مكتبة العلوم الشاملة

false EN-GB X-NONE AR-SA ath"/>

مكتبة العلوم الشاملة

https://sluntt.blogspot.com/

 

الاثنين، 7 فبراير 2022

كتاب الأمثال في القرآن الكريم ابن القيم

ويكي مصدر *


 
 المنافقون في كتاب الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البرية محمد وآله وصحبه أجمعين

قال شيخنا رحمه الله
وقع في القرآن أمثال وان أمثال القرآن لا يعقلها إلا العالمون وأنها تشبيه شيء بشيء في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الأخر واعتبار أحدهما بالآخر كقوله تعالى في حق المنافقين ومثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم إلى قوله إن الله على كل شيء قدير فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين مثلا ناريا ومثلا مائيا لما في الماء والنار من الإضاءة والإشراق والحياة فإن النار مادة النور والماء مادة الحياة وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزل من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها ولهذا سماه روحا ونورا وجعل قابليه أحياء في النور ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له وينتفع بها وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به وانتفعوا به وخالطوا المسلمين ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طغى عنهم وذهب الله بنورهم ولم يقل نارهم فإن النار فيها الإضاءة والإحراق فذهب الله بما فيها من الإضاءة وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه لا يرجع إليه ولهذا قال فهم لا يرجعون

ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فلضعفه وخوفه جعل أصبعيه في أذنيه خشية من صاعقة تصيبه وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ويقول مخنثهم سدوا عنا هذا الباب واقرأوا شيئا غير هذا وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه تعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم نصوصه المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم وثقل عليهم لو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا وكذلك نجد أعداء أصحاب رسول الله ثقل ذلك عليهم جدا فأنكرته قلوبهم وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من اخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم

فصل وقد ذكر سبحانه المثلين المائي والناري في سورة الرعد ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى 
 الأمثال في القرآن الكريم    ابن القيم
{{أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله.... شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها كما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتملت غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فتكرب بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فانه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يساكنها وهكذا يضرب الله الحق والباطل ثم ذكر المثل الناري فقال ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يسقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق

فصل ومنها قوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون 
 
 شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض الذي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منهما فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس فلما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال تعالى تعالى والله يدعوا إلى دار السلام فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من شاء فذلك عدله وهذا فضله

فصل ومنها قوله تعالى مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون 
 
 فإنه سبحانه وتعالى ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر وبالباطن جعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهت بمن بصره أعمى عن رؤية أحق الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين و تمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله هل يستويان مثلا

فصل ومنها قوله تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت... فذكر سبحانه إنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياء أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو أوهن البيوت وأضعفها وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حيث اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون وقال بعد أن ذكر هلاك الأمم المشركين وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به و يتكثر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده فإن قيل فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله لو كانوا يعلمون

فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقوة فكان الأمر بخلاف ما ظنوا
مثل من عمله كسراب أو في بحر لجي

فصل ومنها قوله تعالى والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب يرى في أعين الناظرين ماء ولا حقيقة له وهكذا الأعمال التي لغير الله عز وجل وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض الخالية القفر من البناء والشجر والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله يحسبه الظمآن مآء والظمآن الذي اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي في حديث التجلي يوم القيامة ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود وما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد عزيرا ابن الله فيقال كذبهم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال كذبتم ما كان لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون أن تسقينا فيقال لهم اشربوا فيتساقطون وذكر الحديث وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كإسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله عز وجل أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى

فصل النوع الثاني أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليه ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعلموا بعلمهم فصاروا جاهلين 
=وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين اللذين ضربهما للمنافقين والمؤمنين وهما المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغرر الناظر فيه ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا 
 
= وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد إذ أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين 
 
= وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة إلى قوله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب  
 فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم أهل النور والضالين وهم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع فأولئك أصحاب العمل الباطل وهؤلاء أصحاب العمل الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلاله وأنه تنزيل من حكيم حميد وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيى به قلبه وروحه كما يحيى بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهي حياتان حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى الله الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده وقال يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ماله من نور

فصل ومنها قوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا  
 
 فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعونهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل له أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه

فصل ومنها قوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون 
= وهذا دليل قياسي احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندهم معلوم لها فقال هل لكم من ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم و أهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس تخافون أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبادي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول

فصل ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم

هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفى الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي اثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا ليلا ونهارا يمينه ملأى لا تغضيها نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف تجعلونها شركاء لي وتعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن عباس وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا و الكفار بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء والقول الأول أشبه بالمراد فأنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ثم قال

ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لأن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله فصل وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا فالصنم الذي يعبدون من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة و الله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل ينزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهم المجاوروه عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح

اللهم اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك  
 
= فقضاؤه هو أمره الكوني فإنما أمره إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فلا يأمر بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فإن القضاء غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول شعيب عليه الصلاة والسلام إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فقوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله إن ربي على صراط مستقيم نظير قوله عدل في قضاؤك فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة وحكمة وعدل فهو على حق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد ما يكون طالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غير التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط مالا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله

قال محمد بن جرير الطبري وقوله إن ربي على صراط مستقيم يقول إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه و المسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عنه إن ربي على صراط مستقيم قال الحق وكذلك رواه ابن جريج عنه وقالت فرقة هي مثل قوله إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وقالت فرقة في الكلام حذف تقديره إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة على صراط مستقيم فقد أصابوا وقالت فرقة أخرى معنى كونه على صراط مستقيم أن مرد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء أن أرادوا أن هذا معني الآية فليس كذلك وإن أرادوا ان هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه و موجبه فهو حق وقالت فرقة أخرى معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب عليه الصلاة والسلام بين قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان فالقول قول مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز ... أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم ...

وقد قال تعالى من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وإذا كان الله تعالى هو الذي جعل رسله عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق أن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق

فصل وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في معنى هذا القول والله الموفق
مثل من أعرض عن كلام الله

فصل ومنها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد والرماة ففرت منه وهذا من بديع التمثيل فإن القوم من جهلهم بما بعث الله سبحانه رسوله كالحمر فهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته

فصل ومنها قوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين فقاس سبحانه من حمله كتابه لؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقرأه به بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته

فصل ومنها قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات و أوضعها قدرا و أخبثها نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم و يتروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت له بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف المروحة أحب إليه من اللحم الطري والقذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا يتناول معه منه شيء إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشره ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورئاسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال ازعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده ينقطع قلت مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عليها وهذا يلهث من قلة صبره على الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان صبر عن الجوع وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا ذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة حرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث قال مجاهد وذلك مثال الذي أوتى الكتاب ولم يعمل به وقال ابن عباس إن تحمل عليه الكلمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى الخير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث وقال الحسن وهو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أم لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك وقال عطاء ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه وقال محمد بن قتيبة كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش ألا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال أو حال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته وقال ابن عطية إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث ونظيره قوله تعالى وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون

وتأمل ما في هذا المثل من الحكم و المعنى فمنها قوله وآتيناه آياتنا فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال فانسلخ منها أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد ينسلخ عن اللحم ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه ومنها قوله سبحانه فأتبعه الشيطان أي لحقه وأدركه كما قال تعالى في قوم فرعون فأتبعوهم مشرقين فكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا غلى غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء ومنها أنه سبحانه قال ولو شئنا لرفعناه بها فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء وإنما هي باتباع الحق إيثاره وقصد مرضاة الله تعالى فان هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به فتعوذ بالله من علم لا ينفع وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه الله من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع الله سبحانه خفضه ولم يرفعه والمعنى ولو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه قال ابن عباس رضي الله عنهما ولو شئنا لرفعناه بعلمه بها وقالت طائفة الضمير في قوله لرفعناه عائد على الكفر والمعنى ولو شئنا لرفعناه عن الكفر بما معه من آياتنا قال مجاهد وعطاء لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه وهذا المعنى حق والأول مراد الآية وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها وقوله ولكنه أخلد إلى الأرض قال سعيد بن جبير ركن إلى الأرض وقال مجاهد سكن وقال مقاتل رضي بالدنيا وقال أبو عبيدة لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي تبطئ مشيته ومن الدواب الذي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته وقال الزجاج خلد وأخلد واحد وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء يقال فلان أخلد ولاذ بالمكان إذا أقام به قال مالك بن نويره بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا وأخلدوا

قلت ومنه قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن واحد أبدا وقيل المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم وأصحاب هذا القول فسروا اللفظ ببعض لوازمه وذلك إشارة إلى التخليد على ذلك السن فلا ينافي القولين

وقوله واتبع هواه قال الكلبي اتبع مسافل الأمور وترك معاليها وقال أبو روق اختار الدنيا على الآخرة وقال عطاء أراد الدنيا وأطاع شيطانه وقال ابن زيد كان هواه مع القوم يعني الذين حاربوا موسى عليه الصلاة والسلام وقومه وقال يمان اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعله فإن قيل الإستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها نفي ما قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول لو شئت لأعطيته لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته فالاستدراك يقتضي ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ أو فلم نرفع ولكنه أخلد فكيف استدرك بقوله ولكنه أخلد إلى الأرض بعد قوله ولو شئنا لرفعناه بها قيل هذا من الكلام الملحوظ فيه المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله ولو شئنا لرفعناه بها أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من ايثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وقال الزمخشري المعنى ولو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه قال ألا ترى إلى قوله ولكنه أخلد فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن تكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا فأين قوله ولو شئنا من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله وهو الحق بطل أصله وقوله إن مشيئة الله تابعة للزومه لآياته تابعة لمشيئة الله عز وجل فمشيئة الله سبحانه متبوعة لاتابعة وسبب لا مسبب وموجب مقتضي لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده

فصل ومنها قوله تعالى يآ أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم وهذا من أحسن القياس التمثيلي فانه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت لما كان المغتاب عاجزا عن دفعه بنفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيعه لحم أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بأكل لحم أخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه للمحسوس وتأمل أخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا اشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق

فصل ومنها قوله تعالى مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل على غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك لا يقدرون مما كسبوا على شيء لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون لها أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول الخالص الصواب فالخالص أن يكون لله لا لغير والصواب أن يكون مما شرعه على لسان رسوله والثلاثة المردودة ما خالف ذلك وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله عز وجل وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشئ الله لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وما يعبدون من دون الله وقود النار فصل ومنها قوله تعالى ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون فشبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة و الباطنة فكل عمل صالح مرضي لله عز وجل ثمرة هذا الكلمة وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء وقال الربيع بن أنس كلمة طيبة هذا مثل الإيمان والإيمان الشجرة الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقها ومراعاتها حق رعايتها فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فيعرف حقيقة الهيئة التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله عز وجل وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتى ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كثيرا طيبا كلما يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب كما قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها كل وقت عملا صالحا كل وقت

والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد المؤمن بها عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا واثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة من هذا الشاهد أصلها ثبات راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت ومن السلف من قال إن الشجرة الطيبة هي النخلة ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ قوله وعمله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة قال ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله وقال الربيع بن أنس أصلها ثابت وفرعها في السماء قال ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له قال أصلها ثابت قال أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء قال ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين فالمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة
تجديد الإيمان


وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق ويقتضيه علم الذي تكلم به سبحانه وحكمته فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضى فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله صلوات الله وسلامه عليهم والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدى والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار ومنها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا انقطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعمل النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم الغرس الطيب وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا يعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وضعها عليهم وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم

ومنها إن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلمه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه يقيس في هذا ومعرفته به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائم سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان

فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقعة وقلوبنا المخبطة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجردت الهمم للتقي عن الله تعالى ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله عز وجل وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الحق وبهذا يعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم رضي الله عنهم وإن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته فصل ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية ولا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بلى تعلى

وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم وجده كذلك فالخسران كل الخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه قال الضحاك ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة و لا فيها منفعة كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة وقال ابن عباس ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له عمل صالح في السماء ولا في الآخرة وقال الربيع بن أنس التثبيت بالقول الصالح الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له ما تقول في الكلمة الخبيثة قال لا اعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها يوم القيامة وقوله اجتثت أي استؤصلت من فوق الأرض ثم أخبر سبحانه عن فصله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم وتحت قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كنز عظيم من وقف عليه لظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وقال تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وفي الصحيحين من حديث البجلي قال وهو يسألهم ويثبتهم وقال تعالى لرسوله وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك فالخلق كلهم قسمان موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت ومادة التثبيت وأصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فيهما يثبت الله عبده فكل ما كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبتا قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب فالقول نوعان ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عباده في الدنيا والآخرة ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلويا وأقلهم ثباتا وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاختبار وشجاعته ومهابته ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال والله ما فهمت منه شيئا الا أني سمعت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر وقد جاء هذا مبينا في أحاديث صحاح فمنها ما في المسند من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال كنا مع النبي في جنازة فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال ما تقول في هذا الرجل فإن كان مؤمنا قال أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له هذا منزلك لو كفرت بربك فأما إذ آمنت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له اسكن ثم يفسح له في قبره وأما الكافر والمنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري فيقال لا دريت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين قال بعض أصحابه يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك فقال رسول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء

وفي المسند من حديث البراء بن عازب وروى المنهال عن عمرو وعن زاذان عن البراء قال قال رسول الله وذكر قبض روح المؤمن فقال يأتيه آت يعني في قبره فيقول من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد قال فيقول له ما ربك وما دينك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فيقال له صدقت وهذا حديث صحيح

وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال إذا قيل له في القبر من ربك وما دينك فيقول ربي الله وديني الاسلام ونبي محمد جاء بالبينات من عند الله فآمنت وصدقت فيقال له صدقت على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال قال رسول الله وذكر قبض روح المؤمن قال فترجع روحه في جسده ويبعث إليه ملكان شديدان فيجلسانه وينهرانه ويقولان من ربك فيقول الله وما دينك فيقول الإسلام فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول محمد رسول الله قال فيقولان له وما يدريك قال يقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت وذلك قول الله تبارك وتعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال إن الميت ليسمع خفق نعالهم يولون عنه مدبرين فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه وكان الصيام عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ما قبلي مدخل فيؤتي عن يساره فيقول الصيام ما قبلي مدخلى فيؤتى من عند رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف و الإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد قدمت للغروب فيقال له أخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألوني فيقول دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك فيقول وعم تسألون فيقال له أرأيت هذا الرجل الذي بعث فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد به عليه فيقول محمد فيقولون نعم فيقول أشهد أنه رسول الله وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يجعل نسمته في النسم الطيبة وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة فيعاد الجسد إلى ما بدا منه من التراب وذلك قول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تستطل هذا الفصل المعترض فالمفتي والشاهد والحاكم بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس وبالله التوفيق

فصل ومنها قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفه الطير في الهوى فتمزق مزعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا ينظر إلى كل فرد من أفراد الشبه ومقابلته من المشبه به

والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها يهبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي يخطف أعضاءه ويمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه تؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله القاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء

فصل ومنها قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب وما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز حقيق كل عبد أن يستمع لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين قد تتلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يعمد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل تمتنع عليها القدرة على مخلوقات الآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء آلهتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله ضعف الطالب والمطلوب قيل الطالب العابد والمطلوب المعبود فهو عاجز متعلق بعاجز وقيل هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا فالطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استنقذه منه وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب و المستلب فمن جعل هذا الآلهة مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته

فصل ومنها قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها و منعوقا به وهو الدواب فقيل الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم هو المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول وقالوا قوله إلا دعاء ونداء لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء وقد أجيب عن هذا الاشكال بثلاثة أجوبة أحدها أن زائدة والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا وقد ذكر الأصمعي في قول الشاعر

جراجيج لا تنفعك إلا مناخة

أي ما تنفك مناخة وهذا جواب فاسد فإن إلا لا تزاد في الكلام

الجواب الثاني أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصات المدعو

الجواب الثالث أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعآءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع بنعقته شيئا غير أنه في دعآء ونداء وكذا المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء وقيل المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها قال سيبويه المعنى ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق و المنعوق به وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها ذلك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين كفروا بمنزلة البهائم ودعاؤهم إلى الطريق والهدى بمنزلة النعيق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم

فصل ومنها قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة والله يضاعف بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه واحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها فان ثواب الانفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الايمان والاخلاص والتثبت عند النفقة وهو اخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره باخراجه وسمحت به نفسه وخرج من قلبه قبل خروجه من يده فهو ثابت القلب عند اخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق وذكائه وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شبه الانفاق بالبذر فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية فمغلة بحسب بذرة وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل والنبات الغريب عنه فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال وكان مثله كمثل حبة بربوة وهي المكان فيه نصب الشمس والرياح فتربى الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما تؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل وإن لم يصبها وابل فطل مطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها تزكو على الطل وتنمي عليه مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ومنهم من يكون إنفاقه طلا والله لا يضيع مثقال ذرة فإن عرض لهذا العامل ما يفرق أعماله ويبطل بها حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها ومنفعتها والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته ومع هذا فله ذرية ضعفآء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحه بل هم في عياله فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها وهو ثمر النخيل والأعناب فنخله يقوم بكفايته وكفاية ذريته فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم فأي حسرة أعظم مثل الإنفاق بالمن والأذى من حسرته قال ابن عباس هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره وقال مجاهد هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت وقال السري هذا مثل للمرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها وسأل عمر بن الخطاب الصحابة رضي الله عنهم يوما عن هذه الآية فقالوا الله أعلم فغضب عمر وقال قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال قل يا ابن أخي ولا تحصر نفسك قال ضرب مثل لعمل قال لأي عمل قال لرجل غنى يعمل بالحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها وقال الحسن هذا مثل قل والله أعلم من يعقله من الناس شيخ ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا

فصل فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب والمن والأذى يبطل الثواب الذي كان سببا له فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل صفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شيء عليه وتأمل جزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي و المان والمؤذي فقلبه في قسوته عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر والعمل الذي لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر فقوة ما تحته وصلابته تمنعه من الثبات والنبات عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ وكذلك قلب المرآئي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرآئي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق

فصل ومنها قوله تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته واختلف في الصر فقيل البرد الشديد وقيل النار قاله ابن عباس وقال الأنباري وإنما وصفت النار أنها صر لتصريتها عند الالتهاب وقيل الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق بيبسه للحرث كما تحرق النار وفيه صوت شديد وفي قوله أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها

فصل ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد فالمشرك بمنزلة عبد تملكه جماعة مشتركين في خدمته لا يمكنه رضاهم أجمعين والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد رجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير منازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليته بمصالحه فهل يستوي هذان العبدان وهذا مثل امرأة نوح وامرأة لوط منه أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد مستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون

فصل ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال مثل للكافر ومثلين للمؤمنين فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاتب على كفره وعداوته لله تعالى ورسوله وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من سبب الاتصال فان الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله عليهم الصلاة والسلام فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة والنكاح مع عدم الايمان لنفعت الصلة التي كانت بين نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل لهما ادخلا النار مع الداخلين فقطعت الآية حينئذ طمع من ارتكب معصية الله تعالى وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال فلا اتصال فوق اتصال النبوة والأبوة والزوجية ولم يغن نوح عليه الصلاة والسلام عن ابنه ولا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن أبيه ولا نوح ولوط عليهما الصلاة و السلام عن امرأتيهما من الله شيئا قال الله تعالى لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم وقال تعالى يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله وقال تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا وقال تعالى واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة تنفعهم يوم القيامة أو تجيرهم من عذاب الله تعالى أو تشفع لهم عند الله تعالى وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله وهو الذي بعث الله تعالى جميع رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم

فصل وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما امرأة فرعون ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله فمعصية العاصي لا تضر المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله عز وجل فتأتي عامة فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين

المثل الثاني للمؤمنين مريم التي لا زوج لها لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف النساء المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزبة التي لا وصلة بينها وبين أحد فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها والثالثة لا يضرها عدم الصلة شيئا ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ولهذا ضرب لهما في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة قال يحيى بن سلام ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله تعالى اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الحرص على الطاعة الرجل الصالح قذف الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون تمت بحمد الله وحسن توفيقه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما اللهم اغفر لكاتبها ولقارئها ومتدبرها حق تدبرها ولمصنفها وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات آمين والحمد لله رب العالمين

بقلم الفقير إلى ربه تعالى علي بن زيد آل غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
تصنيفان:
علوم القرآن
ابن القيم

إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن قيم الجوزية

ويكي مصدر

تقديم للكتاب بواسطة المدون 

نجزم نحن المدون أن ابن القيم خلط بين شرعتين أحدهما ناسخه والاخر منسوخة 

 

فأما الناسخة فهي شرعة الطلاق المنزلة في سورة الطلاق ابان العام الخامس الهجري5هــ    والمنسوخ جله هو شرعة الطلاق التي سبقت في سورة البقرة 2هـ ولم يتبق منها الا مالم يدخل في النسخ الالهي لأحكامه المفروضة 

اقرأ



إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان   لابن قيم الجوزية 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الحكيم الكريم العلي العظيم السميع العليم الرءوف الرحيم، الذي أسبغ على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها كما هو أشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها.

وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين وأرحم الراحمين الذي تعرف إلى خلقه بصفاته وأسمائه وتحبب إليهم بإحسانه وآلائه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختم به النبيين وأرسله رحمة للعالمين وبعثه بالحنيفية السمحة والدين المهيمن على كل دين فوضع به الآصار والأغلال وأغنى بشريعته عن طرق المكر والاحتيال وفتح لمن اعتصم بها طريقا واضحا ومنهجا وجعل لمن تمسك بها من كل ما ضاق عليه فرجا ومخرجا فعند رسول الله السعة والرحمة وعند غيره الشدة والنقمة فما جاءه مكروب إلا وجد عنده تفريج كربته ولا لهفان إلا وجد عنده إغاثة لهفته فما فرق بين زوجين إلا عن وطر واختيار ولا شتت شمل محبين إلا عن إرادة منهما وإيثار ولم يخرب ديار المحبين بغلط اللسان ولم يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد الإنسان، بل رفع المؤاخذة بالكلام الذي لم يقصده، بل جرى على لسانه بحكم الخطأ والنسيان أو الإكراه والسبق على طريق الاتفاق. فقال فيما رواه عنه أهل السنن من حديث عائشة أم المؤمنين: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في صحيحه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال أبو داود: «في غلاق» ثم قال: والغلاق أظنه الغضب. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: هو الغضب، ذكره الخلال [و] أبو بكر عبد العزيز ولفظ أحمد: يعني الغضب. قال أبو بكر سالت أبا محمد وابن دريد وأبا عبد الله وأبا طاهر النحويين عن قوله: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» قالوا: يريد الإكراه لأنه إذا أُكره انغلق عليه رأيه ويدخل في هذا المعنى المبرسم والمجنون، فقلت لبعضهم: والغضب أيضا؟ فقال: ويدخل فيه الغضب لأن الإغلاق أحدهما الإكراه والآخر ما دخل عليه مما ينغلق به رأيه عليه. وهذا مقتضى تبويب البخاري فإنه قال في صحيحه: باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون، يفرق بين الطلاق في الإغلاق وبين هذه الوجوه. وهو أيضا مقتضى كلام الشافعي فإنه يسمي نذر اللجاج والغضب يمين الغلق ونذر الغلق، هذا اللفظ يريد به نذر الغضب. وهو قوله غير واحد من أئمة اللغة والقول بموجبه وهو مقتضى الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الفقهاء ومقتضى القياس الصحيح والاعتبار وأصول الشريعة.

أما الكتاب فمن وجوه:

أحدها قوله تعالى: {لا يؤاخذهم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}

قال ابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن وكيع حدثنا مالك بن إسماعيل عن خالد عن عطاء بن رستم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.

حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا أبو حمزة عن عطاء عن طاووس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها لقوله {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}

وهذا أحد الأقوال في مذهب مالك أن لغو اليمين هو اليمين في الغضب، وهذا اختيار أجل المالكية وأفضلهم على الإطلاق وهو القاضي إسماعيل بن إسحق فإنه ذهب إلى أن الغضبان لا تنعقد يمينه.

ولا تنافي بين هذا القول وبين قول ابن عباس وعائشة إن لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله، وقول عائشة وغيرها أيضا إنه يمين الرجل على الشيء يعتقده كما حلف عليه فيتبين بخلافه؛ فإن الجميع من لغو اليمين. والذي فسر لغو اليمين بأنها يمين الغضب يقول بان النوعين الآخرين من اللغو. وهذا هو الصحيح فإن الله سبحانه جعل لغو اليمين مقابلا لكسب القلب ومعلوم أن الغضبان والحالف على الشيء يظنه كما حلف عليه والقائل: لا والله وبلى والله من غير عقد اليمين لم يكسب قلبه عقد اليمين ولا قصدها، والله سبحانه قد رفع المؤاخذة بلفظ جرى على اللسان لم يكسبه القلب ولا يقصده، فلا تجوز المؤاخذة بما رفع الله المؤاحذة به بل قد يقال: لغو الغضبان أظهر من لغو القسمين الآخرين لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

فصل

الوجه الثاني من دلالة الكتاب: قوله سبحانه {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}

وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: "اللهم لا تبارك فيه والعنه" فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم.

انتهض الغضب مانعا من انعقاد سبب الدعاء الذي تاثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها فإن الله سبحانه يجيب دعاء الصبي والسفيه والمبرسم ومن لا يصح طلاقه ولا عقوده. فإذا كان الغضب قد منع كون الدعاء سببا لأن الغضبان لم يقصده بقلبه فإن عاقلا لا يختار إهلاك نفسه وأهله وذهاب ماله وقطع يده ورجله وغير ذلك بما يدعو به، فاقتضت رحمة العزيز العليم أن لا يؤاخذه بذلك ولا يجيب دعاءه لأنه عن غير قصد منه، بل الحامل له عليه الغضب الذي هو من الشيطان.

فإن قيل: إن هذا ينتقض عليكم بالحديث الذي رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تدعوا على أولادكم ولا على أموالكم ولا تدعوا على خدمكم لا توافقوا من الله ساعة لا يسأل فيها شيئا إلا أعطاه».

قيل: لا تنافي بين الآية والحديث. فإن الآية اقتضت الفرق بين دعاء المختار ودعاء الغضبان الذي لا يختار ما دعا به. والحديث دل على أن لله سبحانه أوقاتا لا يرد فيها داعيا ولا يسأل فيها شيئا إلا أعطاه. فنهى الأمة أن يدعوا أحدهم على نفسه أو أهله أو ماله خشية أن يوافق تلك الساعة فيجاب له. ولا ريب أن الدعاء بالشر كثيرا ما يجلب الدعاء بالخير، والإنسان يدعو على غيره ظلما وعدوانا مع ذلك فقد يستجاب له لكن إجابة دعاء الخير من صفة الرحمة وإجابة ضده من صفة الغضب؛ والرحمة تغلب الغضب. والمقصود أن الغضب مؤثر في عدم انعقاد السبب في الجملة. ومن هذا قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا} وهو الرجل يدعو على نفسه وأهله بالشر في حال الغضب.

فصل

الوجه الثالث قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

ووجه الاستدلال بالآية أن موسى صلوات الله عليه لم يكن ليلقي ألواحا كتبها الله تعالى فيها كلامه من على رأسه الى الأرض فيكسرها اختيارا منه لذلك، ولا كان فيه مصلحة لبني إسرائيل، ولذلك جره بلحيته ورأسه وهو أخوه وإنما حمله على ذلك الغضب، فعذره الله سبحانه به ولم يعتب عليه بما فعل إذ كان مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره. فالمتولد عنه غير منسوب الى اختياره ورضاه به. يوضحه:

الوجه الرابع وهو قوله {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} فعدل سبحانه عن قوله سكن إلى قوله "سكت" تنزيلا للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي الذي يقول لصاحبه: افعل، لا تفعل، فهو مستجيب لداعي الغضب الناطق فيه المتكلم على لسانه، فهو أولى بأن يعذر من المكره الذي لم يتسلط عليه غضب يأمره وينهاه كما سيأتي تقريره بعد هذا إن شاء الله. وإذا كان الغضب هو الناطق على لسانه الأمر الناهي له لم يكن ما جرى على لسانه في هذا الحال منسوبا الى اختياره ورضاه فلا يتم عليه أثره.

الوجه الخامس قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} في ثلاثة مواضع من القرآن. وما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق أو شتم ونحوه هو من نزغات الشيطان، فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارا لقوله. فإذا سُريَ عنه علم أن ذلك من إلقاء الشيطان على لسانه مما لم يكن برضاه واختياره.

والغضب من الشيطان وأثره منه كما في الصحيح أن رجلين استبا عند النبي حتى احمر وجه أحدهما وانتفخت أوداجه فقال النبي ﷺ: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وفي السنن أن النبي ﷺ قال: «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وإذا كان هذا السبب وأثره من إلجاء الشيطان لم يكن من اختيار العبد فلا يترتب عليه حكمه.

فصل

فأما دلالة السنة فمن وجوه.

أحدها حديث عائشة المتقدم وهو قوله: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق».

وقد اختلف في الإغلاق فقال أهل الحجاز: هو الإكراه. وقال أهل العراق: هو الغضب، وقالت طائفة: هو جمع الثلاث بكلمة واحدة. حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب مطالع الأنوار. وكأن الذي فسره بجمع الثلاث أخذه من التغليق وهو أن المطلق غلق طلاقه كما يغلق صاحب الدين ما عليه، وهو من غلق الباب فكأنه أغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه الثلاث، فلم يجعل له الشارع ذلك ولم يملكه إياه رحمة به إنما ملكه طلاقا يملك فيه الرجعة بعد الدخول وحجر عليه في وقته ووضعه وقدره فلم يملكه إياه في وقت الحيض ولا في وقت طهر جامعها فيه ولم يملكه أن يبينها بغير عوض بعد الدخول فيكون قد غير صفة الكلام. وهذا عند الجمهور فلو قال لها: أنت طالق طلقة لا رجعة لي فيها أو طلقة بائنة، لغا ذلك وثبتت له الرجعة وكذلك لم يملكه جمع الثلاث في مرة واحدة بل حجر عليه في هذا وهذا. وكان ذلك من حجة من لم يوقع الطلاق المحرم ولا الثلاث بكلمة واحدة لأنه طلاق محجور على صاحبه شرعا، وحجر الشارع يمنع نفوذ التصرف وصحته كما يمنع نفوذ التصرف في العقود المالية فهذه حجة من أكثر من ثلاثين حجة ذكروها على كلام وقع الطلاق المحجور على المطلق فيه.

والمقصود هاهنا أن هؤلاء فسروا الإغلاق بجمع الثلاث لكونه أغلق على نفسه باب الرحمة الذي لم يغلقه الله عليه إلا في المرة الثالثة

وأما الآخرون فقالوا: الإغلاق مأخوذ من إغلاق الباب وهو إرتاجه وإطباقه فالأمر المغلق ضد الأمر المنفرج والذي أغلق عليه الأمر ضد الذي فرج له وفتح عليه فالمكره الذي أكره على أمر إن لم يفعله وإلا حصل له من الضرر ما أكره عليه قد أغلق عليه باب القصد والإرادة لما أكره عليه، فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبواب القصد والإرادة له فلم يكن قلبه منفتحا لإرادة القول والفعل الذي أكره عليه ولا لاختيارهما فليس مطلق الإرادة والاختيار بحيث إن شاء طلق وإن شاء لم يطلق وإن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم بل أغلق عليه باب الإرادة إلا للذي قد أكره عليه. ولهذا قال النبي ﷺ: «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له» فبين النبي ﷺ أن الله لا يفعل إلا إذا شاء بخلاف المكره الذي يفعل ما لا يشاؤه، فإنه لا يقال يفعل ما يشاء إلا إذا كان مطلق الدواعي وهو المختار. وأما من أُلزم بفعل معين فلا. ولهذا يقال المكره غير مختار ويجعل قسيم المختار لا قسما منه ومن سماه مختارا فإنه يعني أن له إرادة واختيارا بالقصد الثاني فإنه يريد الخلاص من الشر ولا خلاص له إلا بفعل ما أكره عليه فصار مريدا له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهذا من أعظم الإغلاق وهو في هذا الحال بمنزلة المبرسم والمجنون والسكران بل أسوأ حالا من السكران لأن السكران لا يقتل نفسه ولا يلقي ولده من علو والغضبان يفعل ذلك، وهذا لا يتوجه فيه نزاع أنه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعا.

وحينئذ فنقول الغضب ثلاثة أقسام:

أحدها أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه ويعلم ما يقول وما يقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره.

القسم الثاني أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة فلا يعلم ما يقول ولا يريده، فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه كما تقدم. والغضب غول العقل فإذا اغتال الغضب عقله حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة فإن أقوال المكلف إنما مع علم القائل بصدورها منه ومعناها وإرادته للتكلم بها. فالأول يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران وهذا الغضبان. والثاني يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه البتة فإنه لا يلزم مقتضاه. والثالث يخرج من تكلم به مكرها وإن كان عالما بمعناه.

القسم الثالث من توسط في الغضب بين المرتبتين فتعدى مبادئه ولم ينته إلى أخره بحيث صار كالمجنون؛ فهذا موضع الخلاف ومحل النظر. والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا وهو فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه.

وأما دلالة السنة فمن وجوه:

أحدها حديث عائشة وقد تقدم ذكر وجه دلالته.

الثاني ما رواه أحمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: «لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين». وهو حديث صحيح وله طرق. وجه الاستدلال به أنه ﷺ ألغى وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في حال بالغضب مع أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور وأمر النبي ﷺ الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره. وقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعمه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه». فإذا كان النذر الذي أثنى الله من أوفى به وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة قد أثَّرَ الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده وإنما حمله على بيانه الغضب، فالطلاق بطريق الأولى والأحرى.

فإن قيل: فكيف رتب عليه كفارة اليمين؟ قيل: ترتب الكفارة عليه لا يدل على ترتب موجبه ومقتضاه عليه، والكفارة لا تستلزم التكليف، ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدا أو غيره وتجب على قاتل الصيد ناسيا أو مخطئا وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيا عند الأكثرين. فلا يلزم من ترتب الكفارة اعتبار كلام الغضبان وهذا هو الذي يسميه الشافعي نذر الغلق ومنصوصه عدم وجوب الوفاء به إذا حلف به بل يخير بينه وبين الكفارة. وحكى له قول آخر بتعين الكفارة عينا وقول آخر بعين الوفاء به إذا حنث كما يلزمه الطلاق والعتاق وهذا قول مالك وأشهر الروايتين عن أبي حنيفة.

الثالث: ما ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه عن الحكم حال الغضب. وقد اختلف الفقهاء في صحة حكم الحاكم في حال غضبه على ثلاثة أقوال سنذكرها بعد إن شاء الله.

فصل

وأما آثار الصحابة فمن وجوه.

أحدها ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: الطلاق عن وطر والعتق ما ينبغي به وجه الله. فحصر الطلاق فيما كان عن وطر وهو الغرض المقصود، والغضبان لا وطر له. وهذا في الطلاق عن ابن عباس نظير قوله وقول أصحابه لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.

الوجه الثاني أن الزهري روى عن أبان بن عثمان عن عثمان أنه رد طلاق السكران. ولا يعرف له مخالف من الصحابة. وهذا هو الصحيح وهو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرا. قال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر الطلاق قد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا وأنا أتقي جميعها. وقال في رواية عبد الله الميموني: قد كنت أقول إن طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب علي أنه لا يجوز طلاقه لأن لو أقَرَّ لم يلزمه ولو باع لم يجز بيعه. قال: وألزمه الجناية وما كان من غير ذلك فلا يلزمه. قال أبو بكر: وبهذا أقول. وقال في رواية أبي الحرث: أرفع شيء في حديث الزهري عن أبان بن عثمان عن عثمان: ليس لمجنون ولا سكران طلاق. وهو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي وإمام الحرمين وشيخ الإسلام ابن تيمية وأحد قولي الشافعي.

وإذا كان هؤلاء لا يوقعون طلاق السكران لأنه غير قاصد للطلاق فمعلوم أن الغضبان كثيرا ما يكون أسوأ حالا من السكران. والسكر نوعان: سكر طرب وسكر غضب، وقد يكون هذا أشد وقد يكون الآخر أشد فإذا اشتد به الغضب حتى صار كالسكران كان أولى بعدم وقوع الطلاق منه لأنه يعذر ما لا يعذر السكران ويبلغ به الغضب أشد ما يبلغ به السكران كما يشاهد من حال السكران الغضبان.

فصل

وأما الاعتبار وأصول الشريعة فمن وجوه:

الأول أن المؤاخدة إنما ترتبت على الأقوال لكونها أدلة على ما في القلب من كسبه وإرداته، كما قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فجعل سبب المؤاخذة كسب القلب، وكسبه هو إرادته وقصده؛ ومن جرى على لسانه الكلام من غير قصد واختيار بل لشدة غضب وسكر أو غير ذلك لم يكن من كسب قلبه. ولهذا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الإياس منها فلما وجدها أخطأ من شدة الفرح وقال: "اللهم أنت عبدي وانا ربك" فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القران على لسان القارئ.

ولكن قد يقال هذا قصد الصواب فأخطأ فلم يؤاخذ إذا كان قصده ضد ما تكلم به، بخلاف الغضبان إذا طلق فإنه قاصد للطلاق؟ قيل: لا كلام في الغضبان العالم بما يقول القاصد المختار لحكمه دفعا لمكروه البقاء مع الزوجة، وإنما الكلام في الذي اشتد غضبه حتى ألجأه الشيطان إلى التكلم بما لم يكن مختارا للتكلم به كما يلجئه إلى فعل ما لم يكن لولا الغضب يفعله. يوضحه:

الوجه الثاني وهو أن الإرادة فيه هو محمول عليها ملجأ إليه كالمكره؛ بل المكره أحسن حالا منه فإن له قصدا وإرادة حقيقة لكن هو محمول عليه وهذا ليس له قصد في الحقيقة. فإذا لم يقع طلاق المكره فطلاق هذا أولى بعدم الوقوع. يوضحه:

الوجه الثالث وهو أن الأمر الحامل المكره على التكلم بالطلاق يشبه الحامل للغضبان على التكلم به. فإن المتكلم مكرها إنما يقصد الاستراحة من توقع ما أكره به إن لم يباشر به أو من حصوله إن كان قد باشره بشيء منه فيتكلم بالطلاق قاصدا لراحته من ألم ما أكره به. وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك وكذلك يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويشق ثيابه ويلقي ما في يده دفعا لألم الغضب وإلقاءً لحِمله منه، وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه، فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء وهو غير طالب لذلك في الحقيقة. فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو غير قاصد لمعناها. ولهذا يأمر الملوكُ وغيرهم عند الغضب بأمور يعلم خواصهم أنهم تكلموا بها دفعا لحرارة الغضب وأنهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك إذا سكن غضبهم. وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده أو صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك، كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة.

الوجه الرابع: أن العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده بل هو أكره شيء إليه وهو كما قال النبي ﷺ: «جمرة في قلب ابن ادم أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه». والعاقل لا يقصد إلقاء الجمرة في قلبه، فهو ناشئ فيه بغير اختياره. وإذا كان هو السبب الحامل على المتكلم بالطلاق وغيره لم يكن ذلك أيضا مضافا إلى اختياره وإرادته. وهذا كما أن إرادة السبب إرادة للمسبب فكراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب. يوضحه:

الوجه الخامس وهو أنك تقول للغضبان إذا اشتد غضبه ففعل ما لم يكن يفعله أو تكلم بما لم يكن يتكلم به قبل الغضب: هل أردت ذلك أو قصدته؟ فيحلف أنه ما أراده ولا قصده ولا كان له باختيار ويحلف أنه وقع بغير اختيار، ولا تنكر هذا، فإنك تجده من نفسك.

وتحقيق الأمر أن له فيه إرادة هو محمول عليها، حمله عليها الغضب، فهي كإرادة المكره، بل المكره أدخل في الإرادة كما تقدم وهذا يدل على أن الغضبان أولى بعدم الوقوع من المكره. يوضحه:

الوجه السادس وهو أن الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان، لكن المكره مقهور بغيره من خارج والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه. وقهر الإكراه يبطل حكم الأقوال التي أكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الأفعال، فإنه يُقتل إذا قَتل ويضمن إذا تلف، فكذلك قهر الغضب يبطل حكم أقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتلف شيئا ضمنه؛ هذا كله في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة. فأما من هو مريد له على تقدير عدم غضبه لاقتضاء السبب ذلك فليس من هذا الباب كمن زنت امرأته فغضب فطلقها لأنه لا يرى المقام مع زانية فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب بل التخلص من المقام مع زانية فهذا يقع طلاقه، فتأمل هذا الفرق فإنه حرف المسألة ونكتتها. وهذا بخلاف من خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق، ولكن حمله الغضب على أن شفى نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها وإطفأء لنار غضبه. يوضحه:

الوجه السابع وهو أن الغضبان يفعل أمورا من شق الثياب وإتلاف المال وغير ذلك مما لو أكره حتى يتكلم بالطلاق لم ينفذ طلاقه ولغت أقواله، فإذا فعل هو هذه الأمور علم أن الذي ألجأه إليها أعظم من الإكراه، فإن المكره لو أكره بها لم يفعلها وهذا قد فعلها. فعُلم أن المقتضي لفعلها فيه أولى من اقتضاء الإكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك وهذا واضح جدا.

فإن قيل: المكره إذا تكلم بما أكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا فليس كالمكره؛ قيل: لا ريب أنهما يفترقان في هذا الوجه ولكن لا يوجب ذلك أن يكون الغضبان مختارا مريدا لما قاله أو فعله بك أكره شيء إليه وهذا أمر لا يمكن دفعه.

فإن قيل: فما الحامل على ما يكره ويؤديه من غير أن يتوصل به إلى ما هو احب إليه منه؟ قيل: لما كان الغضب عدو العقل وهو له كالذئب للشاة قلما يتمكن منه الا اغتال عقله: فقصد إزالة الغضب وإطفاء ناره، وهذا مقصود صحيح في نفسه لكن لما غاب عنه عقله قصد إزالة ذلك مما فيه ضرر عليه ليخفف عن نفسه ما هو فيه من البلاء، ولولا ذلك لم يفعل ما لا يفعله في الرضا ولا تكلم بما لم يكن به، فهو قصد أن يستريح ويسكن ويبرد غضبه بتلك الأقوال والأفعال، وإن لم يدفع ذلك عنه بجملته تلك الشدة فإنها تخفف وتضعف. فاقتضت رحمة الشارع به أن ألغي أقواله في هذه الحال إن تمكن أن لا يترتب عليها أثرها وتكون كأقوال المبرسم والمجنون الهاجر ونحوهما. وأما الأفعال فلا يمكن إلغاء أثرها فرتب عليه موجب فعله.

فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو حلف في هذه الحال أن لا تنعقد يمينه؛ قيل: قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف واختاره من لا يرتاب في إمامته وجلالته وكان يقرن بالأئمة الكبار إسماعيل بن إسحاق القاضي.

فإن قيل: لكن المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والأئمة الاربعة اعتبار نذر اللجاج والغضب وإن تنازعوا في موجبه فأوجب مالك وأهل العراق الوفاء به كنذر التبرر. وخيَّر الليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل بين فعله وبين كفارة اليمين ولم يقل أحد منهم: إنه لا ينعقد وإنه لغو. وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الأيمان كلها ولم يحصل منها يمين الغضب دون يمين الرضا؛ قيل: نعم هذا حق، ولكن اليمين لما قصد صاحبها الحض أو المنع كانت الكفارة رافعة لما حصل بها من الضرر بخلاف الطلاق والعتاق فإنهما إتلاف محض لملك البضع والرقبة ولا كفارة فيهما، فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفع بكفارة ولا غيرها، وكما أنه يفرق في الإكراه بين نوع ونوع فالإكراه يبيح الأقوال عندنا وعند الجمهور، وكل قول أكره عليه بغير حق فإنه باطل. وأبو حنيفة يفرق بين نوع ونوع.

والإكراه على الأفعال ثلاثة أنواع. نوع لا يباح بالإكراه كقتل المعصوم وإتلاف أطرافه. ونوع يبيحه الإكراه بشرط الضمان كإتلاف مال المعصوم. ونوع مختلف فيه كالزنا والشرب والسرقة؛ وفيه روايتان عن الإمام أحمد. فما أمكن تلافيه أبيح بالإكراه كالأقوال والأموال وما كان ضرره كضرر الإكراه لم يبح به كالقتل فإنه ليس قتل المعصوم بحياة المكره أولى من العكس.

وأما الأفعال فالقرآن يدل على رفع الإثم فيها. كقوله تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

الوجه الثامن أن النبي ﷺ شرع للغضبان أن يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وأن يتوضأ وأن يتحول عن حالته، فإن كان قائما فليقعد وإذا كان قاعدا فليضطجع. قال: «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وهذا يدل على أنه محمول عليه من غيره وأن الشيطان يغضبه ليحمله بغضبه على فعل ما يحبه الشيطان وعلى التكلم به. وما يضاف إلى الشيطان مما يكره العبد ولا يحبه فلا يؤاخذ به الإنسان كالوسوسة والنسيان كما قال فتى موسى لموسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} فالله تعالى لا يؤاخذ بالوسوسة ولا بالنسيان إذ هما من أثر فعل الشيطان في القلب. وقد أخبر النبي ﷺ أن الغضب من الشيطان. فيكون أثره مضافا إليه أيضا فلا يؤاخذ به العبد كأثر النسيان. فإنه لو حلف أن لا يتكلم بكذا فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وإرادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه وإن كان قاصدا للكلام فإنه لم يقع منه إلا بقصده وإرادته. وهذه حال الغضبان فإنه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه، بل قصد الناسي للتكلم أظهر من قصد الغضبان. ولهذا يقول الناسي: قصدت أن أقول كذا وكذا والغضبان يحلف أنه لم يقصد.

الوجه التاسع: إن القصود في العقود معتبرة في عقدها كلها. والغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح كما ليس له قصد في قتل نفسه وولده وإتلاف ماله، فإنه يفعل في الغضب هذا ويقول هذا. فإذا لم يكن له قصد معتبر لم يصح طلاقه.

فإن قيل: هذا ينقص عليكم بالهازل فإنه يصح طلاقه وإن لم يكن له فيه قصد؛ قيل: الفرق بينهما أن الهازل قصد التكلم باللفظ وأراده رضًا واختيارا منه، لم يُحمل على التلفظ به، وغايته أن لم يُرد حكمه وموجبه. وذلك إلى الشارع ليس إليه. فالسبب الذي إليه قد أتى به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه، والسبب إلى المشرع ليس إليه فلا يصح اعتبار أحدهما بالآخر. وكيف يقاس الغضبان على المتخذ آيات الله هزؤا. وهذا من أفسد القياس.

الوجه العاشر أن الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء، فهو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان. فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه. وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يعلم ما يقول. وأما إذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لا قصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه؛ فهو متردد بين هذا وهذا وهذا، ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه أنه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره، فإن كان عاقلا لايختار هذا إلا ليدفع به ما هو أكره إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه. فإذا انتفى هذا أو هذا لم يكن مختارا لذلك. وهذا أمر يعلمه كل إنسان من نفسه. فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق، وأيهما كان فإنه لا ينفذ طلاقه.

فإن قيل: الفرق بينهما أن المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره وإن ملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه، وأما الغضبان فإنه يملك نفسه كما قال النبي: «ليس الشديد بالصرعة ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»؛ قيل: من الغضب ما يمكن صاحبه أن يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه، فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك. وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا استحكم وقهر لم يملك نفسه. وكذلك الغضب يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه؛ فهو اختياري في أوله اضطراري في نهايته كما قال القائل:

يا عاذلي والأمر في يده ** هلا عذلت وفي يدي الأمر

وهكذا السكران، سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا أتى بالسبب خرج الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر. فإذا كان السكر الذي هو مفرِّط بتعاطي أسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء صاحبه إذا طلق في هذه الحال مع كونه غير معذور في تعاطي سببه فلأن يعذر سكران الغضب الذي لم يفرِّط -مع شدة سكره على سكر الخمر- أولى وأحرى.

الوجه الحادي عشر وهو أن من الناس من إذا لم ينفذ غضبه قتله غضبه ومات أو مرض أو أغشي عليه. كما يذكر عن بعض العرب أن رجلا سبه فأراد أن يرد على الساب فأمسك جليس له بيده على فمه ثم رفع يده لما ظن أن غضبه قد سكن فقال: قتلتني رددت غضبي في جوفي، ومات من ساعته. فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل أو ظلم لغيره لم يعذر بذلك كالسكران. وأما إذا نفذ بقول فإنه يمكن إهدار قوله وأن لا يترتب أثره عليه كما أهدر الله سبحانه دعاءه ولم يرتب أثره عليه ولم يستجبه له. ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وإنما يجلد به إذا أتى به اختيارا وقصدا لقذفه. وهو قول قوي جدا. ويدل عليه أن الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله: هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك؛ ومن يحده في هذه الحال يفرق بين قذفه وطلاقه بأن القدف حق لآدمي وانتهاك لعرضه أو قدحه في نفسه فيجري مجرى إتلاف نفسه وماله، فلا يعذر فيه بالغضب لا سيما ولو عذر فيه بذلك لأمكن كل قاذف أن يقول في حال الغضب فيسقط الحد، بخلاف الطلاق فإنه يمكن أن يُدَيَّن فيما بينه وبين الله. والحق لا يعدوه.

والمقصود أنه إذا تكلم بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له بإخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها. فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة أن لا يؤاخذ بها ويلزم بموجبها، وهو لم يلزمه.

الوجه الثاني عشر أن قاعدة الشريعة أن العوارض النفسية لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا وإعمالا وإلغاءً. وهذا كعارض النسيان والخطأ والإكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول. ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره ويعذر بما لا يعذر به غيره لعدم تجرد القصد والإرادة ووجود الحامل على القول. ولهذا كان الصحابة يسأل أحدهم الناذر: في رضا قلت ذلك أم في غضب؟ فإن كان في غضب أمره بكفارة يمين لأنهم استدلوا بالغضب على أن مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فجعل عارض السكر مانعا من اعتبار قراءة السكران وذكره وصلاته كما جعله النبي ﷺ مانعا من صحة إقراره لمّا أمر باستنكاه من أقر بين يديه بالزنا. وجعله مانعا من تكفير من قال له ولأصحابه: هل أنتم الا عبيد لأبي. وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه وأهله. وجعل سبحانه الإكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل. وعارض الغضب قد يكون أقوى من كثير من هذه العوارض. فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك إن لم يكن أولى بالعذر منهم لم يكن دونهم. يوضحه:

الوجه الثالث عشر أن الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور:

أحداها أن يبلغه عن امرأته أمر يشتد غضبه لأجله ويظن أنه حق فيطلقها لأجله ثم يتبين أنها بريئة منه. فهذا في وقوع الطلاق به وجهان أصحهما أنه لا يقع طلاقه لإنه إنما طلقها لهذا السبب والعلة، والسبب كالشرط فكأنه قال إن كانت فعلت ذلك فهي طالق فإذا لم تفعله لم يوجد الشرط. وقد ذكر المسألة بعينها أبو الوفاء بن عقيل وذكر الشريف ابن أبي موسى في إرشاده فيما إذا قال أنت طالق أنْ دخلت الدار، بفتح الهمزة مرارا وهو يعرف العربية ثم تبين أنها لم تدخل، لم تطلق. ولا يقال هو ها هنا قد صرح بالتعليل بخلاف ما إذا لم يصرح به فإن هذا لا تأثير له فإنه قد أوقع الطلاق لعلة فإذا انتفت العلة تبينا أنه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها، سواء صرح بالعلة أو لم يصرح بها. وغاية الأمر أن تكون العلة بمنزلة الشرط، وهو لو قال: أنت طالق، وقال أردت إن فعلت كذا وكذا، دُين فيما بينه وبين الله تعالى. وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد فيما إذا كاتب عبده على عوض فأداه إليه فقال: أنت حر، ثم تبين أن العوض مستحق لم يعتق مع تصريحه بالحرية. فالطلاق أولى بعدم الوقوع في هذه الصورة.

الصورة الثانية أن يكون قد غضب عليها لأمر قد علم وقوعه منها فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول عقوبة لها على ذلك. فهذا يقع طلاقه إذ لو يقع هذا الطلاق لم يقع أكثر الطلاق فإنه غالبا يقع مع الرضا.

الصورة الثالثة: أن لا يقصد أمرا بعينه ولكن الغضب حمله على ذلك وغيّر عقله ومنعه كمال التصور والقصد، فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا. فهذا لا يقع به الطلاق أيضا كما لا يقع بالمبرسم والمجنون. يوضحه:

الوجه الرابع عشر أن المجنون والمبرسم والموسوس والهاجر قد يشعر أحدهم بما قاله ويستحي منه، وكذلك السكران. ولهذا لم يشترط أكثر الفقهاء في كونه سكران أن يعدم تمييزه بالكلية بل قد قال الإمام أحمد وغيره إنه الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره وفعله من فعل غيره. والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه فإن النبي ﷺ أمر أن يستنكه من أقر بالزنا مع أنه حاضر العقل والذهن يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم صحيح الحركة، ومع هذا فجوز النبي ﷺ أن يكون به سُكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه.

والمقصود أن هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكلية وليسوا كالعقلاء الذين لهم قصد صحيح فإن ما عرض لهم أوجب تغير العقل الذي منع صحة القصد فلم يبق أحدهم يقصد قصد العقلاء الذي مراده جلب ما ينفع ودفع ما يضر فلم يتصور أحدهم لوازم ما تكلم به ولا غاب عقله عن الشعورية بل هو ناقص التصور ضعيف القصد. والغضبان في حال غضبه قد يكون أسوأ حالا من هؤلاء وأشبه بالمجانين، ولهذا يقول ويفعل ما لا يقوله المجنون ولا يفعله.

فإن قيل: فهل يحجر عليه في هذه الحال كما يحجر على المجنون؟ قيل: لا، والفرق بينهما أن هذه الحالة لا تدوم فهو كالذي يجن أحيانا نادرا ثم يفيق فإنه لا يحجر عليه. نعم لو صدر منه تلك الحال قول عن غير قصد منه كان مثل القول الصادر عن المجنون في عدم ترتب أثره عليه ولا ريب أنه قد يحصل للغضبان إغماء وغشي وهو في هذه الحالة غير مكلف قطعا كما يحصل ذلك للمريض فيزيل تكليفه حال الإغماء حتى أن بعض الفقهاء لا يوجب عليه قضاء الصلاة في هذه الحالة إلحاقا بالمجنون، كما يقوله الشافعي. وأحمد يوجب عليه القضاء إلحاقا له بالنائم. وأبو حنيفة يفرق بين الطويل الزائد على اليوم والليلة فيلحقه بالمجنون، وبين القصير الذي هو دون ذلك فيلحقه بالنوم.

وقد ينكر كثير من الناس أن الغضب يزيل العقل ويبلغ بصاحبه إلى هذه الحالة فإنه لا يعرف من الغضب الا ما يجد من نفسه، وهو لم يعلم غضبا انتهى إلى هذه الحالة. وهذا غلط فإن الناس متفاوتون في الغضب تفاوتا عظيما؛ فمنه ما هو كالنشوة ومنه ما هو كالسكر ومنه ما هو كالجنون ومنه ما هو سريع الحصول سريع الزوال وعكسه ومنه سريع الحصول بطيء الزوال وعكسه، كما قسمه النبي ﷺ إلى هذه الأقسام.

وقوى الناس متفاوتة تفاوتا عظيما في ملك تقواهم عند الغضب والطمع والحزن والخوف والشهوة. فمنهم من يملك ذلك ويتصرف فيه ومنهم من يملكه ذلك ويتصرف فيه.

الوجه الخامس عشر أن الغضبان الذي قد انغلق عليه القصد والرأي وقد صار إلى الجنون والعارض أقرب منه إلى العقل الثابت أولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل المتلفظ بالطلاق في حال عقله وإن لم يرده بقلبه. وقد ألغى طلاق الهازل بعض الفقهاء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، حكاها أبو بكر عبد العزيز وغيره. وبه يقول بعض اصحاب مالك إذا قام دليل الهزل فلم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق. ولا ريب أن الغضبان أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا.

الوجه السادس عشر أن جماعة من أصحابنا لم يشترطوا في الجنون والمبرسم أن لا يكون ذاكرا لطلاقه، وإن كان ظاهر نص أحمد أنه متى ذكر الطلاق لزمه فإنه قال في رواية أبي طالب في المجنون يطلق، فقيل له لما أفاق: إنك طلقت امرأتك، فقال: أنا ذاكر أني طلقت ولم يكن عقلي معي؛ فقال: إذا كان يذكر أنه طلق فقد طلقت.

قال أبو محمد المقدسي: وهذا هو المنقول عن الإمام أحمد فيمن كان جنونه لذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه. فأما من كان جنونه لنشاف أو كان مبرسما فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع أن معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكر الطلاق إن شاء الله. انتهى كلامه.

ومعلوم أن الغضبان الممتلئ أسوأ حالا ممن جنونه من نشاف أو برسام، وأقل أحواله أن يكون مثله. يوضحه:

الوجه السابع عشر وهو أن الموسوس لا يقع طلاقه. صرح به أصحاب أبو حنيفة وغيرهم. وما ذاك إلا عدم صحة العقل والإرادة منه. فهكذا هذا.

الوجه الثامن عشر أنه لم يقل أحد إن مجرد التكلم بلفظ الطلاق موجب لوقوعه على أي حال كان، بل لا بد من أمر آخر وراء التكلم باللفظ.

فطائفة اشترطت أن يأتي به في حال التكليف فقط سواء قصده أو جرى على لسانه من غير قصد، سواء أكره عليه أو أتى به اختيارا. وهذا مذهب من يوقع طلاق المكره والطلاق الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه. وهو المنصوص عن أبي حنيفة في الموضعين.

وطائفة اشترطت مع ذلك أن يأتي باللفظ مختارا قاصدا له. وهو قول الجمهور الذين لا ينفدون طلاق المكره.

ثم منهم من اشترط مع ذلك أن يكون عالما بمعناه. فإن تكلم به اختيارا غير عارف بمعناه لم يلزمه حكمه. وهذا قول من يقول لا يلزم المكلف أحكام الأقوال حتى يكون عارفا بمدلولها, وهذا هو الصواب.

ومنهم من اشترط مع ذلك أن يكون مريدا لمعناه ناويا له؛ فإن لم ينو معناه ولم يرده لم يلزمه حكمه. وهذا قول من يقول: لا يلزم لصريح الطلاق النية، وقول من لا يوقع الطلاق الهازل. وهو قول في مذهب الإمام أحمد ومالك في المسألتين. فيشترط هؤلاء الرضا بالنطق اللساني والعلم بمعناه وإرادة مقتضاه.

ومنهم من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأوذنا فيه من جهة الشارع، وهو قول من لا يوقع الطلاق المحرم. وهو قول طائفة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وقال محمد [1] بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي: حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك.

وحسبك بهذا الإسناد إذا صح. رواه أبو محمد بن حزم قال: حدثنا يوسف بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا محمد بن عبد السلام - فذكره.

وهذا مذهب أفقه التابعين على الإطلاق سعيد بن المسيب. حكاه عنه الثعلبي في تفسير سورة الطلاق. وهو مذهب أفقه التابعين من أصحاب ابن عباس وهو طاوس. قال عبد الرزاق عن جريج عن عبد الله بن طاووس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا مما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق يطلقها طاهرا من غير جماع، وإذا استبان حملها.

وهذا مذهب خلاس بن عمرو. قال ابن حزم: حدثنا محمد بن سعيد بن ساث قال: حدثنا عباس بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن قاسم بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن من مهدي قال: حدثنا هشام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض فقال: لا يعتد بها.

وهذا قول أبي قلابة. قال ابن أبي شيبة: [حدثنا] عبد الرزاق عن معمر [عن أيوب] عن أبي قلابة قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض فلا يعتد بها.

وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه الواضح في أصول الفقه؛ صرح به في مسألة: النهي يقتضي الفساد. وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد.

وقال أبو جعفر الباقر: لا طلاق الا على سنة ولا طلاق إلا على طهر من غير جماع، وكل طلاق في غضب أو يمين أو عتق فليس بطلاق إلا لمن أراد الطلاق.

والمقصود أن هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق إذن الشارع فيه وما لم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ.

قال شيخ الإسلام: وقولهم أصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله ورسوله ويراه صحيحا لازما.

والمقصود أن أحدا لم يقل إن مجرد التكلم بالطلاق موجب لترتب أثره على أي وجه كان.

الوجه التاسع عشر: أن هذا مقتضى نص أحمد كما تقدم تفسيره الإغلاق في رواية حنبل بالغضب. وقال عبد الله ابنه في مسائله: سألت أبي عن المجنون إذا طلق في وقت زولان عقله، أيجوز؟ قال أبي: كل من كان صحيح العقل فزال عقله عن صحته فطلق فليس طلاقه بشيء.

فهذا عموم كلامه وذاك خاصه. فقد جعل تغير العقل عن صحته مانعا من وقوع الطلاق. ولا ريب أن إغلاق الغضب يُغير العقل عن صحته.

الوجه العشرون: أن الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال، وهي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد. أحدها: لا يصح ولا ينفذ لأن النهي يقتضي الفساد. والثاني: ينفذ. والثالث: إن عرض له الغضب بعدَ فَهْم الحكم نَفَذ حكمه، وإن عرض له قبل ذلك لم ينفذ، فإن الحاكم يجب أن يكون عالما عدلا. فمن نفَّذ حكمه قال: الغضب لا يمنع العلم والعدل، فقد حكم النبي ﷺ للزبير في شراج الحرة وهو غضبان. ومن لم ينفِّذ حكمه قال: الغضب يمنعه كمال المقصود وحسن القصد، فيمنعه العلم والعدل، ولا يصح القياس على النبي ﷺ فإنه معصوم في غضبه ورضاه، فكان إذا غضب لم يقل إلا حقا كما كان في رضاه كذلك. ومن فرق قال: إذا علم الحق قبل الغضب لم يمنعه الغضب من العلم وحينئذ فيمكنه أن ينفذ الحق الذي علمه، وإذا غضب قبل الفهم لم ينفذ حكمه لإمكان أن يحول الغضب بينه وبين الفهم. وهؤلاء يحتجون بقضية الزبير وان النبي ﷺ إنما عرض له الغضب بعد فهم الحكومة.

والمقصود أن الغضب إذا أثّر عند هؤلاء في بطلان الحكم علم أن كلام الغضبان غير كلام الراضي المختار وأن للغضب تاثيرا في ذلك.

الوجه الحادي والعشرون: أن وقع الطلاق حكم شرعي فيستدعي دليلا شرعيا، والدليل إما كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس يستوي فيه حكم الأصل والفرع؛ وليس شيء منها موجودا في مسألتنا. وإذا شئت قلت: الدليل إما نص أو معقول نص؛ وكلاهما منتف. وان شئت قلت: لو ثبت الوقوع لزم وجود دليله، واللازم منتف فالملزوم مثله

والوجه الثاني والعشرون: أن نكاح هذا مثبت بإجماع فلا يزول إلا بالإجماع مثله. وان شئت قلت: نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالإجماع والأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه.

الوجه الثالث والعشرون: أن جمهور العلماء يقولون إن طلاق الصبي المميز العاقل لا ينفذ ولا يصح. هذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، اختارها الشيخ أبو محمد، وهو قول إسحاق. مع كونه عارفا باللفظ وموجبه بكلماته اختيارا وقصدا وله قصد صحيح وإرادة صحيحة. وقد أمر الله سبحانه بابتلائه واختباره في تصرفاته. وقد نفَّذ عمر به الخطاب وصيته. واعتبر النبي ﷺ قصده واختياره في التخيير بين أبويه. فالغضبان الشديد الغضب الذي قد أغلق عليه باب القصد والعلم أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا بلا ريب.

فإن قيل: الغضبان مكلف وهذا غير مكلف لأن القلم مرفوع عنه؛ قيل: نعم الأمر كذلك، ولكن لا يلزم من كونه مكلفا أن يترتب الحكم على مجرد لفظة كما تقدم. كيف والمكره مكلف ولا يصح طلاقه والسكران مكلف والمريض مكلف، ولا يلزم من كون العبد مكلفا أن لا يعرض له حال يمنع اعتبار أقواله ونقص افعاله.

الوجه الرابع والعشرون: أن غاية التلفظ بالطلاق أن يكون جزء سبب، والحكم لا يتم إلا بعد وجود سببه وانتفاء مانعه. وليس مجرد التلفظ سببا تاما باتفاق الأئمة كما تقدم. وحينئذ فالقصد والعلم والتكليف إما أن تكون بقية أجزاء الكسب أو تكون شروطا في اقتضائه أو يكون عدمها مانعا من تأثيره. وعلى التقادير الثلاثة فلا يؤثر التكلم بالطلاق بدونها. وليس مع من أوقع طلاق الغضبان والسكران والمكره ومن جرى على لسانه بغير قصد منه إلا مجرد السبب أو جزؤه بدون شرطه وانتفاء مانعه، وذلك غير كاف في ثبوت الحكم. والله اعلم.

الوجه الخامس والعشرون: أنه لو سبق لسانه بالطلاق ولم يرده دُيِّنَ فيما بينه وبين الله تعالى، ويقبل منه ذلك في الحكم في إحدى الروايتين عن أحمد إلا أن تكذبه قرينة. والرواية الأخرى يُدين ولا يقبل في الحكم. وكذلك قال أصحاب الشافعي إذا سبق الطلاق إلى لسانه بغير قصد فهو لغو، ولكن لا تقبل دعوى سبق اللسان إلا إذا ظهرت قرينة تدل عليه، فقبلوا منه في الباطن دون الحكم إلا بقرينة. وكذلك قال أصحاب مالك: من سبق لسانه إلى الطلاق لم يقع عليه الطلاق، قالوا: ويقبل في الفتوى. وأبو حنيفة لا يرى سبق اللسان مانعا من وقوع الطلاق، وعنه في سبق اللسان في العتق روايتان. وقرر أصحابه بأن المرأة تملك بضعها لسبب يستوي فيه القصد وعدم القصد كالسكران والمكره والهازل وكالرضاع بالاتفاق فزوال البضع لا يختلف في سببه القصد وعدم القصد، بخلاف العتق فإن السبب الذي يملك به نفسه يختلف فيه القصد وعدمه. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة التسوية بينهما. ثم اختلف أصحابه فقالت طائفة هما سواء في الوقوع وقالت طائفة بل هما سواء في عدم الوقوع.

والمقصود أن سبق اللسان إلى الطلاق من غير قصد له مانع من وقوعه عند الجمهور. والغضبان إذا علم من نفسه أن لسانه سبقه بالطلاق من غير قصد جاز له الإقامة على نكاحه ويدين في الفتوى. وأما قبوله في الحكم فيخرج على الخلاف والأظهر أنه إن قامت قرينة ظاهرة تدل على صحة قوله قُبل في الحكم. والغضب الشديد من أقوى القرائن ولا سيما فإن كثيرا ممن يطلّق في شدة الغضب يحلف بالله جهد يمينه أنه لم يقصد الطلاق وإنما سبق لسانه، وحينئذ فالجمهور لا يوقعون عليه الطلاق كما صرح به أصحاب أحمد والشافعي ومالك. وفي قوله في القضاء ثلاثة أقوال أصحها أنه إن قامت قرينة ظاهرة على صحة قوله قُبل وإلا فلا.

فصل

ومما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين شتمته أو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا»

وفي مسند الإمام أحمد من حديث مسروق عن عائشة قالت: "دخل على النبي ﷺ رجلان فأغلظ لهما وسبهما، قالت فقلت: يا رسول الله لمن أصاب منك خيرا [ ما أصاب هذان منك خيرا ] قالت فقال: «أوما علمت ما عاهدت عليه ربي عز وجل قلت أيما مؤمن سببته أو جلدته أو لعنته فاجعلهما له مغفرة وعافية»

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه سمع النبي ﷺ يقول: «اللهم أيما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك قربة إليك يوم القيامة» وفي بعض ألفاظ الحديث: «إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن سببته أو لعنته فاجعلها له زكاة»

فلو كان النبي ﷺ مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وسأله أن يفعل بالمدعو عليه ضد ذلك، إذ من الممتنع اجتماع إرادة الضدين وقد صرح بإرادة أحدهما مشترطا على ربه فدل على عموم إرادته لما دعا به في حال الغضب. هذا وهو ﷺ معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا، وهو مالك لفظه بتصرفه. فكيف بمن لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه. وإذا كان الغضبان يتكلم بما لا يريده ولا يريد مضمونه فهو بمنزلة المكره الذي يلجأ إلى الكلام أو يتكلم به باختياره ولا يريد مضمونه والله اعلم.

فإن قيل: ما ذكرتم معارض بما يدل على وقوع الطلاق فإن الغضبان أتى بالسبب اختيارا وأراد في حال الغضب ترتب أثره عليه، ولا يضر عدم إرادته له في حال رضاه إذ الاعتبار بالإرادة إنما هو التلفظ بخلاف المكره فإنه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب أثره عليه، وبخلاف السكران المغلوب عقله فإنه غير مكلف، والغضبان مكلف مختار فلا وجه لإلغاء كلامه؛ فالجواب أن يقال إن اريد بالاختيار رضاه به وإيثاره له فليس بمختار. وإن أردتم أنه يوقع بمشيئته وإرادته التي هو غير راض بها ولا بأثرها فهذا بمجرده لا يوجب ترتب الأثر فإن هذا الاختيار ثابت للمكره والسكران، فإنا لا نشترط في السكران أن لا يفرق بين الأرض والسماء بل المشترط في عدم ترتب أثر أقواله أنه يهذي ويخلط في كلامه، وكذلك المحموم والمريض. وأبلغ من هذا الصبي المراهق للبلوغ إذ هو من أهل الإرادة والقصد الصحيح ثم لم يترتب على كلامه أثره. وكذلك من سبق لسانه بالطلاق ولم يرده فإنه لا يقع طلاقه وقد أتى باللفظ في حال الاختيار غير مكره ولكن لم يقصده. والغضبان وإن قصده فلا حكم لقصده في حال الغضب لما تقدم من الأدلة الدالة على ذلك. وقد صرح أصحابنا بأن من كان جنونه لنشاف أو برسام لا يقع طلاقه ويسقط حكم تصرفه إن كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية ولا يضره أن يذكر الطلاق وأنه أوقعه.

وما ذكرناه من دعاء النبي ﷺ ربه أن يجعل سبه لمن سبه في حال غضبه صريح في أنه [غير] مريد له إذ لو أراده واختاره لم يسأل ربه أن يفعل بالمدعو عليه ضد ما دعا به عليه، إذ لا يتصور إرادة ضدين في حالة واحدة. وهذا وحده كاف في المسألة.

فهذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر. ونحن من وراء القبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير إليها ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد والله المستعان وعليه التكلان.

وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وأصحابه وعترته وأنصاره صلاة دائمة بدوام ملك الله عز وجل.

هامش



في الأصل: عمر
اقرأ عن إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان في ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

تصنيف:
إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان

كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من 1 الي 2001 -

      مكتبة العلوم الشاملة https://sluntt.blogspot.com/ الاثنين، 21 فبراير 2022 كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من...