدن.
(قال) صالح البراد: رأيت زرارة بن أوفى [3] بعد موته فقلت: رحمك اللّه ما ذا قيل لك وما ذا قلت؟ فأعرض عني، قلت: فما صنع اللّه بك؟ قال: تفضل علي بجوده وكرمه، قلت: فأبو العلاء بن يزيد أخو مطرف؟ قال: ذاك في الدرجات العلى، قلت: فأي الأعمال أبلغ فيما عندكم؟ قال: التوكل وقصر الأمل.
(قال) مالك بن دينار: رأيت مسلم بن يسار [4] بعد موته فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فقلت: ما يمنعك أن ترد السلام؟ قال: أنا ميت فكيف أرد عليك السلام، فقلت له: ما ذا لقيت بعد الموت؟ قال: لقيت واللّه أهوالا وزلازل عظاما شدادا، قال: قلت له: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم، قبل منا الحسنات، وعفا لنا عن السيئات، وضمن عنا التبعات، قال: ثم شهق مالك شهقة خر مغشيا عليه، قال: فلبث بعد ذلك أياما مريضا، ثم انصدع قلبه فمات.
(و قال) سهيل أخو حزم: رأيت مالك بن دينار [5] بعد موته فقلت: يا أبا يحيى ليت شعري ما ذا قدمت به على اللّه؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة محاها عني، حسن الظن باللّه عز وجل.
(و لما مات) رجاء بن حياة [6] رأته امرأة عابدة فقالت: يا أبا المقدام إلى ما صرتم؟ قال: إلى خير، ولكن فزعنا بعدكم فزعة ظننا أن القيامة قد قامت، قالت:
قلت ومم ذلك؟ قال: دخل الجراح وأصحابه الجنة بأثقالهم حتى ازدحموا على بابها.
(و قال) جميل بن مرة: كان مورق العجلي [7] لي أخا وصديقا فقلت له ذات يوم: أينا مات قبل صاحبه فليأت صاحبه فليخبره بالذي صار إليه. قال: فمات مورق فرأت أهلي في منامها كأنه أتانا كما كان يأتي، فقرع الباب كما كان يقرع، قالت: فقمت ففتحت له كما كنت أفتح، وقلت: أدخل يا أبا المعتمر إلى باب أخيك، فقال: كيف أدخل وقد ذقت الموت، إنما جئت لأعلم جميلا بما صنع اللّه بي، أعلميه أنه جعلني في المقربين.
(و لما مات) محمد بن سيرين حزن عليه بعض أصحابه حزنا شديدا فرآه في المنام في حال حسنة فقال: يا أخي قد أراك في حال يسرني فما صنع الحسن؟
قال: رفع فوقي بسبعين درجة، قلت: ولم ذاك وقد كنا نرى أنك أفضل منه؟ قال:
ذاك يطول حزنه.
(و قال) ابن عيينة: رأيت سفيان الثوري في النوم فقلت: أوصني، قال:
أقلل من معرفة الناس.
(و قال) عمار بن سيف: رأيت الحسن بن صالح [8] في منامي فقلت: قد كنت متمنيا للقائك فما ذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشر فإني لم أر مثل حسن الظن باللّه شيئا.
(و لما مات) ضيغم العابد [9] رآه بعض أصحابه في المنام فقال: أما صليت علي؟ قال: فذكرت علة كانت، فقال: أما لو كنت صليت علي ربحت رأسك.
(و لما ماتت) رابعة رأتها امرأة من أصحابها [10] وعليها حلة استبرق وخمار من سندس وكانت كفنت في جبة وخمار من صوف، فقالت لها: ما فعلت الجبة التي كفنتك فيها وخمار الصوف؟ قالت: واللّه أنه نزع عني وأبدلت به هذا الذي ترين علي، وطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين ليكمل لي ثوابها يوم القيامة، قالت: فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا! فقالت: وما هذا عند ما رأيت من كرامة اللّه لأوليائه، فقلت لها: فما فعلت عبدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات سبقتنا واللّه إلى الدرجات العلى، قالت: قلت: وبم وقد كنت عند الناس أعبد منها! فقالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا أو أمست، فقلت: فما فعل أبو مالك (تعني ضيغما) فقالت: يزور اللّه تبارك وتعالى متى شاء، قالت: قلت: فما فعل بشر بن منصور! قالت: بخ بخ أعطى واللّه فوق ما كان يأمل. قالت: قلت: مريني بأمر أتقرب به إلى اللّه تعالى، قالت: عليك بكثرة ذكر اللّه فيوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك.
(و لما مات) عبد العزيز بن سلمان العابد [11] رآه بعض أصحابه وعليه ثياب خضر، وعلى رأسه إكليل من لؤلؤ، فقال: كيف كنت بعدنا، وكيف وجدت طعم الموت، وكيف رأيت الأمر هناك! قال: أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمه إلا أن رحمة اللّه وارث عنا كل عيب وما تلقانا إلا بفضله.
(و قال) صالح بن بشر [12]: لما مات عطاء السلمي رأيته في منامي فقلت: يا أبا محمد أ لست في زمرة الموتى! قال: بلى، قلت: فما ذا صرت إليه بعد الموت! قال: صرت واللّه إلى خير كثير ورب غفور شكور، قال: قلت: أما واللّه لقد كنت طويل الحزن في دار الدنيا، فتبسم وقال: واللّه لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحا دائما، قلت: ففي أي الدرجات أنت! قال: مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [13].
(و لما مات) عاصم الجحدري رآه بعض أهله في المنام فقال: أ ليس قد مت! قال: بلى، قال: فأين أنت! قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم! قال: هيهات بليت الأجساد وإنما تتلاقى الأرواح.
(و رئي) الفضيل بن عياض [14] بعد موته فقال: لم أر للعبد خيرا من ربه.
(و كان مرة الهمداني) قد سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه رجل من أهله في منامه وكأن موضع سجوده كهيئة الكوكب الدري، فقال: ما هذا الأثر الذي أرى بوجهك؟ قال: كسى موضع السجود بأكل التراب له نورا، قال: قلت:
فما منزلتك في الآخرة؟ قال: خير منزل، دار لا ينتقل عنها أهلها ولا يموتون.
(و قال) أبو يعقوب القارئ: رأيت في منامي رجلا آدما طوالا والناس يتبعونه، قلت: من هذا! قالوا: أويس القرني [15]، فاتبعته فقلت أوصني يرحمك اللّه، فكلح [16] في وجهي، فقلت: مسترشد فأرشدني رحمك اللّه، فأقبل علي فقال: ابتغ رحمة اللّه عند محبته؛ واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك منه في خلال ذلك، ثم ولى وتركني.
(و قال) ابن السماك: رأيت مسعرا [17] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: مجالس الذكر (و قال الأجلح) رأيت سلمة بن كهيل [18] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: قيام الليل.
(و قال) أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء بن بشر بعد موته فقلت: ما فعلت يا وفاء! قال: نجوت بعد كل جهد، قلت: فأي الأعمال وجدتموها أفضل، قال:
البكاء من خشية اللّه عز وجل.
(و قال) الليث بن سعد عن موسى بن وردان [19] أنه رأى عبد اللّه بن أبي حبيبة بعد موته فقال: عرضت علي حسناتي وسيئاتي، فرأيت في حسناتي حبات رمان التقطتهن فأكلتهن، ورأيت في سيئاتي خيطي حرير كانا في قلنسوتي.
(و قال) سعيد بن داود: حدثني ابن داود أخي جويرية بن أسماء [20] قال: كنا بعبادان، فقدم علينا شاب من أهل الكوفة متعبد، فمات بها في يوم شديد الحر، فقلت: نبرد ثم نأخذ في جهازه فنمت، فرأيت كأني في المقابر، فإذا بقية جوهر تتلألأ حسنا وأنا أنظر إليها، فأشرفت منها جارية ما رأيت مثل حسنها، فأقبلت علي فقالت: باللّه لا تحبسه عنا إلى الظهر، قال: فانتبهت فزعا وأخذت في جهازه وحفرت له قبرا في الموضع الذي رأيت فيه القبة فدفنته فيه.
و قال عبد الملك بن عتاب الليثي: رأيت عامر بن عبد قيس [21] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: ما أريد به وجه اللّه عز وجل. و قال يزيد بن هارون: رأيت أبا العلاء أيوب بن أبي مسكين [22] في المنام فقلت: ما فعل بك ربك! قال: غفر لي، قلت: بما ذا! قال: بالصوم والصلاة، قلت: أ رأيت منصور بن زاذان؟ قال: هيهات ذاك ترى قصره من بعيد.
و قال يزيد بن نعامة: هلكت جارية في طاعون الجارف، فلقيها أبوها بعد موتها فقال لها: يا بنية أخبريني عن الآخرة، قالت: يا أبت قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل، وتعلمون ولا تعملون، واللّه لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة عملي أحب إلي من الدنيا وما فيها.
و قال كثير بن مرة: رأيت في منامي كأني دخلت درجة علياء في الجنة، فجعلت أطوف بها وأتعب منها، فإذا أنا بنساء من نساء المسجد في ناحية منها، فذهب حتى سلمت عليهم ثم قلت: بما بلغتن هذه الدرجة؟ قلن:
سجدات وتكبيرات.
و قال مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز عن فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: انتبه عمر بن عبد العزيز ليلة فقال: لقد رأيت رؤيا معجبة! قالت: فقلت: جعلت فداك فأخبرني بها؟ فقال: ما كنت لأخبرك بها حتى أصبح، فلما طلع الفجر خرج فصلى ثم عاد إلى مجلسه، قالت: فاغتنمت خلوته فقلت: أخبرني بالرؤيا التي رأيت؟ قال: رأيت كأني رفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر، وإذا فيها قصر أبيض كأنه الفضة، وإذا خارج قد خرج من ذلك القصر فهتف بأعلى صوته يقول: أين محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، أين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، إذا أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى دخل القصر، قال: ثم إن آخر خرج من ذلك القصر فنادى: أين أبو بكر الصديق أين ابن أبي قحافة؟ إذا أقبل أبو بكر حتى دخل تلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين عمر بن الخطاب، فأقبل عمر حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين عثمان بن عفان؟ فأقبل حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين علي بن أبي طالب، فأقبل حتى دخل ذلك القصر، ثم إن آخر خرج فنادى: أين عمر بن عبد العزيز؟ قال: قال عمر: فقمت حتى دخلت ذلك القصر، قال: فدفعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والقوم حوله، فقلت بيني وبين نفسي: أين أجلس؟ فجلست إلى جنب أبي عمر بن الخطاب، فنظرت فإذا أبو بكر عن يمين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإذا عمر عن يساره، فتأملت فإذا بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين أبي بكر رجل، فقلت:
من هذا الرجل الذي بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين أبي بكر؟
فقال: هذا عيسى ابن مريم، فسمعت هاتفا يهتف وبيني وبينه ستر: نور يا عمر بن عبد العزيز، تمسك بما أنت عليه واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج فخرجت من ذلك القصر، فالتفت خلفي فإذا أنا بعثمان بن عفان وهو خارج من ذلك القصر يقول: الحمد للّه الذي نصرني، وإذا علي بن أبي طالب في دائرة خارج من ذلك القصر وهو يقول: الحمد للّه الذي غفر لي.
(و قال) سعيد بن أبي عروة عن عمر بن عبد العزيز [قال] [23] رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت وجلست، فبينا أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتا وأحيف عليهما الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن يخرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، وما كان بأسرع من أن خرج معاوية على أثره وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة.
(و قال) حماد بن أبي هاشم: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله، وأقبل رجلان يختصمان وأنت بين يديه جالس، فقال لك: يا عمر، إذا عملت فاعمل بعمل هذين أبي بكر وعمر، فاستحلفه عمر باللّه أ رأيت هذه الرؤيا؟
فحلف، فبكى عمر.
(و قال) عبد الرحمن بن غنم: رأيت معاذ بن جبل بعد وفاته بثلاث [24] على فرس أبلق وخلفه رجال بيض عليهم ثياب خضر على خيل بلق وهو قدامهم وهو يقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾[36:27] ثم التفت عن يمينه وشماله يقول: يا ابن رواحة يا ابن مظعون ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾[39:74] ثم صافحني وسلّم علي.
(و قال) قبيصة بن عقبة: رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته فقلت: ما فعل اللّه بك، فقال:
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضانا عنك يا ابن سعيد
فقد كنت قواما إذا الليل قد دجا ... بعيرة محزون وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني منك غير بعيد
وقال سفيان بن عيينة: رأيت سفيان الثوري بعد موته يطير في الجنة من نخلة إلى شجرة ومن شجرة إلى نخلة وهو يقول: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ [37:61] فقيل له: بما أدخلت الجنة؟ قال: بالورع بالورع، قيل له: فما فعل علي بن عاصم [25]؟ قال: ما نراه إلا مثل الكوكب.
(و كان) شعبة بن الحجاج [26] ومسعر بن كدام [27] حافظين وكانا جليلين، قال أبو أحمد البريدي: فرأيتهما بعد موتها، فقلت: أبا بسطام ما فعل اللّه بك؟ فقال:
وفقك اللّه لحفظ ما أقول:
حباني إلهي في الجنان بقية ... لها ألف باب من لجين [28] وجوهرا
وقال لي الرحمن يا شعبة الذي ... تبحر في جمع العلوم فأكثرا
تنعم بقربي إنني عنك ذو رضا ... وعن عبدي القوام في الليل مسعرا
كفا مسعرا عزا بأن سيزورني ... واكشف عن وجهي الكريم لينظرا
وهذا فعالي بالذين تنسكوا ... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا
قال أحمد بن محمد اللبدي: رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت: يا أبا عبد اللّه ما فعل اللّه بك؟ قال: غفر لي، قال: يا أحمد ضربت فيّ ستين سوطا؟
قلت: نعم يا رب، قال: هذا وجهي قد أبحتك فانظر إليه.
و قال أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج: حدثني رجل من أهل طرطوس قال: دعوت اللّه عز وجل أن يريني أهل القبور حتى أسألهم عن أحمد بن حنبل ما فعل اللّه به؟ فرأيت بعد عشر سنين في المنام كأن أهل القبور قد قاموا على قبورهم فبادروني بالكلام فقالوا: يا هذا كم تدعو اللّه عز وجل أن يريك إيانا تسألنا عن رجل لم يزل منذ فارقكم تحليه الملائكة تحت شجرة طوبى. قال أبو محمد عبد الحق: وهذا الكلام من أهل القبور إنما هو إخبار عن علو درجة أحمد بن حنبل وارتفاع مكانه وعظم منزلته، فلم يقدروا أو يعبروا عن صفة حاله وعن ما هو فيه إلا بهذا وما هو في معناه.
و قال أبو جعفر السقاء صاحب بشر بن الحارث [29]: رأيت بشرا الحافي ومعروفا الكرخي [30] وهما جائيان فقلت: من أين؟ قالا: من جنة الفردوس زرنا كليم اللّه موسى.
و قال عاصم الجزري: رأيت في النوم كأني لقيت بشر بن الحارث، فقلت:
من أين أبا نصر؟ قال: من عليين، قلت: فما فعل أحمد بن حنبل. قال: تركته الساعة مع عبد الوهاب الوراق بين يدي اللّه عز وجل يأكلان ويشربان، قلت له:
فأنت؟ قال: علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه.
و قال أبو جعفر السقاء: رأيت بشر بن الحارث في النوم بعد موته فقلت:
أبا نصر ما فعل اللّه بك؟ قال: ألطفني ورحمني وقال لي: يا بشر لو سجدت لي في الدنيا على الجمر ما أديت شكر ما حشوت قلوب عبادي منك، وأباح لي نصف الجنة فأسرح فيها حيث شئت، ووعدني أن يغفر لمن تبع جنازتي، فقلت: ما فعل أبو نصر التمار؟ فقال: ذاك فوق الناس بصبره على بلائه وفقره، قال عبد الحق:
لعله أراد بقوله: نصف الجنة، نصف نعيمها، لأن نعيمها نصفان، نصف روحاني ونصف جسماني، فيتنعمون أولا بالروحاني، فإذا ردت الأرواح إلى الأجساد أضيف لهم النعيم الجسماني إلى الروحاني، وقال غيره: نعيم الجنة مرتب على العلم والعمل، وحظ بشر من العمل كان أوفى من حظه في العلم، واللّه أعلم.
و قال بعض الصالحين: رأيت أبا بكر الشبلي في المنام وكأنه قاعد في مجلس الرصافة بالموضع الذي كان يقعد فيه، وإذا به قد أقبل وعليه ثياب حسان، فقمت إليه وسلمت عليه وجلست بين يديه، فقلت له: من أقرب أصحابك إليك؟
قال: أكثرهم لذكر اللّه، وأقومهم بحق اللّه، وأسرعهم مبادرة في مرضاة اللّه.
و قال أبو عبد الرحمن الساحلي: رأيت ميسرة بن سليم في المنام بعد موته فقلت له: طالت غيبتك! فقال: السفر الطويل، فقلت له: فما الذي قدمت عليه؟
فقال: رخص لي لأنا كنا نفتي بالرخص، فقلت: فما تأمرني به؟ قال: إتباع الآثار، وصحبة الأخيار، ينجيان من النار، ويقربان من الجبار.
و قال أبو جعفر الضرير: رأيت عيسى بن زاذان بعد موته، فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فأنشأ يقول:
لو رأيت الحسان في الخلد حولي ... وأكاويب معها للشراب
يترنمن بالكتاب جميعا ... يتمشين مسبلات الثياب
وقال بعض أصحاب ابن جريج: رأيت كأني جئت إلى المقبرة التي بمكة، فرأيت على عامتها سرادقا، ورأيت منها قبرا عليه سرادق [31] وفسطاط [32] وسدرة فجئت حتى دخلت، فسلمت عليه، فإذا بمسلم بن الرنجي، فسلمت عليه وقلت:
يا أبا خالد ما بال هذه القبور عليها سرادق وقبرك عليه سرادق وفسطاط وفيه سدرة؟
فقال: إني كنت كثير الصيام، فقلت: فأين قبر ابن جريج وأين محله؟ فقد كنت أجالسه وأنا أحب أن أسلم عليه، فقال: هكذا، بيده هيهات وأدار إصبعه السبابة، وأين قبر ابن جريج رفعت صحفته في عليين.
و رأي حماد بن سلمة [33] في النوم أصحابه، فقال له: ما فعل اللّه بك؟
فقال: قال لي: طال ما كدت نفسك في الدنيا فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعبين.
و هذا باب طويل جدا، فإن لم تسمح نفسك بتصديقه وقلت: هذه منامات، وهي غير معصومة، فتأمل من رأى صاحبا له أو قريبا أو غيره فأخبره بأمر لا يعلمه إلا صاحب الرؤيا، أو أخبره بمال دفنه أو حذره من أمر يقع أو بشره بأمر يوجد فوقع كما قال، أو أخبره بأنه يموت هو أو بعض أهله إلى كذا وكذا فيقع كما أخبره، أو أخبره بخصب أو جدب أو عدو أو نازلة أو مرض أو بغرض له فوقع كما أخبره، والواقع من ذلك لا يحصيه إلا اللّه، والناس مشتركون فيه، وقد رأينا نحن وغيرنا من ذلك عجائب.
و أبطل من قال أن هذه كلها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسه عن الشواغل البدنية بالنوم، وهذا من الباطل والمحال، فإن النفس لم يكن لها معرفة قط بهذه الأمور التي يخبر بها الميت، ولا خطرت ببالها ولا عندها علامة عليها، ولا إمارة بوجه ما، ونحن لا ننكر أن الأمر قد يقع كذلك.
و إن من الرؤيا ما يكون من حديث النفس وصورة الاعتقاد، بل كثير من مرائي الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق وغير المطابق. فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع: رؤيا من اللّه، ورؤيا الشيطان، ورؤيا من حديث النفس.
و الرؤيا الصحيحة أقسام: منها إلهام يلقيه اللّه سبحانه في قلب العبد وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام كما قال عبادة بن الصامت وغيره.
و منها مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها.
و منها التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم كما ذكرنا.
و منها عروج روحه إلى اللّه سبحانه وخطابها له.
و منها دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك، فالتقاء الأرواح الأحياء والموتى نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات.
و هذا موضع اضطرب فيه الناس (فمن قائل) إن العلوم كلها كامنة في النفس، وإنما اشتغالها بعالم الحس يحجب عنا مطالعتها، فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها، ولما كان تجردها بالموت أكمل، كانت علومها ومعارفها هناك أكمل، وهذا فيه حق وباطل، فلا يرد كله ولا يقبل كله، فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد، لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم اللّه الذي بعث به رسوله، وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية، وتفاصيل المعاد، وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي، والأسماء والصفات والأفعال، وغير ذلك مما لا يعلم إلا بالوحي، ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية.
(و من قائل) إن هذه المرائي علوم علقها اللّه في النفس ابتداء بلا سبب، وهذا قول منكري الأسباب والحكم القوي، وهو قول مخالف للشرع والعقل والفطرة.
(و من قائل) إن الرؤيا أمثال مضروبة، يضربها اللّه للعبد بحسب استعداد ألفه على يد ملك الرؤيا، فمرة يكون مثلا مضروبا، ومرة يكون نفس ما رآه الرائي فيطابق الواقع العلم لمعلومه. و هذا أقرب من القولين قبله، ولكن الرؤيا ليست مقصورة عليه، بل لها أسباب أخرى، كما تقدم من ملاقاة الأرواح وأخبار بعضها بعضا، من إلقاء الملك الذي في القلب والروغ، ومن رؤية الروح للأشياء مكافحة بلا واسطة.
(و قد ذكر) أبو عبد اللّه بن منده الحافظ في كتاب (النفس والروح) من حديث محمد بن حميد: حدثنا عبد الرحمن بن الغراء الدووسي، حدثنا الأزهر بن عبد اللّه الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه قال: لقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب فقال له: يا أبا الحسن ربما شهدت وغبنا، وشهدنا وغبت؟ ثلاث أسألك عنهن عندك منهن علم؟ فقال علي بن أبي طالب: و ما هن؟ فقال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا، فقال علي: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
(إن الأرواح جنود مجندة، تلتقي في الهواء فتشأم [34]، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، فقال: واحدة، قال عمر: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه، فبينا هو وما نسيه إذ ذكره، فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (ما في القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضي ء إذا تجللته سحابة فأظلم، إذا تجلت فأضاء، وبينما القلب يتحدث إذا تجللته سحابة فنسي، إذ تجلت عنه فيذكر) قال عمر: اثنتان، قال: والرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب؟ فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (ما من عبد ينام يتملى نوما إلا عرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب، فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهن، فالحمد للّه الذي أصبنهن قبل الموت).
و قال بقية بن الوليد: حدثنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب: عجبت لرؤيا الرجل يرى الشي ء لم يخطر له على بال فيكون كأخذ بيد، ويرى الشي ء فلا يكون شيئا، فقال علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، يقول اللّه عز وجل أنه: ﴿يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] قال: والأرواح يعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق، فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فما رأت من ذلك فهو الباطل، قال: فجعل عمر يتعجب من قول علي، قال ابن منده: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره وروى عن أبي الدرداء.
(و ذكر) الطبراني من حديث علي بن أبي طلحة أن عبد اللّه بن عباس قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين أشياء أسألك عنها؟ قال: سل عما شئت، قال: يا أمير المؤمنين، مم يذكر الرجل ومم ينسى، ومم تصدق الرؤيا ومم تكذب؟
فقال له عمر: إن على القلب طخاوة [35] كطخاوة القمر، فإذا تغشت القلب نسي ابن آدم، فإذا انجلت ذكر ما كان نسي، وأما مم تصدق الرؤيا ومم تكذب، فإن اللّه عز وجل يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾[39:42] فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي تصدق، وما كان منها دون ملكوت السماء فهي التي تكذب.
(و روى) ابن لهيعة عن عثمان بن نعيم الرعيني عن أبي عثمان الأصبحي عن أبي الدرداء [36] قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها العرش، فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود، وإن كان جنبا لم يؤذن لها بالسجود.
(و روى) جعفر بن عون عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال: إن الأرواح جنود مجندة تتلاقى فتشأم كما تشأم الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
و لم يزل الناس قديما وحديثا تعرف هذا وتشاهده، قال جميل بن معمر الغنوي:
أظل نهاري مستهاما وتلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها
فإن قيل: فالنائم يرى غيره من الأحياء يحدثه ويخاطبه وربما كان بينهما مسافة بعيدة ويكون الرائي يقظان، روحه لم تفارق جسده، فكيف التقت روحاهما، قيل: هذا إما أن يكون مثلا مضروبا ضربه ملك الرؤيا للنائم، أو يكون حديث نفس من الرائي تجرد له منامه كما قال حبيب بن أوس:
سقيا لطيفك من زور أتاك به ... حديث نفسك عنه وهو مشغول
وقد تتناسب الروحان وتشتد علاقة إحداهما بالأخرى، فيشعر كل منهما ببعض ما يحدث لصاحبه، وإن لم يشعر بما يحدث لغيره لشدة العلاقة بينهما، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب.
و المقصود أن أرواح الأحياء تتلاقى في النوم، كما تتلاقى أرواح الأحياء والأموات، قال بعض السلف: إن الأرواح تتلاقى في الهواء فتتعارف أو تتناكر، فيأتيها ملك الرؤيا بما هو لاقيها من خير أو شر، قال: وقد وكل اللّه بالرؤيا الصادقة ملكا علمه وألهمه معرفة كل نفس بعينها واسمها ومتقلبها في دينها ودنياها وطبعها ومعارفها، لا يشتبه عليه منها شي ء ولا يغلط فيها، فتأتيه نسخة من علم غيب أئمة من أم الكتاب بما هو مغيب لهذا الإنسان من خير وشر في دينه ودنياه، ويضرب له فيها الأمثال والأشكال على قدر عادته، فتارة يبشره بخير قدمه أو يقدمه، وينذره من معصية ارتكبها أو هم بها، ويحذره من مكروه انعقدت أسبابه ليعارض تلك الأسباب بأسباب تدفعها، ولغير ذلك من الحكم والمصالح التي جعلها اللّه في الرؤيا نعمة منه ورحمة وإحسانا وتذكيرا وتعريفها، وجعل أحد طرق ذلك تلاقي الأرواح وتذاكرها وتعارفها، وكم من كانت توبته وصلاحه وزهده وإقباله على الآخرة عن منام رآه أو رئي له، وكم ممن استغنى وأصاب كنزا دفينا عن منام.
و في (كتاب المجالسة) لأبي بكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة عن أبي حاتم عن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عمن حدثه قال: خرجنا مرة في سفر وكنا ثلاثة نفر، فنام أحدنا، فرأينا مثل المصباح خرج من أنفه فدخل غارا قريبا منه ثم رجع فدخل أنفه، فاستيقظ يمسح وجهه، وقال: رأيت عجبا، رأيت في هذا الغار كذا وكذا، فدخلناه فوجدنا فيه بقية من كنز كان.
و هذا عبد المطلب دل في النوم على زمزم وأصاب الكنز الذي كان هناك [37].
و هذا عمير بن وهب أتي في منامه فقيل له: قم إلى موضع كذا وكذا من البيت فاحفره تجد مال أبيك، وكان أبوه قد دفن مالا ومات ولم يوص به، فقام عمير من نومه فاحتفر حيث أمره، فأصاب عشرة آلاف درهم وتبرا كثيرا، فقضى دينه وحسن حاله وحال أهل بيته، وكان ذلك عقب إسلامه، فقالت له الصغرى من بناته: يا أبت ربنا هذا الذي حبانا بدينه خير من هبل والعزى، ولو أنه كذلك وما ورثك هذا المال، وإنما عبدته أياما قلائل.
قال علي بن أبي طالب القيرواني العابر: وما حديث عمر هذا واستخراجه المال بالمنام بأعجب مما كان عندنا وشاهدناه في عصرنا بمدينتنا من أبي محمد عبد اللّه البغانشي، وكان رجلا صالحا مشهورا برؤية الأموات وسؤالهم عن الغائبات، ونقله ذلك إلى أهلهم وقراباتهم، حتى اشتهر بذلك وكثر منه، فكان المرء ليشكو إليه حميمه قد مات من غير وصية له مال لا يهتدي إلى مكانه، فيعده خيرا ويدعو اللّه تعالى في ليلته، فيتراءى له الميت الموصوف فيسأله عن الأمر فيخبره به.
(فمن نوادره) أن امرأة عجوزا من الصالحات توفيت، ولامرأة عندها سبعة دنانير وديعة، فجاءت إليه صاحبة الوديعة وشكت إليه ما نزل بها وأخبرته باسمها واسم الميتة صاحبتها، ثم عادت إليه من الغد، فقال لها: تقول لك فلانة عدي من سقف بيتي سبع خشبات تجدي الدنانير في السابعة في خرقة صوف، ففعلت ذلك فوجدتها كما وصف لها.
قال: وأخبرني رجل لا أظن به كذبا: استأجرتني امرأة من أهل الدنيا على هدم دار لها وبنائها بمال معلوم، فلما أخذت في الهدم لزمت الفعلة هي ومن معها، فقلت: ما لك؟ قالت: وللّه ما لي إلى هذه الدار من حاجة، لكن أبي مات و كان ذا يسار كثير، فلم تجد له كثير شي ء، فخلت أن ماله مدفون، فعمدت إلى هدم الدار لعلي أجد شيئا! فقال لها بعض من حضر: لقد فاتك ما هو أهون عليك من هذا، قالت: وما هو؟ قال: فلان تمضين إليه وتسألينه أن يبيت قصتك الليلة فلعله ير أباك فيدلك عن مكان ماله بلا تعب ولا كلفة، فذهبت إليه ثم عادت إلينا، فزعمت أنه كتب اسمها واسم أبيها عنده، فلما كان من الغد بكرت إلى العمل، وجاءت المرأة من عند الرجل فقالت: إن الرجل قال لي: رأيت أباك وهو يقول:
المال في الحنية، قال: فجعلنا نحفر تحت الحنية وفي جوانبها حتى لاح لي شق، وإذا المال فيه، قال: فأخذنا في التعجب والمرأة تستخف بما وجدت وتقول: مال أبي كان أكثر من هذا ولكني أعود إليه، فمضت فأعلمته ثم سألته المعاود، فلما كان من الغد أتت وقالت: إنه قال لها: إن أباك يقول لك: احفري تحت الخابية التي في مخزن الزيت قال: ففتحت المخزن فإذا بخابية مربعة في الركن فأزلناها وحفرنا تحتها فوجدنا كوزا كبيرا فأخذته، ثم دام بها الطمع في المعاودة، ففعلت فرجعت من عنده وعليها الكآبة فقالت: زعم أنه رآه وهو يقول له: قد أخذت ما قدر لها، وأما ما بقي فقد جلس عليه عفريت من الجن يحرسه إلى من قدر له، والحكايات في هذا الباب كثيرة جدا.
و أما من حصل له الشفاء باستعمال دواء رأى من وصفه له في منامه فكثير جدا (و قد حدثني) غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه رآه بعد موته وسأله عن شي ء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب.
و بالجملة فهذا أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها وباللّه التوفيق.
هامش
انظر قصة حفر زمزم في سيرة ابن هشام (1/ 150).
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
ذكر في التسهيل (3/ 196): هذه الآية للاعتبار، ومعناها أن اللّه يتوفى النفوس على وجهين: أحدهما وفاة كاملة حقيقة وهي الموت، والآخر وفاة النوم لأن النائم كالميت في كونه لا يبصر ولا يسمع، ومنه قوله تعالى: وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وفي الآية عطف، والتقدير: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها.
أي ابن تيمية.
هو السيد الجليل زرارة بن أوفى العامري أبو حاجب قاضي البصرة، قرأ في صلاة الصبح: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ فخر ميتا، وكانت وفاته سنة ثلاث وتسعين.
كان من عباد البصرة وفقهائها، روى عن أبي عمرو وغيره، قال ابن عوف: كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلا عابدا ورعا. توفي سنة مائة للهجرة.
هو السيد الكبير والولي الشهير أبو يحيى مالك بن دينار البصري الزاهد المشهور، كان مولى لبني أسامة بن لؤي بن غالب بن قهر بن مالك، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، أقام أربعين سنة لا يأكل من ثمار البصرة، ولا يأكل إلا من عمل يده، ووقع حريق بها، فخرج قذرا ببرية وفي يده مصحف، وقال: فاز المخفون، وقيل له: ألا تستسقي لنا؟ فقال: أنتم تنتظرون الغيث وأنا أنتظر الحجارة. توفي سنة سبع وعشرين ومائة.
هو أبو المقدام رجاء بن حياة الكندي الشامي الفقيه، روى عن معاوية وطبقته، وكان شريفا نبيلا كامل السؤدد، قال مطر الورّاق: ما رأيت شاميا أفقه منه، وقال مكحول: هو سيد أهل الشام في أنفسهم، وقال مسلمة الأمير: في كندة رجاء بن حياة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي، إن اللّه لينزل بهم الغيث وينصر بهم الأعداء. بلغ يوما عبد الملك قول من بعض الناس، فهم أن يعاقب صاحبه، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين قد فعل اللّه بك ما تحب حيث أمكنك منه، فافعل ما يحبه اللّه من العفو، فعفا عنه وأحسن إليه، توفي رحمه اللّه سنة اثنتي عشرة ومائة.
توفي سنة إحدى ومائة.
هو الحسن بن صالح بن حي الهمداني فقيه الكوفة وعابدها، روى عن سماك بن حرب وطبقته. قال أبو نعيم: ما رأيت أفضل منه، وقال أبو حاتم: ثقة حافظ متقن. وقال ابن معين: يكتب رأي الحسن بن صالح ويكتب رأي الأوزاعي، هؤلاء ثقات. قال وكيع: الحسن بن صالح يشبه بسعيد بن جبير، كان هو وأخوه علي وأمهما قد جزءا الليل ثلاثة أجزاء، فماتت أمهما، فقسما الليل سهمين، فمات علي فقام الحسن الليل كله، قاله في العبر. ومات علي سنة أربع وخمسين، وهما توأم، أخرج لهما مسلم. توفي سنة سبع وستين ومائة.
هو أبو مالك العابد، قال أبو أيوب مولى ضيغم ليلة: لو أعلم أن رضاه أن أقرض لحمي لدعوت بالمقراض فقرضه. قال: قال سيار: رأيت ضيغما صلّى نهاره أجمع وليلة حتى بقي راكعا لا يقدر أن يسجد، فرأيته رفع رأسه إلى السماء ثم قال: قرة عيني، ثم خر ساجدا، فسمعته يقول وهو ساجد:
إلهي كيف عزفت قلوب الخليفة عنك؟ قال: وربما أصابته الفترة فإذا وجد ذلك اغتسل ثم دخل بيتا فأغلق بابه وقال: إلهي إليك جئت، قال: فيعود إلى ما كان من الركوع. (انظر صفة الصفوة لابن الجوزي).
وهي عبدة بنت أبي شوال، وكانت من خيار إماء اللّه، وكانت تخدم رابعة. وكانت وفاة رابعة بنت إسماعيل البصرية العدوية سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل سنة خمس وثمانين ومائة.
ويكنى أبا محمد قال أبو طارق التبان: كان عبد العزيز بن سلمان إذا ذكر القيامة والموت صرخ كما تصرخ الثكلى ويصرخ الخائفون من جوانب المسجد، قال: وربما رفع الميت والميتان من جوانب مجلسه (انظر صفة الصفوة لابن الجوزي).
كان مملوكا لامرأة من بني مرة بن الحارث بن بني عبد القيس فأعتقته، قال الأصمعي: شهدت صالحا المري عزى رجلا على ابنه فقال: لئن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة في نفسك فمصيبتك بابنك جلل في مصيبتك في نفسك، فإياها فابك. أسند صالح عن الحسن وابن سيرين وثابت وقتادة وبكر بن عبد اللّه في خلق كثير من التابعين. توفي سنة ست وسبعين ومائة. (انظر صفة الصفوة لابن الجوزي).
من قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69]
قال ابن ناصر الدين: [هو] الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر أبو علي التميمي اليربوعي المروزي إمام الحرمين، شيخ الإسلام، قدوة الأعلام، حدّث عنه الشافعي ويحيى القطان وغيرهما، وكان إماما ربانيا كبير الشأن ثقة نبيلا عابدا زاهدا جليلا. توفي سنة سبع وثمانين ومائة للهجرة.
هو أويس بن عامر بن جرير بن مالك القرني، وقال علقمة بن مرثد: أويس بن أنيس، وقيل:
أويس بن الحليس. عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتت عليه أمداد أهل اليمن سألهم: هل فيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم قرن؟ قال: نعم، قال: كان بفيك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر على أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، وله والدة هو بها بار، لو أقسم على اللّه عز وجل لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فالع» فاستغفر لي؟ فاستغفر له. فقال عمر رضي اللّه عنه: أين تريد؟ قال: الكوفة، فقال: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك؟ قال: لأن أكون في غبر الناس أحب إلي. قال: فلما كان العام المقبل حج رجل من أشراف الكوفة فوافق عمر فسأله عن أويس: كيف تركته؟ قال: تركته رث الهيئة قليل المتاع، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول (فذكر الحديث) فلما قدم الرجل الكوفة أتى أويسا فقال: استغفر لي؟ فقال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح، ما ستغفر لي، لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له ففطن الناس له فانطلق على وجهه. (راجع صفة الصفوة لابن الجوزي).
الكلوح: التكشر في عبوس.
هو مسعر بن كدام الحافظ أبو سلمة الهلالي الكوفي الأحول أحد الأعيان، يسمى المصحف من إتقانه، ويدعى الميزان لنقده وتحرير لسانه، قال في العبر: أخذ عن الحكم وقتادة وخلق، وكان عنده نحو ألف حديث. قال يحيى القطان: ما رأيت أثبت منه، وقال شعبة: كنا نسمي مسعرا المصحف، توفي سنة خمس وخمسين ومائة.
هو سلمة بن كهيل الكوفي، روى عن جندب البجلي وطائفة وكان من إثبات الشيعة وعلمائهم، حمل عنه شعبة والثوري. توفي سنة إحدى وعشرين ومائة.
هو موسى بن وردان المصري القاضي، روى عن أبي هريرة وسعد وطائفة، وعاش نيفا وثمانين سنة، توفي سنة سبع عشرة للهجرة.
هو جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري، روى عن نافع والزهري وكان ثقة كثير الحديث.
توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة.
هو عامر بن عبد قيس بن ناشب بن أسامة بن جذيمة بن معاوية الناسك الفاضل، وهو الذي سيره عثمان رضي اللّه عنه من البصرة إلى الشام.
هو أبو العلاء أيوب بن أبي مسكين القصاب أخذ عن قتادة وجماعة، توفي سنة أربعين ومائة.
زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.
توفي بالطاعون سنة سبع عشرة للهجرة، وكان من نجباء الصحابة.
هو علي بن عاصم أبو الحسن الواسطي، محدث واسط، روى عن حصين بن عبد الرحمن وعطاء بن السائب والكبار، وكان يحضر مجلسه ثلاثون ألفا، توفي سنة إحدى ومائتين وله بضع وتسعون سنة.
هو شعبة بن الحجاج بن الورد الإمام أبو بسطام العتكي الأزدي مولاهم الواسطي شيخ البصرة، وأمير المؤمنين في الحديث، روى عن معاوية بن قرة وعمرو بن مرة وخلق من التابعين، قال الشافعي: لو لا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، وقال ابن المديني: له نحو ألقي حديث، وقال سفيان لما بلغه موت شعبة: مات الحديث وقال أبو زيد الهروي: رأيت شعبة يصلي حتى تورمت قدماه، وقد أثنى جماعة من كبار الأئمة على شعبة ووصفوه بالعلم والزهد والقناعة والرحمة والخير، وكان رأسا في العربية والشعر سوى الحديث، توفي سنة ستين ومائة لثلاث بقين من جمادى الآخرة
هو مسعر بن كدام الحافظ أبو سلمة الهلالي الكوفي أخذ عن الحكم وقتادة وخلق، وكان عنده نحو ألف حديث، قال يحيى القطان: ما رأيت أثبت منه، وقال شعبة: كنا نسمي مسعرا: المصنف، وقال أبو نعيم: مسعر أثبت من سفيان وشعبة، توفي سنة خمس وخمسين ومائة.
اللجين بالضم: الفضة.
هو أبو نصر بشر بن الحارث المروزي الزاهد المعروف ببشر الحافي، سمع من حماد بن زيد وإبراهيم بن سعد وطبقتهما، وعني بالعلم ثم أقبل على شأنه ودفن كتبه وحدث بشي ء يسير، وكان في الفقه على مذهب الثوري، وقد صنف العلماء في مناقب بشر وكراماته رحمه، توفي ببغداد في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائة وعاش خمسا وسبعين سنة.
هو القدوة الزاهد صاحب الأحوال والكرامات، توفي سنة مائتين للهجرة.
السرادق: واحد السرادقات وهي التي تمد فوق صحن الدار، وكل بيت من قطن فهو سرادق.
الفسطاط: بيت من شعر.
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري الحافظ، سمع قتادة وأبا جمرة الضبعي وطبقتهما، وكان سيد أهل وقته، قال رهيب بن خالد: حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا، قال ابن المديني: كان عند يحيى بن ضريس عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة أنك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا، وقال شهاب البلخي: كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال، وقال غيره: كان فصيحا مفوها إماما في العربية، صاحبة سنّة، له تصانيف في الحديث توفي في آخر سنة سبع وستين ومائة.
المشأمة: الميسرة، والشؤم ضد اليمن، يقال: رجل مشوم ومشئوم، ويقال: ما أشأم فلانا، والعامة تقول ما أيشمه.
أي غشاوة.
هو أبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم، أسلم بعد بدر، وولي قضاء دمشق لمعاوية في خلافة عثمان، توفي سنة اثنتين وثلاثين.
======
المسألة الرابعة (وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده)
اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: تموت الروح وتذوق، لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت، قالوا: وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا اللّه وحده، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ26وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ27﴾ [55:26—27]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[28:88]، قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت، قالوا: وقد قال تعالى عن أهل النار أنهم قالوا:
﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فالموتة الأولى هذه المشهودة وهي للبدن والأخرى للروح [1].
و قال الآخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دلت هذه الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها اللّه في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لا نقلع عنها النعيم والعذاب، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾[3:170] هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت.
و الصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو عذاب كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى بعد هذا، وكما صرح به النص أنها كذلك حتى يردها اللّه في جسدها، وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي هذا الاختلاف في قوله:
تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
فإن قيل: فعند النفخ في الصور هل تبقى الأرواح حية كما هي أو تموت ثم تحيا؟ قيل: قد قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68] فقد استثنى اللّه سبحانه بعض من في السموات ومن في الأرض من هذا الصعق [2].
فقيل: هم الشهداء، هذا قول أبي هريرة وابن عباس وابن جبير.
و قيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهذا قول مقاتل وغيره.
و قيل: هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم، ومن في الناس من أهل العذاب وخزنتها، قاله أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا.
و قد نص الإمام أحمد على أن: الحور العين والدان لا يمتن عند النفخ في الصور، وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ﴾[44:56]. وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان، وأما قول أهل النار: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فتفسيره هذه الآية التي في البقرة وهي قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾[2:28] فكانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة وإلا كانت ثلاث موتات، وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، ففي الحديث الصحيح أن «الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور».
فهذا صعق في موقف القيامة إذ جاء اللّه تعالى لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ تصعق الخلائق كلهم، قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [52:45]، ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى، وقد تنبه لهذا جماعة من الفضلاء، فقال أبو عبد اللّه القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن هذه صعقة غشي تكون يوم القيامة، لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور، قال: قد قال شيخنا أحمد بن عمرو: ظاهر حديث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا [قول] [3] فيحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السموات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآثار، ورد عليه أبو العباس القرطبي فقال: يرد هذا قوله في الحديث الصحيح أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذا بقائمة العرش، قال: وهذا إنما هو عند نفخة الفزع.
قال أبو عبد اللّه: وقال شيخنا أحمد بن عمرو: الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء اللّه تعالى أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء، وخصوصا بموسى، وقد أخبر بأنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام، إلى غير ذلك مما يحصل من حملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو رجع إلى أن غيبوا عنا، بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا تراهم، وإذا تقرر أنهم أحياء، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته: «فأكون أول من يفيق، فنبينا أول من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى»، فإنه حصل فيه تردد: هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بصعقة يوم الطور، وهذه فضيلة عظيمة لموسى، ولا يلزم من فضيلة واحدة أفضليته على نبينا مطلقا، لأن الشي ء الجزئي لا يوجب أمرا كليا، انتهى.
قال أبو عبد اللّه القرطبي: إن حمل الحديث على صعقة الخلق يوم القيامة فلا إشكال، وإن حمل على صعقة الموت عند النفخ في الصور فيكون ذكر يوم القيامة يراد به أوائله، فالمعنى: إذا نفخ في الصور نفخة البعث كنت أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبل أم جوزي بصعقة الطور.
قلت: وحمل الحديث على هذا يصح، لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم تردد: هل أفاق موسى قبله أم لم يصعق بل جوزي بصعقة الطور؟ فالمعنى:
لا أدري أصعق أم لم يصعق، وقد قال في الحديث: «فأكون أول من يفيق» وهذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى: هل يصعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق. ولو كان المراد به الصفة الأولى وهي صعقة الموت لكان صلى اللّه عليه وآله وسلم قد جزم بموته، وتردد هل مات موسى أم لم يمت، وهذا باطل لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع لا صعقة موت، وحينئذ فلا تدل الآية على أن الأرواح كلها تموت عند النفخة الأولى، نعم تدل على أن موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكل من لم يذق الموت قبلها فإنه يذوقه حينئذ، وأما من ذاق الموت أو من لم يكتب عليه الموت فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية واللّه أعلم.
(فإن قيل): فكيف تصنعون بقوله في الحديث: «إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش» قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذا والحديثان هكذا: (أحدهما) أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق.
(و الثاني) هكذا: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح [4].
فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر، وكان شيخنا أبو الحجاج الحافظ يقول ذلك.
فإن قيل: فما تصنعون بقوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللّه عز وجل» والذين استثناهم اللّه إنما هم مستثنون من صعقة النفخة لا من صعقة يوم القيامة كما قال اللّه تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة.
قيل: هذا واللّه أعلم غير محفوظ، وهو وهم من بعض الرواة، والمحفوظ ما تواطأت الروايات الصحيحة من قوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فظن بعض الرواة أن هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأن موسى داخل فيمن استثنى منها، وهذا لا يلتئم على مساق الحديث قطعا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فكيف يقول: «لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فتأمله، وهذا بخلاف الصعقة التي يصعقها الخلائق يوم القيامة إذا جاء اللّه سبحانه لفصل القضاء بين العباد وتجلى لهم فإنهم يصعقون جميعا، وأما موسى عليه السلام فإن كان لم يصعق معهم فيكون قد حوسب بصعقته يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكا [5]، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا من صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولو لم يكن في الجواب إلا كشف هذا الحديث و شأنه لكان حقيقا أن يعض عليه بالنواجذ وللّه الحمد والمنّة وبه التوفيق.
هامش
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [7:143]
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
تصنيفان:
قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة: الموتة الأولى حين كانوا في العدم، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياة البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان.
و يوضح أيضا هذا المعنى قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[2:28].
قال المفسرون أن ممن يستثنى من هذا الصعق (و اللّه أعلم) حملة العرش والحور العين والولدان المخلدون.
وردت في المطبوع: قال.
انظر سنن الترمذي رقم 2434 و3148 و3615.
=======
المسألة الخامسة (و هي: أن الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت، بأي شي ء يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى، وهل تشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلمس صورته أم كيف يكون حالها؟)
هذه مسألة لا تكاد تجد من تكلم فيها ولا يظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل، ولا سيما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها شكل ولا قدر ولا شخص، فهذا السؤال على أصولهم مما لا جواب لهم عنه، وكذلك من يقول: هي عرض من أعراض البدن فتميزها عن غيرها مشروط بقيامها ببدنها، فلا تميز لها بعد الموت، بل لا وجود لها على أصولهم، بل تعدم وتبطل باضمحلال البدن، كما تبطل سائر صفات الحي، ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل العينة التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنّة والآثار والاعتبار والعقل، والقول أنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل، وقد ذكرنا في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، وأن من قال غيره لم يعرف نفسه.
و قد وصفها اللّه سبحانه وتعالى بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع وصعودها إلى السماء، وفتح أبوابها لها وغلقها عنها، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾[6:93] وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي29وَادْخُلِي جَنَّتِي30﴾ [89:27—30]. وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد، وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا7فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا8﴾ [91:7—8]. فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [82:7] فهو سبحانه سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقلب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له.
و من هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبيث من طيب النفس، وخبيثها وتكتسب النفس الطيب والخبيث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن، ولهذا يقال عند المفارقة: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة [التي] [1] كانت في الجسد الخبيث.
و قال اللّه تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فوصفها بالتوفي والإمساك والإرسال، كما وصفها بالدخول والخروج والرجوع والتسوية، وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن بصر الميت يتبع نفسه إذا قبضت، وأخبر أن الملك يقبضها فتأخذها الملائكة من يده، فيوجد لها كأطيب نفخة مسك وجدت على الأرض، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض [2].
و الأعراض لا ريح لها ولا تمسك ولا تؤخذ من يد إلى يد.
و أخيرا أنها تصعد إلى السماء ويصلي عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض، وأنها تفتح لها أبواب السماء، فتصعد من سماء إلى سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، فتوقف بين يديه ويأمر بكتابة اسمه في ديوان أهل عليين، أو ديوان أهل سجين، ثم ترد إلى الأرض، وأن روح الكافر تطرح طرحا وأنها تدخل مع البدن وفي قبرها للسؤال.
و قد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن نسمة المؤمن وهي روحه طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يردها اللّه إلى جسده [3]، وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وأخبر أن الروح تنعم وتعذب في البرزخ [4] إلى يوم القيامة.
و قد أخبر سبحانه عن أرواح قوم فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة [5]، وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وهذه حياة أرواحهم ورزقها دار، وإلا فالأبدان قد تمزقت، وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الحياة بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا فعلى بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى.
(و صح) عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة وتعلق بصنم اللام أي تأكل العلقة.
و قال ابن عباس: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل اللّه أرواحهم في أجوف طير خضر ترد أنها الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلموا عن الحرب، فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغكم عنكم فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169] الآيات، رواه الإمام أحمد، وهذا صريح في أكلها وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها، وسيأتي مزيد تقرير لذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى.
و إذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا وأما الأرواح فقل ما تشتبه.
يوضح هذا أنا لم نشاهد أبدان الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميزون في علمنا أظهر تميز، وليس ذلك التمييز راجعا إلى مجرد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختص به أحدهم من الآخر، بل التمييز الذي عندنا بما علمناه وعرفناه من صفات أرواحهم وما قام بها، وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته، ألا ترى أن بدن المؤمن والكافر قد يشتبهان كثيرا، وبين روحيهما أعظم التباين والتمييز، وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في غاية الاشتباه وبين روحيهما غاية التباين، فإذا تجردت هاتان الروحان كان تميزهما غاية الظهور.
و أخبرك بأمر: إذا تأملت أحوال الأنفس والأبدان شاهدته عيانا، قل أن ترى بدنا قبيحا وشكلا شنيعا إلا وجدته مركبا على نفس تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى آفة في بدن إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها، ولهذا تأخذ أصحاب الفراسة أحوال النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها فقلّ أن تخطى ء ذلك.
(و يحكى) عن الشافعي [6] رحمه اللّه في ذلك عجائب.
و قلّ أن ترى شكلا حسنا وصورة جميلة وتركيبا لطيفا إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، هذا ما لم يعارض ذلك ما يوجب خلافه من تعلم وتدرب واعتياد.
و إذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى.
هامش
الإمام المعروف، توفي بمصر سنة 204 هـ.
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
زيادة على النص المطبوع.
انظر مسند الإمام أحمد (4/ 287 و288).
أخرج ابن ماجة في كتاب الجنائز رقم (1449) عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لما حضرت كعبا الوفاة أتته أم بشر بن البراء بن معرور فقالت: يا أبا عبد الرحمن إن لقيت فلانا فأقرأ عليه مني السلام، قال: غفر اللّه لك يا أم بشر، نحن أشغل من ذلك، قالت: يا أبا عبد الرحمن أ ما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق بشجر الجنة» قال: بلى، قالت: فهو ذاك.
البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، وهو أيضا ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ.
قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [40:46]
=======
المسألة السادسة (و هي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا)
فقد كفانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال الناس، بحيث صرّح بإعادة الروح إليه، فقال البراء بن عازب: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير وهو يلحد له، فقال: «أعوذ باللّه من عذاب القبر» ثلاث مرات، ثم قال: «إن العبد إذا كان في إقبال الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان، قال:
فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقا فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجد على وجه الأرض قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسماءه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه تعالى، فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول اللّه، فيقولان له:
و ما علمك بهذا؟ فيقول: قرأت كتاب اللّه فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أو صدق عبدي، فأفرشوه من الجنّة وافتحوا له بابا من الجنة، قال: فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من اللّه وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود [1] من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح [2]، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الريح الخبيث، فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسماءه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾[7:40] فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ:
﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[22:31] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له: من ربك؟ فيقول:
هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه حرها وسمومها ويضيق عليه فترة حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسودك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة» رواه الإمام أحمد وأبو داود وروى النسائي وابن ماجه أوله، ورواه أبو عوانة الأسفرائيني في صحيحه.
و ذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنّة والحديث من سائر الطوائف.
و قال أبو محمد بن حزم في كتاب (الملل والنحل) له: وأما من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ، إن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك، يعني قوله تعالى ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] وقوله تعالى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[2:28] قال: ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا ثم أحيانا ثلاثا، وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه اللّه تعالى آية لنبي من الأنبياء كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا، ثم أحياهم، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، ومن خصه نص، وكذلك قوله تعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة، وكذلك أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا من عن يمين آدم أرواح أهل السعادة، وعن شماله أرواح أهل الشقاوة، وأخبر يوم بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قوله قبل أن تكون لهم قبور، ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا، واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك، فصح أن الخطاب والسماع لأرواحهم فقط بلا شك، وأما الجسد فلا حس له وقد قال تعالى ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فنفي السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك، ولا يشك مسلم أن الذي نفى اللّه عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم السمع.
قال: ولم يأت قط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة، ولو صح ذلك عنه لقلنا به قال وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد منهال بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة وغيره، وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام، على ما قد نقل وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. قال: وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة.
ثم ذكر من طريق ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد، فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يقبر، فقيل له:
هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فمال ابن عمر إليها فعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند اللّه، فقالت أمه: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
(قلت) ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل، وأما قوله: من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ، فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص.
و إن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ، وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فتعاد في جسده»، وسنذكر الجواب عن تضعيفه للحديث إن شاء اللّه تعالى.
و أما استدلاله بقوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فلا ينفي هذه الإعادة العارضة للروح في الجسد، كما أن قتيل بني إسرائيل الذي أحياه اللّه بعد قتله ثم أماته لم تكن تلك الحياة العارضة له للمسألة معتدا بها، فإنه حي لحظة بحيث قال: فلان قتلني ثم خرّ ميتا [3]، على أن قوله: ثم تعاد روحه في جسده لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادة لها إلى البدر وتعلق به الروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلي وتمزق.
و سر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق مغايرة الأحكام:
(أحدها) تعلقها به في بطن الأم جنينا.
(الثاني) تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
(الثالث) تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
(الرابع) تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
(الخامس) تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا.
و أما قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فإمساكه سبحانه التي قضى عليها الموت لا ينافي ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا.
و إذا كان النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت حاله متوسطة بين الحي والميت الذي لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت، فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة.
و أما إخبار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة أسري به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم قال: فإنهم أحياء عند ربهم، وقد رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد نعت الأنبياء لما رآهم نعت الأشباح فرأى موسى آدما ضربا طوالا كأنه من رجال شنوءة، ورأى عيسى يقطر رأسه كأنما أخرج من ديماس [4]، ورأى إبراهيم فشبهه بنفسه.
و نازعهم في ذلك آخرون وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا، إنما تبعث يوم بعث الأجساد، ولم تبعث قبل ذلك، إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم اللّه إليها بل كانت في الجنة، وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله».
و معلوم بالضرورة أن جسده صلى اللّه عليه وآله وسلم في الأرض طري مطرا، وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: «إن اللّه قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» [5].
و لو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب.
و قد صح عنه أن اللّه وكّل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام.
و صح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: «هكذا نبعث».
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء.
و قد صح عنه أنه رأى موسى قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من سلّم عليه، وهي في الرفيق الأعلى.
و لا تنافي بين الأمرين، فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، وأنت تجد الروحين المتماثلتين المناسبتين في غاية التجاور والقرب، ولو كان بينهما بعد المشرقين، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين بينهما غاية البعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.
و ليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط على الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة، وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها، فإنها في السماء وشعاعها في الأرض، وقال شيخنا: وليس هذا مثلا مطابقا، فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء، والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها، بل هو عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها، والروح نفسها تصعد وتنزل، وأما قول الصحابة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قتلى بدر: كيف تخاطب أقواما قد جيفوا؟ مع إخباره بسماعهم كلامه، فلا ينفي ذلك رد أرواحهم إلى أجسادهم ذلك الوقت ردا يسمعون به خطابه والأجساد قد جيفت، فالخطاب للأرواح المتعلقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.
و أما قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فسياق الآية يدل على أن المراد منها أن الكافر الميت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعا ينتفع به [6]، كما أن من في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعا ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئا البتة، كيف وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم يسمعون خفق نعال المشيعين [7]، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أن من سلم على أخيه المؤمن رد عليه السلام.
هذه الآية نظير قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [27:80] وقد يقال: نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صماء كان إسماعها ممتنعا بمنزلة خطاب الميت والأصم، وهذا حق. ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي واللّه أعلم. وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تسمع من لم يشأ اللّه أن يسمعه إن أنت إلا نذير أي إنما جعل اللّه لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلفك إياه لا على إسماع من لم يشأ اللّه إسماعه. و أما قوله: إن الحديث لا يصح لتفرد المنهال بن عمرو وحده به وليس بالقوي، فهذا من مجازفته رحمه اللّه، فالحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.
(قال) الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في كتاب (الروح والنفس) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق الصفار، أنبأنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلسنا وجلس كأن على أكتافنا فلق الصخر، وعلى رؤوسنا الطير فأرم قليلا، والإرمام السكوت، فلما رفع رأسه قال:
«إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا وحضره ملك الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فجلسوا مد البصر، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ثم قال: أخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى رحمة اللّه ورضوانه، فتنسل نفسه كما تقطر القطرة من السقاء، فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل من بين السماء والأرض إلا الثقلين، ثم يصعد به إلى السماء فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة إلى العرش مقربو كل سماء، فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين و يقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدته أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما فيجلسانه ثم يقال له: يا هذا من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول: جزاك اللّه خيرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة اللّه بطيئا عن معصية اللّه، فيقول: وأنت فجزاك اللّه خيرا فمن أنت؟ فيقول:
أنا عملك الصالح، ثم يفتح له باب إلى الجنة فينظر إلى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة، وإن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت، نزلت عليه من السماء ملائكة معهم كفن النار وحنوط من نار قال:
فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك فيجلس عند رأسه ثم يقول: أخرجي أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى غضب اللّه وسخطه، فتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج لما ترى وتعاين، فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شي ء بين السماء والأرض إلا الثقلين [8]، ثم يصعد به إلى السماء فتعلق دونه، فيقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد روحه إلى مضجعه، فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه ثم يقولان: يا هذا من ربك؟ فيقول: لا أدري، فينادي من جانب القبر لا دريت، فيضربانه بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها من بين الخافقين [9] لم تقل، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول:
جزاك اللّه شرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لبطيئا عن طاعة اللّه سريعا في معصية اللّه، فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، ثم يفتح له باب إلى النار فينظر في مقعده فيها حتى تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد ومحمود بن أبي غيلان وغيرهما عن أبي النضر. ففيه أن الأرواح تعاد إلى القبر، وأن الملكين يجلسان الميت ويستنطقانه (ثم ساقه) ابن منده من طريق محمد بن سلمة عن خصيف الجزري عن مجاهد عن البراء بن عازب قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحا فجلس عنده لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة، وكفن من الجنة، وكانا منه على بعيد، فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحا، فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان، فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة، وكفناها بكفن من الجنة، ثم عرجا به إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء؟ ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال: هذه روح فلان، فإذا صعد بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء، حتى توضع بين يدي اللّه عند العرش، فيخرج عملها من عليين، فيقول اللّه عز وجل للمقربين: اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل ويختم كتابه فيرد في عليين، فيقول اللّه عز وجل: ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [20:55]، فإذا وضع المؤمن في قبره فتح له باب عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: أنظر إلى ما أعد اللّه لك من الثواب، ويفتح له باب عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ما صرف اللّه عنك من العذاب، ثم يقال له: نم قرير العين فليس شي ء أحب إليه من قيام الساعة»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنت لحبيبا إلي وأنت على ظهري فكيف إذا صرت اليوم في بطني، سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع الكافر في قبر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له:
لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادا، ثم يعاد فيجلس، فيقال له: ما قوله في هذا الرجل؟ فيقول: أي رجل، فيقولان محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فيقول: قال الناس إنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادا».
هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفّاظ، ولا نعلم أحد من ائمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي اللّه، ثم رجوعها إلى القبر، وقول أبي محمد لم يروه غير زاذان [10] فوهم منه، بل رواه عن البراء غير زاذان، ورواه عنه عدي بن ثابت، ومجاهد بن جبير، ومحمد بن عقبة وغيرهم. وقد جمع الدار قطني طرقه في مصنف مفرد، وزاذان من الثقات، روي عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في صحيحه، قال يحيى بن معين: ثقة حميد بن هلال. وقد سئل عنه هو ثقة لا تسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة.
و قوله أن المنهال بن عمرو تفرد بهذه الزيادة وهي قوله فتعاد روحه في جسده وضعفه. فالمنهال أحد الثقات العدول، قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفي ثقة. وأعظم ما قيل فيه أنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطراح حديثه وتضعيف ابن حزم له لا شي ء فإنه لم يذكر موجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله: فتعاد روحه في جسده، وقد بينا أنه لم يتفرد بها بل قد رواها غيره.
و قد روى ما هو أبلغ منها أو نظيرها كقوله: فترد إليه روحه، وقوله: فتصير إلى قبر فيستوي جالسا، وقوله فيجلسانه، وقوله: فيجلس في قبره، وكلها أحاديث صحاح لا مغمز فيها، وقد أعله غيره بأن زاذان لم يسمعه من البراء، وهذه العلة باطلة، فإن أبا عوانة الأسفرائيني رواه في صحيحه بإسناد، وقال عن أبي عمرو زاذان الكندي قال: سمعت البراء بن عازب، وقال الحافظ أبو عبد اللّه بن منده هذا إسناد مشهور رواه جماعة عن البراء.
و لو نزلنا عن حديث البراء فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك مثل حديث ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، قال:
فيقول ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟
فيقولون: فلان، فيقولون مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد، ادخلي حميدة وابشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، وإذا كان الرجل السوء قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لن تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا معوق، ثم يقال: فما كنت تقول في الإسلام؟ ما هذا الرجل؟ فيقول محمد رسول اللّه جاءنا بالبينات من قبل اللّه فآمنا وصدقنا وذكر تمام الحديث.
قال الحافظ أبو نعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه، اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على أن أبي ذئب ومحمد بن عمرو ابن عطاء وسعيد بن يسار وهم من شرطها، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك وعبد الرحيم بن إبراهيم، انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غير واحد.
(و قد احتج) أبو عبد اللّه بن منده على إعادة الروح إلى البدن بأن قال: حدثنا محمد بن الحسين بن الحسن، حدثنا محمد بن يزيد النيسابوري، حدثنا حماد بن قيراط، حدثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي. عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم قاعد تلا هذه الآية: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾[6:93] الآية، قال: «و الذي نفس محمد بيده، ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار»، ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صف له صفان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما نرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنهم ينظرون إليكم، مع كل منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة، وقالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى رضوان اللّه وجنته، فقد أعد اللّه لك من الكرامة ما هو خير من الدنيا وما فيها، فلا يزالون يبشرونه ويحفون به، فهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون[11] روحه من تحت كل ظفر ومفصل، ويموت الأول فالأول، ويهون عليهم، وكم كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه، قال: فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حتى يخرج من الرحم، فيبتدرها كل ملك منهم: أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك الموت، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [32:11] فيتلقاها بأكفان بيض، ثم يحتضنها إليه، فهو أشد لزوما لها من المرأة إذا ولدتها، ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحها ويتباشرون بها، ويقولون: مرحبا بالروح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وعلى جسد خرجت منه، قال: فيصعدون بها، وللّه عز وجل خلق في الهواء لا يعلم عدتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك، فيصلون عليها ويتباشرون، ويفتح لهم أبواب السماء، فيصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم، حتى ينتهي بها بين يدي الملك الجبار جل جلاله، مرحبا بالنفس الطيبة وبجسد خرجت منه، وإذا قال الرب عز وجل للشي ء مرحبا رحب له كل شي ء، ويذهب عنه كل ضيق، ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول: أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ قال: فيقولون: إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه.
فدل هذا الحديث أن الروح تعاد بين الجسد والأكفان، وهذا عود غير التعلق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوع آخر، وغير تعلقها به حال النوم، وغير تعلقها به وهي في مقرها، بل هو عود خاص للمسألة.
و قال شيخ الإسلام: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عودة الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص.
[عذاب القبر وعلامة البدن والروح به] وهذا يتضح بجواب المسألة وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على النفس دون البدن أو على البدن دون النفس. وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟.
و قد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة، ونحن نذكر لفظ جوابه فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنّة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما تكون على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنّة وأهل الكلام، وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنّة والحديث، قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على أرواح، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكي يقولون لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا.
و هذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، و هو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال:
إحداها: أنه على الروح فقط.
و الثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها.
و الثالث: أنه على البدن فقط، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة، ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا، وقول من ينكر عذاب الروح مطلقا، فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة فالقول الثاني الشاذ قول من يقول أن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل قد خالف أصحابه أبو المعالي الجويني [12] وغيره بل قد ثبت بالكتاب والسنّة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة، والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك.
و لكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام.
و القول الثالث الشاذ قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى.
هامش
إمام الحرمين، المتوفي سنة 478 ه.
المسألة السادسة
و هي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا | فصل مذهب السلف في عذاب الميت | فصل عذاب القبر | فصل الإيمان بعذاب القبر | فصل عذاب البرزخ
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
هي الحديدة التي يشوى بها اللحم.
هو ثوب غليظ مصنوع من الشعر.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ72فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ73﴾ [2:72—73]
الديماس بالكسر: السرب، وفي حديث عن المسيح أيضا: «إنه سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس» يعني من نضرته وكثرة ماء وجهه أي: كأنه خرج من كن لأنه قال في وصفه: كأن رأسه يقطر ماء.
روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 8) عن أوس بن أوس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي» فقالوا: يا رسول اللّه: وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت- يعني وقد بليت- قال: «إن عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» صلوات اللّه عليهم.
قال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية الكريمة: أراد بمن في القبور الكفار وشبههم بالموتى، أي فكما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب اللّه وينتفعوا بمواعظه، فكذلك من كان حيث القلب لا ينتفع بما يسمع.
أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب المشي في النعل بين القبور عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم».
أي الإنس والجن.
الخافقان: المشرق والمغرب لأن الليل والنهار يخفقان فيهما.
هو أبو عمر زاذان مولى كندة، وقد شهد خطبة عمر بالجابية وكان من علماء الكوفة، توفي سنة إحدى وثمانين.
سلَّ الشَّيءَ من الشَّيءِ: انتزعه وأخرجه برفق.
================
7
المسألة السابعة (الرد على منكري عذاب القبر)
و هي قول السائل: ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وكون الميت لا يجلس ولا يقعد فيه.
قالوا: فإنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيرانا تأجج، ولو كشفنا حاله في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله، وكيف يفسح مد بصره أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرناها، لم يزد ولم ينقص، وكيف يسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟ قال إخوانهم من أهل البدع والضلال، وكل حديث يخالف مقتضى القول والحس يقطع بتخطئة قائلة، قالوا: ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع ونهشته الطيور وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان ومدارج الرياح كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها، وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه، وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وكيف يضيق عليه حتى تلتئمه أضلاعه، ونحن نذكر أمورا يعلم بها الجواب.
هامش
المسألة السابعة
الرد على منكري عذاب القبر | فصل أخبار الرسل | فصل مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم | فصل أقسام الدور | فصل أمر الآخرة من الغيب | فصل ماهية النار والخضرة في القبر | فصل عجائب اللّه في مخلوقاته | فصل عودة الروح | فصل عذاب القبر وعذاب البرزخ | فصل البعث
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
=======
8
المسألة الثامنة (عدم ذكر القرآن لعذاب القبر)
و هي قول السائل: ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقي؟ فالجواب من وجهين:
مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فهو أن اللّه سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما، والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[4:113] وقال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[62:2] وقال تعالى ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾[33:34].
و الكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي السنّة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول عن اللّه فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكر، إلا من ليس منهم، و قد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إني أوتيت الكتاب ومثله معه».
و أما الجواب المفصل: فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾[6:93] وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون.
و منها: قوله تعالى ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ45النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ46﴾ [40:45—46] فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
(و منها) قوله تعالى ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ45يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ46وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ47﴾ [52:45—47] وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، وقد يقال وهو أظهر: إن من مات منهم عذاب في البرزخ، ومن بقي منها عذب في الدنيا بالقتل وغيره، فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ.
(و منها) قوله تعالى ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [32:21] وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد اللّه بن عباس على عذاب القبر وفي الاحتجاج بها شي ء، لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر، ولم يكن هذا مما يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن، ولكن فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر، فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا، ولهذا قال: من العذاب الأدنى، ولم يقل ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله. و هذا نظير قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها»، ولم يقل: فيأتيه حرها وسمومها، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره، والذي ذاقه أعداء اللّه في الدنيا بعض العذاب وبقي لهم ما هو أعظم منه.
(و منها) قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ83وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ84وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ85فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ86تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ87فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ88فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ89وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ90فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ91وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ92فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ93﴾ [56:83—93]﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ94إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ95فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ96﴾ [56:94—96].
فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر، وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية، إذ هي أهم وأولى بالذكر، وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام.
(و منها) قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي29وَادْخُلِي جَنَّتِي30﴾ [89:27—30] وقد اختلف السلف: متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها عند الموت، وظاهر اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطاب للنفس التي تجردت عن البدن وخرجت منه، وقد فسر ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله في حديث البراء وغيره: فيقال لها اخرجي راضية مرضيا عنك، وسيأتي تمام تقرير في هذا في المسألة التي يذكر فيها مستقر الأرواح في البرزخ إن شاء اللّه تعالى وقوله تعالى فَادْخُلِي فِي عِبادِي مطابق لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى» [1]. و أنت إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن وباللّه التوفيق.
هامش
رواه البخاري في المرضى 19، وفضائل الصحابة 5، ومسلم في السّلام 46، وفضائل الصحابة 85، والترمذي في الدعوات 76، وابن ماجة في الجنائز 64، ومالك في الموطأ باب الجنائز 46، وأحمد في مسنده 45/6.
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
=======
المسألة التاسعة (الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور)
و هي قول السائل: ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟
جوابها من وجهين: مجمل ومفصل:
أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم باللّه وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب اللّه روحا عرفته وأحبته وامتثلت لأمره واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة وأثر غضب اللّه وسخطه على عبده، فمن أغضب اللّه وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب اللّه وسخطه عليه، فمستقبل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
و أما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما: يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة والكذب والزور والبهتان أعظم عذابا، كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة والتي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهذا مغتاب، وذلك نمام، وقد تقدم حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه في الذي ضرب سوطا امتلأ القبر عليه به نارا. لكونه على صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره.
و قد تقدم حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار.
و تعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا، كما شاهدهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في البرزخ.
و تقدم حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه الذي فيه رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.
و تقدم حديث أبي سعيد، وعقوبة أرباب تلك الجرائم، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة [1] آل فرعون وهم أكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم المعلقات بثديهم وهن الزواني، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يغمزون أعراض الناس.
و قد أخبرنا صلى اللّه عليه وآله وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل عليه نارا في قبره هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه؟ فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله، فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والموضع في الفتنة والداعي إلى البدعة، والقائل على اللّه ورسوله ما لا علم له به، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة والبرطيل، ونحوهما، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب المسكر، وآكل لقمة الشجرة الملعونة، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له، والمحتال على إسقاط فرائض اللّه وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل اللّه، والمفتي بخلاف ما شرعه اللّه، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم اللّه، والملحد في حرم اللّه، والمعطل لحقائق أسماء اللّه وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، ونواحوا جهنم: وهم المغنون الغناء الذي حرمه اللّه ورسوله والمستمع إليهم، والذين يبنون المساجد على القبور [2] ويوقدون عليها القناديل و السرج، والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بدلوه والجبارون، والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون والممارون والطاعنون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم [3]، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته باللّه وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه، والذي يهدي بكلام اللّه ورسوله فلا يهتدي ولا يرفع به رأسا، فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه، والذي يقرأ عليه القرآن فلا يؤثر فيه وربما استقل به، فإذا سمع [قراءة] [4] الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب، وود أن المغني لا يسكت، والذي يحلف باللّه ويكذب، فإذا حلف بالبندق أو برئ من شيخه أو قريبه أو سراويل الفتوة أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب، والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين إخوانه وأضرابه وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الخلق اتقاء شره وفشله، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر اللّه فيها إلا قليلا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظة ولا لفظة ولا أكلة ولا خطوة، ولا يبالي بما حصل المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي العاملين ويمنع الماعون ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه وبذنوبهم عن ذنبه. فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها.
و لما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات، وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والحيات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها، تاللّه لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبر، [فإما روضة] [5] رياض من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
هامش
زيدت على المطبوع.
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
السابلة: الطريق المسلوك، يقال: سبيل سابلة أي مسلوكة، والمارون عليه: سوابل، والمقصود هنا من كان على طريق آل فرعون.
أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب في البناء على القبر (3/ 553) برقم 3227 عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «قاتل اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
و أخرج البخاري في كتاب الجنائز باب بناء المسجد على القبر (2/ 93) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي اللّه عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه».
أخرج الترمذي في أبواب الطهارة باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض (1/ 242) برقم 135 عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد».
و أخرج أبو داود في كتاب الطب باب في الكاهن (4/ 225) برقم 3904 قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد: ح، وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حماد بن سلمة، عن حكيم بن الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من أتى كاهنا» قال موسى في حديث: «فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة» قال مسدد: «امرأته حائضا أو أتى امرأة» قال مسدد؛ «امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل اللّه على محمد».
وردت في المطبوع: قرآن ولا شك أنها تصحيف.
================
المسألة العاشرة (الأسباب المنجية من عذاب القبر)
جوابها أيضا من وجهين: مجمل ومفصل. أما المجمل: فهو تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر ومن أنفعها أن يجلس الرجل عند ما يريد النوم للّه ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يوم، ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين اللّه، فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات في ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر اللّه، واستعمال السنن التي وردت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد اللّه به خيرا وفّقه لذلك ولا قوة إلا باللّه.
و أما الجواب المفصل: فنذكر أحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما ينجي من عذاب القبر.
(فمنها) ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان».
(و في جامع الترمذي) من حديث فضالة بن عبيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل اللّه فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر»، قال الترمذي:
هذا حديث حسن صحيح [1].
(و في سنن النسائي) عن [راشد] [2] بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن رجلا قال: يا رسول اللّه، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة [3] السيوف على رأسه فتنة» [4].
و عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«للشهيد عند اللّه ست خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه». رواه ابن ماجه والترمذي وهذا لفظة وقال: هذا حسن صحيح [5].
(و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما) قال: ضرب [6] أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خباءة على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه: ضربت، خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب [7].
(و روينا) في مسند عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال الرجل: بلى؟ قال: اقرأ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [67:1] احفظها وعلمها أهلك وولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية، والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه، وينجي اللّه بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي».
(قال) أبو عمر بن عبد البر: وصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: إن سورة ثلاثين آية شفعت في صاحبها حتى غفر له: (تبارك الذي بيده الملك).
(و في سنن ابن ماجه) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه يرفعه: «من مات مبطونا مات شهيدا، وفي فتنة القبر وغدي وريح عليه برزق من الجنة» [8]. (و في سنن النسائي) عن جامع بن شداد قال: سمعت عبد اللّه بن يشكر يقول: كنت جالسا مع سليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلا مات ببطنة، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: أ لم يقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من قتله بطنه لم يعذب في قبره؟» وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، حدثني أحمد بن جامع ابن شداد قال أبي. فذكره وزاد فقال الآخر بلى.
(و في الترمذي) من حديث ربيعة بن سيف عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه اللّه فتنة القبر» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف، إنما يروى عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللّه بن عمرو، ولا يعرف لربيعة بن سيف سماع من عبد اللّه بن عمرو [9]. انتهى.
و قد روى الترمذي الحديث من حديث ربيعة بن سيف هذا عن عياض بن عقبة الفهري عن عبد اللّه بن عمرو.
و قد رواه أبو نعيم الحافظ عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا ولفظة:
«من مات ليلة الجمعة (أو يوم الجمعة) أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء». تفرد به عمر بن موسى الوجيهي وهو مدني ضعيف.
(و قوله) صلى اللّه عليه وآله وسلم: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة».
معناه واللّه أعلم: قد امتحن نفاقه من إيمانه ببارقة السيف على رأسه فلم يفر، فلو كان منافقا لما صبر ببارقة السيف على رأسه، فدل على أن إيمانه هو الذي حمله على بذل نفسه للّه وتسليمها له وهاج من قبله حمية الغضب للّه ورسوله وإظهار هيئة وإعزاز، فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث يبرز للقتل، فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره.
(قال) أبو عبد اللّه القرطبي: إذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطرا وأعظم أجرا أن لا يفتن، لأنه مقدم ذكره في التنزيل على الشهداء، وقد صح في المرابط الذي هو دون الشهيد أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى رتبة منه ومن الشهيد.
و الأحاديث الصحيحة ترد هذا القول وتبين أن الصديق يسأل في قبره كما يسأل غيره، وهذا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رأس الصديقين، وقد قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أخبره عن سؤال الملك في قبره فقال: وأنا على مثل حالتي هذه؟ فقال: «نعم» وذكر الحديث.
و قد اختلف في الأنبياء: هل يسألون في قبورهم على قولين: وهما وجهان في مذهب أحمد وغيره، ولا يلزم من هذه الخاصية التي اختص بها الشهيد أن يشاركه الصديق في حكمها، وإن كان أعلى منه، فخواص الشهداء قد تنتفي عمن هو أفضل منهم وإن كان أعلى منهم درجة.
و أما حديث ابن ماجه: «من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتنة القبر» فمن إفراد ابن ماجه، وفي إفراده غرائب ومنكرات، ومثل هذا الحديث مما يتوقف فيه ولا يشهد به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإن صح فهو مقيد بالحديث الآخر وهو الذي يقتله بطنه، فإن صح عنه أنه قال: «المبطون شهيد» فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد واللّه أعلم.
و قد جاء فيما ينجي من عذاب القبر حديث فيه الشفاء رواه أبو موسى المديني وبيّن علته في كتابه في الترغيب والترهيب وجعله شرحا له. رواه من حديث الفرج بن فضالة حدثنا أبو جبلة عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ونحن في صفة بالمدينة، فقام علينا فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاء بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر اللّه فطيّر الشياطين عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقا، كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع، فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة وهو متحير فيه، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلا من أمتي وهج يتقي النار وشررها، فجاءته صدقته فصارت سترا بينه وبين النار وظلا على رأسه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه، فقالت: يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلوه، فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين اللّه حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله اللّه عز وجل، ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من اللّه عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه رجاؤه من اللّه عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية اللّه عز وجل فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه باللّه عز وجل فسكن روعه ومضى، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته فأقامته على قدميه وأنقذته، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا اللّه ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة». قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن جدا رواه عن سعيد بن المسيب وعمر بن ذر وعلي بن زيد بن جدعان.
و نحو هذا الحديث مما قيل فيه: إن رؤيا الأنبياء وحي، فهو على ظاهرها لا كنحو ما روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت كأن سيفي انقطع فأولته كذا وكذا، ورأيت بقرا تنحر، ورأيت كأنا في دار عقبة بن رافع.
و قد روي في رؤياه الطويلة من حديث سمرة في الصحيح ومن حديث علي وأبي إمامة وروايات هؤلاء الثلاثة قريب بعضها من بعض مشتملة على ذكر عقوبات جماعة من المعذبين في البرزخ فأما في هذه الرواية فذكر العقوبة وأتبعها بما ينجي صاحبها من العمل، وراوي هذا الحديث عن ابن المسيب هلال أبو جبلة مدني لا يعرف بغير هذا الحديث، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه هكذا ذكره الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد اللّه أبو جبل (بلا هاء)، وحكياه عن مسلم ورواه عنه الفرج بن فضالة، وهو وسط في الرواية ليس بالقوي ولا المتروك، ورواه عنه بشر بن الوليد الفقيه المعروف بأبي الخطيب كان حسن المذهب جميل الطريقة، وسمعت شيخ الإسلام يعظم أمر هذا الحديث وقال: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث.
هامش
أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن مات يوم الجمعة (3/ 386) برقم 1074، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.
أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في فضل من مات مرابطا (4/ 142) برقم 1621.
وردت في المطبوع: رشيد، وما أثبتناه من سنن النسائي.
أي السيوف البارقة، من البروق أي اللمعان، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى أن ثباتهم عند القتال وبذل أرواحهم في سبيل اللّه أقوى دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم للّه.
أخرجه النسائي في كتاب الشهيد (2/ 99).
أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب في ثواب الشهيد (4/ 160) برقم 1663 باستثناء عبارة: من دمه.
وردت في المطبوع: رجل من، والتصويب من سنن الترمذي.
أخرجه الترمذي بلفظ مقارب في كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل سورة الملك (5/ 151) برقم 2890. انظر الحديث في صفحة 141.
أخرج ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما جاء فيمن مات مريضا (1/ 515) برقم 1615 عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتنة القبر وغدي وريح عليه برزقه من الجنة».
قال السندي: قال السيوطي: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعلّه بإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي فإنه متروك وقال أحمد بن حنبل: إنما هو من مات مرابطا، قال الدارقطني بإسناده عن إبراهيم بن يحيى يقول: حدثت ابن جريج هذا الحديث «من مات مرابطا» فروى عني: «من مات مريضا» وما هكذا حدثته.
=========
المسألة الحادية عشرة (سؤال القبر)
و هي أن السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق؟ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد): والآثار الدالة تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق كان منسوبا إلى أهل القبلة ودين الإسلام بظاهر الشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيّه، وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام، فيثبت اللّه الذين آمنوا ويرتاب المبطلون.
و القرآن والسنّة تدل على خلاف هذا القول، وأن السؤال للكافر والمسلم، قال اللّه تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [14:27] وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر حين يسأل من ربك وما دينك ومن نبيك.
و في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم»، وذكر الحديث. زاد البخاري: «و أما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول:
لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» هكذا في البخاري، وأما المنافق والكافر فتقدم في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه ابن ماجه والإمام أحمد، كنا في جنازة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلي في قبورها، فإذا الإنسان دفن وتولى عنه أصحابه جاء ملك وفي يده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا منزلك لو كفرت بربك؛ وأما الكافر والمنافق فيقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن اللّه أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق اللّه إلا الثقلين»، فقال بعض الصحابة: يا رسول اللّه ما أحد يقوم على رأسه ملك إلا هيل عند ذلك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [14:27].
(و في حديث) البراء بن عازب الطويل: «و أما الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء معهم مسوح». وذكر الحديث إلى أن قال: «ثم تعاد روحه في جسده في قبره»، وذكر الحديث، وفي لفظ: «فإذا كان كافر جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه» فذكر الحديث إلى قوله:
«ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بأسوإ أسمائه، فإذا انتهى به إلى سماء الدنيا أغلقت دونه، قال: يرمى به من السماء، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[22:31] قال:
فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فيجلسانه وينتهرانه فيقولان:
من ربّك؟ فيقول: هاه لا أدري، فيقولون لا دريت، فيقولان: ما هذا النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون ذلك، لا أدري. فيقولان له: لا دريت، وذلك قوله تعالى: ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» وذكر الحديث.
و اسم الفاجر في عرف القرآن والسنّة يتناول الكافر قطعا كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ13وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ14﴾ [82:13—14] وقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ [83:7] وفي لفظ آخر في حديث البراء: «و إن الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه ملائكة شداد: غضاب معهم ثياب من نار وسرابيل من قطران فيحتوشونه، فتنزع روحه كما ينزع السّفود [1] الكثير الشعب من الصوف المبتل، فإذا أخرجت لعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء». وذكر الحديث إلى أن قال: «إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين فيقال: يا هذا من ربّك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: لا أدري فيقال: لا دريت». وذكر الحديث رواه حماد بن سلمة عن يونس بن خباب، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء.
و في حديث عيسى بن المسيّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء، خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، وذكر الحديث إلى أن قال:
إن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من نار وحنوط من نار». فذكر الحديث إلى أن قال: «فتردّ روحه إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه، ثم يقولان: يا هذا من ربّك؟ فيقول: لا أدري فينادي من جانب القبر: لا دريت فيضربانه بمرزبّة من حديد لو اجتمع عليها من بين الخافقين لم تقل ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه». وذكر الحديث.
و رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القسام، حدثنا عيسى بن المسيب، فذكره.
(و في حديث) محمد بن سلمة، عن خصيف، عن مجاهد، عن البراء، قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال: وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «و إذا وضع الكافر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له:
من ربّك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت» الحديث وقد تقدم.
و بالجملة فعامة من روى حديث البراء بن عازب قال فيه: «و أما الكافر» بالجزم، وبعضهم قال: «و أما الفاجر»، وبعضهم قال: «و أما المنافق والمرتاب»، وهذه اللفظة من شك بعض الرواة هكذا في الحديث لا أدري أي ذلك قال.
و أما من ذكر الكافر والفاجر فلم يشك، ورواية من لم يشك- مع كثرتهم- أولى من رواية من شك- مع انفراده- على أنه لا تناقض بين الروايتين، فإن المنافق يسأل كما يسأل الكافر والمؤمن فيثبت اللّه أهل الإيمان ويضل اللّه الظالمين وهم الكفار والمنافقون.
(و قد جمع) أبو سعيد الخدري في حديثه الذي رواه أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال:
شهدنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جنازة. فذكر الحديث وقال: «و إن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل: فيقول: لا أدري»، وهذا صريح في أن السؤال للكافر والمنافق، وقول أبي عمر رحمه اللّه: وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، فيقال له: ليس كذلك بل هو من جملة المسئولين وأولى بالسؤال من غيره.
و قد أخبر اللّه في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [28:65]. وقال تعالى ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ92عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ93﴾ [15:92—93] وقال تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [7:6] فإذا سئلوا يوم القيامة فكيف لا يسألون في قبورهم؟! فليس لما ذكره أبو عمر رحمه اللّه وجه.
هامش
هو عود من حديد ينظم فيه اللحم ليشوى وجمعه: سفافيد.
====
المسألة الثانية عشرة (سؤال منكر ونكير)
و هي أن سؤال منكر ونكير هل هو مختص بهذه الأمة أو يكون لها ولغيرها. هذا موضع تكلّم فيه الناس، فقال أبو عبد اللّه الترمذي: إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا كفّت الرسل واعتزلوهم، وعولجوا بالعذاب؛ فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالرحمة إماما للخلق كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [21:107] أمسك عنهم العذاب وأعطي السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأمهلوا، فمن هاهنا ظهر أمر النفاق، وكانوا يسرّون الكفر ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض اللّه لهم فتّاني القبر ليستخرجا سرّهم بالسؤال وليميز اللّه الخبيث من الطيّب فـ ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [14:27].
و خالف في ذلك آخرون منهم عبد الحق الإشبيلي والقرطبي وقالوا: السؤال لهذه الأمة ولغيرها.
و توقف في ذلك آخرون منهم أبو عمر بن عبد البر فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، ومنهم من يرويه «تسأل»، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصّت بذلك فهذا أمر لا يقطع عليه.
و قد احتج من خصه بهذه الأمة بقوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، وبقوله: «أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة، قالوا: ويدل عليه قول الملكين له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول المؤمن: أشهد أنه عبد اللّه ورسوله، فهذا خاص بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقوله في الحديث الآخر: «إنكم بي ممتحنون وعنّي تسألون».
و قال آخرون: لا يدل هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم، فإن قوله إن هذه الأمة إما أن يراد به أمة الناس كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾[6:38] وكل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة، وفي الحديث: «لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» [1] وفيه أيضا حديث النبي الذي قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى اللّه إليه من أجل أن قرصتك نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبّح اللّه.
و إن كان المراد به أمته صلى اللّه عليه وسلم الذي بعث فيهم لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم. بل قد يكون ذكرهم إخبارا بأنهم مسئولون في قبورهم وأن ذلك لا يختص بمن قبلهم لفضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم.
و كذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: «أوحي إليّ أنّكم تفتنون في قبوركم».
و كذلك إخباره عن قول الملكين: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ هو إخبار لأمته بما تمتحن به في قبورها، والظاهر- واللّه أعلم- أن كل نبي مع أمته كذلك وأنهم معذّبون في قبورهم بعد السؤال لهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذّبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام والفوائد باب ما جاء في قتل الكلاب (4/ 66) برقم 1486 وزاد عليه: «فاقتلوا منها كل أسود بهيم» والكلب الأسود البهيم هو الذي لا يكون فيه شي ء من البياض، وقد كره بعض أهل العلم صيد الكلب الأسود البهيم، وقيل أنه شيطان.
=====
المسألة الثالثة عشرة (سؤال من مات طفلا)
و هي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم؟ اختلف الناس في ذلك على قولين: هما وجهان لأصحاب أحمد.
و حجة من قال إنهم يسألون أنه يشرع الصلاة عليهم، والدعاء لهم، وسؤال اللّه أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر (كما ذكر) مالك في موطئه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه وسلم صلّى على جنازة صبي فسمع من دعائه: «اللهم قه عذاب القبر» [1]. (و احتجوا) بما رواه علي بن معبد عن عائشة رضي اللّه عنها: أنه مر عليها بجنازة صبي صغير فبكت، فقيل لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.
(و احتجوا) بما رواه هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: إنه كان ليصلّي على المنفوس وما إن عمل خطيئة قط فيقول: «اللهم أجره من عذاب القبر».
قالوا: واللّه سبحانه يكمل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه.
قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة، وحكاه الأشعري عن أهل السنّة والحديث، فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور.
(قال الآخرون): السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل فيسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟! ولو رد إليه عقله في القبر فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، فإن اللّه سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعة أمره وعقولهم معهم فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار، فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر.
و أما حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية، فإن اللّه لا يعذب أحدا بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمل عمله، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه». أي يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾[35:18] [2]. و هذا كقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب». فالعذاب أعم من العقوبة، ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم به، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل اللّه تعالى له أن يقيه ذلك العذاب. و اللّه أعلم.
هامش
أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب في النوح (3/ 494) برقم 3129 عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» فذكر ذلك لعائشة فقال:
و هل- تعني ابن عمر- إنما مر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على قبر فقال: «إن صاحب هذا القبر يعذب وأهله يبكون عليه ثم قرأت: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾[35:18] قال عن معاوية: على قبر يهودي.
قال الخطابي في معالم السنن: قد يحتمل أن يكون الأمر في هذا على ما ذهبت إليه عائشة، لأنها قد روت (أن ذلك إنما كان في شأن اليهودي) والخبر المفسر أولى من المجمل، ثم احتجت له بالآية، وقد يحتمل أن يكون ما رواه ابن عمر صحيحا من غير أن يكون فيه خلاف الآية، وذلك أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وكان ذلك مشهورا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول القائل وهو طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد
وكقول لبيد:
فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع ولا خان الأمين ولا عذر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إياهم بذلك وقت حياته، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».
و قولها: وهل ابن عمر، معناه: ذهب وهله إلى ذلك، يقال: وهل الرجل ووهم بمعنى واحد، كل ذلك بفتح الهاء، فإذا قلت: وهل بكسر الهاء كان معناه فزع، وفيه وجه آخر ذهب إليه بعض أهل العلم، قال: وتأويله أنه مخصوص في بعض الأموات الذين وجب عليهم بذنوب اقترفوها، وجرى من قضاء اللّه سبحانه فيهم أن يكون من عذابهم وقت البكاء عليهم، ويكون كقولهم: مطرنا بنوء كذا، أي عند نوء كذا، كذلك قوله: «إن الميت يعذب ببكاء أهله» أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالا لا سببا لأنا لو جعلناه سببا لكان مخالفا للقرآن، وهو قوله: ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى واللّه أعلم.
أخرج مالك في موطئه في كتاب الجنائز باب ما يقول المصلي على الجنائز (ص 112) عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر. أما أبو داود فقد ذكر في كتاب الجنائز باب الصلاة على الطفل (3/ 528) عن عائشة قالت: مات إبراهيم ابن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
و قد ذكر الخطابي في معالم السنن شارحا هذا الأمر فقال: كان بعض أهل العلم يتأول ذلك على أنه إنما ترك الصلاة عليه لأنه قد استغنى بنبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قربة الصلاة كما استغنى الشهداء بقربة الشهادة عن الصلاة عليهم، وقد روى عطاء مرسلا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى على ابنه إبراهيم، وقد روى أبو داود في هذا الباب: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء، قلت: وهذا أولى الأمرين، وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا، وقد روي أن الشمس قد خسفت يوم وفاة إبراهيم، فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صلاة الخسوف فاشتغل بها عن الصلاة عليه. واللّه أعلم.
============
المسألة الرابعة عشرة (وهي قوله هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟)
جوابها أنه نوعان: (نوع دائم) سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا﴾[36:52] ويدل على دوامه قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾[40:46] ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم وفيه: «فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة».
و في حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفّف عنهما ما لم تيبسا، فجعل التخفيف مقيدا برطوبتهما فقط.
و في حديث الربيع عن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة: «ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شي ء، وقد تقدم، وفي الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
و في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: «ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة». رواه الإمام أحمد، وفي بعض طرقه:
«ثم يخرق له خرقا إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة».
(النوع الثاني) إلى مدة، ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفّت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب.
و قد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم، وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده واللّه سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا فانه شرك وباطل يتعالى اللّه عنه ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[2:255] ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ﴾[21:28] ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾[10:3] ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾[34:23] ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[39:44].
(و قد ذكر) ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن موسى الصائغ، حدثنا عبد اللّه بن نافع، قال: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتم لذلك، ثم إنه بعد ساعة أو ثانية رآه كأنه من أهل الجنة، فقال: أ لم تكن قلت أنك من أهل النار، قال: قد كان ذلك، إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه فكنت أنا منهم.
(و قال) ابن أبي الدنيا: وحدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات أخي فرأيته في النوم فقلت: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قال:
أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به.
(و قال) عمرو بن جرير: إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره، فقال: يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق.
(و قال) بشار بن غالب: رأيت رابعة في منامي، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير، قلت: كيف ذلك، قالت: هكذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا للموتى استجيب لهم ذلك الدعاء على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير، ثم أتي بها الذي دعى له من الموتى فقيل: هذه هدية فلان إليك.
(قال) ابن أبي الدنيا: وحدثني أبو عبد بن بحير قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت أخا لي في النوم بعد موته فقلت: أ يصل إليكم دعاء الأحياء قال: أي واللّه يترفرف مثل النور ثم يلبسه.
و سيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما تهديه إليهم الأحياء.
هامش
===================
المسألة الخامسة عشرة (مستقر الأرواح)
و هي أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة: هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة أم لا؟ وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة؟
هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك، فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند اللّه في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهم.
و قالت طائفة: هم بفناء [1] الجنة على بابها، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.
و قالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.
و قال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
(و قال) الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللّه: أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة.
(و قال) أبو عبد اللّه بن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند اللّه عز وجل ولم يزيدوا على ذلك، قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت.
و قال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد اللّه أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [21:105] قال هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقالوا: هي الأرض التي يورثها اللّه المؤمنين في الدنيا وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس.
و قالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت.
و قال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض، تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين، وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت.
و قالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.
و قالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.
قال: والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله اللّه عز وجل ونبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا نتعداه، فهو البرهان الواضح وهو أن اللّه عز وجل قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [7:172] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾[7:11]، فصح أن اللّه تعالى خلق الأرواح جملة، وكذلك أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، وأخذ اللّه عهدها وشهادتها له بالربوبية وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد، والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أقرها حيث شاء هو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت، ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى، إلى أن قال: فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأعراضها من التعارف والتناكر وأنها عارفة مميزة فيبلوهم اللّه في الدنيا كما يشاء ثم يتوفاهم فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة.
قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم.
قال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام قال: وهذا هو قول اللّه تعالى:
﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ8وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ9وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ10أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ11فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ12ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ13وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ14﴾ [56:8—14] وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ88فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ89﴾ [56:88—89]، إلى آخرها، فلا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في الأجساد، ثم برجوعها إلى البرزخ فتقوم الساعة ويعيد اللّه عز وجل الأرواح إلى أجسادها ثانية، وهي الحياة الثانية يحاسب الخلق فريق في الجنة، وفريق في السعير مخلدين أبدا. انتهى.
و قال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، ونحن نذكر كلامه وما احتج به ونبين ما فيه.
(و قال) ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرئ عليه عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها.
و ذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أزواج المؤمنين فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها في كل يوم تسلم عليه.
(و قال) أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إلى يوم القيامة، قال: وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك واللّه أعلم، لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها.
قال: والمعنى عندي أنها تكون على أفنية قبورها لا على أنها تلزم ولا تفارق أفنية القبور كما قال مالك رحمه اللّه أنه بلغنا أن الأرواح تسرح حيث شاءت.
قال: وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك، واللّه أعلم.
و قالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته، وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنّة وإجماع الصحابة والتابعين كما سنذكر ذلك إن شاء اللّه، والمقصود أن عند هذه الفرقة المبطلة أن مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض.
و قالت فرقة: مستقرها بعد الموت أرواح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنية والسفلية إلى أبدان الحشرات، وهذا قول المتناسخة منكري المعاد، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم.
فهذا ما تلخص لي من جمع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت ولا تظفر به مجموعا في كتاب واحد غير هذا البتة، ونحن نذكر ما أخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنّة على طريقتنا التي منّ اللّه بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق.
هامش
الفناء: هو سعة أمام البيت، وقيل: ما امتد من جوانبه.
المسألة الخامسة عشرة
مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ
===============
فصل مكان الروح
فأما من قال هي الجنة: فاحتج بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ88فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ89﴾ [56:88—89]، قال: وهذا ذكره سبحانه عقيب ذكر خروجها من البدن بالموت وقسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام:
مقربين: وأخبر أنها في جنة النعيم.
و أصحاب يمين: حكم لها بالإسلام وهو يتضمن سلامتها من العذاب.
و مكذبة ضالة، وأخبر أن لها نزلا من حميم وتصلية جحيم، قالوا: وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعا، وقد ذكر سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة فذكر حالها بعد الموت وبعد البعث واحتجوا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي29وَادْخُلِي جَنَّتِي30﴾ [89:27—30] وقد قال غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا يبشرها الملك بذلك، ولا ينافي ذلك قول من قال: إن هذا يقال لها في الآخرة فإنه يقال لها عند الموت وعند البعث وهذه من البشرى التي قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [41:30]. وهذا التنزل يكون عند الموت ويكون في القبر ويكون عند البعث، وأول بشارة الآخرة عند الموت.
و قد تقدم في حديث البراء بن عازب أن الملك يقول لها عند قبضها:
أبشري بروح وريحان، وهذا من ريحان الجنة.
و احتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن [طير] [1] يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه اللّه إلى [جسده] [2] يوم يبعثه [3]. قال أبو عمرو في رواية مالك هذه بيان سماع الزهري لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكذا رواه يونس عن الزهري قال: سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه، وكذلك رواه الأوزاعي عن الزهري حدثني عبد الرحمن بن كعب وقد أعل محمد بن يحيى الذهلي هذا الحديث بأن شعيب بن أبي حمزة ومحمد بن أخي الزهري وصالح بن كيسان رووه عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعا، وقال صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبد الرحمن أنه بلغه أن كعبا بن مالك كان يحدث، قال الذهلي: وهذا المحفوظ عندنا وهو الذي يشبهه حديث صالح وشعيب وابن أخي الزهري وخالفه في هذا غير من الحفّاظ فحكموا لمالك والأوزاعي، قال أبو عمر: فاتفق مالك ويونس بن يزيد والأوزاعي والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهري عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه وصححه الترمذي وغيره.
(و قال) أبو عمرو: لا وجه عندي لما قاله محمد بن يحيى من ذلك ولا دليل عليه، واتفاق مالك ويونس بن زيد والأوزاعي ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب والنفس إلى قولهم: وروايتهم أسكن وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس بهم من خالف في هذا الحديث. انتهى.
و قد قال محمد الذهلي: سمعت علي ابن المديني يقول: ولد كعب خمسة:
عبد اللّه، وعبيد اللّه، ومعبد، وعبد الرحمن، ومحمد [4]، قال الذهلي:
فسمع الزهري من عبد اللّه بن كعب، وكان قائد أبيه حين عمي، وسمع من عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب، وروي عن بشير بن عبد الرحمن بن كعب، ولا أراه سمع منه. انتهى.
فالحديث إن كان لعبد الرحمن عن أبيه عن كعب كما قال مالك ومن معه، فظاهر، وإن كان لعبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب عن جده كما قال شعيب ومن معه فنهايته أن يكون مرسلا من هذا الطريق وموصولا من الأخرى والذين وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قدرا ولا عددا فالحديث عن صحاح الأحاديث، وإنما لم يخرجه صاحبا الصحيح لهذه العلة، واللّه أعلم.
(قال) أبو عمر: وأما قوله نسمة المؤمن، فالنسمة هاهنا الروح، يدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث نفسه، حتى يرجعه إلى اللّه جسده يوم يبعثه، وقيل: النسمة الروح والنفس والبدن، وأصل هذه اللفظة أعني النسمة الإنسان بعينه، وإنما قيل للروح نسمة واللّه أعلم، لأن حياة الإنسان بروحه، وإذا فارقه عدم أو صار كالمعدوم. والدليل على أن النسمة الإنسان قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «و من أعتق نسمة مؤمنة» وقول علي رضي اللّه عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، وقال الشاعر:
بأعظم منك تقي في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا
يعني إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة، وقال الخليل بن أحمد:
النسمة الإنسان، قال: والنسمة الروح، والنسيم هبوب الريح، وقوله تعالى في شجر الجنة يروى بفتح اللام وهو الأكثر، ويروى بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل والرعي، يقول: تأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها، والعلوقة والعلوق الأكل والرعي، تقول العرب: ما ذاق اليوم علوقا أي طعاما، قال الربيع بن أبي زياد يصف الخيل:
ومجنبات ما يذقن علوقة ... يمصعن بالمهرات والأمهار
وقال الأعشى:
وفلاة كأنها ظهر ترس ... ليس فيها إلا الرجيع علاق
قلت: ومنه قول عائشة: والنساء إذ ذاك خفاف لم يغشهن [5] اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، وأصل اللفظة من التعليق وهو ما يتعلق بالقلب والنفس من الغذاء.
قال: واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قائلون منهم: أرواح المؤمنين عند اللّه في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم.
قال: واحتجوا بأن هذا الحديث لم يخص فيه شهيدا من غير شهيد.
و احتجوا أيضا بما روي عن أبي هريرة: «أن أرواح الأبرار في عليين وأرواح الفجار في سجين»، وعن عبد اللّه بن عمرو مثل ذلك، قال أبو عمر: وهذا قول يعارضه من السنة ما لا مدفع في صحة نقله، وهو قوله: «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إليه يوم القيامة».
و قال آخرون: إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرهم، لأن القرآن والسنّة إنما يدلان على ذلك. أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169]﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[3:170].
و أما الآثار فذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه من طريق بقي بن مخلد [6] مرفوعا: «الشهداء يغدون ويروحون ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتكموها، فيقولون: لا، غير أنا وددنا أنك عدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك». رواه عن هناد عن إسماعيل بن المختار عن المختار عن عطية عنه.
(ثم ساق حديث) ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم (يعني يوم أحد) جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقبلهم قالوا: ومن يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ويزهدوا في الجهاد؟ قال:
فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169] والحديث في مسند أحمد وسنن أبي داود. ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق قال: سأل عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن هذه الآية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربك اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: وأي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا! فعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا». والحديث في صحيح مسلم.
قلت: وفي صحيح البخاري عن أنس أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بنت سراقة أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يا نبي اللّه ألا تحدثني عن حارثة؟ (و كان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب) فإن كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: «يا أم جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» [7].
ثم ساق: من طريق بقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا ابن عيينة عن عبيد اللّه بن أبي يزيد [أنه] [8] سمع ابن عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمرة الجنة.
ثم ذكر: عن معمر عن قتادة قال: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة.
(و من طريق) أبي عاصم النبيل عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد اللّه بن عمرو: أرواح الشهداء في طير كالزراير [9] يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة.
قال أبو عمر: هذه الآثار كلها تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم، وفي بعضها في صور طير، وفي بعضها في أجواف طير، وفي بعضها كطير خضر، قال:
و الذي يشبه عندي واللّه أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صور طير لمطابقته لحديثنا المذكور (يريد حديث كعب بن مالك) وقوله: فيه نسمة المؤمن كطائر، ولم يقل في جوف طائر. قال: وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه كطير خضر.
قلت: والذي في صحيح مسلم في أجواف طير خضر.
قال أبو عمر: فعلى هذا التأويل كأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إنما نسمة المؤمن من الشهداء طائر يعلق في شجر الجنة.
قلت: لا تنافي بين قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن من طائر يعلق في شجر الجنة»، وبين قوله: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعد، بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار»، وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد، كما أن قوله: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة»، يتناول الشهيد وغيره، ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ترد روحه أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها.
و أما المقعد الخاص به والبيت الذي أعد له فإنه إنما يدخله يوم القيامة، ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعدّ اللّه لهم ليست هي تلك القناديل التي تأوي إليها أرواحهم في البرزخ قطعا، فهم يرون منازلهم ومقاعدهم من الجنة ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش، فإن الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة، ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك.
و نظير هذا أهل الشقاء، تعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا، فإذا كان يوم القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ فتنعم الأرواح بالجنة في البرزخ شي ء، وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شي ء آخر، فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث، ولهذا قال:
«تعلق في شجر الجنة» أي تأكل العلقة، وتمام الأكل والشرب واللبس والتمتع فإنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة، فظهر أنه لا يعارض هذا القول من السنن شي ء، وإنما تعاضده السنّة وتوافقه.
و أما قول من قال: إن حديث كعب في الشهداء دون غيرهم، فتخصيص ليس في اللفظ ما يدل عليه وهو محل اللفظ العام على أقل مسمياته: فإن الشهداء بالنسبة إلى عموم المؤمنين قليل جدا، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علق هذا الجزاء بوصف الإيمان، فهو المقتضي له ولم يعلقه بوصف الشهادة، ألا ترى أن الحكم الذي اختص بالشهداء علق بوصف الشهادة كقوله في حديث المقدام بن معد يكرب: «للشهيد عند اللّه ست خصال، يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين، وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه»، فلما كان هذا يختص بالشهيد قال: إن للشهيد ولم يقل إن للمؤمن، كذلك قوله في حديث قيس الجذامي يعطي الشهيد ست خصال، وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي علّق فيها الجزاء بالشهادة.
و أما ما علق فيه الجزاء بالإيمان فإنه يتناول كل مؤمن شهيدا كان أم غير شهيد.
و أما النصوص والآثار التي ذكرت في رزق الشهداء وكون أرواحهم في الجنة فكلها حق، وهي لا تدل على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنة، ولا سيما الصديقين الذين هم أفضل الشهداء بلا نزاع بين الناس، فيقال لهؤلاء: ما تقولون في أرواح الصديقين هل هي في الجنة أم لا؟.
فإن قالوا أنها في الجنة- لا يسوغ لهم غير هذا القول- فثبت أن هذه النصوص لا تدل على اختصاص أرواح الشهداء بذلك، وإن قالوا: ليست في الجنة لزمهم من ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة كأبي بكر الصديق وأبي بن كعب وعبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضي اللّه عنهم ليست في الجنة، وأرواح شهداء زماننا في الجنة، وهذا معلوم البطلان ضرورة.
فإن قيل: فإذا كان هذا حكما لا يختص بالشهداء فما الموجب لتخصيصهم بالذكر في هذه النصوص؟
قلت: التنبيه على فضل الشهادة وعلو درجتها، وإن هذا مضمون لأهلها ولا بد وأن لهم منه أوفر نصيب، فنصيبهم من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فراشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه.
و يدل على هذا أن اللّه سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، فإنهم لما بذلوا أنفسهم للّه حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين فإنه قال: «نسمة المؤمن طير» فهذا يعم الشهيد وغيره ثم خص الشهيد بأن قال: «و هي في جوف طير» ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فصلوات اللّه وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا، ويدل على أنه حق من عند اللّه، وهذا الجمع أحسن من جمع أبو عمرو وترجيحة رواية من روى أرواحهم كطير خضر، بل الروايتان حق وصواب، فهي كطير خضر وفي أجواف طير خضر.
هامش
نوع من العصافير.
المسألة الخامسة عشرة
مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ
وردت في المطبوع: من طائر، والتصحيح من الموطأ.
وردت في المطبوع: حياة، والتصحيح من الموطأ.
أخرجه الإمام مالك في موطئه في جامع الجنائز (ص 117).
وكلهم محدثون.
أي لم يسمنوا أو يكثر لحمهم.
هو بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ المفسر، توفي سنة 286 ه- 889 م.
أخرج البخاري في كتاب المغازي باب غزوة بدر (5/ 9) قال: حدثني عبد اللّه بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال: سمعت أنسا رضي اللّه عنه يقول: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول اللّه قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر واحتسب وإن تك الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: «ويحك أو هبلت؟» أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس».
زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.
======
فصل أرواح الشهداء
و أما قول مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها، فقد يحتج لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليه رزقهم بكرة وعشية».
و هذا لا ينافي كونهم في الجنة، فإن ذلك النهر من الجنة ورزقهم يخرج عليهم من الجنة، فهم أول الجنة وإن لم يصيروا إلى مقاعدهم منها، فمجاهد نفى الدخول الكامل من كل وجه، والتعبير يقصر عن الإحاطة بتمييز هذا من هذا، وأكمل العبارة أدلها على أن المراد عبارة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم عبارة أصحابه، وكلما نزلت رأيت الشفاء والهدى والنور، وكلما نزلت رأيت الحيرة والدعاوى والقول بلا علم.
قال أبو عبد اللّه بن منده: وروى موسى بن عبيده عن عبد اللّه بن يزيد عن أم كبشة بنت المعرور قالت: دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فسألناه عن هذه الأرواح؟ فوصفها صفة أبكى أهل البيت، فقال: «إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة، وتأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، يقولون ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا، وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر في النار، يقولون ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤمنا ما وعدتنا».
و قال الطبراني: حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن ضمرة بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب، قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أرواح المؤمنين؟ فقال:
«في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت»، قالوا: يا رسول اللّه أرواح الكفار؟
قال: «محبوسة في سجين»، رواه أبو الشيخ عن هشام بن يونس عن عبد اللّه بن صالح ورواه أبو المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب.
و ذكر: أبو عبد اللّه بن منده من حديث غنجار عن الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أرواح المؤمنين في طير خضر كالزرازير تأكل من ثمر الجنة» (و رواه) غيره موقوفا.
و ذكر يزيد الرقاشي عن أنس، وأبو عبد اللّه السامي عن تميم الداري عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا عرج ملك الموت بروح المؤمن إلى السماء استقبله جبرائيل في سبعين ألفا من الملائكة، كل منهم يأتيه ببشارة من السماء سوى بشارة صاحبه، فإذا انتهى به إلى العرش خر ساجدا، فيقول اللّه عز وجل لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود [1] وطلح منضود [2] وظل ممدود [3] وماء مسكوب [4]. رواه بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو عن يزيد وأبي عبد اللّه.
هامش
أي وماء جار دائم لا ينقطع، قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها.
المسألة الخامسة عشرة
مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
قال المفسرون: السدر شجر النبق، والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه. وفي حديث أخرجه الحاكم والبيهقي أن أعرابيا جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، إن اللّه تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها! فقال: «و ما هي»؟ قال: السدر، فإن له شوكا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أ ليس اللّه يقول: في سدر مخضود، خضد اللّه شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، وإن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر».
الطلح: هو شجر الموز، ومعنى منضود أي متراكم قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه.
أي في ظل دائم باق ومستمر لا يزول ولا تنسخه الشمس أخرج البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، واقرءوا إن شئتم:
و ظل ممدود».
========
فصل هل الأرواح على أفنية القبور؟
و أما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدا فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب والسنّة من وجود كثيرة قد ذكرنا بعضها، وسنذكر منها ما لم تذكره إن شاء اللّه.
و إن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا، أولها إشراف على قبورها وهي في مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور.
و قد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر، قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور.
قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل: حديث ابن عمر هذا، ومثل: حديث البراء بن عازب الذي تقدم وفيه: «هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه يوم القيامة»، ومثل حديث أنس أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم، وفيه أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعا ويضيق على الكافر، ومثل حديث جابر: إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملك (الحديث) وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي، فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبدا، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه التي تقدمت، ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم، وقد تقدم ذكر ذلك كله.
و هذا القول تردده السنّة الصحيحة والآثار التي لا مدفع لها، وقد تقدم ذكره، وكل ما ذكر من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى.
و قد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن للروح شأنا آخر يكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن، بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد اللّه عليه روحه، فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعد من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره.
و هذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السماوات في أعلى عليين، وترد إلى القبر، فترد السلام وتعلم بالمسلم، وهي في مكانها هناك، وروح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، ويردها اللّه سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه وتسمع كلامه، وقد رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة، فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء، وقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخترق السبع الطباق، وتسجد للّه بين يدي العرش، ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان، وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع وتقف بين يدي اللّه، فتجد له فيها، ويقضي فيها قضاء، ويريها الملك ما أعد اللّه لها في الجنة، ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن النفس يصعد بها حتى توقف بين يدي اللّه فيقول تعالى: «اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فيعاد إلى القبر وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه»، فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال: فيهبطون على قدر فراغه من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسد وأكفانه. و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن، حدثنا ابن شهاب عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد اللّه عن أبيه قال: أردت مالي بالغابة، فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمر بن حزم، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ذلك عبد اللّه، أ لم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا يزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت به».
ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها، ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة: إن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وما يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر يعلمه عامة الناس ولا يشكون فيه واللّه أعلم.
و أما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى صلى اللّه عليه وآله وسلم يسلم عليه عند قبره ويرد سلام المسلم عليه، وقد وافق أبو عمر رحمه اللّه على أن أرواح الشهداء في الجنة ويسلم عليهم عند قبورهم كما يسلم على غيرهم، كما علمنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسلم عليهم، وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد، وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم، ولا يضيق عقلك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر شأن البدن، وهذا جبريل صلوات اللّه وسلامه عليه رآه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب، وكان من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه ويديه على فخذيه، وما أظنك يتسع بطنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو مستقره. وقد دنا من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته ومن لم يتسع بطاقة لهذا فهو أضيق أن يتسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق مساواته على عرشه لا يكون فوقه شي ء البتة، بل هو العالي على كل شي ء وعلوه من لوازم ذاته.
و كذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف، وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه، وإشراق الأرض بنوره، وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها وهيأها لما يراد منها. وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى بها أحد كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد، وهذا هو فوق سماواته على عرشه.
هامش
=============
فصل الرؤيا
و مما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال من الأرواح من القوة والضعف، والكبر والصغر، فالروح العظيمة الكبيرة ذلك ما ليس لمن هو دونها، وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت، بحسب تفارق الأرواح وكيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها، فالروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة من الصعود إلى اللّه والتعلق باللّه ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه، فإن كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر.
و قد تواترت الرؤيا من أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكبيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك، وكم قد رئي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم [و عدتهم] [1] ضعف المؤمنين وقتلهم.
و من العجب أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم مسافة وأبعدها، فتألف وتتعارف، فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيره، فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته.
(قال) عبد اللّه بن عمرو: إن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يوم، وما رأى أحدهما قط، ورفعه بعضهم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
(و قال) عكرمة ومجاهد: إذا نام الإنسان فإن له سببا يجري فيه الروح وأصله في الجسد، فتبلغ حيث شاء اللّه ما دام ذاهبا، فالإنسان نائم، فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان وكان بمنزلة شعاع الشمس الذي هو ساقط بالأرض فأصله متصل بالشمس.
و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الروح تمتد من منخر الإنسان ومركبه وأصله في بدنه، فلو خرج الروح بالكلية لمات، كما أن السراج لو فرق بينه وبين الفتيلة، ألا ترى أن مركب النار في الفتيلة وضوؤها وشعاعها يملأ البيت، فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه، حتى تأتي السماء وتجول في البلدان وتلتقي مع أرواح الموتى، فإذا أراه الملك الموكل بأرواح العباد ما أحب أن يريه، وكان المرئي في اليقظة عاقلا ذكيا صدوقا لا يلتفت في يقظته إلى شي ء من الباطل رجع إليه روحه فأدى إلى قلبه الصدق مما أراه اللّه عز وجل على حسب خلقه، وإن كان خفيا نزقا يحب الباطل والنظر إليه فإذا نام وأراه اللّه أمرا من خير أو شر رجعت روحه إليه فحيث ما رأى شيئا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما يقظته، فكذلك لا يؤدي إلى قلبه، فلا يعقل ما رأى، لأنه خلط الحق بالباطل، فلا يمكن معبر أن يعبر له وقد خلط الحق بالباطل.
و هذا من أحسن الكلام، وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح وأحكامها.
و أنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شي ء له، ثم يمر بباطل ولهو من غناء وشبهة أو زور أو غيره فيصغي إليه، ويفتح له قلبه حتى يتأدى إليه، فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة، ويلتبس عليه الحق بالباطل فهكذا شأن الأرواح عند النوم، وأما بعد المفارقة فإنها تعذب بتلك الاعتقادات والشبه الباطلة التي كانت حظها حال اتصالها بالبدن، وينضاف إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينهما وبينها ويضاف إلى ذلك عذاب آخر ينشئه اللّه ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها، وهذه هي المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزود به إليه.
و الروح الزكية العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله، تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من النبوة وتلك الإرادات والهمم الزكية، وينشئ اللّه سبحانه لها من أعمالها نعيما ينعمها به [في] [2] البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من حفر النار.
هامش
وردت في المطبوع: وعدوهم، وهو تصحيف.
زيدت على المطبوع لوضوح العبارة
====
فصل هل الأرواح في السماء؟
و أما قول من قال: أرواح المؤمنين عند اللّه تعالى ولم يزد على ذلك، فإنه تأدب مع لفظ القرآن حيث يقول اللّه عز وجل: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[3:169].
و قد احتج أرباب هذا القول بحجج (منها) ما رواه محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن الميت إذا خرجت نفسه يعرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها عز وجل، وإذا كان الرجل السوء يعرج بها إلى السماء فإنه لا يفتح لها أبواب السماء فترسل من السماء فتصير إلى القبر. هذا إسناد لا تسأل عن صحته وهو في مسند أحمد وغيره.
و قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري قال: تخرج روح المؤمن أطيب من ريح المسك فينطلق بها الملائكة من دون السماء فيقولون ما هذا؟ فيقولون: هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت- لمحاسن عمله- فيقولون: مرحبا بكم وبه، فيقبضونها منها، فيصعد بها من الباب الذي كان يصعد منه عمله، فتشرق في السموات ولها برهان كبرهان الشمس حتى ينتهي إلى العرش، وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون ما هذا؟ فيقولون: هذا فلان ابن فلان يعمل كيت وكيت- لمساوئ عمله- فيقولون: لا مرحبا لا مرحبا ردوه إلى أسفل الأرض إلى الثرى.
و قال الملكي بن إبراهيم عن داود بن يزيد الأودي قال أراه عن عامر الشعبي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: الأرواح موقوفة عند الرحمن عز وجل تنتظر موعده حتى ينفخ فيها.
و ذكر سفيان بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه أنه دخل ابن عمر المسجد بعد قتل ابن الزبير وهو مصلوب فأتى أسماء يعزيها فقال لها: عليك بتقوى اللّه والصبر فإن هذه الجثث ليست بشي ء، وإنما الأرواح عند اللّه، فقالت:
و ما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
و ذكر جرير عن الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: كنا جلوسا إلى كعب والربيع بن خيثم وخالد بن عرعرة في أناس، فجاء ابن عباس فقال: هذا ابن عم نبيكم، قال: فأوسع له فجلس، فقال: يا كعب كل ما في القرآن قد عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن: ما سجين؟ وما عليون؟ وما سدرة المنتهى؟ وما قول اللّه لإدريس ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [19:57]؟ قال: أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين، وأما سجين فالأرض السابعة السفلى وأرواح الكفار تحت جسد إبليس، وأما قول اللّه سبحانه لإدريس ورَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فأوحى اللّه إليه إني رافع لك كل يوم مثل أعمال بني آدم وكلم صديقا له من الملائكة أن يكلم له ملك الموت فأؤخره حتى يزداد عملا، فحمله بين جناحيه فعرج به حتى إذا كان في السماء الرابعة لقيه ملك الموت فكلمه في حاجته فقال: وأين هو؟ قال: هو ذا بين جناحي، قال: فالعجب أني أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة فقبض روحه. وأما سدرة المنتهى فإنها سدرة على رؤوس حملة العرش ينتهي إليها علم الخلائق ثم ليس لأحد وراءها علم فلذلك سميت سدرة المنتهى.
(قال) ابن منده: ورواه وهب بن جرير عن أبيه، ورواه يعقوب القمي عن شمر، ورواه خالد بن عبد اللّه عن العوام بن حوشب عن القاسم بن عوف عن الربيع بن خيثم قال: كنا جلوسا عند كعب فذكره.
و ذكر يعلى بن عبيد عن الأجلح عن الضحاك قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء الدنيا فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة حتى ينتهي إلى سدرة المنتهى، قلت للضحاك: لم سميت سدرة المنتهى [قال: لأنه ينتهي] [1] إليها كل شي ء من أمر اللّه عز وجل لا يعدوها، فيقول ربي! عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيبعث اللّه إليك بصك مختوم يؤمنه من العذاب، وذلك قوله تعالى ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ18وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ19كِتَابٌ مَرْقُومٌ20يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ21﴾ [83:18—21] وهذا القول لا ينافي قول من قال: هم في الجنة، فإن الجنة عند سدرة المنتهى، والجنة عند اللّه، وكأن قائله رأى أن هذه العبارة أسلم وأوفق، وقد أخبر اللّه سبحانه أن أرواح الشهداء عنده، وأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنها تسرح في الجنة حيث شاءت.
هامش
نقص في المطبوع، وزيدت لوضوح العبارة، والأرجح أنها ساقطة.
====
فصل مكان الأرواح
و أما قول من قال: إن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار بحضرموت ببرهوت، فقال أبو محمد بن حزم: هذا من قول الرافضة، وليس كما قال، بل قد قاله جماعة من أهل السنّة.
(قال) أبو عبد اللّه بن منده، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية ثم قال: أخبرنا محمد بن محمد بن يونس حدثنا أحمد بن عاصم، حدثنا أبو داود سليمان بن داود، حدثنا همام، حدثني قتادة، حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وإن أرواح الكفار تجتمع في سبخة بحضرموت يقال لها برهوت.
ثم ساق من طريق حماد بن سلمة عن عبد الجليل بن عطية عن شهر بن حوشب أن كعبا رأى عبد اللّه بن عمرو وقد تكلب الناس عليه يسألونه فقال لرجل:
سله أين أرواح المؤمنين وأرواح الكفار؟ فسأله، فقال: أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت.
(قال) ابن منده: ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل ثم ساق من حديث سفيان عن فرات القزاز عن أبي الطفيل عن علي قال: خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت في حضرموت، وخير واد في الأرض واد مكة والوادي الذي أهبط فيه آدم بالهند منه طيبكم، وشر واد في الأرض الأحقاف وهو في حضرموت ترده أرواح الكفار.
قال ابن منده: روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن علي: أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له:
برهوت، فيه أرواح الكفار وفيه ماؤها بالنهار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام.
ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا علي بن عبد اللّه حدثنا سفيان عن إبان بن تغلب قال: قال رجل بت فيه. يعني وادي برهوت.
فكأنما حشرت فيه أصوات الناس وهم يقولون: يا دومة يا دومة؟ قال إبان: فحدثنا رجل من أهل الكتاب أن دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار وقال سفيان:
و سألنا الحضرميين فقالوا: لا يستطيع أحد أن يبيت فيه بالليل.
فهذا جملة ما علمته في هذا القول، فإن أراد عبد اللّه بن عمرو بالجابية التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابية لسعته وطيب هوائه فهذا قريب، وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيت ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب.
هامش
====
فصل هل تجتمع الروح في الأرض؟
و أما قول من قال: إنها تجتمع في الأرض التي قال اللّه فيها: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [21:105] فهذا إن كان قاله [في] [1] تفسير الآية فليس هو تفسيرا لها.
و قد اختلف الناس في الأرض المذكورة هنا فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هي أرض الجنة وهذا قول أكثر المفسرين. وعن ابن عباس قول آخر أنها الدنيا التي فتحها اللّه على أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهذا القول هو الصحيح. نظيره قوله تعالى في سورة النور: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾[24:55] وفي الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «زويت [2] لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» [3].
و قالت طائفة من المفسرين: المراد بذلك أرض بيت المقدس وهي من الأرض التي أورثها اللّه عباده الصالحين وليست الآية مختصة بها.
هامش
ساقطة من المطبوع.
أي جمعت وقبضت.
أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
====
فصل هل الأرواح في عليين؟
و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف والخلف، ويدل قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى».
و قد تقدم حديث أبي هريرة أن الميت إذا خرجت روحه عرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة التي فيها عز وجل، وتقدم قول أبي موسى: إنها تصعد حتى تنتهي إلى العرش وقول حذيفة أنها موقوفة عند الرحمن، وقول عبد اللّه بن عمر أن هذه الأرواح عند اللّه، وتقدم قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت العرش، وتقدم حديث البراء بن عازب: أنها تصعد من سماء إلى سماء ويشيعها من كل سماء مقربوها حتى تنتهي بها إلى السماء السابعة، وفي لفظ: إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل.
و لكن هذا لا يدل على استقرارها هناك، بل يصعد بها هنالك للعرض على ربها، فيقضي أمره ويكتب كتابه من أهل عليين، أو من أهل سجين، ثم تعود إلى القبر للمسألة، ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه، فأرواح المؤمنين في عليين بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم.
هامش
====
فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم
و أما قول من قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم، فلا دليل على هذا القول من كتاب ولا سنّة يجب التسليم لها، ولا قول صاحب يوثق به، وليس بصحيح، فإن تلك بئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعهم، وهو مخالف لما ثبتت به السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة.
و بالجملة: فهذا من أبطل الأقوال وأفسدها وهو أفسد من قول من قال أنها بالجابية فإن ذلك مكان متسع فضاء بخلاف البئر الضيقة.
هامش
====
فصل هل الأرواح في البرزخ؟
و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت فهذا مروي عن سليمان الفارسي، والبرزخ هو الحاجز بين شيئين، وكأن سلمان أراد في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت.
و هذا قول قوي، فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة، بل هي في برزخ بينهما، فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعم، وأرواح الكفار في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[23:100]، فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة وأصله الحاجز بين الشيئين.
هامش
====
فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم
و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن يساره فلعمر اللّه لقد قال قولا يؤيده الحديث الصحيح، وهو حديث الإسراء، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رآهم كذلك، ولكن لا يدل ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال، بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة، وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن. و قد قال أبو محمد بن حزم: إن ذلك البرزخ الذي رآه فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا قال: وذلك عند منقطع العناصر، قال: وهذا يدل على أنها عنده تحت السماء حتى تنقطع العناصر وهي الماء والتراب والنار والهواء.
و هو دائما يشنع على من قال قولا لا دليل عليه، فأي دليل له على هذا القول من كتاب وسنّة؟ وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذ انتهينا إليه إن شاء اللّه تعالى.
فإن قيل: فإذا كانت أرواح أهل السعادة عن يمين آدم، وآدم في السماء الدنيا، وقد ثبت أن أرواح الشهداء في ظل العرش، والعرش فوق السماء السابعة، فكيف تكون عن يمينه، وكيف يراها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هناك في السماء الدنيا؟ فالجواب من وجوه.
أحدهما: أنه لا يمتنع كونها عن يمينه في جهة العلو كما كانت أرواح الأشقياء عن يساره في جهة السفلى.
الثاني: أنه غير ممتنع أن تعرض على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في سماء الدنيا وإن مستقرها فوق ذلك.
الثالث: أنه لم يخبر أنه رأى أرواح السعداء جميعا هناك بل قال: فإذا عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، ومعلوم قطعا أن روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في السماء السادسة والسابعة، وكذلك الرفيق إلا على أرواحهم فوق ذلك وأرواح السعداء بعضها أعلى من بعض بحسب منازلهم، كما أن أرواح الأشقياء بعضها أسفل من بعض منازلهم. واللّه أعلم.
هامش
=======
فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق
و أما قول أبي محمد حزم إن مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره وهو أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد وهذا فيه قولان للناس، وجمهورهم على أن الأرواح خلقت بعد الأجساد والذين قالوا إنها خلقت قبل الأجساد ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا سنّة ولا إجماع إلا ما فهموه من نصوص لا تدل على ذلك أو أحاديث لا تصح كما احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾[7:172] الآية وبقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾[7:11]، قال فصح أن اللّه خلق الأرواح جملة وهي الأنفس، وكذلك أخبر عليه السلام: «إن الأرواح جنوده مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»، قال وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يدخلها في الأجساد يومئذ تراب. وقال: لأن اللّه تعالى خلق ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها سبحانه وتعالى حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت.
و سنذكر ما في هذا الاستدلال عند جواب سؤال السائل عن الأرواح [هل] [1] هي مخلوقة مع الأبدان أم قبلها؟ إذ الغرض هنا الكلام على مستقر الأرواح بعد الموت، وقوله أنها تستقر في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد مبني على هذا الاعتقاد الذي اعتقده، وقوله: إن أرواح السعداء عن يمين آدم، وأرواح الكفار الأشقياء عن يساره حق، كما أخبر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقوله أن ذلك منقطع العناصر، لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، ولا يشبه أقوال أهل الإسلام، والأحاديث الصحيحة تدل على أن الأرواح فوق العناصر في الجنة عند اللّه، وأدلة القرآن تدل على ذلك، وقد وافق أبو محمد على أن أرواح الشهداء في الجنة، ومعلوم أن الصديقين أفضل منهم، فكيف تكون روح أبي بكر الصديق وعبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضي اللّه عنهم عند منقطع العناصر، وذلك تحت هذا الفلك الأدنى وتحت سماء الدنيا، وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر وفوق السموات.
و أما قوله: قد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا جميع أهل العلم وهو قول جميع أهل الإسلام.
(قلت) محمد بن نصر المروزي ذكر في كتاب الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾[7:172]. الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه، ثم أخذ الميثاق عليهم وردهم في صلبه وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه سبحانه قسمهم إذ ذاك إلى شقي وسعيد وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشر، ثم قال: قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] ﴿وْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾[7:173]، هذا نص كلامه وهو ما ترى لا يدل على أن مستقر الأرواح أبو محمد حيث تنقطع العناصر بوجه من الوجوه بل ولا يدل على أن الأرواح كائنة قبل خلق الأجساد، بل إنما يدل على أنه سبحانه أخرجها حينئذ فخاطبها، ثم ردها إلى صلب آدم، وهذا القول وإن كان قد قاله من السلف والخلف فالقول الصحيح غيره كما ستقف عليه إن شاء اللّه، إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح، هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا، حتى لو سلم لأبي محمد هذا كله لم يكن فيه دليل على أن مستقرها حيث تنقطع العناصر ولا أن ذلك الموضع كان مستقرها أولا.
هامش
زيدت على المطبوع.
======
فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض
و أما قول من قال مستقرها العدم المحض. فهذا قول من قال إنها عرض من أعراض البدن وهو الحياة، وهذا قول ابن الباقلاني ومن تبعه. وكذلك قال أبو الهذيل العلاف: النفس عرض من الأعراض ولم يعينه بأنه الحياة كما عينه ابن الباقلاني، ثم قال: هي عرضي كسائر أعراض الجسم.
و هؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه كما تقدم وسائر أعراضه المشروطة بالحياة، ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر الأشعرية [1] فمن قولهم أن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار ساعة من الزمان فما دونها فإذا مات فلا روح تصعد إلى السماء وتعود إلى القبر وتقبضها الملائكة ويستفتحون لها أبواب السموات ولا تنعم ولا تعذب وإنما ينعم ويعذب الجسد. وإذا شاء اللّه تنعيمه وتعذيبه رد إليه الحياة في وقت يريد نعيمه أو عذابه وإلا فلا أرواح هناك قائمة بنفسها البتة.
و قال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب [2]، فهو الذي يعذب وينعم حسب.
و هذا قول يرده الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطن والفطرة، وهو قول من لم نعرف روحه فضلا عن روح غيره، وقد خاطب اللّه سبحانه النفس بالرجوع والدخول والخروج دلت النصوص الصحيحة الصريحة على أنها تصعد وتنزل وتقبض وتمسك وترسل وتستفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة، وتكفن وتحنط في أكفان الجنة والنار، وأن ملك الموت يأخذها بيده ثم تتناولها الملائكة من يده، ويشم لها كأطيب نفخة مسك أو أنتن جيفة، وتشيع من سماء إلى سماء، ثم تعاد إلى الأرض مع الملائكة، وأنها إذا خرجت تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجة. ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها، وجمع ما ذكرنا من جمع الأدلة الدالة على تلاقي الأرواح وتعارفها وأنها جنود مجندة إلى غير ذلك تبطل هذا القول، وقد شاهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الأرواح ليلة الإسراء عن يمين آدم وشماله، وأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر، وأخبر تعالى عن أرواح آل فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا.
و لما أورد ذلك على ابن الباقلاني لج في الجواب وقال: يخرج على هذا أحد وجهين:
إما بأن يوضع عرض من الحياة في أول جزء من أجزاء الجسم، وإما أن يخلق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسد آخر.
و هذا قول في غاية الفساد من وجوه كثيرة، وأي قول أفسد من قول من يجعل روح الإنسان عرضا من الأعراض تتبدل كل ساعة ألوفا من المرات، فإذا فارقه هذا العرض لم يكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب، ولا تصعد ولا تنزل، ولا تمسك ولا ترسل، فهذا قول مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنّة والفطرة، وهو قول من لم يعرف نفسه، وسيأتي ذكر الوجوه الدالّة على بطلان هذا القول في موضعه من هذا الجواب إن شاء اللّه. وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام.
هامش
أي أصل الذنب وهو العصعص في الإنسان.
من ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، وقد ظهر مذهبه في البصرة، ويعتبر الأشاعرة والماتريدية أصحاب مذهب واحد لأن كلا من المذهبين يكمل الآخر في منهجه وفكره. وتتلخص آراء الأشاعرة بالتالي:
أ- الأخذ بظواهر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في أمور التوحيد، ووصف اللّه عز وجل بما وصف به نفسه في القرآن الكريم وبما ورد على لسان نبيه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ب- أن أفعال العبد مخلوقة، والعبد لا يقدر على خلق أي شي ء منها.
ج- أن سعداء الناس يرون ربهم يوم القيامة ولكن من غير حلول ولا حدود.
د- أن القرآن الكريم كلام اللّه غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع.
ه- القبيح هو المنهي عنه شرعا، والحسن هو الذي لم ير فيه نهي من الشارع.
و- أن مرتكب الكبيرة يعود أمره إلى اللّه عز وجل فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه وعاقبه ثم يدخله الجنة.
ز- أن صفات اللّه عز وجل قديمة وزائدة على ذاته.
========
فصل التناسخ
و أما قول من قال إن مستقرها بعد الموت أبدان أخر غير هذه الأبدان وهذا القول فيه حق وباطل.
فأما الحق: فما أخبر الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الشهداء أنها في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش هي كالأوكار للطائر، وقد صرح بذلك في قوله: «جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر».
و أما قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها، ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء، ويحتمل أن تكون الروح في صورة طائر، وهذا اختيار أبي محمد بن حزم وأبي عمر بن عبد البر، وقد تقدم كلام أبي عمر والكلام عليه، وأما ابن حزم فإنه قال معنى قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق» وهو على ظاهرة لا على ظن أهل الجهل، وإنما أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق بمعنى أنها تطير في الجنة لا أنها تمسخ في صورة الطير.
قال: فإن قيل إن النسمة مؤنثة. قلنا: قد صح عن عربي فصيح أنه قال:
أتتك كتاب فاستخففت بها، فقيل له: أ تؤنث الكتاب؟ قال: أ وليس صحيفة، وكذلك النسمة تذكر كذلك؟ قال: وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها، والحديثان معا حديث واحد. وهذا الذي قاله في غاية الفساد لفظا ومعنى، فإن حديث نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة غير حديث أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، والذي ذكره محتمل في الحديث الأول، وأما الحديث الثاني فلا يحتمله بوجه، فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر أن أرواحهم في حواصل طير، وفي لفظ أجواف طير خضر. وفي لفظ بيض، وإن تلك الطير تسرح في الجنة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش هي لها كالأوكار للطائر، وقوله أن حواصل تلك الطير هي صفة القناديل التي تأوي إليها خطأ قطعا، بل تلك القناديل مأوى لتلك الطير، فها هنا ثلاثة أمور صرح بها الحديث: أرواح وطير هي في أجوافها، وقناديل هي مأوى لتلك الطير، والقناديل مستقرة تحت العرش لا تسرح، والطير تسرح وتذهب وتجيء والأرواح في أجوافها.
فإن قيل: يحتمل أن تجعل نفسها في صورة طير أنها تركب في بدن طير كما قال تعالى:﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [82:8] ويدل عليه قوله في اللفظ الآخر أرواحهم كطير خضر كذلك رواه ابن أبي شيبة [1] حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه.
قال أبو عمرو الذي يشبه عندي واللّه أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صورة طير لمطابقته لحديثنا المذكور. يعني حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن.
فالجواب: إن هذا الحديث قد روي بهذين اللفظين والذي رواه مسلم في الصحيح من حديث الأعمش عن مسروق، فلم يختلف حديثهما أنها في أجواف طير خضر.
و أما حديث ابن عباس: فقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد اللّه ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم- يعني يوم أحد- جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يتكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد؟ فقال اللّه تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169]» [2].
و أما حديث كعب بن مالك: فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد ولفظه للترمذي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [3]. ولا محذور في هذا، ولا يبطل قاعدة من قواعد الشرع، ولا يخالف نصا من كتاب ولا سنّة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل هذا من إتمام إكرام اللّه للشهداء أن أعاضهم من أبدانهم التي مزقوها للّه أبدانا خيرا منها تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بها كمال تنعمهم، فإذا كان يوم القيامة رد أرواحهم إلى تلك الأبدان التي كانت في الدنيا.
فإن قيل: فهذا هو القول بالناسخ وحلول الأرواح في أبدان غير أبدانها التي كانت فيها.
قيل: هذا المعنى الذي دلت عليه السنّة الصريحة حق يجب اعتقاده ولا يبطله تسمية المسمى له تناسخا، كما أن إثبات ما دل عليه العقل والنقل من صفات اللّه عز وجل حقائق أسمائه الحسنى حق، لا يبطله تسمية المعطلين له تركيبا وتجسيما، وكذلك ما دل عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده، حق لا يبطله تسمية المعطلين له حلول حوادث، كما أن ما دل عليه العقل والنقل علو اللّه على خلقه ومباينته لهم واستوائه على عرشه وعروج الملائكة والروح إليه ونزولها من عنده وصعود الكلم الطيب إليه وعروج رسوله إليه ودنوه منه حتى صار قاب قوسين أو أدنى وغير ذلك من الأدلة حق لا يبطله تسمية الجهمية له حيزا وجهة وتجسيما.
قال الإمام أحمد: «لا نزيل عن اللّه صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين» قال: هذا شأن أهل البدع، يلقبون أهل السنّة وأقوالها بالألقاب التي ينفرون منها الجهال ويسمونها حشوا وتركيبا وتجسيما، ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا وجهة، ليتوصلوا بذلك إلى نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه، كما تسمى الرافضة موالاة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلهم ومحبتهم والدعاء لهم نصبا، وكما تسمى القدرية [4] المجوسية إثبات القدر جبرا، فليس الشأن في الألقاب، وإنما الشأن في الحقائق، والمقصود أن تسمية ما دلت عليه [الأحاديث] [5] الصريحة في جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تناسخا لا يبطل هذا المعنى، وإنما التناسخ الباطل ما تقوله أعداء الرسل من الملاحدة وغيرهم الذين ينكرون المعاد، وأن الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي تناسبها وتشاكلها، فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات، فتنعم فيها أو تعذب، ثم تفارقها وتحل في أبدان أخر تناسب أعمالها وأخلاقها.
و هكذا أبدا، فهذا معادها عندهم ونعيمها وعذابها، لا معاد لها عندهم غير ذلك، فهذا هو التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وهو كفر باللّه واليوم الآخر.
و هذه الطائفة يقولون: أن مستقر الأرواح بعد المفارقة [إلى] [6] أبدان الحيوانات التي تناسبها. وهو أبطل قول وأخبثه، ويليه قول من قال: إن الأرواح تعدم جملة الموت، ولا تبقى هناك روح تنعم ولا تعذب، بل النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو جزء منه إما عجب أو غيره، فيخلق اللّه فيه الألم واللذة، إما بواسطة رد الحياة إليه كما قاله بعض أرباب هذا القول، أو بدون رد الحياة كما قاله آخرون منهم، فهؤلاء عندهم: لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد، ومقابلهم من يقول: إن الروح لا تعاد إلى الجسد بوجه ولا تتصل به، والعذاب والنعيم على الروح فقط، والسنّة الصريحة المتواترة ترد قول هؤلاء وهؤلاء، وتبين أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين.
فإن قيل: فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقر الأرواح ومأخذهم فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده؟
قيل: الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة الإسراء.
و منها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره كما في المسند عن محمد بن عبد اللّه بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه ما لي إن قتلت في سبيل اللّه؟ قال: «الجنة» فلما ولى قال: «إلا الذي سارني به جبريل آنفا». ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في الحديث الآخر: «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة».
و منهم: من يكون محبوسا في قبره، كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«و الذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره».
و منهم: من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس: «الشهداء على بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية». رواه أحمد.
و هذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله اللّه من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء [7].
و منهم: من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحا سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة اللّه وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، واللّه تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدم في الحديث، ويجعل روحه يعني المؤمن مع النسيم الطيب أي الأرواح الطيبة المشاكلة فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانهم وأصحاب عملها فتكون معهم هناك.
و منها: أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقهم الحجارة، فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض.
و أنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك، ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وأن لها شأنا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتنفعل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شي ء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، [فهنالك] [8] الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.
فلهذه الأنفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها:
الدار الأولى: في بطن الأم وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث.
و الدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخبر والشر وأسباب السعادة والشقاوة.
و الدار الثالثة: دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليه كنسبة هذه الدار إلى الأولى.
و الدار الرابعة: دار القرار وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها، واللّه ينقلها في هذه الدار طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل إليها، ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى، فتبارك اللّه فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها. فمن عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا اللّه وحده ولا شريك له له الملك كله وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوة كلها، والقدرة كلها، والعز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله وأن الذي جاؤوا به هو الحق الذي تشهد به العقول وتقر به الفطر وما خالفه فهو الباطل وباللّه التوفيق.
هامش
وردت في المطبوع: فهناك لك.
المسألة الخامسة عشرة
مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ
هو أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي صاحب المصنف المشهور في الحديث النبوي الشريف، ولد في منتصف القرن الثاني للهجرة وتوفي سنة 235 ه، ذكر البخاري أن وفاته كانت في المحرم.
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الجهاد باب ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه بلفظ:
حدثنا ابن فضيل عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن ابن عباس (زاد فيه:
ابن إدريس) عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهارها وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت، فلما رأوا حسن مقيلهم ومطعمهم ومشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما صنع اللّه لنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه، فقال اللّه تعالى: فإني مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا واستبشروا بذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169] إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[3:171].
أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في ثواب الشهداء (4/ 151) برقم 1641.
تنسب القدرية إلى معبد بن خالد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي، وتتلخص أقوالهم بالتالي:
أ- القدر رديف الاختيار.
ب- نفي الصفات الثبوتية.
ج- خلق القرآن.
د- الإيمان قول وعمل وليس العمل شرطا في الإيمان.
ه- الإمامة تصح لغير القرشي (و هو قول الخوارج) فاعتبروا أنها تصح لكل من آمن بالكتاب والسنّة إذا أجمع المسلمون على إمامته.
و رأى بعض الباحثين أن معبد بن خالد الجهني أستاذ غيلان لم يأخذ أفكاره من القرآن أو من أقوال السلف أو حتى من نفسه بل أخذها من رجل نصراني من أهل العراق يدعى أبا يونس سستويه الأسواري، ومنهم من قال أن معبد قد أخذ آراءه عن أبان بن سمعان اليهودي، وأن أبان أخذ آراءه عن طالوت بن أعصم اليهودي.
ساقطة من المطبوع، والصواب ما أثبتناه.
ساقطة من المطبوع.
استشهد جعفر بن أبي طالب مع موقعة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، فقد أخرج الترمذي في كتاب المناقب باب مناقب جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه (5/ 612) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة». و أخرج الترمذي أيضا عن البراء بن عازب أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لجعفر بن أبي طالب «أشبهت خلقي وخلقي» وفي الحديث قصة.
======
الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة
===
المسألة السادسة عشر (انتفاع أرواح الموتى بعمل الغير)
و هي: هل تنتفع أرواح الموتى بشي ء من سعي الأحياء أم لا؟
فالجواب: أنها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين تجمع عليهما بين أهل السنّة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير.
أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
و الثاني: دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع: ما الذي يصل من ثوابه هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل؟ فعند الجمهور: يصل ثواب العمل نفسه، وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق.
و اختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف: وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة نص على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال: قيل لأبي عبد اللّه:
الرجل يعمل الشي ء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو- أو قال- الميت يصل إليه كل شي ء من صدقة أو غيرها، وقال أيضا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، وقل هو اللّه أحد، وقل اللهم، إن فضله لأهل المقابر. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل.
و ذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شي ء البتة لا دعاء ولا غيره.
فالدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عليه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدل على أنها منه فإنه هو الذي تسبب إليها.
و في سنن ابن ماجه: من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أكراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته».
و في صحيح مسلم: أيضا من حديث جرير بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شي ء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعد من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء». وهذا المعنى روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من عدة وجوه صحاح وحسان.
و في المسند: عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأمسك القوم، ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ خيرا فاستنّ به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ شرا فاستنّ به كان عليه وزره من أوزار من تبعه غير منتقض من أوزارهم شيئا».
و قد دل على هذا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها»، لأنه أول من سنّ القتل فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأخرى.
هامش
المسألة السادسة عشرة
انتفاع أرواح الموتى بعمل الغير | فصل الدليل على انتفاع روح الميت | فصل وصول ثواب الصدقة | فصل وصول ثواب الصوم | فصل وصول ثواب الحج | فصل نفي عقوبة العبد بعمل غيره | فصل الرد على الاستدلال بانقطاع العمل | فصل الرد على أن الإهداء حوالة | فصل الرد على من قال أن الإيثار مكروه | فصل الرد على أنه لو ساغ الإهداء للميت لجاز للحي | فصل هل يسوغ إهداء نصف الثواب أو ربعه | فصل الرد على جواز إهداء ثواب الواجبات | فصل الرد على القول أن التكاليف امتحان وابتلاء | فصل الرد على القول بأنه لو نفعه العمل لنفعته التوبة | فصل الرد على القول بأن العبادات نوعان | فصل من مات وعليه صيام | فصل قول ابن عباس في حديث الصوم | فصل الزعم أن الحديث اختلف في إسناده | فصل جواز القضاء عن الميت | فصل أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت | فصل الرد على القول بأن ثواب النفقة بالحج يصل فقط | فصل التلفظ بإهداء العمل
================
المسألة السابعة عشرة (هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة)
وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة، وإذا كانت محدثة مخلوقة وهي من أمر اللّه فكيف يكون أمر اللّه محدثا مخلوقا؟ وقد أخبر سبحانه أنه نفخ في آدم من روحه فهذه الإضافة إليه هل تدل على أنها قديمة أم لا؟ وما حقيقة هذه الإضافة؟ فقد أخبر عن آدم أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة.
فهذه مسألة زل فيها عالم، وضلت فيها طوائف من بني آدم. وهدى اللّه أتباع رسوله فيها للحق المبين والصواب المستبين، فأجمعت الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة. هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم، كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم حادث، وأن معاد الأبدان واقع، وأن اللّه وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق له، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الفضيلة على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنّة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة، واحتج بأنها من أمر اللّه، وأمره غير مخلوق، وبأن اللّه تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون فقالوا: لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة.
و سئل عن ذلك حافظ أصبهان: أبو عبد اللّه بن منده فقال: أما بعد فإن سائلا سألني عن الروح التي جعلها اللّه سبحانه قوام نفس الخلق وأبدانهم وذكر أقواما تكلموا في الروح وزعموا أنها غير مخلوقة وخص بعضهم منها أرواح القدس وأنها من ذات اللّه، قال وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدميهم وأبين ما يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأوضح خطأ المتكلم في الروح بغير علم وأن كلامهم يوافق قول جهم وأصحابه. فنقول وباللّه التوفيق وإن الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس.
فقال بعضهم: الأرواح كلها مخلوقة، وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر.
و احتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة.
وقال بعضهم: الأرواح من أمر اللّه، أخفى اللّه حقيقتها وعلمها عن الخلق واحتجوا بقول اللّه تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[17:85].
وقال بعضهم: الأرواح نور من نور اللّه تعالى وحياة من حياته واحتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره» [1]، ثم ذكر الخلاف في الأرواح هل تموت أم لا؟ وهل تعذب مع الأجساد في البرزخ وفي مستقرها بعد الموت؟ وهل هي النفس أو غيرها.
وقال محمد بن نصر المروزي [2] في كتابه: تأول صنف من الزنادقة وصنف من الروافض في روح آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى، وما تأوله قوم من أن الروح انفصل من ذات اللّه فصار في المؤمن فعبد صنف من النصارى عيسى ومريم جميعا، لأن عيسى عندهم روح من اللّه صار في مريم فهو غير مخلوق عندهم.
وقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض: أن روح آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق، وتأولوا قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[15:29] وقوله تعالى:﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾[32:9] فزعموا أن روح آدم ليس بمخلوق كما تأول من قال: إن النور من الرب غير مخلوق، قال: ثم صاروا بعد آدم في الوصي بعده، ثم هو في كل نبي ووصي إلى أن صار في علي ثم في الحسن والحسين، ثم في كل وصي وإمام فيه يعلم الإمام كل شي ء ولا يحتاج أن يتعلم من أحد.
و لا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلها مخلوقة للّه، خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾[45:13].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنّة.
و قد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو من أعلم أهل زمانه بالإجماع و الاختلاف، وكذلك أبو محمد بن قتيبة قال في (كتاب اللفظ): لما تكلم على الروح قال النسم الأرواح. قال وأجمع الناس على أن اللّه تعالى هو خالق الحبة وبارئ النسمة أي خالق الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك اللّه عن الروح مخلوقة هي أو غير مخلوقة؟ قال: وهذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب أو الروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة، وصنف الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في ذلك كتابا كبيرا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره والشيخ أبو سعيد الخراز وأبو يعقوب النهر جوري والقاضي أبو يعلى.
و قد نص على ذلك الأئمة الكبار واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، فكيف بروح غيره، كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في مجلسه في الرد على الزنادقة والجهمية: ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال: أنا أجد آية في كتاب اللّه مما يدل على أن القرآن مخلوق قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾[4:171] وعيسى مخلوق، قلنا له: إن اللّه تعالى منعك الفهم للقرآن، إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، لأنا نسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الخطاب والوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، فهل سمعتم اللّه يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو كن. ولكن كان يكن فكن من اللّه قول وليس كن مخلوقا، وكذبت النصارى والجهمية على اللّه في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: روح اللّه وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة.
و قالت النصارى: عيسى روح اللّه وكلمته من ذاته، كما يقال: هذه الخرقة من هذا الثوب، قلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما قول اللّه تعالى لكِنْ وقوله ورُوحٌ مِنْهُ يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾[45:13] يقول من أمره وتفسير روح اللّه إنما معناها بكلمة اللّه خلقا، كما يقال: عبد اللّه وسماء اللّه وأرض اللّه، فقد صرح بأن روح المسيح مخلوقة، فكيف بسائر الأرواح، وقد أضاف اللّه إليه الروح الذي أرسله إلى مريم، وهو عبده ورسوله، ولم يدل على ذلك أنه قديم مخلوق، فقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾[19:17] ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا18قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا19﴾ [19:18—19] فهذا الروح، هو روح اللّه وهو عبده ورسوله.
و سنذكر إن شاء اللّه تعالى أقسام المضاف إلى اللّه وأين يكون المضاف صفة له قديمة وأين يكون مخلوقا وما ضابط ذلك.
هامش
هو الإمام أبو عبد اللّه محمد بن نصر المروزي، أحد الأعلام، كان رأسا في الفقه والحديث والعبارة، قال أبو إسحاق الشيرازي: كان من أعلم الناس بالاختلاف وصنف كتبا، وقال شيخه في الفقه محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم: كان محمد بن نصر عندنا إماما فكيف بخراسان؟ وقال غيره: لم يكن للشافعية في وقت مثله، سمع يحيى بن يحيى وشيبان بن فروخ وطبقتهما.
توفي بسمرقند سنة أربع وتسعين ومائتين.
المسألة السابعة عشرة
هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة | فصل الأدلة على خلق الروح | فصل القرآن يدل على خلقه تعالى للأرواح | فصل الرد على الاستدلال بإضافتها إلى اللّه سبحانه وتعالى
أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (5/ 26) برقم 2642 وتمامه:
«فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم اللّه» قال الترمذي: حديث حسن.
===
المسألة الثامنة عشرة (وهي تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها)
فهذه المسألة للناس فيها قولان معروفان حكاهما شيخ الإسلام وغيره، وممن ذهب إلى تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعا. ونحن نذكر حجج الفريقين وما هو الأولى منها بالصواب.
قال من ذهب إلى تقدم خلقها على خلق البدن: قال اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾[7:11] قالوا ثم للترتيب والمهلة فقد تضمنت الآية أن خلقها مقدم على أمر اللّه للملائكة بالسجود لآدم.
و من المعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك، فعلم أنها الأرواح.
قالوا: ويدل عليه قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ﴾[7:172] قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، ففي الموطأ:
حدثنا: مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عن عمر بن الخطاب سأل عن هذه الآية: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال: «خلق اللّه آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون» فقال رجل: يا رسول اللّه ففيم العلم؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار» [1].
قال الحاكم: هذا حديث على شرط مسلم، وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: «لما خلق اللّه آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا [2] من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه؛ فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال اللّه تعالى: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ فقال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحد ذريته ونسي فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته- قال هذا على شرط مسلم. ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح [3]. ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن أول من جحد آدم». وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل اللّه لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة.
و في صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم: ﴿أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك، فقال رب لو سويت بين عبادك، فقال إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾[33:7] وهو قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[30:30] وهو قوله تعالى: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ [53:56] وقوله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [7:102] وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها. وهذا إسناد صحيح.
فقال إسحاق بن راهويه: حدثنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن الرحمن بن أبي قتادة البصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: يا رسول اللّه أ نبدأ الأعمال أم قد مضى القضاء؟ فقال: «إن اللّه لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار».
قال إسحاق: وأنبأنا النضر، حدثنا أبو معشر عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير عن أبي هريرة قال: لما أراد اللّه أن يخلق آدم- فذكر خلق آدم- فقال له آدم: أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين، فبسط يمينه فإذا فيها ذريته كلها ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلي على هيئته، والأنبياء على هيئتهم، فقال ألا أعفيتهم كلهم؟ فقال:
إني أحب أن أشكر». وذكر الحديث.
و قال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد اللّه بن سلام قال: «خلق اللّه آدم ثم قال بيديه فقبضهما، فقال: اختر يا آدم، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين، فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال:
من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة.
قال: وأخبرنا إسحاق حدثنا جعفر بن عون، أنبأنا هشام بن سعد زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة.
و حدثنا إسحاق وعمرو بن زرارة، أخبرنا إسماعيل عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ ميثاقهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾[7:172].
و رواه أبو جمرة الضبعي ومجاهد وخبيب بن أبي ثابت وأبو صالح وغيرهم عن ابن عباس.
و قال إسحاق أخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو في هذه الآية قال: أخذهم كما يؤخذ المشط بالرأس.
و حدثنا حجاج عن ابن جريج عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: إن اللّه ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به والمعرفة له ولأمره والتصديق وبأمره من بني آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا.
و ذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن ابن مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قوله تعالى: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الآية لما أخرج اللّه آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ وكهيئة الذر فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: أدخلوا النار ولا أبالي [4]، فذلك حيث يقول: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾[56:27] ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾[56:41] ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾[7:172] فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة ﴿شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن اللّه ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ﴾[43:22] فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾[7:172] وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[3:83] وقوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[6:149] قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق.
قال إسحاق: وأخبرنا روح بن عبادة حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال:
سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾[7:172] الآية أقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن يخلق أجسادها.
قال: وحدثنا الفضل بن موسى عن عبد الملك عن عطاء في هذه الآية قال:
أخرجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق ثم ردوا في صلبه.
قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأجلع عن الضحاك قال: إن اللّه أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة فأخرجهم مثل الذر فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾[7:172] قالت الملائكة: ﴿شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] ثم قبض بيمينه فقال: هؤلاء في الجنة، وقبض أخرى فقال: هؤلاء في النار.
قال إسحاق: وأخبرنا أبو عامر العقدي وأبو نعيم الملائي قال: حدثنا هشام ابن سعد عن يحيى وليس بابن سعيد قال: قلت لابن المسيب: ما تقول في العزل؟ قال: إن شئت حدثتك حديثا هو حق، إن اللّه سبحانه لما خلق آدم أراه كرامة لم يرها أحد من خلق اللّه، أراه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، فمن حدثك أن يزيد فيهم شيئا أو ينقص منهم فقد كذب ولو كان لي سبعون ما باليت.
و في تفسير ابن عيينة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[3:83] قال: يوم أخذه الميثاق.
قال إسحاق: فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين وذلك أن اللّه عز وجل أخبر أنه قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾[7:172] واللّه تعالى لا يخاطب إلا من يفهم عنه المخاطبة ولا يجيب إلا من فهم السؤال، فإجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن اللّه وعقلوا عنه استشهاده إياهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾[7:172] فأجابوه من بعد عقل منهم للمخاطبة وفهم لها بأن ﴿قَالُوا بَلَى﴾[7:172] فأقروا له بالربوبية.
هامش
وفي معنى هذا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث الذي روته السيدة عائشة قالت: أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بصبي من الأنصار يصلي عليه، قالت: قلت: يا رسول اللّه، طوبى لهذا لم يعمل شرا ولم يدر به، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أو غير ذلك يا عائشة، إن اللّه خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم».
أخرجه أبو داود في كتاب السنّة باب في ذراري المشركين (5/ 86) برقم 4713.
أخرجه الإمام مالك في الموطأ في باب النهي عن القول بالقدر (صفحة رقم 502) برقم 1618، والحديث بتمامه هو:
عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [7:172] فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسأل عنها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» فقال رجل: يا رسول اللّه، ففيم العمل؟ قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله ربه الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله ربه النار».
وبيص: البريق أو اللمعان.
أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب 8 من سورة الأعراف (5/ 249) برقم 3076.
===
المسألة التاسعة عشرة (حقيقة النفس)
و هي: ما حقيقة النفس: هل هي جزء من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟
و هل الأمّارة واللوّامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات، أم هي ثلاث أنفس.
فالجواب: إن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها من سائر الطوائف، واضطربت أقوالهم فيها وكثر فيها خطؤهم، وهدى اللّه أتباع الرسول وأهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فنذكر أقوال الناس وما لهم وما عليهم في تلك الأقوال، ونذكر الصواب بحمد اللّه وعونه:
قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته: «اختلف الناس في الروح والحياة هل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل الروح جسم أم لا؟ فقال النظام: الروح هي جسم وهي النفس، وزعم أن الروح حي بنفسه، وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي. وقال آخرون: الروح عرض.
و قال قائلون منهم جعفر بن حرب: لا ندري الروح جوهر أو عرض، واعتلوا في ذلك بقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[17:85] ولم يخبر عنها ما هي؟ لا أنها جوهر ولا عرض- قال:- وأظن جعفرا أثبت أن الحياة غير الروح وأثبت أن الحياة عرضا.
و كان الجبائي [1] يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة، والحياة عرض، ويعتل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان، وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض.
و قال قائلون: ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع، ولم يرجعوا عن قولهم إلا إلى المعتدل، ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
و قال قائلون: إن للروح مغنى خامس غير الطبائع الأربع، وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع واختلفوا في الروح فثبتها بعضهم طباعا وثبتها بعضهم اختيارا.
و قال قائلون: الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وكذلك قالوا في القوة.
و قال قائلون: الحياة هي الحرارة الغريزية، وكل هؤلاء الذين حكينا أقوالهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح.
و كان الأصم لا يثبت للحياة والروح شيئا غير الجسد، ويقول: ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده، وكان يقول النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد بحقيقة الشي ء لا على أنها معنى غير البدن.
و ذكر عن أرسطاطاليس [2]: أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون وأنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير، وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة، قال وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير [3].
و قال آخرون: بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض و العمق، وكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية (و هذا قول طائفة من الثنوية [4] يقال لهم المثانية).
و قالت طائفة: إن النفس موصوفة بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى الحدود والنهايات، إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفا بصفة الحيوان (و هؤلاء الديصانية) [5] وحكى الحريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم لكنه معنى [بين] [6] الجوهر والجسم.
و قال آخرون: النفس معنى غير الروح، والروح غير الحياة، والحياة عنده عرض (و هو أبو الهذيل)، وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾[39:42].
و قال جعفر بن حرب: النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم، وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما، وأنها غير موصوفة بشي ء من صفات الجواهر والأجسام، هذا ما حكاه الأشعري.
و قالت طائفة: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس، قالوا: والروح عرض وهو الحياة فقط، وهو غير النفس، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الباقلاني ومن أتبعه من الأشعرية.
و قالت طائفة: ليست النفس جسما ولا عرضا، وليست النفس في مكان، ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض، ولا هي في العالم ولا خارجه، ولا بجانبه ولا مباينة [له] [7]. وهذا قول المشائين، وهو الذي حكاه الأشعري عن أرسطاطاليس، وزعموا أن تعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاوزة ولا بالمساكنة ولا بالتصاق ولا بالمقابلة، وإنما هو التدبير له فقط، واختار هذا المذهب البوسنجي، ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد، ومعمر بن عباد الغزالي وهو قول ابن سينا وأتباعه، وهو أردأ المذاهب وأبطلها وأبعدها من الصواب.
قال أبو محمد بن حزم: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان، جثة متحيزة مصرفة للجسد، قال: وبهذا نقول، قال: والنفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد ومعناهما واحد.
و قد ضبط أبو عبد اللّه بن الخطيب مذاهب الناس في النفس فقال: ما يشير إليه كل إنسان بقوله: أنا، إما أن يكون جسما أو عرضا ساريا في الجسم أو لا جسما ولا عارضا ساريا فيه، أما القسم الأول: وهو أنه جسم، فذلك الجسم إما أن يكون هذا البدن وإما أن يكون جسما مشاركا لهذا البدن، وإما أن يكون خارجا عنه [أما القسم الثاني: وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن] [8]، أما القسم الثالث: وهو أن نفس الإنسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن فهذا لم يقله أحد، وأما القسم الأول وهو أن الإنسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص فهو قول جمهور الخلق وهو المختار عند أكثر المتكلمين.
قلت: هو قول جمهور الخلق الذين عرف الرازي أقوالهم من أهل البدع وغيرهم من المضلين، وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة، ولا أعتقد أن لهم في ذلك قولا على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة، والمذهب الحق الذي دل عليه القرآن والسنّة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره، وهو الذي نسبه إلى جمهور الخلق من أن الإنسان: هو هذا البدن المخصوص فقط، وليس وراءه شي ء هو أبطل من الأقوال في المسألة، بل هو أبطل من قول ابن سينا وأتباعه، بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معا، وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة.
فالناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان. هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما. وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما. فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه.
قال الرازي: وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن، فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه:
الأول: أنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي منها يتولد هذا البدن.
و الثاني: أنه الدم.
و الثالث: أنه الروح اللطيف الذي يتولد في الجانب الأيسر من القلب وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء.
الرابع: أنه الروح الذي يصعد في القلب إلى الدماغ، ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكرة والذكر.
الخامس: أنه جزء لا يتجزأ في القلب.
السادس: أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم ثوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.
و إذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح والبدن وانفصل إلى عالم الأرواح.
و هذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواء باطلة، وعليه دل الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، ونحن نسوق الأدلة عليه على نسق واحد.
الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] ففي الآية ثلاثة أدلة الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها.
الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾[6:93] إلى قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾[6:94].
و فيها أربعة أدلة:
أحدها: بسط الملائكة أيديهم لتناولها.
الثاني: وصفها بالإخراج والخروج.
الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم.
الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها، فهذه سبعة أدلة.
الثامن: قوله تعالى: و﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾[6:60] إلى قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾[6:61] وفيها ثلاثة أدلة:
أحدها: الإخبار بتوفي الأنفس بالليل.
الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار.
الثالث: توفي الملائكة له عند الموت فهذه عشرة أدلة:
الحادي عشر: قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي29وَادْخُلِي جَنَّتِي30﴾ [89:27—30] وفيها ثلاثة أدلة:
أحدها: وصفها بالرجوع.
الثاني: وصفها بالدخول.
الثالث: وصفها بالرضا.
و اختلف السلف: هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو في الموضعين؟ على ثلاثة أقوال، وقد روي في حديث مرفوع أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لأبي بكر الصديق: «إما أن الملك سيقولها لك عند الموت». قال زيد بن أسلم: بشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث. وقال أبو صالح: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [89:28] هذا عند الموت ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي29وَادْخُلِي جَنَّتِي30﴾ [89:29—30] قال: هذا يوم القيامة. فهذه أربعة عشر دليلا.
الخامس عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر». ففيه دليلان:
أحدهما: وصفه بأنه يقبض.
و الثاني: أن البصر يراه.
السابع عشر: ما رواه النسائي: حدثنا أبو داود عن عفان بن حماد عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة أن أباه قال: رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك، فقال: «إن الروح ليلقى الروح» فأقنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هكذا. قال عفان برأسه إلى حلقه. فوضع جبهته على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبر أن الأرواح تتلاقى في المنام، وقد تقدم قول ابن عباس: تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك اللّه أرواح الموتى.
الثامن عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث بلال: «إن اللّه قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء». ففيه دليلان وصفها بالقبض والرد.
العشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» وفيه دليلان:
أحدهما: كونها طائرا.
الثاني: تعلقها في شجر الجنة وأكلها على اختلاف التفسيرين.
الثاني والعشرون: قوله: «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطلع إليهم ربك اطلاعة فقال أي شي ء تريدون»؟ الحديث وقد تقدم فيه ستة أدلة:
أحدها: كونها مودعة في جوف طير.
الثاني: أنها تسرح في الجنة.
الثالث: أنها تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها.
الرابع: أنها تأوي إلى تلك القناديل أي تسكن إليها.
الخامس: أن الرب تعالى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته.
السادس: أنها طلبت الرجوع إلى الدنيا فعلم أنها مما يقبل الرجوع.
فإن قيل: هذا كله صفة الطير لا صفة الروح. قيل: بل الروح مودعة في الطير قصدا، وعلى الرواية التي رجحها أبو عمر، وهي قوله: «أرواح الشهداء كطير» ينفي السؤال بالكلية.
التاسع والعشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث طلحة بن عبيد اللّه: أردت مالي بالغابة فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمرو بن حرام، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ذاك عبد اللّه، أ لم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك حتى طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت». وفيه أربعة أدلة سوى ما تقدم:
أحدها: جعلها في القناديل.
الثاني: انتقالها من حيز إلى حيز.
الثالث: تكلمها وقراءتها في القبر.
الرابع: وصفها بأنها في مكان.
الثالث والثلاثون: حديث البراء بن عازب وقد تقدم سياقه وفيه عشرون دليلا:
أحدها: قول ملك الموت لنفسه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً28﴾ [89:27—28] وهذا الخطاب لمن يفهم ويعقل.
الثاني: قوله: اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان.
الثالث: قوله: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء.
الرابع: قوله: فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه.
الخامس: قوله: حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها بذلك الحنوط، فأخبر أنها تكفن وتحنط.
السادس: ثم يصعد بروحه إلى السماء.
السابع: قوله: ويوجد منها كأطيب نفحة مسك وجدت.
الثامن: قوله: فتفتح له أبواب السماء.
التاسع: قوله ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى.
العاشر: قوله فيقول تعالى ردوا عبدي إلى الأرض.
الحادي عشر: قوله فترد روحه إلى جسده.
الثاني عشر: قوله في روح الكافر فتفرق في جسده فيجذبها فتنقطع منها العروق والعصب.
الثالث عشر: قوله ويوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض.
الرابع عشر: قوله فيقذف بروحه عن السماء وتطرح طرحا فتهوي إلى الأرض.
الخامس عشر: قوله فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ وما هذا الروح الخبيث؟
السادس عشر: قوله فيجلسان ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فإن كان هذا للروح فظاهر، وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء.
السابع عشر: فإذا صعد بروحه قيل: أي رب عبدك فلان.
الثامن عشر: قوله: ارجعوه فأروه ما ذا أعددت له من الكرامة. فيرى مقعده من الجنة والنار.
التاسع عشر: قوله في الحديث: «إذا خرجت روح المؤمن صلى عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض» فالملائكة تصلي على روحه وبني آدم يصلون على جسده.
العشرون: قوله فينظر إلى مقعده من الجنة أو النار حتى تقوم الساعة والبدن قد تمزق وتلاشى وإنما الذي يرى المقعدين الروح.
هامش
ساقطة من المطبوع، واستكملت من قول الرازي الذي سيرد في الصفحة التالية.
المسألة التاسعة عشرة
حقيقة النفس | فصل نفس المؤمن ونفس الكافر | فصل خروج نفس المؤمن | فصل حضور الملائكة عند خروج نفس المؤمن | فصل الأرواح جنود مجندة | فصل روح النائم | فصل فتح أبواب السماء لروح المؤمن | فصل | فصل الروح والجسم، والنفس والجسم | فصل النفس والجسم | فصل الوجود | فصل هل الصورة العقلية مجردة | فصل القوى العقلية والإدراكات | فصل الإدراك | فصل | فصل الخيالات | فصل حال البدن والقوة العقلية | فصل | فصل الرد على القول بأن القوة الجسمانية تتعب | فصل | فصل الرد على أن محل الإدراكات جسم | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل
وهو من المعتزلة.
هو أرسطاطاليس بن نيقوماخوس الفيلسوف اليوناني من أهل أسطاغيرا، وهو المقدم المشهور والمعلم الأول والحكيم المطلق عند اليونان. ولد في السنة الأولى من ملك أزدشير بن دارا، فلما بلغ سبعة عشر سنة من عمره أسلمه أبوه إلى أفلاطون ليعلمه، فمكث عنده نيفا وعشرين سنة.
واعتبر أرسطاطاليس أن النفس الإنسانية ليست بجسم ولا قوة في جسم واستدل على ذلك باستدلالات عدة (انظر الملل والمحل 3/ 56).
يقولون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين يقولون بحدوث الظلام وتساويهما في القدم واختلافها في الجوهر والطبع والفعل والخير والمكان والأجناس والأبدان والأرواح.
نسبة إلى ديصان، وهؤلاء قالوا أن هناك أصلين: النور ويفعل الخير قصدا واختيارا، والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا، فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور، وما كان من شر ونتن وقيح فمن الظلام. وهؤلاء أعطوا للنور صفة الحي القادر العالم الحساس المدرك، وقالوا أن الحركة والحياة والظلام تكون منه، وقالوا أن النور جنس واحد كما الظلام جنس واحد. ولهم أقوال كثيرة في هذا (انظر الملل والنحل 2/ 88).
وردت في المطبوع: باين.
زيدت على المطبوع لسياق العبارة.
====
المسألة العشرون (وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟)
فاختلف الناس في ذلك.
فمن قائل: أن مسماهما واحد وهم الجمهور.
ومن قائل: أنهما متغايران، ونحن نكشف سر المسألة بحول اللّه وقوته فنقول النفس تطلق على أمور:
أحدها: الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش:
نجا سالما والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
أي يحفن سيف ومئزر (و النفس والدم) يقال سالت نفسه وفي الحديث ما لا نفسه له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه (و النفس الجسد).
قال الشاعر:
نبئت أن بني تميم أدخلوا ... أبناءهم تامور النفس المنذر
والتامور الدم (و النفس العين) يقال أصابت فلانا أي عين.
قلت: ليس كما قال بل النفس هاهنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين وسع لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم.
قلت: والنفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها كقوله تعالى:
﴿فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ﴾[24:61] وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾[16:111] وقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [74:38] وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [89:27] وقوله تعالى: ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾[6:93] وقوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴾[79:40] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾[12:53].
وأما الروح فلا تطلق على البدن بانفراده ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾[42:52].
وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾[40:15] وقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ [16:2] وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم خير منها وأسلم عاقبة.
وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح. قال الشاعر:
إذا هبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة، فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا، ومنه النفس بالتحريك، فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه.
فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وأن الحياة لا تتم به كما تتم إلا بالنفس فلهذا قال:
تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل
ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن أفاض إذا رفع باختياره وإراداته وفاض إذا اندفع قسرا وقهرا فاللّه سبحانه هو الذي يقضيها عند الموت فتفيض هي.
هامش
المسألة العشرون
هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران | فصل
=====
المسألة الحادية والعشرون (وهي هل النفس واحدة أم ثلاث؟)
فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس، نفس مطمئنة، ونفس لوّامة، ونفس أمّارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [89:27] وبقوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ1وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ2﴾ [75:1—2] وبقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾[12:53] والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته وللإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه.
فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطيع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه، فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، فالطمأنينة إلى اللّه سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه؟ يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى اللّه ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقة إلا باللّه وبذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [13:28].
فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج عنه، وهذا لا يتأتى بشي ء سوى اللّه تعالى وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور والثقة به عجز قضى اللّه سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شي ء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان، بل لو اطمأن إلى سواه أغراضها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
و حقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول. والتسليم، والإذعان، وانشراح الصدر له؛ وفرح القلب به.
فإنه معرف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه ومفاضله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة أمينة فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم.
و قال: إذا استوحش من الغربة قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينته شي ء. فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه.
و هذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي عليه بناؤه ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾[2:4] فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر اللّه سبحانه به عنها طمأنينة إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب.
فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة أصبحت مؤمنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال «عرفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها» فقال: عبد نور اللّه قلبه.
هامش
المسألة العشرون
هل النفس واحدة أم ثلاث
================
| المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
========
فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس، نفس مطمئنة، ونفس
لوّامة، ونفس أمّارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه
الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [89:27] وبقوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ1وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ2﴾ [75:1—2] وبقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾[12:53]
والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم فتسمى
مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته وللإنابة إليه والتوكل
عليه والرضا به والسكون إليه.
فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطيع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه،
فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى
لقائه عن الشوق إلى ما سواه، فالطمأنينة إلى اللّه سبحانه حقيقة ترد منه
سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين
يديه؟ يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه
وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى اللّه ويلين جلده
وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقة إلا
باللّه وبذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [13:28].
فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج عنه، وهذا لا
يتأتى بشي ء سوى اللّه تعالى وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه
وبه غرور والثقة به عجز قضى اللّه سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من
اطمأن إلى شي ء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان،
بل لو اطمأن إلى سواه أغراضها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن
المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
و حقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة
أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه
رسله فتتلقاه بالقبول. والتسليم، والإذعان، وانشراح الصدر له؛ وفرح القلب
به.
فإنه معرف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب
في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى
وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل عليه
نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه،
ويفرح به، ويلين له قلبه ومفاضله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل،
بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة أمينة فلو خالفه في ذلك من
بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم.
و قال: إذا استوحش من الغربة قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده
وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينته شي ء. فهذا أول درجات
الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه.
و هذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي عليه بناؤه ثم
يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة
حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى
أهل الإيمان حيث قال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾[2:4] فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر اللّه سبحانه به عنها طمأنينة إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب.
فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة أصبحت مؤمنا فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال
«عرفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى أهل الجنة
يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها» فقال: عبد نور اللّه قلبه.
هامش
المسألة العشرون
قلت المدون اكتفيت بروابط الموضوع المتفرع ويرجع الي الروابط حين استخدام الموضوعات التي في الكتاب
هل النفس واحدة أم ثلاث | فصل الطمأنينة | فصل | فصل | فصل | فصل النفس اللوامة | فصل النفس الأمّارة | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق | فصل شرف النفس | فصل الفرق بين الحمية والجفاء | فصل الفرق بين التواضع والمهانة | فصل | فصل الفرق بين الجواد والمسرف | فصل الفرق بين المهابة والكبر | فصل الفرق بين الصيانة والتبكر | فصل الفرق بين الشجاعة والجرأة | فصل الفرق بين الحزم والجبن | فصل الفرق بين الاقتصاد والشح | فصل الفرق بين الاحتراز وسوء الظن | فصل الفرق بين الفراسة والظن | فصل الفرق بين النصيحة والغيبة | فصل الفرق بين الهدية والرشوة | فصل الفرق بين الصبر والقسوة | فصل الفرق بين العفو والذل | فصل الفرق بين سلامة القلب والبله والغفل | فصل الفرق بين الثقة والغرّة | فصل الفرق بين الرجاء والتمني | فصل الفرق بين التحدث بنعم اللّه والفخر بها | فصل الفرق بين فرح القلب وفرح النفس | فصل فرحة المؤمن عند مفارقته الدنيا إلى اللّه | فصل الفرق بين رقة القلب والجزع | فصل الفرق بين الموجدة والحقد | فصل الفرق بين المنافسة والحسد | فصل الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمارة | فصل الفرق بين الحب في اللّه والحب مع اللّه | فصل الفرق بين التوكل والعجز | فصل الفرق بين الاحتياط والوسوسة | فصل الفرق بين إلهام الملك وإلقاء الشيطان | فصل الفرق بين الاقتصاد والتقصير | فصل الفرق بين النصيحة والتأنيب | فصل الفرق بين المبادرة والعجلة | فصل الفرق بين الأخبار بالحال وبين الشكوى | فصل الفروق الطول | فصل الفروق بين الأمور | فصل الفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة | فصل الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل | فصل الفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب | فصل الفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى اللّه عليه وآله وسلم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها | فصل الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان | فصل الفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني | فصل الفرق بين الحكم المنزل والحكم المؤول
-------------------------------------------
النهاية بحمد الله ورحمته روابط كل روابط كتاب الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون
============
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق