مكتبة العلوم الشاملة

false EN-GB X-NONE AR-SA ath"/>

مكتبة العلوم الشاملة

https://sluntt.blogspot.com/

 

السبت، 12 فبراير 2022

الرسالة التدمرية في التوحيد والأسماء والصفات والقضاء والقدر لابن تيمية

الرسالة التدمرية في التوحيد والأسماء والصفات والقضاء والقدر لابن تيمية


نزل نسخة مطبوعة

محتويات 

1 خطبة الكتاب ومنهجه وأبوابه
2 اثبات بعض الصفات اثبات للباقي
3 القول بالصفات كالقول بالذات
4 ما يثبت من الصفات
5 الخاتمة الجامعة
6 القاعدة الثانية : في الايمان بما أخبر به الرسول
7 القاعدة الثالثة : في ظاهر النصوص
8 القاعدة الرابعة : في مغايرة صفات الله لصفات المخلوقين
9 القاعدة الخامسة : العلم بما أخبرنا به
10 القاعدة السادسة : فيما يجوز وما لا يجوز على الله من النفي والإثبات
11 ما يسلكه نفاه الصفات
12 من أثبت بعض الصفات أثبت الباقي
13 القاعدة السابعة : ما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضا
14 التوحيد في العبادات
15 الأصل الثاني : حق الرسول ﷺ
16 الفناء عند الصوفية وغيرهم : فصل في أقسام الفناء الثلاثة

خطبة الكتاب ومنهجه وأبوابه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد أن لا اله الا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم تسليما أما بعد فقد سأليى من تعينت اجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه منى في بعض المجالس من كلام ( فى التوحيد والصفات ) وفى ( الشرع والقدر لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين وكثرة الاضطراب فيهما فانهما مع حاجة كل أحد اليهما ومغ أن أهل النظر والعلم والإدارة والعباد : لابدأن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والاقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات وما يعتري القلوب في ذلك : من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات

فالكلام في باب ( التوحيد والصفات ) هو من باب الخير الدائر بين النفي والإثبات

والكلام في ( الشرع والقدر ) : هو من باب الطلب والإرادة : الدائر بين الارادة والمحبة وبين الكراهة والبغض : نفيا وإثباتا

والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب وبين الحب والبغض والحض والمنع حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ومعروف عنج أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان : خبر وانشاء والخبر دائر بين النفي والإثبات وألإنشاء أمر أو نهي أو إباحة

واذا كان كذلك : فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب اثباته له من صفات الكمال وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن من يخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئه ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه : من القول والعمل ويؤمن بشرعه وقدره إيمانا خاليا من الزلل

وهذا يتضمن ( التوحيد في عبادته ) وحده لا شريك له : وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل و الأول يتضمن ( التوحيد في العلم والقول ) كما دل على ذلك سورة { قل هو الله أحد } ودل على الآخر سورة : { قل يا أيها الكافرون } وهما سورتا الاخلاص وبهما كان النبي ﷺ يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك

فأما الأول وهو ( التوحيد في الصفات ) فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله : نفيا واثباتا فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه

وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأتمها إثبات ما أثبته من الصفات من غير بكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل

وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد : لا في أمائه ولا في آياته فان الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } وقال تعالى : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم } الآية

فطريقهم تتضمن اثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات : اثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ففي قوله { ليس كمثله شيء } : رد للبشبيه والتمثيل وقوله : { وهو السميع البصير } : رد للالحاد والتعطيل

والله سبحانه : بعث رسله ( باثبات مفصل ونفي مجمل ) فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } قال أهل اللغة : هل تعلم له سميا أن فظيرا يستحق مثل اسمه ويقال : مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس ( هل تعلم له سميا ) مثيلا أو شبيها

وقال تعالى { لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا } وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم }

وقال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } وقال تعالى : { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم } { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين }

فسبح نفسه عما يصفه امفترون المشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع الخلوقات

وأما ( الاثبات المفصل ) : فانه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية بكمالها وقوله : { قل هو الله أحد * الله الصمد } السورة وقوله : { وهو العليم الحكيم } { وهو العليم القدير } { وهو السميع البصير } { وهو العزيز الحكيم } { وهو الغفور الرحيم } { وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد } { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم * هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }

وقوله : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } وقوله : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } الآية وقوله : { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } وقوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه } وقوله : { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } وقوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وقوله : { وكلم الله موسى تكليما } وقوله : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } وقوله : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } وقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وقوله : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }

الى أمثال هذه الآيات والاحاديث الثابتة عن النبي ﷺ في أسماء الرب تعالى وصفاته فان ذلك من اثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل واثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هذى الله به عباده سواء السيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين

وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل فى هؤلاء من الصابئة المتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم : فانهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون الا وجود مطلقا لا حقيقه فى الأعيان

فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فانهم يمثلونه بالممتعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات

فلانهم يسبلون عنه النقيضين فيقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لانهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالاثبات شبهوه بالموجودات واذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع فى بداهة العقول وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا فى شر مما فروا منه فانهم شبهون بالممتنعات اذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات

وقد علم بالاضطرار : أن الوجود لا بد من موجود واجاب بذاته غني عما سواه قديم أزلي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم فوصفوه بما يمتنع وجود ه فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم

وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والاضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الاطلاق وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه من الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهات وجعلوا هذه الصفة هي الاخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدا للعلوم الضروريات

وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم فأثبتوا لله الأسماء د ون ماتتمنه من الصفات - فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادعات ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدير سميع بصير بلا سمع ولا بصر فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات

والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول : مذكور على غير هذه الكلمات

وهؤلاء جميعهم يفرون من شئ فيقعون في نظيره وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل ولو أمعنو ا النظر اسووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذي يرون أنما أنزل الى الرسول هو الحق من ريه ويهدي الى صراط العزيز الحميد

ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون فى العقليات يقرمطون فى السمعيات

وذلك أنه قد علم بضروة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه اذ نحن نشاهد حدوث المحدثات : كالحيوان والمعدن والنبات والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالا ضطرار أن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من موجود كما قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } فاذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم

واذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم : فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما فى مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه واتفاقهما فى اسم عام : لا يقتضي تماثلهما فى مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره

فلا يقول عاقل اذا قيل ان العرش شيء موجود وان البعوض شيء موجود : ان هذا مثل هذا لا تفاهما فى مسمى الشيء والوجود لانه ليس فى الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق واذا قيل هذا موجود وهذا موجود : فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الإسم حقيقة في كل منهما

ولهذا سمى الله نفسه باسماء وسمى صفاته باسماء وكانت تلك الاسماء مختصة به اذا أضيفت اليه لا يشركه فيها غيره وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة اليهم توافق تلك الأسماء اذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ولم يلزم من اتفاق الإسمين وتماثل مسماهما واتحاد عند الإطلاق والتجديد عن الإضافة والتخصيص : اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص

فقد سمى الله نفسه حيا فقال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وسمى بعض عباده حيا فقال : { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأن قوله الحي اسم لله مختص به وقوله : { يخرج الحي من الميت } اسم للحي المخلوق مختص به وانما يتفقان اذا أطلقا وجردا عن التخصيص ولكن ليس للطلق مسمى موجود فى الخارج ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق

ولا بد من هذا عى جميع أسماء الله وصفاته يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والإتفاق وما دل عليه بالإضافة والاختصاص : المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه - سبحانه وتعالى

وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عبادة عليما فقال : { وبشروه بغلام عليم } يعني اسحق وسمى آخر حليما فقال : { فبشرناه بغلام حليم } يعني اسماعيل وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم

وسمه نفسه سميعا بصيرا فقال : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } وسمى بعض عباده سميعا بصيرا فقال : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير

وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم

وسمى نفسه بالملك فقال { الملك القدوس } وسمى بعض عباده بالملك فقال ( وكان وراءهم ملك يأخذ سفينة غصبا ) ( وقال الملك ائتوني به ) وليس الملك كالملك

وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وليس المؤمن كالمؤمن

وسمى نفسه بالعزيز فقال : { العزيز الجبار المتكبر } وسمى بعض عباده بالعزيز فقال : { قالت امرأة العزيز } وليس العزيز كالعزيز

وسمى نفسه الجبار المتكبر وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال : { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } وليس الجبار كالجبار ولا المتكبر كالمتكبر ونظأئر هذا متعددة

وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عبادة بنظير ذلك فقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } ( انزله بعلمه ) وقال : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } وقال : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقال : { وفوق كل ذي علم عليم } وقال : { فرحوا بما عندهم من العلم } وقال : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة } وقال : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } وقال : { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة وقال : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } أي ذا القوة وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال : { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } وقال : : { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما } وكذلك وصف نفسه بالإرادة عبده بالإرادة فقال : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم }

ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }

ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ومعلوم أن مشيئة الله ليس مثل العبد ولا ارادته مثل ارادته ولا محبته مثل محبته ولا رضاه مثل رضاه وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم لامقت فقال : { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } وليس المقت مثل المقت وهكذا وصف نفسه بلفمكر والكيد كما وصف عبده بذلك فقال : { ويمكرون ويمكر الله } وقال : { إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا } وليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد

ووصف يفسه بالعمل فقال : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون } ووصف عبده بالعمل فقال : { جزاء بما كانوا يعملون } وليس العمل كالعمل ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة فقال : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } وقال : { ويوم يناديهم } وقال { وناداهما ربهما } ووصف عباده بالمنادة والمناجاة فقال : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } وقال : { إذا ناجيتم الرسول } وقال : { إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان } وليس المناداة ولا المناجاة كالمناجاة والمنادات

ووصف يفسه بالتكليم فى قوله : { وكلم الله موسى تكليما } وقوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقوله : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } ووصف عبده بالتكلم فى قوله : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } وليس التكليم كالتكليم ووصف نفسه بالتنبئة ووصف بعض الخلق بالتنبة فقال : { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } وليس الانباء كالانباء

ووصف نفسح بالتعليم ووصف عبده بالتعليم فقال : { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } وقال : { تعلمونهن مما علمكم الله } وقال : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } وليس التعليم كالتعليم ووصف نفسه بالغضب فقال : { وغضب الله عليهم ولعنهم } ووصف عبده بالغضب فى قوله : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } وليس الغضب كالغضب

ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه أنه استوى الى العرش ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله : { لتستووا على ظهوره } وقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وقوله : { واستوت على الجودي } وليس الاستواء كالاستواء ووصف نفسه ببسط اليدين فقال : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } ووصف بعض خلقه ببسط اليد فى قوله { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } وليس اليد كاليد ولا البسط كالبسط وإذا كان المراد بالبسط الاعطاء والجود : فليس اعطاء الله كاعطاء خلقه ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة فلا بد من اثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي مماثلته بخلقه فمن قال : ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة ولا كلام ولا يحب ولا يرضى ولا نادى ولا ناجى ولا استوى : كان معطلا جاحدا ممثلا لله بالمعدومات والجمادات ومن قال له علم كعلمي أو قوة كقوتي أو حب كحب أو رضاء كرضائي أو يدان كيداي أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات بل لا بدمن اثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل وتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبن وبخاتمة جامعة
اثبات بعض الصفات اثبات للباقي

فأما الاصلان : فأحدهما أن يقال : ( القول في بعض الصفات كالقول في بعض ) فإن كان المخاطب ممن يقول : بأن الله حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام مريد بإرادة ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع فى محبته وضاه وغضبه وكراهته فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالارادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات فيقال له : لا فرق بين ما نفتيه وبين ما أثبته بل القول في أحدهما كالقول فى الآخر فان قلت : إن ارادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه وهذا هو التمثيل وإن قلت : إن له إرادة تليق به كما أن للمخلوق ارادة تليق به قيل لك : وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة يليق به وله رضا وغضب يليق به وللمخلوق رضا وغضب يليق به

وان قالت : الغضب غليان دم القلب لطب الانتقام فيقال له : والإرادة ميل النفس الى جلب منفعة أو دفع مضرة فان قلت : هذه ارادة المخلوق قيل لك : وهذا غضب المخلوق وكذلك يلزم القول فى كلامه وسمعة وبصره وعلمه وقدرتة ان نفي عنه الغضب والمحبة والرضا وننحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وان قال : انه لا حقيقة لهذا الا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه قيل له : هكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له : فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته فإذا قال المعتزلي : ليس له ارادة ولا كلام قائم به لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات فانه يبن للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم ولا تكون كصفات المحدثات فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل لآن الفعل الحادث دل على القدرة والتخصيص دل على الارادة والإحكام دل على العلم وهذه الصفات مسلزمة للحياة والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك قال له سائر أهل الاثبات : لك جوابان أحدهما أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين فثبت أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فانه لا ينفيه وليس لك أن ينفيه بغير دليل لان النافي عليه الدليل كما على المثبت والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي فيجب اثبات ما اثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم الثاني أن يقال : يمكن أثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات فيقال نفع العباد بالإحسان اليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة وإكرام الطائعين يدل على محبتهم وعقاب الكافرين يدل على بغضهم كما قد ثبت بالشهادة والخير : من اكرام أولياءه وعقاب أعدائه والغايات المحمودة فى مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي اليه مفعولاته و مأموراته من العواقب الحميدة - يدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى : لقوى العلة الغائية ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم : أعظم مما في القرآن من بيان ما فيهما من الدلالة على محض المشيئة وان كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالاسماء كالمعتزلي الذي يقول : انه حي عليم قدير وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة قيل له : لا فبق بن أثبات الأسماء وإثبات الصفات فإنك ان قلت : اثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها أ تجسيما لأنا لا نجد فى الشاهد متصفا بالصفات الاما هو جسم قيل لك : ولا نجد فى الشاهد ما هو مسمى حى عليم قدير الا ما هو جسيم فان نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد الا للجسم فانف الأسماء بل وكل شيء لأنك لا تجده فى الشاهد الا للجسم فكل ما يحتج به من نفي الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى : فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول : هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته اذ هي مجاز لأن اثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم قيل له : وكذلك اذا قلت : ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير : كان ذلك تشبها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات فإن قال : أنا أنفي النفي والإثبات قيل له : فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضات من الممتنعات فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودا معدوما أولا موجودا ولا معدوما ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود العدم ونفى الحياة والموت ونفى العلم والجهل فإن قلت انما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لها وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت إذا ليس بقابل لهما قيل لك : أولا هذا لا يصح فى الوجود والعدم فانهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فليزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل : فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون والا صطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية وقد قال الله تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } فيسمى الجماد ميتا وهذا مشهور فى لغة العرب وغيرهم وقيل لك ثانيا : فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتفابلات انقض مما يقبل ذلك - فالأعمى الذى يقبل الإتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذى لا يقبل واحدا منهما فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال ووصفته بصفات الجمادات التى لا تقبل ذلك وايضا فما يقبل الوجود والعدم : أعظم إمتناعا من القابل للوجود والعدم بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعا فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم : كان أعظم امتناعا مما نفيت عنه الوجود والعدم واذا كان هذا ممتنعا فى صرائح العقول فذاك أعظم امتناعا فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو اعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد

وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين : الوجود والعدم ورفعهما كجميعهما من يقول لا أثبت واحدا منهما فامتناعه عن اثبات احداهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما فى نفس الأمر وانما هو كجهل الجاهل وسكوت الساكت الذي لا يعبر عن الحقائق واذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعا مما يقدر قبوله لهما - مع نفيهما عنه - فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس ولا العمى ولا البصر ولا السمع ولا الصمم : أقرب الى المعدوم الممتنع مما يقدر قال لا بهما - مع نفيهما عنه - وحينئذ فنفيهما وجب له العدم توقف صفاته على غيره فإذا جاز القبول وجب وإذا جاز وجود القبول وجب وقد بسط في موضع آخر وبين جوب اتصافه بصفات الكمال التي لا يقص فيها بوجه من الوجوه

وقيل له أيضا : اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات : ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدله السمعيات والعقليات وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه - سبحانه وتعالى -

وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل وتسميتك ذلك تشبيها وتجسما تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه ولو ساغ هذا : لكان لك مبطل يسمى الحق بأسماء يقفر عنها بعض الناس ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل وبهذه الطريقة : أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة وان قال نفاة الصفات : اثبات العلم والقدر ة والإرادة مستلزم تعدد الصفات وهذا تركيب ممتنع قيل : وإذا قلتم : هو موجود واجب وعقل وعاقل ومعقول وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ ولذة أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا ؟ فهذه معان متغيرة في العقل وهذا تركيب عندكم وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدا

فإن قالوا : هذا في الحقيقة وليس هذا تركبا ممتنعا قيل لهم : واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيبا ممتنعا

وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول أنه ليس معنى كون الشيء عالما هو معنى كونه قادرا ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالما قادرا فمن جوز أن تكون هذه الصفة هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة ثم إنه متناقض فانه ان جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا فيكون الوجود واحدا بالعين لا بالنوع وحينئذ فاذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق يعدم بعدم وجوده ويوجد بعد عدمه : هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقة الذي لا يقبل العدم واذا قدر هذا كان الوجود الواجب موصوفا بكل تشبه وتجسيم وكل نقص وكل عيب كما يصرح بذلك ( أهل وحدة الوجود ) الذي طردوا هذا الأصل الفاسد وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير

وهذا باب مطرد فان كل واحد من النفاة لما أخبر به الرسول من الصفات : لا ينفى شيئا فرارا مما هو محذور إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه فلا بد في آخر الأمر من أن يثبت موجودا وجبا قديما متصفا بصفات تميزه عن غيره ولا يكون فيها مماثلا لخلقه

فيقال له : هكذا القول فى جميع الصفات وكل ما تثبته من الأسماء والصفات : فلا بد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المبسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه : أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال
القول بالصفات كالقول بالذات

أن يقال : ( القول فى الصفات كالقول في الذات ) فان الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات فذا قال السائل : كيف استوى على العرش ؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما : الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه وكذلك إذا قال كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ؟ قيل له : كيف هو ؟ فاذا قال : لا أعلم كيفيه قيل له : ونحن لا نعلم كيفية نزوله اذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا بعلم كيفية ذاته وإذا كنت تقر بأن حقيقة ثابتة فى نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء فسمعه وبصره وكلامه ونزله واستواؤه : ثابت في نفس الأمر وهو متصف بصفات الكمال التى لا يشابهه فيها سمع الخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم وهذا الكلام لازم لهم في ا لعقليات وفي تأويل السمعيات : فان من اثبت شيئا ونفى شيئا بالعقل - اذا - لزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته ولو طولب بالفرق بن المحذور في هذا وهذا : لم يجد بينهما فراقا ولهذا لا يوحد لنفاة بعض الصفات دون بعض - الذين يوجبون فيما نفوه : اما التفويض واما التأويل المخالف المقتضي اللفظ - قانون مستقيم فذا قيل لهم : لم تأولتم هذا وأقررتم هذا وللسؤال فيهما واحد ؟ لم يكن لهم جواب صحيح فهذا تناقضهم في النفي وكذا تناقضهم في الإثبات فان من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها فانهم اذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه الى معنى آخر : لزمهم في المعنى المصروف اليه ما كان يلزمهم فى المعنى المصروف عنه فاذا قال قائل : تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه : هو ارادته للثواب والعقاب كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط ولو فسر ذلك بمفعولاته وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب فانه يلزمه في ذلك ما فر منه فان الفعل لا بد أن يقوم أولا بالفاعل والثواب والعقاب المفعول انما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا وان أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات
ما يثبت من الصفات

وأما ( المثالن المضروبان ) : فإن الله - سبحانه وتعالى - أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات : من أصناف المطاعم والملابس والمناكح والمساكن فأخبرنا أن فيها لبنا وعسلا وخمرا وماء ولحما وحريرا وذهبا وفضة وفاكهة وحورا وقصورا وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء

وإذا كانت تلك الحثائق التى أخبر الله عنها هى موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة فى الدنيا وليست مماثلة لها بل بينهما من التباين ما لا يعمله إلا الله تعالى : فالخلق - سبحانه وتعالى - أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ومباينتة لخلوقاته : أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا إذا المخلوق أقرب الى المخلوق الموافق في الاسم من الخالق الى الخلوق وهذا بين واضح ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاق فرق : فالسلف والأئمة وأتباعهم : آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة وأن مباينة الله لخلقه أعظم والفريق الثاني : الذين اثبتوا ما أخبر الله به فى الآخرة من الثواب والعقاب ونفوا كثيرا مما أخبر به من الصفات مثل طوائف من أهل الكلام والفرق الثالث : نفوا هذا وهذا كالقرامطة والباطنية والفلاسفة أتباع المشائين ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر

ثم إن كثيرا منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها : لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها كما يتأولون من الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت فيقولون : ان الصلوات الخمس معرفة أسرارهم وان صيام رمضان كتمان أسرارهم وان حج البيت السفر الى شيوخهم ونحو ذلك من التأويلات التى يعلم بالاضطرار انها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه والحاد فى آيات الله وقد يقولون الشرائع تلزم العامة دون الخاصة فاذا صار الرجل من عارفهم ومحققيهم وموحديهم : رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات وقد يدخل فى المنتسبين الى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب

وهولاء الباطنية : هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والاثبات : يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والاثبات على من يشرك هؤلاء في بعض الحادهم فاذا أثبت لله تعلى الصفات ونفي عنه مماثلة المخلوقات - كما دل على ذلك الآيات البينات - كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول ويهدم أساس الالحاد والضلالات

ولله سبحانه ىلا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه فان الله لا مثيل له بل له ( المثل الأعلى ) فلا يجوز أن يشرك هو والمخلوقات فى قياس تمثيل ولا في قياس شمول تستوى أفراده ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالنزيه عنه فذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم : فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق وان حصلت موافقة في الاسم وهكذا القول في ي ( المثل الثاني )

وهو أن ( الروح التي فينا - فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء وأنها تقبض من البدن وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة والناس مضطرون فيها فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءا من البدن أو صفة من صفاته كقول بعضهم : انها النفس أو الريح التي تردد في البدن وقول بعضهم : إنها الحياة أ المزاج أو نفس البدن ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود فيقولون : لا هي داخلة في البدن ةلا خارجة ولا مناينة له ولا مداخلة له ولا متحركة ولا ساكنة ولا تصعد ولا تهبط ولا هى جسم ولا عرض وقد يقولون : انها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة وقد يقولون : انها لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينة له ولا مداخلة وربما قالوا ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية فيصفونها بأنها لايمكن الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع وإذا قيل لهم : إثبات هذا ممتنع في ضرورة العقل قالوا : بل هذا ممكن بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها وقد غفاوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال

واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير

وسبب ذلك أن الروح - التى تسمى باليفس الناطقة عند الفلاسفة - ليس هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها بل هى من جنس آخر مخالف لهذه الآجناس فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التى توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي فإن أهل اللغة يقولون : الجسم هو الجسد والبدن وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسما ولهذا يقولون : الروح والجسم كما قال تعالى : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } وقال تعالى { وزاده بسطة في العلم والجسم } وأما أهل الكلام : فمنهم من يقول الجسم هو الموجود ومنهم من يقول : هو القائم بنفسه ومنهم من يقول : هو المركب من الجواهر المفردة ومنهم من يقول : هو المركب من المسادة والصورة وكل هؤلاء يقولون : انه مشار إليه إشارة حسية ومنهم من يقول : ليس مركبا من هذا ولا من هذا بل هو مما يشار إليه ويقال : انه هنا أو هناك فعلى هذا ان كانت الروح مما يشار اليها ويتبهها بصر الميت - كما قال : ﷺ : [ ان الروح إذا خرجت تبعها البصر وانها تقبض ويعرج بها الى السماء ] كانت الروح جسما بهذا الاصطلاح

والمقصود : أن الروح اذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة : تصعد وتنزل وتذهب وتجيء ونحو ذلك من الصفات والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها لا نهم لم يشاهدوا لها نظيرأ والشيء انما تدرك حقيقة بمشاهدته أو مشاهدة نظيرة فإذا كانت الروح بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات : فالخالق أولى بمبا ينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته وأهل العقول هم أعجز عن أن يجدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها فإذا كان من نفى صفات الروح جاحد معطلا لها ومن مثلها بما يشاهد من المخلوقات جاهلا ممثلا بغير شكلها وهى مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات مستحقة لما من الصفات : فالخالق - سبحانه وتعالى - أولى أن يكون من نفي صفاته جاحدا معطلا ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا وهو سبحانه وتعالى - ثابت بحقيقة الإثبات مستحق لما له من الأسماء والصفات
الخاتمة الجامعة

إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك والنفي كقوله لا بأخذه سنة ولا نوم وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه فدح كمال إلا اذا تضمن إثباتا وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال لأن النفي المض عدم محض والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء فهو كما قيل : ليس بشيء فضلا عن أن يكون كدحا أو كمالا ولأن النفي المض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفى متضمنا لإثبات مدح كقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } الى قوله : { ولا يؤوده حفظهما } فينفى السنة والنوم : يتضمن كمال الحياة والقيام فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله : { ولا يؤوده حفظهما } أى لا يكر ثه ولا يثقله وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها وبخلاف المخلوق القادر اذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته وكذلك قوله { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } فإن نفي يالعزوب مستلزم لعلمه بكل ذره في السماوات والأرض وكذلك قوله : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والاعياء دل على كمال القدر ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال مايلحقه

وكذلك قوله : { لا تدركه الأبصار } انما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ولم ينفي مجرد الرؤية لان المعدوم لا يرى وليس في كونه لا يرى مدح إذا لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا وانما المدح في كونه لا يحاط به وإن رؤى كما أنه لا يحاط به وان علم فكما أنه اذا علم لايحاط به علما : فكذلك اذا رؤى لا يحاط به رؤية فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحا وصفة كمال وكان ذلك دليلا على اثبات الرؤية لا على نفسيها لكنه دليل على اثبات الرؤية مع عدم الإحاطة وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها واذا تأملت ذلك : وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا هو مما لم يصف الله به نفسه فالذين لا يصفونه الا بالسلوب : لم يثبتوا في الحقيقة الها محمودا بل ولا موجودا وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش ويقولون : ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا محادث له اذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم وليست هى صفة مستلزمة صفة ثبوت ولهذا ( قال محمود بن سبكتكين ) لمن ادعى ذلك في الخالق ك ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم زكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات فهذه الصفات : منها ما لا يتصف به الا المعدوم ومنها ما لا يتصف به الا الجمادات والناقص فمن قال : لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال : لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له ومن قال : انه ليس بحي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم : لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم فان قال : العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير قيل له : هذا اصطلاح اصطلحتموه وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام : يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة وأيضا فكل موجود يقبل الايصاف بهذه الأمور ونقائضها فان الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصى وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم يقصا ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس : أعظم نقصا من الحى والأعمى الأخرس

فاذا قيل : إن الباري لا يمكن اتصافه بذلك : كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما اذا وصف بالخرس والعمى والصم ونحو ذلك مع انه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها وهذا تسبيه بالجمادات لا بالحيوانات فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أ ه تشبيه بالحي وأيضا فنفس نفى هذه الصفات نقص كما أن اثباتها كمال فالحياة من حيث هي : هي مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها صفة كمال وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك وما كان صفة كمال : فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به : لكان المخلوق أكمل منه

وأعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة من ضاها هم : ينفون عنه تعالى اتصافه باليقيضين حتى يقولون ليس بموجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول كالجمع بين النقيضين وآخرون وصفوه بالنفي فقط فقالوا ليس بحي ولا سميع ولا بصير وهؤلاء أعظم كفرا من أولئك من وجه وأولئك أعظم كفرا من هؤلاء من وجه فاذا قيل لهؤلاء هذا مستلزم وصفة بنقيض ذلك كالموت والصم والبكم قالوا انما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك وهذا الاعتذار يزيد قولهم فسادا

وكذلك من ضاهى هؤلاء - وهم الذين يقولون : ليس ب داخل العالم ولا خارجه اذا قيل هذا ممتنع في ضرورة العقل كما اذا قيل : ليس بقديم ولا محدث - ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره قالوا هذا انما يكون إذا كان قابلا لذلك والقبول إنما يكون من المتحيز فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين المتناقضين فيقال لهم علم الخلق بإمتناع الخلو من هذين النقيضين : هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود والتحيز المذكور : إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به فهذا هو الداخل في العالم وان أريد به أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها متميز عنها فهذا هو الخروج فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم وتارة ما هو خارج العالم فإذا قيل ليس بمتحيز كان معناه ليس بداخل العلم ولا خارجه فهم غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل كما فعل أولئك بقولهم : ليس بحي ولا ميت ولا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل
القاعدة الثانية : في الايمان بما أخبر به الرسول

إن ما أخبر به الرسول عن ربه فانه يجب الإيمان به - سواء عرفنا معناه أو لم نعرف - لأنه الصادق المصدوق فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وان لم يفهم معناه

وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها مع أن هذا الباب يوجد عمته منصوصا في الكتاب والسنة متفق عليه بين الأمة

وما تنازع فيه المتأخرون نفيا واثباتا فليس على أحد بل ولا له : أن يوافق احد على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده فإن أراد حقا قبل وان أراد باطلا رد وان اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك

فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقا كما اذا أريد بالجة نفس العرش أو نفس السموات وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما اذا اريد بالجهة ما فوق العالم

ومعلوم انه ليس في النص اثبات لفظ الجهة ولا نفيه كما فيه اثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج اليه ونحو ذلك وقد علم أن ما ثم موجود الا الخالق والمخلوق والخالق مباين للمخلوق - سبحانه وتعالى - ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذابه شيء من مخلوقاته

فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة انها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العلم مباين للمخلوقات

وكذلك يقال لمن قال الله في جهة : أتريد بذلك أن الله فوق العالم ؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟ فان أردت الأول فهو حق وان أردت الثاني فهو باطل

وكذلك لفظ التحيز : ان أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال الله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } وقد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال : [ يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ] وفي حديث آخر : [ وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة ] وفي حديث ابن عباس : [ ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كمحردلة في يد أحدكم ]

وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات : أى مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها : فهو سبحانه كما قال أئمة السنة : فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه
القاعدة الثالثة : في ظاهر النصوص

إذا قال القائل : ظاهر المنصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد

فإنه يقال : لفظ الظاهر فيه اجمال واشتراك فإن كان القائل يعبقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذى وصف به نفسه لا سظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال والذي نجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين :

تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلون محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل

( فالأول ) كما قالوا في قوله : ( عبدي جعت فلم تطعمني ) الحديث وفى الأمر الآخر : ( الحجر الاسود يمين الله في الارض فمن صافحه أو قبله فكانما صافح الله وقبل يمينه ) وقوله : [ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ] فقالوا : قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق

فيقال لهم : لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلتم أنها لم بد ل إلا على حق أما ( الواحد ) فقولة : [ الحجر الأسود يمين الله في الارض فمن صافحه وقبله فكانما صافح الله وقبا يمينه ] صريح في أن الحجر الاسود ليس هو صفة لله ولا هو نفس يمينه لانه قال : [ يمين الله في الارض ] وقال : [ فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينة ] ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرا لأنه محتاج إلى التأويل مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس ؟

وأما الحديث الآخر : فهو في الصحيح مفسرا : [ وقول الله عبدي جعت فلم تطعمني فيقول : رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي علانا جاع فلو أطعمته لو جدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني فيقول : رب كيف أعوذك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده ]

وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه جوعه ومرضه مرضه مفسرا ذلك بأنك لو أطعمته لو جدع ذلك عندي ولو عدته لو جدتني عنده فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل وأما قوله قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن : فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصبع ولا مماس لها ولا أنها في جوفه ولافي قول القائل هذا بين يدي ما يقتضي ميقتضي مباشرته ليديه ؟ وإذا قيل : السحاب المسخر بين السماء والأرض لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والارض ونظائر هذا كثيرة

ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيرا لما ليس مثله كما قيل في قوله { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } ؟ فهذا ليس مثل هذا لأنه هنا أصناف الفعل إلى الأيدي : فصار شبيها بقوله : { بما كسبت أيدي } وهنا أضاف الفعل إليه فقال : { لما خلقت } ثم قال { بيدي }

وأيضا : فانه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد وفي اليدين ذكر لفظ التثنية كما في قوله : { بل يداه مبسوطتان } وهناك أضاف الأيدى الى صيغة الجمع فصار كقوله : { تجري بأعيننا }

وهذا في الجمع نظير قوله : { بيده الملك } و { بيدك الخير } في المفرد فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسة تارة بصيغة المفرد مظهرا أو مضمرا وتارة بصيغة الجمع كقوله : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وأمثال ذلك

ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه وربما تدل على معاني أسمائه وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك فلو قال : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } لما كان كقوله : { مما عملت أيدينا } وهو نظير قوله : { بيده الملك } و { بيدك الخير } ولو قال { خلقت } بصيغة الإفراد لكان مفارقا له فكيف اذا خلقت بيدي ؟ بصيغة التثنية هذا مع دلالات الأحاديث المستفيضة بل المتوابرة واجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن كما هو مبسوط في موضعه مثل قوله : المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين : الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا وأمثال ذلك

وان كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها - الظاهر هو المراد في الجميع - فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا ظاهره وان ظاهر ذلك مراد : كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا

وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة عالم حقيقة قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حى عليم قدير فكذلك اذا قالوا في قوله تعالى { يحبهم ويحبونه } { رضي الله عنهم ورضوا عنه } وقوله : { ثم استوى على العرش } انه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواءا كاستواء المخلوق ولا حبا كحبه ولا رضا كرضاه فان كان المستمتع يظن أن ظاهر الصفات تماثل الصفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراد وان كان يعتقد أن ظاهرها مايليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مرادا إلا بدليل يدل على النفي وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحدا

وبيان هذا أن صفاتنا منها ما قي أعيان وأجسام وهي ابعاض لنا كالوجه واليد : ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا : كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدر

ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير : لم يقل المسلمون إن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك عي حقه مثل مفهومه في حقنا فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا بل صفة الموصوف تناسبه

فاذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق اليه وليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب اليه كالمنسوب اليه كما قال ﷺ [ ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ] فشبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي
القاعدة الرابعة : في مغايرة صفات الله لصفات المخلوقين

وهو أن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها أو أمثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين ثم يريد أن ينفي ذلك الذى فهمه فيقع في ( أربعة أنواع ) من المحاذير :

( أحدها ) كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل

( الثاني ) أنه اذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من اثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيء الذي بالله ورسوله - حيث ظن أ الذي يفههم من كلامه8ما هو التمثيل الباطل - قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من اثبات الصفات لله والمعاني الالهية اللائقة بجلال الله تعالى

( الثالث ) أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز و جل بغير علم فيكون معطلا لما يستحقه الرب

( الرابع ) أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات فيكون قد عطل به صفات الكمال التى يستحقها الرب ومقله بالمنقوصات والمعدودات عطل النصوص عما دلت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمقيل بالخلوقات فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته

( مثال ) ذلك أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعو والفوقية على المخلوقنات واستتوائه على العرش - فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه لا مباينه ولا مداخله

فيظن المتوهم أنه اذا وصف الاستواء على العرش : كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام كقوله : { وسخر لكم الفلك } { ومن الأنعام } { لتستووا على ظهوره }

فيتخيل له أنه اذا كان مستويا على العرش كان محتاجا اليه كحاجة المستوى على الفلك والأنعام فلو غرقت السفينة لسقط المستوى عليها ولو عثرت الدابة لخر المستوى عليها فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى

ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا فيقول : ليس استواؤه بقعود ولا استقرار ولايعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال ما يقال في مسمى الاستواء فان كانت الحاجة داخلة في ذلك : فلا فرق بين الاستتواء والقعود ولاستقرار وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقرا ولا قاعدا وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء فاثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم

وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقا معروفة

ولكن المقصود هنا أنه يعلم خطأ من ينفي الشيء مع اثبات نظيره كأن هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك لأنه أضاف الاستوناء إلى نفسه الكريمة كما أضاف اليه سائر أفعاله وصفاته

فذكر أنه خلق ثم استوى كما ذكر أنه قدر فهدى وأنه بنى السماء بأيد ونكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى وأمثال ذلك فلم يذكر استواء مطلقا يصلح للمخلوق ولا عاما يتناول المخلوق كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته وإنما ذكر استواءا أضافه إلى نفسه الكريمة

فلو قدر - على وجه الفرض الممتنع - أنه هو مثل خلقه - تعالى عن ذلك - لكان استواؤه مثل استواء خلقه أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه بل قد علم أنه الغني عن الخلق للعرش ولغيره أن كل ما سواء مفتقر إليه هو الغني عن كل ما سواه وهو لم يذكر إلا استواءا يخصه لم يذكر استواءا يتناول غيره ولا يصلح له - كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به - فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا اليه وأنه لو سقط العرش لخر من عليه ؟ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا

هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتواهمه أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق ؟

بل لو قدر أن جاهلا فهم مثل هذا وتوهمه لبين له أن هذا يجوز وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلا كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه فلما قال سبحانه وتعالى : { والسماء بنيناها بأيد } فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمى المحتاج الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وجبل طين وأعوان ؟ ثم قد علم ان الله تعالى خلق العالم بعضه فووق بعض ولم يجل عاليه مفتقرا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس مفتقرا إلى أن تحمله الأرض والسحاب أيضا فوق الأرض وليس مفتقرا الى أن تحمله والسموات فوق الأرض وليست مفتقرة الى حمل لها فالقلي الاعلى رب كل شيء وملكه إذا كان فوق جميع خلقه : كيف يجب أن يكون محتاجا الى خلقه أو عرشه ؟ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات ؟ وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه وتعالى أحق به وأولى

وكذلك قوله : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهل ضال بالاتفاق وان كان إذا قلنا : إن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك فان حرف ( في ) متعلق بما قبله وبما بعده - فهو بحسب المضاف اليه ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان وكون الجسم في الحيز وكون العرض في الجسم وكون الوجه في المرآة وكون الكلام في الورق فان لكل نوع من هذه الأنواع خاصة يتميز بها عن غيره وان كان حرف ( في ) مستعملا في ذلك فلو قال قائل : العرش في السماء أو في الأرض ؟ لقيل الجنة في السماء ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات بل ولا الجنة

فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال [ إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فانه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن ] فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك مع أن الجنة في السماء يراد به العلو سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها قال تعالى { فليمدد بسبب إلى السماء } وقال تعالى { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلى الأعلى وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله : إنه في السماء أنه في العلو وأنه فوق كل شيء وكذلك الجارية لما قال لها أين الله ؟ قالت في السماء إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها وإذا قيل : العلو فانه يتناول ما فوق المخلوقات كلها فما فوقها كلها هو في السماء ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله كما لو قيل : ا لعرش في السماء فانه ى يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق وان قدر أن السماء المراد بها الأفلاك : كان المراد انه عليها كما قال : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وكما قال : { فسيروا في الأرض } كما قال : { فسيحوا في الأرض } يقال : فلان في الجبل في السطح وإن كان على أعلى شيء فيه
القاعدة الخامسة : العلم بما أخبرنا به

أنا نعلم لما أخبرنا به من وجه دون وجه فإن الله قال : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقال : { أفلم يدبروا القول } وقال : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } وقال : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }

فأمر بتدبر الكتاب كله

وقال تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب }

وجهور سلف الأمه وخلفها على أن الوقف على قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } وهذا هو المأثور عن أبى بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وروى عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة أوجه وتفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بحهالته وتفسير تعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب

وقد روى عن مجاهد وطائفة : أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله وقد قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته الى خاتمته أقفه عند كل آية واسأله عن تفسيرها ولا منافاة بين القولين عند التحقيق

فإن لفظ ( التأويل ) وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله - أن ( التأويل ) هو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ولدليل يقترن به وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها وهل ذلك محمود أو مذموم أو حق أو باطل ؟

( الثاني ) : أن التأويل بمعنى التفسير وهذا الغلب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله - من المصنفين في التفسير - واختلف علماء التأويل ومجاهد إمام المفسرين قال الثوري إذا جاءت التفسير عن مجاهد فحسبك به وعلى تفسيره يعتمد الشافعى وأحمد والبخاري وغيرهما فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره

( الثالث ) من معاني التأويل : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال الله تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق }

فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون : من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحر ذلك كما قال الله تعالى في قصة يوسف لما سجد أبواه واخوته قال : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا

الثاني : هو تفسير الكلام وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه أو تعرف علته أو دليله

وهذا ( التأويل الثالث ) هو عين ما هو موجود في الخارج ومنه قول عائشة : ( كان النبي ﷺ في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى ) يتأول القرآن يعنى قوله : { فسبح بحمد ربك واستغفره } وقول سفيان بن عيينة : السنة هي تأويل الأمر والنهي فإن نفس الفعل المأمور به : هو تأويل الأمر به ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر والكلام خبر وأمر

ولهذا يقول أبو عبيد وغيره : الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء لأن الفقها ء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه لعلهم بمقاصد الرسول ﷺ كما يعلم أتباع بقراط وسيبوبه ونحوها من مقاصدها ما لا يعلم بمجرد اللغة ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر

إذا عرف ذلك : فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات وتأويل ما أخبر الله به تعالى من الوعد والوعد هو نفس ما يكون من الوعد والوعد

ولهذا ما يجيء في الحديث يعمل بمحكمة ونؤمن بمتشابهه لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهه يشبه معانيها ما نعمله في الدنيا كما أخبر أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وخمرا ونحو ذلك وهذا يشبه ما في الدنيا لفظا ومعنى ولكن ليس مثله ولا حقيقته

فأسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقة كحقيقته

ولاخبار عن الغاءب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالاسماء معلومة معانيها في الشاهد ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به : من الجنة والنار علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك

وأما نفس الحقيقة المخبر عنها مقل التى لم تكن بعد وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذى لا يعلمه إلا الله

ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } قالوا : استواء معلوم والكيف فجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك قال ربيعة شيخ مالم قبله : الاستواء معلوم والكيف مجهول ومن الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا الإيمان

فبين أن الاستواء معلوم وان كيفية ذلك مجهول ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة : ينفون علم العباد بكيفية صفات الله وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله فلا يعلم ما هو إلا هو وقد قال النبي ﷺ : [ لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ] وهذا في صحيح مسلم وغيره وقال في الحديث الآخر : [ اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ] وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم وقد أخبر فيه أن الله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها علم الغيب عنده لا يعلمها غيره والله سبحانه أخبرنا انه عليم قدير سميع بصير غفور رحيم الى غير ذلك من أسمائه وصفاته فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم والقدر وبين الرحمة والسمع والبصر ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها فهى متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات وكذلك أسماء النبي ﷺ مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب

كذلك أسماء القرآن منل القرآن والفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء وغير ذلك ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها هل هي من قبيل المترادفة - لاتحاد الذات - أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات ؟ كما إذا قيل : السيف والصارم والمهند وقصد بالصارم معنى الصرم وفي المهند النسبة الى الهند والتحقيق أنها مترادقة في الذات متباينة في الصفات

ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه وفى موضع آخر منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه قال الله تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } فأخبر أنه أحكم آياته كلها وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } فأخبر أنه كله متشابه زالحكم هو الفصل بين الشيئين فالحكم بين الخصمين والحكم فصل بين المتشابهات عملا وعملا اذا مر بين الحق والباطل والصدق والكذب والنافع والضار وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار فيقال : حكمت السفيه وأحكمته اذا أخذت على يديه وحكمت الدابة وأحكمتها اذا جعلت لها حكمة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام واحكام الشيء اتقانه

فإحكام الكلام إتقانه بتميز الصدق من الكذب في أخباره وتمييز الرشد من الغي في أوامره والقرآن كله محكم بمعنى الابقان فقد سماه الله حكيما بقوله : { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } فالحكيم بمعنى الحاكم كما جعله يقص بقوله : ( إن هذا القرآن يقص على بني اسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) وجعله مفتيا في قوله : { قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } أى مايتلى عليكم يفتيكم فيهن وجعله هاديا ومبشرا في قوله { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات }

وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وهو الاختلاف المذكر في قوله : { إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك }

فالتشابه هنا : هو تماثل الكلام وتناسبه : بحيث يصدق بعضه بعضا فاذا أمر بأمر بنقيضه في موضع آخر بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته إذا لم يكن هناك نسخ وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك بل يخبر بثبرته أو ثبوت ملزوماته و اذا أخبر بنفي شيء لم يثبته بل ينفيه أو ينفي لوازمه بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضا فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر

فالاقوال المختلفة هنا : قي المتضادة والمتشابهة : هي المتوافقة

وهذا التشابه يكون في المعاني وان اختلفت الألفاظ فإذا كانت المعاني يوافق بعضها تعضا ويعضد بعضها بعضا ويناسب تعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ويقتضي عضها بعضا : كان الكلام متشابها بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضا

فهذا التشابه العالم : لا ينافي الإحكام العام بل هو مصدق له فان الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا بخلاف الإحكام الخاص فانه ضد التشابه الخاص والتشابه الخاص هو متشابهة الشيء لغيره9 من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشبه على بعض الناس انه هو أو هو مثله وليس كذلك

ولإحكام هو الفصل بينهما بحيث ايشبه أحدهما بالآخر وهذا التشابه إنما يكون بقدر كشرك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما

ثم من الناس من لا يهدي للفصل بينهما فيكون متشبها عليه ومنهن من يهتدي إلى ذلك فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية بحيث يشبه على بعض الناش دون بعض ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله فعلم العلماء أنه ليس مثله وان كان مشبها له من بعض الوجوه ومن هذا الباب أشبه التي يضل بها بعض الناس وهي ما يشبه فيها الحق والباطل حتى تشتبه على بعض الناس ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه

فمن عرف الفصل بين الشيئين : اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد وما من شيئين الا ويجتمعان في شيء وفترقان في شيء فبينهما أشتباه من وجه وافتراق من وجه فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه والقياس الفاسد ى ينضبط كما قال الإمام أحمد : أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس فالتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة و القياس الخطأ أنما يكون في المعاني المتشابهة

وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات حتى آل الأمر الى من يدعى التحقيق والتوحيد والعرفان منهن الى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء وأن يكون اياه أو متحدا به أو حالا فيه من الخالق مع المخلوق فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود كلها حتى ظنوا وجودها وجود فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه وذلك أن الموجودات تشرك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحد ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع

وآخرون توهموا أنه اذا قيل : الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم التشبية والتركيب فقالوا : لفظ الوجود مقول بالاشبراك اللفظي فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم الى قديم ومحدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات

وطائفة ظنت أنه اذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موحود مشترك فيه وزعموا أن في الخارج عن الاذهان كليات مطلقة مثل وجود مطلق وحيوان مطلق وجسم مطلق ونحو ذلك فخالفوا الحس والعقل والشرع وجعلوا ما في الاذهان ثابتا في الاعيان وهذا كله من نوع الاشتباه

ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والإختلاف وهؤلاء لايضلون بالمتشابه من الكلام لانهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق

وهذا كما أن لفظ ( إنا ) و ( نحن ) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء في الفعل ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون به لا شركاء له فذا تمسك النصراني بقوله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر } ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } ونحو ذلك مما لا يحصل إلا معنى واحدا يزيل ما هناك من الاشتباه وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطائفة المخلوقات من الملائكة وغيرهم

وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات وماله من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله فلا يعلمهم إلا هو { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله بخلاف الملك من البشر إذا قال : قد أمرنا لك بعطاء فقد علم أنه هو وأعوانه مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك

والله - سبحانه وتعالى - لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة

وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة وان زال الإشتباه بما يميز أحد النوعين : من أضافة أو تعريف كما اذا قيل : فيها أنهار من ماء فهناك قد خص هذا الماء بالجنة وظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا

لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين - مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - من التأويل الذي لا يعلمه الا الله

وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذي يختص بها التى هي حقيقة لا يعلمها الا هو : ولهذا كان الائمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم - من الذي يحرفون الكلم عن مواضعه - تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله كما قال أحمد : في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله

وانما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه وان كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم تأولوه على غير تأويله ولم ينفي مطلق لفظ التأويل كما تقدم : من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به فذلك لا يعاب بل يحمد ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها فذلك لا يعلمه الا هو وقد بسطنا في غير هذا الموضع

ومن لم يعرف هذا : اضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل وانه يجب إجراء اللفظ ظاهره ويحتجون بقوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل وهذا تناقض منهم لان هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلا لا يعلمه الا الله وهم ينفون التأويل مطلقا

وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها الا هو وأما التأويل المذموم والباطل : فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على تأويله ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله الى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل ويصرفونه الى معان هين نظير المعاني التي نفوها عنه فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه فإن كان الثابت حقا ممكنا كان المنفي مثله وان كان المنفي باطلا ممتنعا كان الثابت مثله

وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقا ويحتجون بقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد أو بما لا معنى له أو بما لا يفهم منه شيء

وهذا مع أنه باطل فهو متناقض لانا إذا لم نفهم منه شيئا لم يجز لنا أن نقول له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه ولا مكان أن يكون له معنى صحيح وذلك المعنى الصحيح : لا يخالف الظاهر المعلوم لنا فانه لا ظاهر له على قولهم فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلا

ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير

فان تلك المعني التي دل عليها قد لا نكون عارفين بها ولا إذا لم ننفهم اللفظ ومدلوله فلان لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى إن إشعار الفظ بما يراد به أقوى من إشعار بما لا يراد به فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني ولا يفهم منه معنى أصلا لم مشعرا بما أريد به فلأن لا يكون مشعرا بما لم يرد به أولى

فلا يجوز أن يقال : إن هذا اللفظ متأول بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح فضلا عن أن يقال : إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله

اللهم الا أن يراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالحق

فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لا بد وأن يكون له تأويل يخالف ظاهره لكن اذا قال هؤلاء : إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر أو انها تجري على المعاني الظاهرة منها كانوا متناقضين

وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهناك معنى : في سياق واحد من غير بيان كان تلبيسا

وان أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ أي تجري على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان أبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضا لأن من اثبت تأويلا أو نفاه فقد فهم معنى من المعاني

وبهذا التقسيم : يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب
القاعدة السادسة : فيما يجوز وما لا يجوز على الله من النفي والإثبات

انه قائل أن يقول : لا بد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز

فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على إن هذا تشبيه قيل له : إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل وان أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو كشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجزو على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجيب له

ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول فانه يعلم بضرورة العقل امتناعه ولا يلزم من نعي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه كما في الأسماء والصفات المتواظئة ولكن من الناس من يجعل التشبه مفسرا بمعنى من المعاني ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا : انه مشبه ومنازعهم يقولون : ذلك المعنى ليس من التشبيه وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل

وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون : كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل فمن قال إن الله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الإعتبار ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون : أخص وصفه لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين وانه بكل شيء عليم وانه على كل شيء قدير وأنه إله واحد ونحو ذلك والصفة لا توصف ب شيء من ذلك

ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات إنها قديمة بل يقول : الرب بصفاته قديم

ومنهم من يقول ك هو قديم وصفته قديمة ولا يقول : هو وصفاته قديمان

ومنهم من يقول : هو وصفاته قديمان ولكن يقول : ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه فان القدم ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات والافالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن أن تختص بالقدم

وقد يقولون : الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات ألها ولا ربا كما أن النبي محدث ووصفاته محدثة وليست صفاته نبيا فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل : كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك ثم تقول لهم أولئك : هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها فهذا المعنى لم ينفعه عقل والسمع وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية

والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك

ولكن يقولون الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده فلا يدخل في النص

وأما العقل : فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة

وكذلك أيضا يقولون : إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه

وكذلك يقول : هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك ويقولون : الصفا ت قد تقوم بما ليس بجسم وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسما فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسما وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه فلهذا تجد هؤلاء يسمعون من أثبت العلو ونحوه مشبها ولا يسمعون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحو مشبها كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خيرية كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه

وقد يقولون : إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات والعاقل إذ تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق

وأصل كلا م هؤلاء كلهم على إثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة

والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كل من المقدمين وتارة بالاستفصال

ولا ريب أن قولهم بماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولي والصورة ونحو ذلك فأما يبنى على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر الفرد وعلى أنه متماثل وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك

والمقصود : هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كالطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بناء علة أن من أحبهما فقد بغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصي

وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى ولهذا يقول هؤلاء : إن الشيئين لا يشبهان من وجه ويختلفان من وجه أكثر العقلاء على خلاف ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك وبينا فساد قول من يقول بتماثلها وأيضا فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام عم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم

وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم وثبت امتناع الجسم : كان هذا وحه كافيا في نفي ذلك لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه لكن نفي التجسيم يكون مبينا على نفي هذا التشبيه بأن يقال : لو ثبت له كذا وكذا لكان جسيما ثم يقال : والأجسام متماثلة فيجب اشتراكها فيما يجب ونجوز ويمتنع وهذا ممتنع عليه لكن حينئذ يكون من سلك هذا الملك معتمدا في ننفي التشبيه على نفي التجسيم فيكون أصل نفيه نفي الجسم وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله وإنما المقصود هنا : أن مجرد الإعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن نفي المماثلة فيما هو مستحق له وهذا حقيقة التوحيد : وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفي مماثله بشيء من المخلوقات

( فإن قيل ) هب الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما إذا قيل : انه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيا سميعا عليما بصيرا فإذا قيل : يلزم انه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودا حيا عليما سميعا بصيرا قيل : لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى فإن ذلك لا يقتضي حدوثا ولا مكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافي صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود أو الحياة أو الحي أو العلم أو العليم أ السمع أو البصر أو السميع أو البصير أو القدرة أو القدير والقدير المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يخص بالواجب القديم فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه

فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدر ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود

ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئا وربما قالت الجهمية هو شيء لا كالأشياء

فإن نفى القدر المشترك مطلقا لزم التعطيل العام

والمعاني التي يوقف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدر بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك : يجب لوازمها فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبرت اللازم وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوقات من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك والله سبحانه منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره : زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام وقد بسط هذا في مواضع كثيرة

وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وان معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وان ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله

ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة

ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ما هيته ؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك للفظي أو التواطؤ أو التشكيك ؟ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال نفيها

وفي أن المعدوم هل هو شيء أن لا ؟ وفي وجود الموجودات قل هو زائد على ماهيتها أم لا ؟

وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين ويحكى عن الناس مقالات ما قالوها وتارة يبقى في الشك والتحير

وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات وما وقع من اشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة مالا تتسع له هذه الجمل المختصرة

وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودين في الخارج بخلاف الماهية التي الذهن فإنهما مغيرة للموجود في الخارج وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك فهذه الألفاظ كلها متواطئة

فإذا قيل : إنها مشككة لتفاضل معانيها فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أو متماثلا

وبينما أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة ولكن وهو العلم التابع للعالم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف : لها وجود في ولأذهان وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف به

وأما هذه الجملة المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل جامعة من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى وإمكان إغلاق باب إضلال ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذا لكل مقام مقال والمقصود : هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفي عن الرب وينزه عنه - كما يفعله كثير من المصنفين - خطأ لمن تدبر ذلك وهذا من طريق النفي الباطلة
ما يسلكه نفاه الصفات

وافسد من ذلك : ما يسلكه نفاه الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من اعظم الكفر مقل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك ويريدون الرد على اليهود : الذين يقولون انه بكى على الطوفان حتى رمد الملائكة والذين يقولون بإلهية بعض البشر وانه الله

فإن كثيرا من الناس يحتج على هؤلاء ينفي التجسيم والتحيز وذلك ممتنع وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم هؤلاء الملاحدة نفاه الأسماء والصفات فإن هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوه :

( أحدها ) أن وصف الله تعالى بهذه النقائص بهذه النقائص والآفات أظهر فسادا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم فإن هذا فيه من الإشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام والدليل معرف للمدلول ومبين له فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود

( الوجه الثاني ) أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الصفات : يمكنهم أن يقولوا نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم فيصر نزاعهم مثل نزاع مثبتة الكلام وصفات ا لكمال فيصر كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحدا ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد وهذا في غاية الفساد

الثالث ) أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة واتصافه بصفات الكمال واجب ثابت بالعقل والسمع فيكون ذلك دليلا على فساد هذه الطريقة

( الرابع ) أن سالكي هذه الطريقة متناقضون فكل من أثبت شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات كما أن كل من شيئا منهم الزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي

فمثبته الصفات - كالحياة والعلم والقدر والكلام والسمع والبصر - إذا قالت لخمكن النفاة كالمعتزلة : هذا تجسيم لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بالجسم أو لأنا لا نعرف موصوفا بالصفات إلا جسما

قالت لهم المثبتة : وأنتم قد قلتم : انه حي عليم قدير وقاتم : ليس بجسم وأنتم لا تعلمون موجودا حيا عالما قادرا إلا جسما فقد على خلاف ما علتم فذلك نحن وقالوا لهم : أنتم أثبتم حيات عالما قادرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل ثم هؤلاء المثبتون إذا قالوا لمن أثبت أنه رضي ويغضب ويحب ويبغض أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء أو بالوجه اليد ونحو ذلك إذا قالوا : هذا يقتضي التجسيم لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم

قال لهم المثبتة : فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام و هذا هكذا فإن كان هذا لا يوصف به إلالجسم فالآخر كذلك وان أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين

ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقا فاسدا : لم يسلكه أحد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا إثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك لأنها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا

لهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار : ما هو من هذا النوع : بل هذا هو الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة
من أثبت بعض الصفات أثبت الباقي

وأما في طرق الإثبات : فمعلوم أيضا أن المثبت لا يكفى في إثباته مجرد نفي التشبيه إذ لو نفي في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصي مما هو ممتنع عليه - مع نفي التشبيه وأن يوصف بالنقائض التي لا تجوز عليه نفي التشبيه

كما لو وصف مفتر عليه بالبكاء و الحزن والجوع والعطش وع نفي التشبيه كما لو قال المفترى : يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشريهم ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم كما يقال يضحك لا كضحكهم ويفرح لا كفرحهم ويتكلم لا ككلامهم والجاز أن يقال : له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم كما قيل : له وجه لا كوجههم ويدان لا كأيديهم حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر وغير ذلك مما يتعالى الله عز و جل عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا

فانه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات : ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في فان قال : العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجيء به السمع

قيل له أولا : السمع هو خبر الصادق هو الأمر عليه في نفسه فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات والخبر دليل على المخبر عنه ودليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه فما لم يرد به السمع ويجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن نفاه

ومعلوم أن السمع لم ينف هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها

وأيضا : فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفي فإن الأمور المتماثلة في الجواز والواجب والإمتناع : يمتنع اختصاص بعضها دون بعض في الجواز والوجوب والإمتناع فلا بد من اختصاصا المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت

وقد يعبر عن ذلك بأن يقال : لا بد من أمر يوجب نفي ما نفي ما يجب نفيه عن الله كما أنه لا بد من يثبت له ما هو ثابت وإن كان السمع كافيا كان مخبر عما هو الأمر عليه في نفسه فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا ؟

فيقال : كلما نفي صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه فان ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه وأنه قديم واجب القدم : علم امتناع العدم والحدوث عليه وعلم أنه عني عما سواه

فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه : ليس هو موجودا بنفسه بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به

وهو سبحانه عني عن كل نما سواه فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه وهو سبحانه قدير قوي فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه وهو سبحانه حي قيوم فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه

وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه كما ينفي عنه المثل والكفؤ فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده فإثبات أحد الضدين نعي للآخر ولما يستلزمه

فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة لا يحتاج فيها إلى الإقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل العصور والتقصير : الذين تناقصوا في يذلك وفرقوا بين المتماثلين حتى إن كل من أثبت شيئا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه

وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي فقالوا لا يقال لا موجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم فلزم نفي النقيضين : وهو أظهر الأشياء إمتاعا

ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات : أعظم مما فروا منه من التشبيه الأحياء الكاملين فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا

وقد تقدم أن ما ينفي عنه - سبحانه - النفي المضمن اللإثبات إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس هذا مدحا له لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقا كما أن مماثلة المخلوق في شيء من ا ل صفات : تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى

والنقص ضد الكمال وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك فهو منزه عنه وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة فإن النوم أخو الموت وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره كما أن الإستعانة بالغير والإعتضاد به ونحو ذلك تتضمن الإفتقار إليه والإحتياج إليه

وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا عنه بنفسه فكيف من يأكل ويشرب والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل الشارب ولهذا كانت الملائكة صمدا لا تأكل ولا تشرب وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك والسمع قد نفي ذلك في غير موضع كقوله تعالى : { الله الصمد } والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب وهذه السورة قي نسب الرحمن أو قي الأصل في هذا الباب وقال في حق المسيح وأمه : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فجعل ذلك دليلا على نعي الأوقية فدل على تنزيهه عن ذلك بطريق الأول والأحرى والكبد والطحال ونحو ذلك : هي أعضاء الأكل والشرب فالغني المنزه عن ذلك : منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل إذ ذاك من صفات الكمال فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل

وهو سبحانه منزه عن الصحابة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه وكذلك البكاء والحزن : هو مستلزم الضعف والعجز الذي ينزه عنه سبحانه بخلاف الفرح والغضب : فإنه من صفات الكمال فكما يوصف بالقدرة دون العجز وبالعلم دون الجهل وبالحياة دون الموت وبالسمع دون الصمم وبالبصر دون العمى وبالكلام دون البكم : فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن وبالضحك دون البكاء ونحو ذلك

وأيضا فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه لا كفؤ له ولا سمي له وليس كمثله شيء فلا يجوز أن تكون حقيقة كحقيقة شيء من المخلوقات ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات فيعلم قطعا أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة ولا السموات و الكواكب ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض ولا الآدميين شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر

فإن الحقيقتين إذا تماثلتا : جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما وجب لها فيلزم أن يحوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة وأن يثبت لهذا ما يقبت لذلك من الوجوب والفناء فيكون الشيء الواحد واجبا بنفسه غير واجب بنفسه موجودا معدوما وذلك جمع بين النقيضين

وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون : يصر كبصري أو يد كيدي ونحو ذلك تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ما ينزه عنه واستيفاء طريق ذلك لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطريقه

وما سكت عنه السمع نفيا وإثباتا ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتا عنه فلا نثبته ولا ننفيه

فنثبت ما علمنا ثبوته وننفي ما علمنا نفيه ونسكن عما لا نعلم نفيه ولا إثباته والله أعلم
القاعدة السابعة : ما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضا

أن يقال : إن كثيرا مما يدل عليه ( السمع ) يعلم ( بالعقل ) أيضا والقرآن يبين ما يسدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه كما ذكر الله ذلك في غير موضع

فإنه سبحانه وتعالى : بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك : ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه كما بين أيضا ما دل على نبرة أنبيائه وما دل على المعاد وإمكانه

فهذه المطالب هي شرعية من جهتين :

من جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها والأمثال المضروبة في القرآن قي ( أقيسة عقلية ) وقد بسط في عير هذا الموضع وقي أيضا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضا

وكثير من أهل الكلام يسمى هذه ( الأصول العقلية ) لاعتقاده أنها لاتعلم الا بالعقل فقط فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق وخبر الصادق الذي هو النبي لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل

ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي تتوقف إثبات النبوة عليها

( فطائفة ) تزعم : أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل

( وطائفة ) تزعم أن حدوث العالم من هذه الأحول وأن العلم بالصانع لا يمكن الابإثبات حدوثه وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات وإما بحدوث الأفعال القائمة بها فيجعلون نفي أفعال الرب ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها

ثم هؤلاء لا يقبلون الإستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم لظنهم أن العقل عارض السمع - وهو أصله - فيجب تقديمه عليه والسمع : اما أن يؤول واما أن يفوض وهم أيضا عند التحقيق لا يقبلون الإستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم لما تقدم

وهؤلاء يضلون من وجوه : ( منها ) أن السمع بطريق الخبر تارة وليس الأمر كذلك بل القرأن بين من الدلائل العقلية - التي تعلم بها المطالب الدينية - وما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر فبكون هذه المطالب : شرعية عقلية

( ومنها ) : ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه الا بالطريق المعينة التي سلكوها وهم نخطئون قطعا في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه فإن طريق العلم بصدق الرسول كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع

( ومنها ) : ظنهم أنما عارضا به السمع معلوم بالعقل ويكونون غالطين في ذلك فإنه إذا وزن باليزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة ومن المجهولات لامن المعقولات وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا : أن من ( صفات الله تعالى ) ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي كما أرشد إلى ذلك قوله : { ألا يعلم من خلق } وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات : على أنه يعلم بالعقل ( عند المحققين ) أنه حي عليم قدير مريد وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المققين منهم بل كذلك الحب والرضا والغضب ويمكن إثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما أثبتته بذلك الأئمة : مثل حمد بن حنبل غيره

ومثل : عبد العالى المكي وعبد الله بن سعيد بن كلاب بل وكذلك إمكان الروية : ييثبت بالعقل لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته

ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته وهذه الطريق أصح من تلك

وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفي والإثبات كما يقال : إن الرؤية لا تتوقف الا على أمور وحودية فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم : أحق به من الممكن المحدث

والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا : أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب : أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين : للزم اتصافه بالأخرى فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت ولم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم

وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعلم لكان داخلا فيه فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أولى

وهذه الطريق غير قولنا هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى فإن طريق اثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها

وقد عرض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعراض مشهور ليسوا به على الناس حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويضعف الإثبات به مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الامادى أمسى مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجمهية فقالوا : القول بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات كالسمع والبصر والكلام مع كونه حيا : لكان متصفا بما يقابلها

فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة ( المتقابلين ) وبيان أقسامها فنقول أما المتقابلان فلا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة وهو إما ألايصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب : أو يصح ذلك في أحد الطرفين ولأنهما متقابلان بالسلب والإيجاب وهو تقابل التناقض والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما كقولنا زيد حيوان وزيد ليس بحيوان

ومن خاصة استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب : أنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب إذا كون الموجود واجبا بنفسه وممكنا بنفسه : لا يجتمعان ولا يرتفعان

فإذا جعلتم هذا التقسيم : وهما ( النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان ) فهذان لا يجتمعان ولا يربفعان وليس هما السلب والإيجاب فلا يصح حصر النقيضين - الذين لا يجتمعان ولا يرتفعان - في السلب والإيجاب

وحينئذ فيد ثبت وصفان - شيئان - لا يجتمعان ولا يرتفعان وهو خارج عن الأقسام الأربعة على هذا

فمن جعل الموت معنى وجوديا : فقد يقول إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب وكذلك العلم والجهل والصمم والبكم ونحو ذلك

( الوجه الثاني ) : أن يقال : هذا القسم يتداخل فإن العدم والملكة : يدخل في السلب والإيجاب وغيته أنه نوع منه والمتضايفان يدخلان في المتضادين إنما هما نوعن منه فإن قال : أعني بالسلب والإيجاب : فلا يدخل في العدم والملكة - وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له - ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طريفه إلى آخره

قيل له : عن هذا جوابان :

أحدهما : أن غاية هذا أ السلب ينقسم إلى نوعين : أحدهما : سلب ما يمكن اتصاف الشيء

والثاني : سلب مالا يمكن اتصافه به

فيقال : الأول إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب

والثاني : إثبات ما يجب اتصافه به فيكون المراد به سلب ممتنع وإثبات الواجب كقولنا زيد حيوان فإن هذا إثبات واجب وزيد ليس بحجر فإن هذا سلب ممتنع وعلى هذا التقدير فاممكنات التي تقبل الوجود والعدم - كقولنا المثلث إما موجود وأما معدوم - يكون من قسم العدم والملكة وليس كذلك فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد على المتقابلين جميعا ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم

وأيضا فإنه على هذا التقدير - فصفات الرب كلها واجببة له - فإذا قيل اما أن يكون حيا أو عليما أو سميعا أ بصيرأ أو متكلما أولا يكون : كان مثل قولنا : إما أن يكون موجودا وإما أن يكون وهذا متقابل تقابل السلب واإلإيجاب فيكون الآخر مثله وبهذا يحصل المقصود

فإن قيل : هذا لا يصح يعلم إمكان قبوله لهذه الصفات : قيل له هذا إنما اشتركا فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان فأما الرب تعالى : فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة ضرورة فإنه لا يمكن ابصافة بها بعدمها باتفاق

العقلاء فإن ذلك يوجب اتصافه بالنقائص وذلك منتف قطعا بخلاف من نفاها وقال : إن يفيها ليس بنقص لظنه أنه لا يقبل الإتصاف بها

فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول : انه مع إمكان الإتصاف بها لا يكون نفيها يقصا فإن فساد هذا معلوم بالضرورة

وقيل له أيضا : أنت في تقابل السلب والإيجاب إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين : لم يصح أن تقول واجب والوجود أما موجود وإما معدوم والممتنع الوجود أما موجود وأما معدوم لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجود ولآخر معلوم الإمتناع

وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول إما أن يكون حيا وإما ألا يكون وإما أن يكون سميعا بصيرا وإما أن لا يكون لآن النفي إن كان ممكنا صح التقسيم وإن كان ممتنعا : كان الإثبات واجبا وحصل المقصود فإن قيل : هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب ونحن نسلم ذلك كما ذكرنا في الإعتراض لكن غايته : انه إما سميع وإما ليس بسميع وإما بصير وإما ليس ببصير والمنازع يختار النفي

فيقال له : على هذا التقدير : فالمثبت واجب والمسلوب ممتنع فأما أن تكون هذه الصفات واجية له وإما أ تكون ممتنعة عليه والقول بالإمتناع لا وجه له إذ لا دليل عليه بوجه

بل قد يقال : نحن نعلم بالإضطرار بطلان الإمتناع فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك الا بما يسدل به على إبطال أصل الصفات وقد علم فساد ذلك

وحينئذ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له

وأعلم أن هذا يمكن أن يجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له فإنها إما واجبه له وإما ممتنعة عليه والثاني باطل فتعين الأول لأن كونه قابلا لها خاليا عنها يقتضي أن يكون ممكنا وذلك ممتنع في حقه وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار

( الجواب الثاني ) أن يقال : فعلى هذا اذا قلنا زيد إما عاقل وإما غير عاقل وإما عالم واما ليس بعالم وإما حي وإما غير حي وإما ناطق وإما غير ناطق وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها لم يكن هذا داخلا في قسم تقابل السلب والإيجاب

ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة وخلاف اتفاق العقلاء وخلاف ما ذكروه في المنطق وعيره ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق كذب الأخرى فلا يجتمعان في الصدق والكذب فهو شروط التناقض موجودة فيها وغاية فرقهم أن يقولوا إذا قلنا : هو إما بصير وإما ببصير : كان إجابيا وسلبا وإذا قلنا إما بصير وإما أعمى : كان ملكة وعدما وهذه منازعة لفظية والافالمعنى في الموضعين سواء

فلم أن ذلك نوع تقابل السلب والإيجاب وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل : أنه لا استحالة لأحد الطرفين الى الآخر فإن الإستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ العمى

( الوجه الثالث ) أن يقال : التقسيم الحاصر أن يقال : المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب وإما لا يختلفا بذلك بل يكونان إيجابيين أو سلبيين

فالأول هو النقيضان

والثاني إما أن يمكن خلو المحل عنهما وإما لا يمكن ولأول : هما الضدان كالسواد والبياض والثاني : هما في معنى النقيضين وإن كانا ثبوتيين كالوجوب والأ مكان والحدوث والقدم والقيام بالنفس والقيام بالغير والمباينة والمجانية نحو ذلك

ومعلوم أن الحياة والموت والصمم والبكم والسمع : ليس مما اذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما كالحرة بين السواد والبياض فعلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما فإذا انتفى تعين الآخر

( الوجه الرابع ) : المحل الذي لا يقبل الإتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها : انقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها ولهذا كان الحجر ونحوه أنقص من الحي والأعمى

وحينئذ فإذا كان الباري منزها عن نفي هذه الصفات مع قبوله لها فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أولى وأحرى إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين واتصافه بالنقائص ممتنع فيجب اتصافه بصفات الكمال بتقدير عدم قبوله لا يمكن اتصافة : لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص وهذا أشد امتناعا فثبت أن اتصافه بذلك ممكن وأنه واجب له وهو المطلوب وهذا في غاية الحسن

( الوجه الخامس ) أن يقال : أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت فإذا عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي - هو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج - كان هذا باطلا لوجهين : -

أحدهما أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لاحية ولا ميتة ولا ناطقة ولا صامته وهو قولكم - لكن هذا اصطلاح محض - والا تصفوا هذا الجمادات بالموت والصمت وقد جاء القرآن بذلك قال تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } فهذا في ( الأصنام ) وقي من الجمادات وقد صفت بالموت والعرب تقسم الأرص الى الحيوان والموتان

قال أهل اللغة : الموتان بالتحريك خلاف الحيوان يقال اشتر الموتان والا تشتر الحيوان أي اشتر الأرض والدور ولا تشتر الرقيق والدواب وقالوا أيضا : الموات ما لا روح فيه فإن قيل : فهذا يسمى مواتا باعتبار قبوله ( للحياة ) التي قي إحياء الأرض : قيل وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان وأن الجماد يوصف بالحياة إذا كان قابلا للزرع والعمارة والخرس ضد النطق والعرب تقول ( لبن أخرس ) إي خائر لا صوت له في الإناء ( وسحابة خرساء ) ليس فيها رعد ولا برق ( وعلم أخرس ) إذا لم يسمع له في الحبل صوت صدى ويقال كتيبة خرساء ) قال أبو عبيدة : هي صمتت من كثرة الدروع ليس لها فقاقع

وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه بخلا ف الخرس فإنه عجز عن النطق ومع هذا العرب فتقول : ( ما له صامت ولا ناطق ) فالصامت الذهب والفضة والناطق الإبل والغنم فالصامت من اللبن الخائر والصموت والدرع التي صمت إذا لم يسمع لها صوت

ويقولون : دابة عجماء وخرسان لما تنطق ولا يمكن منها النطق في العادة ومنه قول الني ﷺ : [ العجماء جبار ] وكذلك في ( العمياء ) تقول العرب : عمى الموج يعمى عما إذا رمى القذف والزيد و ( الأعميان ) السيل والجمل الهائج وعمى عليه الأمر إذا التبس ومنه قوله تعالى { فعميت عليهم الأنباء يومئذ }

وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها انه عدم ما يقبل المحل الإتصاف به كالصوت ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام

الثاني : أن الجمادات يمكن اتصافها بذلك فان الله سبحانه قادر يخلق في الجمادات حياة كما جعل عصى موسى حية تبتلع الحبال والعصى - وإذا كان في إمكان العادات : كان ذلك مما قد علم بالتواتر - وأنتم أيضا قائلون به في مواضع كثيرة وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة وتوابع الحياة ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك فيكون الخالق أولى بهذا الإمكان وإن عنيتم الإمكان الذهني - وهو عدم العلم بالإمتناع - فهذا حاصل في حق الله فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام

( الوجه السادس ) أن يقال : هب أنه لابد العلم بالإمكان الخارجي فإمكان الوصف للشيء يعلم تارة بوجوده لنظيره أو بوجوده لما هو الشيء أولى بذلك منه

ومعلوم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام : ثابت للموجودات المخلوقة وممكن لها فإمكانها للخالق تعالى أولى وأحرى فإنها صفات كمال وهو قابل للاتصاف بالصفات وإذا كانت ممكنة في حقه فلو لم يتصف بها لاتصف بأضدادها

( الوجه السابع ) أن يقال : مجرد سلب هذه الصفات نقص الذاته سواء سميت عمى صمما وبكما أو لم تسم والعلم بذلك ضروري فأما إذا قدرنا موجودين أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم والآخر ليس كذلك : كان الأول أكمل من الثاني

ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات فقال تعالى عن إبراهيم الخليل : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وقال أيضا في قضته : { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } وقال تعالى عنه : { هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون * قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وكذلك في قصة موسى في العجل : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } وقال تعالى { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } فقابل بين الأبكم العاجز وبين الآمر بالعدل : الذي هو على صراط مستقيم
التوحيد في العبادات

وأما الأصل الثاني ( وهو التوحيد في العبادات ) المتضمن الإيمان بالشرع والقدر جميعا

فنقول : لا بد من الإيمان بخلق الله وأمره فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه أنه علة كل شيء قدير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوى إلا بالله

وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء كما قال تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ]

ويجب الإيمان بأن الله أمر بعبادته وجده لا شريك له كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وعبادته تتضمن كمال الذل والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته ( من يطمع الرسول فقد أطاع الله )

وقد قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }

وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه

ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح [ إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء اخوة لعلات وان أولى الناس بابن مريم لأنا أنه ليس بيني وبيه نبي ]

ولهذا الدين هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره لا من الاولين ولا من الآخرين فان جمع الانبياء على دين الاسلام قال الله تعالى عن نوح { واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم } قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين }

وقال عن إبراهيم : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } الى قوله : { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } الى قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }

وقال عن موسى : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال في خبر المسيح : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون }

وقال فيمن تقدم من الأنبياء : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقال عن بلقيس أنها قالت : { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }

فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر والإستسلام له وحد9ه يتضمن عبادته وحده طاعته وحده

فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون بأن يطاع كل وقت يفعل ما أمر به في ذلك الوقت فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخر ثم أمرنا ثانيا باستقبال اكعبة : كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في الإسلام

فالذين هو طاعة والعبادة له في الفعلين وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجه المصلى فكذلك الرسل دينهم واحد وان تنوعت الشرعة والمناهج والوجه والمنسك فان ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد

والله تعالى جعل من دين الرسل : أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به قال الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين }

قال ابن عباس : لم يبعث الله نبيا إلا اخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }

وجعل الإيمان متلازما وكفر من قال : انه آمن ببعض وكفر ببعض قال الله تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا } وقال تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } إلى قوله : { تعملون }

وقد قال لنا : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم }

فأمرنا أن يقول : آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون فين بلغته رسالة محمد ﷺ فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا بل يكون كافرأ وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن

كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } قالت اليهود والنصارى : فنحن مسلمون : فأنزل الله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا : لا نحج فقال تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين }

فان الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بماله على عباده من حج البيت كما قال ﷺ [ بنى الأسلام على خمس : شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ]

ولهذا لما وقف النبي ﷺ بعرفة أنزل الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }

وقد تنازع الناس فيمن تقدم أمة موسى وعيسى هل هم مسلون أم لا وهو نزاع لفظي فان الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا ﷺ المتضمن لشريعة القرآن : ليس عليه الا أمة محمد ﷺ اليوم عند الاطلاق يتناول هذا وأما الآسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا فانه يتناول اسلام كل أمة متبعة لنبي من الانبياء

ورأس الأسلام مطلقا شهادة أن لا إله إلا الله وبها بعث جميع الرسل كما قال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال عن الخليل : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } وقال تعالى عنه : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله } وقال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }

وذكر عن رسله : كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقزمهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال عن أهل الكهف : { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا } الى قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا }

وقد قال سبحانه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ذكر ذلك في موضعين من كتابه

وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة والشرك بالانبياء والشرك بالكواكب الشرك والأصنام وأصل الشرك الشرك بالشيطان - فقال عن النصارى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } وقال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } إلى قوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون فبين إن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر ومعلوم أن أحد من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح بن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض

بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال

بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلها مسويا لله في جميع صفاته

بل عامة المشركين بالله : مقرون بأنه ليس شريكه مثله بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكا أو نبيا أو كوكبا أو صنما كما كان مشركوا العرب يقولون في تلبيتهم : ( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك لك وما ملك فأهل رسول الله ﷺ بالتوحيد وقال : ( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك )

وقد ذكر أرباب المقالات : ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات ولا مماثل له في جميع الصفات بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية الذي يقولون بالأصلين ( النور ) والظلمة ) وإن النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر

ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين : أحدهما أنها محدثة فتكون من جملة المخلوقات له

والثاني : أنها قديمة لكنها لم تفعل الا الشر فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور

وقد أخبر سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه فقال : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون } إلى قوله { فأنى تسحرون } إلى قوله { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } وقال : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وبهذا وغيره : يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر : غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع

فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له

وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو ( توحيد الأفعال ) وهو أن خالق العالم واحد وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله حتى قد يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الإختراع

ومعلوم أن المشركين من العرب الذي بعث اليهم محمد ﷺ أولا : لم يكونوا يخالفونه في هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون

فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك ولكن غاية ما يقال : إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير الله كالقدرية وغيرهم لكن هؤولاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا إنهم خلقوا أفعالهم

وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة لا يقولون أنها غنية عن مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للمصانع كالقول الذي أظهر فرعون

والكلام الآن مع المشركين بالله المقرين بوجود فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون بل يقرون به مع إنهم مشركون كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع وكما علم بالإضطرار من دين الإسلام

وكذلك ( نوع الثاني ) - وهو قولهم : لا شبيه له في صفاته - فإنه ليس في الأمم من أثبت ثديما مماثلا له في ذاته سواء قال أنه يشاركه أو قال : أنه لا فعل له بل من شبه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبه به في بعض الأمور

وقد علم بالعقل بامتناع أن يكون له مقل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم

وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك كاتفاقهما في مسمى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك فإن يفي ذلك يقتضي التعطيل المحض ن وأنه لا بد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك

ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا يفي الصفات في مسمى التوحيد فصار من قال : إن لله علما أو قدرة أو أنه يرى في الآخرة أو إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون : إنه مشبه ليس بموحد

وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى وقالوا : من قال إن الله عليم قدير عزيز حكيم : فهو مشبه ليس بموحد

وزاد عليهم غلاة الغلاة وقالوا : لا يوصف بالنفي ولا الإثبات لأن في كل منهما تشبيها له وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات وفرارا من تشيبهم - بزعمهم - له بالأحياء

ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له حد ما يثبت لمخلوق أصلا وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات : لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيدا ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون نفوسهم الموحدين وكذلك ( النوع الثالث ) وهو قولهم : هو واحد لا قسيم له في ذاته أولا جزء له أولا بعض له لفظ مجمل فإن الله سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله ويجعلون ذلك من التوحيد فقد تبين أن ما يسمونه توحيدا : فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل ولو كان جمعية حقا فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول ﷺ بل لا بد أن يعترفوا أنه لا اله إلا الله

وليس المراد ( بالإله ) هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الأختراع دون غيره وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو

فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه بل الإله الحق هو الذي يستحق بأن يعبد فهو إله بمعنى مألوه لا إله بمعنى آله والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر

وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار أهل الإثبات للقدر المنتسبون الى السنة إنما هو توحيد الربوبية وإن الله رب كل شيء ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون

وكذلك طوائف من أهل التصرف والمنت سبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد : غالية عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا سيما إذا غاب العارف بموجود عن وجوده وبمشهود عن شهوده وبمعروفه عن معروفه ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها

ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما فظلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء

وطائفة من أهل التصرف والمعرفة : يقررون هذا التوحيد من اثبات الصفات فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبا الخالق للعلم ألمباين لمخلوقاته وآخر ون يضمون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا وهذا شر من حال كثير من المشركين

وكان جهنم ينفي الصفات ويقول بالجبر فهذا تحيقي قول جهم لكنه إذا أثبت الأمر والنهي والثواب والعقاب : فارق المشركين من الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي والثواب والعقاب عنده

والتجارية والضرارية وغيرم : يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات والكلابية والأشعرية : خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية وأئمتهم يثبتون الصفات الخيرية في الجملة كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع

وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة

والكلابية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي سلك الأشعري خطته

وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي وأبي العباس الفلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل

والكرامية قولهم في الإيمان قول منكم لم يسبقهم اليه أحد حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب فيجعلون المنافق مؤمنا لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الأسم دون الحكم وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة

وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات ويقاربون قول جهم لكنهم ينفون القدر فهم وإن عظموا الأمر والنهي والوعد والوعيد وغلو فيه فهم يكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك منه هذا الباب والإقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد

ولهذا لم يكن في زمن الصحابه والتابعين من ينفي الأمر والني والوعد والوعيد وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج : الحرورية وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة

فهؤلاء المتصفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي : شر من القدرية المعتزله ونحوهم : أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } والمشركون شر من المجوس

فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الاصلين أو أحدهما مع ظنه أنه غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة

فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخلقه : لا ينجيه من عذاب الله أن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فلا بد من الكلام في هذين الأصلين : -

الأصل الأول ( توحيد الإلهية ) فإنه سبحانه أخبر عن المشركين كما تقدك بأنهم أثبتوا بسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذون شفعاء بدون اذن الله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون

وقال تعالى عن مؤمن يسن { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون } وقال تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } فأخبر سبحانه عن شفعائهم انهم زعموا أنهم فيهم شركاء وقال تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } وقال تعالى : { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } قال تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } وقال تعالى { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }

قال طائفة من السلف : كان قوم يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذاب

ومن تحقيق التوحيد : أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق كالعبادة والتوكل ن والخوف والخشية والتقوى كما قال تعالى : { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله : ( الشاكرين ) وكل من الرسل يقول لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }

وقد قال تعالى في توكل : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال : { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }

فقال في الأيتان : { ما آتاهم الله ورسوله } وقال في التوكل : { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل : ورسوله لأن الإيتان هو الأعطاء الشرعي وذلك يتضمن الإباحة والإحلال والذي بلغه الرسول فان الحلال ما أحله والحرام ما حرمه الدين ما شرعه قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }

وأما الحسب فهو الكافي والله وحده كاف عبده كما قال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فهو وحده حسبهم كلهم وقال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله فهو كافيكم كلكم

وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض الغالطين إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول وهذا في اللغة كقول الشاعر :

فحسبك والضحاك سيف مهند

وتقول العرب : حسبك وزيدا درهم أي يكفيك وزيدا جميعا درهم

وقال في الخوف والخشية والتقوى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فأثبت الطاعة لله والرسول وأثبت الخشية والتقوى لله وحده كما قال نوح عليه السلام : { إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } فجعل العبادة والتقوى لله وحدة وجع لا لطاعة للرسول فإنه يطع الرسول فقد أطاع الله

وقد قال تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال تعالى : { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } وقال الخليل عليه السلام : { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }

وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا : وأينا لم يظلم نفسه فقال النبي ﷺ : [ إنما هو الشرك أو لم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : { إن الشرك لظلم عظيم } ] وقال تعالى : { فإياي فارهبون } { وإياي فاتقون }

ومن هذا الباب أن النبي ﷺ كان يقول في خطبته : ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا

وقال : [ ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ]

ففي الطاعة : قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو وفي المشيئة : أمر أن يجعل ذلك بحرف ثم وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله وطاعة الله طاعة الرسول بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله ولا مشيئة الله مستلزمى لمشيئة العباد بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله
الأصل الثاني : حق الرسول ﷺ

فعلينا أن نؤمن به ونطيعه ونتبعه ونرضيه ونحبه ونسلم لحكمه وأمثال ذلك قال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وأمثال ذلك

الايمان بخلق الله وأمره

وإذا ثبت هذا : فمن المعلوم أن يجب الإيمان بخلق الله وأمره : بقضائه وشرعه

وأهل الضلال الحائضون في القدر انقسموا الى ثلاث فرق : مجوسية ومشركية وبليسية

فالمجوسية : الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه ففلانهم أنكروا العلم والكتاب و مقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم

والفرقة الثانية : المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكر الأمر والنهي قال تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } فمن احتج على تعطل الأمر والنهي والقدر فهو من هؤلاء وهذا قد كثر فيمن يدعى الحقيقة من المتصوفة

والفرقة الثالثة : وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا متناقضا من الرب - سبحانه وتعالى - وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم كما نقله أهل المقالات ونقل عن أهل الكتاب والمقصود أن هذا مما تقول أهل الضلال وأما أهل الهدى والفلاح ففيؤمنون بهذا وهذا ويؤمنون بأن الله خالق شيء وربه ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وأحاط بكل شيء علما وكل شيء أحصاه في أمام مبين

ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله وقدرته ومشيئته ووحدانيته وربوبيته وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه : ما هو من أصول الإيمان ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب التي يخلق بها المسببات كما قال تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } وقال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وقال تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } فأخبر أنه يفعل بالأسباب

ومن قال : إنه يفعل عندما لا بها فقد خالف ما جاء به القرآن وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع وهو شبيه بانكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد كما أن من جعلها هي للبدعة لذلك فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره

وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه ولابد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده قال تعالى : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد

ولهذا من قال : إن الله لا يصدر عنه إلا واحد - لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد - كان جاهلا فإنه ليس في الوجود واحد عنه وحده شيء - لا واحد

ولا اثنان - إلا الله الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلون

فالنار التي خلق الله فيه حرارة لا يحصل الأحراق الا بها وبمحل يقبل الأحراق فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوها لم تحرقها وقد يطلى الجسم بما يمنع احراقه

والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف : لم يحصل الشعاع تحته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

والمقصود هنا : أنه لابد من ( الإيمان بالقدر ) فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد كما قال ابن عباس : هو نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر ثم توحيده ومن وحد الله كذي بالقدر نقض توحيده

ولابد من الإيمان بالشرع وهو الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه

والإنسان مضطر الى شرع حياته الدنيا فإنه لا بد له من حركة يجلب بها منفعته وحركة يدفع بها مضربه والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره وهو عدل الله في خلقه ونوره بين عباده فلا يمكن الآدبيين أن يعيشوا بلا شرع يميزون بين ما يفعلونه ويتركونه

وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم بل الإنسان المنفرد لا بد له من فعل ولرك فإن الإنسان همام حارث كما قال النبي ﷺ [ أصدق الأسماء حارث وهمام ] وهو معنى قولهم متحرك بالإرادات فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها ولا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار ؟ وهل يصلحه أو يفسده ؟

وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم وبعضهم يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم لهم

وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنا وقبيحها بالعقل أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل ؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه

فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل وهو أن يكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به وسببا يبغضه ويؤذيه وهذا القدر يعلم بالعقل تارة وبالشرع وبهما جميعا أخرى لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال : من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع

فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك

وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } وقوله تعالى : { قل إنما أنذركم بالوحي }

لكن توهمت طائفة أن للحسن والقبح معنى غير هذا وأنه يعلم بالعقل وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبيح : يخرج عن هذا فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن - والقبح العقلين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت

ثم إن كلتى الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية ودلت عليه الشواهد العقلية : تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح هل ذلك ممتنع لذاته وأنه يتصور قدرته على ما هو قبيح وأنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لمجرد القبح العقلى الذي أثبتوه ؟ على قولين

والقولان في الأنحراف من جنس القولين المتقدمين أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال والطاعة والمعصية والأبرار والفجار وأهل الجنة وأهل النار والرحمة والعذاب فلا جعلوه محمودا على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم ولا ما فعله من الإحسان والنعمة وما تركه من التعذيت والنقمة

والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلى الذي أثبتوه ولا حقيقه له وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه

فمن نظر الى القدر فقط وعظم الفناء في توحيد الربوبية ووقف عند الحقيقة الكونية : لم يميز بين العلم والجهل والصدق والهدى والضلال والرشاد والغى وأولياء الله وأعدائه وأهل الجنة وأهل النار ي

وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه فهم مخالفون أيضا لضرورة الحس والذوق وضرورة العقل والقياس فإن أحدهم لابد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب وما يأكل ولا يشرب وبين ما يؤذية من الحر والبرد وما ليس كذلك وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضر هو الحقيقة الشرعية الدينية

ومن ظن أن البشر ينتهى إلى حد يسوى عنده الأمر دائما : فقد افترى وخالف ضرورة الحس ولكن قد يعرض للأنسان بعض الأوقات عارض كالسكر واغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة وما يسره أخرى

فالأحوال التي يعبر عنها تالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض فهي مع نقص صاحبها - لضعف تمييزه - لا تنتهى إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقا ومن نفي التمييز في هذا المقام مطلقا وعظم هذا المقام فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية : قدرا وشرعا وغلط في خلق الله وفي أمره حيث ظن أن وجود هذا لا جود له وحيث ظن أنه ممدوح ولا مدح في عدم التمييز : العقل والمعرفة

وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول : أريد أن لا أو أن العارف لا حظ له وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي يؤمر بها وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه

ومن أراد بذلك أنه إرادته بالكلية وأنه لا يحس باللذة والألم والنافع والضار فهذا مخالف لضرورة الحسن والعقل والدين
الفناء عند الصوفية وغيرهم : فصل في أقسام الفناء الثلاثة

أحدها : هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به : فيفنى عن عبادة غيره بعبادته وعن طاعته غيره بطاعته وطاعة رسوله وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه وعن محبة ما سواه بمحبة ما سواه بمحبته ومحبة رسول وعن خوف غيره بخوفه بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هذا من الله وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها كما قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله

وأما ( الفناء الثاني ) : وهو الذي يذكره بعض الصوفية وهو أن يغنى عن شهود ما سوى الله تعالى فيغنى عن عبادته وبمذكوره عن ذكر هو وبمعروفه بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين وليس هو من لوازم طريق الله

ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي ﷺ وللسابقين الأولين ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضال ضلالا مبينا وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض ليس هو من اللوازم التي تحصل لمل سالك

وأما الثالث : فهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق وأن الوجود واحد بالعين فهو قول أهل الإلحاد والإتحاد الذين هم من أضل العباد

وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس : فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله فإنه إذا كان مشاهدا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور فعومل بموجب ذلك مثل أن يضرب ويجاع حتى يبتلي بعظيم الأوصاب والأوجاع فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد يقض قوله وخرج عن أصل مذهبه وقيل له : هذا الذي فعله مقضى مقدور فخلق الله وقدره ومشيئته : متناول لك وله وهو يعمكما فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا والا فليس بحجة لا لك ولا له

فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر الى القدر ويعرض عن الأمر والنهي والمؤمن مأمور بان يفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور كما قال تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }

وقال في قصة يوصف : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فالتقوى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه ولهذا قال الله تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } فأمره مع الاستغفار الصبر فإن العباد لا بد لهم من الاستغفار أو لهم وآخرهم قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح : [ يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فو الذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ] وقال : [ انه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ]

[ وكان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدى وكل ذلك عندى اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر ]

وقد ذكر عن آدم أبي البشر انه استغفر ربه وتاب إليه فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه وعن إبليس أبي الجن - لعنه الله - أنه أصر متعلقا بالقدر لعنه وأقصاه فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه ومن أشبه أباه فما ظلم قال الله تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }

ولهذا قرن الله سبحانه بين التوحيد والإستغفار في غير آية كما قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال تعالى : { فاستقيموا إليه واستغفروه } وقال تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى }

وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره : يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والإستغفار فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

وقد ذكر سبحانه عن ذي النون انه نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال تعالى : { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } قال النبي ﷺ [ دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه ]

وجماع ذلك انه لابد له في الأمر من أصلين ولابد له في القدر من أصلين

ففي الأمر عليه الإجتهاد في الإمتثال علما وعملا فلا تزال تجتهد في العلم بما أمر الله به والعمل بذلك

ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه الحدود

ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالإستغفار فكان النبي ﷺ إذا أنصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقد قال الله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } فقاموا بالليل وختموه بالإستغفار وآخر سورة نزلت قول الله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } وفي الصحيح أ ه كان ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : [ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم إغفر لي ] يتأول القرآن

وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به ويتوكل عليه ويدعوه ويرعب إليه ويستعيذ به ويكون مفتقرا إليه في طلب الخير وترك الشر وعليه أن يصبر على المقدور ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأ لم يكن ليصيبه وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه

ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى لما قال : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك بكلامه فبكم وجدت مكتوبا على من قبل أن أخلق : ( وعصى آدم ربه فغوى ) قال : بكذا وكذا فحج آدم موسى

وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب فإن آدم كان تاب منه التائب من الذنب كمن لا ذنب له وليكن لأجل المصيبة التي لحقهم من ذلك

وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب وأن يستغفروا من المعائب كما قال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } فمن راعى الأمر والقدر كما ذكر : كان عابدا الله مطيعا له مستعينا به متوكلا عليه من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقا

وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع كقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله : { فاعبده وتوكل عليه } وقوله : { عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } فالعبادة لله والاستعانة به [ وكان النبي ﷺ يقول عند الأضحية اللهم منك ولك ] فما لم يكن بالله لا يكون فانه لا حول ولا قوة إلا بالله وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم ولابد في عبادته من أصلين ( أحدهما ) إخلاص الدين له :

الثاني ) موافقة أمره الذي بعث به رسله ولهذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا يجعل لأحد فيه شيئا وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) قال : أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا على : ما أخلصه وأصوبه قال : إذا كان العمل خالصا ولم يكن صوابا لن يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على أتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين ما لم يأذن به الله من عبادة غيره فعل ما لم يشرعه من الدين كما قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله

والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله و لا دين إلا ما شرعه

ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام : فالمؤمنون المتقون هم له وبه يعبدونه ويستعينونه

وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر فتجد عند أحدهم تحريا الطاعة والورع ولزوم السنة ولكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر بل فيهم عجز وجزع

وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنا وظاهرا ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصيف الأول ولكن لا عاقبة له فإنه لبس من المتقين والعاقبة للتقوى فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه الجزع والعجز وهؤلاء لأحدهم حال وقوة ولكن لا يبقى له إلا ما وافق الأمر واتبع فيه السنة

وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه فهو لا يشهد أن علمه لله ولا أنه بالله

فالمعتزلة ونحوهم - من القدرية الذين أنكروا القدر - هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهى

والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية : خير من المعتزلة ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي والوعد والوعيد حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك ويصيرون أيضا معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم فهم معتزلة من هذا الوجه

وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرا من بدعة أولئك المعتزلة وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة

وإنما دين الله ما بعث به رسله وأنزل به كتبه وهو الصراط المستقيم وهو طريقة أصحاب رسول الله ﷺ خير القرون وأفضل الأمة وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين قال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فرضى عن السابقين الأولين رضا مطلقا ورضى عن التابعين لهم بإحسان

وقد قال النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة : [ خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]

و [ كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب رسول الله ﷺ أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ]

وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما : يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فو الله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبها بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا

وقد [ قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه : خط لنا رسول الله ﷺ خطا وخط حوله خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال : ( هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقد أمرنا سبحانه أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ]

وقال النبي ﷺ : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه والنصارى عبدوا الله بغير علم

ولهذا كان يقال : [ تعوذا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ] وقال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وقرأ هذه الآية

وكذلك قوله تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين

فنسأل الله العظيم يهدينا وسائر أواننا صراطه المستقيم صراط الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
تصنيف:
الرسالة التدمرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من 1 الي 2001 -

      مكتبة العلوم الشاملة https://sluntt.blogspot.com/ الاثنين، 21 فبراير 2022 كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من...