مكتبة العلوم الشاملة

false EN-GB X-NONE AR-SA ath"/>

مكتبة العلوم الشاملة

https://sluntt.blogspot.com/

 

الاثنين، 7 فبراير 2022

كتاب الرسالة التبوكية للإمام الحافظ ابن قيم الجوزية.

ويكي مصدر *

الرسالة التبوكية  للإمام الحافظ ابن قيم الجوزية
قال الشيخ الإمام العالم العلامة محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية رضي الله عنه وأرضاه في كتابه الذي سيره من تبوك ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة بعد كلام له سبق :

أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه : محمد ﷺ وبعد :

فان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : { وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .

وقد اشتملت هده الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين : 
=واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق فأما ما بينه وبين الخلق : من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولا سعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله وإذا افرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الآخر إما تضمنا وإما لزوما ودخوله فيه تضمنا اظهر لان البر جزء مسمى التقوى وكذلك التقوى فانه جزء مسمى البر وكون أحدهما لايدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند انفراد الآخر . و نظير هذا لفظ الإيمان والإسلام و الإيمان والعمل الصالح و الفقير والمسكين و الفسوق والعصيان و المنكر والفاحشة ونظائره كثيرة .

وهذه قاعدة جليلة من أحاط بها زالت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس .

ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدل به على غيره وهو البر والتقوى . 
 
= فان حقيقة البر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير كما يدل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام ومنه البر بالضم لمنافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب ومنه رجل بار وبر وكرام برره والأبرار .

فالبر : كلمة جامعة لجميع أنواع الخير والكمال والمطلوب من العبد . 
 
= وفي مقابلته الإثم وفي حديث النواس بن سمعان أن النبي ﷺ قال له : " جئت تسال عن البر والإثم " .

فالاثم كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يذم العبد عليها .

فيدخل في مسمى البر : الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة ولا ريب ان التقوى جزء هذا المعنى . وأكثر ما يعبر عن بر القلب وهو وجود طعم الإيمان فيه وحلاوته وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالإيمان . فإن للإيمان فرحة وحلاوة ولذة في القلب ، فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه وهو من القسم الذين قال الله عز وجل فيهم : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } .

فهؤلاء - على أصح القولين - مسلمون غير منافقين وليسوا بمؤمنين إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم فيباشرها حقيقة .








محتويات
1 معنى البر والتقوى
2 معنى الإثم والعدوان
3 في الهجرة إلى الله ورسوله
4 الموالاة لله
5 الهجرة زاد المسافر
معنى البر والتقوى

وقد جمع الله خصال البر في قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } .

فأخبر سبحانه أن البر هو الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها ، وأنها الشرائع الظاهرة من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنفقات الواجبة ، وأنها الأعمال القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد فتناولت هده الخصال جميع أقسام الدين حقائقه وشرائعه والأعمال المتعلقة بالجوارح والقلب وأصول الإيمان الخمس . ثم أخبر سبحانه عن هذا أنها هي خصال التقوى بعينها فقال : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } .

وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً ، أمراً ونهياً ، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده ، كما قال طلق بن حبيب : " إذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى " قالوا : وما التقوى ؟ قال : " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله " .

وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى .

فان كل عمل لابد له من مبدأ وغاية ، فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض ، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك بل لابد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب . ولهذا كثيرا ما يُقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي ﷺ : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا " و " ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً " ونظائره .

فقوله : " على نور من الله " إشارة إلى الأصل الأول وهو الإيمان الذي هو مصدر العمل والسبب الباعث عليه .

وقوله : " ترجو ثواب الله " إشارة أن الأصل الثاني وهو الاحتساب وهو الغاية التي لأجلها يوقع العمل ولها يقصد به .

ولا ريب أن هذا اسم لجميع أصول الإيمان وفروعه ، وأن البر داخل في هذا المسمى .

وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها ، فان البر مطلوب لذاته ، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم . وأما التقوى فهي الطريق الموصل إلى البر والوسيلة إليه ولفظها يدل على هذا فإنها فعلى ، من وقى تقي ، وكان أصلها وقوى ، فقلبوا الواو تاء ، كما قالوا تراث من الوراثة ، وتجاه من الوجه ، وتخمة من الوخمة ، ونظائرها . فلفظها دال على أنها من الوقاية فان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية والوقاية من باب دفع الضر فالتقوى والبر كالعافية والصحة .

وهذا باب شريف ينتفع به انتفاعاً عظيماً في فهم ألفاظ القرآن ودلالته ، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله فانه هو العلم النافع وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزل الله على رسوله.

فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين :

إحداهما أن يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه فيحكم له بحكم المراد من اللفظ فيساوي بين ما فرق الله بينهما .

والثانية أن يخرج من مسمى اللفظ بعض أفراده الداخلة تحته فيسلب عنه حكمه فيفرق بين ما جمع الله بينهما .

والذكي الفطن يتفطن لأفراد هذه القاعدة وأمثالها فيرى أن كثيرًا من الاختلاف أو أكثره إنما ينشأ من هذا الوضع وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم .

ومن هذا لفظ : الخمر فإنه اسم شامل لكل مسكر فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه وينفى عنها حكمه .

وكذلك لفظ : الميسر وإخراج بعض أنواع القمار منه .

وكذلك لفظ : النكاح وإدخال ما ليس بنكاح في مسماه .

وكذلك لفظ : الربا وإخراج بعض أنواعه منه وإدخال ما ليس بربا فيه .

وكذلك لفظ : الظلم والعدل والمعروف والمنكر ونظائره اكثر من أن تحصى …

والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى ، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علماً وعملاً .

فان العبد وحده لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائماً بعضه ببعضه ، معيناً بعضه لبعضه .






معنى الإثم والعدوان

ثم قال تعالى : { ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان } . والإثم والعدوان في جانب النهي نظير : البر والتقوى في جانب الأمر . والفرق بين الإثم والعدوان كالفرق ما بين محرم الجنس ومحرم القدر . فالإثم ما كان حراماً لجنسه ، والعدوان ما حرم لزيادة في قدر وتعدي ما أباح الله منه فالزنا والخمر والسرقة ونحوها : إثم . ونكاح الخامسة واستيفاء المجني عليه اكثر من حقه ونحوه وعدوان .

فالعدوان : هو تعدي حدود الله التي قال فيها : { تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } .

وقال في موضع آخر : { تلك حدود الله فلا تقربوها } فنهى عن تعديها في آية وعن قربانها في آية وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه وتارة لا تكون داخلة فيه فتكون لها حكم المقابلة فالاعتبار الأول نهى عن تعديها ، وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها .

فهذا حكم العبد فيما بينه وبين الناس وهو أن تكون مخالطته لهم تعاوناً على البر والتقوى علماً وعملاً .

وأما حاله فيما بينه وبين الله تعالى فهو إيثار طاعته وتجنب معصيته وهو قوله تعالى : { واتقوا الله } فأرشدت الآية إلى ذكر واجب العبد بينه وبين الخلق وواجبه بينه وبين الحق . ولا يتم له أداء الواجب الأول إلا بعزل نفسه من الوسط والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر ولا يتم له أداء الواجب الثاني إلا بعزل الخلق من البين ، والقيام له بالله إخلاصاً ومحبة وعبودية .

فينبغي التفطن لهذه الدقيقة التي كل خلل يدخل على العبد في أداء هذين الأمرين الواجبين إنما هو عدم مراعاتها علماً وعملاً وهذا معنى قول الشيخ عبد القادر - قدس الله روحه - : " كن مع الحق بلا خلق ، ومع الخلق بلا نفس ، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط ولم يزل أمره فرطا " .

والمقصود بهذه المقدمة ما بعدها .






في الهجرة إلى الله ورسوله

لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه ، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله ، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله ، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت ، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد ، إذ الهجرة هجرتان :

الهجرة الأولى : هجرة بالجسم من بلد إلى بلد ، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها .

والهجرة الثانية الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله ، وهذه هي المقصودة هنا . وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها .

وهي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته ، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له ، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى : { ففروا إلى الله } ، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه .

وتحت ( من ) و( إلى ) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد ، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

أما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر ، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده ، فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته ، وما لم يشأ لم يكن ، وامتنع وجوده لعدم مشيئته . فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شئ إلى شئ وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه .

ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ﷺ : " وأعوذ بك منك " وقوله : " لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك " ، فانه ليس في الوجود شئ يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقاً وإبداعا . فالفار والمستعيذ : فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه ، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه ، وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء ، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه ، مثل من يفر من مخلوق آخر أقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه ، فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره .

فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله : " أعوذ بك منك " و " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لبّ الكلام ومقصوده وبالله التوفيق

فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى ، ولهذا قال النبي ﷺ : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " . ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر .

والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن : هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه ، وأصلها الحب والبغض ، فان المهاجر من شئ إلى شئ لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه ، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر . وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه ، وقد بلي بهؤلاء الثلاث ، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه ، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات .

وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد ، فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل . وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً ، ولا يتحرك لها إرادة .

والذي يقضي منه العجب : أن المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح ، وهذه هجرة عارضة ، ربما لا تتعلق به في العمر أصلاً وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس فإنه لا يحصل فيها علما ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له ، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره . وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال . والله المستعان ، وبالله التوفيق ، لا اله غيره ولا رب سواه .

وأما الهجرة إلى رسول الله ﷺ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ، ومنهج لم تترك بنيَّات الطريق سوى رسمه ، ومحجة سفَت عليها السوافي فطمست رسومها ، وغارت عليها الأعادي فغّورت مناهلها وعيونها ، فسالكها غريب بين العباد ، فريد بين كل حي وناد ، بعيد على قرب المكان ، وحيد على كثرة الجيران ، مستوحش مما به يستأنسون ، مستأنس مما به يستوحشون ، مقيم إذا ظعنوا ، ظاعن إذا قطنوا ، منفرد في طريق طلبة ، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه ، فهو الكائن معهم بجسده ، البائن منهم بمقصده ، نامت في طلب الهدى أعينهم ، وما ليل مطيته بنائم ، وقعدوا عن الهجرة النبوية ، وهو في طلبها مشمر قائم ، يعيبونه بمخالفة آرائهم ، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم ، قد رجموا فيه الظنون ، وأحدقوا فيه العيون ، وتربصوا به ريب المنون { فتربصوا إنَّا معكم متربصون } ، { قال رب احكم بالحق ، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } .

نحن وإياكم نموت ، فما * افلح عند الحساب من ندما

والمقصود : أن هذه الهجرة النبوية شانها شديد . وطريقها على غير المشتاق بعيد .

بعيد على كسلان أو ذي ملالة * أما على المشتاق فهو قريب

ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ، ولكن أنت ظلامه ، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ، ولكن أنت غيمه وقتامه ومنهل عذب صاف وأنت كدره ، ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره .

فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها ، وحاسب ما بينك وبين الله ، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها ؟

فجد هذه الهجرة : سفر النفس في كل مسالة من مسائل إلايمان ، ومنزل من منازل القلوب ، وحادثة من حوادث إلاحكام إلى معدن الهدى ، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي { لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته ، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات ، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعُده من أهل الريب والتهمات . فهذا حد هذه الهجرة .

فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده ، القاطن في دار مرباه ومولده ، القائل : إنا على طريقة آبائنا سالكون ، وإنا بحبلهم متمسكون ، وأنا على آثارهم مقتدون ، وما لهذه الهجرة التي كلت عليهم ، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم ، معتذراً بأن رأيهم خير من رأيه لنفسه ، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنه وحدسه ، ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزوجه الملالة .

والمقصود : أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم ، وهي مقتضى " شهادة أن محمدا رسول الله ﷺ " كما أن الهجرة الأولى مقتضى " شهادة أن لا إله إلا الله " وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ، ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.

قال قتادة : " كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون ومإذا اجبتم المرسلين ؟ " .

وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين وقد قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسملوا تسليما } فأقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل - على أنه لا يثبت لهم الإيمان ، ولا يكونون من أهله ، حتى يحكموا رسول الله ﷺ في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين . فإن لفظة " ما " من صيغ العموم فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم . ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً - وهو الضيق والحصر - من حكمه ، بل يقبلوا حكمه بالإنشراح ، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخدونه على إغماض ، ويشربونه على قذى ، فإن هذا مناف للإيمان ، بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر .

ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله ، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها { بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } .

فسبحان الله ! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد ؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها ، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها ؟

ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر .

ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى { ويسلموا تسليما } فذكر الفعل مؤكداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين . وهو التسليم والخضوع له والإنقياد لما حكم به طوعا ورضاً ، وتسليما لا قهراً ومصابرة ، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهاً ، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شئ إليه ، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بإنه أولى به من نفسه وابر به منها واقدر على تخليصها . فمتى علم العبد هذا من رسول الله ﷺ واستسلم له ، وسلم إليه ، انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والإنقياد .

وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه ، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني .

وكل يدعى وصلا لليلى * وليلى لا تقر لهم بذاك

وفرق بين علم الحب وحال الحب . فكثيراً ما بشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده ، وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخن بالمرض ، وبين الصحيح السليم ، وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها . وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده .

وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد :

أولها : تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله : { لا يؤمنون } وهذا منهج معروف في كلام العرب إذا أقسموا على شئ منفى صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية . ومثل ما في قول الصديق رضي الله عنه : " لاها الله ، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه " ، وقول الشاعر :

فلا وأبيك ابنه العامري * لايدعى القوم إني افـر

وقال الآخر :

فلا والله لا يلقى لما بي * ولا لما بهم أبداً دواء

وهذا في كلامهم اكثر من أن يذكر.

وتأمل جمل القسم التي في القرآن المصدرة بحرف النفي كيف تجد المقسم عليه منفياً ومتضمناً للنفي ، ولا يحزم هذا قوله تعالى فلا أُقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ، إنه لقرآن كريم } .

فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن : من أنه شعر أو كهانه أو أساطير الأولين ، صدر القول بأداة النفي ثم اثبت له ما قالوه . فتضمنت الآية أن ليس الأمر كما يزعمون ولكنه قرآن كريم .

ولهذا صرح بالأمرين : النفي والإثبات مثل قوله تعالى : { فلا اقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، انه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين ، وما صاحبكم بمجنون ، ولقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين ، وما هو بقول شيطان رجيم } ، وكذلك قوله : { لا اقسم بيوم القيامة ، ولا اقسم بالنفس اللوامة ، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ، بلى قادرين على أن نسوي بنانه } .

والمقصود : أن افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه .

وثانيها : تأكيده بنفس القسم .

وثالثها : تأكيده بالمقسم به ، وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته ، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة .

ورابعها : تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم .

وخامسها : تأكيد الفعل بالمصدر ، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم ، وإنه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من ابلغ أنواع التقرير .

وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الأولوية تتضمن أموراً :

منها : أن يكون احب إلى العبد من نفسه ، لان الأولوية أصلها الحب ، ونفس العبد أحب له من غيره ، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها وأحب إليه منها ، فبذلك يحصل له اسم الإيمان . ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه .

ومنها : أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً بل الحكم على نفسه للرسول ﷺ يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده ، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها .

فيا عجباً كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول ﷺ عن منصب التحكيم ورضي بحكم غيره واطمأن إليه اعظم من اطمئنانه إلى الرسول ﷺ وزعم أن الهدى لا يلتقي من مشكاته وإنما يتلقى من دلالة العقول ، وأن الذي جاء به لا يفيد اليقين ، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه وعما جاء به ، والحوالة في العلم النافع إلى غيره ، ذلك هو الضلال البعيد ولا سبيل إلى ثبوت هده الأولوية إلا بعزل كل ما سواه وتوليته في كل شئ وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به فان شهد له بالصحة قبله ، وإن شهد له بالبطلان رده . وان لم تتبين شهادته له لا بصحة ولا ببطلان جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب ووقفه حتى يتبين أي الأمرين أولى به .

فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة واستقام له علمه وعمله ، وأقبلت وجوه الحق إليه من كل جهة .

ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها ، والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم إليها . وعرض ما قاله الرسول عليها ، فان وافقها قبله ، وإن خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليّاً وإعراضاً ، كما قال تعالى : { وإن تلووا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } ، وقد اشتملت هده الآية على أسرار عظيمة يجب التنبيه على بعضها لشدة الحاجة إليها .

قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ، وأن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ، فأمر سبحانه بالقيام بالقسط وهو العدل في هذه الآية ، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدواً كان أو ولياً وأحق ما قام له العبد بقصد الأقوال والآراء والمذاهب ، إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره .

فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله مناف لما بعث به رسوله .

والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين اتباعه . ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده ، وأولئك هم الوارثون حقا ، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معياراً على الحق وميزاناً له ، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته ، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد ؟! وهو في هذا الباب اعظم فرضاً واكبر وجوباً .

ثم قال : { شهداء الله } الشاهد هو المخبر ، فان أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول ، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور ، وأمر تعالى أن يكون شهيداً له مع القيام بالقسط ، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط ، وان تكون لله لا لغيره ، وقال في الآية الأخرى : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } فتضمنت الآيتان أموراً أربعة .

أحدهما : القيام بالقسط .

الثاني : أن يكون لله .

الثالث : الشهادة بالقسط .

الرابع : أن تكون لله .

واختصت آية النساء بالقسط والشهادة لله ، وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط لسر عجيب من أسرار القرآن ليس هذا موضع ذكره .

ثم قال تعالى : { ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين } فأمر سبحانه أن يقام بالقسط ويشهد على كل أحد ولو كان أحب الناس إلى العبد ، فيقوم بالقسط على نفسه ووالديه الذين هما اصله وأقاربه الذين هم أخص به والصديق من سائر الناس ، فإن كان ما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه وأقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق ، ولاسيما إذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه قبلهم ، فإنه لا يقوم به في هذا الحال إلا من كان الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما ، وهذا يمتحن به العبد إيمانه فيعرف منزلة الإيمان من قلبه ومحله منه ، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يجفوه ، فإنه لا ينبغي أن يحمله بغضه لهم أن يحيف عليهم ، كما لا ينبغي أن يحمله حبه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط ، فلا يدخله ذلك البغض في باطل ولا يقصر به هذا الحب عن الحق . كما قال السلف : " العادل هو الذي إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل ، وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق " .

اشتملت الآيتان على هذين الحكمين : وهما القيام بالقسط والشهادة به على الأولياء والأعداء .

ثم قال تعالى { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } منكم هو ربهما ومولاهما وهما عبيده ، كما أنكم عبيده فلا تحابوا غنياً لغناه ، ولا فقيراً لفقره فإن الله أولى بهما منكم .

وقد يقال : فيه معنى آخر أحسن من هذا ، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير .

أما الغني فخوفاً على ماله ، وأما الفقير فلإعدامه وأنه لا شيء له فتتساهل ، النفوس في القيام عليه بالحق ، فقيل لهم : والله أولى بالغني والفقير منكم ، أعلم بهذا وأرحم بهذا ، فلا تتركوا أداء الحق والشهادة على غني ولا فقير .

ثم قال تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل . وقوله تعالى { أن تعدلوا } منصوب الموضع لأنه مفعول لأجله ، وتقديره عند البصريين : كراهية أن تعدلوا ، أو حذر أن تعدلوا ، فيكون اتباعكم للهوى كراهية العدل أو فراراً منه ، وعلى قول الكوفيين التقدير . أن لا تعدلوا ، وقول البصريين أحسن واظهر .

ثم قال تعالى : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ذكر سبحانه السببين الموجبين لكتمان الحق محذرا منهما ومتوعدا عليهما :

أحدهما : اللي والآخر : الإعراض ، فإن الحق إذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفعها طريقاً إلى دفعها أعرض عنها وأمسك عن ذكرها فكان شيطاناً أخرس ، وتارة يلويها ويحرفها ، اللي مثال الفتل وهو التحريف ، وهو نوعان : ليُّ في اللفظ وليُّ في المعنى ، فاللي في اللفظ أن يلفظ بها على وجه لا يستلزم الحق ، إما بزيادة لفظة أو نقصانها أو إبدالها بغيرها ، ولي في كيفية أدائها وإيهام السامع لفظاً وإرادة غيره ، كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسلام على النبي ﷺ وغيره فهذا أحد نوعي اللي .

والنوع الثاني منه : لَي المعنى وهو تحريفه وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم ، وبجهالة ما لم يرده أو يسقط منه لبعض المراد به ، ونحو هذا من لي المعاني ، فقال تعالى : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } .

ولما كان الشاهد مطالباً بأداء الشهادة على وجهها فلا يكتمها ولا يغيرها كان الإعراض نظير الكتمان . واللي نظير تغييرها وتبديلها ، فتأمل ما تحت هذه الآية من كنوز العلم .

والمقصود : أن الواجب الذي لا يتم الإيمان بل لا يحصل مسمى الإيمان إلا به ، مقابلة النصوص بالتلقي والقبول والإظهار لها ودعوة الخلق إليها ، ولا تقابل بالاعتراض تارة وباللي أخرى .

وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فدل هذا على انه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسالة من المسائل حكم طلبي أو خبري ، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه ، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً ، فدل على أن ذلك مناف للإيمان .

وقد حكى الشافعي رضي الله تعالى عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد ، ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه ، فإن الحجة الواجب إتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع فضلاً عن أن يعارض بها النصوص وتقدم عليها ، عياذاً بالله من الخذلان .

وقال تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } ، فأخبر سبحانه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها ، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه وليس هذا من باب دلالة المفهوم ، كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن أنه محتاج في تقريره الدلالة منه لا تقرير كون المفهوم حجة بل هذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها ، إذا ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه ، وإلا لم يكن شرطا له .

إذا ثبت هذا : فالآية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته ، وفي إعادة الفعل في قوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } دون الاكتفاء بالفعل الأول سر لطيف وفائدة جليلة سنذكرها عن قريب إن شاء الله تعالى .

وقوله تعالى : { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل } الفعل للمخاطبين وأصله فان تتولوا ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً . والمعنى أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم . كما قال رسول الله ﷺ : " من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم " . فإن تركتم أنتم ما حملتموه من الإيمان والطاعة فعليكم لا عليه ، فإنه لم يحمل إيمانكم وإنما حمل تبليغكم ، وإنما حمل أداء الرسالة إليكم { وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } ليس عليه هداهم وتوفيقهم .

وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير واحسن تأويلا } .

فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله ، وافتتح الآية بالنداء باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به ، كما يقال : يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله ، أحسن كما احسن الله إليك : ويا أيها العالم علم الناس ما ينفعهم ، ويا أيها الحاكم احكم بالحق ، ونظائره .

ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القرآن بالشرائع كقوله تعالى { يا آيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام } ، { يا آيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة } ، { يا آيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . ففي هذا إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا فإنه من موجبات الإيمان وتمامه .

ثم قال تعالى : { يا آيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة أولي الأمر ، وسلط عليهما عاملاً واحداً . وقد كان ربما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ولكن الواقع هنا في الآية المناسب .

وتحته سر لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وإن لم يكن مأموراً به بعينه في القرآن طاعة الرسول مفردة ومقرونة . فلا يتوهم متوهم أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه ، كما قال النبي ﷺ : " يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ، ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه . ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه .

أما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول ، لا طاعة مفردة مستقلة ، كما صح عن النبي ﷺ أنه قال : " على المرء السمع والطاعة فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله تعالى فإذا أمر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة " .

فتأمل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } ولم يقل : وإلى الرسول . فإن الرد إلى القرآن رد إلى الله والرسول ، فما حكم به الله تعالى هو بعينه حكم رسوله وما يحكم به الرسول ﷺ هو بعينه حكم الله . فادا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه يعني كتابة فقد رددتموه إلى رسوله . وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله ، وهذا من أسرار القرآن .

وقد اختلفت الرواية عن الإمام احمد رحمه الله تعالى في أولي الأمر وعنه فيهم رحمه الله تعالى روايتان :

إحداهما : انهم العلماء ، والثانية : انهم الأمراء .

والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله ، فان العلماء ولاته حفظا وبياناً وذباً عنه ورداً على من الحد فيه وزاغ عنه ، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فيالها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعاً لهم ، والأمراء ولاته قياماً وعناية وجهاداً وإلزاماً للناس به ، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الإنساني تبع لها ورعية .

ثم قال تعالى : { فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله ، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضادَّ أمر الله ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية ، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله ، ولهذا قال الله تعالى { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهذا مما ذكرنا آنفاً أنه شرط ينتفي المشروط بانتفائه ، فدل على أن من حَكّمَ غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجاً من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وحسبك بهذه الآية العاصمة القاصمة بياناً وشفاء فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما أمرت به .

قال الله تعالى { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم } [ الأنفال : 42 ] .

وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته والرد إلى سنته بعد وفاته .

ثم قال تعالى : { ذلك خيراً وأحسن تأويلا } أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولياء الأمر ورد ما تنازعتم فيه إلىَّ وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادَكم ، وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم واحسن عاقبة .

فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا وآجلاً . ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته ، وكل خير في العالم فانه بسبب طاعة الرسول . وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها ، فعاد شر الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط ، وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض فكذلك هو في الشر والألم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فإنما هو بسبب مخالفة الرسول ، ولأن طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الآمنين والكهف الذي من لجأ إليه كان من الناجين .

فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هو الجهل بما جاء به الرسول ﷺ والخروج عنه ، وهذا برهان قاطع على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول ﷺ علماً والقيام به عملا .

وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين :

أحدهما : دعوة الخلق إليه .

والثاني : صبره واجتهاده على تلك الدعوة .

فانحصر الكمال الإنساني على هذه المراتب الأربعة .

أحدهما : العلم بما جاء به الرسول ﷺ .

والثانية : العمل به .

والثالثة : نشره في الناس ودعوتهم إليه .

والرابعة : صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه .

ومن تطلعت همته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأراد اتباعهم فهذه طريقهم حقا :

فان شئت وصل القوم فاسلك سبيلهم * فقد وضحت للسالكين عياناً

وقال تعالى لرسوله ﷺ : { قل إن ضللت فإنما أضلُ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلى ربي انه سميع قريب } فهذا نص صريح في أن هدي الرسول ﷺ إنما يحصل بالوحي ، فيا عجبا ! كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة ؟! ولكن { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } ، فأي ضلال اعظم من ضلال من زعم أن الهداية لا تحصل بالوحي ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان ؟ وقول زيد وعمرو ولقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى والحمد لله رب العالمين .

وقال تعالى : { المص * كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتندر به وذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله ونهي عن اتباع غيره ، فما هو إلا اتباع المنزل . واتباع أولياء من دونه . فانه لم يجعل بينهما واسطة فكل من لا يتبع الوحي فإنما يتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به .

وقال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه ، يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخد فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني . وكان الشيطان للإنسان خذولا } فكل من اتخذ غير الرسول ، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول ﷺ فانه قائل هذه المقالة لا محالة . ولهذا هذا الخليل كنى عنه باسم فلان إذ لكل متبع أولياء من دون الله فلان وفلان . فهذا حال الخليلين المتخالين على خلاف طاعة الرسول ﷺ ومآل تلك الخلة إلى العداوة واللعنة كما قال الله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وقد ذكر حال هؤلاء الأتباع وحال من تبعوهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول . وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا } تمنى القوم طاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم ذلك واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك ، وانهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول ، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا } وفي بعض هذا عبرة للعاقل وموعظة شافية ، وبالله التوفيق .

وقال تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم انهم كانوا كافرين . قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفاً من النار . قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون . وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون . }

فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر .

وقوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } ذكر الصنفين المبطلين .

أحدهما : منشئ الباطل والفرية وواضعها وداعي الناس إليها .

والثاني : مكذب بالحق .

فالأول : كفره بالافتراء وإنشاء الباطل

والثاني : كفره بجحود الحق .

وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل . فان انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله وصد الناس عن الحق ، استحق تضعيف العذاب لكفره وشره .

ولهذا قال تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } فلما كفروا وصدوا عباده عن سبيله عذبهم عذابين : عذابا بكفرهم وعذابا بصدهم عن سبيله ، وحيث يذكر الكفر المجرد لا يعدد العذاب ، كقوله تعالى : { والكافرين لهم عذاب أليم } وقوله تعالى : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب يعني ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله ؟ قالوا : ضلوا عنا } زالوا وفارقوا وبطلت تلك الدعوة { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } ادخلوا في جملة هذه الأمم كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم } كل أمة متأخرة لأسلافها { ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذاباً ضعفاً من النار } ضاعفه عليهم بما أضلونا وصدونا عن طاعة رسلك ، قال الله تعالى : { لكل ضعف من الأتباع والمتبوعين بحسب ضلاله وكفره { ولكن لا تعلمون } لا تعلم كل طائفة بما فيه أختها من العذاب المضاعف { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } فإنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل وبينوا لكم الحق وحذروكم من ضلالنا ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا ، فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا وترك الحق الذي أتتكم به الرسل . فأي فضل كان لكم علينا ، وقد ضللتم كما ضللنا ، وتركتم الحق كما تركنا ، فضللتم انتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين . فأي فضل كان لكم علينا { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } فلله ما أشفاها من موعظة وما أبلغها من نصيحة لو صادفت من القلوب حياة فان هذه الآية وأمثالها مما يذكر قلوب السائرين إلى الله وأما أهل البطالة فليس عندهم من ذلك خبر .






الموالاة لله

فهذا حكم الأتباع والمتبوعين المشركين في الضلالة . وأما الأتباع المخالفون لمتبوعيهم ، العادلون عن طريقتهم الذين يزعمون أنهم لهم تبع وليسوا متبعين لطريقتهم ، فهم المذكورون في قوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا . كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } ، فهؤلاء المتبوعون كانوا على هدى وأتباعهم ادعوا أنهم كانوا على طريقتهم ومنهاجهم ، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقتهم ، يزعمون أنهم يحبونهم وأن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم ، فيتبرءون منهم يوم القيامة فإنهم اتخدوهم أولياء من دون الله وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم .

وهذه حال كل من اتخد من دون الله ورسوله وليجة وأولياء ، يوالي لهم ويعادي لهم ، ويرضى لهم ويغضب لهم فان أعماله كلها باطلة يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته ، ومحبته وبغضه ، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله وقطع تلك الأسباب ، فينقطع يوم القيامة كل وصلة ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى ، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله ، وتجريد عبادته له وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والإبعاد وتجريده متابعة رسوله وترك أقوال غيره ، وترك ما خالف ما جاء به والإعراض عنه وعدم الاعتناء به وتجريد متابعته تجريدا محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره ، فضلا عن الشركة بينه وبين غيره ، فضلا عن تقديم قول غيره عليه .

فهذا هو السبب الذي لا ينقطع بصاحبه ، وهذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه ، وهي نسبة العبودية المحضة وهي آخيته التي يحول ما يحول ثم إليها مرجعة :

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبداً لأول مـنزل

وهذه هي النسبة التي تنفع العبد ، فلا ينفعه غيرها في الدور الثلاثة : أعني دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، فلا قوام له ولا عيش ولا نعيم ولا فلاح إلا بهذه النسبة . وهي السبب الواصل بين العبد وبين الله ولقد أحسن القائل :

إذا تقطع حبل الوصل بينهم * فللمحبين حبل غير منقطـع

وان تصدع شمل القوم بينهم * فللمحبين شمل غير متصدع

والمقصود أن الله سبحانه يقطع يوم القيامة الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها ، ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين الله فقط وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقيق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم وقد قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءاً منثورا } ، فهذه هي أعماله التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءاً منثورا . ولا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلاً ، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة : أن يرى سعيه كله ضائعاً لم ينتفع منه بشيء وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله ، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم .

فهدا حكم اتباع الأشقياء . فأما اتباع السعداء فنوعان :

اتباع لهم حكم الاستقلال وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } . فهؤلاء هم السعداء الذين ثبت لهم رضا الله عنهم وهم أصحاب رسول الله ﷺ وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة . ولا يختص ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط وإنما خص التابعين بمن رأوا الصحابة تخصيصا عرفياً ليتميزوا به عمن بعدهم فقيل : التابعون مطلقاً لذلك القرن فقط ، وإلا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه .

وقيد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية بإحسان ليست مطلقة فتحصل بمجرد النية والإتباع في شيء والمخالفة في غيره ، ولكن تبعية مصاحبة الإحسان ، وأن الباء ها هنا للمصاحبة . والإحسان والمتابعة شرط في حصول رضاء الله عنهم وجناته ، وقد قال تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .

فالأولون : هم الذين أدركوا رسول الله ﷺ وصحبوه . والآخرون : هم الذين لم يلحقوهم وهم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة فيكون التأخر وعدم اللحاق في الفضل والرتبة بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة والقولان كالمتلازمين فإن من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان فهؤلاء الصنفان هم السعداء . وأما من لم يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله ولم يرفع به رأساً فهو من الصنف الثالث وهم : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } .

وقد ذكر النبي ﷺ أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعث به من الهدى في قوله ﷺ : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في الدين فنفعه ما بعثني الله به و مثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .

فشبه ﷺ العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلا منهما سبب الحياة ، فالغيث سبب حياة الأبدان والعلم سبب حياة القلوب ، وشبه القلوب بالأودية كما في قوله تعالى : { أنزل من السماء ماءاً فسالت أودية بقدرها } ، وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث .

إحداها : أرض زكية قابلة للشراب والنبات ، فإذا أصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج ، فذلك مثل القلب الزكي الذكي ، فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه .

والثانية : أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع ، وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه ، فلا تصرف فيه ولا استنبط ، بل للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال النبي ﷺ : " فرب حامل فقه إلى من هو افقه ورب حامل فقه غير فقيه " .

فالأول : كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ما شاء .

والثاني : مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب ، ولكنه حافظ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه .

والأرض الثالثة : أرض قاع وهو المستوى الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء ، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه بشيء ، فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية ، وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تنبت ولا تحفظ ، وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولا يحسن يمسك مالاً .

فالأول : عالم معلم وداع إلى الله على بصيرة فهذا من ورثة الرسل .

والثاني : حافظ مؤد لما سمعه فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر .

والثالث : لا هذا ولا هذا فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأساً .

فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم منها قسمان قسم سعيد وقسم شقي .






الهجرة زاد المسافر


وأما النوع الثاني من الإتباع : فهم اتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا ، وإنما هم مع آبائهم تبع لهم ، وقال الله تعالى فيهم : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } . أخبر سبحانه انه الحق الذرية بآبائهم في الجنة كما اتبعهم إياهم في الإيمان ، ولما كان الذرية لا عمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } والضمير عائد إلى الذين آمنوا ، أي وما نقصناهم من عملهم بل رفعنا ذريتهم إلى درجتهم مع توفيتهم أجور أعمالهم فليست منزلتهم منزلة من لم يكن له عمل بل وفيناهم أجورهم فألحقنا بهم ذريتهم فوق ما يستحقون من أعمالهم .

ثم لما كان هذا الإلحاق في الثواب والدرجات فضلاً من الله فربما وقع في الوهم أن إلحاق الذرية أيضاً حاصل لهم في حكم العدل ، فلما اكتسبوا سيئات أوجبت عقوبة ، كان كل عامل رهيناً بكسبه لا يتعلق بغيره شيء فالإلحاق المذكور إنما هو في الفضل والثواب لا في العدل والعقاب وهذا نوع من أسرار القرآن وكنوزه التي يختص الله بفهمها من شاء .

فقد تضمنت هذه الآية أقسام الخلائق كلهم : أشقيائهم و سعدائهم ، السعداء المتبوعين والأتباع ، والأشقياء المتبوعين والإتباع . فعلى العاقل الناصح لنفسه أن ينظر في أي الأقسام هو ، ولا يغتر بالعادة ويخلد إلى البطالة فإن كان من قسم سعيد انتقل إلى ما هو فوقه وبذل جهده والله ولي التوفيق والنجاح . وإن كان من قسم شقي انتقل منه إلى القسم السعيد في زمن الإمكان قبل أن يقول يا ليتني اتخدت مع الرسول سبيلا .

والمقصود بهذا أن من أعظم التعاون على البر والتقوى والتعاون على سفر الهجرة إلى الله والرسول باليد واللسان والقلب والمساعدة والنصيحة تعليما وإرشاداً ومودة ، ومن كان هكذا مع عباد الله فكل خير إليه أسرع ، واقبل الله إليه بقلوب عباده وفتح على قلبه أبواب العلم ويسره لليسرى ، ومن كان بالضد فبالضد .

فإن قلت : قد أشرت إلى سفر عظيم وأمر جسيم فما زاد هذا السفر وما طريقه وما مركبه ؟

قلت : زاده العلم الموروث من خاتم الأنبياء ﷺ ولا زاد له سواه فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته وليقعد مع الخالفين . فرفقاء المتخلف البطالون أكثر من أن يحصوا ، فله أسوة بهم ، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئا كما قال تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتأسي بعضهم ببعض في العذاب ، فإن مصائب الدنيا إذا عمت صارت مسلاة ، وتأسى بعض المصابين ببعض كما قالت الخنساء :

ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن * أسلي النفس عنه بالتأسي

فهذا الروح الحاصل من التأسي معدوم بين المشتركين في العذاب يوم القيامة .

وأما طريقه : فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع ، فلا يُنال بالمني ، ولن يدرك بالهوينا ، وإنما هو كما قيل :

فخض غمرات الموت واسمُ إلى العلا * لكي تدرك العز الرفيع الدائم

فلا خير في نفس تخاف من الردى * ولا همة تصبو إلى لوم لائم

ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين :

أحدهما : أن لا يصبو في الحق إلى لوم لائم فان اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه ويجعله صريعا في الأرض .

والثاني : أن تهون عليه نفسه في الله ، فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال فمتى خافت النفس تأخرت و أحجمت وأخلدت إلى الأرض ، ولا يتم له هذان الأمران إلا بالصبر ، فمن صبر قليلاً صارت تلك الأهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه ، فبينما هو يخاف منها إذ صارت اعظم أعوانه وخدمه ، وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه .

وأما مركبه فصدق اللجأ إلى الله وانقطاع إليه بكليته وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة إليه وصدق التوكل والإستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المسلوم المكسور الفارغ الذي لاشيء عنده فهو يتطلع إلى قيّمه ووليه أن يجده ويلم شعثه ، ويمده من فضله و يستره فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها .

ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات الله حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه ، وصار له التصرف ، وصار هو الأمير المطاع أمره ، فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنا وهو يباري الريح { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون } .

فان قلت : إنك قد أشرت إلى مقام عظيم فافتح لي بابه ، واكشف لي حجابه ، وكيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه ؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا ، فهل في البيان غير ما ذكروه ؟

قلت : سأضرب لك أمثالاً تحتذي عليها وتجعلها إماماً لك في هذا المقصد ، قال الله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً ، قال سلام قوم منكرون ، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم قال ألا تأكلون ، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ، قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم } .

فعهدى بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون وبشروه بغلام عليم ، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك . ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك .

فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار .

وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم . . .

وكيف جمعت الضيافة وحقوقها . . .

وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة . . .

وكيف تضمنت علما عظيماً من أعلام النبوة . . .

وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة . . .

وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها ثم أفصحت وقوعه . . .

وكيف تضمنت الأخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة . . .

وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما . . .

وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الآخر . . .

وتضمنت انه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة وهم المؤمنون بها . . .

وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها فلا ينتفع بتلك الآيات . . .

فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة : قال الله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام ، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام ، ولهذا قال بعض الناس : إن ( هل ) في مثل هذا الموضع بمعنى ( قد ) التي تقتضي التحقيق . ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ، ومعنى بديع ، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به ، وإحضار الذهن له صدر له الكلام بأداة الاستفهام لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به ، فتارة يصدره بألا ، وتارة يصدره بهل ، فقول : هل علمت ما كان من كيت وكيت ؟ إما مذكرا به ، وإما واعظاً له مخوفا ، وإما منبها على عظمه ما يخبر به ، وإما مقرراً له ، فقوله تعالى : { هل أتاك حديث موسى } و { هل أتاك نبأ الخصم } و { هل أتاك حديث الغاشية } و { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفتها ما تضمنته .

ففيه أمر آخر . وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة فانه من الغيب الذي لا تعمله أنت ولا قومك فهل أتاك من غير أعلامنا وإرسالنا وتعريفنا ؟ أم لم يأتك إلا من قبلنا ؟

فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام ، وتأمل عظم موقعه من جميع موارده يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا . وقوله ضيف إبراهيم المكرمين متضمن لثنائه على خليله إبراهيم فإن في المكرمين قولين .

أحدهما : إكرام إبراهيم لهم ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف .

والثاني : انهم مكرمون عند الله كقوله تعالى : { بل عباد مكرمون } وهو متضمن أيضاً لتعظيم خليله ومدحه ، إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافاً له ، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم . وقوله : { فقالوا سلاما قال سلام } متضمن بمدح آخر لإبراهيم حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به ، فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره : سلمنا عليك سلاماً . وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره سلام دائم أو ثابت أو مستقر عليكم ، ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم والفعلية تقتضي التجدد والحدوث فكانت تحية إبراهيم أكمل واحسن . ثم قال { قوم منكرون } وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح .

إحداهما : أنه حذف المبتدأ والتقدير : انتم قوم منكرون ، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش . وكان النبي ﷺ لا يواجه أحدا بما يكرهه بل يقول : " وما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا " .

الثاني : قوله { قوم منكرون } فحذف فاعل الإنكار وهو الذي كان أنكرهم كما قال في موضع آخر ( نكرهم ) ولا ريب أن قوله ( منكرون ) ألطف من أن يقول أنكرتكم .

وقوله { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال إلا تأكلون } متضمن وجوها من المدح وآداب الضيافة وإكرام الضيف . منها قوله : { فراغ إلى أهله } والروغان الذهاب بسرعة واختفاء وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف ، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء ، وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمرأى منه ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ ، ويتناول الإناء بمرأى منه ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه فلفظة ( راغ ) تنفي هذين الأمرين . وفي قوله تعالى : { إلى أهله } مدح آخر لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله ، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ، ولا يذهب إلى غير أهله إذ قرى الضيف حاصل عندهم .

وقوله : { فجاء بعجل سمين } يتضمن ثلاثة أنواع من المدح :

أحدها : خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه .

الثاني : انه جاءهم بحيوان تام لم ياتهم ببعضه . ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا .

الثالث : انه سمين ليس بهمزول ، وهذا من نفائس الأموال ، ولد البقر السمين فإنهم يعجبون به ، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره . وقوله { إليهم } متضمن المدح وآداباً أخرى وهو إحضار الطعام إلى بين يدي الضيف ، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه .

وقوله { ألا تأكلون } فيه مدح وآداب أخر ، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله : { ألا تأكلون } وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف بخلاف من يقول : : ضعوا أيديكم في الطعام ، كلوا ، تقدموا ، ونحو هذا .

وقوله : { فأوجس منهم خيفة } لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفاً أن يكون معهم شر ، فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه وأنس به ، فلما علموا منه ذلك قالوا : { لا تخف وبشروه بغلام عليم } وهذا الغلام اسحق لا إسماعيل ، لأن امرأته عجبت من ذلك فقالت : عجوز عقيم ، لا يولد لمثلي ، فأنى لي بالولد ؟ وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر وكان بكره وأول ولده . وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } وهذه هي القصة نفسها .

وقوله تعالى : { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها } فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها ، إذ بادرت إلى الندبة فصكت الوجه عند هذا الإخبار . وقوله : { عجوز عقيم } فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة ، فإنها حذفت المبتدأ ولم تقل أنا عجوز عقيم ، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة لم تذكر غيره ، وأما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم وصرحت بالعجب .

وقوله تعالى { قالوا كذلك قال ربك } متضمن لاثبات صفة القول له . وقوله { إنه هو الحكيم العليم } متضمن لإثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والأمر ، فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته ، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته .

والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال ، فالعلم يتضمن الحياة و لوازم كمالها من القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام ، والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل والرحمة والإحسان والجود والبر ، ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها ، ويتضمن إرسال وإثبات الثواب والعقاب .

كل هذا العلم من اسمه الحكيم كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة ، والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلق عبثا وسُدى وباطلاً فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقدر والثواب والعقاب ، ولهذا كان اصح القولين أن المعاد يعلم بالعقل وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته .

ومن تأمل طريقة القرآن وجدها دالة على ذلك . وانه سبحانه يضرب لهم الأمثال المعقولة التي تدل على إمكان المعاد تارة ووقوعه أخرى ، فيذكر أدلة القدرة الدالة على إمكان المعاد وأدلة الحكمة المستلزمة لوقوعه .

ومن تأمل أدلة المعاد في القرآن وجدها كذلك مغنية بحمد الله عن غيرها ، كافية شافية موصلة إلى المطلوب بسرعة ، متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس . وإن ساعد التوفيق كتبت في ذلك سفراً كبيراً لما رأيت في الأدلة التي أرشد إليها القرآن من الشقاء والهدى وسرعة الإنصاف ، وحسن البيان ، والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها بما ينثلج له ، الصدر ويكثر معه اليقين ، بخلاف غيره من الأدلة فإنها على العكس من ذلك وليس هذا موضع التفصيل .

والمقصود : أن صدور الخلق والأمر عن علم الرب وحكمته . واختصت هذه القصة بذكر هذين الإسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة ، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلال بموجب الحكمة .

ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في إرسالهم لهلاك قوم لوط ، وإرسال الحجارة المسومة عليهم . وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله وإهلاك المكذبين لهم والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عياناً في هذا العالم ، وهذا من اعظم الأدلة الدالة على صدق رسله لصحة ما أخبروا به عن ربهم .

ثم قال تعالى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } ففرق بين الإسلام والإيمان هنا لسر اقتضاه الكلام ، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة فهو ، إخراج نجاة من العذاب و لا ريب إن هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرا وباطناً .

وقوله تعالى : { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم لأن امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت وهي مسلمة في الظاهر ، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجيين ، وقد اخبر سبحانه عن خيانة امرأة لوط ، وخيانتها أنها كانت تدل قومها على أضيافه وقلبها معهم ، وليست خيانة فاحشة فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهراً وليست من المؤمنين الناجيين .

ومن وضع دلالة القرآن وألفاظه مواضعها تبين له من أسراره وحكمة ما يبهر العقول ويعلم أنه تنزيل من حكيم حميد .

وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو : أن الإسلام أعم من الإيمان فكيف استثناء الأعم من الأخص ، وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس وتبين أن المسلمين المستثنين مما وقع عليه فعل الوجود ، والمؤمنين غير مستثنين منه بل هم المخرجون الناجون .

وقوله تعالى : { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم } فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وأبقى آثارها دالة عليه وعلى صدق رسله إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ويخشى عذاب الله تعالى كما قال الله تعالى في موضع آخر { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } ، وقال تعالى : { سيذكر من يخشى } فان من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول : هؤلاء قوم أصابهم الدهر كما أصاب غيرهم ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة . وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ .

والمقصود بهذا إنما هو التنبيه والتمثيل على تفاوت الأفهام في معرفة القرآن واستنباط أسراره وآثار كنوزه ويعتبر بهذا غيره ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .

والمقصود أن القلب لما تحول لهذا السفر طلب رفيقاً يأنس به في السفر فلا يجد إلا معارضاً مناقضاً ، أو لائماً بالتأنيب مصرحاً ، أو فارغاً من هذه الحركة معرضاً ، وليت كل ما ترى هكذا فلقد أحسن إليك من خلاَّك وطريقك ولم يطرح شره عليك كما قال القائل :

انا لفي زمن ترك القبيح به * من أكثر الناس إحسان وإجمال

فإذا كان هذا المعروف من الناس فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالإعراض وترك اللائمة والإعتراض إلا ما عسى أن يقع نادراً فيكون غنيمة باردة لا قيمة لها . ولا ينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة بل يسير و لو وحيداً غريباً فانفراد العبد في طريق طلبة دليل على صدق المحبة .

ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى وسفر الهجرة إلى الله ورسوله ، وهو الذي قصد سطرها بكتابتها وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم . وشهد الله وكفى بالله شهيداً ولو توافي أحداً منهم لقابلها بالقبول ولبادر إلى تفهمها وعدّها من أفضل ما أهدى صاحب إلى صاحبه ، فإن غير هذا من جريانات الركب الخيرية وان تطلعت النفوس إليها ففائدتها قليلة وهي في غاية الرخص لكثرة جالبها ، وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم .

ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء ، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده ، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات ، فإنهم يقطعون عليه طريقه ، فليس لهذا السالك أنفع من تلك المرافقة ، وأوفق له من هذه المفارقة ، فقد قال بعض السلف : شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم . فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ، ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا ، حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخله معهم .

فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة ، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر ، وصار بين الناس غريباً وإن كان فيهم مشهوراً ونسيباً ، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه ، يقيم لهم المعاذير ما استطاع ، ويحضهم بجهده و طاقته سائراً فيهم بعينين : عين ناظرة إلى الأمر والنهى ، بها يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ، ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم . وعين ناظرة إلى القضاء والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر و لا يعود بنقض شرع ، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته ، وقفاً عند قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء حق الله فيهم والسلامة من شرهم . فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم و أخلاقهم .

فهذا ما منهم إليه ، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف ، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه ، وهو ما أمر الله به . وأما ما يلتقي به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الإنتقام لنفسه والانتصار لها .

فأي كمال للعبد وراء هذا ؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة ؟ فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم - أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها ، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس فهو خير له وإن شراً في الظاهر ، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف ولا يتولد منه إلا خيراً وان ورد في حالة شر وأذى ، كما قال الله تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } ، وقال تعالى لنبيه ﷺ : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله } وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق ، فإنهم إما يسيئوا في حق الله وفي حق رسوله ، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وإن أساءوا في حقي فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم ، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم ، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة ، فإذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه من أمرك فإن الله يحب المتوكلين .

فهذا وأمثاله من الأخلاق التي أدب الله بها رسوله ، وقال تعالى فيه { وإنك لعلى خلق عظيم } قالت عائشة رضي الله عنها: " كان خلقه القرآن " ، وهذا لا يتم إلا بثلاثة أشياء :

أحدها : أن يكون العود طيباً ، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر .

الثاني : أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الأمور تنافي الكمال ، فإن لم تقو النفس على قهرها و إلا لم تزل مغلوبة مقهورة .

الثالث : علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم ، والزجاجة والجوهرة .

فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى ، وتمت لهم العناية .
والله سبحانه وتعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي 2 الجزء الثاني

ويكي مصدر *

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي 2   الجزء الثاني
 
=وفي ذلك فساد أمر السموات والارض ومن فيهما كما هو المعهود من فساد البلد اذا كان فيها ملكان متكافئان وفسد الزوجة اذا كان لها بعلان والشول اذا كان فيه فحلان واصل فساد العالم انما هو من فساد اختلاف الملوك والخلفاء ولهذ لم تطمع أعداء الاسلام فيهم في زمن من الازمنة الا في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم وانفراد كل واحد منهم ببلاد وطلب بعضهم العلو على بعض فصلاح السموات والارض واستقامتهما وإنتظام أمر المخلوقات على أتم نظام ومن أظهر الادلة على انه لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وان كل معبود من لدن عرشه الى قرار أرضه باطل إلا وجهه الأعلى قال الله تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله اذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحانه الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون وقال تعالى أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وقال تعالى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا قيل المعني لابتغوا السبيل اليه بالمغالبة والقهر كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ويدل عليه قوله في الاية الاخري ولعلى بعضهم على بعض قال شيخنا والصحيح ان المعنى لابتغوا اليه سبيلا بالتقرب اليه وطاعته فكيف تعبدونهم من دونه وهم لو كانوا آلهة كما يقولون لكانوا عبيدا له قال ويدل على هذا وجوه منها قوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه أي هؤلاء الذين يعبدونهم من دوني هم عبادي كما أنتم عبادي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تعبدونهم من دوني الثاني انه سبحانه لم يقل لابتغوا عليه سبيلا قال لابتغوا اليه سبيلا وهذا اللفظ إنما يستعمل في القرب كقوله تعالى اتقوا الله وابتغوا الوسيلة وأما في المغالبة فانما يستعمل بعلى كقوله فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا الثالث إنهم لم يقولوا إن آلهتهم تغالبه وتطلب العلو عليه وهو سبحانه قال قل لو كان معه الهة كما يقولون وهم انما كانوا يقولون ان آلهتهم تبتغي التقرب اليه وتقربهم زلفى اليه قال تعالى لو كان الامر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدا له فلماذا تعبدون عبيده من دونه


فصل

والمحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام سواء كانت محمودة أو مذمومة نافعة أو ضارة من الوجه والذوق والحلاوة والشوق والانس والاتصال بالمحبوب والقرب منه والانفصال عنه والبعد منه والصد والهجران والفرح والسرور والبكا والحزن وغير ذلك من أحكامها ولوازمها والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وآخرته وهذه المحبة هي عنوان السعادة وضدها هي التي تجلب لصاحبها ما يضره في دنياه وآخرته وهي عنوان الشقاوة ومعلوم ان الحى العاقل لا يختار محبة ما يضره ويشقيه وإنما يصدر ذلك عن جهله وظلمه فان النفس قد تهوي ما يضرها ولا ينفعها وذلك ظلم من الانسان لنفسه اما ان تكون النفس جاهلة بحال محبوبها بان تهوي الشيء وتحبه غير عالمة بما في محبته من المضرة وهذا حال من اتبع هواه بغير علم واما عالمة بما في محبته من الضرر لكن يؤثر هواها على علمها وقد تتركب محبتها من أمرين من إعتقاد فاسد وهوي مذموم وهذا حال من اتبع الظن وما تهوي الانفس فلا تقع المحبة الفاسدة الا من جهل أو اعتقاد فاسد وهو غالب أو ما تركب من ذلك فاعان بعضه بعضا فتنفق شبهة يشتبه بها الحق بالباطل يزين له أمر المحبوب وشهوة تدعوه الى وصوله فيتساعد جيش الشبهة والشهوة على جيش العقل والايمان والغلبة لاقواهما اذا عرف هذا فتوابع كل نوع من أنواع المحبة له حكم متبوعه فالمحبة النافعة المحمودة التي هي عنوان سعادة العبد وتوابعها كله نافعة له حكمها حكم متبوعها فان بكي نفعه وإن حزن نفعه وإن فرح نفعه وإن انبسط نفعه وإن انقبض نفعه فهو يتقلب في منازل المحبة وأحكامها في مزيد وربح وقوة والمحبة والمضرة المذمومة توابعها وآثارها كلها ضارة لصاحبها مبعدة له من ربه كيف ما تقلب في آثارها ونزل في منازلها فهو في خسارة وبعد وهذا شأن كل فعل تولد عن طاعة ومعصية فكل ما تولد من الطاعه فهو زيادة لصاحبه وقرب وكل ما تولد من المعصية فهو خسران لصاحبه وبعد قال تعالى ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون فأخبر الله سبحانه في الاية الاولى أن المتولد عن طاعتهم وأفعالهم يكتب لهم به عمل صالح وأخبر في الثانية أن أعمالهم الصالحة التي باشروها تكتب لهم أنفسها والفرق بينهما ان الاول ليس من فعلهم وإنما تولد عنه فكتب لهم به عمل صالح والثاني نفس أفعالهم فكتب لهم فليتأمل قتيل المحبة هذا الفصل حق التأمل ليعلم ما له وما عليه

سيعلم يوم العرض أي بضاعة ... أضاع وعند الوزن ما كان حصلا


فصل

وكما ان المحبة والارادة أصل كل فعل كما تقدم فهى أصل كل دين سواء كان حقا أم باطلا فان الدين من الاعمال الباطنة والظاهرة والمحبة والارادة أصل ذلك كله والدين هو الطاعة والعبادة والخلق فهو الطاعة اللازمة الدائمة التي صارت خلقا وعادة ولهذا فسر الخلق بالذين في قوله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم قال الامام أحمد عن ابن عيينة قال ابن عباس لعلي دين عظيم وسئلت عائشة عن خلق النبي فقالت كان خلقه القرآن والدين فيه معنى الاذلال والقهر فيه معنى الذل والخضوع والطاعة فلذلك يكون من الاعلى الى الاسفل كما يقال دنته فدان أي قهرته فذل قال الشاعر

هو أدنى الزمان أذكر هذا الدين ... فاصبحوا بغرة وصيان

ويكون من الادنى الى الاعلى كما يقال دنت الله ودنت لله وفلان لا يدين الله دينا ولا يدين الله بدين فدان الله أي أطاع الله وأحبه وخافه ودان لله أي خشع له وخضع وذل وانقاد والدين الباطل لا بد فيه من الخضوع والحب كالعبادة سواء بخلاف الدين الظاهر فانه لا يستلزم الحب وإن كان فيه انقياد وذل في الظاهر وسمي الله تعالى يوم القيامة يوم الدين لانه اليوم الذي يدين فيه الناس فيه باعمالهم إن خير فخيرا وإن شرا فشر وذلك يتضمن جزاؤهم وحسابهم فلذلك فسروا بيوم الجزاء ويوم الحساب وقال تعالى فلولا إن كنتم غير مدينين يرجعونها إن كنتم صادقين أي هلا تردون الروح الى مكانها إن كنتم غير مدبوبين ولا مقهورين ولا مجزيين وهذه الآية تحتاج الى تفسير فانها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب ولا بد أن يكون الدليل مستلزم لمدلوله بحيث ينتقل الذهن منه الى المدلول لما بينهما من التلازم فيكون الملزوم دليل على لازمه ولا يجب العكس ووجه الاستدلال أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء فقد كفروا بربهم وأنكروا قدرته وربوبيته وحكمته فاما أن يقروا بان لهم ربا قاهرا متصرفا فيهم يميتهم إذا شاء ويحييهم إذا شاء ويأمرهم وينهاهم ويثيب محسنهم ويعاقب مسيئهم وأما أن لا يقروا برب هذا شأنه فان أقروا آمنوا بالبعث والنشور والدين الامري والجزائي وإن أنكروه وكفروا به فقد زعموا إنهم غير مربوبين ولا محكوم عليه ولا لهم رب يتصرف فيهم كما أراد فهلا يقدرون على دفع الموت عنهم اذا جاءهم وعلى رد الروح الى مستقرها إذا بلغت الحلقوم وهذا خطاب للحاضرين وهم عند المحتضر وهم يعاينون موته أي فهلا يردون الروح الى مكانها إن كان لهم قدرة وتصرف ولستم بمربوبين ولا مقهورين لقاهر قادر يمضي عليكم أحكامه وينفذ فيكم أوامره وهذه غاية التعجيز لهم إذا تبين عجزهم عن رد نفس واحدة الى مكانها ولو اجتمع على ذلك الثقلان فيالها من آية دالة على وحدانيته وربوبيته سبحانه وتصرفه في عباده ونفوذ أحكامه فيهم وجريانها عليهم والدين دينان دين شرعي أمري ودين حسابي جزائي وكلاهما لله وحده فالدين كله أمرا أو جزاء والمحبة أصل كل واحد من الدينين فان ما شرعه وأمر به يحبه وبرضاه وما نهى عنه فانه يكرهه ويبغضه لمنافاته لما يحبه ويرضاه فهو يحب ضده فعاد دينه الامري كله الى محبته ورضاه ودين العبد لله به إنما يقبل إذا كان عن محبة ورضي كما قال النبي ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا وهذا الدين قائم بالمحبة وبسببها شرع ولاجلها شرع عليها أسس وكذلك دينه الجزائي فانه يتضمن مجازات المحسن باحسانه والمسىء باساءته وكل من الامرين محبوب للرب فانهما عدله وفضله وكلاهما من صفات كماله وهو سبحانه يحب صفاته وأسمائه ويحب من يحبها وكل واحد من الدينين فهو صراطه المستقيم الذي هو عليه فهو سبحانه على صراط مستقيم في أمره ونهيه وثوابه وعقابه كما قال تعالى إخبارا عن نبيه هود عليه السلام إنه قال لقومه إني أشهد الله وأشهدوا إني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ولما علم نبي الله أن ربه على صراط مستقيم في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وقضائه وقدره ومنعه وعطائه وعافيته وبلائه وتوفيقه وخذلانه لا يخرج في ذلك عن موجب كماله المقدس الذي تقتضيه أسماؤه وصفاته من العدل والحكمة والرحمة والاحسان والفضل ووضع الثواب في مواضعه والعقوبه في موضعها اللائق بها ووضع التوفيق والخذلان والعطاء والمنع والهداية والاضلال كل ذلك في أماكنه ومحاله اللائقة به بحيث يستحق على ذلك كمال الحمد والثناء أوجب له ذلك العلم والعرفان إذ نادى على رؤس الملأ من قومه بجنان ثابت وقلب غير خائف بل متجرد لله إني أشهد الله واشهدوا إني بريء مما تشركون من دونه الآية ثم أخبر عن عموم قدرته وقهره بكل ما سواه وذل كل شيء لعظمته فقال ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فكيف أخاف من ناحيته بيد غيره وهو في قبضته وتحت قهره وسلطانه دونه وهل هذا الامر إلا من أجهل الجهل وأقبح الظلم ثم أخبر أنه سبحانه على صراط مستقيم فكل ما يقضيه ويقدره فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه فلا أخاف ما دونه فإن ناصيته بيده ولا أخاف جوره وظلمه فانه على صراط مستقيم وهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه له الملك وله الحمد لا يخرج في تصرفه في عباده عن العدل والفضل إن أعطي وأكرم وهدي ووفق فبفضله ورحمته وإن منع وأهان وأضل وخذل وشقي فبعدله وحكمته وهو على صراط مستقيم في هذا وهذا وفي الحديث الصحيح ما أصاب عبد قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسئلك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وحزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله فرجا مكانه وهذ يتناول حكم الرب الكوني والامري والقضاء الذي يكون باختيار العبد وبغير اختياره وكلا الحكمين ماض في عبده وكلا القضائين عدل فيه فهذا الحديث مشتق من هذه الآية بينهما أقرب نسب وبالله التوفيق


فصل

ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر فإنه يفسد القلب بالذات وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال وفسد ثغر التوحيد كما تقدم وسنقرره أيضا إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس وهم اللوطية والنساء فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه مع إن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك لوجوه أحدها ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله الى المرأة كما يميل العطشان الى الماء والجائع الى الطعام حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء وهذا لا يذم اذا صادف حلال بل يحمد كما في كتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يوسف بن عطية الصغار عن ثابت البناني عن أنس عن النبي حبب الي من دنياكم الطيب والنساء أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن الثاني أن يوسف عليه السلام كان شبا وشهوة الشباب وحدته أقوى الثالث أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة الرابع أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه وأهله ومعارفه الخامس أن المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث أن كل واحد من هذين الامرين يدعو الى موافقتها السادس أنها غير آبية ولا ممتنعة فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في لمرأة إباؤها وامتناعها لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها وكثير من الناس يزيده الأباء والإمتناع زيادة حب كما قال الشاعر

وزادني كلفا في الحب إن منعت ... أحب شيء الى الإنسان ما منعا

فطباع الناس مختلفة في ذلك فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها وتضمحل عند إبائها وإمتناعها وأخبرني بعض القضاة أن إرادته وشهوته تضمحل عند إمتناع زوجته أو سريته وإبائها بحيث لا يعاودها ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع ويشتد شوقه بكل ما منع وتحصل له من اللذة بالظفر نظير ما يحصل من لذة بالظفر بالضد بعد إمتناعه ونفاره واللذة بإدراك المسألة بعد إستصعابها وشدة الحرص على إدراكها السابع أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة اليها بل كانت هي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب إليه الثامن إنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث يخشى إن لم يطاوعها من اذا هاله فاجتمع داعي الرغبة والرهبة التاسع إنه لا يخشى أن تنمي عليه هي ولا أحد من جهتها فإنها هي الطالبة والرغبة وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء العاشر أنه كان مملوكا لها في الدار بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه وكان الأمن سابقا على الطلب وهو من أقوى الدواعي كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا قالت قرب الوساد وملول السواد تعني قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا الحادي عشر أنها استعانت عليه بأئمة المكر والإحتيال فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه فاستعان هو بالله عليهن فقال وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين الثاني عشر أنها تواعدته بالسجن والصغار وهذا أنواع إكراه إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار الثالث عشر أن الزوج لم يظهر منه الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما ويبعد كلا منهما عن صاحبه بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف أعرض عن هذا وللمرأة إستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع وهنا لم يظهر منه غيرة ومع هذه لدواعي كلها فآثر مرضات الله وخوفه وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا فقال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه وان ربه تعالى لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفقنا الله أن نفردها في مصنف مستقل


فصل

والطائفة الثانية الذين حكى الله عنهم العشق هم اللوطية كما قال تعالى وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا ألم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فهذه عشقة فحكاه سبحانه عن طائفتين عشق كل منهما ما حرم عليه من الصور ولم يبال بما في عشقه من الضرر وهذا داء أعي الأطباء دواؤه وعز عليهم شفاؤه وهو والله الداء العضال والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى إستنقاذه من إسارة ولا اشتعلت نار في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره وهو أقسام وهو تارة يكون كفر لمن إتخذ معشوقه ندا يحبه كما يحب الله فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه فهذا عشق لا يغفر لصاحبه فإنه من أعظم الشرك والله لا يغفر أن يشرك به وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك وعلامة هذا العشق الشركي الكفرى أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحقه وحق ربه وطاعته قدم حق معشوقه على حق ربه وآثر رضاه على رضاه وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه وبذل لربه إن بذل أردى ما عنده واستفرغ وسعه في مرضات معشوقه وطاعته والتقرب إليه وجعل لربه إن أطاعه الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته فتأمل حال أكثر عشاق الصور هل تحدها مطابقة لذلك ثم ضع حالهم في كفة وتوحيدهم في كفة وإيمانهم في كفة ثم زن وزنا يرضي الله ورسوله ويطابق العدل وربم صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه كما قال العاشق الخبيث

يترشفن من فمي رشفات ... هن أحلى فيه من التوحيد

وكما صرح الخبيث الآخر بأن وصل معشوقه أشهى إليه من رحمة ربه فعياذا بك اللهم من هذا الخذلان ومن هذا الحال قال الشاعر

وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل

ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله فصار عبدا مخلصا من كل وجه لمعشوقه فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبودية المخلوق مثله فإن العبودية أي كمال الحب والخضوع وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذله لمعشوقه فقد أعطاه حقيقة العبودية ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة فإن تلك ذنب كبير لفاعله حكمه حكم أمثاله ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك وكان بعض الشيوخ من العارفين يقول لئن أبتلى بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إلى من أن أبتلى فيها بعشق يتعبد لها قلبي ويشغله عن الله


فصل

ودواء هذا الداء القتال أن يعرف إنما إبتلى به من الداء المضاد للتوحيد أولا ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بم يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه ويكثر اللجاء والتضرع الى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يرجع بقلبه إليه وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين وأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما تمكن من قلب فارغ كما قال

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا

وليعلم العاقل أن العقل والشرع قد يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها وإعدام المفاسد وتقليلها فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه المصلحة والمفسدة وجب عليه أمران أمر علمي وأمر عملي فالعلمي طلب معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إتيان الأصلح له ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة وذلك من وجوه أحدها الإشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه ويكون السلطان والغلبة له الثاني عذاب قلبه بمعشوقه فإن من أحب شيئا غير الله عذب به ولا بد كما قيل

فما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكيا في كل حين ... مخافة فرقة أو لإشتياق

فيبكي إن ناؤا شوقا إليهم ... ويبكي إن دنو خوف الفراق

فتسخن عينه عند الفراق ... وتسخن عينه عند التلاق

والعشق وإن استلذ به صاحبه فهو من أعظم عذاب القلب الثالث أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه فقلبه كالعصفورة في كف الطفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق ويعيش الخلي عيش المسيب المطلق والعاشق كما قيل

طليق برأي العين وهو أسير ... عليل على قطب الهلاك يدور

وميت يرى في صورة الحي غاديا ... وليس له حتى النشور نشور

أخو غمرات ضاع فيهن قلبه ... فليس له حتى الممات حضور

الرابع أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور أما مصالح الدين فإنها منوطة بلم شعث القلب وإقباله على الله وعشق الصور أعظم شيئا تشعيثا وتشتيتا له وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه فمصالح دنياه أضيع وأضيع الخامس أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب وسبب ذلك إن القلب كلما قرب من العشق قوى اتصاله به بعد من الله فأبعد القلوب من الله قلوب عشاق الصور وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية فإن الشيطان يتولاه من تولاه عدوه واستولى عليه لم يأله وبالا ولم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله فما الظن من قلب تمكن منه عدوه وأحرص الخلق على عيبه وفساده وبعده من وليه ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقربه ولا ولايته السادس أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوى سلطانه أفسد الذهن وأحدث الوساوس وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون به وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها بل بعضها يشاهد بالعيان وأشرف ما في الإنسان عقله وبه يتميز عن سائر الحيوانات فإذا عدم عقله التحق بالبهائم بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضرابه إلا العشق وربما زاد جنونه على جنون غيره كما قيل

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون بالحين

السابع أنه ربما أفسد الحواس أو نقصها إما فسادا معنويا أو صوريا أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فيرى القبيح حسنا منه ومن معشوقه كما في المسند مرفوعا حبك الشيء يعمي ويصم فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوي المحبوب وعيوبه فلا ترى العين ذلك ويصم أذنه عن الإصغاء الى العذل فيه فلا تسمع الأذن ذلك والرغبات تستر العيوب فإن الراغب في شيء لا يرى عيوبه حتى إذ زالت رغبته فيه أبصر عيوبه فشدت الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو عليه كما قيل

هويتك إذ عينى عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

والداخل في الشيء لا يرى عيوبه والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الاسلام بعد الكفر خير من الذين ولدوا في الاسلام قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما ينتقض عرى الاسلام عروة عروة إذا ولد في الاسلام من لا يعرف الجاهلية وأما فساده للحواس ظاهرا فإنه يمرض البدن وينهكه وربما أدى الى تلفه كما هو المعروف في أخبار من قتله العشق وقد رفع الى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد انتحل حتى عاد جلدا على عظم فقال ما شأن كما تقدم هو الإفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق على القلب من العاشق حتى لا يخلو من تخيله وذكره والفكر فيه بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القوى فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يضر دواؤه ويتعذر أفعاله وصفاته ومقاصده ويختل جميع ذلك فتعجز البشر عن صلاحه كما قيل

الحب أول ما يكون لجاجة ... يأتى بها وتسوقه الأقدار

حتى إذا خاض الفتى لجج الهوي ... جاءت أمور لا تطاق كبار

والعشق مباديه سهلة حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وسقم وآخره عطب وقتل إن لم يتداركه عناية من الله كما قيل

وعش خاليا فالحب أوله عنا ... وأوسطه سقم وآخره قتل وقال آخر

تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق

رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق

والذنب له فهو الجاني على نفسه وقد قعد تحت المثل السائر يداك أو كتا وفوك نفخ




فصل

والعاشق له ثلاث مقامات مقام ابتداء ومقام توسط ومقام انتهاء فأما مقام ابتدائه فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول الى معشوقه متعذرا قدرا وشرعا فإن عجز عن ذلك وأبى قلبه إلا السفر الى محبوبه وهذا مقام التوسط والإنتهاء فعليه كتمانه ذلك وأن لا يفشيه الى الخلق ولا يشمت بمحبوبه ولا يهتكه بين الناس فيجمع بين الظلم والشرك فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم وربما كان أعظم ضررا على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه الى وقوع الناس فيه وانقسامهم الى مصدق ومكذب وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة وإذا قيل فلان فعل بفلان أو بفلانه كذبه واحد وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعين وخبر العاشق للهتك عن المتهتك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع اليقين بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه كذبا وافتراء على غيره جزموا بصدقة جزما لا يحتمل النفيض بل لو جمعهما مكانا واحدا إتفاقا جزموا أن ذلك عن وعد وإتفاق بينهما وجزمهم في هذا الباب على الظنون والتخييل والشبهة والأوهام والأخبار الكاذبة كجزمهم بالحسيات المشاهدة وبذلك وقع أهل لإفك في الطيبة المطيبة حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات بشبهة مجيء صفوان بن المعطل بها وحده خلف العسكر حتى هلك من هلك ولولا أن تولى الله سبحانه براءتها والذب عنها وتكذيب قاذفها لكان أمرا آخر والمقصودان في إظهار المبتلى عشق من لا يحل له الإتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه فإن استعان عليه ممن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم وانتشر وصار ذلك الواسطة بين الراشي والمرتشي وصار ذلك الواسطة ظالم وإذا كان النبي قد لعن الرائش وهو الواسطة ديوثا ظالما بين الراشي أو المرتشي لإيصال الرشوة فما الظن بالديوث الواسطة بين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرمة فيتساعد العاشق على ظلم المعشوق وغيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس ومال أو عرض فإن كثيرا ما يتوقف حصول المطلوب غرضه على قتل نفس يكون حياتها مانعة من غرضه وكم قتيل طل دمه بهذا السبب من زوج وسيد قريب وكم خبثت امرأة على بعلها وجارية وعبد على سيدهما وقد لعن رسول الله من فعل ذلك وتبرأ منه وهو من أكبر الكبائر وإذا كان النبي قد نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته وأمته حتى يتصل بهما وعشاق الصور ومساعدوهم من الديثة لا يرون ذلك ذنبا فإن في طلب العاشق وصل معشوقه ومشاركة الزوج والسيد ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يربو عليها ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة فإن التوبة وإن أسقطت حق الله فحق العبد باق له المطالبة به يوم القيامة فإن من ظلم الوالد بإفساد ولده وفلذة كبده ومن هو أعز عليه من نفسه وظلم الزوج بإفساد حبيبته والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه بأخذ ماله ولا يعدل ذلك عنده إلا سفك دمه فيا له من ظلم أعظم إثما من فعل الفاحشة فإن كل ذلك حقا لغاز في سبيل الله وقف له الجاني الفاعل يوم القيامة وقيل له خذ من حسناته ما شئت كما أخبر بذلك النبي ثم قال فما ظنكم أي فما تظنون تبقى له من حسناته فإن إنضاف الي ذلك أن يكون المظلوم جارا أو ذا رحم محرم تعدد الظلم وصار ظلما مؤكدا لقطيعة الرحم وأذي الجار ولا يدخل الجنة قاطع رحم ولا من لا يأمن جاره بوائقه فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم الى الشرك والظلم كفر السحر فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدي ضرره فأمر لا يخفى فإنه إذا حصل له مقصوده من المعشوق فللمعشوق أمور أخر يريد من العاشق إعانته عليها فلا يجد من إعانته بدا فيبقى كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان فالمعشوق يعين العاشق على ظلم من اتصل به من أهله وأقاربه وسيده وزوجه والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقفا على ظلمه فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس فيحصل العدوان والظلم للناس بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم وكما جرت به العادة بين العشاق والمعشوقين من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وعدوان وبغي حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله في تحصيل مال من غير حله وفي استطالته على غيره فإذا اختصم معشوقه وغيره أو تشاكيا لم يكن إلا في جانب المعشوق ظالما كان أو مظلوما هذا الى ما ينضم الى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحيل على أخذ أموالهم والتوصل بهما الى معشوقه بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك وربما أدى ذلك الى قتل النفس التي حرم الله ليأخذ ماله ليتوصل به الى معشوقه فكل هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور وربما حمله على الكفر الصريح وقد ننصر جماعة ممن نشأ في الإسلام بسبب العشق كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر وهو على سطح مسجد امرأة جميلة ففتن بها فنزل ودخل عليها وسألها نفسها فقالت هي نصرانية فإن دخلت في ديني تزوجت بك ففعل فرقي في ذلك اليوم على درجة عندهم فسقط منها فمات ذكر هذا عبد الحق في كتاب العاقبة له وإذا أراد النصارى أن ينصروا الأسير أروه امرأة جميلة وأمروها أن تطمعه في نفسها حثى إذا تمكن حبها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها فهنالك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه لمعاونته له على الفاحشة وظلمه لنفسه فكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه وظلمهما متعد الى الغير كما تقدم وأعظم من ذلك ظلمهما بالشرك فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها والمعشوق إذا ! لم يتق الله فإنه يعرض العاشق للتلف وذلك ظلم منه بأن يطمعه في نفسه ويتزين له ويستميله بكل طريق حتى يستخرج منه ماله ونفعه ولا يمكنه من نفسه لئلا يزول غرضه بقضاء وطره منه فهو يسومه سوء العذاب والعاشق ربما قتل معشوقه ليشفي نفسه منه ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره وكم للعشق من قتيل من الجانبين وكم قد زال من نعمة وأفقر من غني وأسقط من مرتبة وشتت من شمل وكم أفسد من أهل للرجل وولد فإن المرأة إذا رأت بعلها عاشقا لغيرها اتخذت هي معشوقا لنفسها فيصير الرجل مترددا بين خراب بيته بالطلاق وبين القيادة فمن الناس من يؤثر هذا ومنهم من يؤثر هذا فعلى العاقل أن يحكم على نفسه سد عشق الصور لئلا يؤذيه ويؤديه ذلك الى الهلاك والى هذه المفاسد وأكثرها أو بعضها فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه والمغرر بها فإذا هلكت فهو الذي أهلكها فلولا تكراره النظر الى وجه معشوقه وطمعه في وصاله لم يتمكن عشقه من قلبه فإن أول أسباب العشق الإستحسان سواء تولد عن نظر أو سماع فإن لم يقارنه طمع في الوصال وقارنه الأياس من ذلك لم يحدث له العشق فإن إقترن به الطمع فصرفه عن فكره ولم يشغل قلبه به لم يحدث له ذلك فإن أطاع مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصاله إما خوف ديني كخوف النار وغضب الجبار واجتناب الأوزار وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر لم يحدث له العشق فإن فاته هذا الخوف وقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه وماله وذهاب جاهه وسقوط مرتبته عند الناس وسقوطه من عين من يعز عليه وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له من ذلك المعشوق وقدم محبته على محبة المعشوق إندفع عنه العشق فانتفاه ذلك كله أو غلبت محبة المعشوق لذلك إنجذب إليه القلب بالكلية ومالت إليه النفس كل الميل فإن قيل قد ذكرتم آفات العشق ومضاره ومفاسده فهلا ذكرتم منافعه وفوائده التي من جملتها رقة الطبع وترويح النفس وخفتها وزوال تلفها ورياضتها وحملها على مكارم الأخلاق من الشجاعة والكرم والمروءة ورقة الحاشية ولطف الجانب وقد قيل ليحيى بن معاذ الرازي إن إبنك قد عشق فلانة فقال الحمد لله الذي صيره الى الطبع الآدمي وقال بعضهم العشق داء أفئدة الكرام وقال غيره العشق لا يصلح إلا لذي مروءة طاهرة وخليقة ظاهرة أو لذي لسان فاضل وإحسان كامل أو لذي أدب بارع وحسب ناصع وقال آخر العشق حنان الجبان ويصفي ذهن الغبي ويسخي كف البخيل ويذل عزة الملوك ويسكن نوافر الأخلاق وهو أنيس من لا أنيس له وجليس من لا جليس له وقال آخر العشق يزيل الأثقال ويلطف الروح ويصفي كدر القلب ويوجب الإرتياح لأفعال الكرام كما قيل

سيهلك في الدنيا شفيق عليكم ... إذا غاله من حادث الحب غائله

كريم يميت السر حتى كأنه ... إذا استفهموه عن حديثك جاهله

يود بأن يمسي سقيما لعلها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله

ويهتز للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله

فالعشق يحمل على مكارم الأخلاق وقال بعض الحكماء العشق يروض النفس ويهذب الأخلاق إظهاره طبعي وإضماره تكلفي وقال الآخر من لم تبتهج نفسه بالصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج يحتاج الى علاج وأنشد في ذلك المعنى

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فما لك في طيب الحياة نصيب

وقال الآخر

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فقم واعتلف تبنا فأنت حمار

وقال الآخر

اذا أنت لم تعشق ولم تدرى ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

وقال بعض العشاق أولي العفة والصيانة إذ عفوا تشرفوا وإذا عشقوا تظرفوا وقيل لبعض العشاق ما كنت تصنع بمن تهوى لو ظفرت به فقال كنت أمتع طرفي بوجهه وأروح قلبي بذكره وحديثه واستر منه مالا أحب كشفه ولا أصير بقبح الفعل الى ما ينقض عهده ثم أنشد

أخلو به فأعف عنه تكرما ... خوف الديانة لست من عشاقه

كالماء في يد صائم يلتذ به ... ظمأ فيصبر عن لذيذ مذاقه

وقال أبو اسحق بن ابراهيم أرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم رقيقة خفيفة نزهتهم الموانسة وكلامهم يحيي موات القلوب ويزيد في العقول ولولا العشق والهوى لبطل نعيم الدنيا وقال آخر العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان أن تركته ضرك وإن أكثرت منه قتلك وفي ذلك قيل

خليلي إن الحب فيه لذاذة ... وفيه شقاء دائم وكروب

على ذاك ما عيش يطيب بغيره ... ولا عيش إلا بالحبيب يطيب

ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب

وذكر الخرائطي عن أبي غسان قال مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجارية وهي تقول

وهويته من قبل قطع تمائمي ... متمايلا مثل القضيب الناعم

فسألها أحرة أنت أم مملوكة قالت بل مملوكة فقال تهوين فتلكأت فأقسم عليها فقالت

وأنا التي لعب الهوى بفؤادها ... قتلت بحب محمد بن القاسم

فاشتراها من مولاها وبعث بها الى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب فقال هؤلاء والله فتن الرجال وكم والله قد مات بهن كريم وعطب بهن سليم وجاءت جارية عثمان بن عفان رضي الله عنه تستدعي على رجل من الأنصار قال لها عثمان ما قصتك قالت كلفت يا أمير المؤمنين بإبن أخيه فما انفك أداعبه فقال له عثمان إما أن تهبها الى إبن أخيك أو أعطيك ثمنها من مالي فقال أشهدك يا أمير المؤمنين إنها له ونحن لا ننكر فساد العشق الذي يتعلق به فعل الفاحشة بالمعشوق وإنما الكلام في العشق العفيف من الرجل الظريف الذي يأبى له إيمانه ودينه وعفته ومروءته أن يفسد مابينه وبين الله وما بينه وبين معشوقة بالحرام وهذا عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام فهذا عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة عشق حتى اشتهر أمره ولم ينكر عليه وعد ظالما من لامه ومن شعره

كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم

فنم عليك الكاشحون وقبلهم ... عليك الهوى قد نم ما ينفع الكتم

فأصبحت كالنمري إذ مات حسرة ... على أثر هندا وكمن شفه سقم

تجنبت إتيان الحبيب تأثما ... إلا أن هجران الحبيب هو الإثم

فذق هجرها قد كنت تزعم أنه ... رشاد ألاياء ربما كذب الزعم

وهذا عمر بن عبد العزيز وعشقه لجارية فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وإمرأته مشهورة وكانت جارية بارعة الجمال وكان معجبا بها وكان يطلبها من إمرأته ويحرص على أن تههاله فتأبى ولم تزل الجارية في نفس عمر فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فاصلحت وكانت مثلا في حسنها وجمالها ثم دخلت على عمر وقالت يا أمير المؤمنين إنك كنت معجبا بجاريتي فلانة فسألتنيها أن أهبها لك فأبيت عليك والآن فقد طابت نفسي لك بها فلما قالت له ذلك استبان الفرح في وجهه وقال عجلي بها علي فلما دخلت بها عليه ازداد به عجبا وقال لها ألقي ثيابك ففعلت ثم قال لها على رسلك أخبريني لمن كنت ومن أين صرت لفاطمة فقالت أغرم الحجاج عاملا له بالكوفة مالا وكنت في رفيقة ذلك قالت فأخذني وبعث بي الى عبد الملك فوهبني لفاطمة قال وما فعل ذلك العامل قالت هلك قال وهل ترك ولدا قالت نعم قال فما حالهم قالت سيئة قال شدي عليك ثيابك واذهبي الى مكانك ثم كتب الى عامله على العراق أن إبعث الي فلان بن فلان على البريد فلما قدم قال له ارفع الي جميع ما أغرمه الحجاج لأبيك فلم يرفع إليه شيئا إلا دفعه إليه ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ثم قال له إياك وإياها فلعل أباك قد وقع بها فقال الغلام هي لك يا أمير المؤمنين قال لا حاجة لي بها قال فابتعها مني قال لست إذا ممن نهى نفسه عن الهوى فلما عزم الفتى على الإنصراف قالت أين وجدك بي يا أمير المؤمنين قال على حاله ولقد زادني ولم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات رحمه الله وهذا أبو بكر بن محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب وله قول في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور قال نفطويه دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف نجدك قال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت وما يمنعك من الإستمتاع به مع القدرة عليه فقال الإستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والآخر اللذة المحظورة فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى وأما اللذة المحظورة يمنعني منها ما حدثني أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة ثم أنشد

انظر الى السحر يجري من لواحظه ... وانظر الى دعج في طرفه الساج

وانظر الى شعرات فوق عارضه ... كأنهن نمال دب في عاج

ثم أنشد

ما لهم أنكروا سوادا بحديه ... ولا ينكرون ورد الغصون

إن يك عيب خده بدو لشعر ... فعيب العيون شعر الجفون

فقلت له نفيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر فقال غلبة الوجد وملكة الوجه النفس دعت إليه ثم مات من ليلته وبسبب معشوقه صنف كتاب الزهرة ومن كلامه فيه من ييأس بمن يهواه ولم يمت من وقته سلاه وذلك أن أول روعات الناس تأتي القلب وهو غير مستعد لها فأما الثانية تأتي القلب وقد وطأت لها الروعة والتقى هو وأبو العباس بن شريح في مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير فتناظرا في مسألة من الإيلاء قال له ابن شريح أنت بأن تقول من دامت لحظاته كثرت حسراته أحذق منك بالكلام على الفقه فقال الآن كان ذلك فإني أقول

أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما

وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا إختلاس وده لتكلما

رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فلست أرى ودا صحيحا مسلما

فقال له أبو العباس بن شريح بم تفخر علي ولو شئت لقلت

مطاعمه كالشهد في نغماته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته

بصبابه وبحسنه وحديثه ... وأنزه اللحظات عن وجناته

حتى إذا ما الصبح راح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته

فقال أبو بكر يحفظ عليه الوزير ما أقر به حتى يقيم شاهدين على أنه ولي بخاتم ربه وبراءته فقال ابن شريح يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك

أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما

فضحك الوزير فقال لقد جمعتما لطفا وظرفا ذكر ذلك أبو بكر الخطيب في تاريخه وجاءته يوما فتيا مضمونها


يا ابن داود يا فقيه العراق ... افتنا في فواتر الأحداق

هل عليها بما أتت من جناح ... أم حلال لها دم العشاق


فكتب تحت البيتين بخطه

عندي جواب سائل العشاق ... فاسمعه من قرح الحشا مشتاق

لما سئلت عن الهوى هيجتني ... وأرقت دمعا لم يكن مهراق

إن كان معشوقا يعذب عاشقا ... كان المعذب أنعم العشاق

قال صاحب كتاب منازل الأحباب شهاب الدين محمود بن سليمان بن مهدي صاحب كتاب الإنشاء وقلت في جواب البيتين على قافيتهما مجيبا للسائل

قل لمن جاء سائلا عن لحاظ ... هن يلعبن في دم العشاق

ما على السيف في العدا من جناح ... أن ثني الخد عن دم مهراق

وسيوف اللحاظ أولى بأن ... تصفح عما جنت على العشاق

إنما كل من قتل شهيد ... ولهذا يفني فنا وهو باق و


نظير ذلك فتوى وردت على الشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني شيخ الحنابلة في وقته رحمه الله

قل للإمام أبي الخطاب مسألة ... جاءت إليك وما أخال سواك لها

ماذا على رجل رام الصلاة فمذ ... لاحت مخاطرة ذات الجمال لها

فأجابه تحت سؤاله

قل للأديب الذي وافى بمسألة ... سرت فؤادي لما أن أصخت لها

إن الذي فتنته عن عبادة ربه ... فريدة ذات حسن فانثنى ولها

إن تاب ثم قضا عنه عبادة ربه ... فرحمة لله تغشى من عصى ولها


وقال عبد الله بن معمر القيسي حججت سنة ثم دخلت مسجد المدينة لزيارة قبر النبي فبينما أنا جالس ذات ليلة بين القبر والمنبر إذا سمعت أنينا فأصغيت إليه فإذا هو يقول

أشجاك نوح حمائم السدر ... فأهجن منك بلابل الصدر

أم عز نومك ذكر غانية ... أهدت إليك وساوس الفكر

يا ليلة طالت على دنف ... يشكو السهاد وقلة الصبر

أسلمت من تهوى لحر جوى ... متوقد كتوقد الجمر

فالبدر يشهد إنني كلف ... مغرم بحب شبيهة البدر

ما كنت أحسبني أهيم بحبها ... حتى بليت وكنت لا أدري

ثم انقطع الصوت فلم أدر من أين جاء وإذا به قد عاد البكاء والأنين ثم أنشد يقول

أشجاك من ريا خيال زائر ... والليل مسود الذوائب عاكر

واعتاد مهجتك الهوى برشيشة ... وأهتاج مقلتك الخيال الزائر

ناديت ريا والظلام كأنه ... يم تلاطم فيه موج زاخر

والبدر يسري في السماء كأنه ... ملك ترجل والنجوم عساكر

وترى به الجوزاء ترقص في الدجى ... رقص الحبيب علاه سكر طاهر

يا ليل طلت على محب ماله ... إلا الصباح مساعد وموازر

فأجابني

مت حتف أنفك واعلمن ... إن الهوى لهو الهوان الحاضر

قال وكنت ذهبت عند ابتدائه بالأبيات فلم يتنبه إلا وأنا عنده فرأيت شابا مقتبلا شبابه قد خرق الدمع في خده خرقين فسلمت عليه فقال إجلس من أنت فقلت عبد الله بن معمر القيسي قال ألك حاجة قلت نعم كنت جالسا في الروضة فما راعني إلا صوتك فبنفسي أفديك فما الذي تجده فقال أنا عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري غدوت يوما الى مسجد الأحزاب فصليت فيه ثم اعتزلت غير بعيد فإذا بنسوة قد أقبلن يتهادين مثل القطا وإذا في وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت علي وقالت يا عتبة ما تقول في وصل من يطلب وصلك ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبرا ولم أقف لها على أثر فأنا حيران أنتقل من مكان الى مكان ثم انصرع وأكب مغشيا عليه ثم أفاق كأنما أصبغت وجنتاه بورس ثم أنشد يقول

أراكم بقلبي من بلاد بعيدة ... فياهل تروني بالفؤاد على بعدي

فؤادي وطرفي ناسفان عليكم ... وعندكم روحي وذكركم عندي

ولست ألذ العيش حتى أراكم ... ولو كنت في الفردوس جنة الخلد فقلت يا إبن أخي تب الى ربك واستغفره من ذنبك فبين يديك هول المطلع فقال ما أنا بسائل حتى يذوب العارضان فلم أزل معه حتى طلع الصباح فقلت قم بنا الى مسجد الأحزاب فلعل الله أن يكشف كربتك فقال أرجوا ذلك إن شاء الله ببركة طاعتك فذهبنا حتى أتينا مسجد الأحزاب فسمعته يقول

يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهار طربا

ما إن يزال غزال منه يقلقني ... يأتي الى مسجد الأحزاب منتقبا

يخبر الناس إن الأجر همته ... وما أنا طالبا للأجر محتسبا


لو كان يبغي ثوابا ما أتى صلفا ... مضمخا بفتيت المسك مختضبا

ثم جلسنا حتى صلينا الظهر فإذا بالنسوة قد أقبلن وليست الجارية فيهن فوقفن عليه وقلن له يا عتبة ما ظنك بطالبة وصلك وكاشفة بالك قال وما بالها قلن أخذها أبوها وارتحل بها الى أرض السماوة فسئلتهن عن الجارية فقلن هي ريا بنت الغطريف السلمي فرفع عتبة اليهن رأسه وقال

خليلي ريا قد أجد بكورها ... وسارت إلى أرض السماوة وغيرها

خليلي إني قد غشيت من البكا ... فهل عند غيري مقلة أستعيرها فقلت له إني قد وردت بمال جزيل أريد به أهل الستر ووالله لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضاء فقم بنا الى مسجد الأنصار فقمنا وسرنا حتى أشرفنا على ملأ منهم فسلمت فأحسنوا الرد فقلت أيها الملأ ما تقولون في عتبة وأبيه قالوا من سادات العرب قلت فإنه قد رمى بداهية من الهوى وما أريد منكم إلا المساعدة الى السماوة فقالوا سمعا وطاعة فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على منازل بني سليم فأعلم الغطريف بنا فخرج مبادرا فاستقلبنا وقال حييتم بالإكرام فقلنا وأنت فحياك الله إنا لك أضياف فقال نزلتم أكرم منزل فنادي يا معشر العبيد أنزلوا القوم ففرشت الإنطاع والنمارق وذبحت الذبائح فقلنا لسنا بذائقي طعامك حتى تقضي حاجتنا فقال وما حاجتكم قلنا نخطب عقليتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر فقال إن التي تخطبونها أمرها الى نفسها وأنا أدخل أخبرها ثم دخل مغضبا على إبنته فقال يا أبت مالي أرى الغضب في وجهك فقال قد ورد الأنصار يخطبونك مني فقال سادات كرام إستغفر لهم الرسول فلمن الخطبة منهم قال لعتبة قالت والله لقد سمعت عن عتبة هذا إنه يفي بما وعد ويدرك إذا قصد فقال أقسمت لأزوجنك إياه أبدا ولقد نمى الي بعض حديثك معه فقالت ما كان ذلك ولكن إذا أقسمت فإن الأنصار لا يردون ردا قبيحا فأحسن لهم الرد فقال بأى شيء قالت اغلظ عليهم المهر فإنهم قوم يرجعون ولا يحيبون فقال ما أحسن ما قلت فخرج مبادرا عليهم فقال إن فتات الحي قد أجابت ولكني أريد لها مهر مثلها فمن القائم به فقال عبد الله بن معمر أنا فقل ما شئت فقال ألف مثقال من الذهب ومائة ثوب من الأبراد وخمسة أكرسة من عنبر فقال عبد الله لك ذلك كله فهل أحببت قال نعم قال عبد الله فأنفذت نفرا من الأنصار الى المدينة فأتوا بجميع ما طلب ثم صنعت الوليمة فاقمنا على ذلك أياما ثم قال خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين ثم حملها في هودج وجهز بثلاثين راحلة من المتاع والتحف فودعناه وسرنا حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الغارة أحسبها من سليم فحمل عليها عتبة فقتل منهم رجالا وجندل منهم آخرين ثم رجع وبه طعنة تفور دما فسقط الى الأرض وأتانا نجدة فطردت الخيل عنا وقد قضى عتبة نحبه فقلنا واعتبتاه فسمعتنا الجارية فألقت نفسها عن البعير وجعلت تصيح بحرقة وأنشدت

تصبرت لا إني ثبرت وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقة

فلو أنصفت روحي لكانت الى الردى ... أمامك من دون البرية سابقة

فما أحد بعدي وبعدك منصف ... خليلا ولا نفس لنفس موافقة

ثم شهقت وقضت نحبها فاحتفرنا لهما قبرا واحدا ودفناهما فيه ثم رجعت الى المدينة فأقمت سبع سنين ثم ذهبت الى الحجاز ووردت المدينة فقلت والله لآتين قبر عتبة أزوره فأتيت القبر فإذا عليه شجرة عليها عصائب حمر وصفر فقلت لأرباب المنزل ما يقال لهذه الشجرة قالوا شجرة العروسين ولو لم يكن في العشق من الرخصة المخالفة للتشديد إلا الحديث الوارد بالحسن من الأسانيد وهو حديث سويد بن سعيد بن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن العباس يرفعه من عشق وعف وكتم فمات فهو شهيد ورواه سويد أيضا عن ابن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا ورواه الخطيب عن الأزهري في الأم عن المعافا بن زكريا عن قطبة عن ابن الفضل عن أحمد بن مسروق عنه ورواه الزبير بن بكار عن عبد العزيز الماجشون عن عبد العزيز ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس وهذا سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين نظر الى زينب بنت جحش رضي الله عنها فقال سبحان مقلب القلوب وكانت تحت زيد بن حارثة مولاه فلما هم بطلاقها قال هل اتق الله وامسك عليك زوجك فلما طلقها زوجها الله سبحانه من رسوله من فوق سبع سموات فكان هو وليها وولي تزويجها من رسول الله وعقد عقد نكاحها فوق عرشه وأنزل على رسوله وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وهذا داود نبي الله عليه السلام لما كان تحته تسعة وتسعين امرأة ثم أحب تلك المرأة وتزوجها وأكمل بها المأة قال الزهري أول حب كان في الإسلام حب النبي لعائشة رضي الله عنها وكان مسروق يسميها حبيبة رسول رب العالمين وقال أبو القيس مولي عبد الله ابن عمرو وأرسلني عبد الله بن عمرو الى أم سلمة أسألها أكان رسول الله يقبل أهله وهو صائم فقالت لا فقال إن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي يقبلها وهو صائم فقالت أم سلمة رضي الله عنها إن النبي إذا رأي عائشة لم يتمالك نفسه عنها وذكر سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن أبيه قال كان إبراهيم خليل الله يزوره جبرائيل في كل يوم من الشام على البراق من شغفه به وقلة صبره عنه وذكر الخرائطي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما اشترى جارية رومية فكان يحبها حبا شديدا فوقعت ذات يوم عن بغلة له فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها ويقبلها وكانت تكثر من أن تقول له يا بطرون أنت قالون تعني يا مولاي أنت جيد ثم إنها هربت منه فوجد عليها وجدا شديدا فقال

قد كنت أحسبني قالون فانصرفت ... فاليوم أعلم إني غير قالون

قال أبو محمد بن حزم وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين كثير وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين رأيت امرأة فعشقتها فقال ذلك ما لا يملك فالجواب وبالله التوفيق أن الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الواقع والجائز والنافع والضار ولا يستعجل عليه بالذم والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلقه وإلا فالعشق من حيث هو لا يحمد ولا يذم ونحن نذكر النافع من الحب والضار والجائز والحرام أعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلة القولب على محبته وفطرت الخليقة على تألهه وبها قامت الأرض والسموات وعليها فطر المخلوقات وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله فإن الآله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده والعبادة لا تصح الاله وحده والعبادة هى كمال الحب مع كمال الخضوع والذل والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله والله سبحانه يحب لذاته من سائر الوجوه وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة ودعوة جميع رسله أجمعين وفطرته التي فطر عليها عباده وما ركب فيها من العقول وما أسبغ عليهم من النعم فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها فكيف بمن كل الإحسان منه وما بخلقه جميعهم من نعمه وحده لا شريك له كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله الآية وما تعرف به الى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العليا وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته والمحبة له داعيين الجلال والجمال والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك فإنه جميل يحب الجمال بل الجمال كله له والإجمال كله منه فلا يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سواه قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية والولاية أصلها الحب فلا موالات إلا بحب كما أن العداوة أصلها البغض والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه فهم يوالونه بمحبتهم له وهو يواليهم بمحبته لهم فالله يوالي عبده المؤمن بحسب محبته له ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياء بخلاف من والى أولياءه فإنه لم يتخذهم من دونه بل موالاته لهم من تمام موالاته وقد أنكر على من سوى بينه وبين غيره في المحبة وأخبر أن من فعل ذلك فقد اتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وأخبر عمن سوي بينه وبين الأنداد في المحبة أنهم يقولون في النار لمعبوديهم تالله إن كن لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وبهذا التوحيد في المحبة أرسل الله سبحانه جميع رسله وأنزل جميع كتبه وأطبقت عليه دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم الى آخرهم ولأجله خلقت السموات والأرض والجنة والنار فجعل الجنة لأهله والنار للمشركين به وفيه وقد أقسم النبي أنه لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين فكيف بمحبة الرب جل جلاله وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لا حتى أكون أحب إليك من نفسك أي لا تؤمن حتى تصل محبتك لي إلى هذه الغاية فإذا كان النبي أولى بنا من أنفسنا بالمحبة ولوازمها أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره أولى بمحبته وعبادته من أنفسهم وكل ما منه الى عبده المؤمن يدعوه الى محبة ما يحب العبد ويكرهه فعطاؤه ومنعه ومعافاته وابتلائه وقبضه وبسطه وعدله وفضله وأمانته وإحياؤه ولطفه وبره ورحمته وإحسانه وستره وعفوه وحلمه وصبره على عبده وإجابته لدعائه وكشف كربه وإغاثة لهفته وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه كل ذلك داع للقلوب الى تألهه ومحبته بل تمكينه عبده من معصيته وإعانته عليه وستره حتى يقضي وطره منها وكلائته وحراسته له وهو يقضي وطره من معصيته وهو يعينه ويستعين عليها بنعمه من أقوى الدواعي الى محبته فلو أن مخلوقا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع رساءته فخيره إليك نازل وشرك إليه صاعد يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه والعبد يتبغض اليه بالمعاصي وهو فقير إليه فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته ولا معصية العبد ولومه يقطع إحسان ربه عنه فألأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه وتعلقها بمحبة سواه وأيضا فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك والرب سبحانه وتعالى يريد لك كما في الأثر الآلهي عبدي كل يريدك لنفسه وأنا أريدك لك فكيف لا يستحيي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة وهو معرض عنه مشغول بحب غيره وقد استغرق قلبه محبة ما سواه وأيضا فكل من تعامله من الخلق ان لم يربح عليك لم يعاملك ولا بدله من نوع من أنواع الربح والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا وأيضا فهو سبحانه خلقك لنفسه وكل شيء خلق لك في الدنيا والآخرة فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته وأيضا فمطلبك بل مطالب الخلق كلهم جميعا لديه وهو أجود الاجودين وأكرم الأكرمين ويعطي عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله يشكر على القليل من العمل وينميه ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ويسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن لا يشغله سمع عن سمع ولا يغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بالحاح الملحين بل يجب الملحين في الدعاء ويجب أن يسئل ويغضب اذا لم يسئل فيستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ويستره حيث لا يستر نفسه وبرحمة حيث لا يرحم نفسه دعاه بنعمته وإحسابه وناداه الى كرامته ورضوانه فأبي فأرسل في طلبه وبعث معهم اليه عهده ثم نزل سبحانه بنفسه وقال من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له أدعوك للوصل فتأبي أبعث رسلي في الطلب أنزل اليك بنفسي ألقاك في النوم وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات الا هو ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويغيث اللهفات وينيل الطلبات سواه فهو أحق من ذكر وأحق من شكر وأحق من حمد وأحق من عبد وأنصر من ابتغى وأرأف من ملك وأجود من سئل وأوسع من أعطي وأرحم من استرحم وأكرم من قصد وأعز من التجيء اليه وأكفي من توكل عليه أرحم بعبده من الوالدة بولدها وأشد فرحا بتوبة عباده التائبين من الفاقد لراحلته التي عليها طعامها وشرابه في الارض المهلكة اذا يأس من الحياة فوجدها وهو الملك فلا شريك له والفرد فلا ندله كل شيء هالك الا وجهه لن يطاع الا بإذنه ولن يعصي إلا بعلمه يطاع فيشكر وبتوفيقه ونعمته أطيع ويعصي فيغفر ويعف وحقه أضيع فهو أقرب شهيد وأدنى حفيظ وأوفى وفي بالعهد وأعدل قائم بالقسط حال دون النفوس وأخذ بالنواصي وكتب الآثار ونسخ الاجال فالقولب له مفضية والسر عنده علانية والعلانية والغيوب لديه مكشوف وكل أحد اليه ملهوف وعنت الوجوه لنور وجهه وعجزة القلوب عن إدراك كنهه ودلت الفطرة ةالادلة كلها على إمتناع مثله وشبهه أشرقت لنور وجهه الظلمات إستنارت له الارض والسموات وصلحت عليه جميع المخلوقات لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يحفظ القسط ويرفعه يرفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه بالنور لو كشفه لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه ما

اعتاض باذل حبه لسواه من ... عوض ولو ملك الوجود بأسره


فصل

وههنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به وهو أن كمال اللذة والسرور والفرح ونعيم القلب وإبتهاج الروح تابع لامرين أحدهما كمال المحبوب في نفسه وجماله وإنه أولى بايثار المحبة من كل ما سواه والامر الثاني كمال محبته واستفراغ الوسع في حبه وإيثار قربه والوصول اليه على كل شيء وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوته ومحبته فكل ما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحب أكمل فلذة من اشتد ظمؤه بادراك الماء الزلال ومن اشتد جوعه باكل الطعام الشهى ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرداته ومحبته فاذا عرفت هذا فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسها فهي تذم اذا أعقبت ألم أعظم منها أو منعت لذة خيرا منها وأجل فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات وفوتت أعظم اللذات والمسرات وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما وهي لذة الاخرة ونعيمها وطيب العيش فيها قال تعالى بل تؤثرون الحيوة الدنيا الآية والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليبتليهم وينيل من أطاعه هذه اللذة الدائمة في دار الخلد وأما الدنيا فمنقطعة ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم بخلاف الآخرة فان لذاتها دائمة ونعيمها خالص من كل كدر وألم وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين مع الخلود أبدا فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين بل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهذا المعني الذي قصده الناصح لقومه بقوله يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم انما هذه الحياة الدنيا متاع وان الآخرة هي دار القرار فاخبرهم ان الدنيا متاع ليستمتع بها الى غيرها وان الآخرة هي المستقر واذا عرفت أن لذات الدنيا متاع وسبيل الى لذات الاخرة ولذلك خلقت الدنيا لذاتها فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت اليها لم يذم تناولها بل يحمد لحسب ايصالها الى لذة الآخرة اذا عرف فاعظم نعيم الآخرة ولذاتها النظر الى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والقرب منه كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية فوالله ما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه وفي حديث اخر إنه اذا تجلى لهم ورأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وفي النسائي ومسند الامام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي في دعائه واسئلك اللهم لذة النظر الى وجهك الكريم والشوق الى لقائك وفي كتاب السنة العبد الله بن الامام أحمد مرفوعا كأن الناس يوم القيمة لم يسمعوا القران من الرحمن فاذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك فاذا عرف هذا فاعظم الاسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الاطلاق وهي لذة معرفته سبحانه ولذة محبته فان ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي ونسبة لذاتها الفانية اليه كتلفة في بحر فان الروح والقلب والبدن انما خلق لذلك فاطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته فمحبته ومعرفته قرة العيون ولذة الأرواح وبهجة القلوب ونعيم الدنيا وسرورها من اللذة القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك فليس الحياة الطيبة الا بالله وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وكان غيره يقول لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجلدونا عليه بالسيوف وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب يقول في حاله

وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوي ... فلا خير فمن لا يحب ويعشق

ويقول آخر

أف للدنيا متى ما لم يكن ... صاحب الدنيا محب أو حبيب ويقول الآخر

ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ... وأنت وحيد مفرد غير عاشق

ويقول الآخر

أسكن الى سكن تلذ بحبه ... ونهب الزمان وأنت منفرد

ويقول الآخر

تشكي المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يتقون من بينهم وحدي

فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي

فيكف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الارواح وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة الا بها وإذا فقدها القلب كان المه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها والأذن إذا فقدت سمعها والانف إذا فقد سمه واللسان إذا فقد نطقه بل فساد القلب إذا خلى من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلي منه الروح وهذا الأمر لا يصدق به الأمن فيه حياة وما لجرح ميت ايلام والمقصود إن أعظم لذات الدنيا هي السبب الموصل الى أعظم لذة في الآخرة ولذات الدنيا أنواع فاعظمها وأكملها ما أوصل الى لذة الآخرة ويثاب الانسان على هذه اللذة أتم ثواب ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه وشفاء غيظ لقهر عدو الله وعدوه فكيف بلذة ايمانه ومعرفته بالله ومحبته له وشوقه الى لقائه وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم النوع الثاني لذة تمنع لذة الآخرة وتعقب آلاما أعظم منها كلذة الذين اتخذوا من دون الله أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا يحبونهم كحب الله ويستمع بعضهم ببعض كما يقولون في الآخرة اذا لقوا ربهم ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا آجلنا الذي أجلت لنا الآية الى قوله يكسبون ولذة أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلو بغير الحق وهذه اللذات في الحقيقة انما هي استدراج من الله لهم ليذيقهم بها أعظم الآلام ويحرمهم بها أكمل اللذات بمنزلة من قدم لغيره طعام لذيد مسموم يستدرجه به الى هلاكه قال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعملون الآية إلى قوله إن كيدي متين قال بعض السلف في تفسيرها كل ما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة حتى اذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون الآية إلى قوله والحمد لله رب العالمين وقال تعالى لاصحاب هذه اللذة أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بلابل لا يشعرون وقال في حقهم فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا الآية وهذه اللذة تنقلب آلاما من أعظم الآلام كما قيل

يا رب كائنة في الحياة لاهلها ... عذبا فصارت في المعاد عذابا

النوع الثالث لذة لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما يمنع وصول لذة دار القرار وإن منعت كمالها وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة فهذه زمانها يسير وليس لتمتع النفس بها قدر ولا بد أن يشتغل عما هو خير وأنفع منها وهذا القسم هو الذي عناه النبي بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل الأرمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حق وما لم يعن عليها فهو باطل


فصل


فهذا الحب لا ينكر ولا يذم بل هو أحد أنواع الحب وكذلك حب رسول الله وإنما نعني بالمحبة الخاصة وهي التي تشغل قلب المحب وفكره وذكره لمحبوبه والا فكل مسلم في قلبه محبة الله ورسوله ولا يدخل الاسلام إلا بها والناس متفاوتون في درجات هذه المحبة تفاوت لا يحصيه إلا الله فبين محبة الخليلين ومحبة غيرهما ما بينهما فهذه المحبة هي التي تلطف وتخفف اثقال التكاليف وتسخي البخيل وتشجع الجبان وتصفي الذهن وتروض النفس وتطيب الحياة على الحقيقة لا محبة الصور المحرمة وإذا بليت السرائر يوم اللقاء كانت سريرة صاحبها من خير سرائر العباد كما قيل

سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا ... سريرة حب يوم تبلى السرائر

وهذه المحبة هي التي تنور الوجه وتشرح الصدر وتحيي القلب وكذلك محبة كلام الله فانه من علامة حب الله وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله فانظر محبة القرآن من قلبك وإلتذاذك سماعه أعظم من إلتذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم فإنه من المعلوم أن من أحب حبيبا كان كلامه وحديثه احب شيئا اليه كما قيل

ان كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي ... أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي

وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله وكيف يشبع المحب من كلام من هو غاية مطلوبه وقال النبي يوما لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه إقرأ علي فقال أقرأ عليك وعليك أنزل فقال إني أحب أن أسمعه من غيري فاستفتح فقرأ سورة النساء حتى إذا بلغ قوله فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن فرفع رأسه فاذا عينا رسول الله تذرفان من البكاء وكان الصحابة اذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى يقولون يا أبا موسى إقرأ علينا فيقرأوهم يستمعون فلمحبي القرآن من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعاف مالمحبي السماع الشيطاني فاذا رأيت الرجل ذوقه وشدة وجده وطربه وشوقه سماعه الابيات دون سماع الآيات في سماع الالحان دون سماع القرآن وهو كما قيل

نقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر ... وبيت من الشعر ينشد فتميل كالنشوان

فهذا من أقوي الادلة على فراغ قلبه من محبة الله وكلامه وتعلقه بمحبة سماع الشيطان والمغرور يعتقد انه على شيء ففي محبة الله وكلامه ورسوله أضعاف أضعاف ما ذكر السائل من فوائد العشق ومنافعه بل لا حب على الحقيقة أنفع منه وكل حب سوى ذلك باطل ان لم يعن عليه ويسوق المحب اليه


فصل

وأما محبة النسوان فلا لوم على المحب فيها بل هي من كماله وقد من الله سبحانه بها على عباده فقال ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة الآية فجعل المرأة سكنا للرجل يسكن اليه قلبه وجعل بينهما خالص الحب وهو المودة المقترنة بالرحمة وقد قال تعالى عقيب ذكره ما أحل لنا من النساء وما حرم منهن يريد الله ليبين لكن ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله حكيم الى قوله خلق الانسان ضعيفا وذكر سفيان الثوري في تفسيره عن ابن طاوس عن أبيه كان اذا نظر الى النساء لم يصبر عنهن وفي الصحيح من حديث جابر عن النبي أنه رأى إمرأة فأتى زينب فقضى حاجته منها وقال ان المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة الشيطان فاذا رأى أحدكم امرأة فاعجبته فليأت أهله فان ذلك يرد ما في نفسه ففي هذا الحديث عدة فوائد منها الارشاد الى التسلي عن المطلوب بجنسه كما يقوم الطعام مكان الطعام والثوب مقام الثوب ومنها الامر بمداوات الاعجاب بالمرأة المورث لشهوتها بانفع الأدوية وهو قضاء وطره من أهله وذلك ينقض شهوته بها وهذا كما أرشد المتحابين الى النكاح كما في سنن ابن ماجه مرفوعا لم ير للمتحابين مثل النكاح ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله داءه شرعا وقدرا وبه تدواي نبي الله داود ولم يرتكب نبي الله محرما وانما تزوج المرأة وضمها الى نسائه لمحبته لها وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته ولا يليق بنا المزيد على هذا وأما قصة زينب بنت جحش فزيد كان قد عزم على طلاقها ولم توافقه وكان يستشير رسول الله في فراقها وهو يأمره بامساكها فعلم رسول الله انه سيفارقها ولا بد فاخفى في نفسه ان يتزوجها اذا فارقها زيد وخشى مقالة الناس ان رسول الله تزوج زوجة ابنه فانه كان قد تبني زيد قبل النبوة والرب تعالى يريد أن يشرع شرعا عاما فيه مصالح عباده فلما طلقها زيد وانقضت عدتها منه أرسله اليها يخطبها لنفسه فجاء زيد واستدبر الباب بظهره وعظمت في صدره لما ذكره رسول الله فناداها من وراء البا يا زينب ان رسول الله يخطبك فقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي وقامت الى محرابها فصلت فتولى الله عز جل نكاحها من رسوله بنفسه وعقد النكاح له من فوق عرشه وجاء الوحي بذلك فلما قضى زيد منها وطر ازوجنا كها فقام رسول الله لوقته فدخل عليها فكانت تفخر على نساء النبي بذلك وتقول أنتن زوجتكن أهليكن وزوجني الله عز وجل من فوق سبع سموات فهذه قصة رسول الله مع زينب ولا ريب أن النبي حبب اليه النساء كما في الصحيح من حديث أنس ورواه النسائي في سننه والطبراني في الاوسط عنه قال حبب الي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة هذا لفظ الحديث لا ما يرويه بعضهم حبب الي من دنياكم ثلاث زاد الامام أحمد في كتاب الزهد في هذا الحديث اصبر عن الطعام والشراب ولا اصبر عنهن وقد حسده اعداء الله اليهود على ذلك وقالوا ما همه إلا النكاح فرد الله سبحانه عن ونافح عنه فقال ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله الاية وهذا خليل الله أمام الحنفاء كان عنده سارة أجمل نساء العالمين وأحب هاجر وتسرى بها وهذا داود عليه السلام كان عنده تسعة وتسعون امراة فاحب تلك المراة وتزوجها فكمل المائة وهذا سليمان ابنه عليه السلام كان يطوف في الليلة على تسعين امراة وقد سئل رسول الله عن أحب الناس اليه فقال عائشة رضى الله عنها وقال عن خديجة إني رزقت حبها فمحبة النساء من كمال الانسان قال ابن عباس خير هذه الامة أكثرهم نساء وقد ذكر الامام احمد ان عبد الله بن عمر وقع في سهمه يوم حلولا جارية كان عنقها ابريق فضة قال عبدالله فما صبرت عنها ان قبلتها والناس ينظرون الي وبهذا احتج الامام احمد على حواز الاستمتاع بالمسبية قبل الاستبراء بغير الوطء بخلاف الامة المشتركة والفرق بينهما انه لا يتوهم انفساخ الملك في المسبية بخلاف المشتركة فقد ينفسخ فيها الملك فيكون مستمتعا بأمة غيره وقد شفع النبي لعاشق ان يواصله معشوقه بان يتزوج به فأبت وذلك في قصة مغيث وبريرة فانه راه يمشي خلفها بعد فراقها ودموعه تجري على خديه فقال لها رسول الله لو راجعتيه فقالت اتأمرني قال لا انما اشفع فقالت لا حاجة لي به فقال لعمه يا عباس الا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغضها له ولم ينكر عليه حبها وان كانت قد بانت منه فان هذا مالا يملكه وكان النبي يساوي بين نسائه بالقسم ويقول اللهم هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما لا املك يعني في الحب وقد قال تعالى ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم يعني في الحب والجماع فلا تميلوا كل الميل ولم يزل الخلفاء الراشدين الرحماء من الناس يشفعون للعشاق الى معشوقهم الجائز وصلهن كما تقدم من فعل ابي بكر وعثمان وكذلك علي أتي بغلام من العرب وجد في دار قوم بالليل فقال له ما قصتك قال لست بسارق ولكني أصدقك

تعلقت في دار الرباحي خريده ... يذل لها من حسن منظرها البدر

لها في بنات الروم حسن ومنظر ... اذا افتخرت بالحسن عانقها الفخر

فلما طرقت الدار من حب مهجتي ... اتيت وفيها من يوقدها الجمر

تبادرا اهل الدار بي ثم صيحوا ... هو اللص محوم له القتل والاسر


فلما سمع علي بن ابي طالب رضى الله عنه قوله رق له وقال للمهلب بن رباح اسمح له بها فقال يا امير المؤمنين سله من هو فقال النهاس بن عيبنة فقال خذها فهي لك واشتري معاوية جارية فاعجب بها اعجابا شديدا فسمعها يوما تنشد أبياتا منها

وفارقته كالفصن يهتز في الثرى ... طريرا وسيما بعد ماطر شاربه

فسئلها فأخبرته انها تحب سيدها فردها اليه وفي قلبه منها وذكر الزمخشري في ربيعه ان زبيدة قرات في طريق مكة على حائط

اما في عباد الله او في امائه ... كريم يجلى الهم عن ذاهل العقل

له مقله اما الماء في قريحة ... واما الحشا فالنار منه على رجل

فنذرت ان تحتال لقائلها ان عرفته حتى تجمع بينه وبين من يحبه فبينما هي في المزدلفة اذ سمعت من ينشد البيتين فطلبته فزعم انه قالهما في ابنة عم له نذر اهلها ان لا يزوجوها منه فوجهت الى الحي وما زالت تبذل لهم المال حتى زوجوها منه واذا المرأة اعشق منه لها فكانت تعده من اعظم حسناتها فتقول ما انا بشيء اسر مني من جمعي بين ذلك الفتي والفتاة وقال الخرائطي وكان لسليمان بن عبد الملك غلام وجارية يتحابان فكتب الغلام لها يوما

ولقد رأيتك في المنام كأنما ... اسقيتني من ماء فيك البارد

وكان كفك في يدي وكأننا ... بتنا جميعا في فراش واحد

فطفقت نومي كله متراقدا ... لأراك في نومي ولست براقد

فاجابته الجارية

خيرا رأيت وكلما ابصرته ... ستناله مني برغم الحاسد

اني لأرجو ان تكون معانقي ... وتبيت مني فوق ثدي ناهد

واراك بين خلاخلي ودمالجي ... واراك فوق ترائبي ومحاشدي

فبلغ ذلك سليمان فأنكحها الغلام واحسن حالهما على فرط غيرته وقال جامع ابن مرجيه سألت سعيد بن المسيب مفتي المدينة هل من حب درهما من وزر فقال سعيد انما تلام على ما تستطيع من الأمر فقال سعيد والله ما سألني احد عن هذا ولو سألني ما كنت اجيب الا به فعشق النساء ثلاث اقسام عشق هو قربة وطاعة وهو عشق الرجل امرأته وجاريته وهذا العشق نافع فانه ادعي الى المقاصد التي شرع الله لها النكاح واكف للبصر والقلب عن التطلع الى غير أهله ولهذا يحمد هذا العاشق عند الله وعند الناس وعشق هو مقت عند الله وبعد من رحمته وهو اضر شيء على العبد في دينه ودنياه وهو عشق المردان فما ابتلى به الا من سقط من عين الله وطرد عن بابه وأبعد قلبه عنه وهو من اعظم الحجب القاطعة عن الله كما قال بعض السلف إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبة المردان وهذه المحبة هي التي جلبت على قوم لوط ما جلبت وما اوتوا لا من هذا العشق قال الله تعالى لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون ودواء هذا الداء الردى الاستعانة بمقلب القلوب وصدق اللجأ اليه والاشتغال بذكره والتعوض بحبه وقربه والتفكر بالالم الذي يعقبه هذا العشق واللذة التي تفوته به فترتب عليه فوات اعظم محبوب وحصول اعظم مكروه فاذا قدمت نفسه على هذا وآثرته فليكبر على نفسه تكبير الجنازة وليعلم ان البلاء قد احاط به والقسم الثالث من العشق العشق المباح الذي لا يملك كعشق من صورت له امراة جميلة او رآها فجأة من غير تصد فاورثته ذلك عشق لها ولم يحدث له ذلك العشق معصية فهذا لا يملك ولا يعاقب عليه والانفع له مدافعته والاشتغال بما هو انفع له منه والواجب على هذا ان يكتم ويعف ويصبر على بلواه فيثيبه الله على ذلك ويعوضه على صبرة لله وعفته وترك طاعته هواه وايثار مرضاة الله وما عنده


فصل

والعشاق ثلاثة أقسام منهم من يعشق الجمال المطلق ومنهم من يعشق الجمال المقيد سواء طمع بوصاله او لم يطمع ومنهم من لا يعشق الا من طمع لوصاله وبين هذه الانواع الثلاثة تفاوت في القوة والضعف فعاشق الجمال المطلق بهيم قلبه في كل واد وله في كل صورة جميله مراد

فيوما بحزوى ويوم بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء

وتارة ينتحي بنجد ولودية ! شعب العقيق وطورا قصر اينما

فهذا عشقه أوسع ولكنه غير ثابت كثير التنقل

يهيم بهذا ثم يعشق غيره ... ويسلاهم من وقته حين يصبح

وعاشق الجمال المقيد اثبت على معشوقه وأدوم محبة له ومحبته اقوى من محبة الاول لاجتماعهما في واحد ويقسم الاولى ولكن يضعفها عدم الطمع في الوصال وعاشق الجمال الذي يطمع في وصاله اعقل العشاق واعرفهم وحبه اقوى لان الطمع يمده ويقويه


فصل

وأما حديث من عشق وعف فهذا ممن يرويه سويد بن سعيد وقد انكره حفاظ الاسلام عليه قال ابن عدي في كامله هذا الحديث احد ما انكر على سويد وكذلك ذكره البيهقي وابن طاهر في الزخيرة والتذكرة وابو الفرج بن الجوزي وعده من الموضوعات وانكره ابو عبد الله الحاكم على تساهله وقال أنا اتعجب منه قلت والصواب في الحديث انه من كلام ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه فغلط سويد في رفعه قال ابو محمد بن خلف بن المرزبان حدثنا ابو بكر بن الارزق عن سويد فعاتبته على ذلك فاسقط ذكر النبي وكان بعد ذلك يسأل عنه ولا يرفعه ولا بشبه هذا كلام النبوة واما ما رواه الخطيب له عن الزهري حدثنا المعافا بن زكريا حدثنا قطبة بن الفضل حدثنا احمد بن محمد بن مسروق حدثنا سويد حدثنا ابن مسهر عن هشام بن عروة عن ابيه عن عائشة مرفوعا فمن ابين الخطأ ولا يحمل هذا عن هشام عن أبيه عن عائشة مثل هذا عنه من شم أدني رائحة من العلم من الحديث ونحن نشهد بالله ان عائشة ما تكلمت بهذا عن رسول الله قط ولا حدث به عنها عروة ولا حدث به عنه هشام قط واما حديث ابن الماجشون عن عبدالله بن ابي حازم عن ابن ابي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا فكذب على بن الماجشون فانه لم يحدث بهذا ولم يحدث به عنه الزبير بن بكار وانما هذا من تركيب بعض الوضاعين ويا سبحان الله كيف يحتمل هذا الاسناد مثل هذا المتن فقبح الله الواضعين وقد ذكره ابو الفرج بن الجوزي من حديث محمد بن جعفر بن سهل حدثنا يعقوب بن عيسى عن ولد عبد الرحمن بن عوف عن ابن ابي نجيح عن مجاهد مرفوعا وهذا غلط قبيح فان محمد بن جعفر هذا هو الخرائطي ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة فمحال ان يدرك شيخه يعقوب ابن ابي نجيح لا سيما وقد رواه في كتاب الاعتلال عن يعقوب هذا عن الزبير عن عبد الملك عن عبد العزيز عن ابن ابي نجيح والخرائطي هذا مشهور بالضعف في الرواية ذكره ابو الفرج في كتاب الضعفاء وكلام حفاظ الاسلام في انكار هذا الحديث هو الميزان واليهم يرجع في هذا الشأن وما صححه بل ولا حسنه احد يعول في علم الحديث عليه ويرجع في الصحيح اليه ولا من عادته التساهل والتسامح فانه لم يصف نفسه له ويكفي ان ابن طاهر الذي يتساهل في احاديث التصوف ويروي منها الغث والسمين والمنجنقة والموقوذة قد انكره وحكم ببطلانه نعم ابن عباس غير مستنكر ذلك عنه وقد ذكر ابو محمد بن حزم عنه انه سئل عن الميت عشقا فقال قتيل الهوي لا عقل ولا قود ورفع اليه بعرفات شاب قد صار كالفرخ فقال ما شأنه فقال العشق فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق فهذا تفسير من قال من عشق وعف وكتم ومات فهو شهيد ومما يوضح ذلك ان النبي عد الشهداء في الصحيح فذكر المقتول في الجهاد والمبطون والحريق والنفساء يقتلها اولدها والغريق وصاحب الهدم فلم يذكر منهم العاشق يقتله العشق وحسب قتيل العشق ان يصح له هذا الاثر عن ابن عباس رضى الله عنهما على انه لا يدخل الجنة حتى يصبر لله ويعف لله ويكتم لله وهذ لا يكون الا مع قدرته على معشوقه وايثار محبة الله وخوفه ورضاه وهذا احق من دخل تحت قوله تعالى واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى وتحت قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم ان يجعلنا ممن آثر وابتغى حبه ورضاه على هواه بذلك قربه ورضاه آمين يا رب العالمين واله وصحبه اجمعين آمين
http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=26&book=1041
تصنيفان:
ابن القيم
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من 1 الي 2001 -

      مكتبة العلوم الشاملة https://sluntt.blogspot.com/ الاثنين، 21 فبراير 2022 كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من...