الرسالة التبوكية للإمام الحافظ ابن قيم الجوزية
قال الشيخ الإمام العالم العلامة محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية رضي الله عنه وأرضاه في كتابه الذي سيره من تبوك ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة بعد كلام له سبق :
أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه : محمد ﷺ وبعد :
فان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : { وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .
وقد اشتملت هده الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين :
قال الشيخ الإمام العالم العلامة محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية رضي الله عنه وأرضاه في كتابه الذي سيره من تبوك ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة بعد كلام له سبق :
أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه : محمد ﷺ وبعد :
فان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : { وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .
وقد اشتملت هده الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين :
=واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق فأما ما بينه وبين الخلق : من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولا سعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله وإذا افرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الآخر إما تضمنا وإما لزوما ودخوله فيه تضمنا اظهر لان البر جزء مسمى التقوى وكذلك التقوى فانه جزء مسمى البر وكون أحدهما لايدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند انفراد الآخر . و نظير هذا لفظ الإيمان والإسلام و الإيمان والعمل الصالح و الفقير والمسكين و الفسوق والعصيان و المنكر والفاحشة ونظائره كثيرة .
وهذه قاعدة جليلة من أحاط بها زالت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس .
ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدل به على غيره وهو البر والتقوى .
وهذه قاعدة جليلة من أحاط بها زالت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس .
ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدل به على غيره وهو البر والتقوى .
= فان حقيقة البر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير كما يدل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام ومنه البر بالضم لمنافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب ومنه رجل بار وبر وكرام برره والأبرار .
فالبر : كلمة جامعة لجميع أنواع الخير والكمال والمطلوب من العبد .
فالبر : كلمة جامعة لجميع أنواع الخير والكمال والمطلوب من العبد .
= وفي مقابلته الإثم وفي حديث النواس بن سمعان أن النبي ﷺ قال له : " جئت تسال عن البر والإثم " .
فالاثم كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يذم العبد عليها .
فيدخل في مسمى البر : الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة ولا ريب ان التقوى جزء هذا المعنى . وأكثر ما يعبر عن بر القلب وهو وجود طعم الإيمان فيه وحلاوته وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالإيمان . فإن للإيمان فرحة وحلاوة ولذة في القلب ، فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه وهو من القسم الذين قال الله عز وجل فيهم : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } .
فهؤلاء - على أصح القولين - مسلمون غير منافقين وليسوا بمؤمنين إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم فيباشرها حقيقة .
محتويات
1 معنى البر والتقوى
2 معنى الإثم والعدوان
3 في الهجرة إلى الله ورسوله
4 الموالاة لله
5 الهجرة زاد المسافر
معنى البر والتقوى
وقد جمع الله خصال البر في قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } .
فأخبر سبحانه أن البر هو الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها ، وأنها الشرائع الظاهرة من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنفقات الواجبة ، وأنها الأعمال القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد فتناولت هده الخصال جميع أقسام الدين حقائقه وشرائعه والأعمال المتعلقة بالجوارح والقلب وأصول الإيمان الخمس . ثم أخبر سبحانه عن هذا أنها هي خصال التقوى بعينها فقال : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } .
وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً ، أمراً ونهياً ، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده ، كما قال طلق بن حبيب : " إذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى " قالوا : وما التقوى ؟ قال : " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله " .
وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى .
فان كل عمل لابد له من مبدأ وغاية ، فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض ، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك بل لابد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب . ولهذا كثيرا ما يُقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي ﷺ : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا " و " ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً " ونظائره .
فقوله : " على نور من الله " إشارة إلى الأصل الأول وهو الإيمان الذي هو مصدر العمل والسبب الباعث عليه .
وقوله : " ترجو ثواب الله " إشارة أن الأصل الثاني وهو الاحتساب وهو الغاية التي لأجلها يوقع العمل ولها يقصد به .
ولا ريب أن هذا اسم لجميع أصول الإيمان وفروعه ، وأن البر داخل في هذا المسمى .
وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها ، فان البر مطلوب لذاته ، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم . وأما التقوى فهي الطريق الموصل إلى البر والوسيلة إليه ولفظها يدل على هذا فإنها فعلى ، من وقى تقي ، وكان أصلها وقوى ، فقلبوا الواو تاء ، كما قالوا تراث من الوراثة ، وتجاه من الوجه ، وتخمة من الوخمة ، ونظائرها . فلفظها دال على أنها من الوقاية فان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية والوقاية من باب دفع الضر فالتقوى والبر كالعافية والصحة .
وهذا باب شريف ينتفع به انتفاعاً عظيماً في فهم ألفاظ القرآن ودلالته ، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله فانه هو العلم النافع وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزل الله على رسوله.
فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين :
إحداهما أن يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه فيحكم له بحكم المراد من اللفظ فيساوي بين ما فرق الله بينهما .
والثانية أن يخرج من مسمى اللفظ بعض أفراده الداخلة تحته فيسلب عنه حكمه فيفرق بين ما جمع الله بينهما .
والذكي الفطن يتفطن لأفراد هذه القاعدة وأمثالها فيرى أن كثيرًا من الاختلاف أو أكثره إنما ينشأ من هذا الوضع وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم .
ومن هذا لفظ : الخمر فإنه اسم شامل لكل مسكر فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه وينفى عنها حكمه .
وكذلك لفظ : الميسر وإخراج بعض أنواع القمار منه .
وكذلك لفظ : النكاح وإدخال ما ليس بنكاح في مسماه .
وكذلك لفظ : الربا وإخراج بعض أنواعه منه وإدخال ما ليس بربا فيه .
وكذلك لفظ : الظلم والعدل والمعروف والمنكر ونظائره اكثر من أن تحصى …
والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى ، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علماً وعملاً .
فان العبد وحده لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائماً بعضه ببعضه ، معيناً بعضه لبعضه .
معنى الإثم والعدوان
ثم قال تعالى : { ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان } . والإثم والعدوان في جانب النهي نظير : البر والتقوى في جانب الأمر . والفرق بين الإثم والعدوان كالفرق ما بين محرم الجنس ومحرم القدر . فالإثم ما كان حراماً لجنسه ، والعدوان ما حرم لزيادة في قدر وتعدي ما أباح الله منه فالزنا والخمر والسرقة ونحوها : إثم . ونكاح الخامسة واستيفاء المجني عليه اكثر من حقه ونحوه وعدوان .
فالعدوان : هو تعدي حدود الله التي قال فيها : { تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } .
وقال في موضع آخر : { تلك حدود الله فلا تقربوها } فنهى عن تعديها في آية وعن قربانها في آية وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه وتارة لا تكون داخلة فيه فتكون لها حكم المقابلة فالاعتبار الأول نهى عن تعديها ، وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها .
فهذا حكم العبد فيما بينه وبين الناس وهو أن تكون مخالطته لهم تعاوناً على البر والتقوى علماً وعملاً .
وأما حاله فيما بينه وبين الله تعالى فهو إيثار طاعته وتجنب معصيته وهو قوله تعالى : { واتقوا الله } فأرشدت الآية إلى ذكر واجب العبد بينه وبين الخلق وواجبه بينه وبين الحق . ولا يتم له أداء الواجب الأول إلا بعزل نفسه من الوسط والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر ولا يتم له أداء الواجب الثاني إلا بعزل الخلق من البين ، والقيام له بالله إخلاصاً ومحبة وعبودية .
فينبغي التفطن لهذه الدقيقة التي كل خلل يدخل على العبد في أداء هذين الأمرين الواجبين إنما هو عدم مراعاتها علماً وعملاً وهذا معنى قول الشيخ عبد القادر - قدس الله روحه - : " كن مع الحق بلا خلق ، ومع الخلق بلا نفس ، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط ولم يزل أمره فرطا " .
والمقصود بهذه المقدمة ما بعدها .
في الهجرة إلى الله ورسوله
لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه ، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله ، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله ، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت ، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد ، إذ الهجرة هجرتان :
الهجرة الأولى : هجرة بالجسم من بلد إلى بلد ، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها .
والهجرة الثانية الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله ، وهذه هي المقصودة هنا . وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها .
وهي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته ، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له ، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى : { ففروا إلى الله } ، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه .
وتحت ( من ) و( إلى ) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد ، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر ، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده ، فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته ، وما لم يشأ لم يكن ، وامتنع وجوده لعدم مشيئته . فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شئ إلى شئ وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه .
ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ﷺ : " وأعوذ بك منك " وقوله : " لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك " ، فانه ليس في الوجود شئ يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقاً وإبداعا . فالفار والمستعيذ : فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه ، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه ، وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء ، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه ، مثل من يفر من مخلوق آخر أقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه ، فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره .
فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله : " أعوذ بك منك " و " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لبّ الكلام ومقصوده وبالله التوفيق
فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى ، ولهذا قال النبي ﷺ : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " . ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر .
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن : هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه ، وأصلها الحب والبغض ، فان المهاجر من شئ إلى شئ لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه ، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر . وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه ، وقد بلي بهؤلاء الثلاث ، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه ، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات .
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد ، فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل . وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً ، ولا يتحرك لها إرادة .
والذي يقضي منه العجب : أن المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح ، وهذه هجرة عارضة ، ربما لا تتعلق به في العمر أصلاً وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس فإنه لا يحصل فيها علما ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له ، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره . وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال . والله المستعان ، وبالله التوفيق ، لا اله غيره ولا رب سواه .
وأما الهجرة إلى رسول الله ﷺ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ، ومنهج لم تترك بنيَّات الطريق سوى رسمه ، ومحجة سفَت عليها السوافي فطمست رسومها ، وغارت عليها الأعادي فغّورت مناهلها وعيونها ، فسالكها غريب بين العباد ، فريد بين كل حي وناد ، بعيد على قرب المكان ، وحيد على كثرة الجيران ، مستوحش مما به يستأنسون ، مستأنس مما به يستوحشون ، مقيم إذا ظعنوا ، ظاعن إذا قطنوا ، منفرد في طريق طلبة ، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه ، فهو الكائن معهم بجسده ، البائن منهم بمقصده ، نامت في طلب الهدى أعينهم ، وما ليل مطيته بنائم ، وقعدوا عن الهجرة النبوية ، وهو في طلبها مشمر قائم ، يعيبونه بمخالفة آرائهم ، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم ، قد رجموا فيه الظنون ، وأحدقوا فيه العيون ، وتربصوا به ريب المنون { فتربصوا إنَّا معكم متربصون } ، { قال رب احكم بالحق ، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } .
نحن وإياكم نموت ، فما * افلح عند الحساب من ندما
والمقصود : أن هذه الهجرة النبوية شانها شديد . وطريقها على غير المشتاق بعيد .
بعيد على كسلان أو ذي ملالة * أما على المشتاق فهو قريب
ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ، ولكن أنت ظلامه ، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ، ولكن أنت غيمه وقتامه ومنهل عذب صاف وأنت كدره ، ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره .
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها ، وحاسب ما بينك وبين الله ، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها ؟
فجد هذه الهجرة : سفر النفس في كل مسالة من مسائل إلايمان ، ومنزل من منازل القلوب ، وحادثة من حوادث إلاحكام إلى معدن الهدى ، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي { لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته ، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات ، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعُده من أهل الريب والتهمات . فهذا حد هذه الهجرة .
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده ، القاطن في دار مرباه ومولده ، القائل : إنا على طريقة آبائنا سالكون ، وإنا بحبلهم متمسكون ، وأنا على آثارهم مقتدون ، وما لهذه الهجرة التي كلت عليهم ، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم ، معتذراً بأن رأيهم خير من رأيه لنفسه ، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنه وحدسه ، ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزوجه الملالة .
والمقصود : أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم ، وهي مقتضى " شهادة أن محمدا رسول الله ﷺ " كما أن الهجرة الأولى مقتضى " شهادة أن لا إله إلا الله " وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ، ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
قال قتادة : " كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون ومإذا اجبتم المرسلين ؟ " .
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين وقد قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسملوا تسليما } فأقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل - على أنه لا يثبت لهم الإيمان ، ولا يكونون من أهله ، حتى يحكموا رسول الله ﷺ في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين . فإن لفظة " ما " من صيغ العموم فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم . ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً - وهو الضيق والحصر - من حكمه ، بل يقبلوا حكمه بالإنشراح ، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخدونه على إغماض ، ويشربونه على قذى ، فإن هذا مناف للإيمان ، بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر .
ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله ، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها { بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } .
فسبحان الله ! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد ؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها ، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها ؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر .
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى { ويسلموا تسليما } فذكر الفعل مؤكداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين . وهو التسليم والخضوع له والإنقياد لما حكم به طوعا ورضاً ، وتسليما لا قهراً ومصابرة ، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهاً ، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شئ إليه ، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بإنه أولى به من نفسه وابر به منها واقدر على تخليصها . فمتى علم العبد هذا من رسول الله ﷺ واستسلم له ، وسلم إليه ، انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والإنقياد .
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه ، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني .
وكل يدعى وصلا لليلى * وليلى لا تقر لهم بذاك
وفرق بين علم الحب وحال الحب . فكثيراً ما بشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده ، وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخن بالمرض ، وبين الصحيح السليم ، وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها . وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده .
وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد :
أولها : تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله : { لا يؤمنون } وهذا منهج معروف في كلام العرب إذا أقسموا على شئ منفى صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية . ومثل ما في قول الصديق رضي الله عنه : " لاها الله ، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه " ، وقول الشاعر :
فلا وأبيك ابنه العامري * لايدعى القوم إني افـر
وقال الآخر :
فلا والله لا يلقى لما بي * ولا لما بهم أبداً دواء
وهذا في كلامهم اكثر من أن يذكر.
وتأمل جمل القسم التي في القرآن المصدرة بحرف النفي كيف تجد المقسم عليه منفياً ومتضمناً للنفي ، ولا يحزم هذا قوله تعالى فلا أُقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ، إنه لقرآن كريم } .
فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن : من أنه شعر أو كهانه أو أساطير الأولين ، صدر القول بأداة النفي ثم اثبت له ما قالوه . فتضمنت الآية أن ليس الأمر كما يزعمون ولكنه قرآن كريم .
ولهذا صرح بالأمرين : النفي والإثبات مثل قوله تعالى : { فلا اقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، انه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين ، وما صاحبكم بمجنون ، ولقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين ، وما هو بقول شيطان رجيم } ، وكذلك قوله : { لا اقسم بيوم القيامة ، ولا اقسم بالنفس اللوامة ، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ، بلى قادرين على أن نسوي بنانه } .
والمقصود : أن افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه .
وثانيها : تأكيده بنفس القسم .
وثالثها : تأكيده بالمقسم به ، وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته ، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة .
ورابعها : تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم .
وخامسها : تأكيد الفعل بالمصدر ، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم ، وإنه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من ابلغ أنواع التقرير .
وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الأولوية تتضمن أموراً :
منها : أن يكون احب إلى العبد من نفسه ، لان الأولوية أصلها الحب ، ونفس العبد أحب له من غيره ، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها وأحب إليه منها ، فبذلك يحصل له اسم الإيمان . ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه .
ومنها : أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً بل الحكم على نفسه للرسول ﷺ يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده ، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها .
فيا عجباً كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول ﷺ عن منصب التحكيم ورضي بحكم غيره واطمأن إليه اعظم من اطمئنانه إلى الرسول ﷺ وزعم أن الهدى لا يلتقي من مشكاته وإنما يتلقى من دلالة العقول ، وأن الذي جاء به لا يفيد اليقين ، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه وعما جاء به ، والحوالة في العلم النافع إلى غيره ، ذلك هو الضلال البعيد ولا سبيل إلى ثبوت هده الأولوية إلا بعزل كل ما سواه وتوليته في كل شئ وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به فان شهد له بالصحة قبله ، وإن شهد له بالبطلان رده . وان لم تتبين شهادته له لا بصحة ولا ببطلان جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب ووقفه حتى يتبين أي الأمرين أولى به .
فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة واستقام له علمه وعمله ، وأقبلت وجوه الحق إليه من كل جهة .
ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها ، والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم إليها . وعرض ما قاله الرسول عليها ، فان وافقها قبله ، وإن خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليّاً وإعراضاً ، كما قال تعالى : { وإن تلووا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } ، وقد اشتملت هده الآية على أسرار عظيمة يجب التنبيه على بعضها لشدة الحاجة إليها .
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ، وأن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ، فأمر سبحانه بالقيام بالقسط وهو العدل في هذه الآية ، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدواً كان أو ولياً وأحق ما قام له العبد بقصد الأقوال والآراء والمذاهب ، إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره .
فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله مناف لما بعث به رسوله .
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين اتباعه . ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده ، وأولئك هم الوارثون حقا ، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معياراً على الحق وميزاناً له ، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته ، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد ؟! وهو في هذا الباب اعظم فرضاً واكبر وجوباً .
ثم قال : { شهداء الله } الشاهد هو المخبر ، فان أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول ، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور ، وأمر تعالى أن يكون شهيداً له مع القيام بالقسط ، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط ، وان تكون لله لا لغيره ، وقال في الآية الأخرى : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } فتضمنت الآيتان أموراً أربعة .
أحدهما : القيام بالقسط .
الثاني : أن يكون لله .
الثالث : الشهادة بالقسط .
الرابع : أن تكون لله .
واختصت آية النساء بالقسط والشهادة لله ، وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط لسر عجيب من أسرار القرآن ليس هذا موضع ذكره .
ثم قال تعالى : { ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين } فأمر سبحانه أن يقام بالقسط ويشهد على كل أحد ولو كان أحب الناس إلى العبد ، فيقوم بالقسط على نفسه ووالديه الذين هما اصله وأقاربه الذين هم أخص به والصديق من سائر الناس ، فإن كان ما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه وأقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق ، ولاسيما إذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه قبلهم ، فإنه لا يقوم به في هذا الحال إلا من كان الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما ، وهذا يمتحن به العبد إيمانه فيعرف منزلة الإيمان من قلبه ومحله منه ، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يجفوه ، فإنه لا ينبغي أن يحمله بغضه لهم أن يحيف عليهم ، كما لا ينبغي أن يحمله حبه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط ، فلا يدخله ذلك البغض في باطل ولا يقصر به هذا الحب عن الحق . كما قال السلف : " العادل هو الذي إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل ، وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق " .
اشتملت الآيتان على هذين الحكمين : وهما القيام بالقسط والشهادة به على الأولياء والأعداء .
ثم قال تعالى { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } منكم هو ربهما ومولاهما وهما عبيده ، كما أنكم عبيده فلا تحابوا غنياً لغناه ، ولا فقيراً لفقره فإن الله أولى بهما منكم .
وقد يقال : فيه معنى آخر أحسن من هذا ، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير .
أما الغني فخوفاً على ماله ، وأما الفقير فلإعدامه وأنه لا شيء له فتتساهل ، النفوس في القيام عليه بالحق ، فقيل لهم : والله أولى بالغني والفقير منكم ، أعلم بهذا وأرحم بهذا ، فلا تتركوا أداء الحق والشهادة على غني ولا فقير .
ثم قال تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل . وقوله تعالى { أن تعدلوا } منصوب الموضع لأنه مفعول لأجله ، وتقديره عند البصريين : كراهية أن تعدلوا ، أو حذر أن تعدلوا ، فيكون اتباعكم للهوى كراهية العدل أو فراراً منه ، وعلى قول الكوفيين التقدير . أن لا تعدلوا ، وقول البصريين أحسن واظهر .
ثم قال تعالى : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ذكر سبحانه السببين الموجبين لكتمان الحق محذرا منهما ومتوعدا عليهما :
أحدهما : اللي والآخر : الإعراض ، فإن الحق إذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفعها طريقاً إلى دفعها أعرض عنها وأمسك عن ذكرها فكان شيطاناً أخرس ، وتارة يلويها ويحرفها ، اللي مثال الفتل وهو التحريف ، وهو نوعان : ليُّ في اللفظ وليُّ في المعنى ، فاللي في اللفظ أن يلفظ بها على وجه لا يستلزم الحق ، إما بزيادة لفظة أو نقصانها أو إبدالها بغيرها ، ولي في كيفية أدائها وإيهام السامع لفظاً وإرادة غيره ، كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسلام على النبي ﷺ وغيره فهذا أحد نوعي اللي .
والنوع الثاني منه : لَي المعنى وهو تحريفه وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم ، وبجهالة ما لم يرده أو يسقط منه لبعض المراد به ، ونحو هذا من لي المعاني ، فقال تعالى : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } .
ولما كان الشاهد مطالباً بأداء الشهادة على وجهها فلا يكتمها ولا يغيرها كان الإعراض نظير الكتمان . واللي نظير تغييرها وتبديلها ، فتأمل ما تحت هذه الآية من كنوز العلم .
والمقصود : أن الواجب الذي لا يتم الإيمان بل لا يحصل مسمى الإيمان إلا به ، مقابلة النصوص بالتلقي والقبول والإظهار لها ودعوة الخلق إليها ، ولا تقابل بالاعتراض تارة وباللي أخرى .
وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فدل هذا على انه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسالة من المسائل حكم طلبي أو خبري ، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه ، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً ، فدل على أن ذلك مناف للإيمان .
وقد حكى الشافعي رضي الله تعالى عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد ، ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه ، فإن الحجة الواجب إتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع فضلاً عن أن يعارض بها النصوص وتقدم عليها ، عياذاً بالله من الخذلان .
وقال تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } ، فأخبر سبحانه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها ، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه وليس هذا من باب دلالة المفهوم ، كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن أنه محتاج في تقريره الدلالة منه لا تقرير كون المفهوم حجة بل هذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها ، إذا ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه ، وإلا لم يكن شرطا له .
إذا ثبت هذا : فالآية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته ، وفي إعادة الفعل في قوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } دون الاكتفاء بالفعل الأول سر لطيف وفائدة جليلة سنذكرها عن قريب إن شاء الله تعالى .
وقوله تعالى : { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل } الفعل للمخاطبين وأصله فان تتولوا ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً . والمعنى أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم . كما قال رسول الله ﷺ : " من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم " . فإن تركتم أنتم ما حملتموه من الإيمان والطاعة فعليكم لا عليه ، فإنه لم يحمل إيمانكم وإنما حمل تبليغكم ، وإنما حمل أداء الرسالة إليكم { وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } ليس عليه هداهم وتوفيقهم .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير واحسن تأويلا } .
فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله ، وافتتح الآية بالنداء باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به ، كما يقال : يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله ، أحسن كما احسن الله إليك : ويا أيها العالم علم الناس ما ينفعهم ، ويا أيها الحاكم احكم بالحق ، ونظائره .
ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القرآن بالشرائع كقوله تعالى { يا آيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام } ، { يا آيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة } ، { يا آيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . ففي هذا إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا فإنه من موجبات الإيمان وتمامه .
ثم قال تعالى : { يا آيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة أولي الأمر ، وسلط عليهما عاملاً واحداً . وقد كان ربما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ولكن الواقع هنا في الآية المناسب .
وتحته سر لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وإن لم يكن مأموراً به بعينه في القرآن طاعة الرسول مفردة ومقرونة . فلا يتوهم متوهم أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه ، كما قال النبي ﷺ : " يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ، ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه . ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه .
أما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول ، لا طاعة مفردة مستقلة ، كما صح عن النبي ﷺ أنه قال : " على المرء السمع والطاعة فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله تعالى فإذا أمر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة " .
فتأمل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } ولم يقل : وإلى الرسول . فإن الرد إلى القرآن رد إلى الله والرسول ، فما حكم به الله تعالى هو بعينه حكم رسوله وما يحكم به الرسول ﷺ هو بعينه حكم الله . فادا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه يعني كتابة فقد رددتموه إلى رسوله . وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله ، وهذا من أسرار القرآن .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام احمد رحمه الله تعالى في أولي الأمر وعنه فيهم رحمه الله تعالى روايتان :
إحداهما : انهم العلماء ، والثانية : انهم الأمراء .
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله ، فان العلماء ولاته حفظا وبياناً وذباً عنه ورداً على من الحد فيه وزاغ عنه ، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فيالها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعاً لهم ، والأمراء ولاته قياماً وعناية وجهاداً وإلزاماً للناس به ، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الإنساني تبع لها ورعية .
ثم قال تعالى : { فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله ، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضادَّ أمر الله ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية ، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله ، ولهذا قال الله تعالى { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهذا مما ذكرنا آنفاً أنه شرط ينتفي المشروط بانتفائه ، فدل على أن من حَكّمَ غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجاً من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وحسبك بهذه الآية العاصمة القاصمة بياناً وشفاء فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما أمرت به .
قال الله تعالى { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم } [ الأنفال : 42 ] .
وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته والرد إلى سنته بعد وفاته .
ثم قال تعالى : { ذلك خيراً وأحسن تأويلا } أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولياء الأمر ورد ما تنازعتم فيه إلىَّ وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادَكم ، وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم واحسن عاقبة .
فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا وآجلاً . ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته ، وكل خير في العالم فانه بسبب طاعة الرسول . وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها ، فعاد شر الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط ، وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض فكذلك هو في الشر والألم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فإنما هو بسبب مخالفة الرسول ، ولأن طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الآمنين والكهف الذي من لجأ إليه كان من الناجين .
فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هو الجهل بما جاء به الرسول ﷺ والخروج عنه ، وهذا برهان قاطع على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول ﷺ علماً والقيام به عملا .
وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين :
أحدهما : دعوة الخلق إليه .
والثاني : صبره واجتهاده على تلك الدعوة .
فانحصر الكمال الإنساني على هذه المراتب الأربعة .
أحدهما : العلم بما جاء به الرسول ﷺ .
والثانية : العمل به .
والثالثة : نشره في الناس ودعوتهم إليه .
والرابعة : صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه .
ومن تطلعت همته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأراد اتباعهم فهذه طريقهم حقا :
فان شئت وصل القوم فاسلك سبيلهم * فقد وضحت للسالكين عياناً
وقال تعالى لرسوله ﷺ : { قل إن ضللت فإنما أضلُ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلى ربي انه سميع قريب } فهذا نص صريح في أن هدي الرسول ﷺ إنما يحصل بالوحي ، فيا عجبا ! كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة ؟! ولكن { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } ، فأي ضلال اعظم من ضلال من زعم أن الهداية لا تحصل بالوحي ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان ؟ وقول زيد وعمرو ولقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى والحمد لله رب العالمين .
وقال تعالى : { المص * كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتندر به وذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله ونهي عن اتباع غيره ، فما هو إلا اتباع المنزل . واتباع أولياء من دونه . فانه لم يجعل بينهما واسطة فكل من لا يتبع الوحي فإنما يتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به .
وقال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه ، يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخد فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني . وكان الشيطان للإنسان خذولا } فكل من اتخذ غير الرسول ، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول ﷺ فانه قائل هذه المقالة لا محالة . ولهذا هذا الخليل كنى عنه باسم فلان إذ لكل متبع أولياء من دون الله فلان وفلان . فهذا حال الخليلين المتخالين على خلاف طاعة الرسول ﷺ ومآل تلك الخلة إلى العداوة واللعنة كما قال الله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وقد ذكر حال هؤلاء الأتباع وحال من تبعوهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول . وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا } تمنى القوم طاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم ذلك واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك ، وانهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول ، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا } وفي بعض هذا عبرة للعاقل وموعظة شافية ، وبالله التوفيق .
وقال تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم انهم كانوا كافرين . قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفاً من النار . قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون . وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون . }
فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر .
وقوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } ذكر الصنفين المبطلين .
أحدهما : منشئ الباطل والفرية وواضعها وداعي الناس إليها .
والثاني : مكذب بالحق .
فالأول : كفره بالافتراء وإنشاء الباطل
والثاني : كفره بجحود الحق .
وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل . فان انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله وصد الناس عن الحق ، استحق تضعيف العذاب لكفره وشره .
ولهذا قال تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } فلما كفروا وصدوا عباده عن سبيله عذبهم عذابين : عذابا بكفرهم وعذابا بصدهم عن سبيله ، وحيث يذكر الكفر المجرد لا يعدد العذاب ، كقوله تعالى : { والكافرين لهم عذاب أليم } وقوله تعالى : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب يعني ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله ؟ قالوا : ضلوا عنا } زالوا وفارقوا وبطلت تلك الدعوة { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } ادخلوا في جملة هذه الأمم كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم } كل أمة متأخرة لأسلافها { ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذاباً ضعفاً من النار } ضاعفه عليهم بما أضلونا وصدونا عن طاعة رسلك ، قال الله تعالى : { لكل ضعف من الأتباع والمتبوعين بحسب ضلاله وكفره { ولكن لا تعلمون } لا تعلم كل طائفة بما فيه أختها من العذاب المضاعف { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } فإنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل وبينوا لكم الحق وحذروكم من ضلالنا ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا ، فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا وترك الحق الذي أتتكم به الرسل . فأي فضل كان لكم علينا ، وقد ضللتم كما ضللنا ، وتركتم الحق كما تركنا ، فضللتم انتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين . فأي فضل كان لكم علينا { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } فلله ما أشفاها من موعظة وما أبلغها من نصيحة لو صادفت من القلوب حياة فان هذه الآية وأمثالها مما يذكر قلوب السائرين إلى الله وأما أهل البطالة فليس عندهم من ذلك خبر .
الموالاة لله
فهذا حكم الأتباع والمتبوعين المشركين في الضلالة . وأما الأتباع المخالفون لمتبوعيهم ، العادلون عن طريقتهم الذين يزعمون أنهم لهم تبع وليسوا متبعين لطريقتهم ، فهم المذكورون في قوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا . كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } ، فهؤلاء المتبوعون كانوا على هدى وأتباعهم ادعوا أنهم كانوا على طريقتهم ومنهاجهم ، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقتهم ، يزعمون أنهم يحبونهم وأن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم ، فيتبرءون منهم يوم القيامة فإنهم اتخدوهم أولياء من دون الله وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم .
وهذه حال كل من اتخد من دون الله ورسوله وليجة وأولياء ، يوالي لهم ويعادي لهم ، ويرضى لهم ويغضب لهم فان أعماله كلها باطلة يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته ، ومحبته وبغضه ، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله وقطع تلك الأسباب ، فينقطع يوم القيامة كل وصلة ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى ، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله ، وتجريد عبادته له وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والإبعاد وتجريده متابعة رسوله وترك أقوال غيره ، وترك ما خالف ما جاء به والإعراض عنه وعدم الاعتناء به وتجريد متابعته تجريدا محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره ، فضلا عن الشركة بينه وبين غيره ، فضلا عن تقديم قول غيره عليه .
فهذا هو السبب الذي لا ينقطع بصاحبه ، وهذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه ، وهي نسبة العبودية المحضة وهي آخيته التي يحول ما يحول ثم إليها مرجعة :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبداً لأول مـنزل
وهذه هي النسبة التي تنفع العبد ، فلا ينفعه غيرها في الدور الثلاثة : أعني دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، فلا قوام له ولا عيش ولا نعيم ولا فلاح إلا بهذه النسبة . وهي السبب الواصل بين العبد وبين الله ولقد أحسن القائل :
إذا تقطع حبل الوصل بينهم * فللمحبين حبل غير منقطـع
وان تصدع شمل القوم بينهم * فللمحبين شمل غير متصدع
والمقصود أن الله سبحانه يقطع يوم القيامة الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها ، ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين الله فقط وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقيق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم وقد قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءاً منثورا } ، فهذه هي أعماله التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءاً منثورا . ولا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلاً ، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة : أن يرى سعيه كله ضائعاً لم ينتفع منه بشيء وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله ، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم .
فهدا حكم اتباع الأشقياء . فأما اتباع السعداء فنوعان :
اتباع لهم حكم الاستقلال وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } . فهؤلاء هم السعداء الذين ثبت لهم رضا الله عنهم وهم أصحاب رسول الله ﷺ وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة . ولا يختص ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط وإنما خص التابعين بمن رأوا الصحابة تخصيصا عرفياً ليتميزوا به عمن بعدهم فقيل : التابعون مطلقاً لذلك القرن فقط ، وإلا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وقيد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية بإحسان ليست مطلقة فتحصل بمجرد النية والإتباع في شيء والمخالفة في غيره ، ولكن تبعية مصاحبة الإحسان ، وأن الباء ها هنا للمصاحبة . والإحسان والمتابعة شرط في حصول رضاء الله عنهم وجناته ، وقد قال تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
فالأولون : هم الذين أدركوا رسول الله ﷺ وصحبوه . والآخرون : هم الذين لم يلحقوهم وهم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة فيكون التأخر وعدم اللحاق في الفضل والرتبة بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة والقولان كالمتلازمين فإن من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان فهؤلاء الصنفان هم السعداء . وأما من لم يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله ولم يرفع به رأساً فهو من الصنف الثالث وهم : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } .
وقد ذكر النبي ﷺ أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعث به من الهدى في قوله ﷺ : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في الدين فنفعه ما بعثني الله به و مثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .
فشبه ﷺ العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلا منهما سبب الحياة ، فالغيث سبب حياة الأبدان والعلم سبب حياة القلوب ، وشبه القلوب بالأودية كما في قوله تعالى : { أنزل من السماء ماءاً فسالت أودية بقدرها } ، وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث .
إحداها : أرض زكية قابلة للشراب والنبات ، فإذا أصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج ، فذلك مثل القلب الزكي الذكي ، فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه .
والثانية : أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع ، وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه ، فلا تصرف فيه ولا استنبط ، بل للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال النبي ﷺ : " فرب حامل فقه إلى من هو افقه ورب حامل فقه غير فقيه " .
فالأول : كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ما شاء .
والثاني : مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب ، ولكنه حافظ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه .
والأرض الثالثة : أرض قاع وهو المستوى الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء ، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه بشيء ، فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية ، وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تنبت ولا تحفظ ، وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولا يحسن يمسك مالاً .
فالأول : عالم معلم وداع إلى الله على بصيرة فهذا من ورثة الرسل .
والثاني : حافظ مؤد لما سمعه فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر .
والثالث : لا هذا ولا هذا فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأساً .
فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم منها قسمان قسم سعيد وقسم شقي .
الهجرة زاد المسافر
وأما النوع الثاني من الإتباع : فهم اتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا ، وإنما هم مع آبائهم تبع لهم ، وقال الله تعالى فيهم : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } . أخبر سبحانه انه الحق الذرية بآبائهم في الجنة كما اتبعهم إياهم في الإيمان ، ولما كان الذرية لا عمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } والضمير عائد إلى الذين آمنوا ، أي وما نقصناهم من عملهم بل رفعنا ذريتهم إلى درجتهم مع توفيتهم أجور أعمالهم فليست منزلتهم منزلة من لم يكن له عمل بل وفيناهم أجورهم فألحقنا بهم ذريتهم فوق ما يستحقون من أعمالهم .
ثم لما كان هذا الإلحاق في الثواب والدرجات فضلاً من الله فربما وقع في الوهم أن إلحاق الذرية أيضاً حاصل لهم في حكم العدل ، فلما اكتسبوا سيئات أوجبت عقوبة ، كان كل عامل رهيناً بكسبه لا يتعلق بغيره شيء فالإلحاق المذكور إنما هو في الفضل والثواب لا في العدل والعقاب وهذا نوع من أسرار القرآن وكنوزه التي يختص الله بفهمها من شاء .
فقد تضمنت هذه الآية أقسام الخلائق كلهم : أشقيائهم و سعدائهم ، السعداء المتبوعين والأتباع ، والأشقياء المتبوعين والإتباع . فعلى العاقل الناصح لنفسه أن ينظر في أي الأقسام هو ، ولا يغتر بالعادة ويخلد إلى البطالة فإن كان من قسم سعيد انتقل إلى ما هو فوقه وبذل جهده والله ولي التوفيق والنجاح . وإن كان من قسم شقي انتقل منه إلى القسم السعيد في زمن الإمكان قبل أن يقول يا ليتني اتخدت مع الرسول سبيلا .
والمقصود بهذا أن من أعظم التعاون على البر والتقوى والتعاون على سفر الهجرة إلى الله والرسول باليد واللسان والقلب والمساعدة والنصيحة تعليما وإرشاداً ومودة ، ومن كان هكذا مع عباد الله فكل خير إليه أسرع ، واقبل الله إليه بقلوب عباده وفتح على قلبه أبواب العلم ويسره لليسرى ، ومن كان بالضد فبالضد .
فإن قلت : قد أشرت إلى سفر عظيم وأمر جسيم فما زاد هذا السفر وما طريقه وما مركبه ؟
قلت : زاده العلم الموروث من خاتم الأنبياء ﷺ ولا زاد له سواه فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته وليقعد مع الخالفين . فرفقاء المتخلف البطالون أكثر من أن يحصوا ، فله أسوة بهم ، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئا كما قال تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتأسي بعضهم ببعض في العذاب ، فإن مصائب الدنيا إذا عمت صارت مسلاة ، وتأسى بعض المصابين ببعض كما قالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن * أسلي النفس عنه بالتأسي
فهذا الروح الحاصل من التأسي معدوم بين المشتركين في العذاب يوم القيامة .
وأما طريقه : فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع ، فلا يُنال بالمني ، ولن يدرك بالهوينا ، وإنما هو كما قيل :
فخض غمرات الموت واسمُ إلى العلا * لكي تدرك العز الرفيع الدائم
فلا خير في نفس تخاف من الردى * ولا همة تصبو إلى لوم لائم
ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين :
أحدهما : أن لا يصبو في الحق إلى لوم لائم فان اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه ويجعله صريعا في الأرض .
والثاني : أن تهون عليه نفسه في الله ، فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال فمتى خافت النفس تأخرت و أحجمت وأخلدت إلى الأرض ، ولا يتم له هذان الأمران إلا بالصبر ، فمن صبر قليلاً صارت تلك الأهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه ، فبينما هو يخاف منها إذ صارت اعظم أعوانه وخدمه ، وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه .
وأما مركبه فصدق اللجأ إلى الله وانقطاع إليه بكليته وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة إليه وصدق التوكل والإستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المسلوم المكسور الفارغ الذي لاشيء عنده فهو يتطلع إلى قيّمه ووليه أن يجده ويلم شعثه ، ويمده من فضله و يستره فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها .
ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات الله حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه ، وصار له التصرف ، وصار هو الأمير المطاع أمره ، فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنا وهو يباري الريح { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون } .
فان قلت : إنك قد أشرت إلى مقام عظيم فافتح لي بابه ، واكشف لي حجابه ، وكيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه ؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا ، فهل في البيان غير ما ذكروه ؟
قلت : سأضرب لك أمثالاً تحتذي عليها وتجعلها إماماً لك في هذا المقصد ، قال الله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً ، قال سلام قوم منكرون ، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم قال ألا تأكلون ، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ، قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم } .
فعهدى بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون وبشروه بغلام عليم ، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك . ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك .
فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار .
وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم . . .
وكيف جمعت الضيافة وحقوقها . . .
وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة . . .
وكيف تضمنت علما عظيماً من أعلام النبوة . . .
وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة . . .
وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها ثم أفصحت وقوعه . . .
وكيف تضمنت الأخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة . . .
وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما . . .
وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الآخر . . .
وتضمنت انه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة وهم المؤمنون بها . . .
وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها فلا ينتفع بتلك الآيات . . .
فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة : قال الله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام ، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام ، ولهذا قال بعض الناس : إن ( هل ) في مثل هذا الموضع بمعنى ( قد ) التي تقتضي التحقيق . ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ، ومعنى بديع ، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به ، وإحضار الذهن له صدر له الكلام بأداة الاستفهام لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به ، فتارة يصدره بألا ، وتارة يصدره بهل ، فقول : هل علمت ما كان من كيت وكيت ؟ إما مذكرا به ، وإما واعظاً له مخوفا ، وإما منبها على عظمه ما يخبر به ، وإما مقرراً له ، فقوله تعالى : { هل أتاك حديث موسى } و { هل أتاك نبأ الخصم } و { هل أتاك حديث الغاشية } و { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفتها ما تضمنته .
ففيه أمر آخر . وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة فانه من الغيب الذي لا تعمله أنت ولا قومك فهل أتاك من غير أعلامنا وإرسالنا وتعريفنا ؟ أم لم يأتك إلا من قبلنا ؟
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام ، وتأمل عظم موقعه من جميع موارده يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا . وقوله ضيف إبراهيم المكرمين متضمن لثنائه على خليله إبراهيم فإن في المكرمين قولين .
أحدهما : إكرام إبراهيم لهم ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف .
والثاني : انهم مكرمون عند الله كقوله تعالى : { بل عباد مكرمون } وهو متضمن أيضاً لتعظيم خليله ومدحه ، إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافاً له ، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم . وقوله : { فقالوا سلاما قال سلام } متضمن بمدح آخر لإبراهيم حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به ، فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره : سلمنا عليك سلاماً . وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره سلام دائم أو ثابت أو مستقر عليكم ، ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم والفعلية تقتضي التجدد والحدوث فكانت تحية إبراهيم أكمل واحسن . ثم قال { قوم منكرون } وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح .
إحداهما : أنه حذف المبتدأ والتقدير : انتم قوم منكرون ، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش . وكان النبي ﷺ لا يواجه أحدا بما يكرهه بل يقول : " وما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا " .
الثاني : قوله { قوم منكرون } فحذف فاعل الإنكار وهو الذي كان أنكرهم كما قال في موضع آخر ( نكرهم ) ولا ريب أن قوله ( منكرون ) ألطف من أن يقول أنكرتكم .
وقوله { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال إلا تأكلون } متضمن وجوها من المدح وآداب الضيافة وإكرام الضيف . منها قوله : { فراغ إلى أهله } والروغان الذهاب بسرعة واختفاء وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف ، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء ، وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمرأى منه ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ ، ويتناول الإناء بمرأى منه ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه فلفظة ( راغ ) تنفي هذين الأمرين . وفي قوله تعالى : { إلى أهله } مدح آخر لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله ، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ، ولا يذهب إلى غير أهله إذ قرى الضيف حاصل عندهم .
وقوله : { فجاء بعجل سمين } يتضمن ثلاثة أنواع من المدح :
أحدها : خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه .
الثاني : انه جاءهم بحيوان تام لم ياتهم ببعضه . ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا .
الثالث : انه سمين ليس بهمزول ، وهذا من نفائس الأموال ، ولد البقر السمين فإنهم يعجبون به ، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره . وقوله { إليهم } متضمن المدح وآداباً أخرى وهو إحضار الطعام إلى بين يدي الضيف ، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه .
وقوله { ألا تأكلون } فيه مدح وآداب أخر ، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله : { ألا تأكلون } وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف بخلاف من يقول : : ضعوا أيديكم في الطعام ، كلوا ، تقدموا ، ونحو هذا .
وقوله : { فأوجس منهم خيفة } لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفاً أن يكون معهم شر ، فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه وأنس به ، فلما علموا منه ذلك قالوا : { لا تخف وبشروه بغلام عليم } وهذا الغلام اسحق لا إسماعيل ، لأن امرأته عجبت من ذلك فقالت : عجوز عقيم ، لا يولد لمثلي ، فأنى لي بالولد ؟ وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر وكان بكره وأول ولده . وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } وهذه هي القصة نفسها .
وقوله تعالى : { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها } فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها ، إذ بادرت إلى الندبة فصكت الوجه عند هذا الإخبار . وقوله : { عجوز عقيم } فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة ، فإنها حذفت المبتدأ ولم تقل أنا عجوز عقيم ، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة لم تذكر غيره ، وأما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم وصرحت بالعجب .
وقوله تعالى { قالوا كذلك قال ربك } متضمن لاثبات صفة القول له . وقوله { إنه هو الحكيم العليم } متضمن لإثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والأمر ، فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته ، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته .
والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال ، فالعلم يتضمن الحياة و لوازم كمالها من القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام ، والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل والرحمة والإحسان والجود والبر ، ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها ، ويتضمن إرسال وإثبات الثواب والعقاب .
كل هذا العلم من اسمه الحكيم كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة ، والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلق عبثا وسُدى وباطلاً فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقدر والثواب والعقاب ، ولهذا كان اصح القولين أن المعاد يعلم بالعقل وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته .
ومن تأمل طريقة القرآن وجدها دالة على ذلك . وانه سبحانه يضرب لهم الأمثال المعقولة التي تدل على إمكان المعاد تارة ووقوعه أخرى ، فيذكر أدلة القدرة الدالة على إمكان المعاد وأدلة الحكمة المستلزمة لوقوعه .
ومن تأمل أدلة المعاد في القرآن وجدها كذلك مغنية بحمد الله عن غيرها ، كافية شافية موصلة إلى المطلوب بسرعة ، متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس . وإن ساعد التوفيق كتبت في ذلك سفراً كبيراً لما رأيت في الأدلة التي أرشد إليها القرآن من الشقاء والهدى وسرعة الإنصاف ، وحسن البيان ، والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها بما ينثلج له ، الصدر ويكثر معه اليقين ، بخلاف غيره من الأدلة فإنها على العكس من ذلك وليس هذا موضع التفصيل .
والمقصود : أن صدور الخلق والأمر عن علم الرب وحكمته . واختصت هذه القصة بذكر هذين الإسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة ، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلال بموجب الحكمة .
ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في إرسالهم لهلاك قوم لوط ، وإرسال الحجارة المسومة عليهم . وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله وإهلاك المكذبين لهم والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عياناً في هذا العالم ، وهذا من اعظم الأدلة الدالة على صدق رسله لصحة ما أخبروا به عن ربهم .
ثم قال تعالى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } ففرق بين الإسلام والإيمان هنا لسر اقتضاه الكلام ، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة فهو ، إخراج نجاة من العذاب و لا ريب إن هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرا وباطناً .
وقوله تعالى : { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم لأن امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت وهي مسلمة في الظاهر ، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجيين ، وقد اخبر سبحانه عن خيانة امرأة لوط ، وخيانتها أنها كانت تدل قومها على أضيافه وقلبها معهم ، وليست خيانة فاحشة فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهراً وليست من المؤمنين الناجيين .
ومن وضع دلالة القرآن وألفاظه مواضعها تبين له من أسراره وحكمة ما يبهر العقول ويعلم أنه تنزيل من حكيم حميد .
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو : أن الإسلام أعم من الإيمان فكيف استثناء الأعم من الأخص ، وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس وتبين أن المسلمين المستثنين مما وقع عليه فعل الوجود ، والمؤمنين غير مستثنين منه بل هم المخرجون الناجون .
وقوله تعالى : { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم } فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وأبقى آثارها دالة عليه وعلى صدق رسله إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ويخشى عذاب الله تعالى كما قال الله تعالى في موضع آخر { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } ، وقال تعالى : { سيذكر من يخشى } فان من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول : هؤلاء قوم أصابهم الدهر كما أصاب غيرهم ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة . وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ .
والمقصود بهذا إنما هو التنبيه والتمثيل على تفاوت الأفهام في معرفة القرآن واستنباط أسراره وآثار كنوزه ويعتبر بهذا غيره ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .
والمقصود أن القلب لما تحول لهذا السفر طلب رفيقاً يأنس به في السفر فلا يجد إلا معارضاً مناقضاً ، أو لائماً بالتأنيب مصرحاً ، أو فارغاً من هذه الحركة معرضاً ، وليت كل ما ترى هكذا فلقد أحسن إليك من خلاَّك وطريقك ولم يطرح شره عليك كما قال القائل :
انا لفي زمن ترك القبيح به * من أكثر الناس إحسان وإجمال
فإذا كان هذا المعروف من الناس فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالإعراض وترك اللائمة والإعتراض إلا ما عسى أن يقع نادراً فيكون غنيمة باردة لا قيمة لها . ولا ينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة بل يسير و لو وحيداً غريباً فانفراد العبد في طريق طلبة دليل على صدق المحبة .
ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى وسفر الهجرة إلى الله ورسوله ، وهو الذي قصد سطرها بكتابتها وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم . وشهد الله وكفى بالله شهيداً ولو توافي أحداً منهم لقابلها بالقبول ولبادر إلى تفهمها وعدّها من أفضل ما أهدى صاحب إلى صاحبه ، فإن غير هذا من جريانات الركب الخيرية وان تطلعت النفوس إليها ففائدتها قليلة وهي في غاية الرخص لكثرة جالبها ، وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم .
ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء ، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده ، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات ، فإنهم يقطعون عليه طريقه ، فليس لهذا السالك أنفع من تلك المرافقة ، وأوفق له من هذه المفارقة ، فقد قال بعض السلف : شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم . فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ، ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا ، حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخله معهم .
فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة ، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر ، وصار بين الناس غريباً وإن كان فيهم مشهوراً ونسيباً ، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه ، يقيم لهم المعاذير ما استطاع ، ويحضهم بجهده و طاقته سائراً فيهم بعينين : عين ناظرة إلى الأمر والنهى ، بها يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ، ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم . وعين ناظرة إلى القضاء والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر و لا يعود بنقض شرع ، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته ، وقفاً عند قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء حق الله فيهم والسلامة من شرهم . فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم و أخلاقهم .
فهذا ما منهم إليه ، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف ، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه ، وهو ما أمر الله به . وأما ما يلتقي به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الإنتقام لنفسه والانتصار لها .
فأي كمال للعبد وراء هذا ؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة ؟ فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم - أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها ، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس فهو خير له وإن شراً في الظاهر ، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف ولا يتولد منه إلا خيراً وان ورد في حالة شر وأذى ، كما قال الله تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } ، وقال تعالى لنبيه ﷺ : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله } وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق ، فإنهم إما يسيئوا في حق الله وفي حق رسوله ، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وإن أساءوا في حقي فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم ، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم ، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة ، فإذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه من أمرك فإن الله يحب المتوكلين .
فهذا وأمثاله من الأخلاق التي أدب الله بها رسوله ، وقال تعالى فيه { وإنك لعلى خلق عظيم } قالت عائشة رضي الله عنها: " كان خلقه القرآن " ، وهذا لا يتم إلا بثلاثة أشياء :
أحدها : أن يكون العود طيباً ، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر .
الثاني : أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الأمور تنافي الكمال ، فإن لم تقو النفس على قهرها و إلا لم تزل مغلوبة مقهورة .
الثالث : علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم ، والزجاجة والجوهرة .
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى ، وتمت لهم العناية .
والله سبحانه وتعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين
فالاثم كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يذم العبد عليها .
فيدخل في مسمى البر : الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة ولا ريب ان التقوى جزء هذا المعنى . وأكثر ما يعبر عن بر القلب وهو وجود طعم الإيمان فيه وحلاوته وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالإيمان . فإن للإيمان فرحة وحلاوة ولذة في القلب ، فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه وهو من القسم الذين قال الله عز وجل فيهم : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } .
فهؤلاء - على أصح القولين - مسلمون غير منافقين وليسوا بمؤمنين إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم فيباشرها حقيقة .
محتويات
1 معنى البر والتقوى
2 معنى الإثم والعدوان
3 في الهجرة إلى الله ورسوله
4 الموالاة لله
5 الهجرة زاد المسافر
معنى البر والتقوى
وقد جمع الله خصال البر في قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } .
فأخبر سبحانه أن البر هو الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها ، وأنها الشرائع الظاهرة من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنفقات الواجبة ، وأنها الأعمال القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد فتناولت هده الخصال جميع أقسام الدين حقائقه وشرائعه والأعمال المتعلقة بالجوارح والقلب وأصول الإيمان الخمس . ثم أخبر سبحانه عن هذا أنها هي خصال التقوى بعينها فقال : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } .
وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً ، أمراً ونهياً ، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده ، كما قال طلق بن حبيب : " إذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى " قالوا : وما التقوى ؟ قال : " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله " .
وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى .
فان كل عمل لابد له من مبدأ وغاية ، فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض ، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك بل لابد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب . ولهذا كثيرا ما يُقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي ﷺ : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا " و " ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً " ونظائره .
فقوله : " على نور من الله " إشارة إلى الأصل الأول وهو الإيمان الذي هو مصدر العمل والسبب الباعث عليه .
وقوله : " ترجو ثواب الله " إشارة أن الأصل الثاني وهو الاحتساب وهو الغاية التي لأجلها يوقع العمل ولها يقصد به .
ولا ريب أن هذا اسم لجميع أصول الإيمان وفروعه ، وأن البر داخل في هذا المسمى .
وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها ، فان البر مطلوب لذاته ، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم . وأما التقوى فهي الطريق الموصل إلى البر والوسيلة إليه ولفظها يدل على هذا فإنها فعلى ، من وقى تقي ، وكان أصلها وقوى ، فقلبوا الواو تاء ، كما قالوا تراث من الوراثة ، وتجاه من الوجه ، وتخمة من الوخمة ، ونظائرها . فلفظها دال على أنها من الوقاية فان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية والوقاية من باب دفع الضر فالتقوى والبر كالعافية والصحة .
وهذا باب شريف ينتفع به انتفاعاً عظيماً في فهم ألفاظ القرآن ودلالته ، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله فانه هو العلم النافع وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزل الله على رسوله.
فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين :
إحداهما أن يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه فيحكم له بحكم المراد من اللفظ فيساوي بين ما فرق الله بينهما .
والثانية أن يخرج من مسمى اللفظ بعض أفراده الداخلة تحته فيسلب عنه حكمه فيفرق بين ما جمع الله بينهما .
والذكي الفطن يتفطن لأفراد هذه القاعدة وأمثالها فيرى أن كثيرًا من الاختلاف أو أكثره إنما ينشأ من هذا الوضع وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم .
ومن هذا لفظ : الخمر فإنه اسم شامل لكل مسكر فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه وينفى عنها حكمه .
وكذلك لفظ : الميسر وإخراج بعض أنواع القمار منه .
وكذلك لفظ : النكاح وإدخال ما ليس بنكاح في مسماه .
وكذلك لفظ : الربا وإخراج بعض أنواعه منه وإدخال ما ليس بربا فيه .
وكذلك لفظ : الظلم والعدل والمعروف والمنكر ونظائره اكثر من أن تحصى …
والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى ، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علماً وعملاً .
فان العبد وحده لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائماً بعضه ببعضه ، معيناً بعضه لبعضه .
معنى الإثم والعدوان
ثم قال تعالى : { ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان } . والإثم والعدوان في جانب النهي نظير : البر والتقوى في جانب الأمر . والفرق بين الإثم والعدوان كالفرق ما بين محرم الجنس ومحرم القدر . فالإثم ما كان حراماً لجنسه ، والعدوان ما حرم لزيادة في قدر وتعدي ما أباح الله منه فالزنا والخمر والسرقة ونحوها : إثم . ونكاح الخامسة واستيفاء المجني عليه اكثر من حقه ونحوه وعدوان .
فالعدوان : هو تعدي حدود الله التي قال فيها : { تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } .
وقال في موضع آخر : { تلك حدود الله فلا تقربوها } فنهى عن تعديها في آية وعن قربانها في آية وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه وتارة لا تكون داخلة فيه فتكون لها حكم المقابلة فالاعتبار الأول نهى عن تعديها ، وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها .
فهذا حكم العبد فيما بينه وبين الناس وهو أن تكون مخالطته لهم تعاوناً على البر والتقوى علماً وعملاً .
وأما حاله فيما بينه وبين الله تعالى فهو إيثار طاعته وتجنب معصيته وهو قوله تعالى : { واتقوا الله } فأرشدت الآية إلى ذكر واجب العبد بينه وبين الخلق وواجبه بينه وبين الحق . ولا يتم له أداء الواجب الأول إلا بعزل نفسه من الوسط والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر ولا يتم له أداء الواجب الثاني إلا بعزل الخلق من البين ، والقيام له بالله إخلاصاً ومحبة وعبودية .
فينبغي التفطن لهذه الدقيقة التي كل خلل يدخل على العبد في أداء هذين الأمرين الواجبين إنما هو عدم مراعاتها علماً وعملاً وهذا معنى قول الشيخ عبد القادر - قدس الله روحه - : " كن مع الحق بلا خلق ، ومع الخلق بلا نفس ، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط ولم يزل أمره فرطا " .
والمقصود بهذه المقدمة ما بعدها .
في الهجرة إلى الله ورسوله
لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه ، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله ، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله ، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت ، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد ، إذ الهجرة هجرتان :
الهجرة الأولى : هجرة بالجسم من بلد إلى بلد ، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها .
والهجرة الثانية الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله ، وهذه هي المقصودة هنا . وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها .
وهي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته ، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له ، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى : { ففروا إلى الله } ، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه .
وتحت ( من ) و( إلى ) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد ، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر ، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده ، فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته ، وما لم يشأ لم يكن ، وامتنع وجوده لعدم مشيئته . فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شئ إلى شئ وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه .
ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ﷺ : " وأعوذ بك منك " وقوله : " لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك " ، فانه ليس في الوجود شئ يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقاً وإبداعا . فالفار والمستعيذ : فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه ، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه ، وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء ، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه ، مثل من يفر من مخلوق آخر أقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه ، فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره .
فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله : " أعوذ بك منك " و " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لبّ الكلام ومقصوده وبالله التوفيق
فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى ، ولهذا قال النبي ﷺ : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " . ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر .
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن : هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه ، وأصلها الحب والبغض ، فان المهاجر من شئ إلى شئ لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه ، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر . وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه ، وقد بلي بهؤلاء الثلاث ، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه ، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات .
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد ، فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل . وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً ، ولا يتحرك لها إرادة .
والذي يقضي منه العجب : أن المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح ، وهذه هجرة عارضة ، ربما لا تتعلق به في العمر أصلاً وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس فإنه لا يحصل فيها علما ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له ، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره . وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال . والله المستعان ، وبالله التوفيق ، لا اله غيره ولا رب سواه .
وأما الهجرة إلى رسول الله ﷺ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ، ومنهج لم تترك بنيَّات الطريق سوى رسمه ، ومحجة سفَت عليها السوافي فطمست رسومها ، وغارت عليها الأعادي فغّورت مناهلها وعيونها ، فسالكها غريب بين العباد ، فريد بين كل حي وناد ، بعيد على قرب المكان ، وحيد على كثرة الجيران ، مستوحش مما به يستأنسون ، مستأنس مما به يستوحشون ، مقيم إذا ظعنوا ، ظاعن إذا قطنوا ، منفرد في طريق طلبة ، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه ، فهو الكائن معهم بجسده ، البائن منهم بمقصده ، نامت في طلب الهدى أعينهم ، وما ليل مطيته بنائم ، وقعدوا عن الهجرة النبوية ، وهو في طلبها مشمر قائم ، يعيبونه بمخالفة آرائهم ، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم ، قد رجموا فيه الظنون ، وأحدقوا فيه العيون ، وتربصوا به ريب المنون { فتربصوا إنَّا معكم متربصون } ، { قال رب احكم بالحق ، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } .
نحن وإياكم نموت ، فما * افلح عند الحساب من ندما
والمقصود : أن هذه الهجرة النبوية شانها شديد . وطريقها على غير المشتاق بعيد .
بعيد على كسلان أو ذي ملالة * أما على المشتاق فهو قريب
ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ، ولكن أنت ظلامه ، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ، ولكن أنت غيمه وقتامه ومنهل عذب صاف وأنت كدره ، ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره .
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها ، وحاسب ما بينك وبين الله ، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها ؟
فجد هذه الهجرة : سفر النفس في كل مسالة من مسائل إلايمان ، ومنزل من منازل القلوب ، وحادثة من حوادث إلاحكام إلى معدن الهدى ، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي { لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته ، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات ، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعُده من أهل الريب والتهمات . فهذا حد هذه الهجرة .
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده ، القاطن في دار مرباه ومولده ، القائل : إنا على طريقة آبائنا سالكون ، وإنا بحبلهم متمسكون ، وأنا على آثارهم مقتدون ، وما لهذه الهجرة التي كلت عليهم ، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم ، معتذراً بأن رأيهم خير من رأيه لنفسه ، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنه وحدسه ، ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزوجه الملالة .
والمقصود : أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم ، وهي مقتضى " شهادة أن محمدا رسول الله ﷺ " كما أن الهجرة الأولى مقتضى " شهادة أن لا إله إلا الله " وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ، ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
قال قتادة : " كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون ومإذا اجبتم المرسلين ؟ " .
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين وقد قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسملوا تسليما } فأقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل - على أنه لا يثبت لهم الإيمان ، ولا يكونون من أهله ، حتى يحكموا رسول الله ﷺ في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين . فإن لفظة " ما " من صيغ العموم فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم . ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً - وهو الضيق والحصر - من حكمه ، بل يقبلوا حكمه بالإنشراح ، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخدونه على إغماض ، ويشربونه على قذى ، فإن هذا مناف للإيمان ، بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر .
ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله ، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها { بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } .
فسبحان الله ! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد ؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها ، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها ؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر .
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى { ويسلموا تسليما } فذكر الفعل مؤكداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين . وهو التسليم والخضوع له والإنقياد لما حكم به طوعا ورضاً ، وتسليما لا قهراً ومصابرة ، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهاً ، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شئ إليه ، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بإنه أولى به من نفسه وابر به منها واقدر على تخليصها . فمتى علم العبد هذا من رسول الله ﷺ واستسلم له ، وسلم إليه ، انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والإنقياد .
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه ، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني .
وكل يدعى وصلا لليلى * وليلى لا تقر لهم بذاك
وفرق بين علم الحب وحال الحب . فكثيراً ما بشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده ، وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخن بالمرض ، وبين الصحيح السليم ، وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها . وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده .
وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد :
أولها : تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله : { لا يؤمنون } وهذا منهج معروف في كلام العرب إذا أقسموا على شئ منفى صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية . ومثل ما في قول الصديق رضي الله عنه : " لاها الله ، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه " ، وقول الشاعر :
فلا وأبيك ابنه العامري * لايدعى القوم إني افـر
وقال الآخر :
فلا والله لا يلقى لما بي * ولا لما بهم أبداً دواء
وهذا في كلامهم اكثر من أن يذكر.
وتأمل جمل القسم التي في القرآن المصدرة بحرف النفي كيف تجد المقسم عليه منفياً ومتضمناً للنفي ، ولا يحزم هذا قوله تعالى فلا أُقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ، إنه لقرآن كريم } .
فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن : من أنه شعر أو كهانه أو أساطير الأولين ، صدر القول بأداة النفي ثم اثبت له ما قالوه . فتضمنت الآية أن ليس الأمر كما يزعمون ولكنه قرآن كريم .
ولهذا صرح بالأمرين : النفي والإثبات مثل قوله تعالى : { فلا اقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، انه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين ، وما صاحبكم بمجنون ، ولقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين ، وما هو بقول شيطان رجيم } ، وكذلك قوله : { لا اقسم بيوم القيامة ، ولا اقسم بالنفس اللوامة ، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ، بلى قادرين على أن نسوي بنانه } .
والمقصود : أن افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه .
وثانيها : تأكيده بنفس القسم .
وثالثها : تأكيده بالمقسم به ، وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته ، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة .
ورابعها : تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم .
وخامسها : تأكيد الفعل بالمصدر ، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم ، وإنه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من ابلغ أنواع التقرير .
وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الأولوية تتضمن أموراً :
منها : أن يكون احب إلى العبد من نفسه ، لان الأولوية أصلها الحب ، ونفس العبد أحب له من غيره ، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها وأحب إليه منها ، فبذلك يحصل له اسم الإيمان . ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه .
ومنها : أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً بل الحكم على نفسه للرسول ﷺ يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده ، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها .
فيا عجباً كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول ﷺ عن منصب التحكيم ورضي بحكم غيره واطمأن إليه اعظم من اطمئنانه إلى الرسول ﷺ وزعم أن الهدى لا يلتقي من مشكاته وإنما يتلقى من دلالة العقول ، وأن الذي جاء به لا يفيد اليقين ، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه وعما جاء به ، والحوالة في العلم النافع إلى غيره ، ذلك هو الضلال البعيد ولا سبيل إلى ثبوت هده الأولوية إلا بعزل كل ما سواه وتوليته في كل شئ وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به فان شهد له بالصحة قبله ، وإن شهد له بالبطلان رده . وان لم تتبين شهادته له لا بصحة ولا ببطلان جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب ووقفه حتى يتبين أي الأمرين أولى به .
فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة واستقام له علمه وعمله ، وأقبلت وجوه الحق إليه من كل جهة .
ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها ، والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم إليها . وعرض ما قاله الرسول عليها ، فان وافقها قبله ، وإن خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليّاً وإعراضاً ، كما قال تعالى : { وإن تلووا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } ، وقد اشتملت هده الآية على أسرار عظيمة يجب التنبيه على بعضها لشدة الحاجة إليها .
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ، وأن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ، فأمر سبحانه بالقيام بالقسط وهو العدل في هذه الآية ، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدواً كان أو ولياً وأحق ما قام له العبد بقصد الأقوال والآراء والمذاهب ، إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره .
فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله مناف لما بعث به رسوله .
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين اتباعه . ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده ، وأولئك هم الوارثون حقا ، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معياراً على الحق وميزاناً له ، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته ، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد ؟! وهو في هذا الباب اعظم فرضاً واكبر وجوباً .
ثم قال : { شهداء الله } الشاهد هو المخبر ، فان أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول ، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور ، وأمر تعالى أن يكون شهيداً له مع القيام بالقسط ، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط ، وان تكون لله لا لغيره ، وقال في الآية الأخرى : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } فتضمنت الآيتان أموراً أربعة .
أحدهما : القيام بالقسط .
الثاني : أن يكون لله .
الثالث : الشهادة بالقسط .
الرابع : أن تكون لله .
واختصت آية النساء بالقسط والشهادة لله ، وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط لسر عجيب من أسرار القرآن ليس هذا موضع ذكره .
ثم قال تعالى : { ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين } فأمر سبحانه أن يقام بالقسط ويشهد على كل أحد ولو كان أحب الناس إلى العبد ، فيقوم بالقسط على نفسه ووالديه الذين هما اصله وأقاربه الذين هم أخص به والصديق من سائر الناس ، فإن كان ما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه وأقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق ، ولاسيما إذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه قبلهم ، فإنه لا يقوم به في هذا الحال إلا من كان الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما ، وهذا يمتحن به العبد إيمانه فيعرف منزلة الإيمان من قلبه ومحله منه ، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يجفوه ، فإنه لا ينبغي أن يحمله بغضه لهم أن يحيف عليهم ، كما لا ينبغي أن يحمله حبه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط ، فلا يدخله ذلك البغض في باطل ولا يقصر به هذا الحب عن الحق . كما قال السلف : " العادل هو الذي إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل ، وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق " .
اشتملت الآيتان على هذين الحكمين : وهما القيام بالقسط والشهادة به على الأولياء والأعداء .
ثم قال تعالى { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } منكم هو ربهما ومولاهما وهما عبيده ، كما أنكم عبيده فلا تحابوا غنياً لغناه ، ولا فقيراً لفقره فإن الله أولى بهما منكم .
وقد يقال : فيه معنى آخر أحسن من هذا ، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير .
أما الغني فخوفاً على ماله ، وأما الفقير فلإعدامه وأنه لا شيء له فتتساهل ، النفوس في القيام عليه بالحق ، فقيل لهم : والله أولى بالغني والفقير منكم ، أعلم بهذا وأرحم بهذا ، فلا تتركوا أداء الحق والشهادة على غني ولا فقير .
ثم قال تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل . وقوله تعالى { أن تعدلوا } منصوب الموضع لأنه مفعول لأجله ، وتقديره عند البصريين : كراهية أن تعدلوا ، أو حذر أن تعدلوا ، فيكون اتباعكم للهوى كراهية العدل أو فراراً منه ، وعلى قول الكوفيين التقدير . أن لا تعدلوا ، وقول البصريين أحسن واظهر .
ثم قال تعالى : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ذكر سبحانه السببين الموجبين لكتمان الحق محذرا منهما ومتوعدا عليهما :
أحدهما : اللي والآخر : الإعراض ، فإن الحق إذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفعها طريقاً إلى دفعها أعرض عنها وأمسك عن ذكرها فكان شيطاناً أخرس ، وتارة يلويها ويحرفها ، اللي مثال الفتل وهو التحريف ، وهو نوعان : ليُّ في اللفظ وليُّ في المعنى ، فاللي في اللفظ أن يلفظ بها على وجه لا يستلزم الحق ، إما بزيادة لفظة أو نقصانها أو إبدالها بغيرها ، ولي في كيفية أدائها وإيهام السامع لفظاً وإرادة غيره ، كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسلام على النبي ﷺ وغيره فهذا أحد نوعي اللي .
والنوع الثاني منه : لَي المعنى وهو تحريفه وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم ، وبجهالة ما لم يرده أو يسقط منه لبعض المراد به ، ونحو هذا من لي المعاني ، فقال تعالى : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } .
ولما كان الشاهد مطالباً بأداء الشهادة على وجهها فلا يكتمها ولا يغيرها كان الإعراض نظير الكتمان . واللي نظير تغييرها وتبديلها ، فتأمل ما تحت هذه الآية من كنوز العلم .
والمقصود : أن الواجب الذي لا يتم الإيمان بل لا يحصل مسمى الإيمان إلا به ، مقابلة النصوص بالتلقي والقبول والإظهار لها ودعوة الخلق إليها ، ولا تقابل بالاعتراض تارة وباللي أخرى .
وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فدل هذا على انه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسالة من المسائل حكم طلبي أو خبري ، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه ، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً ، فدل على أن ذلك مناف للإيمان .
وقد حكى الشافعي رضي الله تعالى عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد ، ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه ، فإن الحجة الواجب إتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع فضلاً عن أن يعارض بها النصوص وتقدم عليها ، عياذاً بالله من الخذلان .
وقال تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } ، فأخبر سبحانه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها ، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه وليس هذا من باب دلالة المفهوم ، كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن أنه محتاج في تقريره الدلالة منه لا تقرير كون المفهوم حجة بل هذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها ، إذا ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه ، وإلا لم يكن شرطا له .
إذا ثبت هذا : فالآية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته ، وفي إعادة الفعل في قوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } دون الاكتفاء بالفعل الأول سر لطيف وفائدة جليلة سنذكرها عن قريب إن شاء الله تعالى .
وقوله تعالى : { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل } الفعل للمخاطبين وأصله فان تتولوا ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً . والمعنى أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم . كما قال رسول الله ﷺ : " من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم " . فإن تركتم أنتم ما حملتموه من الإيمان والطاعة فعليكم لا عليه ، فإنه لم يحمل إيمانكم وإنما حمل تبليغكم ، وإنما حمل أداء الرسالة إليكم { وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } ليس عليه هداهم وتوفيقهم .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير واحسن تأويلا } .
فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله ، وافتتح الآية بالنداء باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به ، كما يقال : يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله ، أحسن كما احسن الله إليك : ويا أيها العالم علم الناس ما ينفعهم ، ويا أيها الحاكم احكم بالحق ، ونظائره .
ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القرآن بالشرائع كقوله تعالى { يا آيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام } ، { يا آيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة } ، { يا آيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . ففي هذا إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا فإنه من موجبات الإيمان وتمامه .
ثم قال تعالى : { يا آيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة أولي الأمر ، وسلط عليهما عاملاً واحداً . وقد كان ربما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ولكن الواقع هنا في الآية المناسب .
وتحته سر لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وإن لم يكن مأموراً به بعينه في القرآن طاعة الرسول مفردة ومقرونة . فلا يتوهم متوهم أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه ، كما قال النبي ﷺ : " يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ، ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه . ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه .
أما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول ، لا طاعة مفردة مستقلة ، كما صح عن النبي ﷺ أنه قال : " على المرء السمع والطاعة فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله تعالى فإذا أمر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة " .
فتأمل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } ولم يقل : وإلى الرسول . فإن الرد إلى القرآن رد إلى الله والرسول ، فما حكم به الله تعالى هو بعينه حكم رسوله وما يحكم به الرسول ﷺ هو بعينه حكم الله . فادا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه يعني كتابة فقد رددتموه إلى رسوله . وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله ، وهذا من أسرار القرآن .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام احمد رحمه الله تعالى في أولي الأمر وعنه فيهم رحمه الله تعالى روايتان :
إحداهما : انهم العلماء ، والثانية : انهم الأمراء .
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله ، فان العلماء ولاته حفظا وبياناً وذباً عنه ورداً على من الحد فيه وزاغ عنه ، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فيالها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعاً لهم ، والأمراء ولاته قياماً وعناية وجهاداً وإلزاماً للناس به ، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الإنساني تبع لها ورعية .
ثم قال تعالى : { فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله ، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضادَّ أمر الله ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية ، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله ، ولهذا قال الله تعالى { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهذا مما ذكرنا آنفاً أنه شرط ينتفي المشروط بانتفائه ، فدل على أن من حَكّمَ غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجاً من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وحسبك بهذه الآية العاصمة القاصمة بياناً وشفاء فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما أمرت به .
قال الله تعالى { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم } [ الأنفال : 42 ] .
وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته والرد إلى سنته بعد وفاته .
ثم قال تعالى : { ذلك خيراً وأحسن تأويلا } أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولياء الأمر ورد ما تنازعتم فيه إلىَّ وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادَكم ، وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم واحسن عاقبة .
فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا وآجلاً . ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته ، وكل خير في العالم فانه بسبب طاعة الرسول . وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها ، فعاد شر الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط ، وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض فكذلك هو في الشر والألم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فإنما هو بسبب مخالفة الرسول ، ولأن طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الآمنين والكهف الذي من لجأ إليه كان من الناجين .
فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هو الجهل بما جاء به الرسول ﷺ والخروج عنه ، وهذا برهان قاطع على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول ﷺ علماً والقيام به عملا .
وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين :
أحدهما : دعوة الخلق إليه .
والثاني : صبره واجتهاده على تلك الدعوة .
فانحصر الكمال الإنساني على هذه المراتب الأربعة .
أحدهما : العلم بما جاء به الرسول ﷺ .
والثانية : العمل به .
والثالثة : نشره في الناس ودعوتهم إليه .
والرابعة : صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه .
ومن تطلعت همته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأراد اتباعهم فهذه طريقهم حقا :
فان شئت وصل القوم فاسلك سبيلهم * فقد وضحت للسالكين عياناً
وقال تعالى لرسوله ﷺ : { قل إن ضللت فإنما أضلُ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلى ربي انه سميع قريب } فهذا نص صريح في أن هدي الرسول ﷺ إنما يحصل بالوحي ، فيا عجبا ! كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة ؟! ولكن { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } ، فأي ضلال اعظم من ضلال من زعم أن الهداية لا تحصل بالوحي ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان ؟ وقول زيد وعمرو ولقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى والحمد لله رب العالمين .
وقال تعالى : { المص * كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتندر به وذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله ونهي عن اتباع غيره ، فما هو إلا اتباع المنزل . واتباع أولياء من دونه . فانه لم يجعل بينهما واسطة فكل من لا يتبع الوحي فإنما يتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به .
وقال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه ، يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخد فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني . وكان الشيطان للإنسان خذولا } فكل من اتخذ غير الرسول ، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول ﷺ فانه قائل هذه المقالة لا محالة . ولهذا هذا الخليل كنى عنه باسم فلان إذ لكل متبع أولياء من دون الله فلان وفلان . فهذا حال الخليلين المتخالين على خلاف طاعة الرسول ﷺ ومآل تلك الخلة إلى العداوة واللعنة كما قال الله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وقد ذكر حال هؤلاء الأتباع وحال من تبعوهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول . وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا } تمنى القوم طاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم ذلك واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك ، وانهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول ، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا } وفي بعض هذا عبرة للعاقل وموعظة شافية ، وبالله التوفيق .
وقال تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم انهم كانوا كافرين . قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفاً من النار . قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون . وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون . }
فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر .
وقوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } ذكر الصنفين المبطلين .
أحدهما : منشئ الباطل والفرية وواضعها وداعي الناس إليها .
والثاني : مكذب بالحق .
فالأول : كفره بالافتراء وإنشاء الباطل
والثاني : كفره بجحود الحق .
وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل . فان انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله وصد الناس عن الحق ، استحق تضعيف العذاب لكفره وشره .
ولهذا قال تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } فلما كفروا وصدوا عباده عن سبيله عذبهم عذابين : عذابا بكفرهم وعذابا بصدهم عن سبيله ، وحيث يذكر الكفر المجرد لا يعدد العذاب ، كقوله تعالى : { والكافرين لهم عذاب أليم } وقوله تعالى : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب يعني ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله ؟ قالوا : ضلوا عنا } زالوا وفارقوا وبطلت تلك الدعوة { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } ادخلوا في جملة هذه الأمم كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم } كل أمة متأخرة لأسلافها { ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذاباً ضعفاً من النار } ضاعفه عليهم بما أضلونا وصدونا عن طاعة رسلك ، قال الله تعالى : { لكل ضعف من الأتباع والمتبوعين بحسب ضلاله وكفره { ولكن لا تعلمون } لا تعلم كل طائفة بما فيه أختها من العذاب المضاعف { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } فإنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل وبينوا لكم الحق وحذروكم من ضلالنا ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا ، فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا وترك الحق الذي أتتكم به الرسل . فأي فضل كان لكم علينا ، وقد ضللتم كما ضللنا ، وتركتم الحق كما تركنا ، فضللتم انتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين . فأي فضل كان لكم علينا { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } فلله ما أشفاها من موعظة وما أبلغها من نصيحة لو صادفت من القلوب حياة فان هذه الآية وأمثالها مما يذكر قلوب السائرين إلى الله وأما أهل البطالة فليس عندهم من ذلك خبر .
الموالاة لله
فهذا حكم الأتباع والمتبوعين المشركين في الضلالة . وأما الأتباع المخالفون لمتبوعيهم ، العادلون عن طريقتهم الذين يزعمون أنهم لهم تبع وليسوا متبعين لطريقتهم ، فهم المذكورون في قوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا . كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } ، فهؤلاء المتبوعون كانوا على هدى وأتباعهم ادعوا أنهم كانوا على طريقتهم ومنهاجهم ، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقتهم ، يزعمون أنهم يحبونهم وأن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم ، فيتبرءون منهم يوم القيامة فإنهم اتخدوهم أولياء من دون الله وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم .
وهذه حال كل من اتخد من دون الله ورسوله وليجة وأولياء ، يوالي لهم ويعادي لهم ، ويرضى لهم ويغضب لهم فان أعماله كلها باطلة يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته ، ومحبته وبغضه ، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله وقطع تلك الأسباب ، فينقطع يوم القيامة كل وصلة ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى ، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله ، وتجريد عبادته له وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والإبعاد وتجريده متابعة رسوله وترك أقوال غيره ، وترك ما خالف ما جاء به والإعراض عنه وعدم الاعتناء به وتجريد متابعته تجريدا محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره ، فضلا عن الشركة بينه وبين غيره ، فضلا عن تقديم قول غيره عليه .
فهذا هو السبب الذي لا ينقطع بصاحبه ، وهذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه ، وهي نسبة العبودية المحضة وهي آخيته التي يحول ما يحول ثم إليها مرجعة :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبداً لأول مـنزل
وهذه هي النسبة التي تنفع العبد ، فلا ينفعه غيرها في الدور الثلاثة : أعني دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، فلا قوام له ولا عيش ولا نعيم ولا فلاح إلا بهذه النسبة . وهي السبب الواصل بين العبد وبين الله ولقد أحسن القائل :
إذا تقطع حبل الوصل بينهم * فللمحبين حبل غير منقطـع
وان تصدع شمل القوم بينهم * فللمحبين شمل غير متصدع
والمقصود أن الله سبحانه يقطع يوم القيامة الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها ، ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين الله فقط وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقيق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم وقد قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءاً منثورا } ، فهذه هي أعماله التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءاً منثورا . ولا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلاً ، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة : أن يرى سعيه كله ضائعاً لم ينتفع منه بشيء وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله ، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم .
فهدا حكم اتباع الأشقياء . فأما اتباع السعداء فنوعان :
اتباع لهم حكم الاستقلال وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } . فهؤلاء هم السعداء الذين ثبت لهم رضا الله عنهم وهم أصحاب رسول الله ﷺ وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة . ولا يختص ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط وإنما خص التابعين بمن رأوا الصحابة تخصيصا عرفياً ليتميزوا به عمن بعدهم فقيل : التابعون مطلقاً لذلك القرن فقط ، وإلا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وقيد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية بإحسان ليست مطلقة فتحصل بمجرد النية والإتباع في شيء والمخالفة في غيره ، ولكن تبعية مصاحبة الإحسان ، وأن الباء ها هنا للمصاحبة . والإحسان والمتابعة شرط في حصول رضاء الله عنهم وجناته ، وقد قال تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
فالأولون : هم الذين أدركوا رسول الله ﷺ وصحبوه . والآخرون : هم الذين لم يلحقوهم وهم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة فيكون التأخر وعدم اللحاق في الفضل والرتبة بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة والقولان كالمتلازمين فإن من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان فهؤلاء الصنفان هم السعداء . وأما من لم يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله ولم يرفع به رأساً فهو من الصنف الثالث وهم : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } .
وقد ذكر النبي ﷺ أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعث به من الهدى في قوله ﷺ : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في الدين فنفعه ما بعثني الله به و مثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .
فشبه ﷺ العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلا منهما سبب الحياة ، فالغيث سبب حياة الأبدان والعلم سبب حياة القلوب ، وشبه القلوب بالأودية كما في قوله تعالى : { أنزل من السماء ماءاً فسالت أودية بقدرها } ، وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث .
إحداها : أرض زكية قابلة للشراب والنبات ، فإذا أصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج ، فذلك مثل القلب الزكي الذكي ، فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه .
والثانية : أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع ، وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه ، فلا تصرف فيه ولا استنبط ، بل للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال النبي ﷺ : " فرب حامل فقه إلى من هو افقه ورب حامل فقه غير فقيه " .
فالأول : كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ما شاء .
والثاني : مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب ، ولكنه حافظ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه .
والأرض الثالثة : أرض قاع وهو المستوى الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء ، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه بشيء ، فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية ، وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تنبت ولا تحفظ ، وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولا يحسن يمسك مالاً .
فالأول : عالم معلم وداع إلى الله على بصيرة فهذا من ورثة الرسل .
والثاني : حافظ مؤد لما سمعه فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر .
والثالث : لا هذا ولا هذا فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأساً .
فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم منها قسمان قسم سعيد وقسم شقي .
الهجرة زاد المسافر
وأما النوع الثاني من الإتباع : فهم اتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا ، وإنما هم مع آبائهم تبع لهم ، وقال الله تعالى فيهم : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } . أخبر سبحانه انه الحق الذرية بآبائهم في الجنة كما اتبعهم إياهم في الإيمان ، ولما كان الذرية لا عمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } والضمير عائد إلى الذين آمنوا ، أي وما نقصناهم من عملهم بل رفعنا ذريتهم إلى درجتهم مع توفيتهم أجور أعمالهم فليست منزلتهم منزلة من لم يكن له عمل بل وفيناهم أجورهم فألحقنا بهم ذريتهم فوق ما يستحقون من أعمالهم .
ثم لما كان هذا الإلحاق في الثواب والدرجات فضلاً من الله فربما وقع في الوهم أن إلحاق الذرية أيضاً حاصل لهم في حكم العدل ، فلما اكتسبوا سيئات أوجبت عقوبة ، كان كل عامل رهيناً بكسبه لا يتعلق بغيره شيء فالإلحاق المذكور إنما هو في الفضل والثواب لا في العدل والعقاب وهذا نوع من أسرار القرآن وكنوزه التي يختص الله بفهمها من شاء .
فقد تضمنت هذه الآية أقسام الخلائق كلهم : أشقيائهم و سعدائهم ، السعداء المتبوعين والأتباع ، والأشقياء المتبوعين والإتباع . فعلى العاقل الناصح لنفسه أن ينظر في أي الأقسام هو ، ولا يغتر بالعادة ويخلد إلى البطالة فإن كان من قسم سعيد انتقل إلى ما هو فوقه وبذل جهده والله ولي التوفيق والنجاح . وإن كان من قسم شقي انتقل منه إلى القسم السعيد في زمن الإمكان قبل أن يقول يا ليتني اتخدت مع الرسول سبيلا .
والمقصود بهذا أن من أعظم التعاون على البر والتقوى والتعاون على سفر الهجرة إلى الله والرسول باليد واللسان والقلب والمساعدة والنصيحة تعليما وإرشاداً ومودة ، ومن كان هكذا مع عباد الله فكل خير إليه أسرع ، واقبل الله إليه بقلوب عباده وفتح على قلبه أبواب العلم ويسره لليسرى ، ومن كان بالضد فبالضد .
فإن قلت : قد أشرت إلى سفر عظيم وأمر جسيم فما زاد هذا السفر وما طريقه وما مركبه ؟
قلت : زاده العلم الموروث من خاتم الأنبياء ﷺ ولا زاد له سواه فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته وليقعد مع الخالفين . فرفقاء المتخلف البطالون أكثر من أن يحصوا ، فله أسوة بهم ، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئا كما قال تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتأسي بعضهم ببعض في العذاب ، فإن مصائب الدنيا إذا عمت صارت مسلاة ، وتأسى بعض المصابين ببعض كما قالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن * أسلي النفس عنه بالتأسي
فهذا الروح الحاصل من التأسي معدوم بين المشتركين في العذاب يوم القيامة .
وأما طريقه : فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع ، فلا يُنال بالمني ، ولن يدرك بالهوينا ، وإنما هو كما قيل :
فخض غمرات الموت واسمُ إلى العلا * لكي تدرك العز الرفيع الدائم
فلا خير في نفس تخاف من الردى * ولا همة تصبو إلى لوم لائم
ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين :
أحدهما : أن لا يصبو في الحق إلى لوم لائم فان اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه ويجعله صريعا في الأرض .
والثاني : أن تهون عليه نفسه في الله ، فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال فمتى خافت النفس تأخرت و أحجمت وأخلدت إلى الأرض ، ولا يتم له هذان الأمران إلا بالصبر ، فمن صبر قليلاً صارت تلك الأهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه ، فبينما هو يخاف منها إذ صارت اعظم أعوانه وخدمه ، وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه .
وأما مركبه فصدق اللجأ إلى الله وانقطاع إليه بكليته وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة إليه وصدق التوكل والإستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المسلوم المكسور الفارغ الذي لاشيء عنده فهو يتطلع إلى قيّمه ووليه أن يجده ويلم شعثه ، ويمده من فضله و يستره فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها .
ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات الله حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه ، وصار له التصرف ، وصار هو الأمير المطاع أمره ، فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنا وهو يباري الريح { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون } .
فان قلت : إنك قد أشرت إلى مقام عظيم فافتح لي بابه ، واكشف لي حجابه ، وكيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه ؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا ، فهل في البيان غير ما ذكروه ؟
قلت : سأضرب لك أمثالاً تحتذي عليها وتجعلها إماماً لك في هذا المقصد ، قال الله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً ، قال سلام قوم منكرون ، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم قال ألا تأكلون ، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ، قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم } .
فعهدى بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون وبشروه بغلام عليم ، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك . ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك .
فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار .
وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم . . .
وكيف جمعت الضيافة وحقوقها . . .
وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة . . .
وكيف تضمنت علما عظيماً من أعلام النبوة . . .
وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة . . .
وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها ثم أفصحت وقوعه . . .
وكيف تضمنت الأخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة . . .
وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما . . .
وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الآخر . . .
وتضمنت انه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة وهم المؤمنون بها . . .
وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها فلا ينتفع بتلك الآيات . . .
فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة : قال الله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام ، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام ، ولهذا قال بعض الناس : إن ( هل ) في مثل هذا الموضع بمعنى ( قد ) التي تقتضي التحقيق . ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ، ومعنى بديع ، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به ، وإحضار الذهن له صدر له الكلام بأداة الاستفهام لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به ، فتارة يصدره بألا ، وتارة يصدره بهل ، فقول : هل علمت ما كان من كيت وكيت ؟ إما مذكرا به ، وإما واعظاً له مخوفا ، وإما منبها على عظمه ما يخبر به ، وإما مقرراً له ، فقوله تعالى : { هل أتاك حديث موسى } و { هل أتاك نبأ الخصم } و { هل أتاك حديث الغاشية } و { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفتها ما تضمنته .
ففيه أمر آخر . وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة فانه من الغيب الذي لا تعمله أنت ولا قومك فهل أتاك من غير أعلامنا وإرسالنا وتعريفنا ؟ أم لم يأتك إلا من قبلنا ؟
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام ، وتأمل عظم موقعه من جميع موارده يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا . وقوله ضيف إبراهيم المكرمين متضمن لثنائه على خليله إبراهيم فإن في المكرمين قولين .
أحدهما : إكرام إبراهيم لهم ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف .
والثاني : انهم مكرمون عند الله كقوله تعالى : { بل عباد مكرمون } وهو متضمن أيضاً لتعظيم خليله ومدحه ، إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافاً له ، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم . وقوله : { فقالوا سلاما قال سلام } متضمن بمدح آخر لإبراهيم حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به ، فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره : سلمنا عليك سلاماً . وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره سلام دائم أو ثابت أو مستقر عليكم ، ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم والفعلية تقتضي التجدد والحدوث فكانت تحية إبراهيم أكمل واحسن . ثم قال { قوم منكرون } وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح .
إحداهما : أنه حذف المبتدأ والتقدير : انتم قوم منكرون ، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش . وكان النبي ﷺ لا يواجه أحدا بما يكرهه بل يقول : " وما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا " .
الثاني : قوله { قوم منكرون } فحذف فاعل الإنكار وهو الذي كان أنكرهم كما قال في موضع آخر ( نكرهم ) ولا ريب أن قوله ( منكرون ) ألطف من أن يقول أنكرتكم .
وقوله { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال إلا تأكلون } متضمن وجوها من المدح وآداب الضيافة وإكرام الضيف . منها قوله : { فراغ إلى أهله } والروغان الذهاب بسرعة واختفاء وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف ، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء ، وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمرأى منه ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ ، ويتناول الإناء بمرأى منه ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه فلفظة ( راغ ) تنفي هذين الأمرين . وفي قوله تعالى : { إلى أهله } مدح آخر لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله ، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ، ولا يذهب إلى غير أهله إذ قرى الضيف حاصل عندهم .
وقوله : { فجاء بعجل سمين } يتضمن ثلاثة أنواع من المدح :
أحدها : خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه .
الثاني : انه جاءهم بحيوان تام لم ياتهم ببعضه . ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا .
الثالث : انه سمين ليس بهمزول ، وهذا من نفائس الأموال ، ولد البقر السمين فإنهم يعجبون به ، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره . وقوله { إليهم } متضمن المدح وآداباً أخرى وهو إحضار الطعام إلى بين يدي الضيف ، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه .
وقوله { ألا تأكلون } فيه مدح وآداب أخر ، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله : { ألا تأكلون } وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف بخلاف من يقول : : ضعوا أيديكم في الطعام ، كلوا ، تقدموا ، ونحو هذا .
وقوله : { فأوجس منهم خيفة } لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفاً أن يكون معهم شر ، فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه وأنس به ، فلما علموا منه ذلك قالوا : { لا تخف وبشروه بغلام عليم } وهذا الغلام اسحق لا إسماعيل ، لأن امرأته عجبت من ذلك فقالت : عجوز عقيم ، لا يولد لمثلي ، فأنى لي بالولد ؟ وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر وكان بكره وأول ولده . وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } وهذه هي القصة نفسها .
وقوله تعالى : { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها } فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها ، إذ بادرت إلى الندبة فصكت الوجه عند هذا الإخبار . وقوله : { عجوز عقيم } فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة ، فإنها حذفت المبتدأ ولم تقل أنا عجوز عقيم ، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة لم تذكر غيره ، وأما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم وصرحت بالعجب .
وقوله تعالى { قالوا كذلك قال ربك } متضمن لاثبات صفة القول له . وقوله { إنه هو الحكيم العليم } متضمن لإثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والأمر ، فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته ، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته .
والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال ، فالعلم يتضمن الحياة و لوازم كمالها من القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام ، والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل والرحمة والإحسان والجود والبر ، ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها ، ويتضمن إرسال وإثبات الثواب والعقاب .
كل هذا العلم من اسمه الحكيم كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة ، والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلق عبثا وسُدى وباطلاً فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقدر والثواب والعقاب ، ولهذا كان اصح القولين أن المعاد يعلم بالعقل وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته .
ومن تأمل طريقة القرآن وجدها دالة على ذلك . وانه سبحانه يضرب لهم الأمثال المعقولة التي تدل على إمكان المعاد تارة ووقوعه أخرى ، فيذكر أدلة القدرة الدالة على إمكان المعاد وأدلة الحكمة المستلزمة لوقوعه .
ومن تأمل أدلة المعاد في القرآن وجدها كذلك مغنية بحمد الله عن غيرها ، كافية شافية موصلة إلى المطلوب بسرعة ، متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس . وإن ساعد التوفيق كتبت في ذلك سفراً كبيراً لما رأيت في الأدلة التي أرشد إليها القرآن من الشقاء والهدى وسرعة الإنصاف ، وحسن البيان ، والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها بما ينثلج له ، الصدر ويكثر معه اليقين ، بخلاف غيره من الأدلة فإنها على العكس من ذلك وليس هذا موضع التفصيل .
والمقصود : أن صدور الخلق والأمر عن علم الرب وحكمته . واختصت هذه القصة بذكر هذين الإسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة ، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلال بموجب الحكمة .
ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في إرسالهم لهلاك قوم لوط ، وإرسال الحجارة المسومة عليهم . وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله وإهلاك المكذبين لهم والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عياناً في هذا العالم ، وهذا من اعظم الأدلة الدالة على صدق رسله لصحة ما أخبروا به عن ربهم .
ثم قال تعالى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } ففرق بين الإسلام والإيمان هنا لسر اقتضاه الكلام ، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة فهو ، إخراج نجاة من العذاب و لا ريب إن هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرا وباطناً .
وقوله تعالى : { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم لأن امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت وهي مسلمة في الظاهر ، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجيين ، وقد اخبر سبحانه عن خيانة امرأة لوط ، وخيانتها أنها كانت تدل قومها على أضيافه وقلبها معهم ، وليست خيانة فاحشة فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهراً وليست من المؤمنين الناجيين .
ومن وضع دلالة القرآن وألفاظه مواضعها تبين له من أسراره وحكمة ما يبهر العقول ويعلم أنه تنزيل من حكيم حميد .
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو : أن الإسلام أعم من الإيمان فكيف استثناء الأعم من الأخص ، وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس وتبين أن المسلمين المستثنين مما وقع عليه فعل الوجود ، والمؤمنين غير مستثنين منه بل هم المخرجون الناجون .
وقوله تعالى : { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم } فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وأبقى آثارها دالة عليه وعلى صدق رسله إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ويخشى عذاب الله تعالى كما قال الله تعالى في موضع آخر { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } ، وقال تعالى : { سيذكر من يخشى } فان من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول : هؤلاء قوم أصابهم الدهر كما أصاب غيرهم ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة . وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ .
والمقصود بهذا إنما هو التنبيه والتمثيل على تفاوت الأفهام في معرفة القرآن واستنباط أسراره وآثار كنوزه ويعتبر بهذا غيره ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .
والمقصود أن القلب لما تحول لهذا السفر طلب رفيقاً يأنس به في السفر فلا يجد إلا معارضاً مناقضاً ، أو لائماً بالتأنيب مصرحاً ، أو فارغاً من هذه الحركة معرضاً ، وليت كل ما ترى هكذا فلقد أحسن إليك من خلاَّك وطريقك ولم يطرح شره عليك كما قال القائل :
انا لفي زمن ترك القبيح به * من أكثر الناس إحسان وإجمال
فإذا كان هذا المعروف من الناس فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالإعراض وترك اللائمة والإعتراض إلا ما عسى أن يقع نادراً فيكون غنيمة باردة لا قيمة لها . ولا ينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة بل يسير و لو وحيداً غريباً فانفراد العبد في طريق طلبة دليل على صدق المحبة .
ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى وسفر الهجرة إلى الله ورسوله ، وهو الذي قصد سطرها بكتابتها وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم . وشهد الله وكفى بالله شهيداً ولو توافي أحداً منهم لقابلها بالقبول ولبادر إلى تفهمها وعدّها من أفضل ما أهدى صاحب إلى صاحبه ، فإن غير هذا من جريانات الركب الخيرية وان تطلعت النفوس إليها ففائدتها قليلة وهي في غاية الرخص لكثرة جالبها ، وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم .
ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء ، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده ، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات ، فإنهم يقطعون عليه طريقه ، فليس لهذا السالك أنفع من تلك المرافقة ، وأوفق له من هذه المفارقة ، فقد قال بعض السلف : شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم . فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ، ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا ، حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخله معهم .
فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة ، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر ، وصار بين الناس غريباً وإن كان فيهم مشهوراً ونسيباً ، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه ، يقيم لهم المعاذير ما استطاع ، ويحضهم بجهده و طاقته سائراً فيهم بعينين : عين ناظرة إلى الأمر والنهى ، بها يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ، ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم . وعين ناظرة إلى القضاء والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر و لا يعود بنقض شرع ، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته ، وقفاً عند قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء حق الله فيهم والسلامة من شرهم . فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم و أخلاقهم .
فهذا ما منهم إليه ، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف ، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه ، وهو ما أمر الله به . وأما ما يلتقي به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الإنتقام لنفسه والانتصار لها .
فأي كمال للعبد وراء هذا ؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة ؟ فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم - أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها ، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس فهو خير له وإن شراً في الظاهر ، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف ولا يتولد منه إلا خيراً وان ورد في حالة شر وأذى ، كما قال الله تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } ، وقال تعالى لنبيه ﷺ : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله } وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق ، فإنهم إما يسيئوا في حق الله وفي حق رسوله ، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وإن أساءوا في حقي فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم ، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم ، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة ، فإذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه من أمرك فإن الله يحب المتوكلين .
فهذا وأمثاله من الأخلاق التي أدب الله بها رسوله ، وقال تعالى فيه { وإنك لعلى خلق عظيم } قالت عائشة رضي الله عنها: " كان خلقه القرآن " ، وهذا لا يتم إلا بثلاثة أشياء :
أحدها : أن يكون العود طيباً ، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر .
الثاني : أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الأمور تنافي الكمال ، فإن لم تقو النفس على قهرها و إلا لم تزل مغلوبة مقهورة .
الثالث : علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم ، والزجاجة والجوهرة .
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى ، وتمت لهم العناية .
والله سبحانه وتعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين