ويكي مصدر *
كتاب روضة المحبين
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلا ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلا وحرك بها النفوس إلى[[ملف:]] أنواع الكمالات إيثارا لطلبها وتحصيلا وأودعها العالم العلوي السفلي لإخراج كماله من القوة إلى الفعل إيجادا وإمدادا وقبولا وأثار بها الهمم السامية والعزمات العالية إلى أشرف غاياتها تخصيصا لها وتأهيلا فسبحان من صرف عليها القلوب كما يشاء ولما يشاء بقدرته واستخرج بها ما خلق له كل حي بحكمته وصرفها أنواعا وأقساما بين بريته وفصلها تفصيلا فجعل كل محبوب لمحبه نصيبا مخطئا كان في محبته أو مصيبا وجعله بحبه منعما أو قتيلا فقسمها بين محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب النيران ومحب الصلبان ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب النسوان ومحب الصبيان ومحب الأثمان ومحب الإيمان ومحب الألحان ومحب القرآن
وفضل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين تفضيلا فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات وعليها فطرت المخلوقات ولها تحركت الأفلاك الدائرات وبها وصلت الحركات إلى غاياتها واتصلت بداياتها بنهاياتها وبها ظفرت النفوس بمطالبها وحصلت على نيل مآربها وتخلصت من معاطبها واتخذت إلى ربها سبيلا وكان لها دون غيره مأمولا وسولا وبها نالت الحياة الطيبة وذاقت طعم الإيمان لم رضيت بالله ربا
وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مقر بربوبيته شاهد بوحدانيته منقاد إليه لمحبته مذعن له بطاعته معترف بنعمته فار إليه من ذنبه وخطيئته مؤمل لعفوه ورحمته طامع في مغفرته بريء إليه من حوله وقوته لا يبتغي سواه ربا ولا يتخذ من دونه وليا ولا وكيلا عائذ به ملتج إليه لا يروم عن عبوديته انتقالا ولا تحويلا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاها وأسمعهم لديه شفاعة وأحبهم إليه وأكرمهم عليه أرسله للإيمان مناديا وإلى الجنة داعيا وإلى صراطه المستقيم هاديا وفي مرضاته ومحابه ساعيا وبكل معروف آمرا وعن كل منكر ناهيا رفع له ذكره وشرح له صدره ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره
وأقسم بحياته في كتابه المبين وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه كما في الخطب والتشهد والتأذين فلا يصح لأحد خطبة ولا تشهد ولا أذان حتى يشهد أنه عبده ورسوله شهادة اليقين أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله ميمون يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذ قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد محبته وطاعته وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فلا مطمع في الفوز بجزيل الثواب
والنجاة من وبيل العقاب إلا لمن كان خلفه من السالكين ولا يؤمن عبد حتى يكون احب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله وعرف أمته به ودعا إليه صلاة لا تروم عنه انتقالا ولا تحويلا وعلى آله الطيبين وصحبه الطاهرين وسلم تسليما كثيرا أما بعد فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعل هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والرشاد وشرها أوعاها للغي والفساد وسلط عليها الهوى وامتحنها بمخالفته لتنال بمخالفته جنة الماؤى ويستحق من لا يصلح للجنة بمتابعته نارا تلظى وجعله مركب النفس الأمارة بالسوء وقوتها وغذاها وداء النفس المطمئنة ومخالفته دواها ثم أوجب سبحانه وتعالى على العبد في هذه المدة القصيرة التي هي بالإضافة إلى الآخرة كساعة من نهار أو كبلل ينال الأصبع حين يدخلها في بحر من البحار عصيان النفس الأمارة ومجانبة هواها وردعها عن شهواتها التي في نيلها رداها منعها من الركون إلى لذاتها ومطالبة ما استدعته العيون الطامحة بلحظاتها لتنال نصيبها من كرامته وثوابه موفرا كاملا وتلتذ آجلا بأضعاف ما تركته لله عاجلا وأمرها بالصيام عن محارمه ليكون فطرها عنده يوم لقائه وأخبرها أن معظم نهار الصيام قد ذهب وأن عيد اللقاء قد اقترب فلا يطول عليها الأمد باستبطائه كما قيل فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول
هيأها لأمر عظيم وأعدها لخطب جسيم وادخر لها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم واقتضت حكمته البالغة أنها لا تصل إليه إلا من طريق المكاره والنصب ولا تعبر إليه إلا على جسر المشقة والتعب فحجبه بالمكروهات صيانة له عن الأنفس الدنيات المؤثرة للرذائل والسفليات وشمرت إليه النفوس العلويات والهمم العليات امتطت في السير إليه ظهور العزمات فسارت في ظهورها إلى أشرف الغايات وركب سروا والليل مرخ رواقه ... على كل مغبر الموارد قائم حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور العزائم أرتهم نجوم الليل ما يطلبونه ... على عاتق الشعرى وهام النعائم فأموا حمى لا ينبغي لسواهم ... وما أخذتهم فيه لومة لائم أجابوا منادى الحبيب لما أذن لهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في مرضاته بذل المحب بالرضا والسماح وواصلوا السير إليه بالغدو والرواح فحمدوا عند الوصول مسراهم وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح تعبوا قليلا فاستراحوا طويلا وتركوا حقيرا واعتاضوا عظيما وضعوا اللذة العاجلة والعاقبة الحميدة في ميزان العقل فظهر لهم التفاوت فرأوا من أعظم السفه بيع الحياة الطيبة الدائمة في النعيم المقيم بلذة ساعة تذهب شهوتها وتبقى شقوتها
هذا وإن من أيام اللذات لو صفت للعبد من أول عمره إلى آخره لكانت كسحابة صيف تتقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل قال الله تعالى أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ومن ظفر بمأموله من ثواب الله فكأنه لم يوتر من دهره بما كان يحاذره ويخشاه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت من الشعر كأنك لم توتر من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه فصل وهذا ثمرة العقل الذي به عرف الله سبحانه وتعالى وأسماؤه وصفات كماله ونعوت جلاله وبه آمن المؤمنون بكتبه ورسله ولقائه وملائكته وبه عرفت آيات ربوبيته وأدلة وحدانيته ومعجزات رسله وبه امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه وهو الذي تلمح العواقب فراقبها وعمل بمقتضى مصالحها وقاوم الهوى فرد جيشه مفلولا وساعد الصبر حتى ظفر به بعد أن كان بسهامه مقتولا وحث على الفضائل ونهى عن الرذائل وفتق المعاني وأدرك الغوامض وشد أزر العزم فاستوى على سوقه وقوى أزر الحزم حتى حظى من الله بتوفيقه فاستجلب ما يزين ونفى ما يشين فإذا نزل وسلطانه أسر جنود الهوى فحصرها في حبس من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه ونهض بصاحبه إلى منازل الملوك إذا صير الهوى الملك بمنزلة العبد المملوك فهي شجرة
عرقها الفكر في العواقب وساقها الصبر وأغصانها العلم وورقها حسن الخلق وثمرها الحكمة ومادتها توفيق من أزمة الأمور بيديه وابتداؤها منه وانتهاؤها إليه وإذا كان هذا وصفه فقبيح أن يدال عليه عدوه فيعزله عن مملكته ويحطه عن رتبته ويستنزله عن درجته فيصبح أسيرا بعد أن كان أميرا ومحكوما بعد أن كان حاكما وتابعا بعد أن كان متبوعا ومن صبر على حكمه أرنعه في رياض الأماني والمنى ومن خرج عن حكمه أورده حياض الهلاك والردى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياما ولا حجا ولا اعتمارا لكنهم عقلوا عن الله مواعظه فوجلت منه قلوبهم واطمأنت إليه نفوسهم وخشعت له جوارحهم ففاقوا الناس بطيب المنزلة وعلو الدرجة عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر ولكنه الذي يعرف خير الشرين وقالت عائشة رضي الله عنها قد أفلح من جعل الله له عقلا وقال ابن عباس رضي الله عنهما ولد لكسرى مولود فأحضر بعض المؤدبين ووضع الصبى بين يديه وقال ما خير ما أوتي هذا المولود قال عقل يولد معه قال فإن لم يكن قال فأدب حسن يعيش به في الناس قال فإن لم يكن قال فصاعقة تحرقه وقال بعض أهل العلم لما أهبط الله تبارك وتعالى آدم إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بثلاثة أشياء الدين والخلق والعقل فقال إن الله يخيرك بين هذه الثلاثة فقال يا جبريل ما رأيت أحسن من هؤلاء إلا في
الجنة ومد يده إلى العقل فضمه إلى نفسه فقال للآخرين اصعدا فقالا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان فصارت الثلاثة إلى آدم عليه السلام وهذه الثلاثة أعظم كرامة أكرم الله بها عبده وأجل عطية أعطاه إياها وجعل لها ثلاثة أعداء الهوى والشيطان والنفس الأمارة والحرب بينهما دول وسجال وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم وقال وهب بن منبه قرأت في بعض ما أنزل الله تعالى إن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل وإنه ليسوق مائة جاهل فيستجرهم حتى يركب رقابهم فينقادون له حيث شاء ويكابد المؤمن العاقل فيصعب عليه حتى ينال منه شيئا من حاجته قال وإزالة الجبل صخرة صخرة أهون على الشيطان من مكابدة المؤمن العاقل فإذا لم يقدر عليه تحول إلى الجاهل فيستأسره ويتمكن من قياده حتى يسلمه إلى الفضائح التي يتعجل بها في الدنيا الجلد والرجم والقطع والصلب والفضيحة وفي الآخرة العار والنار والشنار وإن الرجلين ليستويان في البر ويكون بينهما في الفضل كما بين المشرق والمغرب بالعقل وما عبد الله بشيء أفضل من العقل وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه لو أن العاقل أصبح وأمسى وله ذنوب بعدد الرمل كان وشيكا بالنجاة والتخلص منها ولو أن الجاهل أصبح وأمسى وله من الحسنات وأعمال البر عدد الرمل لكان وشيكا أن لا يسلم له منها مثقال ذرة قيل وكيف ذلك قال إن العاقل إذا زل تدارك ذلك بالتوبة والعقل الذي رزقه والجاهل بمنزله الذي يبني ويهدم فيأتيه من جهله ما يفسد صالح عمله وقال الحسن لا يتم دين الرجل حتى
يتم عقله وما أودع الله امرأ عقلا إلا استنقذه به يوما وقال بعض الحكماء من لم يكن عقله أغلب الأشياء عليه كان حتفه وهلاكه في أحب الأشياء إليه وقال يوسف بن أسباط: العقل سراج ما بطن وزينة ما ظهر وسائس الجسد وملاك أمر العبد ولا تصلح الحياة إلا به ولا تدور الأمور إلا عليه وقيل لعبدالله بن المبارك ما أفضل ما أعطي الرجل بعد الإسلام قال غريزة عقل قيل فإن لم يكن قال أدب حسن قيل فإن لم يكن قال أخ صالح يستشيره قيل فإن لم يكن قال صمت طويل قيل فإن لم يكن قال موت عاجل وفي ذلك قيل ما وهب الله لامرئ هبة ... أحسن من عقله ومن أدبه هما جمال الفتى فإن فقدا ... ففقده للحياة أجمل به فصل . وإذا كانت الدولة للعقل سالمه الهوى وكان من خدمه وأتباعه كما أن الدولة إذا كانت للهوى صار العقل أسيرا في يديه محكوما عليه ولما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حيا فإن هواه لازم له كان له الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهلكة إلى مواطن الأمن والسلامة مثاله أن الله سبحانه وتعالى لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة بل أمره بصرف ذلك الهوى إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع ومن الإماء ما شاء فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل وكانت الريح دبورا فاستحالت صبا وكذلك هو الظفر والغلبة والقهر لم يأمر بالخروج عنه بل أمر بصرفه إلى الظفر والقهر والغلبة للباطل وحزبه وشرع له من أنواع المغالبات بالسباق وغيره
مما يمرنه ويعده للظفر وكذلك هوى الكبر والفخر والخيلاء مأذون فيه بل مستحب في محاربة أعداء الله وقد رأى النبي أبا دجانة سماك بن خرشة الأنصاري يتبختر بين الصفين فقال إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن وقال إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغض الله فالتي يحبها اختيال الرجل في الحرب وعند الصدقة وذكر الحديث فما حرم الله على عباده شيئا إلا عوضهم خيرا منه كما حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم منه دعاء الاستخارة وحرم عليهم الربا وعوضهم منه التجارة الرابحة وحرم عليهم القمار وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام وحرم عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن وحرم عليهم الزنا واللواط وأعاضهم منهما بالنكاح والتسري بصنوف النساء الحسان وحرم عليهم شرب المسكر وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن وحرم عليهم سماع آلات اللهو من المعازف والمثاني وأعاضهم عنها بسماع القرآن والسبع المثاني وحرم عليهم الخبائث من المطعومات وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات ومن تلمح
هذا وتأمله هان عليه ترك الهوى المردي واعتاض عنه بالنافع المجدي وعرف حكمة الله ورحمته وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به ونهاهم عنه وفيما أباحه لهم وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا نهاهم عنه بخلا منه تعالى عليهم بل أمرهم بما أمرهم إحسانا منه ورحمة ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحمية فلذلك وضعنا هذا الكتاب وضع عقد الصلح بين الهوى والعقل وإذا تم عقد الصلح بينهما سهل على العبد محاربة النفس والشيطان والله سبحانه المستعان وعليه التكلان فما كان فيه من صواب فمن الله فهو الموفق له والمعين عليه وما كان فيه من خطإ فمني ومن الشيطان والله ورسوله من ذلك بريئان وقد جعلته تسعة وعشرين بابا الباب الأول في أسماء المحبة الباب الثاني في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها الباب الثالث في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض الباب الرابع في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقها الباب السادس في أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه الباب السابع في ذكر مناظرة بين القلب والعين الباب الثامن في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه الباب التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج الباب العاشر في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه
الباب الحادي عشر في العشق وهل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه الباب الثاني عشر في سكرة العشاق الباب الثالث عشر في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان الباب الرابع عشر فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين الباب السابع عشر في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله الباب الثامن عشر في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين الباب التاسع عشر في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال الباب العشرون في علامات المحبة وشواهدها الباب الحادي والعشرون في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالمحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه الباب الثاني والعشرون في غيرة المحبين على أحبابهم الباب الثالث والعشرون في عفاف المحبين مع أحبابهم الباب الرابع والعشرون في ارتكاب سبل الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام
الباب الخامس والعشرون في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين الباب السادس والعشرون في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما الباب السابع والعشرون فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاضه الله خيرا منه الباب الثامن والعشرون فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام الباب التاسع والعشرون في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المني وسميته روضة المحبين ونزهة المشتاقين والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه فإنه علقه في حال بعده عن وطنه وغيبته عن كتبه فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود وسعيه المجهود مع بضاعته المزجاة التي حقيق بحاملها أن يقال فيه تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وها هو قد نصب نفسه هدفا لسهام الراشقين وغرضا لأسنة الطاعنين فلقاريه غنمه وعلى مؤلفه غرمه وهذه بضاعته تعرض عليك وموليته تهدى إليك فإن صادفت كفؤا كريما لها لن تعدم منه إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان وإن صادفت غيره فالله تعالى المستعان وعليه التكلان وقد رضي من مهرها بدعوة خالصة إن وافقت قبولا واستحسانا وبرد جميل إن كان حظها احتقارا واستهجانا والمنصف يهب
خطأ المخطىء لإصابته وسيئاته لحسناته فهذه سنةالله في عباده جزاء وثوابا ومن ذا الذي يكون قوله كله سديدا وعمله كله صوابا وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ونطقه وحي يوحى فما صح عنه فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وما جاء عن غيره فثبوت الأمرين فيه معدوم فإن صح النقل لم يكن القائل معصوما وإن لم يصح لم يكن وصوله إليه معلوما فصل وهذا الكتاب يصلح لسائر طبقات الناس فإنه يصلح عونا على الدين وعلى الدنيا ومرقاة للذة العاجلة ولذة العقبى وفيه من ذكر أقسام المحبة وأحكامها ومتعلقاتها وصحيحها وفاسدها وآفاتها وغوائلها وأسبابها وموانعها وما يناسب ذلك من نكت تفسيرية وأحاديث نبوية ومسائل فقهية وآثار سلفية وشواهد شعرية ووقائع كونية ما يكون ممتعا لقاريه مروحا للناظر فيه فإن شاء أوسعه جدا وأعطاه ترغيبا وترهيبا وإن شاء أخذ من هزله وملحه نصيبا فتارة يضحكه وتارة يبكيه وطورا يبعده من أسباب اللذة الفانية وطورا يرغبه فيها ويدنيه فإن شئت وجدته واعظا ناصحا وإن شئت وجدته بنصيبك من اللذة والشهوة ووصل الحبيب مسامحا وهذا حين الشروع في الأبواب والله سبحانه الفاتح من الخير كل باب وهو المسؤول سبحانه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم مدنيا من رضاه والفوز بجنات النعيم والله متولي سريرة العبد وكسبه وهو سبحانه عند لسان كل قائل وقلبه وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون
الباب الأول في أسماء المحبة لما كان الفهم لهذا المسمى أشد وهو بقلوبهم أعلق كانت أسماؤه لديهم أكثر وهذا عادتهم في كل ما اشتد الفهم له أو كثر خطوره على قلوبهم تعظيما له أو اهتماما به أو محبة له فالأول كالأسد والسيف والثاني كالداهية والثالث كالخمر وقد اجتمعت هذه المعاني الثلاثة في الحب فوضعوا له قريبا من ستين اسما وهي المحبة والعلاقة والهوى والصبوة والصبابة والشغف والمقة والوجد والكلف والتتيم والعشق والجوى والدنف والشجو والشوق والخلابة والبلابل والتباريح والسدم والغمرات والوهل والشجن واللاعج والاكتئاب والوصب والحزن والكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة والتبالة واللوعة والفتون والجنون واللمم والخبل والرسيس والداء المخامر والود والخلة والخلم والغرام والهيام والتدليه والوله والتعبد وقد ذكر له أسماء غير هذه وليست من أسمائه وإنما هي من موجباته وأحكامه فتركنا ذكرها
الباب الثاني في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها فأما المحبة فقيل أصلها الصفاء لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان وقيل مأخوذة من الحباب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد فعلى هذا المحبة غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب وقيل مشتقة من اللزوم والثبات ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم قال الشاعر حلت عليه بالفلاة ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا فكأن المحب قد لزم قلبه محبوبه فلم يرم عنه انتقالا وقيل بل هي مأخوذة من القلق والاضطراب ومنه سمي القرط حبا لقلقه في الأذن واضطرابه قال الشاعر تبيت الحية النضناض منه ... مكان الحب تستمع السرارا وقيل بل هي مأخوذة من الحب جمع حبة وهو لباب الشيء وخالصه وأصله فإن الحب أصل النبات والشجر وقيل بل هي مأخوذة من الحب الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره
وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبة وقيل مأخوذة من الحب وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من جرة أو غيرها فسمى الحب بذلك لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها وقيل بل هي مأخوذة من حبة القلب وهي سويداؤه ويقال ثمرته فسميت المحبة بذلك لوصولها إلى حبة القلب وذلك قريب من قولهم ظهره إذا أصاب ظهره ورأسه إذا أصاب رأسه ورآه إذا أصاب رئته وبطنه إذا أصاب بطنه ولكن في هذه الأفعال وصل أثر الفاعل إلى المفعول وأما في المحبة فالأثر إنما وصل إلى المحب وبعد ففيه لغتان حب وأحب قال الشاعر أحب أبا مروان من أجل تمره ... وأعلم أن الرفق بالمرء أرفق ووالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق كذلك أنشده الجوهري بالإقواء فجمع بين اللغتين ولكن في جانب الفعل واسم الفاعل غلبوا الرباعي فقالوا أحبه يحبه فهو محب وفي المفعلو غلبوا فعل فقالوا في الأكثر محبوب ولم يقولوا محب إلا نادرا قال الشاعر ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
فهذا من أفعل وأما حبيب فأكثر استعمالهم له بمعنى المحبوب قال الشاعر وما زرت ليلى أن تكون حبيبة ... إلي ولا دين لها أنا طالبه وقد استعملوه بمعنى المحب قال الشاعر وما هجرتك النفس أنك عندها ... قليل ولا أن قل منك نصيبها ولكنهم يا أحسن الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت هذا حبيبها فهذا يحتمل أن يكون بمعنى المحبوب وأن يكون بمعنى المحب وأما الحب بكسر الحاء فلغة في الحب وغالب استعماله بمعنى المحبوب قال في الصحاح الحب المحبة وكذلك الحب بالكسر والحب أيضا الحبيب مثل خدن وخدين قلت وهذا نظير ذبح بمعنى مذبوح ونهب بمعنى منهوب ورشق بمعنى مرشوق ومنه السب ويشترك فيه الفاعل والمفعول قال أبو عبيد السب بالكسر الكثير السباب قال الجوهري وسبك الذي يسابك قال حسان لا تسبنني فلست بسبي ... إن سبي من الرجال الكريم والصواب أنه عبدالرحمن بن حسان وقد يشترك فيه المصدر والمفعول نحو رزق وفي إعطائهم ضمة الحاء للمصدر سر لطيف فإن الكسرة أخف من الضمة والمحبوب أخف على قلوبهم من نفس الحب فأعطوا الحركة الخفيفة للأخف والثقيلة للأثقل ويقال أحبه حبا ومحبة والمحبة أم باب هذه الأسماء فصل وأما كلام الناس في حدها فكثير فقيل هي الميل الدائم بالقلب الهائم وقيل إيثار المحبوب على جميع المصحوب وقيل موافقة الحبيب
في المشهد والمغيب وقيل اتحاد مراد المحب ومراد المحبوب وقيل إيثار مراد المحبوب على مراد المحب وقيل إقامة الخدمة مع القيام بالحرمة وقيل استقلال الكثير منك لمحبوبك واستكثار القليل منه إليك وقيل استيلاء ذكر المحبوب على قلب المحب وقيل حقيقتها أن تهب كلك لمن أحببته فلا يبقى لك منك شيء وقيل هي أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب وقيل هي الغيرة للمحبوب أن تنتقص حرمته والغيرة على القلب أن يكون فيه سواه وقيل هي الإرادة التي لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر وقيل هي حفظ الحدود فليس بصادق من ادعى محبة من لم يحفظ حدوده وقيل هي قيامك لمحبوبك بكل ما يحبه منك وقيل هي مجانبة السلو على كل حال كما قيل ومن كان من طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلي لها غير ذائق وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كلمعة بارق وقيل نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب وقيل ذكر المحبوب على عدد الأنفاس كما قيل يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل وقيل عمى القلب عن رؤية غير المحبوب وصممه عن سماع العذل فيه وفي الحديث حبك للشيء يعمي ويصم رواه الإمام أحمد وقيل ميلك إلى المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك
ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه وقيل هي بذلك المجهود فيما يرضى الحبيب وقيل هي سكون بلا اضطراب واضطراب بلا سكون فيضطرب القلب فلا يسكن إلا إلى محبوبه فيضطرب شوقا إليه ويسكن عنده وهذا معنى قول بعضهم هي حركة القلب على الدوام إلى المحبوب وسكونه عنده وقيل هي مصاحبة المحبوب على الدوام كما قيل ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي وقيل هي أن يكون المحبوب أقرب إلى المحب من روحه كما قيل يا مقيما في خاطري وجناني ... وبعيدا عن ناظري وعياني أنت روحي إن كنت لست أراها ... فهي أدنى إلي من كل داني وقيل هي حضور المحبوب عند المحب دائما كما قيل خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب وقيل هي أن يستوي قرب دار المحبوب وبعدها عند المحب كما قيل يا ثاويا بين الجوانح والحشى ... مني وإن بعدت علي دياره عطفا على صب يحبك هائم ... إن لم تصله تصدعت أعشاره لا يستفيق من الغرام وكلما ... حجبوك عنه تهتكت أستاره
وقيل هي ثبات القلب على أحكام الغرام واستلذاذ العذل فيه والملام كما قيل وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم فصل وأما العلاقة وتسمى العلق بوزن الفلق فهي من أسمائها قال الجوهري والعلق أيضا الهوى يقال نظرة من ذي علق قال الشاعر ولقد أردت الصبر عنك فعلقني ... علق بقلبي من هواك قديم وقد علقها بالكسر وعلق حبها بقلبه أي هويها وعلق بها علوقا وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب قال الشاعر أعلاقة أم الوليد بعدما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس فصل وأما الهوى فهو ميل النفس إلى الشيء وفعله هوي يهوى هوى مثل عمي يعمى عمى وأما هوى يهوي بالفتح فهو السقوط ومصدره الهوي
بالضم ويقال الهوى أيضا على نفس المحبوب قال الشاعر إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها ويقال هذا هوى فلان وفلانة هواه أي مهويته ومحبوبته وأكثر ما يستعمل في الحب المذموم كما قال الله تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ويقال إنما سمى هوى لأنه يهوي بصاحبه وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالا مقيدا ومنه قول النبي لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما ئت به وفي الصحيحين عن عروة قال كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهم للنبي فقالت عائشة رضي الله عنها أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وفي قصة أسارى بدر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهوي رسول الله ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يهو ما قلت وذكر الحديث وفي السنن أن أعرابيا قال للنبي جئت أسألك عن الهوى فقال المرء مع من أحب
فصل وأما الصبوة والصبا فمن أسمائها أيضا قال في الصحاح والصبا من الشوق يقال منه تصابا وصبا يصبو صبوة وصبوا أي مال إلى الجهل وأصبته الجارية وصبي صباء مثل سمع سماعا أي لعب مع الصبيان قلت أصل الكلمة من الميل يقال صبا إلى كذا أي مال إليه وسميت الصبوة بذلك لميل صاحبها إلى المرأة الصبية والجمع صبايا مثل مطية ومطايا والتصابي هو تعاطي الصبوة مثل التمايل وبابه والفرق بين الصبا والصبوة والتصابي أن التصابي هي تعاطي الصبا وأن تفعل فعل ذي الصبوة وأما الصبا فهو نفس الميل وأما الصبوة فالمرة من ذلك مثل الغشوة والكبوة وقد يقال على الصفة اللازمة مثل القسوة وقد قال يوسف الصديق عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فصل وأما الصبابة فقال في الصحاح هي رقة الشوق وحرارته يقال رجل صب عاشق مشتاق وقد صببت يا رجل بالكسر قال الشاعر ولست تصب إلىالظاعنين ... إذا ما صديقك لم يصبب قلت والصبابة من المضاعف من صب يصب والصبا والصبوة من المعتل وهم كثيرا ما يعاقبون بينهما فبينهما تناسب لفظي ومعنوي قال الشاعر تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
ويقال رجل صب وامرأة صب كما يقال رجل عدل وامرأة عدل فصل وأما الشغف فمن أسمائها أيضا قال الله تعالى قد شغفها حبا قال الجوهري وغيره والشغاف غلاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما قد شغفها حبا ثم قال دخل حبه تحت الشغاف فصل وأما الشعف بالعين المهملة ففي الصحاح شعفه الحب أي أحرق قلبه وقال أبو زيد أمرضه وقد شعف بكذا فهو مشعوف وقرأ الحسن قد شعفها حبا قال بطنها حبا فصل وأما المقة فهي فعلة من ومق يمق والمقة المحبة والهاء عوض من الواو كالعظة والعدة والزنة فإن أصلها فعل فحذفوا الفاء فعوضوا منها تاء التأنيث جبرا للكلمة وتعويضا لما سقط منها والفعل ومقه يمقه بالكسر فيهما أي أحبه فهو وامق فصل وأما الوجد فهو الحب الذي يتبعه الحزن وأكثر ما يستعمل الوجد في الحزن يقال منه وجد وجدا بالفتح ونحن نذكر هذه المادة وتصاريفها يقال وجد مطلوبه يجده وجودا فإن تعلق ذلك بالضالة سموه وجدانا
ووجد عليه في الغضب موجدة ووجد في الحزن وجدا بالفتح ووجد في المال أي صار واجدا وجدا ووجدا ووجدا بالفتح والضم والكسر وجدة إذا استغنى وأما إطلاق اسم الوجد على مجرد مطلق المحبة فغير معروف وإنما يطلق على محبة معها فقد يوجب الحزن فصل وأما الكلف فهو من أسماء الحب أيضا يقال كلفت بهذا الأمر أي أولعت به فأنا كلف به قال الشاعر فتعلمي أن قد كلفت بكم ... ثم اصنعي ما شئت عن علم وأصل اللفظة من الكلفة والمشقة يقال كلفه تكليفا إذا أمره بما يشق قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ومنه تكلفت الأمر تجشمته والكلفة ما يتكلف من نائبة أو حق والمتكلف المتعرض لما لا يعنيه قال الله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقيل هو مأخوذ من الأثر وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم والكلف أيضا لون بين السواد والحمرة وهي حمرة كدرة تعلو الوجه والاسم الكلفة فصل وأما التتيم فهو التعبد قال في الصحاح تيم الله أي عبدالله وأصله
من قولهم تيمه الحب إذا عبده وذلله فهو متيم ويقال تامته المرأة قال لقيط بن زرارة تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا فصل وأما العشق فهو أمر هذه الأسماء وأخبثها وقل ما ولعت به العرب وكأنهم ستروا اسمه وكنوا عنه بهذه الأسماء فلم يكادوا يفصحوا به ولا تكاد تجده في شعرهم القديم وإنما أولع به المتأخرون ولم يقع هذا اللفظ في القرآن ولا في السنة إلا في حديث سويد بن سعيد وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى وبعد فقد استعملوه في كلامهم قال الشاعر وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لك عاشق نعم صدق الواشون أنت حبيبة ... إلي وإن لم تصف منك الخلائق قال في الصحاح العشق فرط الحب وقد عشقها عشقا مثل علم علما وعشقا أيضا عن الفراء قال رؤبة ولم يضعها بين فرك وعشق ... قال ابن السراج إنما حركه ضرورة وإنما لم يحركه بالكسر إتباعا للعين كأنه كره الجمع بين كسرتين فإن هذا عزيز في الأسماء ورجل عشيق مثل فسيق أي كثير العشق والتعشق تكلف العشق قال الفراء يقولون امرأة محب لزوجها وعاشق وقال ابن سيده العشق عجب المحب بالمحبوب يكون في عفاف الحب ودعارته يعني في العفة والفجور وقيل العشق الاسم
والعشق المصدر وقيل هو مأخوذ من شجرة يقال لها عاشقة تخضر ثم تدق وتصفر قال الزجاج واشتقاق العاشق من ذلك وقال الفراء عشق عشقا وعشقا إذا أفرط في الحب والعاشق الفاعل والمعشوق المفعول والعشيق يقال لهذا ولهذا وامرأة عاشق وعاشقة قال ولذ كطعم الصرخدي طرحته ... عشية خمس القوم والعين عاشقه وقال الفراء العشق نبت لزج وسمي العشق الذي يكون من الإنسان للصوقه بالقلب وقال ابن الأعرابي العشقة اللبلابة تخضر وتصفر وتعلق بالذي يليها من الأشجار فاشتق من ذلك العاشق وقد اختلف الناس هل يطلق هذا الاسم في حق الله تعالى فقالت طائفة من الصوفية لا بأس بإطلاقه وذكروا فيه أثرا لا يثبت وفيه فإذا فعل ذلك عشقني وعشقته وقال جمهور الناس لا يطلق ذلك في حقه سبحانه وتعالى فلا يقال إنه يعشق ولا يقال عشقه عبده ثم اختلفوا في سبب المنع على ثلاثة أقوال أحدها عدم التوقيف بخلاف المحبة الثاني أن العشق إفراط المحبة ولا يمكن ذلك في حق الرب تعالى فإن الله تعالى لا يوصف بالإفراط في الشيء ولا يبلغ عبده ما يستحقه من حبه فضلا أن يقال أفرط في حبه الثالث أنه مأخوذ من التغير
كما يقال للشجرة المذكورة عاشقة ولا يطلق ذلك على الله سبحانه وتعالى فصل وأما الجوى ففي الصحاح الجوى الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن تقول منه جوي الرجل بالكسر فهو جو مثل دو ومنه قيل للماء المتغير المنتن جو قال الشاعر ثم كان المزاج ماء سحاب ... لا جو آجن ولا مطروق فصل وأما الدنف فلا تكاد تستعمله العرب في الحب وإنما ولع به المتأخرون وإنما استعملته العرب في المرض قال في الصحاح الدنف بالتحريك المرض الملازم رجل دنف أيضا يعني بفتح النون وامرأة دنف وقوم دنف يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع فإن قلت رجل دنف بكسر النون قلت امرأة دنفة أنثت وثنيت وجمعت وقد دنف المريض بالكسر ثقل وأدنف بالألف مثله وأدنفه المرض يتعدى ولا يتعدى فهو مدنف ومدنف قلت وكأنهم استعاروا هذا الاسم للحب اللازم تشبيها له به والله أعلم فصل وأما الشجو فهو حب يتبعه هم وحزن قال في الصحاح الشجو الهم والحزن يقال شجاه يشجوه شجوا إذا أحزنه وأشجاه يشجيه إشجاء
إذا أغصه تقول منها جميعا شجي بالكسر يشجى شجى قال الشاعر لا تنكروا القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم وقد شجينا أراد حلوقكم واشجى ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره ورجل شج أي حزين وامرأة شجية على فعلة فأطلق هذا الاسم على الحب للزومه كالشجى الذي يعلق بالحلق وينشب فيه فصل وأما الشوق فهو سفر القلب إلى المحبوب وقد وقع هذا الاسم في السنة ففي المسند من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها فقيل له أوجزت يا أبا اليقظان فقال لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله يدعو بهن اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحبني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وجاء في أثر إسرائيلي طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق وقد قال الله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت قال بعض العارفين
لما علم الله شوق المحبين إلى لقائه ضرب لهم موعدا للقاء تسكن به قلوبهم وبعد فهذه اللفظة من أسماء الحب قال في الصحاح الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء يقال شاقني الشيء يشوقني فهو شائق وأنا مشوق وشوقني فتشوقت إذا هيج شوقك قال الراجز يا دار مية بالدكاديك البرق ... سقيا لقد هيجت شوق المشتأق يريد المشتاق قال سيبويه همز ما ليس بمهموز ضرورة فصل واختلف في الفرق بين الشوق والاشتياق أيهما أقوى فقالت طائفة الشوق أقوى فإنه صفة لازمة والاشتياق فيه نوع افتعال كما يدل عليه بناؤه كالاكتساب ونحوه وقالت فرقة الاشتياق أقوى لكثرة حروفه وكلما قوي المعنى وزاد زادوا حروفه وحكمت فرقة ثالثة بين القولين وقالت الاشتياق يكون إلى غائب وأما الشوق فإنه يكون للحاضر والغائب والصواب أن يقال الشوق مصدر شاقه يشوقه إذا دعاه إلى الاشتياق إليه فالشوق داعية الاشتياق ومبداه والاشتياق موجبه وغايته فإنه يقال شاقني فاشتقت فالاشتياق فعل مطاوع لشاقني واختلف أرباب الشوق هل يزول الشوق بالوصال أو يزيد فقالت طائفة يزول فإن الشوق سفر القلب إلى المحبوب فإذا وصل إليه انتهى السفر وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
قالوا ولأن الشوق إنما يكون لغائب فلا معنى له مع الحضور ولهذا إنما يقال للغائب أنا إليك مشتاق وأما من لم يزل حاضرا مع المحب فلا يوصف بالشوق إليه وقالت طائفة بل يزيد بالقرب واللقاء واستدلوا بقول الشاعر وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام قالوا ولأن الشوق هو حرقة المحبة والتهاب نارها في قلب المحب وذلك مما يزيده القرب والمواصلة والصواب أن الشوق الحادث عند اللقاء والمواصلة غير النوع الذي كان عند الغيبة عن المحب قال ابن الرومي أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني وألثم فاها كي تزول صبابتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان ولم يك مقدار الذي بي من الجوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحين تمتزجان فصل وأما الخلابة فهي الحب الخادع وهو الحب الذي وصل إلى الخلب وهو الحجاب الذي بين القلب وسواد البطن وسمى الحب خلابة لأنه يخدع ألباب أربابه والخلابة الخديعة باللسان يقال خلبه يخلبه بالضم واختلبه مثله وفي المثل إذا لم تغلب فاخلب أي فاخدع والخلبة الخداعة من النساء قال الشاعر أودى الشباب وحب الخالة الخلبة ... وقد برئت فما بالقلب من قلبه
قال ابن السكيت رجل خلاب أي خداع كذاب ومنه البرق الخلب الذي لا غيث فيه كأنه خادع ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز إنما أنت برق خلب والخلب أيضا السحاب الذي لا مطر فيه ومنه الحديث إذا بايعت فقل لا خلابة أي لا خديعة والحب أحق ما يسمى بهذا الاسم لأنه يعمي ويصم ويخدع لب المحب وقلبه فصل وأما البلابل فجمع بلبلة يقال بلابل الحب وبلابل الشوق وهي وساوسه وهمه قال في الصحاح البلبلة والبلبال الهم ووسواس الصدر فصل وأما التباريح فيقال تباريح الحب وتباريح الشوق وتباريح الجوى وبرح به الحب والشوق إذا اصابه منه البرح وهو الشدة قال في الصحاح لقيت منه برحا بارحا أي شدة وأذى قال الشاعر أجد هذا عمرك الله كلما ... دعاك الهوى برح لعينيك بارح ولقيت منه بنات برح وبني برح ولقيت منه البرحين والبرحين بكسر الباء وضمها أي الشدائد والدواهي فصل وأما السدم بالتحريك فهو الحب الذي يتبعه ندم وحزن قال في الصحاح السدم بالتحريك الندم والحزن وقد سدم بالكسر ورجل نادم سادم وندمان سدمان وهو إتباع وما له هم ولا سدم إلا ذاك
فصل وأما الغمرات فهي جمع غمرة والغمرة ما يغمر القلب من حب أو سكر أو غفلة قال الله تعالى قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون أي في غفلة قد غمرت قلوبهم وقال تعالى فذرهم في غمرتهم حتى حين ومنه الماء الغمر الكثير الذي يغطي من دخل فيه ومنه غمرات الموت أي شدائده وكذلك غمرات الحب وهو ما يغطي قلب المحب فيغمره ومنه قولهم رجل غمر الرداء كناية عن السخاء لأنه يغمر العيوب أي يغطيها فلا يظهر مع السخاء عيب قال كثير غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال وقال القطامي يصف سفينة نوح إلى الجودي حتى صار حجرا ... وكان لذلك الغمر انحسار أي لذلك الماء الذي غمر الأرض ومن عليها فصل وأما الوهل فهو بتحريك الهاء وأصله الفزع والروع يقال وهل يوهل وهو وهل ومستوهل قال القطامي يصف إبلا
وترى لجيضتهن عند رحيلنا ... وهلا كأن بهن جنة أولق وإنما كان الوهل من أسماء الحب لما فيه من الروع ومنه يقال جمال رائع فإن قيل ما سبب روعة الجمال ولأي شيء إذا رأى المحب محبوبه فجأة يرتاع لذلك ويصفر لونه ويبهت قال الشاعر وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى لا أكاد أجيب وكثير من الناس يرى محبوبه فيصفر ويرتعد قيل هذا مما خفي سببه على أكثر المحبين فلا يدرون ما سببه فقيل سببه أن الجمال سلطان على القلوب وإذا بدا راع القلوب بسلطانه كما يروعها الملك ونحوه ممن له سلطان على الأبدان فسلطان الجمال والمحبة على القلوب وسلطان الملوك على الأبدان فإذا كان السلطان الذي على الأبدان يروع إذا بدا فكيف بالسلطان الذي هو أعظم منه قالوا وأيضا فإن الجمال يأسر القلب فيحس القلب بأنه أسير ولا بد لتلك الصورة التي بدت له فيرتاع كما يرتاع الرجل إذا أحس بمن يأسره ولهذا إذا أمن الناظر من ذلك لم تحصل له هذه الروعة قال الشاعر علامة من كان الهوى بفؤاده ... إذا ما رأى محبوبه يتغير فصل وأما الشجن فهو من أسمائه فإن الشجن الحاجة حيث كانت وحاجة المحب أشد شيء إلى محبوبه قال الراجز
إني سأبدي لك فيما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد وشجن لي ببلاد السند ... والجمع شجون قال والنفس شتى شجونها ويجمع على أشجان قال الشاعر تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي ... وللناس أشجان ولي شجن وحدي قد شجنتني الحاجة تشجنني شجنا إذا حبستك ووجه آخر أيضا وهو أن الشجن الحزن والجمع أشجان وقد شجن بالكسر فهو شاجن وأشجنه غيره وشجنه أي أحزنه والحب فيه الأمران هذا وهذا فصل وأما اللاعج فهو اسم فاعل من قولهم لعجه الضرب إذا آلمه وأحرق جلده قال الهذلي ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا ... ويقال هو لاعج لحرقة الفؤاد من الحب فصل وأما الاكتئاب فهو افتعال من الكآبة وهي سوء الحال والانكسار من الحزن وقد كئب الرجل يكأب كأبة وكآبة كرأفة ورآفة ونشأة
ونشاءة فهو كئيب وامرأة كئيبة وكأباء أيضا قال الراجز أو أن ترى كأباء لم تبر نشقي ... واكتأب الرجل مثله ورماد مكتئب اللون إذا ضرب إلى السواد كما يكون وجه الكئيب والكآبة تتولد من حصول الحب وفوت المحبوب فتحدث بينهما حالة سيئة تسمى الكآبة فصل وأما الوصب فهو ألم الحب ومرضه فإن أصل الوصب المرض وقد وصب الرجل يوصب فهو وصب وأوصبه الله فهو موصب والموصب بالتشديد الكثير الأوجاع وفي الحديث الصحيح لا يصيب المؤمن من هم ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ووصب الشيء يصب وصوبا إذا دام تقول وصب الرجل على الأمر إذا داوم عليه قال الله تعالى ولهم عذاب واصب وقال تعالى وله الدين واصبا أي الطاعة دائمة فصل وأما الحزن فقد عد من أسماء المحبة والصواب أنه ليس من أسمائها وإنما هو حالة تحدث للمحب وهي ورود المكروه عليه وهو خلاف المسرة ولما كان الحب لا يخلو من ورود مالا يسر على قلب المحب كان الحزن من لوازمه
وفي الحديث الصحيح أن النبي كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فاستعاذ من ثمانية أشياء كل شيئين منهما قرينان فالهم والحزن قرينان فإن ورود المكروه على القلب إ نكان لما مضى فهو الحزن وإن كان لما يستقبل فهو الهم والعجز والكسل قرينان فإن تخلف العبد عن كماله إن كان من عدم القدرة فهو العجز وإن كان من عدم الإرادة فهو الكسل والجبن والبخل قرينان فإن الرجل يراد منه النفع بماله أو ببدنه فالجبان لا ينفع ببدنه والبخيل لا ينفع بماله وضلع الدين وغلبة الرجال قرينان فإن قهر الناس نوعان نوع بحق فهو ضلع الدين ونوع بباطل فهو غلبة الرجال وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنة الخوف والحزن فلا يحزنون على ما مضى ولا يخافون مما يأتي ولا يطيب العيش إلا بذلك والحب يلزمه الخوف والحزن فصل وأما الكمد فمن أحكام المحبة في الحقيقة وليس من أسمائها ولكن المتكلمون في هذا الباب لا يفرقون بين اسم الشيء ولازمه وحكمه والكمد الحزن المكتوم تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد والكمدة تغير اللون وأكمد القصار الثوب إذا لم ينقه فصل وأما اللذع فهو من أحكام المحبة أيضا وأصله من لذع النار يقال
لذعته النار لذعا أحرقته ثم شبهوا لذع اللسان بلذع النار فقالوا لذعه بلسانه أي أحرقه بكلامه يقال أعوذ بالله من لواذعه فصل وأما الحرق فهي أيضا من عوارض الحب وآثاره والحرقة تكون من الحب تارة ومنه قولهم مالك حرقة على هذا الأمر وتكون من الغيظ ومنه في الحديث تركتهم يتحرقون عليكم فصل وأما السهد فهو أيضا من آثار المحبة ولوازمها فالسهاد الأرق وقد سهد الرجل بالكسر يسهد سهدا والسهد بضم السين والهاء القليل النوم قال أبو كبير الهذلي فأتت به حوش الجنان مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل وسهدته أنا فهو مسهد ... فصل وأما الأرق فهو أيضا من آثار المحبة ولوازمها فإنه السهر وقد أرقت بالكسر أي سهرت وكذلك ائترقت على افتعلت فأنا أرق وأرقني كذا تأريقا أي سهرني فصل وأما اللهف فمن أحكامها وآثارها أيضا يقال لهف بالكسر يلهف
لهفا أي حزن وتحسر وكذلك التلهف على الشيء وقولهم يا لهف فلان كلمة يتحسر بها على ما فات واللهفان المتحسر واللهيف المضطر فصل وأما الحنين فقال في الصحاح الحنين الشوق وتوقان النفس تقول منه حن إليه يحن حنينا فهو حان والحنان الرحمة تقول منه حن عليه يحن حنانا ومنه قوله تعالى وحنانا من لدنا وتحنن عيه ترحم والعرب تقول حنانك يا رب وحنانيك بمعنى واحد أي رحمتك قال امرؤ القيس ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان وقال طرفة أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض وفي الحقيقة الحنين من آثار الحب وموجباته وحنين الناقة صوتها في نزاعها إلى ولدها وحنة الرجل امرأته قال وليلة ذات دجى سريت ... ولم تضرني حنة وبيت قلت سميت حنة لأن الرجل يحن إليها أين كان فصل وأما الاستكانة فهي أيضا من لوازم الحب وأحكامه لا من أسمائه المختصة
به وأصلها الخضوع قال الله تعالى فما استكانوا لربهم وما يتضرعون وقال تعالى فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا وأصلها استفعل من الكون وهذا الاشتقاق والتصريف يطابق اللفظ وأما المعنى فالمستكن ساكن خاشع ضد الطائش ولكن لا يوافق السكون تصريف اللفظة فإنه إن كان افتعل كان ينبغي أن يقال استكن لأنه ليس في كلامهم افتعال والحق أنه استفعل من الكون فنقلوا حركة الواو إلى الكاف قبلها فتحركت الواو أصلا وانفتح ما قبلها تقديرا فقلبت ألفا كاستقام والكون الحالة التي فيها إنابة وذل وخضوع وهذا يحمد إذا كان لله ويذم إذا كان لغيره ومنه الحديث أعوذ بك من الحور بعد الكور أي الرجوع عن الاستقامة بعد ما كنت عليها فصل وأما التبالة فهي فعالة من تبله إذا أفناه قال الجوهري تبلهم الدهر وأتبلهم إذا أفناهم قال الأعشى أأن رأت رجلا أعشى أضر به ... ريب الزمان ودهر متبل خبل أي يذهب بالأهل والولد وتبله الحب أي أسقمه وأفسده قلت ومنه قول كعب بن زهير بن أبي سلمى بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم عندها لم يفد مكبول
فصل وأما اللوعة فقال في الصحاح لوعة الحب حرقته وقد لاعه الحب يلوعه والتاع فؤاده أي احترق من الشوق ومنه قولهم أتان لاعة الفؤاد إلى جحشها قال الأصمعي أي لائعة الفؤاد وهي التي كأنها ولهى من الفزع فصل وأما الفتون فهو مصدر فتنه يفتنه فتونا قال الله تعالى وفتناك فتونا أي امتحناك واختبرناك والفتنة يقال على ثلاثة معان أحدها الامتحان والاختبار ومنه قوله تعالى إن هي إلا فتنتك أي امتحانك واختبارك والثاني الافتتان نفسه يقال هذه فتنة فلان أي افتتانه ومنه قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة يقال أصابته الفتنة وفتنته الدنيا وفتنته المرأة وأفتنته قال الأعشى لئن فتنتني ولهى بالأمس أفتنت ... سعيدا فأضحى قد قلى كل مسلم وأنكر الأصمعي أفتنته والثالث المفتون به نفسه يسمى فتنة قال الله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة وأما قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أي لم تكن عاقبة شركهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه وأما قوله تعالى يوم هم على النار
يفتنون ذوقوا فتنتكم فقيل المعنى يحرقون ومنه فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته ودينار مفتون قال الخليل والفتن الإحراق قال الله تعالى يوم هم على النار يفتنون وورق فتين أي فضة محرقة وافتتن الرجل وفتن إذا اصابته فتنة فذهب ماله أو عقله وفتنته المرأة إذا ولهته وقوله تعالى فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم أي لا تفتنون على عبادته إلا من سبق في علم الله أنه يصلى الجحيم فذلك الذي يفتن بفتنتكم إياه وأما قوله تعالى فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون فقيل الباء زائدة وقيل المفتون مصدر كالمعقول والميسور والمحلوف والمعسور والصواب أن يبصر مضمن معنى يشعر ويعلم قال الله تعالى أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر فعدى فعل الرؤية بالباء وفي الحديث المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان يروى بفتح الفاء وهو واحد وبضمها وهو جمع فاتن كتاجر وتجار والمقصود أن الحب موضع الفتون فما فتن من فتن إلا بالمحبة فصل وأما الجنون فمن الحب ما يكون جنونا ومنه قوله
قالت جننت بمن تهوى فقلت لها ... ألعشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين وأصل المادة من الستر في جميع تصاريفها ومنه أجنه الليل وجن عليه إذا ستره ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه ومنه الجنة لاستتارها بالأشجار ومنه المجن لاستتار الضارب به والمضروب ومنه الجن لاستتارهم عن العيون بخلاف الإنس فإنهم يؤنسون أي يرون ومنه الجنة بالضم وهي ما استترت به واتقيت ومنه قوله تعالى اتخذوا أيمانهم جنة وأجننت الميت واريته في القبر فهو جنين والحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره فهو شعبة من الجنون فصل وأما اللمم فهو طرف من الجنون ورجل ملموم أي به لمم ويقال أيضا أصابت فلانا من الجن لمة وهو المس والشيء القليل قاله الجوهري قلت وأصل اللفظة من المقاربة ومنه قوله تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وهي الصغائر قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه إن العين تزني وزناها النظر واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والفم يزني وزناه القبل ومنه ألم بكذا أي قاربه ودنا منه وغلام ملم أي قارب
البلوغ وفي الحديث إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم أي يقرب من ذلك وبالجملة فلا يستبين كون اللمم من أسماء الحب وإن كان قد ذكره جماعة إلا أن يقال إن المحبوب قد ألم بقلب المحب أي نزل به ومنه ألمم بنا أي انزل بنا ومنه قوله متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا فصل وأما الخبل فمن موجبات العشق وآثاره لا من أسمائه وإن ذكر من أسمائه فإن أصله الفساد وجمعه خبول والخبل بالتحريك الجن يقال به خبل أي شيء من أهل الأرض وقد خبله وخبله واختبله إذا أفسد عقله أو عضوه ورجل مخبل وهو نوع من الجنون والفساد فصل وأما الرسيس فقد كثر في كلامهم رسيس الهوى والشوق ورسيس الحب فظن من أدخله في أماء الحب أنه منها وليس كذلك بل الرسيس الشيء الثابت فرسيس الحب ثباته ودوامه ويمكن أن يكون من رس الحمى ورسيسها وهو أول مسها فشبهوا رسيس الحب بحرارته وحرقته برسيس الحمى وكان الواجب على هؤلاء أن يجعلوا الأوار من أسماء الحب لأنه يضاف إليه قال الشاعر
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد وقد وقع إضافة الرسيس إلى الهوى في شعر ذي الرمة حيث يقول إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح وفيه إشكال نحوي ليس هذا موضعه فصل وأما الداء المخامر فهو من أوصافه وسمي مخامرا لمخالطته القلب والروح يقال خامره قال الجوهري والمخامرة المخالطة وخامر الرجل المكان إذا لزمه وقد يكون أخذ من قولهم استخمر فلان فلانا إذا استعبده وكأن العشق داء مستعبد للعاشق ومنه حديث معاذ من استخمر قوما أي أخذهم قهرا وتملك عليهم فالحب داء مخالط مستعبد فصل وأما الود فهو خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة قال اجلوهري وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته والود والود والود المودة تقول بودي أن يكون كذا وأما قول الشاعر أيها العائد المسائل عنا ... وبوديك أن ترى أكفاني فإنما أشبع كسرة الدال ليستقيم له البيت فصارت ياء والود الوديد بمعنى المودود والجمع أود مثل قدح وأقدح وذئب وأذؤب وهما يتوادان وهم أوداء والودود المحب ورجال ودداء يستوي فيه المذكر والمؤنث لكونه وصفا
داخلا على وصف للمبالغة قلت الودود من صفات الله سبحانه وتعالى أصله من المودة واختلف فيه على قولين فقيل هو ودود بمعنى واد كضروب بمعنى ضارب وقتول بمعنى قاتل ونؤوم بمعنى نائم ويشهد لهذا القول أن فعولا في صفات الله سبحانه وتعالى فاعل كغفور بمعنى غافر وشكور بمعنى شاكر وصبور بمعنى صابر وقيل بل هو بمعنى مودود وهو الحبيب وبذلك فسره البخاري في صحيحه فقال الودود الحبيب والأول أظهر لاقترانه بالغفور في قوله وهو الغفور الودود وبالرحيم في قوله إن ربي رحيم ودود وفيه سر لطيف وهو أنه يحب التوابين وأنه يحب عبده بعد المغفرة فيغفر له ويحبه كما قال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فالتائب حبيب الله فالود أصفى الحب وألطفه فصل وأما الخلة فتوحيد المحبة فالخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة ولهذا اختص بها في العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما قال الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا وصح عن النبي أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وفي الصحيح عنه لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن وفي الصحيح أيضا إني أبرأ إلى كل خليل
من خلته ولما كانت الخلة مرتبة لا تقبل المشاركة امتحن الله سبحانه إبراهيم الخليل بذبح ولده لما أخذ شعبة من قلبه فأراد سبحانه أن يخلص تلك الشعبة له ولا تكون لغيره فامتحنه بذبح ولده والمراد ذبحه من قلبه لا ذبحه بالمدية فلما أسلما لأمر الله وقدم محبة الله تعالى على محبة الولد خلص مقام الخلة وفدى الولد بالذبح وقيل إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح قال قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا والخلة الخليل يستوي فيه المذكر والمؤنث لأنه في الأصل مصدر قولك خليل بين الخلة والخلولة قال ألا أبلغا خلتي جابرا ... بأن خليلك لم يقتل ويجمع على خلال مثل قلة وقلال والخل الود والصديق والخلال أيضا مصدر بمعنى الخالة ومنه قوله تعالى لا بيع فيه ولا خلال وقال في الآية الأخرى لا بيع فيه ولا خلة قال امرؤ القيس ولست بمقلي الخلال ولا قالي ... والخليل الصديق والأنثى خليلة والخلالة والخلالة والخلالة بكسر الخاء وفتحها وضمها الصداقة والمودة قال وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
وقد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل وقال محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله وهذا باطل من وجوه كثيرة منها إن الخلة خاصة والمحبة عامة فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال في عباده المؤمنين يحبهم ويحبونه ومنها أن النبي نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة ومن الرجال أبوها ومنها أنه قال إن الله اتخذني وخليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ومنها أنه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته فصل وأما الخلم فهو مأخوذ من المخالمة وهي المصادقة والمودة والخلم الصديق والأخلام الأصحاب قال الكميت إذا ابتسر الحرب أخلامها ... كشافا وهيجت الأفحل فصل وأما الغرام فهو الحب اللازم يقال رجل مغرم بالحب أي قد لزمه الحب وأصل المادة من اللزوم ومنه قولهم رجل مغرم من الغرم أو الدين قال في الصحاح والغرام الولوع وقد أغرم بالشيء أي أولع به والغريم
الذي عليه الدين يقال خذ من غريم السوء ما سنح ويكون الغريم أيضا الذي له الدين قال كثير عزة قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها ومن المادة قوله تعالى في جهنم إن عذابها كان غراما والغرام الشعر ! الدائم اللازم والعذاب قال بشر ويوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذابا وكانا غراما وقال الأعشى إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي وقال أبو عبيدة إن عذابها كان غراما كان هلاكا ولزاما لهم وللطف المحبة عندهم واستعذابهم لها لم يكادوا يطلقون عليها لفظ الغرام وإن لهج به المتأخرون فصل وأما الهيام قال في الصحاح هام على وجهه يهيم هيما وهيمانا ذهب من العشق أو غيره وقلب مستهام أي هائم والهيام بالضم أشد العطش والهيام كالجنون من العشق والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم لا ترعى يقال ناقة هيماء قال والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان وناقة هيمى
مثل عطشان وعطشى وقوم هيم أي عطاش وقد هاموا هياما وقوله تعالى فشاربون شرب الهيم هي الإبل العطاش قلت جمع أهيم هيم مثل أحمر وحمر وهو جمع فعلاء أيضا كصفراء وصفر فصل وأما التدليه ففي الصحاح التدليه ذهاب العقل من الهوى يقال دلهه الحب أي حيره وأدهشه ودله هو يدله قال أبو زيد الدلوه الناقة لا تكاد تحن إلى إلف ولا ولد وقد دلهت عن إلفها وعن ولدها تدله دلوها فصل وأما الوله فقال في الصحاح الوله ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد ورجل واله وامرأة واله ووالهة قال الأعشى فأقبلت والها ثكلى على عجل ... كل دهاها وكل عندها اجتمعا وقد وله يوله ولها وولهانا وتوله واتله وهو افتعل أدغم قال الشاعر واتله الغيور ... والتوليه أن يفرق بين الأم وولدها وفي الحديث لا توله والدة
بولدها أي لا تجعل والها وذلك في السبايا وناقة واله إذااشتد وجدها على ولدها والميلاه التي من عادتها أن يشتد وجدها على ولدها صارت الواو يا لكسرة ما قبلها وماء موله وموله أرسل في الصحراء فذهب وقول رؤبة به تمطت غول كل ميلة ... بنا حراجيج المهارى النفة أراد البلاد التي توله الإنسان أي تحيره فصل وأما التعبد فهو غاية الحب وغاية الذل يقال عبده الحب أي ذلله وطريق معبد بالأقدام أي مذلل وكذلك المحب قد ذلله الحب ووطأه ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله تعالى ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادته ويغفر ما دون ذلك لمن شاء فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة وهي خالص حق الله على عباده وفي الصحيح عن معاذ أنه قال كنت سائرا مع رسول الله فقال يا معاذ فقلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة فقال يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك قال أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا
فعلوا ذلك أن لا يعذبهم بالنار وقد ذكر الله سبحانه رسوله بالعبودية في أشرف مقاماته وهي مقام التحدي ومقام الإسراء ومقام الدعوة فقال في التحدي وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وقال في مقام الإسراء سبحان الذي أسرى بعيده ليلا من المسجد الحرام وقال في مقام الدعوة وأنه لما قام عبدالله يدعوه وإذا تدافع أولو العزم الشفاعة الكبرى يوم القيامة يقول المسيح لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنال ذلك المقام بكمال العبودية لله وكمال مغفرة الله له فأشرف صفات العبد صفة العبودية وأحب أسمائه إلى الله اسم العبودية كما ثبت عن النبي أنه قال أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وإنما كان حارث وهمام أصدقها لأن كل أحد لا بد له من هم وإرادة وعزم ينشأ عنه حرثه وفعله وكل أحد حارث وهمام وإنما كان أقبحها حرب ومرة لما في مسمى هذين الإسمين من الكراهة ونفور العقل عنهما وبالله التوفيق
الباب الثالث في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين فالأسماء الدالة على مسمى واحد نوعان أحدهما أن يدل عليه باعتبار الذات فقط فهذا النوع هو المترادف ترادفا محضا وهذا كالحنطة والقمح والبر والإسم والكنية واللقب إذا لم يكن فيه مدح ولا ذم وإنما أتي به لمجرد التعريف والنوع الثاني أن يدل على ذات واحده باعتبار تباين صفاتها كأسماء الرب تعالى وأسماء كلامه وأسماء نبيه وأسماء اليوم الآخر فهذا النوع مترادف بالنسبة إلى الذات متباين بالنسبة إلى الصفات فالرب والرحمن والعزيز والقدير والملك يدل على ذات واحدة باعتبار صفات متعددة وكذلك البشير والنذير الحاشر والعاقب والماحي وكذلك يوم القيامة ويوم البعث ويوم الجمع ويوم التغابن ويوم الآزفة ونحوها وكذلك القرآن والفرقان والكتاب والهدى ونحوها وكذلك أسماء السيف فإن تعددها بحسب أوصاف وإضافات مختلفة كالمهند والعضب الصارم ونحوها وقد عرفت تباين الأوصاف في أسماء المحبة وقد أنكر كثير من الناس الترادف في اللغة وكأنهم أرادوا هذا المعنى وأنه ما من إسمين لمسمى واحد إلا وبينهما فرق في صفة أو نسبة أو إضافة سواء علمت لنا أو لم تعلم وهذا الذي قالوه صحيح باعتبار الواضع الواحد ولكن قد يقع الترادف باعتبار واضعين مختلفين بسمى أحدهما المسمى باسم ويسميه الواضع الآخر باسم غيره ويشتهر الوضعان عند القبيلة الواحدة وهذا كثير ومن ههنا يقع الاشتراك أيضا فالأصل في اللغة هو التباين وهو أكثر اللغة والله أعلم
الباب الرابع في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب وهذا باب شريف من أشرف أبواب الكتاب وقبل تقريره لا بد من بيان مقدمة وهي أن الحركات ثلاث حركة إرادية وحركة طبيعية وحركة قسرية وبيان الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من غيره فإن كان من المتحرك فإما أن يقارنها شعوره وعلمه بها أولا فإن قارنها الشعور والعلم فهي الإرادية وإن لم يقارنها الشعور والعلم فهي الطبيعية وإن كانت من غيره فهي القسرية وإن شئت أن تقول المتحرك إما أن يتحرك بإرادته أو لا فإن تحرك بإرادته فحركته إرادية وإن تحرك بغير إرادته فإما أن تكون حركته إلى نحو مركزه أولا فإن تحرك إلى جهة مركزه فحركته طبيعية وإن تحرك إلى غير جهة مركزه فحركته قسرية إذا ثبت هذا فالحركة الإرادية تابعة لإرادة المتحرك والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره ولا بد أن ينتهي المراد لغيره إلى مراد لنفسه دفعا للدور والتسلسل الإرادة إما أن تكون لجلب منفعة ولذة إما للمتحرك وإما لغيره أو دفع ألم ومضرة إما عن المتحرك أو عن غيره والعاقل لا يجلب لغيره منفعة ولا يدفع عنه مضرة إلا لما له في ذلك من اللذة ودفع الألم فصارت حركته الإرادية تابعة لمحبته بل هذا حكم كل حي متحرك وأما الحركة الطبيعية فهي حركة الشيء إلى مستقره ومركزه وتلك تابعة للحركة التي اقتضت خروجه عن مركزه وهي القسرية التي إنما تكون بقسر قاسر أخرجه عن مركزه إما باختياره كحركة الحجر إلى اسفل إذا رمى به
إلى جهة فوق وإما بغير اختيار محركه كتحريك الرياح للأجسام إلى جهة مهابها وهذه الحركة تابعة للقاسر وحركة القاسر ليست منه بل مبدؤها من غيره فإن الملائكة موكلة بالعالم العلوي والسفلي تدبره بأمر الله تعالى كما قال الله تعالى فالمدبرات أمرا وقال فالمقسمات أمر وقال تعالى والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا وقال والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا وقد وكل الله سبحانه بالأفلاك والشمس والقمر ملائكة تحركها ووكل بالرياح ملائكة تصرفها بأمره وهم خزنتها قال الله تعالى وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية وقال غير واحد من السلف عتت على الخزان فلم يقدروا على ضبطها ذكره البخاري في صحيحه ووكل بالقطر ملائكة وبالسحاب ملائكة تسوقه إلى حيث أمرت به وقد ثيت في الصحيح عن النبي أنه قال بينا رجل بفلاة من الأرض إذ سمع صوتا في سحابة يقول اسق حديقة فلان فتتبع السحابة حتى انتهت إلى حديقة فأفرغت ماءها فيها فنظر فإذا رجل في الحديقة يحول الماء بمسحاة فقال له ما اسمك يا عبدالله فقال فلان الإسم الذي سمعه في السحابة فقال إني سمعت قائلا يقول في هذه السحابة اسق حديقة فلان فما تصنع في هذه الحديقة فقال إنى أنظر ما يخرج منها فأجعله ثلاثة أثلاث
ثلث أتصدق به وثلث انفقه على عيالي وثلث أرده فيها ووكل الله سبحانه بالجبال ملائكة وثبت عن النبي أنه جاءه ملك الجبال يسلم عليه ويستأذنه في هلاك قومه إن أحب فقال بل أستأني لهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ووكل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة يا رب ذكر أم أنثى فما الرزق فم الأجل وشقي أم سعيد ووكل بكل عبد أربعة من الملائكة في هذه الدنيا حافظان عن يمينه وعن شماله يكتبان أعماله ومعقبات من بين يديه ومن خلفه أقلهم اثنان يحفظونه من أمر الله ووكل بالموت ملائكة ووكل بمساءلة الموتى ملائكة في القبور ووكل بالرحمة ملائكة وبالعذاب ملائكة وبالمؤمن ملائكة يثبتونه ويؤزونه إلى الطاعات أزا ووكل بالنار ملائكة يبنونها ويوقدونها ويصنعون أغلالها وسلاسلها ويقومون بإمرها ووكل بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها ويصنعون أرائكها وسررها وصحافها ونمارقها وزرابيها فأمر العالم العلوي والسفلي والجنة والنار بتدبير الملائكة بإذن ربهم تبارك وتعالى وأمره لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون و لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون فأخبر أنهم لا يعصونه في أمره وأنهم قادرون على تنفيذ أوامره ليس بهم عجز عنها بخلاف من يترك ما أمر به عجزا فلا يعصى الله ما أمره وإن لم يفعل ما أمره به وكذلك البحار قد وكلت بها ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض فتغرق أهلها وكذلك أعمال بني آدم خيرها وشرها قد وكلت بها ملائكة تحصيها وتحفظها وتكتبها ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا به وهي خمس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وإذا عرف ذلك عرف أن كل حركة في العالم فسببها الملائكة وحركتهم طاعة الله بأمره وإرادته فيرجع الأمر كله إلى تنفيذ مراد الرب تعالى شرعا وقدرا والملائكة هم المنفذون ذلك بأمره ولذلك سموا ملائكة من الألوكة وهي الرسالة فهم رسل الله في تنفيذ أوامره والمقصود أن حركات الأفلاك وما حوته تابعة للحركة الإرادية المستلزمة للمحبة فالمحبة والإرادة أصل كل فعل ومبداه فلا يكون الفعل إلا عن محبة وإرادة حتى دفعه للأمور التي يبغضها ويكرهها فإنما يدفعها بإرادته ومحبته لأضدادها واللذة التي يجدها بالدفع كما يقال شفى غيظه وشفى صدره والشفاء والعافية يكون للمحبوب وإن كان كريها مثل شرب الدواء الذي يدفع به ألم المرض فإنه وإن كان مكروها من وجه فهو محبوب لما فيه من زوال المكروه وحصول المحبوب وكذلك فعل الأشياء المخالفة للهوى فإنها وإن كانت مكروهة فإنما تفعل لمحبة وإرادة وإن لم تكن محبوبة لنفسها فإنها
مستلزمة للمحبوب لنفسه فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة ولذلك كانت المحبة والإرادة أصلا للبغض والكراهة فإن البغيض المكروه ينافي وجود المحبوب والفعل إما أن يتناول وجود المحبوب أو دفع المكروه المستلزم لوجود المحبوب فعاد الفعل كله إلى وجود المحبوب والحركة الاختيارية أصلها الإرادة والقسرية والطبيعية تابعتان لها فعاد الأمر إلى الحركة الإرادية فجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة وبها تحرك العالم ولأجلها فهي العلة الفاعلية والغائية بل هي التي بها ولأجلها وجد العالم فما تحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه فالمحبة حركة بلا سكون وكمال المحبة هو العبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض والدنيا والآخرة قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال الله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا وقال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا والحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له ولوازم عبوديته من الأمر والنهى والثواب والعقاب ولأجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة والنار والسموات والأرض إنما قامت بالعدل الذي هو صراط الله الذي هو عليه وهو أحب
الأشياء إلى الله تعالى قال الله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب عليه السلام إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهو على صراط مستقيم في شرعه وقدره وهو العدل الذي به ظهر الخلق والأمر والثواب والعقاب وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض وما بينهما ولهذا قال المؤمنون في عبادتهم ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فنزهوا ربهم سبحانه أن يكون خلق السموات عبثا لغير حكمة ولا غاية محمودة وهو سبحانه يحمد لهذه الغايات المحمودة كما يحمد لذاته وأوصافه فالغايات المحمودة في أفعاله هي الحكمة التي يحبها ويرضاها وخلق ما يكره لاستلزامه ما يحبه وترتب المحبوب له عليه ولذلك يترك سبحانه فعل بعض ما يحبه لما يترتب عليه من فوات محبوب له أعظم منه أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك المحبوب وهذا كما ثبط قلوب أعدائه عن الأيمان به وطاعته لأنه يكره طاعاتهم ويفوت بها ما هو أحب إليه منها من جهادهم وما يترتب عليه من الموالاة فيه والمعاداة وبذل أوليائه نفوسهم فيه وإيثار محبته ورضاه على نفوسهم ولأجل هذا حلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها قال تعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقال إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
وقال تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء لبلوكم أيكم أحسن عملا فأخبر سبحانه عن خلق العالم والموت والحياة وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا فيكون عمله موافقا لمحاب الرب تعالى فيوافق الغاية التي خلق هو لها وخلق لأجلها العالم وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه وقدر سبحانه مقادير تخالفها بحكمته في تقديرها وامتحن خلقه بين أمره وقدره ليبلوهم أيهم أحسن عملا فانقسم الخلق في هذاالابتلاء فريقين فريقا داروا مع أوامره ومحابه ووقفوا حيث وقف بهم الأمر وتحركوا حيث حركهم الأمر واستعملوا الأمر في القدر وركبو سفينة الأمر في بحر القدر وحكموا الأمر على القدر ونازعوا القدر بالقدر امتثالا لأمره واتباعا لمرضاته فهؤلاء هم الناجون والفريق الثاني عارضوا بين الأمر والقدر وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه ثم افترقوا أربع فرق فرقة كذبت بالقدر محافظة على الأمر فأبطلت الأمر من حيث حافظت على القدر فإن الإيمان بالقدر أصل الإيمان بالأمر وهو نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه إيمانه وفرقة ردت الأمر بالقدر وهؤلاء من أكفر الخلق وهم الذين حكى الله قولهم في القرآن إذ قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا
من شيء وقالوا أيضا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وقالوا ايضا لو شاء الرحمن ما عبدناهم وقالوا أيضا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه فجعلهم الله سبحانه وتعالى بذلك مكذبين خارصين ليس لهم علم وأخبر أنهم في ضلال مبين وفرقة دارت مع القدر فسارت بسيره ونزلت بنزوله ودانت به ولم تبال وافق الأمر أو خالفه بل دينها القدر فالحلال ما حل بيدها قدرا والحرام ما حرمته قدرا وهم مع من غلب قدرا من مسلم أو كافر برا كان أو فاجرا وخواص هؤلاء وعبادهم لما شهدوا الحقيقة الكونية القدرية صاروا مع الكفار المسلطين بالقدر وهم خفراؤهم فهؤلاء أيضا كفار وفرقة وقفت مع القدر مع اعترافها بأنه خلاف الأمر ولم تدن به ولكنها استرسلت معه ولم تحكم عليه الأمر وعجزت عن دفع القدر بالقدر اتباعا للأمر فهؤلاء مفرطون وهم بين عاجز وعاص لله وهؤلاء الفرق كلهم مؤتمون بشيخهم إبليس فإنه أول من قدم القدر على الأمر وعارضه به وقال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين وقال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم فرد أمر الله بقدره واحتج على ربه بالقدر وانقسم أتباعه أربع فرق كما رأيت فإبليس
وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالا كونيا فالقدر دينهم قال الله تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فدينهم القدر ومصيرهم سقر فبعث الله الرسل بالأمر وأمرهم أن يحاربوا به أهل القدر وشرع لهم من أمره سفنا وأمرهم أن يركبوا فيها هم وأتباعهم في بحر القدر وخص بالنجاة من ركبها كما خص بالنجاة أصحاب السفينة وجعل ذلك آية للعالمين فأصحاب الأمر حرب لأصحاب القدر حتى يردوهم إلى الأمر وأصحاب القدر يحاربون أصحاب الأمر حتى يخرجوهم منه فالرسل دينهم الأمر مع إيمانهم بالقدر وتحكيم الأمر عليه وإبليس وأتباعه دينهم القدر ودفع الأمر به فتأمل هذه المسألة في القدر والأمر وانقسام العالم فيها إلى هذه الأقسام الخمسة وبالله التوفيق فحركات العالم العلوي والسفلي وما فيهما موافقة للأمر إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه وهو سبحانه لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة وما يترتب عليه من أمور يحب غاياتها وإن كره أسبابها ومادئها فإنه سبحانه وتعالى يحب المغفرة وإن كره معاصي عباده ويحب الستر وإن كره ما يستر عبده عليه ويحب العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار ويحب العفو كما في الحديث أللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار ويحب التوابين وتوبتبهم وإن كره معاصيهم
التي يتوبون إليه منها منها ويحب الجهاد وأهله بل هم أحب خلقه إليه وإن كره أفعال من يجاهدونه وهذا باب واسع قد فتح لك فادخل منه يطلعك على رياض من المعرفة مونقة مات من فاتته بحسرتها وبالله التوفيق وهذا موضع يضيق عنه عدة أسفار واللبيب يدخل إليه من بابه وسر هذا الباب أنه سبحانه كامل في أسمائه وصفاته فله الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو يحب أسماءه وصفاته ويحب ظهور آثارها في خلقه فإن ذلك من لوازم كماله فإنه سبحانه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء جواد يحب الأجواد قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف حيي يحب أهل الحياء وفي يحب أهل الوفاء شكور يحب الشاكرين صادق يحب الصادقين محسن يحب المحسنين فإذا كان يحب العفو والمغفرة والحلم والصفح والستر لم يكن بد من تقديره للأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها ويستدل بها عباده على كما أسمائه وصفاته ويكون ذلك أدعى لهم إلى محبته وحمده وتمجيده والثناء عليه بما هو أهله فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق وإن فاتت من بعضهم فذلك لفوات سبب لكمالها وظهورها فتضمن ذلك الفوات المكروه له أمرا هو أحب إليه من عدمه فتأمل هذا الموضع حق التأمل وهذا ينكشف يوم القيامة للخليفة بأجمعهم حين يجمعهم في صعيد واحد ويوصل إلى كل نفس ما ينبغي إيصاله إليها من الخير والشر واللذة والألم حتى مثقال الذرة ويوصل كل نفس إلى غاياتها التي تشهد هي أنها أولى بها فحينئذ ينطق الكون
بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالا وحالا كما قال سبحانه وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فحذف فاعل القول لأنه غير معين بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه فيحمده أهل السموات وأهل الأرض والأبرار والفجار والإنس والجن حتى أهل النار قال الحسن أو غيره لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا وهذا والله أعلم هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها وقوله وقيل ادخلا النار مع الداخلين كأن الكون كله نطق بذلك وقاله لهم والله تعالى أعلم بالصواب
الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقها الداعي قد يراد به الشعور الذي تتبعه الإرادة والميل فذلك قائم بالمحب وقد يراد به السبب الذي لأجله وجدت المحبة وتعلقت به وذلك قائم بالمحبوب ونحن نريد بالداعي مجموع الأمرين وهو ما قام بالمحبوب من الصفات التي تدعو إلى محبته وما قام بالمحب من الشعور بها والموافقة التي بين المحب والمحبوب وهي الرابطة بينهما وتسمى بين المخلوق والمخلوق مناسبة وملاءمة فها هنا أمور وصف المحبوب وجماله وشعور المحب به والمناسبة وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحب والمحبوب فمتى قويت الثلاثة وكملت قويت المحبة واستحكمت ونقصان المحبة وضفعها بحسب ضعف هذه الثلاثة أو نقصها فمتى كان المحبوب في غاية الجمال وشعور المحب بجماله أتم شعور والمناسبة التي بين الروحين قوية فذلك الحب اللازم الدائم وقد يكون الجمال في نفسه ناقصا لكن هو في عين المحب كامل فتكون قوة محبته بحسب ذلك الجمال عنده فإن حبك للشيء يعمي ويصم فلا يرى المحب أحدا أحسن من محبوبه كما يحكى أن عزة دخلت على الحجاج فقال لها يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كثير فقالت أيها الأمير إنه لم يرني بالعين التي رأيتني بها ولا ريب أن المحبوب أحلى في عين محبه وأكبر في صدره من غيره وقد أفصح بهذا القائل في قوله فوالله ما أدري أزيدت ملاحة ... وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل
وقد يكون الجمال موفرا لكنه ناقص الشعور به فتضعف محبته لذلك فلو كشف له عن حقيقته لأسر قلبه ولهذا أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن فيقع الافتتان ولهذا شرع للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها كان ذلك أدعى إلى حصول المحبة والألفة بينهما كما أشار إليه النبي في قوله إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما أي يلأم ويوافق ويصلح ومنه الأدام الذي يصلح به الخبز وإذا وجد ذلك كله وانتفت المناسبة والعلاقة التي بينهما لم تستحكم المحبة وربما لم تقع البتة فإن التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة فكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه وهذه المناسبة نوعان أصلية من أصل الخلقة وعارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور فإن من ناسب قصدك قصده حصل التوافق بين روحك وروحه فإذا اختلف القصد زال التوافق فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق وتشاكل أرواح وشوق كل نفس إلى مشاكلها فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع وقد يقع الانجذاب والميل
بالخاصية وهذا لا يعلل ولا يعرف سببه كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيس ولا ريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات كما قيل محاسنها هيولى كل حسن ... ومغناطيس أفئدة الرجال وهذا الذي حمل بعض الناس على أن قال إن العشق لا يقف على الحسن والجمال ولا يلزم من عدمه عدمه وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة كما قيل وما الحب من حسن ولا من ملاحة ... ولكنه شيء به الروح تكلف قال هذا القائل فحقيقته انه مرآة يبصر فيها المحب طباعة ورقته في صورة محبوبة ففي الحقيقة لم يحب إلا نفسه وطباعه ومشاكله قال بعضهم لمحبوبه صادفت فيك جوهر نفسي ومشاكلتها في كل أحوالها فانبعثت نفسي نحوك وانقادت إليك وإنما هويت نفسي وهذا صحيح من وجه فإن المناسبة علة الضم شرعا وقدرا وشاهد هذا بالاعتبار أن أحب الأغذية إلى الحيوان ما كان أشبه بجوهر بدنه وأكثر مناسبة له وكلما قويت المناسبة بين الغاذي والغذاء كان ميل النفس إليه أكثر وكلما بعدت المناسبة حصلت النفرة عنه ولا ريب أن هذا قدر زائد على مجرد الحسن
والجمال ولهذا كانت النفوس الشريفة الزكية العلوية تعشق صفات الكمال بالذات فأحب شيء إليها العلم والشجاعة والعفة والجود والإحسان والصبر والثبات لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها بخلاف النفوس اللئيمة الدنية فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات وكثير من الناس يحمله على الجود والإحسان فرط عشقه ومحبته له واللذة التي يجدها في بذله كما قال المأمون لقد حبب إلي العفو حتى خشيت أن لا أؤجر عليه وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى تعلمت هذا العلم لله فقال أما لله فعزيز ولكن شيء حبب إلي ففعلته وقال آخر إني لأفرح بالعطاء وألتذ به أكثر وأعظم مما يفرح الآخذ بما يأخذه مني وفي هذا قيل في مدح بعض الكرماء من أبيات وتأخذه عند المكارم هزة ... كما اهتز عند البارح الغصن الرطب وقال شاعر الحماسة تراه إذا ماجئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله وكثير من الأجواد يعشق الجود أعظم عشق فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به ولا يقبل فيه عذل عاذل ولا تأخذه فيه لومة لائم وأما عشاق العلم فأعظم شغفا به وعشقا له من كل عاشق بمعشوقه وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر وقيل لامرأة الزبير بن بكار أو غيره هنيئا لك إذ ليست لك ضرة فقالت والله لهذه الكتب أضر علي من عدة ضرائر
وحدثني أخو شيخنا عبدالرحمن بن تيمية عن أبيه قال كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى اسمع وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه فإذا وجد إفاقة قرأ فيه فإذا غلب وضعه فدخل عليه الطبيب يوما وهو كذلك فقال إن هذا لا يحل لك فإنك تعين على نفسك وتكون سببا لفوات مطلوبك وحدثني شيخنا قال ابتدأني مرض فقال لي الطبيب إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض فقلت له لا أصبر على ذلك وأنا أحاكمك إلى علمك أليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض فقال بلى فقلت له فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة فقال هذا خارج عن علاجنا أو كما قال فعشق صفات الكمال من أنفع العشق وأعلاه وإنما يكون بالمناسبة التي بين الروح وتلك الصفات ولهذا كان أعلى الأرواح وأشرفها أعلاها وأشرفها معشوقا كما قيل أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت ولم يزلها إلا مانع أقوى من السبب وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل فمن أحبك لأمر ولى عند انقضائه فداعى المحبة وباعثها إن كان غرضا للمحب لم يكن لمحبته بقاء وإن كان أمرا قائما بالمحبوب سريع الزوال والانتقال زالت محبته بزواله وإن كان صفة لازمة فمحبته باقية ببقاء داعيها مالم يارضه يعارضه يوجب زوالها وهو إما تغير حال في المحب أو أذى من المحبوب فإن الأذى إما أن يضعف المحبة أو يزيلها
قال الشاعر خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذ اجتمعا لم يلبث الحب يذهب وهذا موضع انقسم المحبون فيه قسمين ففرقة قالت ليس بحب صحيح ما يزيله الأذى بل علامة الحب الصحيح أنه لا ينقص بالجفوة ولا يذهبه أذى قالوا بل المحب يلتذ بأذى محبوبه له كما قال أبو الشيص وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كن حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم فهذا هو الحب على الحقيقة فإنه متضمن لغاية الموافقة بحيث قد اتخذ مراده ومراد محبوبه من نفسه فأهان نفسه موافقة لإهانة محبوبه له وأحب أعداءه لما أشبههم محبوبه في أذاه وهذا وإن كانت الطباع تأباه لكنه موجب الحب التام ومقتضاه وقالت فرقة بل الأذى مزيل للحب فإن الطباع مجبولة على كراهة من يؤذيها كما أن القلوب مجبولة على حب من يحسن إليها وما ذكره أولئك فدعوى منهم والإنصاف أن يقال يجتمع في القلب بغض أذى الحبيب وكراهته ومحبته من وجه آخر فيحبه ويبغض أذاه وهذا هو الواقع والغالب منها يوارى
المغلوب ويبقى الحكم له وقد كشف عن بعض هذا المعنى الشاعر في قوله ولو قلت طأ في النار أعلم أنه ... رضا لك أو مدن لنا من وصالك لقدمت رجلى نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أو ضلة من ضلالك وإن ساءني أن نلتني بمساءة ... فقد سرني أني خطرت ببالك فهذا قد أنصف حيث أخبر أنه يسوؤه أن يناله محبوبه بمساءة ويسره خطوره بباله لا كمن ادعى انه يلتذ بأذى محبوبه له فإن هذا خارج عن الطباع اللهم إلا أن يكون ذلك الأذى وسيلة إلى رضى المحبوب وقربه فإنه يلتذ به إذا لاحظ غايته وعاقبته فهذا يقع وقد أخبرني بعض الأطباء قال إني ألتذ بالدواءالكريه إذا علمت ما يحصل به من الشفاء وأضعه على لساني وأترشفه محبة له ومن هذا التذاذ المحبين بالمشاق التي توصلهم إلى وصال محبوبهم وقربه وكلما ذكروا روح الوصال وأن ما هم فيه طريق موصل إليه لذ لهم مقاساته وطاب لهم تحمله كما قال الشاعر لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور تستضيء به ... ومن حديثك في أعقابها حادي إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح اللقاء فتقوى عند ميعاد والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة
كانت تدخل على قريش فتضحكهم فقدمت المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس فقال النبي على من نزلت فلانة فالت على فلانة المضحكة فقال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وأصل الحديث في الصحيح وذكر لبقراط رجل من أهل النقص يحبه فاغتم لذلك وقال ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه وأخذا المتنبي هذا المعنى فقلبه وأجاد فقال وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل وقال بعض الأطباء العشق امتزاج الروح بالورح لما بينهما من التناسب والتشاكل فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعض ولذلك تبلغ المحبة بين الشخصين حتى يتألم أحدهما بتألم الآخر ويسقم بسقمه وهو لا يشعر ويذكر أن رجلا كان يحب شخصا فمرض فدخل عليه أصحابه يعودونه فوجدوا به خفة فانبسط معهم وقال من أين جئتم قالوا من عند فلان عدناه فقال أو كان عليلا قالوا نعم وقد عوفي فقال والله لقد أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببا غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعا أن يكون الله سبحانه وتعالى شفاه ثم دعا بدواة فكتب إلى محبوبه
إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا لحماك وخصلة كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك حتى اتفقت نفسي ونفسك في هذا وذاك وفي هذا وفي ذاك ويحكى أن رجلا مرض من يحبه فعاده المحب فمرض من وقته فعوفي محبوبه فجاء يعوده فلما رآه عوفي من وقته وأنشد مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلةأو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب ويكفي في هذا الحديث الصحيح عن رسول الله مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فإنقيل فهذا الذي ذكرتم يقتضي أنه إذا أحب شخص شخصا أن يزن الآخر يحبه فيشتركان في المحبة والواقع يشهد بخلافه فكم من محب غير محبوب بل بسيف البغض مضروب قيل قد اختلف الناس في جواب هذا السؤال فأما أبو محمد بن حزم فإنه قال الذي أذهب إليه أن العشق اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخلقة في أصل عنصرها الرفيع لا على
ما حكاه محمد بن داود عن بعض أهل الفلسفة أن الأرواح أكر مقسومة لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال فالشكل إنما يستدعي شكله والمثل إلى مثله ساكن وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود بيننا فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار والله تعالى يقول هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فجعل علة السكون أنها منه ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فلضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها قال ومما يؤكد هذا القول أننا قد علمنا أن المحبة ضروب فأفضلها محبة المتحابين في الله تعالى إما لاجتهاد في العمل وإما لاتفاق في أصل المذهب وإما لفضل علم يمنحه الإنسان ومحبة القرابة ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب ومحبة التصاحب والمعرفة ومحبة لبر يضعه المرء عند أخيه ومحبة لطمع في جاه المحبوب ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره
ومحبة لبلوغ اللذة وقضاء الوطر ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس وكل هذه الأجناس فمنقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها متأكدة بدنوها فاترة ببعدها حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس ثم أورد هذا السؤال قال والجواب أن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية فلم تحس بالجزء الذي كان متصلا بها قبل حلولها حيث هي ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة طالبة له قاصدة إليه باحثة عنه مشتهية لملاقاته جاذبة له لو أمكنها كالمغناطيس والحديد وكالنار في الحجر وأجابت طائفة أخرى أن الأرواح خلقت على هيئة الكرة ثم قسمت فأي روحين تلاقيتا هناك وتجاورتا تألفتا في هذا العالم وتحابتا وإن تنافرتا هناك تنافرتا هنا وإن تألفتا من وجه وتنافرتا من وجه كانتا كذلك ها هنا وهذا الجواب مبني على الأصل الفاسد الذي أصله هؤلاء أن الأرواح موجودة قبل الأجساد وأنها كانت متعارفة متجاورة هناك تتلاقى وتتعارف وهذا خطأ بل الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أن الأرواح مخلوقة مع الأجساد وأن الملك الموكل بنفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذا مضى
على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس وذلك أول حدوث الروح فيه ومن قال إنها مخلوقة قبل ذلك فقد غلط وأقبح منه قول من قال إنها قديمة أو توقف في ذلك بل الصواب في الجواب أن يقال إن المحبة كما تقدم قسمان محبة عرضية غرضية فهذه لا يجب الاشتراك فيها بل يقارنها مقت المحبوب وبغضه للمحب كثيرا إلا إذا كان له معه غرض نظير غرضه فإنه يحبه لغرضه منه كما يكون بين الرجل والمرأة اللذين لكل منهما غرض مع صاحبه والقسم الثاني محبة روحانية سببها المشاكلة والاتفاق بين الروحين فهذه لا تكون إلا من الجانبين ولا بد فلو فتش المحب المحبة الصادقة قلب المحبوب لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه فصل وإذا كانت المحبة من الجانبين استراح بها كل واحد من المحبين وسكن ذلك بعض ما به وعده نوعا من الوصال وقالت امرأة من العرب حججت ولم أحجج لذنب عملته ... ولكن لتعديني على قاطع الحبل ذهبت بعقلي في هواه صغيره ... وقد كبرت سني فرد به عقلي وإلا فسو الحب بيني وبينه ... فإنك يا مولاي توصف بالعدل وقال آخر فيا رب أشغلها بحبي كما بها ... شغلت فؤادي كي يخف الذي بيا وقالت امرأة تعاتب بعلها أسأل الذي قسم بين العباد معايشهم أن يقسم الحب بيني وبينك ثم أنشدت
أدعو الذي صرف الهوى ... مني إليك ومنك عني أن يبتليك بما ابتلا ... ني أو يسل الحب مني وقال آخر فيا رب إن لم تقسم الحب بيننا ... بشطرين فاجعلني على هجرها جلدا وأعقبني السلوان عنها ورد لي ... فؤادي من سلمى أثبك به حمدا وقال أبو الهذيل العلاف لا يجوز في دور الفلك ولا في تركيب الطبائع ولا في الواجب ولا في الممكن أن يكون محب ليس لمحبوبه إليه ميل وإلى هذا المذهب ذهب أبو العباس الناشىء حيث يقول عيناك شاهدتان أنك من ... حر الهوى تجدين ما أجد بك ما بنا لكن على مضض ... تتجلدين وما بنا جلد وقال أبو عيينه تبيت بنا تهذي وأهذى بذكرها ... كلانا يقاسي الليل وهو مسهد وما رقدت إلا رأتني ضجيعها ... كذاك أراها في الكرى حين أرقد تقر بذنبي حين أغفو ونلتقي ... وأسألها يقظان عنه فتجحد كلانا سواء في الهوى غير أنها ... تجلد أحيانا وما لي تجلد وقال عروة بن أذينة إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها فبك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لصاحبه الصبابة كلها فإذا تشاكلت النفوس وتمازجت الأرواح وتفاعلت تفاعلت عنها الأبدان وطلبت نظير الامتزاج والجوار الذي بين الأرواح فإن البدن آلة الروح ومركبه وبهذا ركب الله سبحانه شهوة الجماع بين الذكر والأنثى طلبا
للامتزاج والاختلاط بين البدنين كما هو بين الروحين ولهذا يسمى جماعا وخلاطا ونكاحا وإفضاء لأن كل واحد منهما يفضي إلى صاحبه فيزول الفضاء بينهما فإن قيل فهذا يوجب تأكد الحب بالجماع وقوته به والواقع خلافه فإن الجماع يطفىء نار المحبة ويبرد حرارتها ويسكن نفس المحب قيل الناس مختلفون في هذا فمنهم من يكون بعد الجماع أقوى محبة وأمكن وأثبت مما قبله ويكون بمنزلة من وصف له شيء ملائم فأحبه فلما ذاقه كان له اشد محبة وإليه أشد اشتياقا وقد ثبت في الصحيح عن النبي في حديث عروج الملائكة إلى ربهم أنه سبحانه يسألهم عن عباده وهو أعلم بهم فيقولون إنهم يسبحونك ويحمدونك ويقدسونك فيقول وهل رأوني فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوني تقول الملائكة لو رأوك لكانوا أشد تسبيحا وتقديسا وتمجيدا ثم يقولون ويسألونك الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها فتقول الملائكة لو رأوها لكانوا أشد لها طالبا وذكر الحديث ومعلوم أن محبة من ذاق الشيء الملائم وعدم صبره عنه أقوى من محبة من لم يذقه بل نفسه مفطومة عنه والمودة التي بين الزوجين والمحبة بعد الجماع أعظم من التي كانت قبله والسبب الطبيعي أن شهوة القلب ممتزجة بلذة العين فإذا رأت العين اشتهى القلب فإذا باشر الجسم الجسم اجتمع شهوة القلب ولذة العين ولذة المباشرة فإذا فارق هذه الحال كان نزاع نفسه إليها أشد وشوقه إليها أعظم كما قيل وأكثر ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار
ولذلك يتضاعف الألم والحسرة على من راى محبوبه أو باشره ثم حيل بينه وبينه فتضاعف ألمه وحسرته في مقابلة مضاعفة لذة من عاوده وهذا في جانب المرأة أقوى فإنها إذا ذاقت عسيلة الرجل ولا سيما أول عسيلة لم تكد تصبر عنه بعد ذلك قال أيمن بن خريم يميت العتاب خلاط النساء ... ويحي اجتناب الخلاط العتابا وتزوج زهير بن مسكين الفهري جارية ولم يكن عنده ما يرضيها به فلما أمكنته من نفسها لم تر عنده ما ترضى به فذهبت ولم تعد فقال في ذلك أشعارا كثيرة منها تقول وقد قبلتها ألف قبلة ... كفاك أما شيء لديك سوى القبل فقلت لها حب على القلب حفظه ... وطول بكاء تستفيض له المقل فقالت لعمر الله ما لذة الفتى ... من الحب في قول يخالفه الفعل وقال آخر رأت حبي سعاد بلا جماع ... فقالت حبلنا حبل انقطاع ولست أريد حبا ليس فيه ... متاع منك يدخل في متاعي فلو قبلتني ألفا وألفا ... لما أرضيت إلا بالجماع إذا ما الصب لم يك ذا جماع ... يرى المحبوب كالشيء المضاع جماع الصب غاية كل أنثى ... وداعية لأهل العشق داعي فقلت لها وقد ولت تعالي ... فإنك بعد هذا لن تراعي وإنك لو سألت بقاء يوم ... خلي عن جماعك لن تطاعي
فقالت مرحبا بفتى كريم ... ولا أهلا بذي الخنع اليراع إذا ما البعل لم يك ذا جماع ... يرى في البيت من سقط المتاع وقال آخر ولما شكوت الحب قالت كذبتني ... فكم زورة مني قصدتك خاليا فما حل فيها من إزار للذة ... قعدت وحاجات الفؤاد كما هيا وهل راحة للمرء في ورد منهل ... ويرجع بعد الورد ظمآن صاديا وقال العباس بن الأحنف لم يصف وصل لمعشوقين لم يذقا ... وصلا يجل على كل اللذاذات وقال هدبة بن الخشرم والله ما يشفي الفؤاد الهائما ... نفث الرقى وعقدك التمائما ولا الحديث دون أن تلازما ... ولا اللزام دون أن تفاعما ولا الفعام دون أن تفاقما ... وتعلو القوائم القوائما وقال آخر قولا لعاتكة التي ... في نظرة قضت الوطر
إني أريدك للنكاح ... ولا أريدك للنظر لو كان هذا مقنعي ... لقنعت عنها بالقمر وقال آخر دواء الحب تقبيل وشم ... ووضع للبطون على البطون ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون وقالت امرأة وقد طلبت منها المحادثة ليس بهذا أمرتني أمي ... ولا بتقبيل ولا بشم لكن جماعا قد يسلي همي ... يسقط منه خاتمي في كمي وقد كشف الشاعر سبب ذلك حيث يقول لو ضم صب إلفه ! ألفا لما ... أجدى وزادت لوعة وغرام أرواحهم من قبل ذاك تألفت ... فتألفت من بعدها الأجسام وقال المؤلف سألت فقيه الحب عن علة الهوى ... وقلت له أشكو إلى الشيخ حاليا فقال دواء الحب أن تلصق الحشا ... بأحشاء من تهوى إذا كنت خاليا وتتحدا من بعد ذاك تعانقا ... وتلثمه حتى يرى لك ناهيا فتقضي حاجات الفؤاد بأسرها على الأمن ما دام الحبيب مؤاتيا إذا كان هذا في حلال فحبذا ... وصالبه الرحمن تلقاه راضيا وإن كان هذا في حرام فإنه ... عذاب به تلقى العنا والمكاويا قال هؤلاء ولا يستحكم الحب إلا بعد أن يشق الرجل رداءه وتشق المرأة المعشوقة برقعها كما قال الشاعر
إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى كلنا غير لانس فكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس ولما بلغ بعض الظرفاء قول المأمون ما الحب إلا قبلة الأبيات قال كذب المأمون ثم قال وباض الحب في قلبي ... فوا ويلا إذا فرخ وما ينفعني حبي ... إذا لم أكنس البربخ وإن لم يضع الأصل ... ع خرجيه على المطبخ وقال ابن الرومي أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني وألثم فاها كي تزول صبابثي ! ... فيشتد ما ألقى من الهيمان ولم يك مقدار الذي بي من الجوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن أرى الروحين تمتزجان وقال الطبراني في معجمه الأوسط حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبدالله بن يوسف حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله عندنا يتيمة قد خطبها
رجلان موسر ومعسر وهي تهوى المعسر ونحن نهوى الموسر فقال لم ير للمتحابين مثل التزويج قال أبو القاسم الطبراني لم يروه عن طاوس إلا إبراهيم ولا رواه عن إبراهيم إلا محمد بن مسلم وسفيان الثوري تفرد به مؤمل بن إسماعيل عن الثوري انتهى وقد رواه أبو الفرج بن الجوزي من حديث حسان بن بشر حدثنا أحمد بن حرب حدثنا ابن عيينة حدثنا عمرو عن جابر فذكره وقال المعافى بن عمران حدثنا إبراهيم بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما وحدثنا علي بن حرب الطائي حدثنا ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس وذكره الدارقطني في كتاب الغرائب وقالتفرد به يزيد ابن مروان عن عمرو بن هرون عن عثمان بن الأسود المكي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس وقالت هند بنت المهلب ما رأيت لصالحي النساء وشرارهن خيرا من إلحاقهن بمن يسكن إليه من الرجال ولرب مسكون إليه غير طائل والسكن على كل حال أوفق وذكر الحاكم في تاريخ نيسابور من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه أربع لا يشبعن من أربع أرض من مطر وأنثى من ذكر وعين من نظر وعالم من علم وهذا باطل قطعا على رسول الله وهو كثير عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الطبراني في معجمه
الأوسط من حديث ابن عمر يرفعه فضل ما بين لذة المرأة ولذة الرجل كأثر المخيط في الطين إلا أن الله سترهن بالحياء وقال لم يروه عن ليث إلا أبو المسيب سلم بن سلام عن سويد عن عبدالله بن أسامة عن يعقوب ابن خالد عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قلت وهذا أيضا لا يصح عن رسول الله وإسناده مظلم لا يحتج بمثله فصل ورأت طائفة أن الجماع يفسد العشق ويبطله أو يضعفه واحتجت بأمور منها أن الجماع هو الغاية التي تطلب بالعشق فما دام العاشق طالبا فعشقه ثابت فإذا وصل إلى الغاية قضى وطره وبردت حرارة طلبه وطفئت نار عشقه قالوا وهذا شأن كل طالب لشيء إذا ظفر به كالظمآن إذا روي والجائع إذا شبع فلا معنى للطلب بعد الظفر ومنها أن سبب العشق فكري وكلما قوي الفكر زاد العشق وبعد الوصول لا يبقى الفكر ومنها أنه قبل الظفر ممنوع والنفس مولعة بحب ما منعت منه كما قال وزادني كلفا في الحب أن منعت ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا وقال الآخر لولا طراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا قالوا وكانت الجاهلية الجهلاء في كفرهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا وكانوا يصونون العشق عن الجماع كما ذكر أن أعرابيا علق امرأة فكان
يأتيها سنين وما جرى بينهما ريبة قال فرأيت ليلة بياض كفها في ليلة ظلماء فوضعت يدي على يدها فقالت مه لا تفسد ما صلح فإنه ما نكح حب إلا فسد فأخذ ذلك المأمون فقال ما الحب إلا نظرة ... وغمز كف وعضد أو كتب فيها رقى ... أجل من نفث العقد ما الحب إلا هكذا ... إن نكح الحب فسد من كان هذا حبه ... فإنما يبغي الولد وهوي آخر امرأة فدام الحال بينهما في اجتماع وحديث ونظر ثم إنه جامعها فقطعت الوصل بينهما فقال لو لم أواقع دام لي وصلها ... فليتني لا كنت واقعتها وقيل لآخر شكا فراق محبوبة له أكثرت من وطئها والوطء مسأمة ... فارفق بنفسك إن الرفق محمود وذكر عمر بن شبة عن بعض علماء أهل المدينة قال كان الرجل يحب الفتاة فإذا ظفر بها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار واليوم يشير إليها وتشير إليه فيعدها وتعده فإذا التقيا لم يشك حبا ولم ينشد شعرا وقام إليها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله عنه لم يخط من داخل الدهليز منصرفا ... إلا وخلخالها قد قارب الساقا قال الأصمعي قلت لأعرابية ما تعدون العشق فيكم قالت العناق والضمة والغمزة والمحادثة 6
ثم قالت يا حضري فكيف هو عندكم قلت يقعد بين شعبها الأربع ثم يجهدها قالت يا ابن أخي ما هذا عاشق هذا طالب ولد وسئل أعرابي عن ذلك فقال مص الريق ولثم الشفة والأخذ من أطايب الحديث فكيف هو فيكم أيها الحضري فقال العفس الشديد والجمع بين الركبة والوريد ورهز يوقظ النائم ويشفي القلب الهائم فقال بالله ما يفعل هذا العدو الشديد فكيف الحبيب الودود وقال بعضهم الحب يطيب بالنظر ويفسد بالغمز قال هؤلاء والحب الصحيح يوجب إعظام المحبوب وإجلاله والحياء منه فلا تطاوع نفسه أن يلقي جلباب الحياء عند محبوبه وأن يلقيه عنه ففي ذلك غاية إذلاله وقهره كما قيل إذا كان حظ المرء ممن يحبه ... حراما فحظي ما يحل ويجمل حديث كماء المزن بين فصوله ... عتاب به حسن الحديث يفصل ولثم فم عذب اللثات كأنما ... جناهن شهد فت فيه القرنفل وما العشق إلا عفة ونزاهة ... وأنس قلوب أنسهن التغزل وإني لأستحيي الحبيب من التي ... تريب وأدعى للجميل فأحمل وزعم بعضهم أنه كان يشرط بين العشيقة والعاشق أن له من نصفها الأعلى إلى سرتها ينال منه ما يشاء من ضم وتقبيل ورشف والنصف الأسفل يحرم عليه وفي ذلك قال شاعر القوم فللحب شطر مطلق من عقاله ... وللبعل شطر ما يرام منيع
وقال الآخر لها شطر فمن حل وبل ... ونصف كالبحيرة ما يهاج وهذا كان من دين الجاهلية فأبطلته الشريعة وجعلت الشطرين كليهما للبعل والشعراء قاطبة لا يرون بالمحادثة والنظر للأجنبيات بأسا وهو مخالف للشرع العقل فإن فيه تعريضا للطبع لما هو مجبول على الميل إليه والطبع يسرق ويغلب وكم من مفتون بذلك في دينه ودنياه فإن قيل فقد أنشد الحاكم في مناقب الشافعي له يقولون لا تنظر وتلك بلية ... ألا كل ذي عينين لا بد ناظر وليس اكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عف فيما بين ذاك الضمائر فإن صحت عن الشافعي فإنما أراد النظر الذي لا يدخل تحت التكليف كنظرة الفجأة أو النظر المباح وقد ذهب أبو بكر محمد بن داود الأصفهاني إلى جواز النظر إلى من لا يحل له كما سيأتي كلامه إن شاء الله تعالى قال أبو الفرج بن الجوزي وأخطأ في ذلك وجر عليه خطؤه اشتهاره بين الناس وافتضاحه وذهب أبو محمد بن حزم إلى جواز العشق للأجنبية من غير ريبة وأخطأ في ذلك خطأ ظاهرا فإن ذريعة العشق أعظم من ذريعة النظر وإذا
كان الشرع قد حرم النظر لما يؤدي إليه من المفاسد كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فكيف يجوز تعاطي عشق الرجل لمن لا يحل له والمقصود أن هذه الفرقة رأت أن الجماع يفسد العشق فغارت عليه مما يفسده وإن لم تتركه ديانة وقيل لبعض الأعراب ما ينال أحدكم من عشيقته إذا خلي بها قال اللمس والقبل وما يشاكلها قال فهل يتطاولان إلى الجماع فقال بأبي وأمي ليس هذا بعاشق هذا طالب ولد ويحكى أن رجلا عشق امرأة فقالت له يوما أنت صحيح الحب غير سقيمه وكانوا يسمون الحب على الخنا الحب السقيم فقال نعم فقالت اذهب بنا إلى المنزل فما هو إلا أن حصلت في منزله فلم يكن له همة غير جماعها فقالت له وهو كذلك أسرفت في وطئنا والوطء مقطعة ... فارفق بنفسك إن الرفق محمود فقال لها وهو على حاله لو لم أطأك لما دامت محبتنا ... لكن فعلى هذا فعل مجهود فنفرت من تحته وقالت يا خبيث أراك خلاف ما قلت من صحة الحب ولم تجعل جماعي إلا سببا لذهاب حبك والله لا ضمني وإياك سقف أبدا وسيأتي تمام الكلام في هذا في باب عفاف المحبين إن شاء الله تعالى فصل الخطاب بين الفريقين أن الجماع الحرام يفسد الحب ولا بد أن تنتهي المحبة بينهما إلى المعاداة والتباغض والقلى كما هو مشاهد بالعيان فكل محبة لغير الله آخرها قلى وبغض فكيف إذا قارنها ما هو من أكبر الكبائر
وهذه عدواة بين يدي العداوة الكبرى التي قال الله تعالى فيها الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وسنذكر إن شاء الله تعالى من ظفر بمحبوبه وترك قضاء وطره منه رغبة في بقاء محبته وخشية أن تنقلب قلى وبغضا في الباب الموعود به فإن ذلك أليق به وأما الجماع المباح فإنه يزيد الحب إذا صادف مراد المحب فإنه إذا ذاق لذته وطعمه أوجب له ذلك رغبة أخرى لم تكن حاصلة قبل الذوق ولهذا لا يكاد البكران يصبر أحدهما عن الآخر هذا ما لم يعرض للحب ما يفسده ويوجب نقله إلى غير المحبوب وأما ما احتج به الآخرون فجوابه أن الشهوة والإرادة لم تطفأ نارها بالكلية بل فترت شهوة ذلك الوقت ثم تعود أمثالها وإنما يظهر هذا إذا غاب أحدهما عن حبيبه وإلا فما دام بمرأى منه وهو قادر عليه متى أحب فإن النفس تسكن بذلك وتطمئن به وهذا حال كل من كان بحضرته ما يحتاج إليه من طعام وشراب ولباس وهو قادر عليه فإن نفسه تسكن عنده فإذا حيل بينه وبينه اشتد طلبه له ونزاع نفسه إليه على أن المحب للشيء متى أفرط في تناول محبوبه نفرت نفسه منه وربما انقلبت محبته كراهية وسيأتي مزيد بيان لهذا في باب سلو المحبين إن شاء الله تعالى فصل ودواعي الحب من المحبوب جماله إما الظاهر أو الباطن أو هما معا فمتى كان جميل الصورة جميل الأخلاق والشيم والأوصاف كان الداعي منه أقوى وداعي الحب من المحب أربعة أشياء أولها النظر إما بالعين أو بالقلب إذا
وصف له فكثير من الناس يحب غيره ويفنى فيه محبة وما رآه لكن وصف له ولهذا نهى النبي المرأة أن تنعت المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها والحديث في الصحيح الثاني الاستحسان فإن لم يورث نظره استحسانا لم تقع المحبة الثالث الفكر في المنظور وحديث النفس به فإن شغل عنه بغيره مما هو أهم عنده منه لم يعلق حبه بقلبه وإن كان لا يعدم خطرات وسوانح ولهذا قيل العشق حركة قلب فارغ ومتى صادف هذا النظر والاستحسان والفكر قلبا خاليا تمكن منه كما قيل أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا فإن قيل فهل يتوقف على الطمع في الوصول إلى المحبوب أم لا قيل الناس في هذا على أقسام منهم من يعشق الجمال المطلق فقلبه معلق به إن استقلت ركائبه وإن حلت مضاربه وهذا لا يتوقف عشقه على الطمع ومنهم من يعشق الجمال المقيد سواء طمعت نفسه في وصاله أم لم تطمع ومنهم من لا يعشق إلا من طمعت نفسه في وصاله فإن يئس منه لم يعلق حبه بقلبه والأقسام الثلاثة واقعة في الناس فإذا وجد النظر والاستحسان والفكر والطمع هاجت بلابله وأمكن من معشوقه مقاتله واستحكم داؤه وعجز عن الأطباء دواؤه تالله ما أسر الهوى من عاشق ... إلا وعز على النفوس فكاكه وإذا كان النظر مبدأ العشق فحقيق بالمطلق أن لا يعرض نفسه للإسار الدائم بواسطة عينه وإذ قد أفضى بنا الكلام إلى النظر فلنذكر حكمه وغائلته
الباب السادس في أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه قال الله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن الآية فلما كان غض البصر أصلا لحفظ الفرج بدأ بذكره ولما كان تحريمه تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة لم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغض منه وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك عم الأمر بحفظه وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته وفي الصحيح أن الفضل بن عباس رضي الله عنهما كان رديف رسول الله يوم النحر من مزدلفة إلى منى فمرت ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فحول رسول الله رأسه إلى الشق الآخر وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا لأقره عليه وفي الصحيح عنه أنه قال إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى
أدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر واللسان يزني وزناه النطق والرجل تزني وزناها الخطى واليد تزني وزناها البطش والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فبدأ بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب ولافرج ونبه بزنى اللسان بالكلام على زنى الفم بالقبل وجعل الفرج مصدقا لذلك إن حقق الفعل أو مكذبا له إن لم يحققه وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر أن ذلك زناها ففيه رد على من أباح النظر مطلقا وثبت عنه أنه قال يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية ووقعت مسألة ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبها بقلبه واشتد عليه الأمر فقالت له نفسه هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها فهل يجوز له تعمد النظر ثانيا لهذا المعنى فكان الجواب الحمد لله لا يجوز هذا لعشرة أوجه أحدها أن الله سبحانه أمر بغض البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد الثاني أن النبي سئل عن نظر الفجأة وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر الثالث أنه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية ومحال أن يكون داؤه مما له ودواؤه فيما ليس له الرابع أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه والتجربة شاهدة به والظاهر
أن الأمر كما رآه أول مرة فلا تحسن المخاطرة بالإعادة الخامس أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابه السادس أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما ليس بحسن لتتم البلية السابع أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى بما حرمه عليه بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة الثامن أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس ومعلوم أن الثانية أشد سما فكيف يتداوى من السم بالسم التاسع أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق تعالى في ترك محبوب كما زعم وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه فإن لم يكن مرضيا تركه فإذا يكون تركه لأنه لا يلائم غرضه لا لله تعالى فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله العاشر يتبين بضرب مثل مطابق للحال وهو أنك إذا ركبت فرسا جديدا فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكنها تستدير فيه للخروج فإذا همت بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصح بها وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها فإن رددتها إلى ورائها سهل الأمر وإن توانيت حتى ولجت وسقتها داخلا ثم قمت تجذبها بذنبها عسر عليك أو تعذر خروجها فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل فكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة فلا تزال شجرة الحب تنمى حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به فيخرج
بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ويلقي القلب في التلف والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة فطلبت المعاودة كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة ولو أنه غض أولا لاستراح قلبه وسلم وتأمل قول النبي النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فإن السهم شأنه أن يسري في القلب فيعمل فيه عمل السم الذي يسقاه المسموم فإن بادر استفرغه وإلا قتله ولا بد قال المروذي قلت لأحمد الرجل ينظر إلى المملوكة قال أخاف عليه الفتنة كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها البلابل وقال ابن عباس الشيطان من الرجل في ثلاثة في نظره وقلبه وذكره وهو من المرأة في ثلاثة في بصرها وقلبها وعجزها فصل ولما كان النظر من أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه وأباحته في موضع الحاجة وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للمصلحة الراجحة كما حرمت الصلاة في أوقات النهي لئلا تكون وسيلة إلى التشبه بالكفار في سجودهم للشمس أبيحت للمصلحة الراجحة كقضاء الفوائت وصلاة الجنازة وفعل ذوات الأسباب على الصحيح وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن النبي أنه قال النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة يجدها
إلى يوم يلقاه أو كما قال وقال جرير بن عبدالله رضي الله عنهما سألت رسول الله عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ونظرة الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد من الناظر فما لم يعتمده القلب لا يعاقب عليه فإذا نظر الثانية تعمدا أثم فأمره النبي عند نظرة الفجأة أن يصرف بصره ولا يستديم النظر فإن استدامته كتكريره وأرشد من ابتلي بنظرة الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته وقال إن معها مثل الذي معها فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه والثاني أن النظر يثير قوة الشهوة فأمره بتنقيصها بإتيان أهله ففتنة النظر أصل كل فتنة كما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي قال ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي اتقوا الدنيا واتقوا النساء وفي مسند محمد بن إسحاق السراج من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي أخوف ما أخاف على أمتي النساء والخمر وقال ابن عباس رضي الله عنهما لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قبل النساء وكفر من بقي من قبل النساء
فصل وفي غض البصر عدة فوائد أحدها تخليص القلب من ألم الحسرة فإن من أطلق نظره دامت حسرته فأضر شيء على القلب إرسال البصر فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول له إليه وذلك غاية ألمه وعذابه قال الأصمعي رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها فقالت لي يا هذا ما شأنك قلت وما عليك من النظر فأنشأت تقول وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية فإن لم تقتله جرحته وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه ولي من أبيات يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ... توقه إنه يأتيك بالعطب
وقال الفرزدق تزود منها نظرة لم تدع له ... فؤادا ولم يشعر بما قد تزودا فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا ... بغير سلاح مثلها حين أقصدا وقال آخر ومن كان يؤتى من عدو وحاسد ... فإني من عيني أتيت ومن قلبي هما اعتوراني نظرة ثم فكرة ... فما أبقيا لي كل من رقاد ولا لب وقال آخر رماني بها طرفي فلم تخط مقلتي ... وما كل من يرمى تصاب مقاتله إذا مت فابكوني قتيلا لطرفه ... قتيل صديق حاضر ما يزيله وقال ابن المعتز متيم يرعى نجوم الدجى ... يبكي عليه رحمة عاذله عيني أشاطت بدمى في الهوى ... فابكوا قتيلا بعضه قاتله ومثله للمتنبي وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل وقال أيضا يا نظرة نفت لرقاد وغادرت ... في حد قلبي ما بقيت فلولا كانت من الكحلاء سؤلي وإنما ... أجلي تمثل في فؤادي سولا وقال أيضا
وقي الأمير من العيون فإنه ... مالا يزول ببأسه وسخائه يستأسر البطل الكمي بنظرة ... ويحول بين فؤاده وعزائه وقال الصوري إذا أنت لم ترع البروق اللوامحا ... ونمت جرى من تحتك السيل سائحا غرست الهوى باللحظ ثم احتقرته ... وأهملته مستأنسا متسامحا ولم تدر حتى أينعت شجراته ... وهبت رياح الوجد فيه لواقحا فأمسيت تستدعي من الصبر عازبا ... عليك وتستدني من النوم نازحا ودخل أصبهان مغن فكان يتغنى بهذين البيتين سماعا يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاح فإن الحب آخره المنايا ... وأوله شبيه بالمزاح وقال آخر وشادن لما بدا ... أسلمني إلى الردى بظرفه ولطفه ... وطرفه لما بدا أردت أن أصيده ... فصاد قلبي وعدا وقال آخر يعاتب عينه والله يا بصري الجاني على جسدي ... لأطفئن بدمعي لوعة الحزن تالله تطمع أن أبكي هوى وضنى ... وأنت تشبع من غمض ومن وسن هيهات حتى ترى طرفا بلا نظر ... كما أرى في الهوى شخصا بلا بدن
وقال آخر يا من يرى سقمي يزيد ... وعلتي أعيت طبيبي لا تعجبن فهكذا ... تجني العيون على القلوب وقال آخر لواحظنا تجني ولا علم عندنا ... وأنفسنا مأخوذة بالجرائر ولم أرى أغبى من نفوس عفائف ... تصدق أخهار العيون الفواجر ومن كانت الأجفان حجاب قلبه ... أذن على أحشائه بالفواقر وقال آخر ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزود منها قلبه حسرة الدهر فوالله ما تدري أيدري بما جنث ... على قلبه أم أهلكته وما يدري وقال آخر أنا ما بين عدوين هما قلبي وطرفي ... ينظر الطرف ويهوى القلب والمقصود حتفي وقال الخفاجي رمت عينها عيني وراحت سليمة ... فمن حاكم بين الكحيلة والعبرى فيا طرف قد حذرتك النظرة التي ... خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا
ويا قلب قد أرداك طرفي مرة ... فويحك لم طاوعته مرة أخرى ولي من أبيات لعل معناها مبتكر ألم أقل لك لا تسرق ملاحظة ... فسارق اللحظ لا ينجو من الدرك نصبت طرفي له لما بدا شركا ... فكان قلبي أولى منه بالشرك الفائدة الثانية أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى الله نور السموات والأرض عقيب قوله قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وجاء الحديث مطابقا لهذا حتى كأنه مشتق منه وهو قوله النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نورا الحديث الفائدة الثالثة أنه يورث صحةالفراسة فإنها من النور وثمراته وإذا استنار القلب صحت الفراسة لأنه يصير بمنزلةالمرآة المجلوة تظهر فيها المعلومات كما هي والنظر بمنزلة التنفس فيها فإذا أطلق العبد نظرة تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها كما قيل مرآة قلبك لا تريك صلاحه ... والنفس فيها دائما تتنفس وقال شجاع الكرماني من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وأكل من
الحلال لم تخطىء فراسته وكان شجاع لا تخطىء له فراسة والله سبحانه وتعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنسه فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته الفائدة الرابعة أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ويسهل عليه أسبابه وذلك بسبب نور القلب فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات وانكشفت له بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه الفائدة الخامسة أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل له سلطان البصير مع سلطان الحجة وفي الأثر إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه قال الحسن إنهم وإن هملجت بهم البغال طقطقت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه وقال بعض الشيوخ الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه وفيه قسط ونصيب من فعل من عاداه بمعاصيه وفي دعاء القنوت إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت الفائدة السادسة أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر وذلك لقهره عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه
وأيضا فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسرورا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما وهاهنا يمتاز العقل من الهوى الفائدة السابعة أنه يخلص القلب من أسر الشهوة فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه فهو كما قيل طليق برأي العين وهو أسير ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار كعصفورة في كف طفل يسومها ... حياض الردى والطفل يلهو و يلعب الفائدة الثامنة أنه يسد عنه بابا من أبواب جهنم فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول فمتى هتك الحجاب ضري على المحظور ولم تقف نفسه منه عند غاية فإن النفس في هذا الباب لا تقتع بغاية تقف عندها وذلك أن لذتها في الشيء الجديد فصاحب الطارف لا يقتعه التليد وإن كان أحسن منه منظرا وأطيب مخبرا فغض البصر يسد عنه هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه الفائدةالتاسعة أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته فإن إطلاق البصر وإرساله
لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب ومرسل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه لما أطلق بصره قال الشاعر بو أعقل الناس من لم يرتكب سببا ... حتى يفكر ما تجني عواقبه الفائدة العاشرة أنه يخلص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق كما قال الله تعالى عن عشاق الصور لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فالنظرة كأس من خمر والعشق هو سكر ذلك الشراب وسكر العشق أعظم من سكر الخمر فإن سكران الخمر يفيق وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات كما قيل سكران سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقته من به سكران وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا وإنما نبهتا عليه تنبيها ولا سيما النظر إلى من لم يجعل الله سبيلا إلى قضاء الوطر منه شرعا كالمردان الحسان فإن إطلاق النظر إليهم السم الناقع والداء العضال وقد روى الحافظ محمد بن ناصر من حديث الشعبي مرسلا قال قدم وفد عبدالقيس على النبي وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة فأجلسه النبي وراء ظهره وقال كانت خطيئة من مضى من النظر وقال سعيد بن المسيب إذا رأيتم الرجل يحد النظر إلى
الغلام الأمرد فاتهموه وقد ذكر ابن عدي في كامله من حديث بقية عن الوازع عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الأمرد وكان إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهما من السلف ينهون عن مجالة المردان قال النخعي مجالستهم فتنة وإنما هم بمنزلة النساء وبالجملة فكم من مرسل لحظاته رجع بجيش صبره مغلولا ولم يقلع حتى تشحط بينهم قتيلا يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيلا
الباب السابع في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما لما كانت العين رائدا والقلب باعثا وطالبا وهذه لها لذة الرؤية وهذا له لذة الظفر كانا في الهوى شريكي عنان ولما وقعا في العناء واشتركا في البلاء أقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه فقال القلب للعين أنت التي سقتني إلى موارد الهلكات وأوقعتني في الحسرات بمتابعتك اللحظات ونزهت طرفك في تلك الرياض وطلبت الشفاء من الحدق المراض وخالفت قول أحكم الحاكمين قل للمؤمنين وقول رسوله النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركه من خوف الله تعالى أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه رواه الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة عن حذيفة وقال عمر بن شبة حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا عنبسة بن عبدالرحمن القرشي حدثنا أبو الحسن المدني حدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله نظر الرجل في محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره فمن الملوم سوى من رمى صاحبه بالسهم المسموم أو ما علمت أنه ليس شيء أضر على الإنسان من العين واللسان فما عطب
أكثر من عطب إلا بهما وما هلك أكثر من هلك إلا بسببهما فلله كم من مورد هلكة أورداه ومصدر ردى عنه أصدراه فمن أحب أن يحيا سعيدا أو يعيش حميدا فليغض من عنان طرفه ولسانه ليسلم من الضرر فإنه كامن في فضول الكلام وفضول النظر وقد صرح الصادق المصدوق بأن العينين تزنيان وهما أصل زنى الفرج فإنهما له رائدان وإليه داعيان وقد سئل رسول الله عن نظرة الفجأة فأمر السائل أن يصرف بصره فأرشده إلى ما ينفعه ويدفع عنه ضرره وقال لابن عمه علي رضي الله عنه محذرا له مما يوقع في الفتنة ويورث الحسرة لا تتبع النظرة النظرة أوما سمعت قول العقلاء من سرح ناظره أتعب خاطره ومن كثرت لحظاته دامت حسراته وضاعت عليه أوقاته وفاضت عبراته وقول الناظم نظر العيون إلى العيون هو الذي ... جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلا ما زالت اللحظات تغزو قلبه ... حتى تشحط فيهن قتيلا وقال آخر تمتعتما يا مقلتي بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من الظلم سعى اثنين في قتل واحد فصل قالت العين ظلمتني أولا وآخرا وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا وما أنا
إلا رسولك الداعي إليك ورائدك الدال عليك وإذا بعثت برائد نحو الذي ... تهوى وتعتبه ظلمت الرائدا فأنت الملك المطاع ونحن الجنود والأتباع أركبتني في حاجتك خيل البريد ثم أقبلت علي بالتهديد والوعيد فلو أمرتني أن أغلق علي بابي وأرخي علي حجابي لسمعت وأطعت ولما رعيت في الحمى ورتعت أرسلتني لصيد قد نصيت لك حبائله وأشراكه واستدارت حولك فخاخه وشباكه فغدوت أسيرا بعد أن كنت أميرا وأصبحت مملوكا بعد أن كنت مليكا هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام وأعدل الحكام حيث يقول إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب وقال أبو هريرة رضي الله عنه القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده ولو أنعمت النظر لعلمت أن فساد رعيتك بفسادك وصلاحها ورشدها برشادك ولكنك هلكت وأهلكت رعيتك وحملت على العين الضعيفة خطيئتك وأصل بليتك أنه خلا منك حب الله وحب ذكره وكلامه وأسمائه وصفاته وأقبلت على غيره وأعرضت عنه وتعوضت بحب من سواه والرغبة فيه منه هذا وقد سمعت ما قص عليك من إنكاره سبحانه على بني إسرائيل استبدالهم طعاما بطعام أدنى منه فذمهم على ذلك ونعاه عليهم وقال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير
فكيف بمن استبدل بمحبة خالقه وفاطره ووليه ومالك أمره الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور ولا فرحة ولا نجاة إلا بأن يوحده في الحب ويكون أحب إليه مما سواه فانظر بالله بمن استبدلت وبمحبة من تعوضت رضيت لنفسك بالحبس في الحش وقلوب محبيه تجول حول العرش فلو أقبلت عليه وأعرضت عمن سواه لرأيت العجائب ولأمنت من المتالف والمعاطب أوما علمت أنه خص بالفوز والنعيم من أتاه بقلب سليم أي سليم مما سواه ليس فيه غير حبه واتباع رضاه قالت وبين ذنبي وذنبك عند الناس كما بين عماي وعماك في القياس وقد قال من بيده أزمة الأمور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمىالقلوب التي في الصدور فصل فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام وتناولهما الخصام قالت أنتما على هلاكي تساعدتما وعلى قتلي تعاونتما ولقد أنصف من حكى مناظرتكما وعلى لساني متظلما منكما يقول طرفي لقلبي هجت لي سقما ... والعين تزعم أن القلب أنكاها والجسم يشهد أن العين كاذبة ... وهي التي هيجت للقلب بلواها لولا العيون وما يجنين من سقم ... ما كنت مطرحا من بعض قتلاها فقالت الكبد المظلومة اتئدا ... قطعتماني وما راقبتما الله
وقال آخر يقول قلبي لطرفي أن بكى جزعا ... تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا فقال طرفي له فيما يعاتبه ... بل أنت حملتني الآمال والطمعا حتى إذا ما خلا كل بصاحبه ... كلاهما بطويل السقم قد قنعا نادتهما كبدي لا تبعدا فلقد ... قطعتماني بما لاقيتما قطعا وقال آخر عاتبت قلبي لما ... رأيت جسمي نحيلا فألزم القلب طرفي ... وقال كنت الرسولا فقال طرفي لقلبي ... بل كنت أنت الدليلا فقلت كفا جميعا ... تركتماني قتيلا ثم قالت أنا أتولى الحكم بينكما أنتما في البلية شريكا عنان كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي ولهذا قال فيكما القائل ولما سلوت الحب بشر ناظري ... لقلبي فقال القلب لي ولك الهنا تخلصت من إحياء ليلك ساهرا ... وخلصتني من لوعة الهجر والضنا كلانا مهنا بالبقاء فإن تعد ... فلا أنت يبقيك الغرام ولا أنا وإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من قرار قال الشاعر فوالله ما أدري أنفسي ألومها ... على الحب أم عيني المشومة أم قلبي فإن لمت قلبي قال لي العين أبصرت ... وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي ... فيا رب كن عونا على العين والقلب قالت هذه ولما سقيت القلب ماء المحبة بكؤوسك أوقدت عليه نار الشوق فارتفع إليك البخار فتقاطر منك فشرقت بشربه أولا وشرقت بحر ناره ثانيا قال خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... ضنى جسدي لكنني أتستر وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنها روح تذوب فتقطر قالت والحاكم بينكما الذي يحكم بين الروح والجسد إذا اختصما بين يديه فإن في الأثر المشهور لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلائق حتى تختصم الروح والجسد فيقول الجسد للروح أنت الذي حركتني وأمرتني وصرفتني وإلا فأنا لم أكن أتحرك ولا أفعل بدونك فتقول الروح له وأنت ألذي أكلت وشربت وباشرت وتنعمت فأنت الذي تستحق العقوبة فيرسل الله سبحانه إليهما ملكا يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي دخلا بستانا فقال المقعد للأعمى أنا أرى ما فيه من الثمار ولكن لا أستطيع القيام وقال الأعمى أنا أستطيع القيام ولكن لا أبصر شيئا فقال له المقعد تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا أتناول فعلى من تكون العقوبة فيقول عليهما قال فكذلك أنتما وبالله التوفيق
الباب الثامن في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه قالت هذه الطائفة بيننا وبينكم الكتاب والسنة وأقوال أئمة الإسلام والمعقول الصحيح أما الكتاب فقوله تعالى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وهذا يعم جميع ما خلق الله فما الذي أخرج من عمومه الوجه المليح وهو من أحسن ما خلق وموضع الاستدلال به والاعتبار أقوى ولذلك يسبح الخالق سبحانه عند رؤيته كما قال بعض الناظرين إلى جميل الصورة ذي طلعة سبحان فالق صبحه ... ومماطف جلت يمين الغارس مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكت على رسم السلو الدارس ورؤية الجمال البديع تنطق ألسنة الناظرين بقولهم سبحان الله رب العالمين وتبارك الله أحسن الخالقين والله تعالى لم يخلق هذه المحاسن عبثا وإنما أظهرها ليستدل الناظر إليها على قدرته ووحدانيته وبديع صنعه فلا تعطل عما خلقت له وأما السنة فالحديث المشهور النظر إلى الوجه المليح عبادة
وفي الحديث الآخر اطلبوا الخير من حسان الوجوه وفي هذا إرشاد إلى تصفح الوجوه وتأملها وخطب رجل امرأة فاستشار النبي في نكاحها فقال هل نظرت إليها فقال لا قال اذهب فانظر إليها ولو كان النظر حراما لما أطلق له أن ينظر فإنه لا يأمن الفتنة وأما أقوال الأئمة فحكى السمعاني أن الشافعي رضي الله عنه كتب إليه رجل في رقعة سل المفتى المكي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح فأجابه الشافعي معاذ إله العرش أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح وذكر الخرائطي هذا السؤال والجواب عن عطاء بن أبي رباح وأوله سألت عطاء المكي وذكر الحاكم في مناقب الشافعي رضي الله عنه من شعره يقولون لا تنظر وتلك بلية ... ألا كل ذي عينين لا بد ناظر وليس اكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عف فيما بين الضمائر وذكر الاسترباذي في كتاب مناقب الشافعي أن رجلا كتب إلى سعيد ابن المسيب يا سيد التابعين والبرره ... نسيت في العشق سورة البقره فكن بفتواك مشفقا رفقا ... باهى بك الله أكرم البرره هل حرم الله لثم خد فتى ... أوصافه بالجمال مشتهره
فأجابه سعيد يا سائلي عن خفي لوعته ... عليك بالصبر تحمدن أثره ولا تكن طالبا لفاحشة ... أو كالذي ساق سيله مطره وراقب الله واخش سطوته ... وخالف الفاسقين والفجره وقبل الخد من حبيبك ذا ... في كل يوم وليلة عشره وقال أبو العباس المبرد في الكامل قال أعرابي أنشدنيه أبو العالية سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي ... يحل من التقبيل في رمضان فقال لي المكي أما لزوجة ... فسبع وأما خلة فثمان وذكر أبو بكر الخطيب في كتاب رواه مالك عن بعضهم أقول لمفت بين مكة والصفا ... لك الخير هل في وصلهن حرام وهل في صموت الحجل مهضومة الحشا ... عذاب الثنايا إن لثمت أثام فقال لي المفتي وسالت دموعه ... على الخد من عينيه فهي تؤام ألا ليتني قبلت تلك عشية ... ببطن منى والمحرمون نيام وقال الحاكم في كتاب مناقب الشافعي حدثنا أبو العلاء بن كوشيار الحاري أنبأنا علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن الجهم قال سمعت الربيع يقول حضرت الشافعي بمكة وقد دفع إليه رجل رقعة فيها
أقول لمفتي خيف مكة والصفا ... لك الخير هل في وصلهن حرام وهل في صموت الحجل مهضومة الحشا ... عذاب الثنايا إن لثمت أثام قال فوقع الشافعي فيها فقال لي المفتي وفاضت دموعه ... على الخد من عين وهن تؤام ألا ليتني قبلت تلك عشية ... ببطن منى والمحرمون قيام وقال عمرو بن سفيان ابن ابنة جامع بن مرخية إنا سألنا مالكا وقرينه ... ليث بن سعد عن لثام الوامق أيجوز قالا والذي خلق الورى ... ما حرم الرحمن قبلة عاشق ذكر ذلك صاحب كتاب رستاق الاتفاق وهو شاعر المصريين وأنشد فيه لعمرو بن سفيان هذا وكتب بها إلى ابن عيينة قلنا لسفيان الهلالي مرة ... حرمت ضم العاشق المشتاق لحبيبه من بعد نأي ناله ... فأجاب لا والواحد الخلاق وأنشد فيه لجده جامع وكتب بها إلى علي بن زيد بن جدعان سألنا ابن جدعان بن عمر وأخا العلا ... أيحرم لثم الحب في ليلة القدر فقال لنا المكي وناهيك علمه ... ألا لا ومن قد جاء بالشفع والوتر وأنشد لإبراهيم بن المدبر وكتب بها إلى أبي بكر بن عياش أحد أئمة القراء
سألت ابن عياش وكان معلما ... لك الخير هل في ضمة الحب من وزر فقال أبو بكر ولا في لثامه ... ألم يأتنا التنزيل بالوضع للإصر وأنشد لآخر وكتب بها إلى الإمام أحمد بن حنبل قال وزعم بعضهم أنه إسحاق بن معاذ بن زهير شاعر أهل مصر في وقته سألت إمام الناس نجل ابن حنبل ... عن الضم والتقبيل هل فيه من باس فقال إذا جل العزاء فواجب ... لأنك قد أحييت عبدا من الناس وأنشد لابن مرخية وكتب بها إلى أبي حنيفة كتبت إلى النعمان يوما رسالة ... نسائله عن لثم حب ممنع فقال لنا لا إثم فيه وإنه ... شهي إذا كانت لعشر وأربع وكتب رجل إلى أبي جعفر الطحاوي أبا جعفر ماذا تقول فإنه ... إذا نابنا خطب عليك المعول فلا تنكرن قولي وأبشر برحمة ال ... إله عن الأمر الذي عنه نسأل أب الحب عار أم من الحب مهرب ... وهل من لحا أهل الصبابة يجهل وهل بمباح فيه قتل متيم ... يهاجره أحبابه وهو يوصل فرأيك في رد الجواب فإنني ... بما فيه تقضي أيها الشيخ أفعل فأجابه الطحاوي سأقضي قضاء في الذي عنه تسأل ... وأحكم بين العاشقين فأعدل فديتك ما بالحب عار علمته ... وللعار ترك الحب إن كنت تعقل ومهما لحا في الحب لاح فإنه ... لعمرك عندي من ذوي الجهل أجهل
وليس مباحا عندنا قتل مسلم ... بلا ترة بل قاتل النفس يقتل ولكنه إن مات في الحب لم يكن ... له قود فيه ولا عنه يعقل وصالك من تهوى وإن صد واجب ... عليك كذا حكم المتيم يفعل فهذا جواب فيه عندي قناعة ... لما جئت عنه أيها الصب تسأل ويكفي أن المعتزلة من أشد الناس تعظيما للذنوب وهم يخلدون أصحاب الكبائر ولا يرون تحريم ذلك كما ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه المشهور لبعض المعتزلة سألنا أبا عثمان عمرا وواصلا ... عن الضم والتقبيل للخد والجيد فقالا جميعا والذي هو عادل ... يجوز بلا إثم فدع قول تفنيد وقال إسحاق بن شبيب سألنا شيوخ الواسطيين كلهم ... عن الرشف والتقبيل هل فيهما إثم فقالوا جميعا ليس إثما لزوجة ... ولا خلة والضم من هذه غنم وأنشد أبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن سعد الخير في كتابه شرح الكامل فلما أن أبيح لنا التلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصديق وهل حرجا تراه أو حراما ... مشوق ضمه صب مشوق وقال الخطيب في تاريخ بغداد حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب بن الحسن إملاء حدثنا أبو عبدالله المرزباني وابن حيويه وابن شاذان قالوا حدثنا
أبو عبدالله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه بقرطبة قال دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه فقلت له كيف تجدك قال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت له ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه قال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فأما النظر المباح فأورثني ما ترى وذكر القصة وستأتي في باب عفاف العشاق والمقصود أنه لم ير النظر إلى معشوقه ولا عشقه حراما وجرى على هذا المذهب أبو محمد بن حزم في كتاب طوق الحمامة له قالوا ونحن نحاكمكم إلى واحد يعد بآلاف مؤلفة وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه سئل ما تقول السادة الفقهاء رضي الله عنهم في رجل عاشق في صورة وهي مصرة على هجره منذ زمن طويل لا تزيده إلا بعدا ولا يزداد لها إلا حبا وعشقه لهذه الصورة من غير فسق ولا خنى ولا هو ممن يدنس عشقه بزنى وقد أفضى به الحال إلى الهلاك لا محالة إن بقي مع محبوبه على هذه الحالة فهل يحل لمن هذه حاله أن يهجر وهل يجب وصاله علىالمحبوب المذكور وهل يأثم ببقائه على هجره وما يجب من تفاصيل أمرهما وما لكل واحد منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرع الشريف فأجاب بخطه بجواب طويل قال في أثنائه فالعاشق له ثلاث مقامات ابتداء وتوسط ونهاية أما ابتداؤه فواجب عليه فيه كتمان ذلك وعدم إفشائه للخلق مراعيا في ذلك شرائط الفتوة من العفة مع القدرة فإن زاد به الحال إلىالمقام الأوسط فلا بأس بإعلام محبوبه بمحبته إياه فيخف بإعلامه وشكواه إليه ما يجد منه ويحذر من اطلاع الناس على ذلك فإن زاد به الأمر حتى خرج عن الحدود والضوابط التحق بالمجانين والموسوسين فانقسم العشاق
قسمين قسم قنعوا بالنظرة بعد النظرة فمنهم من يموت وهو كذلك ولا يظهر سره لأحد حتى محبوبه لا يدري به وقد روي عن النبي من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد والقسم الثاني أباحوا لمن وصل إلى حد يخاف على نفسه منه القبلة في الحين قالوا لأن تركها قد يؤدي إلى هلاك النفس والقبلة صغيرة وهلاك النفس كبيرة وإذا وقع الإنسان في مرضين داوى الأخطر ولا خطر أعظم من قتل النفس حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعته على ذلك إذا علم أن ترك ذلك يؤدي إلى هلاكه واحتجوا بقول الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وبقوله تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وبحديث الذي قال يا رسول الله إني لقيت امرأة أجنبية فأصبت منها كل شيء إلا النكاح قال أصليت معنا قال نعم قال إن الله قد غفر لك فأنزل الله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ثم قال فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يدنس عشقه بزنى ولا يصحبه بخنى فينظر في حاله فإن كان من الطبقة الأولى
فالنظر كاف لهم إن صدقت دعواهم وإن كان من الطبقة الثانية فلا بأس بشكواه إلى محبوبه كي يرق عليه ويرحمه وإن غلب عليه الحال فالتحق بالثالثة أبيح له ما ذكرنا بشرط أن لا يكون أنموذجا لفعل القبيح المحرم فيلتحق بالكبائر ويستحق القتل عند ذلك ويزول عنه العذر ويحق عليه كلمة العذاب انتهى ما ذكرناه من جوابه قالوا وقد جوزت طائفة من فقهاء السلف والخلف والعلماء استمناء الإنسان بيده إذا خاف الزنى وقد جوزت طائفة من الفقهاء لمن خاف على نفسه في الصوم الواجب من شدة الشبق أن تتشقق أنثياه أن يجامع امرأته وبنوا على ذلك فرعا وهو إذا كان له امرأتان حائض وصائمة فهل يطأ هذه أو هذه على وجهين ولا ريب أن النظر والقبلة والضم إذا تضمن شفاءه من دائه كان أسهل من الاستمناء باليد والوطء في نهار رمضان وقد جوز بعض الفقهاء للمرأة إذا خافت الزنى أن تتخذ لها شيئا تدخله في فرجها وتخرجه لئلا تقع في محظور الزنى ولا ريب أن الشريعة جاءت بالتزام الدخول في أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلا لأعلاهما فأين مفسدة النظر والقهلة والضم من مفسدة المرض والجنون أو الهلاك جملة فهذا ما احتجت به هذه الفرقة ونحن نذكر ما لها وما عليها في ذلك بحول الله وقوته وعونه
الباب التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام أحدها نقول صحيحة لا حجة لهم فيها والثاني نقول كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق والفجار كما سنبينه الثالث نقول مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه فأما احتجاجهم بقوله تعالى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء فهو نظير احتجاجهم بعينه على إباحة السماع الشيطاني الفسقي بقوله تعالى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه قالوا والقول عام فحملوا لفظه ومعناه ما هو بريء منه وإنما القول هاهنا ما أمرهم الله باستماعه وهو وحيه الذي أنزله على رسوله وهو الذي قال فيه أفلم يدبروا القرآن وقال تعالى ولقد وصلنا لهم القول فهذا هو القول الذي أمروا باتباع أحسنه كما قال واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم والنظر الذي أمرنا سبحانه به المؤدي إلى معرفته والإيمان به ومحبته والاستدلال على صدق رسله فيما أخبروا به عنه من أسمائه وصفاته وأفعاله وعقابه وثوابه لا النظر الذي يوجب تعلق الناظر
بالصورة التي يحرم عليه الاستمتاع بها نظرا ومباشرة فهذا النظر الذي أمر الله سبحانه وتعالى صاحبه بغض بصره هذا مع أن القوم لم يبتلوا بالمردان وهم كانوا أشرف نفوسا وأطهر قلوبا من ذلك فإذا أمرهم بغض أبصارهم عن الصورة التي تباح لهم في بعض الأحوال خشية الافتتان فكيف النظر إلى صورة لا تباح بحال ثم يقال لهذه الطائفة النظر الذي ندب الله إليه نظر يثاب عليه الناظر وهو نظر موافق لأمره يقصد به معرفة ربه ومحبته لا النظر الشيطاني ويشبه هذا الاستدلال استدلال بعض الزنادقة المنتسبين إلى الفقه على حل الفاحشة بمملوك الرجل بقوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ومعتقد ذلك كافر حلال الدم بعد قيام الحجة عليه وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالا حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرهم عبادة لأنهم ينظرون إلى مظاهر الجمال الإلهي ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى يظهر في تلك الصورة الجميلة ويجعلون هذا طريقا إلى الله كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي المعرفة والسلوك قال شيخنا رحمه الله تعالى وكفر هؤلاء شر من كفر قوم لوط وشر من كفر عباد الأصنام فإن أولئك لم يقولوا إن الله سبحانه يتجلى في تلك الصورة وعباد الأصنام غاية ما قالوه ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وهؤلاء قالوا نعبدهم لأن الله ظهر في صورهم وحكى لي شيخنا أن
رجلا من هؤلاء مر به شاب جميل فجعل يتبعه بصره فأنكر عليه جليس له وقال لا يصلح هذا لمثلك فقال إني أرى فيه صفات معبودي وهو مظهر من مظاهر جماله فقال لقد فعلت به وصنعت فقال وإن قال شيخنا فلعن الله أمة معبودها موطوؤها قال وسئل أفضل متأخريهم العفيف التلمساني فقيل له إذا كان الوجود واحدا فما الفرق بين الأخت والبنت والأجنبية حتى تحل هذه فقال الجميع عندنا سواء ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم ومن هؤلاء الزنادقة من يخص ذلك ببعض الصور فهؤلاء من جنس النصارى بل هم إخوانهم فالنظر عند هؤلاء إلى الصور المحرمة عبادة ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع بعض هؤلاء الزنادقة أو مجان الفساق وإلا فرسول الله بريء منه وسئل شيخنا عمن يقول النظر إلى الوجه الحسن عبادة ويروى ذلك عن النبي فهل ذلك صحيح أم لا فأجاب بأن قال هذا كذب باطل ومن روى ذلك عن النبي أو ما يشبهه فقد كذب عليه فإن هذا لم يروه أحد من أهل الحديث لا بإسناد صحيح ولا ضعيف بل هو من الموضوعات وهو مخالف لإجماع المسلمين فإنه لم يقل أحد إن النظر إلى المرأة الأجنبية والصبي الأمرد عبادة ومن زعم ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن النظر منه ما هو حرام ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح والله أعلم وأما الحديث الآخر وهو أطلبواالخير من
حسان الوجوه فهذا وإن كان قد روي بإسناد إلا أنه باطل لم يصح عن رسول الله ولو صح لم يكن فيه حجة لهذه الطائفة فإنه إنما أمر بطلب الخير منهم لا بطلب وصالهم ونيل المحرم منهم فإن الوجه الجميل مظنة الفعل الجميل فإن الأخلاق في الغالب مناسبة للخلقة بينهما نسب قريب وأما أمر النبي للخاطب بأن ينظر إلى المخطوبة فذلك نظر للحاجة وهو مأمور به أمر استحباب عند الجمهور وأمر إيجاب عند بعض أهل الظاهر وهو من النظر المأذون فيه لمصلحة راجحة وهو دخول الزوج على بصيرة وأبعد من ندمه ونفرته عن المرأة فالنظر المباح أنواع هذا أحدها بخلاف النظر إلى الصورة المحرمة فصل وأما ما ذكره السمعاني عن الشافعي رحمه الله تعالى فمن تحريف الناقل والسائل لم يذكر لفظ الشافعي والبيتان هكذا هما سألت الفتى المكي في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح فقال معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح فهذا السائل هو الذي ذكر السؤال والجواب وهو مجهول لا يعرف هل هو ثقة أم لا ثم إن الجواب لا يدل على مقصود هذه الفرقة بوجه ما بل هو حجة عليها فإنه نهى أن يذهب التقى تلاصق هذه الأكباد فكأنه قال
لا تتلاصق هذه الأكباد لئلا يذهب تلاصقها التقى فالتلاصق المذكور فاعل والتقى مفعول فكأنه قال لا يفعل لئلا يذهب التلاصق التقى وجواب آخر وهو أن هذا التلاصق إنما يكون غير مذهب للتقى إذا كان في عشق مباح بل مستحب كعشق الزوجة والأمة وأما ما ذكروا عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى فقد أجاب عنه سعيد نفسه فإنه لما مر به مرخية هذا السائل وكان من بني كلاب قال سعيد هذا من أكذب العرب قيل كيف يا أبا محمد قال أليس الذي يقول سألت سعيد بن المسيب مفتي المدينة ... هل في حب دهماء من وزر فقال سعيد بن المسيب إنما ... تلام على ما تستطيع من الأمر كذب والله ما سألني عن شيء من هذا قط ولا أفتيته وإذا كان هذا جواب سعيد في مثل هذا فما جوابه لمن سأله أن يقبل حبيبا أجنبيا كل يوم وليلة عشرة فقبح الله الفسقة الكذابين على العلماء لا سيما على مثل سعيد فهؤلاء كلهم فسقة كاذبون أرادوا تنفيق فسقهم بالكذب على علماء وقتهم كما نفق الفاسق أبو نواس كذبه على إسحاق بن يوسف الأزرق قال عبدالله
ابن محمد بن عائشة أتيت إسحاق بن يوسف الأزرق يوما فلما رآني بكى قلت ما يبكيك قال هذا أبو نواس قلت ماله قال يا جارية ائتيني بالقرطاس فإذا فيه مكتوب يا ساحر المقلتين والجيد ... وقاتلي منه بالمواعيد توعدني الوصل ثم تخلفني ... ويلاه من مخلف لموعودي حدثني الأزرق المحدث عن ... شمر وعوف عن ابن مسعود لا يخلف الوعد غير كافرة ... أو كافر في الجحيم مصفود كذب والله علي وعلى التابعين وعلى الصحابة ولو صح عن سعيد لم يكن لكم فيه حجة فإن سعيدا أمره بالصبر أولا ومراقبة الله وخوف سطوته ومخالفة الفسقة ثم أمره بتقبيل خد من يحبه كل يوم عشر مرات وهذا قطعا إنما أراد به من يحل له تقبيله من زوجة أو سرية فأمره أن يعتاض بقبلتها من لا يحل له ولا يظن بعلماء الإسلام غير هذا إلا مفرط في الجهل أو متهم على الدين وأما ذكره المبرد عن الأعرابي الذي سأل المفتي المكي عن القبلة في رمضان فقال للزوجة سبع وللخلة ثمان فهذا المستفتي والمفتي لا يعرف واحد منهما حتى يقبل خيره ولو صح ذلك وعرف المستفتي والمفتي لكانت الخلة هي أمته الجميلة وهي التي يحل تقبيلها ثمانيا فأكثر وأما أن يفتي أحد من أهل الإسلام بأنه يحل تقبيل المرأة الأجنبية المحرمة عليه ثمانيا في رمضان أو غيره فمعاذ الله من ذلك وهكذا حكم الأثر الذي ذكره الخطيب في كتاب رواه مالك ولا يظن بعالم أنه تمنى أن يقبل امرأة أجنبية وهو محرم ببطن منى فإن القبلة المذكورة تعرض الحج للفساد وتبطله عند طائفة فإن صح هذا فإنما اراد امرأته أو أمته
وأما الأثر الذي ذكره الحاكم في مناقب الشافعي رحمه الله تعالى فليس بين الحاكم وبين الربيع من يحتج به ويدل على أن القصة كذب ظاهر أن المستفتي زعم أن الشافعي أجاب بقوله فقال لي المفتي وفاضت دموعه وهذا إنما هو حكاية المستفتي قول المفتي فمن هو الحاكي عن الشافعي فدعوا هذه الأكاذيب والترهات وأما ما ذكرتم عن عمرو بن سفيان ابن بنت جامع فمن ذكر هذا عن عمرو ابن سفيان ومن هو عمرو بن سفيان ابن بنت جامع بن مرخية هذا وهذا موضع البيتين المشهورين سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثماله فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهاله وهل يحل لأحد أن يصدق عن مالك والليث بن سعد أنهما أجازا تقبيل خد المرأة الأجنبية المعشوقة أو خد الأمرد الجميل الصورة هذا وقصة مالك مع الذي ضم صبياإليه فأفتى بضربه ستمائة سوط فمات فقال له أبو الفتى قتلت ابني فقال قتله الله فمن هذا تشديده وفتواه هل يفتي بجواز تقبيل خدود المرد الحسان نعم ما حرم الرحمن قبلة عاشق يحل لمعشوقه مواصلته ولا قبلة الرجل خد ولده كما قبل الصديق رضي الله عنه خد ابنته عائشة رضي الله عنها ورأى أعرابي النبي يقبل أحد ابني ابنته فقال وإنكم لتقبلون الصبيان إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم فقال
أو أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك وأما صاحب كتاب رستاق الاتفاق وهو شاعر المصريين فلعمر الله لقد أفسدت إذ أسندت فإنه الفاسق الماجن المسمى أبا الرقعمق ولكن لا ينكر هذا المتن بهذا الإسناد فإنه لا يليق إلا به وأما قصة إبراهيم بن المدبر عن أبي بكر بن عياش فنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم وأما ما ذكروا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فوالذي لا إله غيره إنه لمن أقبح الكذب عليه ولو أن هذا الكاذب الفاسق نفق هذه الكذبة بغيره لراج أمرها بعض الرواج ولكن من شدة جهله نفقها بأحمد ابن حنبل وهو كمن نسب إليه القول بأن القرآن مخلوق أو تقديم علي على أبي بكر أو تقديم الرأي على السنة وأمثال ذلك وكذلك ما ذكره عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولو صح لم يكن فيه حجة لهذه الطائفة فإنه قال لا إثم فيه إذا كانت لعشر وأربع ولم يقل إذا كانت أجنبية ونحن نقول بما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان المعشوق حلالا وأما ما ذكر عن الطحاوي فلا نعلم صحته وإن صح فإنما أراد به التقبيل المباح فإن الرجل قد يبتلى بهجر زوجته أو أمته له فيسأل أطباء الدين وأطباء الجسم وأطباء الحب عن دوائه فيجيبه كل منهم بمقتضى علمه وما عنده وقد شكى مغيث زوج بريرة حبه لها فشفع عندها النبي أن
تراجعه فلم تفعل وشكى إليه رجل أن امرأته لا ترد يد لامس فقال طلقها فقال إني أخاف أن تتبعها نفسي فقال استمتع بها ذكره الإمام أحمد والنسائي قال بعض أهل العلم راعى النبي دفع أعلى المفسدتين بأدناهما فإنه لما شكى إليه أنها لا ترد يد لامس أمره بطلاقها فلما أخبره عن حبها وأنه يخاف أن لا يصبر عنها ولعل حبه لها يدعوه إلى معصية أمره أن يمسكها مداواة لقلبه ودفعا للمفسدة التي يخافها باحتمال المفسدة التي شكا منها وأجاب أبو عبيدة عنه بأنها كانت لا ترد يد لامس يطلب منها العطاء فكانت لا ترد يد من سألها شيئا من مال الزوج ورد عليه هذا التأويل بأنه لا يقال لطالب العطاء لامس وإنما يقال له ملتمس وأجابت طائفة أخرى عنه بأن طرآن المعصية على النكاح لا توجب فساده وقال النسائي هذا الحديث منكر وعندي أن له وجها غير هذا كله فإن الرجل لم يشك من المرأة أنها تزني بكل من اراد ذلك منها ولو سأل عن ذلك لما أقره رسول الله على أن يقيم مع بغي ويكون زوج بغي ديوثا وإنما شكى إليه أنها لا تجذب نفسها ممن لاعبها ووضع يده عليها أو جذب ثوبها ونحو ذلك فإن من النساء من تلين عند الحديث واللعب ونحوه وهي حصان عفيفة إذا أريد منها الزنى وهذا كان عادة كثير من نساء العرب ولا يعدون ذلك عيبا بل كانوا في الجاهلية يرون للزوج النصف الأسفل وللعشيق النصف الأعلى فللحب ما ضمت عليه نقابها ... وللبعل ما ضمت عليه المآزر
والمقصود أن القوم كانوا مع العاشق على معشوقه إذا كان يباح له وصاله وسنذكر ذلك في باب مساعدة العشاق بالمباح من التلاق إن شاء الله تعالى وأما ما ذكروا عن شيوخ المعتزلة وشيوخ الواسطيين فأما أبو عثمان المذكور وهو عمرو بن عبيد وواصل وهو واصل بن عطاء وهما شيخا القوم ولو أفتيا بذلك لكانت فتيا من مبتدعين مذمومين عند السلف والخلف فكيف والمخبر بذلك رجل مجهول من المعتزلة كذب على من يعظمهما المعتزلة لينفق فسقه وأما قصة محمد بن داود الأصبهاني فغايتها أن تكون من سعيه المعفو المغفور لا من عمله المشكور وسلط الناس بذلك على عرضه والله يغفر لنا وله فإنه تعرض بالنظر إلى السقم الذي صار به صاحب فراش وهذا لو كان ممن يباح له لكان نقصا وعيبا فكيف من صبي أجنبي وأرضاه الشيطان بحبه والنظر إليه عن مواصلته إذا لم يطمع في ذلك منه فنال منه ما عرف أن كيده لا يتجاوزه وجعله قدوة لمن يأتم به بعده كأبي محمد بن حزم الظاهري وغيره وكيد الشيطان أدق من هذا وأما أبو محمد فإنه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر وإلغائه للمعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة فوسع هذا الباب جدا وضيق باب المناسبات والمعاني والحكم الشرعية جدا وهو من انحرافه في الطرفين حين رد الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في تحريم آلات اللهو بأنه معلق غير مسند وخفي عليه أن البخاري لقي من علقه عنه وسمع منه وهو هشام بن عمار وخفي عليه أن الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث غير هشام بن عمار فأبطل سنة صحيحة
ثابتة عن رسول الله لا مطعن فيها بوجه وأما من حاكمتمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فنحن راضون بحكمه فأين أباح لكم النظر المحرم وعشق المردان والنساء الأجانب وهل هذه إلا كذب ظاهر عليه وهذه تصانيفه وفتاواه كلها ناطقة بخلاف ما حكيتموه عنه وأما الفتيا التي حكيتموها فكذب عليه لا تناسب كلامه بوجه ولولا الإطالة لذكرناها جميعها حتى يعلم الواقف عليها أنها لا تصدر عمن دونه فضلا عنه وقلت لمن أوقفني عليها هذه كذب عليه لا يشبه كلامه وكان بعض الأمراء قد أوقفني عليها قديما وهي بخط رجل متهم بالكذب وقال لي ما كنت أظن الشيخ برقة هذه الحاشية ثم تأملتها فإذا هي كذب عليه ولولا الإطالة لذكرنا من فتاويه ما يبين أن هذه كذب وأما ما ذكرتم من مسألة التزام أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما فنحن لا ننكر هذه القاعدة بل هي من أصح قواعد الشريعة ولكن الشأن في إدخال هذه الصورة فيها بل نحاكمكم إلى هذه القاعدة نفسها فإن احتمال مفسدة ألم الحب مع غض البصر وعدم تقبيل المحبوب وضمه ونحو ذلك أقل من مفسدة النظر والتقبيل فإن هذه المفسدة تجر إلى هلاك القلب وفساد الدين وغاية ما يقدر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت تفاديا عن التعرض للحرام فأين إحدى المفسدتين من الأخرى على أن النظر والقبلة
والضم لا يمنع السقم والموت الحاصل بسبب الحب فإن العشق يزيد بذلك ولا يزول فما صبابة مشتاق على أمل ... من الوصال كمشتاق بلا أمل ولا ريب في أن محبة من له طمع أقوى من محبة من يئس من محبوبه ولهذا قال الشاعر وأبرح ما يكن الحب يوما ... إذا دنت الديار من الديار فإن قيل فقد أباح الله سبحانه للمضطر الميتة والدم ولحم الخنزير وتناولها في هذه الحال واجب عليه قال مسروق والإمام أحمد رحمهما الله تعالى من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل فمات دخل النار فغاية النظرة والقبلة والضمة أن تكون محرمة فإذا اضطر العاشق إليها فإن لم تكن واجبة فلا أقل من أن تكون مباحة فهذا قياس واعتبار صحيح وأين مفسدة موت العاشق إلى مفسدة ضمه ولمه فالجواب أن هذا يتبين بذكر قاعدة وهي أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل في العبد اضطرارا إلى الجماع بحيث إن لم يفعله مات بخلاف اضطراره إلى الأكل والشرب واللباس فإنه من قوام البدن الذي إن لم يباشره هلك ولهذا لم يبح من الوطء الحرام ما أباح من تناول الغذاء والشراب المحرم فإن هذا من قبيل الشهوة واللذة التي هي تتمة وفضلة ولهذا يمكن الإنسان أن يعيش طول عمره بغير تزوج وغير تسر ولا يمكنه أن يعيش بغير طعام ولا شراب ولهذا أمر النبي الشباب أن يداووا هذه الشهوة بالصوم وقال تعالى عن عشاق المردان إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون
النساء فأخبر أن الحامل على ذلك مجرد الشهوة لا الحاجة فضلا عن الضرورة والشهوة المجردة لا تلتحق بالضروريات ولا بالحاجات والحمية عنها خشية إفضائها إلى مرض أصعب منها جار مجرى الحمية عن تناول ما يضر من الأطعمة والأشربة وذلك لا تدعو الضرورة إلى تناوله وإن كانت النفس قد تشتهيه فالقبلة والنظر والضم ونحوها جار مجرى تناول الفاكهة المضرة والزفرة المضر للمحموم ومن به مرض يضره معه تناول ذلك فإذا قال المريض أنا إن لم أتناول ذلك وإلا خشيت الموت لم يكن صادقا في قوله وإنما الحامل له على ذلك مجرد الشهوة وربما زاد تناول ذلك في مرضه فالطبيب الناصح لا يفسح له فيه فكيف يفسح الشارع الحكيم الذي شريعته غاية طب القلوب والأديان وبها تحفظ صحتها وتدفع موادها الفاسدة في تناول ما يزيد الداء ويقويه ويمده هذا من المحال بل الشريعة تأمر بالحمية عن أسباب هذا الداء خوفا من استحكامه وتولد داء آخر أصعب منه وأما مسألة من خاف تشقق أنثييه وأنه يباح له الوطء في رمضان فهذا ليس على إطلاقه بل إن أمكنه إخراج مائه بغير الوطء لم يجز له الوطء بلا نزاع وإن لم يمكنه ذلك إلا بالوطء المباح فإنه يجري مجرى الإفطار لعذر المرض ثم يقضي ذلك اليوم والإفطار بالمرض لا يتوقف على خوف الهلاك فكيف إذا خاف تلف عضو من أعضائه القاتلة بل هذا نظير من اشتد عطشه وخاف إن لم يشرب أن يحدث له داء من الأدواء أو يتلف عضو
من أعضائه فإنه يجوز له الشرب ثم يقضي يوما مكانه فإن قيل فلو اتفق له ذلك ولم يكن عنده إلا أجنبية هل يباح له وطؤها لئلا تتلف أنثياه قيل لا يباح له ذلك ولكن له أن يخرج ماءه باستمنائه فإن تعذر عليه فهل يجوز له أن يمكنها من استخراج مائه بيدها هذا فيه نظر فإن أبيح جرى مجرى تطبيب المرأة الأجنبية للرجل ومسها منه ما تدعو الحاجة إلى مسه وكذلك تطبيب الرجل للمرأة الأجنبية ومسه ما تدعو الحاجة إليه والله أعلم وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني في رقعة قل لأبي الخطاب نجم الهدى ... وقدوة العالم في عصره لا زلت في فتواك مستأمنا ... من خدع الشيطان أو مكره ماذا ترى في رشإ أغيد ... حاز اللمى والدرر في ثغره لم يحك بدر التم في حسنه ... حتى حكى الزنبور في حضره فهل يجيز الشرع تقبيله ... لمستهام خاف من وزره أم هل على المشتاق في ضمه ... من غير إدناء إلى صدره إثم إذا ما لم يكن مضمرا ... غير الذي قدم من ذكره فأجاب يا أيها الشيخ الأديب الذي ... قد فاق أهل العصر في شعره تسأل عن تقبيل بدر الدجى ... وعطف زنديك على نحره
هل ورد الشرع بتحليله ... لمستهام خاف من وزره من قارف الفتنة ثم ادعى ال ... عصمة قد نافق في أمره هل فتنة المرء سوى الضم والت ... قبيل للحب على ثغره وهل دواعي ذلك المشتهى ... إلا عناق البدر في خدره وبذله ذاك لمشتاقه ... يزري على هاروت في سحره ولا يجيز الشرع أسباب ما ... يورط المسلم في حظره فانج ودع عنك صداع الهوى ... عساك أن تسلم من شره هذا جواب الكلوزاني قد ... جاءك يرجو الله في أجره فهذا جواب أهل العلم وهو مطابق لما ذكرناه والله تعالى أعلم وسئل الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله بأبيات يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد من حب ظبي أغيد أهيف ... سهل المحيا حسن القد فهل ترى تقبيله جائزا ... في الفم والعينين والخد من غير ما فحش ولا ريبة ... بل بعناق جائز الحد إن كنت ما تفتي فإني إذا ... أصيح من وجدي وأستعدي فكتب رحمه الله تعالى الجواب ياذا الذي ذاب من الوجد ... وظل في ضر وفي جهد إسمع فدتك النفس من ناصح ... بنصحه يهدي إلى الرشد لو صح منك العشق ما جئتني ... تسألني عنه وتستعدي فالعاشق الصادق في حبه ... ما باله يسأل ما عندي
غيبه العشق فما إن يرى ... يعيد في العشق ولا يبدي وكل ما تذكر مستفتيا ... حرمه الله على العبد إلا لما حلله ربنا ... في الشرع بالإبرام والعقد فعد من طرق الهوى معرضا ... وقف بباب الواحد الفرد وسله يشفيك ولا يبتلي ... قلبك بالتعذيب والصد وعف في العشق ولا تبده ... واصبر وكاتم غاية الجهد فإن تمت محتسبا صابرا ... تفز غدا في جنة الخلد
الباب العاشر في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه فالذي عليه الأطباء قاطبة أنه مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور والشمائل وسببه النفساني الاستحسان والفكر وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن ولذلك أكثر ما يعتري العزاب وكثرة الجماع تزيله بسرعة وقال بعض الفلاسفة العشق طمع يتولد في القلب ويتحرك وينمي ثم يتربى ويجتمع إليه مواد من الحرص وكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج والتمادي في الطمع والحرص على الطلب حتى يؤديه ذلك إلى الغم والقلق ويكون احتراق الدم عند ذلك باستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إليها ومن غلبة السوداء يحصل له فسادالفكر ومع فساد الفكر يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون وتمني مالا يتم حتى يؤدي إلى الجنون فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه وربما مات غما وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحا وربما شهق شهقة فتختنق روحه فيبقى أربعة وعشرين ساعة فيظن أنه قد مات فيدفن وهو حي وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضم عليها القلب ولا ينفرج حتى يموت وتراه إذا ذكر له من يهواه هرب دمه واستحال لونه وقال أفلاطون العشق حركة النفس الفارغة وقال أرسطاطاليس العشق عمى الحس عن إدراك عيوب المحبوب ومن هذا أخذ جرير قوله
فلست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا فعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وقال أرسطو العشق جهل عارض صادف قلبا فارغا لا شغل له من تجارة ولا صناعة وقال غيره هو سوء اختيار صادف نفسا فارغة قال قيس بن الملوح أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا وقال بعضهم لم أر حقا أشبه بباطل ولا باطلا أشبه بحق من العشق هزله جد وجده هزل وأوله لعب وآخره عطب وقال الجاحظ العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود والبخل اسم لما جاوز الاقتصاد فكل عشق يسمى حبا وليس كل حب يسمى عشقا والمحبة جنس والعشق نوع منها ألا ترى أن كل محبة شوق وليس كل شوق محبة وقالت فرقة أخرى العشق هو الاستهيام والتضرع واللوذان بالمعشوق والوجد هو الحب الساكن والهوى أن يهوى الشيء فيتبعه غيا كان أو رشدا والحب حرف ينتظم هذه الثلاثة وقال المأمون ليحيى بن أكثم ما العشق فقال سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه فقال له ثمامة بن أشرس اسكت يا يحيى إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد ظبيا فأما هذه فمن مسائلنا نحن فقال له المأمون قل يا ثمامة قال العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جارية ملك الأبدان وأرواحها
والقلوب وخواطرها والعقول وآراءها قد أعطي عنان طاعتها وقوة تصرفها توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه فقال له المأمون أحسنت يا ثمامة وأمر له بألف دينار وقال بعضهم قلت لمجنون قد أذهب عقله العشق أجز هذاالبيت وما الحب إلا شعلة قدحت بها ... عيون المها باللحظ بين الجوانح فقال بديها ونار الهوى تخفى وفي القلب فعلها ... كفعل الذي جاءت به كف قادح وقال الأصمعي سألت أعرابيا عن العشق فقال جل والله عن أن يرى وخفي عن أبصار الورى فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر إن قدح أوري وإن ترك توارى وقال بعضهم العشق نوع من الجنون والجنون فنون فالعشق فن من فنونه واحتج بقول قيس قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ألعشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين وقال آخر إذا امتزجت جواهر النفوس بوصف المشاكلة أنتجت لمح نور ساطع تستضيء به النفس في معرفة محاسن المعشوق فتسلك طريق الوصول إليه وقال أعرابي العشق أعظم مسلكا في القلب من الروح في الجسم وأملك بالنفس من ذاتها بطن وظهر فامتنع وصفه عن اللسان وخفي نعته عن البيان فهو بين السحر والجنون لطيف المسلك والكمون وقيل العشق ملك غشوم مسلط ظلوم دانت له القلوب وانقادت له الألباب وخضعت
له النفوس العقل أسيره والنظر رسوله واللحظ لفظه دقيق المسلك عسير المخرج وقيل لآخر ما تقول في العشق فقال إن لم يكن طرفا من الجنون فهو نوع من السحر وأما الفلاسفة المشاؤون فقالوا هو اتفاق أخلاق وتشاكل محبات وتجانسها وشوق كل نفس إلى مشاكلها ومجانسها في الخلقة القديمة قبل إهباطها إلى الأجساد قلت هذا مبني على قولهم الفاسد بتقدم النفوس على الأبدان وعليه بنى ابن سينا قصيدته المشهورة هبطت إليك من المحل الأرفع ... وسمعت شيخنا يحكي عن بعض فضلاء المغاربة وهو جمال الدين بن الشريشي شارح المقامات أنه كان ينكر أن تكون هذه له قال وهي مخالفة لما قرره في كتبه من أن حدوث النفس الناطقة مع البدن وقال آخرون في وصفه دق عن الأفهام مسلكه وخفي عن الأبصار موضعه وحارت العقول في كيفية تمكنه غير أن ابتداء حركته وعظم سلطانه من القلب ثم يتغشى سائر الأعضاء فيبدي الرعدة في الأطراف والصفرة في الألوان والضعف في الرأي واللجلجة في الكلام والزلل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى الجنون وقيل لأبي زهير المديني ما العشق قال الجنون والذل وهو داء أهل الظرف ونظر عاشق إلى معشوقه فارتعدت فرائصه وغشي عليه فقيل لحكيم ما الذي أصابه فقال نظر إلى من يحبه فانفرج له قلبه فتحرك الجسم بانفراج القلب فقيل له نحن نحب أولادنا وأهلنا ولا
يصيبنا ذلك فقال تلك محبة العقل وهذه محبة الروح قال وما هو إلا أن يراها فجاءة ... فتصطك رجلاه ويسقط للجنب وقال العشق ملك مسلط على قهر النفوس وأسر القلوب قال الشاعر ملك القلوب فأصبحت في أسره ... وبودها أن لا يفك إسارها وقال أعرابي في وصفه بالقلب وثبته وبالفؤاد وجبته وبالأحشاء ناره وسائر الأعضاء خدامه فالقلب من العاشق ذاهل والدمع منه هامل والجسم منه ناحل مرور الليالي تجدده وإساءة المحبوب لا تفسده وقيل ليس هو موقوفا على الحسن والجمال وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة فيها كما قيل وما الحب من حسن ولا من ملاحة ... ولكنه شيء به الروح تكلف وقيل أول العشق عناء وأوسطه سقم وآخره قتل كما قال ابن الفارض رحمه الله هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل وعش خاليا فالحب أوله عنى ... وأوسطه سقم وآخره قتل
الباب الحادي عشر في العشق هل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه فنقول اختلف الناس في العشق هل هو اختياري أو اضطراري خارج عن مقدور البشر فقالت فرقة هو اضطراري وليس باختياري قالوا وهو بمنزلة محبة الظمآن للماء البارد والجائع للطعام وهذا مما لا يملك قال بعضهم والله لو كان لي من الأمر شيء ما عذبت عاشقا لأن ذنوب العشاق اضطرارية فإذا كان هذا قوله فيما تولد عن العشق من فعل اختياري فما الظن بالعشق نفسه وقال أبو محمد بن حزم قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها فقال عمر ذاك مما لا يملك وقال كامل في سلمى يلومونني في حب سلمى كأنما ... يرون الهوى شيئا تيممته عمدا ألا إنما الحب الذي صدع الحشا ... قضاء من الرحمن يبلو به العبدا وقال التميمي في كتاب امتزاج الأرواح سئل بعض الأطباء عن العشق فقال إن وقوعه بأهله ليس باختيار منهم ولا بحرصهم عليه ولا لذة لأكثرهم فيه ولكن وقوعه بهم كوقوع العلل المدنفة والأمراض المتلفة لا فرق بينه وبين ذلك وقال المدائني لام رجل رجلا من أهل الهوى فقال لو صح لذي هوى اختيار لاختار أن لا يهوى ويدل على ذلك من السنة ما رواه
البخاري في صحيحه من قصة بريرة أن زوجها كان يمشي خلفها بعد فراقها له وقد صارت أجنبية منه ودموعه تسيل على خديه فقال النبي يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا ثم قال لها لو راجعتيه فقالت أتأمرني فقال إنما أنا شافع قالت لا حاجة لي فيه ولم ينهه عن عشقها في هذه الحال إذ ذلك شيء لا يملك ولا يدخل تحت الاختيار وقال جامع سألت سعيد بن المسيب مفتي ال ... مدينة هل في حب دهماء من وزر فقال سعيد بن المسيب إنما ... يلام على ما يستطاع من الأمر قالوا والعشق نوع من العذاب والعاقل لا يختار عذاب نفسه وفي هذا قال المؤمل شف المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر يكفي المحبين في الدنيا عذابهم ... والله لا عذبتهم بعدها سقر فيقال إنه عمي بعد هذا وقال آخر ليس الهوى إلى الرأي فيملكه ولا إلى العقل فيدركه ثم أنشد ليس خطب الهوى بخطب يسير ... لا ينبيك عنه مثل خبير ليس أمر الهوى يدبر بالرأ ... ي ولا بالقياس والتفكير إنما الأمر في الهوى خطرات ... محدثات الأمور بعد الأمور وقال القاضي أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن سلمان النوقاتي في كتابه
محنة الظراف العشاق معذورون على الأحوال إذ العشق إنما دهاهم عن غير اختيار بل اعتراهم عن جبر واضطرار والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور لا على المقضي عليه والمقدور فقد قيل إن الحامل كانت ترى يوسف E فتضع حملها فكيف ترى هذه وضعته أباختيار كان ذلك أم باضطرار قال غيره وهؤلاء النسوة قطعن أيديهن لما بدا لهن حسن يوسف عليه السلام وما تمكن حبه من قلوبهن فكيف لو شغفن حبا وكان مصعب بن الزبير إذا رأته المرأة حاضت لحسنه وجماله قال فيه الشاعر إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء ومن هاهنا أخذ أحمد بن الحسين الكندي المتنبي قوله تق الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق فإذا كان هذا من مجرد الرؤية فكيف بالمحبة التي لا تملك وقال هشام ابن عروة عن أبيه مات بالمدينة عاشق فصلى عليه زيد بن ثابت فقيل له في ذلك فقال إني رحمته ورؤي أبو السائب المخزومي وكان من العلم والدين بمكان متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول اللهم ارحم العاشقين وقو قلوبهم واعطف عليهم قلوب المعشوقين فقيل له في ذلك فقال والله للدعاء لهم أفضل من عمرة من الجعرانة ثم أنشد يا هجر كف عن الهوى ودع الهوى ... للعاشقين يطيب يا هجر ماذا تريد من الذين جفونهم ... قرحى وحشو قلوبهم جمر
متبلدين من الهوى ألوانهم ... مما تجن قلوبهم صفر وسوابق العبرات فوق خدودهم ... درر تفيض كأنها قطر ويذكر أن النبي مر بجارية تتغنى هل علي ويحكما ... إن هويت من حرج فتبسم وقال لا حرج إن شاء الله قالوا وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به بالعشق وهذا لم يريدوا به التخصيص وإنما أرادوا به التمثيل وأن العشق من تحميل مالا يطاق والمراد بالتحميل هاهنا التحميل القدري لا الشرعي الأمري قالوا وقد رأينا جماعة من العشاق يطوفون على من يدعو لهم أن يعافيهم الله من العشق ولو كان اختيارا لأزالوه عن نفوسهم ومن هاهنا يتبين خطأ كثير من العاذلين وعذلهم في هذه الحال بمنزلة عذل المريض في مرضه قال
يا عاذلي والأمر في يده ... هلا عذلت وفي يدي الأمر وإنما ينبغي العذل قبل تعلق هذا الداء بالقلب كما قيل فيه يذكرني حم ولرمح شاجر ... فهلا تلاحم قبل التقدم وقالت فرقة أخرى بل اختياري تابع لهوى النفس وإرادتها بل هو استحكام الهوى الذي مدح الله من نهى عنه نفسه فقال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى فمحال أن ينهى الإنسان نفسه عما لا يدخل تحت قدرته قالوا والعشق حركة اختيارية للنفس إلى نحو محبوبها وليس بمنزلةالحركات الاضطرارية التي لا تدخل تحت قدرة العبد قالوا وقد ذم الله سبحانه وتعالى أصحاب المحبة الفاسدة الذين يحبون من دونه أندادا ولو كانت المحبة اضطرارية لما ذموا على ذلك قالوا ولأن المحبة إرادة قوية والعبد يحمد ويذم على إرادته ولهذا يحمد مريد الخير وإن لم يفعله ويذم مريد الشر وإن لم يفعله وقد ذم الله الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأخبر أن لهم عذابا أليما ولو كانت المحبة لا تملك لم يتوعدهم بالعذاب على
ما لا يدخل تحت قدرتهم قالوا والعقلاء قاطبة مطبقون على لوم من يحب ما يتضرر بمحبته وهذا فطرة فطر الله عليها الخلق فلو اعتذر بأني لا أملك قلبي لم يقبلوا له عذرا فصل وفصل النزاع بين الفريقين أن مبادىء العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف فإن النظر والتفكر والتعرض للمحبة أمر اختياري فإذا أتى بالأسباب كان ترتب المسبب عليها بغير اختياره كما قيل تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق تمنى الإقالة من ذنبه ... فلم يستطعها ولم يستطق وهذا بمنزلة السكر من شرب الخمر فإن تناول المسكر اختياري وما يتولد عنه السكر اضطراري فمتى كان السبب واقعا باختياره لم يكن معذورا فيما تولد عنه بغير اختياره فمتى كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا ولا ريب أن متابعة النظر واستدامة الفكر بمنزلة شرب المسكر فهو يلام على السبب ولهذا إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يلم عليه صاحبه كمن كان يعشق امرأته أو جاريته ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يلام على ذلك كما تقدم في قصة بريرة ومغيث وكذلك إذا نظر نظرة فجاءة ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره على أن عليه مدافعته وصرفه
عن قلبه بضده فإذا جاء أمر يغلبه فهناك لا يلام بعد بذل الجهد في دفعه ومما يبين ما قلناه أن سكر العشق أعظم من سكر الخمر كما قال الله تعالى عن عشاق الصور من قوم لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون وإذا كان أدنى السكرين لا يعذر صاحبه إذا تعاطى أسبابه فكيف يعذر صاحب السكر الأقوى مع تعاطي أسبابه وإذ قد وصلنا إلى هذا الموضع فلنذكر بابا في سكرة الحب وسببها
الباب الثاني عشر في سكرة العشاق ولا بد قبل الخوض في ذلك من بيان حقيقة السكر وسببه وتولده فنقول السكر لذة يغيب معها العقل الذي يعلم به القول ويحصل معه التمييز قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فجعل الغاية التي يزول بها حكم السكران أن يعلم ما يقول فمتى لم يعلم ما يقول فهو في السكر وإذا علم ما يقول خرج عن حكمه وهذا هو حد السكران عند جمهور أهل العلم قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بماذا يعلم أنه سكران فقال إذا لم يعرف ثوبه من ثوب غيره ونعله من نعل غيره ويذكر عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال إذااختلط كلامه المنظوم وأفشى سره المكتوم وقال محمد بن داود الأصفهاني إذا عزبت عنه الهموم وباح بسره المكتوم فالسكر يجمع معنيين وجود لذة وعدم تمييز والذي يقصد السكر قد يقصد أحدهما وقد يقصد كليهما فإن النفس لها هوى وشهوات تلتذ بإدراكها والعلم بما في تلك اللذات من المفاسد العاجلة والآجلة يمنعها من تناولها والعقل يأمرها بأن لا تفعل فإذا زال العقل الآمر والعلم الكاشف انبسطت النفس في هواها وصادفت مجالا واسعا وحرم الله سبحانه وتعالى السكر لشيئين ذكرهما في كتابه من قوله
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون فأخبر الله سبحانه أنه يوجب المفسدة الناشئة من النفس بواسطة زوال العقل ويمنع المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل وقد يكون سبب السكر ألما كما يكون لذة قال الله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد وقد يكون سببه قوة الفرح بإدراك المحبوب بحيث يختلط كلامه وتتغير أفعاله بحيث يزول عقله وربما قتله الفرح بسبب طبيعي وهو انبساط دم القلب انبساطا خارجا عن العادة والدم حامل الحار الغريزي فيبرد القلب بسبب انبساط دمه فيحدث الموت وقد جرى هذا لأحمد بن طولون أمير مصر فإنه مر بصياد في يوم بارد وعنده بني له فرق عليهما وأمر غلامه أن يدفع إليه ما معه من الذهب فصبه في حجره ومضى فاشتد فرحه به فلم يحمل ما ورد عليه من الفرح فقضى مكانه فعاد الأمير من شأنه فوجد الرجل ميتا والصبي يبكي عند رأسه فقال من قتله فقال مر بنا رجل لا جزاه الله خيرا فصب في حجر أبي شيئا فقتله مكانه فقال الأمير صدق نحن قتلناه أتاه الغنى وهلة
واحدة فعجز عن احتماله فقتله ولو أعطيناه ذلك بالتدريج لم يقتله فحرض الصبي على أن يأخذ الذهب فأبى وقال والله لا أمسك شيئا قتلي أبي والمقصود أن السكر يوجب اللذة ويمنع العلم فمنه السكر بالأطعمة والأشربة فإن صاحبها يحصل له لذة وسرور بها يحمله على تناولها لأنها تغيب عنه عقله فتغيب عن الهموم والغموم والأحزان تلك الساعة ولكن يغلط في ذلك فإنها لا تزول ولكن تتوارى فإذا صحا عادت أعظم ما كانت وأوفره فيدعوه عودها إلى العود كما قال الشاعر وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها ومن الناس من يقصد بها منفعة البدن وهو غالط فإنه يترتب عليها من المضرة المتولدة عن السكر ما هو أعظم من تلك المنفعة بكثير واللذة الحاصلة بذكر الله والصلاة عاجلا وآجلا أعظم وأبقى وأدفع للهموم والغموم والأحزان وتلك اللذة أجلب شيء للهموم والغموم عاجلا وآجلا ففي لذة ذكر الله والإقبال عليه والصلاة بالقلب والبدن من المنفعة الشريفةالعظيمة السالمة عن المفاسد الدافعة للمضار غنى وعوض للإنسان الذي هو إنسان عن تلك اللذة الناقصة القاصرة المانعة لما هو أكمل منها الجالبة لألم أعظم منها
فصل ومن أسباب السكر حب الصور فإنه إذا استحكم الحب وقوي أسكر المحب وأشعارهم بذلك مشهورة كثيرة ولا سيما إذا اتصل الجماع بذلك الحب فإن صاحبه ينقص تمييزه أو يعدم في تلك الحالة بحيث لا يميز فإن انضاف إلى ذلك السكر سكر الشراب بحيث يجتمع عليه سكر الهوى وسكر الخمر وسكر لذة الجماع فذلك غاية السكر ومنه ما يكون سببه حب المال والرئاسة وقوة الغضب فإن الغضب إذا قوي أوجب سكرا يقرب من سكر الخمر ويدخل ذلك في الإغلاق الذي أبطل النبي وقوع الطلاق فيه بقوله لا طلاق في إغلاق رواه أبو داود وقال أظنه الغضب وفسره الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أيضا بالغضب ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم قال السلف في تفسيرها هو الرجل يدعو على نفسه وأهله في وقت الغضب من غير إرادة منه لذلك فلو استجاب الله دعاءه لأهلكه وأهلك من دعا عليه ولكن لرحمته لما علم أن الحامل له على ذلك سكر الغضب لا يجيب دعاءه ومن هذا قول الواجد لراحلته بعد يأسه منها وإيقانه بالهلاك اللهم أنت
عبدي وأنا ربك قال رسول الله أخطأ من شدة الفرح ولم يكن بذلك كافرا لعدم قصده وذكر النبي ذلك تحقيقا لشدة الفرح الذي أفضى به إلى ذلك وإنما كانت هذه الأشياء قد توجب السكر لأن السكر سببه ما يوجب اللذة القاهرة التي تغمر العقل وسبب اللذة إدراك المحبوب فإذا كانت المحبة قوية وإدراك المحبوب قويا والعقل ضعيفا حدث السكر لكن ضعف العقل يكون تارة من ضعف المحبة وتارة من قوة السبب الوارد ولهذا يحصل السكر للمبتدئين في إدراك الرئاسة والمال والعشق والخمر مالا يحصل لمن اعتاد ذلك وتمكن فيه فصل ومن أقوى أسباب السكر الموجبة له سماع الأصوات المطربة من جهتين من جهة أنها في نفسها توجب لذة قوية ينغمر معها العقل ومن جهة أنها تحرم النفس إلى نحو محبوبها كائنا ما كان فيحصل بتلك الحركة الشوق والطلب مع التخيل للمحبوب وإدناء صورته إلى القلب واستيلائها على الفكرة لذة عظيمة تقهر العقل فتجتمع لذة الألحان ولذة الأشجان ولهذا يقرن المعنيون بهذه اللذات سماع الألحان بالشراب كثيرا ليكمل لهم السكر بالشراب والعشق والصوت المطرب فيجدون من لذة الوصال وسكره في هذه الحال مالا يجدونه بدونها فالخمر شراب النفوس والألحان شراب الأرواح ولا سيما إذا اقترن بها من الأقوال ما فيه ذكر المحبوب ووصف حال المحب على مقتضىالحال التي
هو فيها فيجتمع سماع الأصوات الطيبة وإدراك المعاني المناسبة وذلك أقوى بكثير من اللذة الحاصلة بكل واحد منها على انفراده فتستولي اللذة على النفس والروح والبدن أتم استيلاء فيحدث غاية السكر فكيف يدعى العذر من تعاطى هذه الأسباب ويقول إن ما تولد عنها اضطراري غير اختياري وبالله التوفيق
الباب الثالث عشر في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان فكلما قويت المحبة قويت اللذة بإدراك المحبوب وهذا الباب من أجل أبواب الكتاب وأنفعها ونذكر فيه بيان معرفة اللذة وأقسامها ومراتبها فنقول أما اللذة ففسرت بأنها إدراك الملائم كما أن الألم إدراك المنافي قال شيخنا والصواب أن يقال إدراك الملائم سبب اللذة وإدراك المنافي سبب الألم فاللذة والألم ينشآن عن إدراك الملائم والمنافي والإدراك سبب لهما واللذة أظهر من كل ما تعرف به فإنها أمر وجداني وإنما تعرف بأسبابها وأحكامها واللذة والبهجة والسرور وقرة العين وطيب النفس والنعيم ألفاظ متقاربة المعنى وهي أمر مطلوب في الجملة بل ذلك مقصود كل حي وذلك أمر ضروري من وجوده وذلك في القاصد والغايات بمنزلة الحس والعلوم البديهية في المبادىء والمقدمات فإن كل حي له علم وإحساس وله عمل وإرادة وعلم الإنسان لا يجوز أن يكون كله نظريا استدلاليا لاستحالة الدور والتسلسل بل لا بد له من علم أوله بديهي يبده النفس ويبتدىء فيها فلذلك يسمى بديهيا وأوليا وهو من نوع ما تضطر إليه النفس ويسمى ضروريا فإن النفس تضطر إلى العلم تارة إلى العمل أخرى وكذلك العمل الاختياري المرادي له مراد فذلك المراد إما أن يراد لنفسه أو لشيء آخر ولا يجوز أن يكون كل مراد مرادا لغيره حذرا من الدور والتسلسل فلا بد من مراد مطلوب محبوب لنفسه فإذا حصل المطلوب المراد المحبوب فاقتران اللذة
والنعمة والفرح والسرور وقرة العين به على قدر قوة محبته وإرادته والرغبة فيه وذلك أمر ذوقي وجدي ولهذا يغلب على أهل الإرادة والعمل من السالكين اسم الذوق والوجد لما في وجود المراد المطلوب من الذوق والوجد الموجب للفرح والسرور والنعيم فهاهنا ثلاثة أنواع من الأسماء متقاربة المعاني أحدها الشهوة والإرادة والميل والطلب والمحبة والرغبة ونحوها الثاني الذوق والوجد والوصول والظفر والإدراك والحصول والنيل ونحوها الثالث اللذة والفرح والنعيم والسرور وطيب النفس وقرة العين ونحوها وهذه الأمور الثلاثة متلازم فصل وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي إنما تذم إذا أعقبت ألما أعظم منها أو منعت لذة خيرا منها وتحمد إذا أعانت على اللذة الدائمة المستقرة وهي لذة الدار الآخرة ونعيمها الذي هو أفضل نعيم وأجله كما قال الله تعالى ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون وقال تعالى للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين وقال تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون وقال العارفون بتفاوت ما بين الأمرين لفرعون
فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى والله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لدار القرار وجعل اللذة كلها بأسرها فيها كما قال الله تعالى وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقال تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وقال النبي يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعتم أي غير ما اطلعتم عليه وهذا هو الذي قصده الناصح لقومه الشفيق عليهم حيث قال يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار فأخبرهم أن الدنيا متاع يتمتع بها إلى غيرها والآخرة هي المستقر والغاية فصل وإذا عرف أن لذات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذات الدار الآخرة ولذلك خلقت كما قال النبي الدنيا متاع وخير متاع
الدنيا المرأة الصالحة فكل لذة أعانت على لذات الدار الآخرة فهي محبوبة مرضية للرب تعالى فصاحبها يلتذ بها من وجهين من جهة تنعمه وقرة عينه بها ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة ربه وإفضائها إلى لذة أكمل منها فهذه هي اللذة التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها لا اللذة التي تعقبه غاية الألم وتفوت عليه أعظم اللذات ولهذا يثاب المؤمن على كل ما يلتذ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إلى لذة الآخرة ونعيمها فلا نسبة بين لذة صاحب الزوجة أو الأمة الجميلة التي يحبها وعينه قد قرت بها فإنه إذا باشرها والتذ قلبه وبدنه ونفسه بوصالها أثيب على تلك اللذة في مقابلة عقوبة صاحب اللذة المحرمة على لذته كما قال النبي وفي بضع أحدكم أجر قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر قالوا نعم قال فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر واعلم أن هذه اللذة تتضاعف وتتزايد بحسب ما عند العبد من الإقبال على الله وإخلاص العمل له والرغبة في الدار الآخرة فإن الشهوة والإرادة المنقسمة في الصور اجتمعت له في صورة واحدة والخوف والهم والغم الذي في اللذة المحرمة معدوم في لذته فإذا اتفق له مع هذا صورة جميلة ورزق حبها ورزقت حبه وانصرفت دواعي شهوته إليها وقصرت بصره عن
النظر إلى سواها ونفسه عن التطلع إلى غيرها فلا مناسبة بين لذته ولذة صاحب الصورة المحرمة وهذا أطيب نعيم ينال من الدنيا وجعله النبي ثالث ثلاثة بها ينال خير الدنيا والآخرة وهي قلب شاكر ولسان ذاكر وزوجة حسناء إن نظر إليها سرته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله فالله المستعان وقال القاسم بن عبدالرحمن كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقرأ القرآن فإذا فرغ قال أين العزاب فيقول ادنوا مني ثم قولوا اللهم ارزقني امرأة إذا نظرت إليها ! سرتني وإذا أمرتها أطاعتني وإذا غبت عنها حفظت غيبتي في نفسها ومالي والألم والحزن والهم والغم ينشأ من عدم العلم بالمحبوب النافع أو من عدم إرادته وإيثاره مع العلم به أو من عدم إدراكه والظفر به مع محبته وإرادته وهذا من أعظم الألم ولهذا يكون ألم الإنسان في البرزخ وفي دار الحيوان بفوات محبوبه أعظم من ألمه بفواته في الدنيا من ثلاثة أوجه أحدها معرفته هناك بكمال ما فاته ومقداره الثاني شدة حاجته إليه وشوق نفسه إليه مع أنه قد حيل بينه وبينه كما قال الله تعالى وحيل بينهم وبين ما يشتهون الثالث حصول ضده المؤلم له فليتأمل العاقل هذا الموضع ولينزل نفسه منزلة من قد فاته أعظم محبوب وأنفعه وهو أفقر شيىء وأحوجه إليه فواتا لا يرجى تداركه وحصل على ضده فيا لها من مصيبة ما أوجعها وحالة ما أفظعها
فأين هذه الحال من حالة من يلتذ في الدنيا بكل ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى من الأكل والشرب واللباس والنكاح وشفاء الغيظ بقهر العدو وجهاد في سبيله فضلا عما يلتذ به من معرفة ربه وحبه له وتوحيده والإثابة إليه والتوكل عليه والإقبال عليه وإخلاص العمل له والرضا به وعنه والتفويض إليه وفرح القلب وسروره بقربه والأنس به والشوق إلى لقائه كما في الحديث الذي صححه ابن حبان والحاكم وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وهذه اللذة لا تزال في الدنيا في زيادة مع تنقيصها بالعدو الباطن من الشيطان والهوى والنفس والدنيا والعدو الظاهر فكيف إذا تجردت الروح وفارقت دار الأحزان والآفات واتصلت بالرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما فإذا أفضى إلى دار النعيم فهنا لك من أنواع اللذة والبهجة والسرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فبؤسا وتعسا للنفوس الوضيعة الدنيئة التي لا يهزها الشوق إلى ذلك طربا ولا تتقد نار إرادتها لذلك رغبا ولا تعبد عما يصد عن ذلك رهبا فبصائرها كما قيل خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ولاءمها قطع من الليل مظلم تجول حول الحش إذا جالت النفوس العلوية حول العرش وتندس في الأحجار إذا طارت النفوس الزكية إلى أعلى الأوكار
فلم تر أمثال الرجال تفاوتوا ... إلى الفضل حتى عد ألف بواحد فصل وكل لذة أعقبت ألما أو منعت لذة أكمل منها فليست بلذة في الحقيقة وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها فأي لذة لآكل طعام شهي مسموم يقطع أمعاءه عن قريب وهذه هي لذات الكفار والفساق بعلوهم في الأرض وفسادهم وفرحهم فيها بغير الحق ومرحهم وذلك مثل لذة العين اتخذوا من دون الله أولياء يحبونهم كحب الله فنالوا بهم مودة بينهم في الحياة الدنيا ثم استحالت تلك اللذة أعظم ألم وأمره ومن ذلك لذة العقائد الفاسدة والفرح بها ولذة غلبة أهل الجور والظلم والعدوان والزنى والسرقة وشرب المسكرات وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لم يمكنهم من ذلك لخير يريده بهم إنما هو استدراج منه لينيلهم به أعظم الألم قال الله تعالى أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون فصل وأما اللذة التي لا تعقب ألما في دار القرار ولا توصل إلى لذة هناك فهي لذة باطلة إلا لا منفعة فيها ولا مضرة وزمنها يسير ليس لتمتع النفس بها قدر وهي لا بد أن تشغل عما هو خير وأنفع منها في العاجلة والآجلة وإن لم تشغل
عن أصل اللذة في الآخرة وهذا القسم هو الذي عناه النبي بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق رواه مسلم ولهذا كانت لذة اللعب بالدف في العرس جائزة فإنها تعين على النكاح كما تعين لذة الرمي بالقوس وتأديب الفرس على الجهاد وكلاهما محبوب لله فما أعان على حصول محبوبه فهو من الحق ولهذا عد ملاعبة الرجل امرأته من الحق لإعانتها على مقاصد النكاح الذي يحبه الله سبحانه وتعالى وما لم يعن على محبوب الرب تعالى فهو باطل لا فائدة فيه ولكن إذا لم يكن فيه مضرة راجحة لم يحرم ولم ينه عنه ولكن إذا صد عن ذكر الله وعن الصلاة صار مكروها بغيضا للرب تعالى مقيتا عنده إما بأصله وإما بالتجاوز فيه وكل ما صد عن اللذة المطلوبة فهو وبال على صاحبه فإنه لو اشتغل حين مباشرته له بما ينفعه ويجلب له اللذة المطلوبة الباقية لكان خيرا له وأنفع ولما كانت النفوس الضعيفة كنفوس النساء والصبيان لا تنقاد إلى أسباب اللذة العظمى إلا بإعطائها شيئا من لذة اللهو واللعب بحيث لو فطمت عنه كل الفطام طلبت ما هو شر لها منه رخص لها من ذلك فيما لم يرخص فيه لغيرها وهذا كما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي وعنده جوار يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال هذا رجل لا يحب الباطل فأخبر أن ذلك باطل ولم يمنعهن منه لما يترتب لهن
عليه من المصلحة الراجحة ويتركن به مفسدة أرجح من مفسدته وأيضا فيحصل لهم من التألم بتركه مفسدة هي أعظم من مفسدته فتمكينهم من ذلك من باب الرحمة والشفقة والإحسان كما مكن النبي أبا عمير من اللعب بالعصفور بحضرته ومكن الجاريتين من الغناء بحضرته ومكن عائشة رضي الله عنها من النظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ومكن تلك المرأة أن تضرب على رأسه بالدف ونظائر ذلك فأين هذا من اتخاذ الشيوخ المشار إليهم المقتدى بهم ذلك دينا وطريقا مع التوسع فيه غاية التوسع بما لا ريب في تحريمه ونظير هذا إعطاء النبي المؤلفة قلوبهم من الزكاة والغنيمة لضعف قلوبهم عن قلوب الراسخين في الإيمان من أصحابه ولهذا أعطى هؤلاء ومنع هؤلاء وقال أكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغناء والخير ونظير هذا مزاحه مع من كان يمزح معه من الأعراب والصبيان والنساء تطييبا لقلوبهم واستجلابا لإيمانهم وتفريحا لهم وفي مراسيل الشعبي أن النبي مر على أصحاب الدركلة فقال خذوا يا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة ذكره أبو عبيد وقال الدركلة لعبة العجم فالنبي يبذل للنفوس من الأموال والمنافع ما يتألفها به على الحق المأمور به ويكون المبذول مما يلتذ به الآخذ ويحبه لأن ذلك وسيلة إلى غيره ولا يفعل
ذلك مع من لا يحتاج إليه كالمهاجرين والأنصار بل يبذل لهم أنواعا أخر من الإحسان إليهم والمنافع في دينهم ودنياهم ولما كان عمر نب الخطاب رضي الله عنه ممن لا يحب هذا الباطل ولا سماعه ولا يحتاج أن يتألف بما يتألف به غيره وليس مأمورا بما أمر به النبي من التأليف على الإيمان به وطاعته بكل طريق كان إعراضه عنه كمالا بالنسبة إليه وحال النبي رضي الله عنه أكمل فصل إذا عرف هذا فأقسام اللذات ثلاثة لذة جثمانية ولذة خيالية وهمية ولذة عقلية روحانية فاللذة الجثمانية لذة الأكل والشرب والجماع وهذه اللذة يشترك فيها مع الإنسان الحيوان البهيم فليس كمال الإنسان بهذه اللذة لمشاركة أنقص الحيوانات له فيها ولأنها لو كانت كمالا لكان أفضل الإنسان وأشرفهم وأكملهم أكثرهم أكلا وشربا وجماعا وأيضا لو كانت كمالا لكان نصيب رسل الله وأنبيائه وأوليائه منها في هذه الدار أكمل من نصيب أعدائه فلما كان الأمر بالضد تبين أنها ليست في نفسها كاملا وإنما تكون كما لا إذا تضمنت إعانة على اللذة الدائمة العظمى كما تقدم فصل وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرئاسة والتعاظم على الخلق والفخر والاستطالة عليهم
وهذه اللذة وإن كان طلابها أشرف نفوسا من طلاب اللذة الأولى فإن آلامها وما توجبه من المفاسد والمضار أعظم من التذاذ النفس بها فإن صاحبها منتصب لمعاداة كل من تعاظم وترأس عليه ولهذا شروط وحقوق تفوت على صاحبها كثيرا من لذاته الحسية ولا يتم إلا بتحمل مشاق وآلام أعظم منها فليست هذه في الحقيقة بلذة وإن فرحت بها النفس وسرت بحصولها وقد قيل إنه لا حقيقة للذة في الدنيا وإنما غايتها دفع آلام كما يدفع ألم الجوع والعطش وألم الشهوة بالأكل والشرب والجماع ولذلك يدفع ألم الخمول وسقوط القدر عند الناس بالرئاسة والجاه والتحقيق أن اللذة أمر وجودي يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضاد فصل وأما اللذة العقلية الروحانية فهي كلذة المعرفة والعلم والاتصاف بصفات الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر والحلم والمروءة وغيرها فإن الالتذاذ بذلك من أعظم اللذات وهو لذة النفس الفاضلة العلوية الشريفة فإذا انضمت اللذة بذلك إلى لذة معرفة الله تعالى ومحبته وعبادته وحده لا شريك له والرضا به عوضا عن كل شيء ولا يتعوض بغيره عنه فصاحب هذه اللذة في جنة عاجلة نسبتها إلى لذات الدنيا كنسبة لذة الجنة إلى لذة الدنيا فإنه ليس للقلب والروح ألذ ولا أطيب ولا أحلى ولا أنعم من محبة الله والإقبال عليه وعبادته وحده وقرة العين به والأنس بقربه والشوق إلى لقائه ورؤيته وإن مثقال ذرة من هذه اللذة لا يعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا ولذلك كان مثقال ذرة من إيمان بالله ورسوله يخلص من الخلود في دار الآلام
فكيف بالإيمان الذي يمنع دخولها قال بعض العارفين من قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ويكفي في فضل هذه اللذة وشرفها أنها تخرج من القلب ألم الحسرة على ما يفوت من هذه الدنيا حتى إنه ليتألم بأعظم ما يلتذ به أهلها ويفر منه فرارهم من المؤلم وهذا موضع الحاكم فيه الذوق لا مجرد لسان العلم وكان بعض العارفين يقول مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها فيقال له وما هو فيقول محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه ومعرفة أسمائه وصفاته وقال آخر أطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته وألذ ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه بلا واسطة وقال آخر والله إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي عيش طيب وأنت ترى محبة من في محبته عذاب القلب والروح كيف توجب لصاحبها لذة يتمنى أنه لا يفارقه حبه كما قال شاعر الحماسة تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي قالت رابعة شغلوا قلوبهم بحب الدنيا عن الله ولو تركوها لجالت في الملكوت ثم رجعت إليهم بطرائف الفوائد وقال سلم الخواص تركتموه وأقبل بعضكم على بعض ولو أقبلتم عليه لرأيتم العجائب وقالت امرأة من
العابدات لو طالعت قلوب المؤمنين بفكرها ما ذخر لها في حجب الغيوب من خير الآخرة لم يصف لها في الدنيا عيش ولم تقر لها في الدنيا عين وقال بعض المحبين إن حبه تعالى شغل قلوب محبيه عن التلذذ بمحبة غيره فليس لهم في الدنيا مع حبه تعالى لذة تداني محبته ولا يؤملون في الآخرة من كرامة الثواب أكبر عندهم من النظر إلى وجه محبوبهم وقال بعض السلف ما من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما من اللذة والنعيم مالا خطر له مما وعد به من لا أصدق منه حديثا وإذا أراد به غير ذلك تركه على ما هو عليه ثم قرأ أم على قلوب أقفالها ولو لم يكن للقلب المشتغل بمحبة غير الله المعرض عن ذكره العقوبة إلا صدؤه وقسوته وتعطيله عما خلق له لكفى بذلك عقوبة وقد روى عبدالعزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل يا رسول الله فما جلاؤها قال تلاوة القرآن وقال بعض العارفين إن الحديد إذا لم يستعمل غشيه الصدأ حتى يفسده كذلك القلب إذا عطل من حب الله والشوق إليه وذكره غلبه الجهل حتى يميته ويهلكه وقال رجل للحسن يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه بالذكر وأبعد القلوب من الله القلب القاسي ولا يذهب قساوته إلا حب مقلق أو خوف مزعج فإن قيل ما السبب الذي لأجله يلتذ المحب بحبه وإن لم
يظفر بحبيبه قيل الحب يوجب حركة النفس وشدة طلبها والنفس خلقت متحركة بالطبع كحركة النار فالحب حركتها الطبيعية فكل من أحب شيئا من الأشياء وجد في حبه لذة وروحا فإذا خلا عن الحب مطلقا تعطلت النفس عن حركتها وثقلت وكسلت وفارقها خفة النشاط ولهذا تجد الكسالى أكثر الناس هما وغما وحزنا ليس لهم فرح ولا سرور بخلافأرباب النشاط والجد في العمل أي عمل كان فإن كان النشاط في عمل هم عالمون بحسن عواقبه وحلاوة غايته كان التذاذهم بحبه ونشاطهم فيه أقوى وبالله التوفيق
الباب الرابع عشر فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه هذا موضع انقسم الناس فيه قسمين وربما كان الشخص الواحد فيه مجموع الحالتين فقسم مدحوا العشق وتمنوه ورغبوا فيه وزعموا أن من لم يذق طعمه لم يذق طعم العيش قالوا وقد تبين أن كمال اللذة تابع لكمال الحب فأعظم الناس لذة بالشيء أكثرهم محبة له وقد تقدم بقريره قالوا وقد حبب الله سبحانه وتعالى إلى رسله وأنبيائه نساءهم وسراريهم فكان آدم أبو البشر شديد المحبة لحواء وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق زوجته منه ليسكن إليها قالوا وحبه لها هو الذي حمله على موافقتها في الأكل من الشجرة قالوا وأول حب كان في هذا العالم حب آدم لحواء وصار ذلك سنة في ولده في المحبة بين الزوجين قالوا وهذا داود من محبته للنساء جمع بين مائة امرأة وكذلك ابنه سليمان قالوا وقد عاب اليهود عليهم لعائن الله رسول الله محبة النساء وكثرة تزوجه فأنزل الله سبحانه وتعالى ذبا عن رسوله وإخبارا بأن ذلك من فضله وإنعامه عليه أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما قالوا وقد كان عند إبراهيم خليل الرحمن أجمل النساء سارة ثم تسرى بهاجر وكانت المحبة لها قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان إبراهيم الخليل يحب سريته هاجر محبة
شديدة وكان يزورها في كل يوم على البراق من الشام من شغفه بها قال الخرائطي حدثنا نصر بن داود حدثنا الواقدي عن محمد بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن عامر عن سعد عن أبيه فذكره وقد ثبت في الصحيح من حديث الشعبي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال بعثني رسول الله على جيش وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلما رجعت قلت يا رسول الله من أحب الناس إليك قال وما تريد قلت أحب أن أعلم قال عائشة قلت إنما أعني من الرجال قال أبوها وذكر مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن عمته عن عائشة أن فاطمة رضي الله عنهم ذكرتها عند النبي فقال لها يا بنية إنها حبيبة أبيك وأصل الحديث في الصحيح من حديث الليث عن ابن شهاب عن محمد ابن عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت أرسل أزواج النبي فاطمة بنت النبي إليه فدخلت وهو مضطجع معي في مرطي فقالت يا رسول الله إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة وأنا ساكنة فقال لها رسول الله ألست تحبين ما أحب قالت بلى قال فأحبي هذه وثبت في الصحيح من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل
ويقول اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يريد أنه يطيق العدل بينهن في النفقة عليهن والقسم بينهن وأما التسوية بينهن في المحبة فليست إليه ولا يملكها وقال ابن سيرين سألت عبيدة عن قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فقال يعني الحب والجماع وقال ابن عباس لا يستطيع أن يعدل بينهن في الشهوة ولو حرص وقال أبو قيس مولى عمرو بن العاص بعثني عمرو إلى أم سلمة فقال سلها أكان رسول الله يقبل أهله وهو صائم فإن قالت لا فقل لها إن عائشة رضي الله عنها حدثتنا أن رسول الله كان يقبلها وهو صائم فسألها فقالت لا فأخبرها بما قال عبدالله فقالت أم سلمة رضي الله عنها إن رسول الله كان إذا رأى عائشة رضي الله عنها لم يتمالك عنها أما أنا فلا وقال بيان الشعبي أتاني رجل فقال كل أمهات المؤمنين أحب إلا عائشة فقلت أما أنت فقد خالفت رسول الله كانت عائشة رضي الله عنها أحبهن إلى قلبه وقال مصعب بن سعد فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن عشرة آلافعشرة آلاف وزاد عائشة ألفين وقال
إنها حبيبة رسول الله وكان مسروق إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها يقول حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول رب العالمين المبرأة من فوق سبع سموات قال أبو محمد بن حزم وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كثير قال الخرائطي واشترى عبدالله بن عمر جارية رومية فكان يحبها حبا شديدا فوقعت ذات يوم عن بغلة له فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها وكانت تقول له أنت قالون تعني جيد ثم إنها هربت منه فوجد عليها وجدا شديدا وقال قد كنت أحسبني قالون فانصرفت ... فاليوم أعلم أني غير قالون وقصة مغيث وعشقه بريرة حتى إنه كان يطوف وراءها ودموعه تسيل على خديه في الصحيح وكان عروة بن أذينة شيخ مالك من العلماء الثقات الصلحاء وقفت عليه امرأة فقالت أنت الذي يقال له الرجل الصالح وأنت تقول إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد هذا بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد وكان محمد بن سيرين ينشد إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لألقيت نفسي نحوها وقضيت
وقال صالح عن ابن شهاب حدثني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن ابن مسعود رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول الله في قريب من ثمانين رجلا ليس فيهم إلا قرشي والله ما رأيت صفحة وجوه قط أحسن من وجوههم يومئذ قال فذكروا النساء فتحدثوا فيهن وتحدثت معهم حتى أحببت أن نسكت قالوا ولولا لطافة الحب ولذته ما تمناه المتمنون وقال شاعر الحماسة تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي قالوا والعشق المباح مما يؤجر عليه العاشق كما قال شريك بن عبدالله وقد سئل عن العشاق فقال أشدهم حبا أعظمهم أجرا وصدق والله إذا كان المعشوق ممن يحب الله للعاشق قربه ووصله وقالت امرأة لن يقبل الله من معشوقه عملا ... يوما وعاشقها لهفان مهجور ليست بمأجورة في قتل عاشقها ... لكن عاشقها في ذاك مأجور ونحن نقول متى باتت مهاجرة لفراش عاشقها الذي هو بعلها لعنتها الملائكة حتى تصبح قالوا والعشق يصفي العقل ويذهب الهم ويبعث على حسن اللباس وطيب المطعم ومكارم الأخلاق ويعلي الهمة ويحمل على طيب الرائحة وكرم العشرة وحفظ الأدب والمروءة وهو بلاء الصالحين ومحنة العابدين وهو ميزان العقول وجلاء الأذهان وهو خلق الكرام كما قيل وما أحببتها فحشا ولكن ... رأيت الحب أخلاق الكرام قالوا وأرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم رقيقة ضعيفة وأزواجهم
بطيئة الانقياد لمن قادها حاشا سكنها الذي سكنت إليه وعقدت حبها عليه وكلامهم ومنادمتهم تزيد في العقول وتحرك النفوس وتطرب الأرواح وتلهو بأخبارهم أولو الألباب فأحاديث العشاق زينة مجالسهم وروح محادثتهم ويكفي أن يكون الأعرابي الذي لا يذكر مع الملوك ولا مع الشجعان الأبطال يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء ومن دونهم وتدون أخباره وتروى أشعاره ويبقى له العشق ذكرا مخلدا ولولا العشق لم يذكر له اسم ولم يرفع له رأس وقال بعض العقلاء العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان إن تركته ضرك وإن أكثرت منه قتلك وقال ابن عبدالبر في كتابه بهجة المجالس وجد في صحيف لبعض أهل الهند العشق ارتياح جعل في الروح وهو معنى تنتجه النجوم في مطارح شعاعها ويتولد في الطباع بوصلة أشكالها وتقبله الروح بلطيف جوهرها وهو يعد جلاء القلوب وصيقل الأذهان ما لم يفرط فإذا أفرط صار سقما قاتلا ومرضا منهكا لا تنفذ فيه الآراء ولا تنجع فيه الحيل والعلاج منه زيادة فيه وقال أعرابي هو أنيس النفس ومحادث العقل تجنه الضمائر وتخدمه الجوارح وقال عبدالله بن طاهر أمير خراسان لولده اعشقوا تظرفوا وعفوا تشرفوا وقال قدامة وصفه بعض البلغاء فقال يشجع الجبان ويسخي البخيل ويصفي ذهن البليد ويفصح لسان العيي ويبعث حزم العاجز
ويذل له عز الملوك وتصدع له صولة الشجاع وهو داعية الأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن وتستخرج به دقائق المكايد والحيل وإليه تستروح الهمم وتسكن نوافر الأخلاق والشيم يمتع جليسه ويؤنس أليفه وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب وقيل لبعض الرؤساء ابنك قد عشق فقال الحمد لله الآن رقت حواشيه ولطفت معانيه وملحت إشاراته وظرفت حركاته وحسنت عباراته وجادت رسائله وحلت شمائله فواظب على المليح واجتنب القبيح وقيل لآخر ذلك فقال إذا عشق لطف وظرف ودق ورق وقيل لبعضهم متى يكون الفتى بليعا قال إذا صنف كتابا أو وصف هوى أو حبيبا وقيل لسعيد بن أسلم إن ابنك شرع في الرقيق من الشعر فقال دعوه يظرف وينظف ويلطف وقال العباس بن الأحنف وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ... ولا خير فيمن لا يحب ويعشق وقال الحسين بن مطير إن الغواني جنة ريحانها ... نضر الحياة فأين عنها نعزف لولا ملاحتهن ما كانت لنا ... دنيا نلذ بها ولا نتصرف وقال غيره ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ... وأنت وحيد مفرد غير عاشق وقال آخر هل العيش إلا أن تروح وتغتدي ... وأنت بكأس العشق في الناس نشوان
وقال العطوي ما دنت بالحب إلا ... والحب دين الكرام وقال آخر نظرت إليها نظرة فهويتها ... ومن ذا له عقل سليم ولا يهوى وقال آخر وما سرني أني خلي من الهوى ... ولو أن لي ما بين شرق ومغرب وقال آخر وما تلفت إلا من العشق مهجتي ... وهل طاب عيش لامرئ غير عاشق وقال آخر ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب وقال الكميت ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق ألعشق فيه حلاوة ومرارة ... فاسأل بذلك من تطعم أو ذوق وقال آخر وما طابت الدنيا بغير محبة ... وأي نعيم لامرئ غير عاشق وقال آخر أسكن إلى سكن تلذ بحبه ... ذهب الزمان وأنت خال مفرد وقال آخر إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعير في الفلاة سواء وقال آخر إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وقال آخر إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فقم فاعتلف تبنا فأنت حمار وقال آخر إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء وقال الأقرع بن معاذ ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيبا ولا وافى إليك حبيب وقال آخر وما ذاق طعم العيش من لم يكن له ... حبيب إليه يطمئن ويسكن وقال علي بن أبي كثير لابن أبي الزرقاء هل عشقت قط حتى تكاتب وتراسل وتواعد قال لا فقال لا يجيء منك شيء وكان لبعض الملوك ولد واحد ساقط الهمة دنيء النفس فاتر فأراد أن يرشحه للملك فسلط عليه الجواري والقيان فعشق منهن واحدة فأعلم بذلك الملك فسر وأرسل إلى المعشوقة أن تجني عليه وقولي إني لا أصلح إلا لملك أو عالم فلما قالت له ذلك أخذ في التعلم وما عليه الملوك من أدوات الملك حتى برع في ذلك وقال المرزباني سئل أبو نوفل هل يسلم أحد من العشق فقال نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دمائة أهل الحجاز وظرف أهل العراق فهيهات وقال علي بن عبدة لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة ناقصا أو منقوص الهمة أو على خلاف تركيب الاعتدال
قالوا ولا يكمل أحد قط إلا من عشقه لأهل الكمال وتشبه بهم فالعالم يبلغ في العلم بحسب عشقه له وكذلك صاحب كل صناعة وحرفة ويكفي أن العاشق يرتاح لكريم الأخلاق والأفعال والشيم لتحمد شمائله عند معشوقه كما قال ويرتاح للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله وقال أبو المنجاب رأيت في الطواف فتى نحيف الجسم بين الضعف يلوذ ويتعوذ ويقول وددت بأن الحب يجمع كله ... فيقذف في قلبي وينغلق الصدر فلا ينقضي ما في فؤادي من الهوى ... ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر فقلت يا فتى أما لهذه البنية حرمة تمنعك عن هذا الكلام فقال بلى والله ولكن الحب ملأ قلبي بفرح التذكر ففاضت الفكرة في سرعة الأوبة إلى من لا يشذ عنه معرفة ما بي فتمنيت المنى والله ما يسرني ما بقلبي منه ما فيه أمير المؤمنين من الملك وإني أدعو الله أن يثبته في قلبي عمري ويجعله ضجيعي في قبري دريت به أو لم أدر هذا دعائي أو انصرف من حجتي ثم بكى فقلت ما يبكيك قال خوف أن لا يستجاب دعائي وله قصدت وفيه رغبت مما يعطي الله سائر خلقه ثم مضى قالت هذه الفرقة وغاية ما يقدر في أمر العشق أنه يقتل صاحبه كما هو معروف عند جماعة من العشاق وقد قال سويد بن سعيد الحدثاني حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي
أنه قال من عشق فكتم وعف وصبر فمات فهو شهيد رواه عن سويد جماعة وقال الخطيب حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب إملاء منه حدثنا أبو عبدالله المرزباني وابن حيوية وابن شاذان قالوا حدثنا أبو عبدالله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه قال دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه فقلت له كيف تجدك فقال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت ما منعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه فقال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فأما النظر المباح فأورثني ما ترى وأما اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة قال الحاكم أبو عبدالله إنما أتعجب من هذا الحديث فإنه لم يحدث به غير سويد وهو وداود بن علي وابنه أبو بكر ثقات ثم رواه الخطيب حدثنا الأزهري حدثنا المعافى بن زكريا حدثنا قطبة بن الفضل بن إبراهيم الأنصاري حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق حدثنا سويد حدثنا ابن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا ورواه الزبير بن بكار عن عبدالملك بن عبدالعزيز بن الماجشون عن عبدالعزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي به ولفظه من عشق فعف فمات فهو شهيد رواه أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب اعتلال القلوب حدثنا أبو يوسف يعقوب بن عيسى من ولد عبدالرحمن بن عوف عن الزبير فذكره فخرج سويد
عن عهدة التفرد به على أنه لو تفرد به فهو ثقة احتج به مسلم في صحيحه وقال عبدالله بن أحمد قال لي أبي أكتب عنه حديث ضمام وقال البغوي كان حافظا وكان أحمد ينتقي لولديه عليه صالح وعبدالله فكانا يختلفان إليه وقال مسلم ثقة ثقة وقال أبو حاتم الرازي ويعقوب بن شيبة هو صدوق وأكثر ما عيب به التدليس وقد صرح هاهنا بالتحديث وعيب بأنه ذهب بصره في آخر عمره فربما أدخل عليه هذا الحديث في كتبه ولكن رواية الأكابر عنه هذا الحديث كان قبل ذهاب بصره لأنه إنما عمي في آخر عمره وليس هذا بقادح في حديثه قلت وهذا حديث باطل على رسول الله قطعا لا يشبه كلامه وقد صح عنه أنه عد الشهداء ستا فلم يذكر فيهم قتيل العشق شهيدا ولا يمكن أن يكون كل قتيل بالعشق شهيدا فإنه قد يعشق عشقا يستحق عليه العقوبة وقد أنسكر حفاظ الإسلام هذا الحديث على سويد وقد تكلم الناس فيه فقال ابن المديني ليس بشيء والضرير إذا كان عنده كتب فهو عيب شديد وقال يعقوب بن شيبة صدوق مضطرب الحفظ ولا سيما بعد ما عمي وقال البخاري كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه وقال أبو أحمد الجرجاني هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد وأنكره البيهقي وأبو الفضل بن طاهر وأبو الفرج بن الجوزي وأدخله في كتابه الموضوعات ولما رواه أبو بكر الأزرق عن سويد عاتبه عليه ابن المرزبان فأسقط ذكر
النبي منه وكان سويد إذا سئل عنه لا يرفعه وهذا أحسن أحواله أن يكون موقوفا ولذلك رواه أبو محمد الحسين القاري من حديث أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله وأما سياق الخطيب له من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها فلا يشك من شم رائحة الحديث أن هذا باطل على هشام عن أبيه عن عائشة ولا يحتمل هذا المتن هذا الإسناد بوجه والتحاكم في ذلك إلى أهل الحديث لا إلى العارين الغرباء منه والظاهر أن ابن مسروق سرقه وغير إسناده وأما حديث الزبير بن بكار فمن رواية يعقوب بن عيسى وهو ضعيف لا تقوم به حجة قد ضعفه أهل الحديث ونسبوه إلى الكذب
الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه قال الله تعالى إخبارا عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا وقد أثنى الله عليهم سبحانه بهذا الدعاء الذي سألوه فيه أن لا يحملهم مالا طاقة لهم به وقد فسر ذلك بالعشق وليس المراد اختصاصه به بل المراد أن العشق مما لا طاقة للعبد به وقال مكحول هو شدة الغلمة وقال النبي لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه قال الإمام أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل الناس لمعشوقه ولما يحصل به رضاه والحب مبناه على الذل والخضوع للمحبوب كما قيل إخضع وذل لمن تحب فليس في ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد وقال آخر مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر
وقال آخر قالوا عهدناك ذا عز فقلت لهم ... لا يعجب الناس من ذل المحبينا لا تنكروا ذلة العشاق إنهم ... مستعبدون برق الحب راضونا قالوا وإذا اقتحم العبد بحر العشق ولعبت به أمواجه فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة كما ذكر الخرائطي أنه كان بالمدينة جارية ظريفة فهويت رجلا من قريش وكان لا يفارقها ولا تفارقه فملها وزاد حبها له فسقمت وجعل مولاها لا يعبأ بشكواها ولا يرق لها حتى هامت على وجهها ومزقت ثيابها وأفضت إلى أمر عظيم فلما رأى ما صرت إليه عالجها فلم ينفع فيها العلاج وكانت تدور في السكك بالليل وتقول ألحب أول ما يكون لجاجة ... تأتي به وتسوقه الأقدار حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار من ذا يطيق كما نطيق من الهوى ... غلب العزاء وباحت الأسرار قال الخرائطي وأنشدني بعض أصحابنا الحب أوله شيء يهيم به ... قلب المحب فيلقى الموت كاللعب يكون مبدؤه من نظرة عرضت ... ومزحة أشعلت في القلب كاللهب كالنار مبدؤها من قدحة فإذا ... تضرمت أحرقت مستجمع الحطب
قالوا وكيف يمدح أمر يمنع القرار ويسلب المنام ويوله العقل ويحدث الجنون بل هو نفسه جنون كما قال بعض الحكماء الجنون فنون والعشق فن من فنونه كما قال بعض العشاق قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ألعشق أعظم مما بالمجانين ألعشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين قالوا وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه قال الزبير بن بكار جاءت بدوية إلى أخت لها فقالت كيف بك من حب فلان قالت حرك والله حبه الساكن وسكن المتحرك ثم أنشأت تقول فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى ... وبالريح لم يسمع لهن هبوب ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب علي ذنوب فقلت والله لأسألنه كيف هو من حبك فجاءته فسألته فقال إنما الهوى هوان ولكنه خولف باسمه وإنما يعرف ذلك من استبكته المعالم والطلول وأنشد أبو الفضل الربعي قد أمطرت عيني دما فدماؤها ... بعد الدموع من الجفون هوامل كيف العزاء ولا يزال من الضنى ... في الجسم مني والجوانح نازل لهفي على زمن مضى تجتازني ... فيه صروف الدهر وهي عواقل قالوا والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح ولا يقع معه
الارتياح بل هو بحر من ركبه غرق فإنه لا ساحل له ولا نجاة منه وهو الذي قال فيه القائل وما أحد في الناس يحمد أمره ... فيوجد إلا وهو في الحب أحمق وما أحد ما ذاق بؤس معيشة ... فيعشق إلا ذاقها حين يعشق وقال العباس بن الأحنف ويح المحبين ما أشقى نفوسهم ... إن كان مثل الذي بي بالمحبينا يشقون في هذه الدنيا بعشقهم ... لا يرزقون به دنيا ولا دينا وقال آخر ألعشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة العشق تنفي لذة الوسن وقال محمد بن أبي محمد اليزيدي كيف يطيق الناس وصف الهوى ... وهو جليل ما له قدر بل كيف يصفو لحليف الهوى ... عيش وفيه البين والهجر وقال محمد بن أمية قرين الحب يأنس بالهموم ... ويكثر فكرة القلب السقيم وأعظم ما يكون به اغتباطا ... على خطر ومطلع عظيم وقال أبو تمام أما الهوى فهو العذاب فإن جرت ... فيه النوى فأليم كل عذاب وقال ابن أبي حصينة والعشق يجتذب النفوس إلى الردى ... بالطبع واحسدي لمن لم يعشق
وقال ابن المعتز الحب داء عضال لا دواء له ... يحار فيه الأطباء النحارير قد كنت أحسب أن العاشقين غلوا ... في وصفه فإذا بالقوم تقصير وقال أعرابي ألا ما الهوى والحب بالشيء هكذا ... يذل به طوع اللسان فيوصف ولكنه شيء قضى الله أنه ... هو الموت أو شيء من الموت أعنف فأوله سقم وآخره ضنى ... وأوسطه شوق يشف ويتلف وروع وتسهيد وهم وحسرة ... ووجد على وجد يزيد ويضعف وقال عبدالمحسن الصوري ما الحب إلا مسلك خطر ... عسر النجاة وموطىء زلق وقال آخر وكان ابتداء الذي بي مجونا ... فلما تمكن أمسى جنونا وكنت أظن الهوى هينا ... فلاقيت منه عذابا مهينا وقالت امرأة رأيت الهوى حلوا إذا اجتمع الشمل ... ومرا على الهجران لا بل هو القتل فمن لم يذق للهجر طعما فإنه ... إذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل وقد ذقت طعميه على القرب والنوى ... فأبعده قتل وأقربه خبل
قالوا والعشق يترك الملك مملوكا والسلطان عبدا كما قال الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل وكان ملك الأندلس ظل من فرط حبه مملوكا ... ولقد كان قبل ذاك مليكا تركته جآذر القصر صبا ... مستهاما على الصعيد تريكا يجعل الخد واضعا فوق ترب ... للذي يجعل الحرير أريكا هكذا يحسن التذلل بالحر ... ر إذا كان في الهوى مملوكا وقال الرشيد وقد عشق ثلاث جوار من جواريه ويقال إنه المأمون ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني وقال بعض الملوك في جارية له عشقها وكانت كثيرة التجني عليه أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي وأنك لو جهدت على تلافي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي وقال ابن طاهر ملك خراسان فإني وإن حنت إليك ضمائري ... فما قدر حبي أن يذل له قدري وقال ابن الأحمر ملك الأندلس أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي ... على كل حال أنت لا بد لي منك فإما بذل وهو أليق بالهوى ... وإما بعز وهو أليق بالملك
قالوا وكم ممن هرب من الحب إلى مظان التلف ليتخلص من التلف بالتلف قال دعبل الشاعر كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا بفتى يجر رمحه بين يدي فالتفت فنظر إلي فقال أنت دعبل قلت نعم قال اسمع مني ثم أنشدني فقال أنا في أمري رشاد ... بين غزو وجهاد بدني يغزو عدوي ... والهوى يغزو فؤادي ثم قال كيف ترى قلت جيد والله قال فوالله ما خرجت إلا هاربا من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال أصرم بن حميد نحن قوم تليننا الحدق النجل ... على أننا نلين الحديدا طوع أيدي الظباء تقتادنا العين ... ونقتاد بالطعان الأسودا تتقي سخطنا الليوث ونخشى ... صولة الخشف حين يبدي الصدودا وترانا عند الكريهة أحرا ... را وفي السلم للغواني عبيدا قالوا ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص ولات حين مناص قال الخرائطي أنشدني أبو جعفر العبدي إن الله نجاني من الحب لم أعد ... إليه ولم اقبل مقالة عاذلي ومن لي بمنجاة من الحب بعدما ... رمتني دواعي الحب بين الحبائل وقال أبو عبيدة الحبائل الموت قال وأنشدني أبو عبيدالله بن الدولابي دعوت ربي دعاء فاستجاب له ... كما دعا ربه نوح وأيوب أن ينزع الداء من صدري ويجعله ... في صدر سلمى وحمل الداء تعطيب
أو يشف قلبي سريعا من صبابته ... فلا أحن إذا حن المطاريب قالوا وكم أكبت فتنة العشق رؤوسا على مناخرها في الجحيم وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين وكم أزالت من نعمة وأحلت من نقمة وكم أنزلت من معقل عزه عزيزا فإذا هو من الأذلين ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل السافلين وكم كشفت من عورة وأحدثت من روعة وأعقبت من ألم وأحلت من ندم وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد وأذهبت قدرا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد وكم جلبت من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء فقل أن يفارقها زوال نعمة أو فجاءة نقمة أو تحويل عافية أو طروق بلية أو حدوث رزية فلو سألت النعم ما الذي أزالك والنقم ما الذي أدالك والهموم والأحزان ما الذي جلبك والعافية ما الذي أبعدك وجنبك والستر ما الذي كشفك والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك والحياة ما الذي كردك وشمس الإيمان ما الذي كورك وعزة النفس ما الذي أذلك وبالهوان بعد الإكرام بدلك لأجابتك بلسان الحال اعتبارا إن لم تجب بالمقال حوارا هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ويكفي اللبيب
موعظة واستبصارا ما قصه الله سبحانه وتعالى عليه في سورة الأعراف في شأن أصحاب الهوى المذموم تحذيرا واعتبارا فبدأ سبحانه وتعالى بهوى إبليس الحامل له على التكبر عن طاعة الله تعالى في أمره بالسجود لآدم فحمله هوى النفس وإعجابه بها على أن عصى أمره وتكبر على طاعته فكان من أمره ما كان ثم ذكر سبحانه هوى آدم حين رغب في الخلود في الجنة وحمله هواه على أن أكل من الشجرة التي نهي عنها وكان الحامل له على ذلك هوى النفس ومحبتها للخلود فكان عاقبة ذلك الهوى والشهوة إخراجه منها إلى دار التعب والنصب وقيل إنه إنما أكل منها طاعة لحواء فحمله حبه لها أن أطاعها ودخل في هواها وإنما توصل إليه عدوه من طريقها ودخل عليه من بابها فأول فتنة كانت في هذا العالم بسبب النساء ثم ذكر سبحانه فتنة الكفار الذين أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه وحرموا زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وتعبدوا له بالفواحش وزعموا أنه أمرهم بها واتخذوا الشياطين أولياء من دونه والحامل لهم على ذلك كله الهوى والحب الفاسد وعليه حاربوا رسله وكذبوا كتبه وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم دونه حتى خسروا الدنيا والآخرة ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة قوم نوح وما أصارهم إليه الهوى من الغرق في الدنيا ودخول النار في الآخرة ثم ذكر قصة عاد وما أفضى إليه بهم الهوى من الهلاك الفظيع والعقوبة المستمرة ثم قصة قوم صالح كذلك ثم قصة العشاق أئمة الفساق وناكحي الذكران وتاركي النسوان وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون وقطع دابرهم
وهم في سكر عشقهم يعمهون وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أمة من الأمم أجمعين وجعلهم سلفا لإخوانهم اللوطية من المتقدمين والمتأخرين ولما تجرأوا على هذه المعصية ومردوا ونهجوا لإخوانهم طريقا وقاموا بأمرها وقعدوا ضجت الملائكة إلى الله من ذلك ضجيجا وعجت الأرض إلى ربها من هذا الأمر عجيجا وهربت الملائكة إلى أقطار السموات وشكتهم إلى الله جميع المخلوقات وهو سبحانه وتعالى قد حكم أنه لا يأخذ الظالمين إلا بعد إقامة الحجة عليهم والتقدم بالوعد والوعيد إليهم فأرسل إليهم رسوله الكريم يحذرهم من سوء صنيعهم وينذرهم عذابه الأليم فأذن رسول الله بالدعوة على رؤوس الملإ منهم والأشهاد وصاح بها بين أظهرهم في كل حاضر وباد وقال فكان في قوله لهم من أعظم الناصحين أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ثم أعاد لهم القول نصحا وتحذيرا وهم في سكرة عشقهم لا يعقلون إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون فأجاب العشاق جواب من أركس في هواه وغيه فقلبه بعشقه مفتون و قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فلما أن حان الوقت المعلوم وجاء ميقات نفوذ القدر المحتوم أرسل الرحمن تبارك وتعالى لتمام الإنعام والامتحان إلى بيت لوط ملائكة في صورة البشر وأجمل ما يكون من الصور وجاءوه في صورة الأضياف النزول بذي الصدر الرحيب ف سيء بهم
وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاء الصريخ إلى اللوطية أن لوطا قد نزل به شباب لم ينظر إلى مثل حسنهم وجمالهم الناظرون ولا رأى مثلهم الراؤون فنادى اللوطية بعضهم يعضا أن هلموا إلى منزل لوط ففيه قضاء الشهوات ونيل أكبر اللذات وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات فلما دخلوا إليه وهجموا عليه قال لهم وهو كظيم من الهم والغم وقلبه بالحزن عميد يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد فلما سمع اللوطية مقاله أجابوه جواب الفاجر المجاهر العنيد لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد فقال لهم لوط مقالة المضطهد الوحيد لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فلما رأت رسل الله ما يقاسي نبيه من اللوطية كشفوا له عن حقيقة الحال وقالوا هون عليك يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فسر نبي الله سرور المحب وافاه الفرج بغتة على يد الحبيب وقيل له فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ولما أبوا إلا مراودته عن أضيافه ولم يرعوا حق الجار ضرب جبريل بجناحه على وجوههم فطمس منهم الأعين وأعمى الأبصار فخرجوا من عنده عميانا يتحسسون ويقولون ستعلم غدا ما يحل بك أيها
المجنون فلما انشق عمود الصبح جاء النداء من عند رب الأرباب أن اخسف بالأمة اللوطية وأذقهم أليم العذاب فاقتلع القوي الأمين جبريل مدائنهم على ريشة من جناحه ورفعها في الجو حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأتبعوا الحجارة من سجيل وهو الطين المستحجر الشديد وخوف سبحانه إخوانهم على لسان رسوله من هذا الوعيد فقال تعالى فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد فهذه عاقبة اللوطية عشاق الصور وهم السلف وإخوانهم بعدهم على الأثر وإن لم يكونوا قوم لوط بعينهم ... فما قوم لوط منهم ببعيد وإنهم في الخسف ينتظرونهم ... على مورد من مهلة وصيد يقولون لا أهلا ولا مرحبا بكم ... ألم يتقدم ربكم بوعيد فقالوا بلى لكنكم قد سننتم ... صراطا لنا في العشق غير حميد أتينا به الذكران من عشقنا لهم ... فأوردنا ذا العشق شر ورود فأنتم بتضعيف العذاب أحق من ... متابعكم في ذاك غير رشيد فقالوا وأنتم رسلكم أنذرتكم ... بما قد لقيناه بصدق وعيد فما لكم فضل علينا فكلنا ... نذوق عذاب الهون جد شديد كما كلنا قد ذاق لذة وصلهم ... ومجمعنا في النار غير بعيد وكذلك قوم شعيب إنما حملهم على بخس المكيال والميزان فرط محبتهم للمال وغلبهم الهوى على طاعة نبيهم حتى أصابهم العذاب
وكذلك قوم فرعون حملهم الهوى والشهوة وعشق الرئاسة على تكذيب موسى حتى آل بهم الأمر إلى ما آل وكذلك أهل السبت الذين مسخوا قردة إنما أتوا من جهة محبة الحيتان وشهوة أكلها والحرص عليها وكذلك الذي آتاه الرب تبارك وتعالى آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين وقال تعالى ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وتأمل قوله تعالى آتيناه آياتنا فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو ثم قال فانسلخ منها ولم يقل فسلخناه بل أضاف الانسلاخ إليه وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ الدالة على تخليه عنها بالكلية وهذا شأن الكافر وأما المؤمن ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه فإنه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية ثم قال فأتبعه الشيطان ولم يقل فتبعه فإن في أتبعه إعلاما بأنه أدركه ولحقه كما قال الله تعالى فأتبعوهم مشرقين أي لحقوهم ووصلوا إليهم ثم قال ولو شئنا لرفعناه بها ففي ذلك دليل على أن مجرد العلم لا يرفع صاحبه فهذا قد أخبر الله سبحانه أنه آتاه آياته ولم يرفعه بها فالرفعة بالعلم قدر زائد على مجرد تعلمه ثم أخبر الله تعالى عن السبب الذي منعه أن يرفع بها فقال ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه وقوله أخلد إلى الأرض أي سكن إليها ونزل بطبعه إليها فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء قال سهل قسم الله الأعضاء من الهوى لكل عضو منه حظا فإذا مال عضو
منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضا أرضا سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل القلب إلى العرش ثم ذكر سبحانه مثل المتبع لهواه كمثل الكلب الذي لا يفارقه اللهث في حالتي تركه والحمل عليه فهكذا هذا لا يفارقه اللهث على الدنيا راغبا وراهبا والمقصود أن هذه السورة من أولها إلى آخرها في ذكر حال أهل الهوى والشهوات وما آل إليه أمرهم فالعشق والهوى أصل كل بلية قال عدي ابن ثابت كان في زمن بني إسرائيل راهب يعبد الله حتى كان يؤتى بالمجانين يعوذهم فيبرأون على يديه وإنه أتي بامرأة ذات شرف من قومها قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فلم يزل الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها لم يزل يخوفه ويزين له قتلها حتى قتلها ودفنها فذهب الشيطان في صورة رجل حتى أتى بعض إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا كبر علي ذكره فذكر ذلك بعضهم لبعض حتى رفعوا ذلك إلى ملكهم فسار الناس إليه حتى استنزلوه من صومعته فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك قال
نعم قال تسجد لي سجدة واحدة فسجد له وقتل الرجل فهو قول الله تعالى كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين وقال واصل مولى أبي عيينة دخلت على محمد بن سيرين فقال لي هل تزوجت فقلت لا قال وما يمنعك قلت قلة الشيء قال تزوج عبدالله بن محمد بن سيرين ولا شيء له فرزقه الله ثم حدث أن امرأة من بني إسرائيل يقال لها ميسونة خاصمت إلى حبرين من بني إسرائيل فعلقاها قال وكان كل واحد منهما يكتم صاحبه ما يجد منها فأخبرا أنها في حائط تغتسل قال فجاءا فتسورا عليها الحائط فلما رأتهما دخلت غمرا من الماء فوارت نفسها فقالا لها إنك إن لم تفعلي غدونا فشهدنا عليك بالزور فأبت فشهدا عليها فلما قربت ليقام عليها الحد نزل الوحي على دانيال بتكذيبهما فهذا بعض فتنة العشق وقد روى شعبة عن عبدالملك بن عمير قال سمعت مصعب بن سعد يقول كان سعد يعلمنا هذا الدعاء ويذكره عن النبي
اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء وأعوذ بك من عذاب القبر وقال الحسن بن عرفة حدثنا أبو معاوية الضرير عن ليث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنه لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء وهو كفر من بقي أيضا وقد روى سفيان بن عيينة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله ما تركت على أمتي بعدي أضر على الرجال من النساء وروى أبو إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه قال قال رسول الله إن أخوف ما أخاف على أمتي الخمر والنساء وقال علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء وروى سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قيل لآدم ما حملك على أكل الشجرة قال يا رب زينت لي حواء قال فإني قد عاقبتها لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها وأدميتها في الشهر مرتين
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أو غيره أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء قالوا ويكفي من مضرة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق وذلك موجود في كل زمان فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة لقولها ونحن نعقد للحكم بين الطائفتين بابا مستقلا بعون الله تعالى
الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين فنقول العشق لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا وإنما يحمد ويذم باعتبار متعلقه فإن الإرادة تابعة لمرادها والحب تابع للمحبوب فمتى كان المحبوب مما يحب لذاته أو وسيلة توصله إلى ما يحب لذاته لم تذم المبالغة في محبته بل تحمد وصلاح حال المحب كذلك بحسب قوة محبته ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده بحيث يحب الله بكل قلبه وروحه وجوارحه فيوحد محبوبه ويوحد حبه وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب توحيد المحبوب أن المحبة لا تصح إلا بذلك فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له فهذا الحب وإن سمي عشقا فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله فلا يحب إلا الله كما في الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار فأخبر أن
العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه ومحبة رسوله هي من محبته ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبة الله وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها وتصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر كان الله أحب إليه من نفسه وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم بل لا نظير لهذه المحبة كما لا مثل لمن تعلقت به وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد وتقتضي كمال اللذة والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله كما قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله والصحيح أن معنى الآية والذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم كما تقدم بيانه أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا كما لا يماثل محبوبهم غيره وكل آذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته ومن ضرب لمحبته الأمثال التي هي في محبة المخلوق للمخلوق كالوصل والهجر والتجني بلا سبب من المحب وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا فهو مخطئ أقبح الخطإوأفحشه وهو حقيق بالإبعاد والمقت والآفة إنما هي من
نفسه وقلة أدبه مع محبوبه والله تعالى نهى أن يضرب عباده له الأمثال فهو لا يقاس بخلقه وما ابتدع من ابتدع إلا من ضرب الأمثال له سبحانه فأصحاب الكلام المحدث المبتدع ضربوا له الأمثال الباطلة في الخبر عنه وما يوصف به وأصحاب الإرادة المنحرفة ضربوا له الأمثال في الإرادة والطلب وكلاهما على بدعة وخطإ والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقا ممدوحا مثابا عليه وذلك أنواع أحدها محبة القرآن بحيث يغني بسماعه عن سماع غيره ويهيم قلبه في معانيه ومراد المتكلم سبحانه منه وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه فمن أحب محبوبا أحب حديثه والحديث عنه كما قيل إن كنت تزعم حبي ... فلم هجرت كتابي أما تأملت ما فيه ... من لذيذ خطابي وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه بل لا ينساه فيحتاج إلى من يذكره به وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه فعشق هذا كله من أنفع العشق وهو غاية سعادة العاشق وكذلك عشق العلم النافع وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر ومكارم الأخلاق فإن هذه الصفات لو صورت صورا لكانت من أجمل الصور وأبهاها ولو صور العلم صورة لكانت أجمل من صورة الشمس والقمر ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السمائية الزكية لا الأرواح الأرضية الدنية فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيىء من الآفات المذكورة
بقي هاهنا قسم آخر وهو عشق محمود يترتب عليه مفارقة المعشوق كمن يعشق امرأته أو أمته فيفارقها بموت أو غيره فيذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو فهذا نوع من الابتلاء إن صبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين وإن سخط وجزع فاته معشوقه وثوابه وإن قابل هذه البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر وأعلى من ذلك أن يقابلها بالشكر نظرا إلى حسن اختيار لله له فإنه ما يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له فإذا علم أن هذا القضاء خير له اقتضى ذلك شكره لله على ذلك الخير الذي قضاه له وإن لم يعلم كونه خير له فليسلم للصادق المصدوق في خبره المؤكد باليمين حيث يقول والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن وإيمان العبد يأمره بأن يعتقد بأن ذلك القضاء خير له وذلك يقتضي شكر من قضاه وقدره وبالله التوفيق
الباب السابع عشر في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله قال الله تعالى تعالى عقيب ذكره ما أحل لعباده من الزوجات والإماء وما حرم عليهم يريد الله ليبين لكم ويهدكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا أي لا يصبر عن النساء كما ذكر الثوري عن ابن طاوس عن أبيه وخلق الإنسان ضعيفا قال إذا نظر إلى النساء لم يصبر وكذلك قال غير واحد من السلف ولما كانت الشهوة في هذا الباب غالبة لا بد أن توجب ما يوجب التوبة كرر سبحانه وتعالى ذكر التوبة مرتين فأخبر أن متبعي الشهوات يريدون من عباده أن يميلوا ميلا عظيما وأخبر سبحانه وتعالى أنه يريد التخفيف عنا لضعفنا فأباح لنا أن ننكح ما طاب لنا من أطايب النساء أربعا وأن نتسرى من الإماء بما شئنا ولما كان العبد له في هذا الباب ثلاثة أحوال حالة جهل بما يحل له ويحرم عليه وحالة تقصير وتفريط وحالة ضعف وقلة صبر قابل سبحانه جهل عبده بالبيان والهدى وتقصيره وتفريطه بالتوبة وضعفه وقلة صبره بالتخفيف
وقال عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه حدثنا أبو معمر حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله جعلت قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب الجائع يشبع والظمآن يروى وأنا لا أشبع من حب الصلاة والنساء وأصله في صحيح مسلم بدون هذه الزيادة وفي صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لما أصاب رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة جميلة حلوة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله تستعينه على كتابتها قالت فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب الحجرة فكرهتها وعلمت أن رسول الله يرى منها ما رأيت فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فجئت رسول الله أستعينه قال فهل لك في غير ذلك قالت وما هو
قال أقضي كتابتك وأتزوجك قالت نعم يا رسول الله قد فعلت وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس أصهار رسول الله فأرسلوا ما بأيديهم قالت فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما خرج سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفس أن قمت إليها فقبلتها وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال قدم رسول الله خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي وقد قتل زوجها وكانت عروسا فاصطفاها رسول الله لنفسه فخرج بها حتى بلغا سد الروحاء فبنى بها ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال رسول الله آذن من حولك فكانت تلك وليمة رسول الله على صفية ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت رسول الله يحوى لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته
فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب وعند أبي داود في هذه القصة قال وقع في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله بسبعة أرؤس ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها وتعتد في بيتها وهي صفية بنت حيي وقال أبو عبيدة حج عبدالملك بن مروان ومعه خالد بن يزيد بن معاوية وكان خالد هذا من رجالات قريش المعدودين وكان عظيم القدر عند عبدالملك فبينما هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقا شديدا ووقعت بقلبه وقوعا متمكنا فلما أراد عبدالملك القفول هم خالد بالتخلف عنه فوقع بقلب عبدالملك تهمة فبعث إليه فسأله عن أمره فقال يا أمير المؤمنين رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت فأذهلت عقلي والله ما أبديت إليك ما بي حتى عيل صبري ولقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله والسلو على قلبي فامتنع عنه فأطال عبدالملك التعجب من ذلك وقال ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك قال فإني لأشد تعجبا من تعجبك مني ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس الشعراء والأعراب أما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء ووصفهن والتغزل فمال طبعهم إلى النساء فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا إليه منقادين وأما الإعراب فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها ولا يشغله عنه شيء فضعفوا عن دفع الهوى فتمكن منهم فما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحزم وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه فتبسم عبدالملك فقال أفكل هذا قد بلغ بك فقال والله ما عرتني هذه البلية قبل وقتي
هذا فوجه عبدالملك إلى الزبير يخطب رملة على خالد فذكروا لها ذلك فقالت لا والله أو يطلق نساءه فطلق امرأتين كانتا عنده وظعن بها إلى الشام وكان يقول أليس يزيد الشوق في كل ليلة ... وفي كل يوم من حبيبتنا قربا خليلي ما من ساعة تذكرانها ... من الدهر إلا فرجت عني الكربا أحب بني العوام طرا لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا وذكر الخرائطي أن بشر بن مروان كان إذا ضرب البعث على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه أقامه على كرسي ثم سمر يديه في الحائط ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتشحط حتى يموت وأنه ضرب البعث على رجل عاشق حديث عهد بعرس ابنة عمه فلما صار في مركزه كتب إلى ابنة عمه كتابا ثم كتب في أسفله لولا مخافة بشر أو عقوبته ... وأن يرى بعد ذا في الكف مسمار إذا لعطلت ثغري ثم زرتكم ... إن المحب إذا ما اشتاق زوار فلما ورد عليها الكتاب أجابته عنه ثم كتبت في أسفله
ليس المحب الذي يخشى العقاب ولو ... كانت عقوبته في فجوة النار بل المحب الذي لا شيء يفزعه ... أو يستقر ومن يهواه في الدار فلما قرأ الكتاب قال لا خير في الحياة بعد هذا وأقبل حتى دخل المدينة فأتى بشر بن مروان في وقت غدائه فلما فرغ من غدائه أدخل عليه فقال ما الذي دعاك إلى تعطيل ثغرك أما سمعت النداء فقال اسمع عذري فإما عفوت وإما عاقبت فقال ويلك وهل لك من عذر فقص عليه قصته وقصة ابنة عمه فقال أولى لكما يا غلام خط على اسمه من البعث وأعطه عشرة آلاف درهم والحق بابنة عمك سهرت ومن أهدى لي الشوق نائم ... وعذب قلبي بالهوى وهو سالم فواحسرتا حتى متى أنا قائل ... لمن لامني في حبكم أنت ظالم وحتى متى أخفي الهوى وأسره ... وأدفن شوقي في الحشا وأكاتم أريد الذي قد سركم بمساءتي ... ليغفل واش أو ليعذر لائم وقال آخر بي لا بها ما أقاسي من تجنيا ... ومن جوى الحب في الأحشاء أفديها والله يعلم أني لا أسر بأن ... تلقى من الوجد ما لاقيته فيها خوف البكاء كما أبكي فتتركني ... أبكي على كبدي طورا وأبكيها وقال العباس بن هشام الكلبي ضرب عبدالملك بن مروان بعثا إلى اليمن فأقاموا سنين حتى إذا كان ذات ليلة وهو بدمشق قال والله لأعسن الليلة مدينة دمشق ولأسمعن الناس ماذا يقولون في البعث الذي أغزيت فيه
رجالهم وأغرمتهم أموالهم فبينما هو في بعض أزقتها إذ هو بصوت امرأة قائمة تصلي فتسمع إليها فلما انصرفت إلى مضجعها قالت اللهم مسير النجب ومنزل الكتب ومعطي الرغب أسألك أن ترد لي غائبي فتكشف به همي وتقر به عيني وأسألك أن تحكم بيني وبين عبدالملك بن مروان الذي فعل بنا هذا ثم أنشأت تقول تطاول هذا الليل فالعين تدمع ... وأرقني حزن لقلبي موجع فبت أقاسي الليل أرعى نجومه ... وبات فؤادي بالجوى يتقطع إذا غاب منها كوكب في مغيبه ... لمحت بعيني كوكبا حين يطلع إذا ما تذكرت الذي كان بيننا ... وجدت فؤادي حسرة يتصدع وكل حبيب ذاكر لحبيبه ... يرجي لقاه كل يوم ويطمع فذا العرش فرج ما ترى من صبابتي ... فأنت الذي يدعو العباد فيسمع دعوتك في السراء والضر دعوة ... على حاجة بين الشراسيف تلذع فقال عبدالملك لحاجبه تعرف هذا المنزل قال نعم هذا منزل يزيد بن سنان قال فما المرأة منه قال زوجته فلما أصبح سأل كم تصبر المرأة عن زوجها قالوا ستة أشهر
وقال جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير قال كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درته ثم طاف بالمدينة فإذا رأى شيئا ينكره أنكره فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول تطاول هذا الليل واخضل جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا رب غيره ... لحرك من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يصدني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه ثم تنفست الصعداء وقالت لهان على عمر بن الخطاب ما لقيت الليلة فضرب باب الدار فقالت من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة فقال افتحي فأبت فلما أكثر عليها قالت أما والله لو بلغ أمير المؤمنين لعاقبك فلما رأى عفافها قال افتحي فأنا أمير المؤمنين قالت كذبت ما أنت أمير المؤمنين فرفع بها صوته وجهر لها فعرفت أنه هو ففتحت له فقال هيه كيف قلت فأعادت عليه ما قالت فقال أين زوجك قالت في بعث كذا وكذا فبعث إلى عامل ذلك الجند أن سرح فلان بن فلان فلما قدم عليه قال اذهب إلى أهلك ثم دخل على حفصة ابنته فقال أي بنية كم تصبر المرأة عن زوجها قالت شهرا واثنين وثلاثة وفي الرابع ينفد الصبر فجعل ذلك أجلا للبعث وهذا مطابق لجعل الله سبحانه وتعالى
مدة الإيلاء أربعة أشهر فإنه سبحانه وتعالى علم أن صبر المرأة يضعف بعد الأربعة ولا تحتمل قوة صبرها أكثر من هذه المدة فجعلها أجلا للمولي وخيرها بعد الأربعة إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فسخت نكاحه فإذا مضت الأربعة أشهر عيل صبرها قال الشاعر ولما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
الباب الثامن عشر في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين قد جعل الله سبحانه وتعالى لكل داء دواء ويسر الوصال إلى ذلك الدواء شرعا وقدرا فمن أراد التداوي بما شرعه الله له واستعان عليه بالقدر وأتى الأمر من بابه صادف الشفاء ومن طلب الدواء بما منعه منه شرعا وإن امتحنه به قدرا فقد أخطأ طريق المداواة وكان كالمتداوي من داء بداء أعظم منه وقد تقدم حديث طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال لم ير للمتحابين مثل النكاح وقد اتفق رأي العقلاء من الأطباء وغيرهم في مواضع الأدوية أن شفاء هذا الداء في التقاء الروحين والتصاق البدنين وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله رأى امرأة فأتى زينب فقضى حاجته منها وقال إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه وذكر إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله أنه كان يقول يا معشر خولان زوجوا شبابكم وإماءكم فإن الغلمة أمر عارم فأعدوا عدتها واعلموا أنه ليس لمنعظ إذن يريد أنه إذا
استأذن عليه فلا إذن له وذكر العتبي أن رجلا من ولد عثمان ورجلا من ولد الحسين خرجا يريدان موضعا لهما فنزلا تحت سرحة فأخذ أحدهما فكتب عليها خبرينا خصصت بالغيث يا سر ... ح بصدق والصدق فيه شفاء وكتب الآخر هل يموت المحب من ألم الحبب ... ويشفى من الحبيب اللقاء ثم مضيا فلما رجعا وجدا مكتوبا تحت ذلك إن جهلا سؤالك السرح عما ... ليس يوما عليك فيه خفاء ليس للعاشق المحب من الحبب ... سوى لذة اللقاء شفاء وقال أبو جعفر العذري لسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي ... إذا سكر الندمان من لذة الخمر وأحسن من قرع المثاني ونقرها ... تراجيع صوت الثغر يقرع بالثغر ولما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر وقال عبدالله بن صالح كان الليث بن سعد إذا أراد الجماع خلا في منزل في داره ودعا بثوب يقال له الهركان وكان يلبسه إذ ذاك وكان إذا خلا في ذلك المنزل علم أنه يريد أمرا وكان إذا غشي أهله قال اللهم شد لي أصله
وارفع لي صدره وسهل علي مدخله ومخرجه وارزقني لذته وهب لي ذرية صالحة تقاتل في سبيلك قال وكان جهوريا فكان يسمع ذلك منه رضي الله عنه وقال الخرائطي حدثنا عمارة بن وثيمة قال حدثني أبي قال كان عبدالله بن ربيعة من خيار قريش صلاحا وعفة وكان ذكره لا يرقد فلم يكن يشهد لقريش خيرا ولا شرا وكان يتزوج المرأة فلا تمكث معه إلا أياما حتى تهرب إلى أهلها فقالت زينب بنت عمر بن أبي سلمة مالهن يهربن من ابن عمهن قيل لها إنهن لا يطقنه قالت فما يمنعه مني فأنا والله العظيمة الخلق الكبيرة العجز الفخمة الفرج قال فتزوجها فصبرت عليه وولدت له ستة من الولد وقال رشيد بن سعد عن زهرة بن معبد عن محمد بن المنكدر أنه كان يدعو في صلاته اللهم قوي لي ذكري فإن فيه صلاحا لأهلي وقال حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال كان لأنس بن مالك غلام وكان شيخا كبيرا فرافعته امرأته إلى أنس وقالت لا أطيقه ففرض له عليها ستة في اليوم والليلة وقال علي بن عاصم حدثنا خالد الحذاء قال لما خلق الله آدم وخلق حواء قال له يا آدم اسكن إلى زوجك فقالت له حواء يا آدم ما أطيب هذا زدنا منه وفي الصحيح أن سليمان بن داود عليهما السلام طاف في ليلة واحدة على تسعين امرأة وفي الصحيحين أن رسول الله كان يطوف على نسائه في الليلةالواحدة وهن تسع نسوة وربما كان يطوف عليهن بغسل واحد وربما كان يغتسل عند كل واحدة منهن وقال المروذي قال أبو عبدالله يعني أحمد بن حنبل ليس العزوبة
من أمر الإسلام في شيء النبي تزوج أربع عشرة ومات عن تسع ولو تزوج بشر بن الحارث لتم أمره ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج ولا كذا ولا كذا وقد كان النبي يصبح وما عندهم شيء ومات عن تسع وكان يختار النكاح ويحث عليه ونهى عن التبتل فمن رغب عن سنة النبي فهو على غير الحق ويعقوب في حزنه قد تزوج وولد له والنبي قال حبب إلي النساء قلت له فإن إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال لروعة صاحب العيال فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي وقال وقعت في بنيات الطريق أنظر ما كان عليه محمد وأصحابه ثم قال بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا أين يلحق المتعبد العزب انتهى كلامه وقد اختلف الفقهاء هل يجب على الزوج مجامعة امرأته فقالت طائفة لا يجب عليه ذلك فإنه حق له فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه بمنزلة من استأجر دارا إن شاء سكنها وإن شاء تركها وهذا من أضعف الأقوال والقرآن والسنة والعرف والقياس يرده أما القرآن فإن الله سبحانه وتعالى قال ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فأخبر أن للمرأة من الحق مثل الذي عليها فإذا كان الجماع حقا للزوج عليها فهو حق على الزوج بنص القرآن وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أمر الأزواج أن
يعاشروا الزوجات بالمعروف ومن ضد المعروف أن يكون عنده شابة شهوتها تعدل شهوة الرجل أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة ولا يذيقها لذة الوطء مرة واحدة ومن زعم أن هذا من المعروف كفاه طبعه ردا عليه والله سبحانه وتعالى إنما أباح للأزواج إمساك نسائهم على هذا الوجه لا على غيره فقال تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقالت طائفة يجب عليه وطؤها في العمر مرة واحدة ليستقر لها بذلك الصداق وهذا من جنس القول الأول وهذا باطل من وجه آخر فإن المقصود إنما هو المعاشرة بالمعروف والصداق دخل في العقد تعظيما لحرمته وفرقا بينه وبين السفاح فوجوب المقصود بالنكاح أقوى من وجوب الصداق وقالت طائفة ثالثة يجب عليه أن يطأها في كل أربعة أشهر مرة واحتجوا على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى أباح للمولي تربص أربعة أشهر وخير المرأة بعد ذلك إن شاءت أن تقيم عنده وإن شاءت أن تفارقه فلو كان لها حق في الوطء أكثر من ذلك لم يجعل للزوج تركه في تلك المدة وهذا القول وإن كان أقرب من القولين اللذين قبله فليس أيضا بصحيح فإنه غير المعروف الذي لها وعليها وأما جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فنظرا منه سبحانه للأزواج فإن الرجل قد يحتاج إلى ترك وطء امرأته مدة لعارض من سفر أو تأديب أو راحة نفس أو اشتغال بمهم فجعل الله سبحانه وتعالى له أجلا أربعة أشهر ولا يلزم من ذلك أن يكون الوطء مؤقتا في كل أربعة أشهر مرة وقالت طائفة أخرى بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها
ويكسوها ويعاشرها بالمعروف بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد قالوا وعليه أن يشبعها وطئا إذا أمكنه ذلك كما عليه أن يشبعها قوتا وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح هذا القول ويختاره وقد حض النبي على استعمال هذا الدواء ورغب فيه وعلق عليه الأجر وجعله صدقة لفاعله فقال وفي بضع أحدكم صدقة ومن تراجم النسائي على هذا الترغيب في المباضعة ثم ذكر هذا الحديث ففي هذا كمال اللذة وكمال الإحسان إلى الحبيبة وحصول الأجر وثواب الصدقة وفرح النفس وذهاب أفكارها الرديئة عنها وخفة الروح وذهاب كثافتها وغلظها وخفة الجسم واعتدال المزاج وجلب الصحة ودفع المواد الرديئة فإن صادف ذلك وجها حسنا وخلقا دمثا وعشقا وافرا ورغبة تامة واحتسابا للثواب فذلك اللذة التي لا يعادلها شيء ولا سيما إذا وافقت كمالها فإنها لا تكمل حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة فتلتذ العين بالنظر إلى المحبوب والأذن بسماع كلامه والأنف بشم رائحته والفم بتقبيله واليد بلمسه وتعتكف كل جارحة على ما تطلبه من لذتها وتقابله من المحبوب فإن فقد من ذلك شيء لم تزل النفس متطلعة إليه متقاضية له فلا تسكن كل السكون ولذلك تسمى المرأة سكنا لسكون النفس إلينا قال الله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ولذلك فضل
جماع النهار على جماع الليل ولسبب آخر طبيعي وهو أن الليل وقت تبرد فيه الحواس وتطلب حظها من السكون والنهار محل انتشار الحركات كما قال الله تعالى وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وقال الله تعالى هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه وتمام النعمة في ذلك فرحة المحب برضاء ربه تعالى بذلك واحتساب هذه اللذة عنده ورجاء تثقيل ميزانه ولذلك كان أحب شيء إلى الشيطان أن يفرق بين الرجل وبين حبيبه ليتوصل إلى تعويض كل منهما عن صاحبه بالحرام كما في السنن عنه أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي إن إبليس ينصب عرشه على الماء ثم يبث سراياه في الناس فأقربهم منه منزلة أعظمهم فتنة فيقول أحدهم ما زلت به حتى زنى فيقول يتوب فيقول الآخر ما زلت به حتى فرقت بينه وبين أهله فيدنيه ويلتزمه ويقول نعم أنت نعم أنت فهذا الوصال لما كان أحب شيء إلى الله ورسوله كان أبغض شيء إلى عدو الله فهو يسعى في التفريق بين المتحابين في الله المحبة التي يحبها الله ويؤلف بين الاثنين في المحبة التي يبغضها الله ويسخطها وأكثر العشاق من جنده وعسكره ويرتقي بهم الحال حتى
يصير هو من جندهم وعسكرهم يقود لهم ويزين لهم الفواحش ويؤلف بينهم عليها كما قيل عجبت من إبليس في نخوته ... وقبح ما أظهر من سيرته تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته وقد أرشد النبي الشباب الذين هم مظنة العشق إلى أنفع أدويتهم ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج وفي لفظ آخر ذكره أبو عبيد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله رضي الله عنه عن النبي عليكم بالباءة وذكر الحديث وبين اللفظين فرق فإن الأول يقتضي أمر العزب بالتزويج والثاني يقتضي أمر المتزوج بالباءة والباءة اسم من أسماء الوطء وقوله من استطاع منكم الباءة فليتزوج فسرت الباءة بالوطء وفسرت بمؤن النكاح ولا ينافي التفسير الأول إذ المعنى على هذا مؤن الباءة ثم قال ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فأرشدهم إلى الدواء الشافي الذي وضع لهذا الأمر ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصوم فإنه يكسر شهوة النفس ويضيق عليها مجاري الشهوة فإن هذه الشهوة تقوى بكثرة الغذاء وكيفيته فكمية الغذاء وكيفيته يزيدان في توليدها والصوم يضيق عليها ذلك فيصير بمنزلة وجاء الفحل وقل من أدمن الصوم إلا وماتت شهوته أو ضعفت
جدا والصوم المشروع يعدلها واعتدالها حسنة بين سيئتين ووسط بين طرفين مذمومين وهما العنة والغلمة الشديدة المفرطة وكلاهما خارج عن الاعتدال وكلا طرفي قصد الأمور ذميم وخير الأمور أوساطها والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين وكذلك السنة وسط بين بدعتين وكذلك الصواب في مسائل النزاع إذا شئت أن تحظى به فهو القول الوسط بين الطرفين المتباعدين وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة فإنا لم نقصد له وبالله التوفيق
الباب التاسع عشر في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال إعلم أن الجمال ينقسم قسمين ظاهر وباطن فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما في الحديث الصحيح إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال فتكسوا صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات فإن المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه فمن رآه هابه ومن خالطه أحبه وهذا أمر مشهود بالعيان فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة وإن كان أسود أو غير جميل ولا سيما إذا رزق حظا من صلاة الليل فإنها تنور الوجه وتحسنه وقد كان بعض النساء تكثر صلاة الليل فقل لها في ذلك فقالت إنها تحسن الوجه وأنا أحب أن يحسن وجهي ومما يدل على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر أن القلوب لا تنفك عن تعظيم صاحبه ومحبته والميل إليه فصل وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعض الصور عن بعض وهي من
زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها يزيد في الخلق ما يشاء قالوا هو الصوت الحسن والصورة الحسنة والقلوب كالمطبوعة على محبته كما هي مفطورة على استحسانه وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قالوا يا رسول الله الرجل يحب أن تكون نعله حسنة وثوبه حسنا أفذلك من الكبر فقال لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس فبطر الحق جحده ودفعه بعد معرفته وغمط الناس النظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار والاستصغار لهم ولا بأس بهذا إذا كان لله وعلامته أن يكون لنفسه أشد ازدراء واستصغارا منه لهم فأما إن احتقرهم لعظمة نفسه عنده فهو الذي لا يدخل صاحبه الجنة فصل وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده فالجمال الظاهر نعمة منه أيضا على عبده يوجب شكرا فإن شكره بتقواه وصيانته ازداد جمالا على جماله وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه قلبه له شيئا ظاهرا في الدنيا قبل الآخرة فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحا وشينا وينفر عنه من رآه فكل من لم يتق الله تعالى في حسنه وجماله انقلب قبحا وشينا يشينه به بين الناس فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره يا حسن الوجه توق الخنا ... لا تبدلن الزين بالشين
ويا قبيح الوجه كن محسنا ... لا تجمعن بين قبيحين وكان النبي يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر كما قال جرير بن عبدالله وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسميه يوسف هذه الأمة قال قال لي رسول الله أنت امرء قد حسن الله خلقك فأحسن خلقك وقال بعض الحكماء ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة فإن رأى صورته حسنة لم يشنها بقبيح فعله وإن رآها قبيحة لم يجمع بين قبح الصورة وقبح الفعل ولما كان الجمال من حيث هو محبوبا للنفوس معظما في القلوب لم يبعث الله نبيا إلا جميل الصورة حسن الوجه كريم الحسب حسن الصوت كذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان النبي أجمل خلق الله وأحسنهم وجها كما قال البراء بن عازب رضي الله عنه وقد سئل أكان وجه رسول الله مثل السيف قال لا بل مثل القمر وفي صفته كأن الشمس تجري في وجهه يقول واصفه لم أر قبله ولا بعده مثله وقال ربيعة الجرشي قسم الحسن نصفين فبين سارة ويوسف نصف الحسن ونصف الحسن بين سائر الناس وفي الصحيح عنه أنه رأى يوسف ليلة الإسراء وقد أعطي شطر الحسن وكان رسول الله يستحب أن يكون الرسول الذي يرسل إليه حسن الوجه حسن
الاسم وكان يقول إذا أبردتم إلي بريدا فليكن حسن الوجه حسن الاسم وقد روى الخرائطي من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه من آتاه الله وجها حسنا واسما حسنا وخلقا حسنا وجعله في موضع غير شائن له فهو من صفوة الله من خلقه وقال وهب قال داود يا رب أي عبادك أحب إليك قال مؤمن حسن الصورة قال فأي عبادك أبغض إليك قال كافر قبيح الصورة ويذكر عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان ينتظره نفر من أصحابه على الباب فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته ثم خرج إليهم فقلت يا رسول الله وأنت تفعل هذا قال نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيىء من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال وقال يحيى بن أبي كثير دخل رجل على معاوية غمصا يعني رمص العينين فحط من عطائه فقال ما يمنع أحدكم إذا خرج من منزله أن يتعاهد أديم وجهه وكانت عائشة بنت طلحة من أجمل أهل زمانها أو أجملهم فقال أنس بن مالك والله ما رأيت أحسن منك إلا معاوية على منبر رسول الله فقالت والله لأنا أحسن من النار في عين المقرور في الليلة القارة
ودخل عليها أنس يوما في حاجة فقال إن القوم يريدون أن يدخلو اعليك فينظروا إلى جمالك قالت أفلا قلت ليس فألبس ثيابي وكان مصعب بن الزبير من أجمل الناس وكان يحسد الناس على الجمال فبينا هو يخطب يوما إذ دخل ابن جودان من ناحية الأزد وكان جميلا فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحية أخرى فدخل ابن حمران من تلك الناحية وكان جميلا فرمى ببصره إلى مؤخر المسجد فدخل الحسن البصري وكان من أجمل الناس فنزل مصعب عن المنبر وخرج نسوة يوم العيد ينظرون إلى الناس فقيل لهن من أحسن من مر بكن قلن شيخ عليه عمامة سوداء يعنين الحسن البصري وأخذ مصعب ابن الزبير رجلا من أصحاب المختار فأمر بضرب عنقه فقال الرجل أيها الأمير ما أقبح من أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطرافك وأقول يا رب سل مصعبا فيم قتلني فقال مصعب أطلقوه فقال الرجل أيها الأمير اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض فقال مصعب أعطوه مائة ألف درهم فقال إني أشهد الله أن لعبدالرحمن بن قيس الرقيات نصفها قال مصعب ولم ذلك قال لقوله إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء فضحك مصعب وقال إن فيك لموضعا للصنيعة وأمره بلزومه وقال الزبير بن بكار حدثنا مصعب الزبيري حدثنا عبدالرحمن بن أبي الحسن قال خرج أبو حازم يرمي الجمار ومعه قوم متعبدون وهو يكلمهم
ويحدثهم ويقص عليهم فبينما هو يمشي وهم معه إذ نظر إلى فتاة مستترة بخمارها ترمي الناس بطرفها يمنة ويسرة وقد شغلت الناس وهم ينظرون إليها مبهوتين وقد خبط بعضهم بعضا في الطريق فرآها أبو حازم فقال يا هذه اتقي الله فإنك في مشعر من مشاعر الله عظيم وقد فتنت الناس فاضربي بخمارك على جيبك فإن الله تعالى يقول وليضربن بخمرهن على جيوبهن فأقبلت تضحك من كلامه وقالت إني والله من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا فاقبل أبو حازم على أصحابه وقال تعالوا ندعو الله أن لا يعذب هذه الصورة الحسناء بالنار فجعل يدعو وأصحابه يؤمنون وقال ضمرة بن ربيعة عن عبدالله بن شوذب دخلت امرأة جميلة على الحسن البصري فقالت يا أبا سعيد ينبغي للرجال أن يتزوجوا على النساء قال نعم قالت وعلى مثلي ثم أسفرت عن وجه لم ير مثله حسنا وقالت يا أبا سعيد لا تفتوا الرجال بهذا ثم ولت فقال الحسن ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا
وقال عبدالملك بن قريب كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون قد جاءت قد جاءت فتحول الناس فقمت معهم فإذا جارية قد وردت الماء ما رأيت مثلها قط في حسن وجهها وتمام خلقها فلما رأت تشوف الناس إليها أرسلت برقعها فكأنه غمامة غطت شمسا فقلت لم تمنعيننا النظر إلى وجهك هذا الحسن فأنشأت تقول وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر ونظر إليها أعرابي فقال أنا والله ممن قل صبره ثم قال أوحشية العينين أين لك الأهل ... أبالحزن حلوا أم محلهم السهل وأية أرض أخرجتك فإنني ... أراك من الفردوس إن فتش الأصل قفي خبرينا ما طعمت وما الذي ... شربت ومن أين استقل بك الرحل لأن علامات الجنان مبينة ... عليك وإن الشكل يشبهه الشكل تناهيت حسنا في النساء فإن يكن ... لبدر الدجى نسل فأنت له نسل وقال آخر يا منسي المحزون أحزانه ... لما أتته في المعزينا إستقبلتهن بتمثالها ... فقمن يضحكن ويبكينا
حق لهذا الوجه أن يزدهي ... عن حزنه من كان محزونا وقال آخر أنيري مكان البدر إن أفل البدر ... وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر ففيك من الشمس المنيرة ضوؤها ... وليس لها منك التبسم والثغر وقال آخر رقادي يا طرفي عليك حرام ... فخل دموعا فيضهن سجام ففي الدمع إطفاء لنار صبابة ... لها بين أحناء الضلوع ضرام ويا كبدي الحرى التي قد تصدع ... ت من الوجد ذوبي ما عليك ملام ويا وجه من ذلت وجوه أعزة ... له وزهى عزا فليس يرام أجر مستجيرا في الهوى باسطا ... إليك يديه والعيون نيام وذكر الخرائطي عن بعض العلويين قال بينا أنا عند الحسن بن هانىء وهو ينشد ويلي على سود العيون ... النهد الضمر البطون الناطقات عن الضمي ... ر لنا بألسنة الجفون فوقف عليه أعرابي ومعه بنيه فقال أعد علي فأعاد عليه فقال يا ابن أخي ويلك أنت وحدك من هذا ويلي أنا وأنت وويل ابني هذا وويل هذه الجماعة وويل جيراننا كلهم
وقال الخرائطي حدثنا يموت بن المزرع حدثنا محمد بن حميد حدثنا محمد بن سلمة قال حدثني أبي قال أتيت عبدالعزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها فوجدته مستلقيا يتغنى فما روصة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف نجارها فإن برزت كانت لعينيك قرة ... وإن غبت عنها لم يعمك عارها فقلت له أتغني أصلحك الله وأنت في جلالك وشرفك فقال أما والله لأحملنها ركبان نجد قال فوالله ما اكترث بي وعاد يتغنى فما ظبية أدماء خفاقة الحشا ... تجوب بظلفيها متون الخمائل بأحسن منها إذ تقول تدللا ... وأدمعها تذرين حشو المكاحل تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الصدود الأطاول قال فندمت على قولي وقلت له أصلحك الله أتحدثني في هذا بشيء قال نعم حدثني أبي قال دخلت على سالم بن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم وأشعب يغنيه
مغيرية كالبدر سنة وجهها ... مطهرة الأثواب والعرض وافر لها حسب زاك وعرض مهذب ... وعن كل مكروه من الأمر زاجر من الخفرات البيض لم تلق ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر فقال له سالم زدني فغناه ألمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا فقلت أعطار ثوى في رحالنا ... وما احتملت ليلى سوى طيبها عطرا فقال له سالم والله لولا أن تتداوله الرواة لأجزلت جائزتك فإنك من هذا الأمر بمكان قال الخرائطي حدثنا العباس بن الفضل عن بعض أصحابه قال حججت سنة من السنين فإني لبالربذة إذ وقفت علينا جارية على وجهها برقع فقالت يا معشر الحجيج نفر من هذيل ذهب بنعمهم السيل وقعدت بهم الأيام ما بهم نجعة فمن يراقب فيهم الدار الآخرة ويعرف لهم حق الأخوة جزاه الله خيرا قال فرضخنا لها فقلت لها هل قلت في ذلك شيئا فأنشأت تقول كف الزمان توسدتنا عنوة ... شلت أناملها عن الأعراب قوم إذا حل العفاة ببابهم ... ألفوا نوافلهم بغير حساب فقلنا لها لو أمتعتينا بالنظر إلى وجهك فكشفت البرقع عن وجه لا والله لا تهتدي العقول لوصفه فلما رأتنا قد بهتنا لحسنها أنشأت تقول
الدهر أبدى صفحة قد صانها ... أبواي قبل تمرس الأيام فتمتعوا بعيونكم في حسنها ... وانهوا جوارحكم عن الآثام ثم انصرفت وكان محمد بن حميد الطوسي يهوى جارية فأرسل إليها مرة أترجة فبكت بكاء شديدا فقيل لها يوجه إليك من تحبينه بهدية فتبكين هذا البكاء فغنت أهدى له أحبابه أترجة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر خاف التلون والفراق لأنها ... لونان باطنها خلاف الظاهر فلما جاءه الرسول أخبره عنها بما أغاظه فكتب إليها ضيعت عهد فتى لغيبك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك وصددت عنه وماله من حيلة ... إلا الوقوف إلى أوان رجوعك إن تقتليه وتذهبي بحياته ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك فلما وافتها الرقعة بكت حتى رحمها من حولها ثم اندفعت تقول هل لعيني إلى الرقاد شفيع ... إن قلبي من السقام مروع لا تراني بخلت عنك بدمع ... لا وحق الحبيب مالي دموع إن قلبي إليك صب حزين ... فاستراحت إلى الأنين الضلوع ليس في العطف يا حبيبي بدع ... إنما هجر من يحب بديع
ثم كتبت إليه أنا مملوكة لا أملك من أمري شيئا فإذا كان لك في حاجة فاشترني لأكون طوع يديك فاشتراها فمكثت عنده وكانت من أحظى إمائه حتى قتل في وقعة بابك الخرمي فكانت تتمثل في رثائه بقول أبي تمام محمد بن حميد أخلقت رممه ... أريق ماء المعالي مذ أريق دمه رأيته بنجاد السيف محتبيا ... في النوم بدرا جلت عن وجهه ظلمه فقلت والدمع من حزن ومن كمد ... يجري انسكابا على الخدين منسجمه ألم تمت يا شقيق النفس مذ زمن ... فقال لي لم يمت من لم يمت كرمه فصل وهذا فصل في ذكر حقيقة الحسن والجمال ما هي وهذا أمر لا يدرك إلا بالوصف وقد قيل إنه تناسب الخلقة واعتدالها واستواؤها ورب صورة متناسبة الخلقة وليست في الحسن هناك وقد قيل الحسن في الوجه والملاحة في العينين وقيل الحسن أمر مركب من أشياء وضاءة وصباحة وحسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشرة وقيل الحسن معنى لا تناله العبارة ولا يحيط به الوصف وإنما للناس منه أوصاف أمكن التعبير عنها وقد كان رسول الله في الذروة العليا منه ونظرت إليه عائشة رضي الله عنها ثم تبسمت فسألها مم ذاك فقالت كأن أبا كبير الهذلي إنما عناك بقوله
ومبرإ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل ولقي بعض الصحابة راهبا فقال صف لي محمدا كأني أنظر إليه فإني رأيت صفته في التوراة والإنجيل فقال لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير فوق الربعة أبيض اللون مشربا بالحمرة جعدا ليس بالقطط جمته إلى شحمة أذنه صلت الجبين واضح الخد أدعج العينين أقنى الأنف مفلج الثنايا كأن عنقه إبريق فضة ووجهه كدارة القمر فأسلم الراهب وفي صفة هند بن أبي هالة له لم يكن بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد كان ربعة من الرجال ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم وكان في الوجه تدوير أبيض مشرب أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكتد شثن الكفين والقدمين دقيق المسربة إذا مشى تقلع كأنما ينحط من صبب وإذا التفت التفت جميعا كأن الشمس تجري
في وجهه وكان مع هذا الحسن قد ألقيت عليه المحبة والمهابة فمن وقعت عليه عيناه أحبه وهابه وكمل الله سبحانه له مراتب الجمال ظاهرا وباطنا وكان أحسن خلق الله خلقا وخلقا وأجملهم صورة ومعنى وهكذا كان يوسف الصديق ولهذا قالت امرأة العزيز للنسوة لما أرتهن إياه ليعذرنها في محبته فذلكن الذي لمتنني فيه أي هذا هو الذي فتنت به وشغفت بحبه فمن يلومني على محبته وهذا حسن منظره ثم قالت ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي فمنع هذا الجمال فباطنه أحسن من ظاهره فإنه في غاية العفة والنزاهة والبعد عن الخنا والمحب وإن غيب محبوبه فلا يجري لسانه إلا بمحاسنه ومدحه ويتعلق بهذا قوله تعالى في صفة أهل الجنة ولقاهم نضرة وسرورا فجمل ظواهرهم بالنضرة وبواطنهم بالسرور ومثله قوله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فإنه لا شيء أشهى إليهم وأقر لعيونهم وأنعم لبواطنهم من النظر إليه فنضر وجوههم بالحسن ونعم قلوبهم بالنظر إليه وقريب منه قوله تعالى وحلوا
أساور من فضة فهذا زينة الظاهر ثم قال وسقاهم ربهم شرابا طهورا أي مطهرا لبواطنهم من كل أذى فهذا زينة الباطن ويشبهه قوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا فهذا زينة الظاهر ثم قال ولباس التقوى ذلك خير فهذا زينة الباطن وينظر إليه من طرف خفي قوله تعالى وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا فزين ظاهرها بالمصابيح وباطنها بحفظها من الشياطين وقريب منه قوله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فذكر الزاد الظاهر والزاد الباطن وهذا من زينة القرآن الباطنة المضافة إلى زينة ألفاظه وفصاحته وبلاغته الظاهرة ومنه قوله تعالى لآدم إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فقابل بين الجوع والعري دون الجوع والظمإ وبين الظمإ والضحى دون الظمإ والجوع فإن الجوع عري الباطن وذله والعري جوع الظاهر وذله فقابل بين نفي ذل باطنه وظاهره وجوع باطنه وظاهره والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر فقابل بينهما وسئل المتنبي عن قول امرئ القيس كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبإ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال فقيل له إنه عيب عليه مقابلة سبي الزق الروي بالكر وكان الأحسن مقابلته بتبطن الكاعب جمعا بين اللذتين وكذلك مقابلة ركوب الجواد للكر أحسن من مقابلته لتبطن الكاعب فقال بل الذي أتى به أحسن فإنه قابل مركوب الشجاعة بمركوب اللذة واللهو فهذا مركب الطرب وهذا مركب الحرب والطلب وكذلك قابل بين السباءين سباء الزق وسباء الرق قلت وأيضا فإن الشارب يفتخر بالشجاعة كما قال حسان ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا منا ينهنهنا اللقاء وهذه جملة اعتراضية من ألطف الاعتراض وقيل الحسن ما استنطق أفواه الناظرين بالتسبيح والتهليل كما قيل ذي طلعة سبحان فالق صبحه ... ومعاطف جلت يمين الغارس وقال علي بن الجهم طلعت فقال الناظرون إلى ... تصويرها ما أعظم الله ودنت فلما سلمت خجلت ... والتف بالتفاح خداها وكأن دعص الرمل أسفلها ... وكأن غصن البان أعلاها
حتى إذا ثملت بنشوتها ... قرأت كتاب الباه عيناها وقال آخر ذو صورة بشرية قمرية ... تستنطق الأفواه بالتسبيح وقال آخر وإذا بدت في بعض حاجتها ... تستنطق الأفواه بالتسبيح وقال بشار تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفز حشا الرائي بإرعاد ولي من أبيات يا صورة البدر ولا الذي ... صور ليس البدر يحكيك مني على العين ولا تبخلي ... بنظرة فالعين تفديك وإن تحرجت لهذا فكم ... قد سبح الرحمن رائيك هذا بهذا فارتجي أجر من ... إن غبت عنه ظل يبكيك قال ابن شبرمة كفاك من الحسن أنه مشتق من الحسنة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها وقالت عائشة رضي الله عنها البياض شطر الحسن وقال بعض السلف جعل الله البهاء والهوج مع الطول والدهاء والدمامة مع القصر والخير فيما بين ذلك ومما يذم في النساء المرأة القصيرة الغليظة وهي التي عناها الشاعر بقوله وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي ولم تشعر بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار النسا شر النساء البحاتر
والبحاتر هن النساء القصار الغلاظ وبعضهم يبالغ في هذا حتى يفضل المهازيل على السمان أنشد الزمخشري لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهازيلا إني امرؤ أركب المهر المضمر في ... يوم الرهان فدعني واركب الفيلا وطائفة تفضل السمان وتقول السمن نصف الحسن وهو يستر كل عيب في المرأة ويبدي محاسنها وخيار الأمور أوساطها ومما يستحسن في المرأة طول أربعة وهن أطرافها وقامتها وشعرها وعنقها وقصر أربعة يدها ورجلها ولسانها وعينها فلا تبذل ما في بيت زوجها ولا تخرج من بيتها ولا تستطيل بلسانها ولا تطمح بعينها وبياض أربعة لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها وسواد أربعة أهدابها وحاجبها وعينها وشعرها وحمرة أربعة لسانها وخدها وشفتها مع لعس وإشراب بياضها بحمرة ودقة أربعة أنفها وبنانها وخصرها وحاجبها وغلظ أربعة ساقها ومعصمها وعجيزتها وذاك منها وسعة أربعة جبينها ووجهها وعينها وصدرها وضيق أربعة فمها ومنخرها وخرق أذنها وذاك منها فهذه أحق النساء بقول كثير لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
وقال آخر لو أبصر الوجه منها وهو منهزم ... ليلا وأعداؤه من خلفه وقفا وقال آخر يا طيب مرعى مقلة لم تخف ... بوجنتيها زجر حراس حلت بوجه لم يغض ماؤه ... ولم تخضه أعين الناس وقال آخر فلم يزل خدها ركنا ألوذ به ... والخال في خدها يغني عن الحجر وقول الآخر وأنشده المبرد وأحسن من ربع ومن وصف دمنة ... ومن جبلى طي ومن وصفكم سلعا تلاحظ عيني عاشقين كلاهما ... له مقلة في خد معشوقه ترعى وأنشد ثعلب خزاعية الأطراف مرية الحشا ... فزارية العينين طائية الفم ومكية في الطيب والعطر دائما ... تبدت لنا بين الحطيم وزمزم ثم قال وصفها بما يستحسن من كل قبيلة وقال صالح بن حسان يوما لأصحابه هل تعرفون بيتا من الغزل في امرأة خفرة قلنا نعم بيت لحاتم في زوجته ماوية يضيء لها البيت الظليل خصاصه ... إذا هي يوما حاولت أن تبسما
قال ما صنعتم شيئا قلنا فبيت الأعشى كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل قال جعلها تدخل وتخرج قلنا يا أبا محمد فأي بيت هو قال قول أبي قيس بن الأسلت ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتل عن إتيانهن فتعذر قلت وأحسن من هذا كله ما قاله إبراهيم بن محمد الملقب بنفطويه رحمه الله وخبرها الواشون أن خيالها ... إذا نمت يغشى مضجعي ووسادي فخفرها فرط الحياء فأرسلت ... تعيرني غضبى بطول رقادي ومما يستحسن في المرأة رقة أديمها ونعومة ملمسه كما قال قيس بن ذريح تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ... فليس وإن متنا بمنفصم العهد ولكنه باق على كل حادث ... ومؤنسنا في ظلمة القبر واللحد يكاد مسيل الماء يخدش جلدها ... إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد قلت ومن المبالغة في معنى البيت الأخير قول أبي نواس توهمه قلبي فأصبح خده ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر ومر بقلبي خاطر فجرحته ... ولم أر جسما قط يجرحه الفكر وصافحه كفي فآلم كفه ... فمن غمز كفي في أنامله عقر
ولي من أبيات يدمي الحرير أديمها من مسه ... فأديمها منه أرق وأنعم فصل فيا أيها العاشق سمعه قبل طرفه فإن الأذن تعشق قبل العين أحيانا وجيش المحبة قد يدخل المدينة من باب السمع كما يدخلها من باب البصر والمؤمنون يشتاقون إلى الجنة وما رأوها ولو رأوها لكانوا أشد لها شوقا والصرورة يكاد قلبه يذوب شوقا إلى رؤية البيت الحرام فإن شاقتك هذه الصفات وأخذت بقلبك هذه المحاسن فاسم بعينيك إلى نسوة ... مهورهن العمل الصالح وحدث النفس بعشق الألى ... في عشقهن المتجر الرابح واعمل على الوصل فقد أمكنت ... أسبابه ووقتها رائح فصل وقد وصف الله سبحانه حور الجنة بأحسن الصفات وحلاهن بأحسن الحلي وشوق الخطاب إليهن حتى كأنهم يرونهن رؤية العين قال الطبراني حدثنا بكر بن سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هشام البيروني حدثنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى حور عين قال حور بيض عين ضخام العيون شعر الحوراء بمنزلة
جناح النسر قلت أخبرني عن قوله تعالى كأمثال اللؤلؤ المكنون قال صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي قلت يا رسول الله أخبرني عن قوله فيهن خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه قلت أخبرني عن قوله كأنهن بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقىء قلت يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى عربا أترابا قال هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمصا شمطا خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات متحببات أترابا على ميلاد واحد قلت يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين قال بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة قلت يا رسول الله وبم ذلك قال بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن نحن الخالدات فلا نموت نحن الناعمات فلا نبأس أبدا نحن المقيمات فلا نظعن أبدا ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا قلت يا رسول الله المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها قال يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقا في دار الدنيا فزوجنيه يا أم سلمة ذهب
حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة فصل وقد وصفهن الله تعالى بأنهن كواعب وهو جمع كاعب وهي المرأة التي قد تكعب ثديها واستدار ولم يتدل إلى أسفل وهذا من أحسن خلق النساء وهو ملازم لسن الشباب ووصفهن بالحور وهو حسن ألوانهن وبياضه قالت عائشة رضي الله عنها البياض نصف الحسن وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها والعرب تمدح المرأة بالبياض قال الشاعر بيض أوانس ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من لين الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام والعين جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع شدة سوادها وصفاء بياضها وطول أهدابها وسوادها ووصفهن بأنهن خيرات حسان وهو جمع خيرة وأصلها خيرة بالتشديد كطيبة ثم خفف الحرف وهي التي قد جمعت المحاسن ظاهرا وباطنا فكمل خلقها وخلقها فهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه ووصفهن بالطهارة فقال ولهم فيها أزواج مطهرة طهرن من الحيض والبول والنجو
وكل أذى يكون في نساء الدنيا وطهرت بواطنهن من الغيرة وأذى الأزواج وتجنيهن عليهم وإرادة غيرهم ووصفهن بأنهن مقصورات في الخيام أي ممنوعات من التبرج والتبذل لغير أزواجهن بل قد قصرن على أزواجهن لا يخرجن من منازلهم وقصرن عليهم فلا يردن سواهم ووصفهن سبحانه بأنهن قاصرات الطرف وهذه الصفة أكمل من الأولى ولهذا كن لأهل الجنتين الأوليين فالمرأة منهن قد قصرت طرفها على زوجها من محبتها له ورضاها به فلا يتجاوز طرفها عنه إلى غيره كما قيل أذود سوام الطرف عنك وماله ... على أحد إلا عليك طريق وكذلك حال المقصورات أيضا لكن أولئك مقصورات وهؤلاء قاصرات ووصفهن سبحانه بقوله أبكارا عربا أترابا وذلك لفضل وطء البكر وحلاوته ولذاذته على وطء الثيب قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله لو مررت بشجرة قد رعي منها وشجرة لم يرع منها ففي أيهما كنت ترتع بعيرك فقال في التي لم يرع منها تعني أنه لم يتزوج بكرا غيرها وصح عنه أنه قال لجابر لما تزوج امرأة ثيبا هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك فإن قيل فهذه الصفة تزول بأول وطء فتعود ثيبا قيل
الجواب من وجهين أحدهما أن المقصود من وطء البكر أنها لم تذق أحدا قبل وطئها فتزرع محبته في قلبها وذلك أكمل لدوام العشرة فهذه بالنسبة إليها وأما بالنسبة إلى الواطىء فإنه يرعى روضة أنفا لم يرعها أحد قبله وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ثم بعد هذا تستمر له لذة الوطء حال زوال البكارة والثاني أنه قد روي أن أهل الجنة كلما وطىء أحدهم امرأة عادت بكرا كما كانت فكلما أتاها وجدها بكرا وأما العرب فجمع عروب وهي التي جمعت إلى حلاوة الصورة حسن التأني والتبعل والتحبب إلى الزوج بدلها وحديثها وحلاوة منطقها وحسن حركاتها قال البخاري في صحيحه وأما الأتراب فجمع ترب يقال فلان تربي إذا كنتما في سن واحد فهن مستويات في سن الشباب لم يقصر بهن الصغر ولم يزر بهن الكبر بل سنهن سن الشباب وشبههن تعالى باللؤلؤ المكنون وبالبيض المكنون وبالياقوت والمرجان فخذ من اللؤلؤ صفاء لونه وحسن بياضه ونعومة ملمسه وخذ من البيض المكنون وهو المصون الذي لم تنله الأيدي اعتدال بياضه وشوبه بما يحسنه من قليل صفرة بخلاف الأبيض الأمهق المتجاوز في البياض وخذ من الياقوت والمرجان حسن لونه في صفائه وإشرابه بيسير من الحمرة
فصل فاسمع الآن وصفهن عن الصادق المصدوق فإن مالت النفس وحدثتك بالخطبة وإلا فالإيمان مدخول فروى مسلم في صحيحه من حديث أيوب عن محمد بن سيرين قال إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال في الجنة أكثر أم النساء فقال أبو هريرة رضي الله عنه أو لم يقل أبو القاسم إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلةالبدر والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء إضاءة لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب وقال الطبراني في معجمه حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني والحسن بن علي القسوي قال حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا فضل بن مرزوق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبدالله رضي الله عنه عن النبي قال أول زمرة يدخلون الجنة كأن وجوههم صورة القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على أحسن كوكب دري في السماء لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء قال الحافظ أبو عبدالله المقدسي هذا عندي على شرط الصحيح
وفي الصحيحين من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتغوطون فيها آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشية وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا يونس بن محمد حدثنا الخزرج بن عثمان السعدي حدثنا أبو أيوب مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله قيد سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ولنصيف امرأة من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها قال قلت يا أبا هريرة وما النصيف قال الخمار فإذا كان هذا قدر الخمار فما قدر لابه ! وقال ابن وهب أخبرنا عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الرجل في الجنة لتأتيه امرأة تضرب على منكبيه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد عليها السلام ويسألها من أنت فتقول أنا
المزيد وإنه ليكون عليها سبعون ثوبا أدناها مثل النعمان فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك وإن عليهم التيجان وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وبعض هذا الحديث في جامع الترمذي وهو على شرطه وفي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ولو اطلعت امرأة من نساء الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا وأضاءت ما بينهما ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها وفي المسند من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب وقال ابن وهب حدثنا عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء رواه الترمذي وفي معجم الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي قال خلق الحور العين من الزعفران
فصل فإن أردت سماع غنائهن فاسمع خبره الآن ففي معجم الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط إن مما يغنين به نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام ينظرون بقرة أعيان وإن مما يغنين به نحن الخالدات فلا نمتته نحن الآمنات فلا نخفنه نحن المقيمات فلا نظعنه وقد قيل في قوله تعالى فهم في روضة يحبرون إنه السماع الطيب ولا ريب أنه من الحبرة وقال عبدالله بن محمد البغوي حدثنا علي أنبأنا زهير عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان فعمدوا إلى إحداهما فكأنما أمروا به فشربوا منها فأذهب الله ما في بطونهم من قذى أو أذى أو بأس ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم ولم تتغير أشعارهم بعدها أبدا ولم تشعث رؤوسهم كأنما ادهنوا بالدهان ثم انتهوا إلى خزنة
الجنة فقالوا سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ثم تلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم عليهم من غيبته فيقولون له أبشر بما أعد الله تعالى لك من الكرامة ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين فيقول جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا قالت أنت رأيته قال أنا رأيته وهو بأثرى فيستخف إحداهن الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أخضر وأحمر وأصفر من كل لون ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق ولولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره ثم طأطأ رأسه فإذا أزواجه وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ثم اتكأوا فقالوا الحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ثم ينادي مناد تحيون فلا تموتون أبدا وتقيمون فلا تظعنون أبدا وتصحون فلا تمرضون أبدا وفي سنن ابن ماجه عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة
نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال قولوا إن شاء الله فقال القوم إن شاء الله تعالى فصل فهذا وصفهن وحسنهن فاسمع الآن لذة وصالهن وشأنه ففي مسند أبي يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله فذكر حديثا طويلا وفيه فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعتني في أهل الجنة يدخلون الجنة فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم في دخول الجنة وكان رسول الله يقول والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم فيدخل رجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ ا لله بعبادتهما الله في الدنيا يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة يعني وكبدها له مرآة فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا أنه لا مني ولا منية إلا أن يكون لك أزواج غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت والله ما في الجنة شيء حسن منك وما في الجنة شيء أحب إلي منك وهذا قطعة من حديث الصور الطويل الذي رواه إسماعيل بن رافع وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا رواه البخاري وقال ثلاثون ميلا وفي جامع الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من النساء قلت يا رسول الله ويطيق ذلك قال يعطى قوة مائة قال هذا حديث صحيح غريب وفي معجم الطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة فقال إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء وفي لفظ قلنا يا رسول الله نفضي إلى نسائنا في الجنة فقال إي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى
مائة عذراء قال الحافظ أبو عبدالله المقدسي ورجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح وفي حديث لقيط العقيلي الطويل الذي رواه الطبراني وعبدالله بن أحمد في السنة وغيرهما أنه قال قلت يا رسول الله أو لنا فيها أزواج مصلحات قال الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد وذكر ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج عن عبدالرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال أنطأ في الجنة فقال رسول الله نعم والذي نفسي بيده دحما دحما فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا قال الحافظ أبو عبدالله دراج اسمه عبدالرحمن بن سمعان المصري وثقه يحيى بن معين وأخرج عنه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وكان بعض الأئمة ينكر بعض حديثه والله أعلم وفي معجم الطبراني من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا وفيه أيضا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله سئل هل يتناكح أهل الجنة فقال بذكر لا يمل وشهوة لا تنقطع دحما دحما وفيه أيضا عنه أن رسول الله سئل أيجامع أهل الجنة قال دحما دحما ولكن لا مني ولا منية
من قصيدة للمؤلف في وصف الحور يا خاطب الحور الحسان وطالبا ... لوصالهن بجنة الحيوان لو كنت تدري من خطبت ومن طلبت ... بذلت ما تحوي من الأئمان أو كنت تعرف أين مسكنها جعلت ... السعي منك لها على الأجفان أسرع وحث السير جهدك إنما ... مسراك هذا ساعة لزمان فاعشق وحدث بالوصال النفس وابذل ... مهرها ما دمت ذا إمكان واجعل صيامك دون لقياها ويو ... م الوصل يوم الفطر من رمضان واجعل نعوت جمالها الحادي وسر ... نحو الحبيب ولست بالمتواني واسمع إذن أوصافها ووصالها ... واجعل حديثك ربة الإحسان يا من يطوف بكعبة الحسن التي ... حفت بذاك الحجر والأركان ويظل يسعى دائما حول الصفا ... ومحسر مسعاه كل أوان ويروم قربان الوصال على منى ... والخيف يحجبه عن القربان فلذا تراه محرما أبدا ومو ... ضع حلة منه فليس بدان يبغي التمتع مفردا عن حبه ... متجردا يبغي شفيع قران ويظل بالجمرات يرمي قلبه ... هذي مناسكه بكل زمان والناس قد قضوا مناسكهم وقد ... حثوا ركائبهم إلى الأوطان وحدت بهم همم لهم وعزائم ... نحو المنازل ربة الإحسان رفعت لهم في السير أعلام الوصا ... ل فشمروا يا خيبة الكسلان ورأوا على بعد خياما مشرفا ... ت مشرقات النور والبرهان فتيمموا تلك الخيام فآنسوا ... فيهن أقمارا بلا نقصان
من قاصرات الطرف لا تبغي سوى ... محبوبها من سائر الشبان قصرت عليه طرفها من حسنه ... والطرف منه مطلق بأمان ويحار منه الطرف في الحسن الذي ... قد أعطيت فالطرف كالحيران ويقول لما أن يشاهد حسنها ... سبحان معطي الحسن والإحسان والطرف يشرب من كؤوس جمالها ... فتراه مثل الشارب النشوان كملت خلائقها وأكمل حسنها ... كالبدر ليل الست بعد ثمان والشمس تجري في محاسن وجهها ... والليل تحت ذوائب الأغصان فيظل يععجب وهو موضع ذاك من ... ليل وشمس كيف يجتمعان ويقول سبحان الذي ذا صنعه ... سبحان متقن صنعة الإنسان لا الليل يدرك شمسها فتغيب عند ... مجيئه حتى الصباح الثاني والشمس لا تأتي بطرد الليل بل ... يتصاحبان كلاهما أخوان وكلاهما مرآة صاحبه إذا ... ما شاء يبصر وجهه يريان فيرى محاسن وجهه في وجهها ... وترى محاسنها به بعيان حمر الخدود ثغورهن لآلئ ... سود العيون فواتر الأجفان والبرق يبدو حين يبسم ثغرها ... فيضيء سقف القصر بالجدران ريانة الأعطاف من ماء الشبا ... ب فغصنها بالماء ذو جريان لما جرى ماء النعيم بغصنها ... حمل الثمار كثيرة الألوان فالورد والتفاح والرمان في ... غصن تعالى غارس البستان والقد منها كالقضيب اللدن في ... حسن القوام كأوسط القضبان في مغرس كالعاج تحسب أنه ... عالي النقا أو واحد الكثبان لا الظهر يلحقه وليس ثديها ... بلواحق للبطن أو بدوان
لكنهن كواعب ونواهد ... فثديهن كأحسن الرمان والجيد ذو طول وحسن في بيا ... ض واعتدال ليس ذا نكران يشكو الحلي بعاده فله مدى السأيام ! ... وسواس من الهجران والمعصمان فإن تشأ شبههما ... بسبيكتين عليهما كفان كالزبد لينا في نعومة ملمس ... أصداف در دورت بوزان والصدر متسع على بطن لها ... والخصر منهما مغرم بثمان وعليه أحسن سرة هي زينة ... للبطن قد غارت من الأعكان حق من العاج استدار وحشوه ... حبات مسك جل ذو الإتقان وإذا نزلت رأيت أمرا هائلا ... ما للصفات عليه من سلطان لا الحيض يغشاه ولا بول ولا ... شيء من الآفات في النسوان فخذان قد حفا به حرسا له ... فجنابه في عزة وصبيان قاما بخدمته هو السلطان بينهما ... وحق طاعة السلطان وهو المطاع إذا هو استدعى الحبيب ... أتاه طوعا وهو غير جبان وجماعها فهو الشفاء لصبها ... فالصب منه ليس بالضجران وإذا أتاها عادت الحسناء بكرا ... مثل ما كانت مدى الأزمان وهو الشهي ألذ شيء هكذا ... قال الرسول لمن له أذنان يا رب غفرا قد طغت أقلامنا ... يا رب معذرة من الطغيان أقدامها من فضة قد ركبت ... من فوقها ساقان ملتفان والساق مثل العاج ملموم به ... مخ العظام تناله العينان والريح مسك والجسوم نواعم ... واللون كالياقوت والمرجان وكلامها يسبي العقول بنغمة ... زادت على الأوتار والعيدان وهي العروب بشكلها وبدلها ... وتحبب للزوج كل أوان
أتراب من واحد متماثل ... سن الشباب لأجمل الشبان بكر فلم يأخذ بكارتها سوى ال ... محبوب من إنس ولا من جان يعطى المجامع قوة المائة التي اج ... تمعت لأقوى واحد الإنسان ولقد أتانا أنه يغشى بيو ... م واحد مائة من النسوان ورجاله شرط الصحيح رووا لهم ... فيه وذا في معجم الطبراني وبذاك فسر شغلهم في سورة ... من بعد فاطر يا أخا العرفان هذا دليل أن قدر نسائهم ... متفاوت بتفاوت الإيمان وبه يزول توهم الإشكال عن ... تلك النصوص بمنة الرحمن في بعضها مائة أتى وأتى بها ... سبعون أيضا ثم جا ثنتان فتفاوت الزوجات مثل تفاوت ال ... درجات فالأمران مختلفان وبقوة المائة التي حصلت له ... أفضى إلى مائة بلا خوران وأعفهم في هذه الدنيا هو ال ... أقوى هناك لزهده في الفاني فاجمع قواك لما هنا وغض من ... ك الطرف واصبر ساعة لزمان ما هاهنا والله ما يسوى قلا ... مة ظفر واحدة من النسوان ونصيفها خير من الدنيا وما ... فيها إذا كانت من الأثمان لا تؤثر الأدنى على الأعلى فإن ... تفعل رجعت بذلة وهوان وإذا بدت في حلة من لبسها ... وتمايلت كتمايل النشوان تهتز كالغصن الرطيب وحمله ... ورد وتفاح على رمان وتبخترت في مشيها ويحق ذا ... ك لمثلها في جنة الرضوان
ووصائف من خلفها وأمامها ... وعلى شمائلها وعن أيمان كالبدر ليلة تمه قد حف في ... غسق الدجى بكواكب الميزان فلسانه وفؤاده والطرف في ... دهش وإعجاب وفي سبحان تستنطق الأفواه بالتسبيح إذ ... تبدو فسبحان العظيم الشان والقلب قبل زفافها في عرسه ... والعرس إثر العرس متصلان حتى إذا واجهته تقابلا ... أرأيت إذ يتقابل القمران فسل المتيم هل يحل الصبر عن ... ضم وتقبيل وعن فلتان وسل المتيم أين خلف صبره ... في أي واد أم بأي مكان وسل المتيم كيف حالته وقد ... ملئت له الأذنان والعينان من منطق رقت حواشيه ووج ... ه كم به للشمس من جريان وسل المتيم كيف عيشته إذا ... وهما على فرشيهما خلوان يتساقطان لآلئا منثورة ... من بين منظوم كنظم جمان وسل المتيم كيف مجلسه مع ال ... محبوب في روح وفي ريحان وتدور كاسات الرحيق عليهما ... بأكف أقمار من الولدان يتنازعان الكأس هذا مرة ... والخود أخرى ثم يتكئان فيضمها وتضمه أرأيت مع ... شوقين بعد البعد يلتقيان غاب الرقيب وغاب كل منكد ... وهما بثوب الوصل مشتملان أتراهما ضجرين من ذا العيش لا ... وحياة ربك ما هما ضجران يا عاشقا هانت عليه نفسه ... إذ باعها غبنا بكل هوان أترى يليق بعاقل بيع الذي ... يبقى وهذا وصفه بالفاني
الباب العشرون في علامات المحبة وشواهدها وقبل الخوض في ذلك لا بد من ذكر أقسام لنفوس ومحابها فنقول النفوس ثلاثة نفس سماوية علوية فمحبتها منصرفة إلى المعارف واكتساب الفضائل والكمالات الممكنة للإنسان واجتناب الرذائل وهي مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى وذلك قوتها وغذاؤها ودواؤها فاشتغالها بغيره هو داؤها ونفس سبعية غضبية فمحبتها منصرفة إلى القهر والبغي والعلو في الأرض والتكبر والرئاسة على الناس بالباطل فلذتها في ذلك وشغفها به ونفس حيوانية شهوانية فمحبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب والمنكح وربما جمعت الأمرين فانصرفت محبتها إلى العلو في الأرض والفساد كما قال الله تعالى إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين وقال في آخر السورة تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين والحب في هذا العالم دائر بين هذه النفوس الثلاثة فأي نفس منها صادفت ما يلائم طبعها استحسنته ومالت إليه ولم تصغ فيه لعاذل ولم تأخذها فيه لومة لائم وكل قسم
من هذه الأقسام يرون أن ما هم فيه أولى بالإيثار وأن الاشتغال بغيره والإقبال على سواه غبن وفوات حظ فالنفس السماوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبة طبعية بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم فالملائكة أولياء هذا النوع في الدنيا والآخرة قال الله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم فالملك يتولى من يناسبه بالنصح له والإرشاد والتثبيت والتعليم وإلقاء الصواب على لسانه ودفع عدوه عنه والاستغفار له إذا زل وتذكيره إذا نسي وتسليته إذا حزن وإلقاء السكينة في قلبه إذا خاف وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها وإيعاد صاحبه بالخير وحضه على التصديق بالوعد وتحذيره من الركون إلى الدنيا وتقصير أمله وترغيبه فيما عند الله فهو أنيسه في الوحدة ووليه ومعلمه ومثبته ومسكن جأشه ومرغبه في الخير ومحذره من الشر يستغفر له إن أساء ويدعو له بالثبات إن أحسن وإن بات طاهرا يذكر الله بات معه في شعاره فإن قصده عدو له بسوء وهو نائم دفعه عنه
فصل والشياطين أولياء النوع الثاني يخرجونهم من النور إلى الظلمات قال الله تعالى تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم وقال تعالى كتب عليه أنه من كولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير وقال تعالى ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون ! عنها محيصا وقال تعالى وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا فهذا النوع بين نفوسهم وبين الشياطين مناسبة طبعية بها ملت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم فالشياطين تتولاهم بضد ما تتولى الملائكة لمن ناسبهم فتؤزهم إلى المعاصي أزا وتزعجهم إليها إزعاجا لا يستقرون معه ويزينون لهم القبائح ويخفقونها على قلوبهم ويحلونها في نفوسهم ويثقلون عليها الطاعات ويثبطونهم عنها وبقبحونها في أعينهم ويلقون على ألسنتهم أنواع القبيح من الكلام وما لا يفيد ويزينونه في أسماع من يسمعه منهم
يبيتون معهم حيث باتوا ويقيلون معهم حيث قالوا ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم يأكلون معهم ويشربون معهم ويجامعون معهم وينامون معهم قال تعالى ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين فصل وأما النوع الثالث فهم أشباه الحيوان ونفوسهم أرضية سفلية لا تبالي بغير شهواتها ولا تريد سواها إذا عرفت هذه المقدمة فعلامات المحبة قائمة في كل نوع بحسب محبوبه ومراده فمن تلك العلامات تعرف من أي هذه الأقسام هو فنذكر فصولا من علامات المحبة التي يستدل بها عليها فمنها إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن ضمائره والكاشفة لأسراره وهي أبلغ في ذلك من اللسان لأن دلالتها بغير اختيار صاحبها ودلالة اللسان لفظية تابعة لقصده فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيف ما دار ويجول معه في النواحي والأقطار كما قال أذود سوام الطرف عنك وماله ... على أحد إلا عليك طريق
بل المحب في عين المحبوب تمثاله كما في قلبه شخصه ومثاله كما قيل ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي فالمحب نظره وقف على محبوبه كما قال إن يحجبوها عن العيون فقد ... حجبت عيني لها عن البشر فصل ومنها إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرفإلى الأرض قال الله تعالى مخبرا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء ما زاغ البصر وما طغى وهذا غاية الأدب فإن البصر لم يزغ يمينا ولا شمالا ولا طمح متجاوزا إلى ما هو رائيه ومقبل عليه كالمتشارف إلى ما وراء ذلك ولهذا اشتد نهي النبي للمصلي أن يزيغ بصره إلى السماء وتوعدهم على ذلك بخطف أبصارهم إذ هذا من كمال الأدب مع من المصلي واقف بين يديه بل ينبغي له أن يقف ناكس الرأس مطرقا إلى الأرض ولولا أن عظمة رب العالمين سبحانه فوق سماواته على عرشه لم يكن فرق بين النظر إلى فوق أو إلى أسفل
فصل ومنها كثرة ذكر المحبوب واللهج بذكره وحديثه فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال وأمرهم بذكره أخوف ما يكونون فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون والمحبون يفتخرون بذكرهم أحبابهم وقت المخاوف وملاقاة الأعداء كما قال قائلهم ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر وقال آخر ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم فوددت تقبيل السيوف لأنها ... برقت كبارق ثغرك المتبسم وفي بعض الآثار الإلهية إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه فعلامة المحبة الصادقة ذكر المحبوب عند الرغب والرهب وقال بعض المحبين في محبوبه يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقع
ومن الذكر الدال على صدق المحبة سبق ذكر المحبوب إلى قلب المحب ولسانه عند أول يقظة من منامه وأن يكون ذكره آخر ما ينام عليه كما قال قائلهم آخر شيء أنت في كل هجعة ... وأول شيء أنت وقت هبوبي وذكر المحبوب لا يكون عن نسيان مستحكم فإن ذكره بالقوة في نفس المحب ولكن لضيق المحل به يرد عليه ما يغيب ذكره فإذا زال الوارد عاد الذكر كما كان وأعلى أنواع ذكر الحبيب أن يحبس المحب لسانه على ذكره ثم يحبس قلبه على لسانه ثم يحبس قلبه ولسانه على شهود مذكوره وكما أن الذكر من نتائج الحب فالحب أيضا من نتائج الذكر فكل منهما يثمر الآخر وزرع المحبة إنما يسقى بماء الذكر وأفضل الذكر ما صدر عن المحبة فصل ومن علاماتها الانقياد لأمر المحبوب وإيثاره على مراد المحب بل يتحد مراد المحب والمحبوب وهذا هو الاتحاد الصحيح لا الاتحاد الذي يقوله إخوان النصارى من الملاحدة فلا اتحاد إلا في المراد وهذا الاتحاد علامة المحبة الصادقة بحيث يكون مراد الحبيب والمحب واحدا فليس بمحب صادق من له إرادة تخالف مراد محبوبه منه بل هذا مريد من محبوبه لا مريد له وإن كان مريدا له فليس مريدا لمراده فالمحبون ثلاثة أقسام منهم من يريد من المحبوب ومنهم من يريد المحبوب ومنهم من يريد مراد المحبوب مع إرادته للمحبوب وهذا أعلى أقسام المحبين وزهد هذا أعلى أنواع الزهد فإنه قد
زهد في كل إرادة تخالف مراد محبوبه وبين هذا وبين الزهد في الدنيا أعظم مما بين السماء والأرض فالزهد خمسة أقسام زهد في الدنيا وزهد في النفس وزهد في الجاه والرئاسة وزهد فيما سوى المحبوب وزهد في كل إرادة تخالف مراد المحبوب وهذا إنما يحصل بكمال المتابعة لرسول الحبيب قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم فجعل سبحانه متابعة رسوله سببا لمحبتهم له وكون العبد محبوبا لله أعلى من كونه محبا لله فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا محال في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع فصل ومن علاماتها قلة صبر المحب عن المحبوب بل ينصرف صبره إلى الصبر على طاعته والصبر عن معصيته والصبر على أحكامه فهذا صبر المحب وأما الصبر عنه فصبر الفارغ عن محبته المشغول بغيره قال والصبر يحمد في المواطن كلها ... وعن الحبيب فإنه لا يحمد فمن صبر عن محبوبه أدى به صبره إلى فوات مطلوبه وقال بعض المحبين ما أحسن الصبر وأما على ... أن لا أرى وجهك يوما فلا لو أن يوما منك أو ساعة ... تباع بالدنيا إذا ما غلا
فصل ومنها الإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كله إليه بحيث يفرغ لحديثه سمعه وقلبه وإن ظهر منه إقبال على غيره فهو إقبال مستعار يستبين فيه التكلف لمن يرمقه كما قال وأديم لحظ محدثي ليرى ... أن قد فهمت وعندكم عقلي فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحاب شيء إليه الحديث عنه ولا سيما إذا حدث عنه بكلامه فإنه يقيمه مقام خطابه كما قال القائل المحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم وفيه غاية مطلوبهم ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله اقرأ علي قلت أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان وكان أصحاب رسول الله إذا اجتمعوا أمروا قارئا أن يقرأ وهم يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه أبو موسى يقول يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى وربما بكى عمر ومر رسول الله بأبي موسى رضي الله عنه وهو يصلي من الليل فأعجبته قراءته فوقف واستمع لها فلما غدا على رسول الله قال لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فوقفت واستمعت
لقراءتك فقال لو أعلم أنك كنت تسمع لحبرته لك تحبيرا والله سبحانه وهو الذي تكلم بالقرآن يأذن ويستمع للقارىء الحسن الصوت من محبته لسماع كلامه منه كما قال لله أشد أذنا إلى القارئ الحسن الصوت من صاحب القينة إلى قينته والأذن بفتح الهمزة والذال مصدر أذن يأذن إذا استمع قال الشاعر أيها القلب تعلل بددن ... إن قلبي في سماع وأذن وقال زينوا القرآن بأصواتكم وغلط من قال إن هذا من المقلوب وإن المراد زينوا أصواتكم بالقرآن فهذا وإن كان حقا فالمراد تحسين الصوت بالقرآن وصح عنه أنه قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن ووهم من فسره بالغنى الذي هو ضد الفقر من وجوه أحدها أن ذلك المعنى إنما يقال فيه استغنى لا تغنى والثاني أن تفسيره قد جاء في نفس الحديث يجهر به هذا لفظه قال أحمد نحن أعلم بهذا من سفيان وإنما هو تحسين الصوت به يحسنه ما استطاع الثالث أن هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ ولو احتمله فكيف وبنية اللفظ لا تحتمله كما تقدم وبعد هذا فإذا كان من التغني بالصوت ففيه معنيان أحدهما يجعله له مكان الغناء
لأصحابه من محبته له ولهجه به كما يحب صاحب الغناء لغنائه والثاني أنه يزينه بصوته ويحسنه ما استطاع كما يزين المتغني غناءه بصوته وكثير من المحبين ماتوا عند سماع القرآن بالصوت الشجي فهؤلاء قتلى القرآن لا قتلى عشاق المردان والنسوان فصل ومنها محبة دار المحبوب وبيته حتى محبة الموضع الذي حل به وهذا هو السر الذي لأجله علقت القلوب على محبة الكعبة البيت الحرام حتى استطاب المحبون في الوصول إليها هجر الأوطان والأحباب ولذ لهم فيها السفر الذي هو قطعة من العذاب فركبوا الأخطار وجابوا المفاوز والقفار واحتملوا في الوصول غاية المشاق ولو أمكنهم لسعوا إليها على الجفون والأحداق نعم أسعى إليك على جفوني ... وإن بعدت لمسراك الطريق وسر هذه المحبة هي إضافة الرب سبحانه له إلى نفسه بقوله وطهر بيتي للطائفين قال الشاعر لما انتسبت إليك صرت معظما ... وعلوت قدرا دون من لم ينسب وكل ما نسب إلى المحبوب فهو محبوب وأنه لما قام عبد الله يدعوه سبحان الذي أسرى بعبده تبارك الذي نزل الفرقان على عبده
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ومن فهم هذا فهم معنى قوله تعالى بيدك الخير وقول عبده ورسوله لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك وإذا كان من يحب مخلوقا مثله يحب داره كما قال أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا فكيف بمن ليس كمثله شيء ومن ليس كمثل محبته محبة فصل ومنها الإسراع إليه في السير وحث الركاب نحوه وطي المنازل في الوصول إليه والاجتهاد في القرب والدنو منه وقطع كل قاطع يقطع عنه واطراح الأشغال الشاغلة عنه والزهد فيها والرغبة عنها والاستهانة بكل ما يكون سببا لغضبه ومقته وإن جل والرغبة في كل ما يدني إليه وإن شق قال الشاعر ولو قلت طأ في النار أعلم أنه ... رضا لك أو مدن لنا من وصالك لقدمت رجلي نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أو ضلة من ضلالك فصل ومنها محبة أحباب المحبوب وجيرانه وخدمه وما يتعلق به حتى حرفته وصناعته وآنيته وطعامه ولباسه قال
أحب بني العوام طرا لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا وقال آخر يشتاق واديها ولولا حبكم ... ما شاقه واد زهت أزهاره وقال الآخر فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب وفي أخبار العشاق أن عاشقا عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقه فوجد في تركته اثنا عشر حملا وفردة من السراويلات ذكره البصري وعشق آخر الهاوونات من أجل صوت هاون محبوبته فوجد في تركته عدة آلافمنها وعند الناس من هذا عجائب كثيرة وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يحب الدباء كثيرا لما رأى النبي يتتبعها من جوانب القصعة فصل ومنها قصر الطريق حين يزوره ويوافي إليه كأنها تطوى له وطولها إذا انصرف عنه وإن كانت قصيرة قال وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وقال آخر والله ما جئتكم زائرا ... إلا وجدت الأرض تطوى لي ولا انثنى عزمي عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي وقال آخر وإذا قمت عنك لم أمش إلا ... مشي عان يقاد نحو الفناء وإذا جئت كنت أسرع في السي ... ر من الطير نازلا في الهواء وقال الآخر وتدنو الطريق إذا زرتكم ... وتبعد إذ أنثني راجعا فصل ومنها انجلاء همومه وغمومه إذا زار محبوبه أو زاره وعودها إذا فارقه كما قال يزور فتنجلي عني همومي ... لأن جلاء حزني في يديه ويمضي بالمسرة حين يمضي ... لأن حوالتي فيها عليه ومن المعلوم أنه ليس للمحب فرحة ولا سرور ولا نعيم إلا بمحبوبه وبمفارقة محبوبه عذابه الآجل والعاجل فصل ومنها البهت والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب أو عند سماع ذكره ولا سيما إذا رآه فجأة أو طلع عليه بغتة كما قال الشاعر
فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب فأرجع عن رأيي الذي كان أولا ... وأذكر ما أعددت حين تغيب وقال آخر فما هو إلا أن يراها فجاءة ... فتصطك رجلاه ويسقط للجنب وربما اضطرب عند سماع اسمه فجأة كما قال وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري وقد اختلف في سبب هذه الروعة والفزع والاضطراب فقيل سببه أن للمحبوب سلطانا على قلب محبه أعظم من سلطان الرعية فإذا رآه فجأة راعه ذلك كما يرتاع من يرى من يعظمه فجأة فإن القلب معظم لمحبوبه خاضع له والشخص إذا فجئه المعظم عنده راعه ذلك وقيل سببه انفراج القلب له ومبادرته إلى تلقيه فيهرب الدم منه فيبرد ويرعد ويحدث الاصفرار والرعدة وربما مات وبالجملة فهذا أمر ذوقي وجداني وإن لم يعرف سببه فصل ومنها غيرته لمحبوبه وعلى محبوبه فالغيرة له أن يكره ما يكره ويغار إذا عصي محبوبه وانتهك حقه وضيع أمره فهذه غيرة المحب حقا والدين كله تحت هذه الغيرة فأقوى الناس دينا أعظمهم غيرة وقد قال النبي في الحديث الصحيح أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير
مني فمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنه من المحبين فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه ويسعى في أذاه ومساخطه ويستهين بحقه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك بل قلبه بارد فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت وأقل الأقسام أن يغار له من نفسه وهواه وشيطانه فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه وارتكابه لمعصيته وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الحاملة على ذلك فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامة محبته ومحبوبيته الجهاد فقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم فصل وأما الغيرة على المحبوب فإنما تحمد حيث يحمد الاختصاص بالمحبوب ويذم الاشتراك فيه شرعا وعقلا كغيرة الإنسان على زوجته وأمته والشيء
الذي يختص هو به فيغار من تعرض غيره لذكره ومشاركته له فيه وهذه الغيرة تختص بالمخلوق ولا تتصور في حق الخالق بل المحب لربه يحب أن الناس كلهم يحبونه ويذكرونه ويعبدونه ويحمدونه ولا شيء أقر لعينه من ذلك بل هو يدعو إلى ذلك بقوله وعمله ولما لم يميز كثير من الصوفية بين هاتين الغيرتين وقع في كلامهم تخبيط قبيح وأحسن أمره أن يكون من السعي المغفور لا المشكور وكان بعض جهلتهم إذا رأى من يذكر الله أو يحبه يغار منه وربما سكته إن أمكنه ويقول غيرة الحب تحملني على هذا وإنما ذلك حسد وبغي وعدوان ونوع معادة لله ومراغمة لطريق رسله أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبة الله بمحبة الصور من المخلوقين ولا ريب أن هذه الغيرة محمودة في محبة من لا تحسن مشاركة المحب فيه وسيأتي ذلك في باب الغيرة على المحبوب فصل ومنها بذل المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه مما كان يتمتع به بدون المحبة وللمحب في هذا ثلاثة أحوال أحدها بذله ذلك تكلفا ومشقة وهذا في أول الأمر فإذا قويت المحبة بذله رضا وطوعا فإذا تمكنت من القلب غاية التمكن بذله سؤالا وتضرعا كأنه يأخذه من المحبوب حتى إنه ليبذل نفسه دون محبوبه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يقون رسول الله في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله ولي فؤاد إذا لج الغرام به ... هام اشتياقا إلى لقيا معذبه
يفديك بالنفس صب لو يكون له ... أعز من نفسه شيء فداك به ومن آثر محبوبه بنفسه فهو له بماله أشد إيثارا قال الله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ولا يتم لهم مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليهم من أنفسهم فضلا عن أبنائهم وآبائهم كما صح عنه أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وقال له عمر رضي الله عنه والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله فكيف بمحبته سبحانه وهذا النوع من الحب لا يمكن أن يكون إلا لله ورسوله شرعا ولا قدرا وإن وجد في الناس من يؤثر محبوبه بنفسه وماله فذاك في الحقيقة إنما هو لمحبة غرضه منه فحمله محبة غرضه على أن بذل فيه نفسه وماله وليست محبته لذلك المحبوب لذاته بل لغرضه منه وهذا المحبوب له مثل ولمحبته مثل وأما محبة الله ليس لها مثل ولا للمحبوب مثل ولهذا حكم الصحابة رضي الله عنهم رسول الله في أنفسهم وأموالهم فقالوا هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما
شئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك قال قيس بن صرمة الأنصاري ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبا مؤاتيا ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واستقرت به النوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا بذلنا له الأموال من حل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره ... وأن رسول الله أصبح هاديا فالمحب وصفه الإيثار والمدعي طبعه الاستئثار فصل ومنها سروره بما يسر به محبوبه كائنا ما كان وإن كرهته نفسه فيكون عنده بمنزلة الدواء الكريه يكرهه طبعا ويحبه لما فيه من الشفاء وهكذا المحب مع محبوبه يسره ما يرضى به محبوبه وإن كان كريها لنفسه وأما من كان واقفا مع ما تشتهيه نفسه من مراضي محبوبه فليست محبته صادقة
بل هي محبة معلولة حتى يسر بما ساءه وسره من مراضي محبوبه وإذا كان هذا موجودا في محبة الخلق بعضهم لبعض فالحبيب لذاته أولى بذلك قال أبو الشيص وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم وقريب من هذا البيت الأخير قول الآخر لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك وقال الآخر صدودك عني إن صددت يسرني ... ولم أر قبلي عاشقا سر بالصد سررت به أني تيقنت أنما ... دعاك إليه رغبة منك في ودي ولو كنت فيه تزهدين لساءه ... ولكنما عتب المحب من الوجد فيا فرحة لي إذ رأيتك تعتبي ... علي لذنب كان مني على عمد وقال الآخر أهوى هواها وطول البعد يعجبها ... فالبعد قد صار لي في حبها أربا فمن رأى والها قبلي أخا كلف ... ينأى إذا حبه من أرضه قربا
وقريب من هذا قول أحمد بن الحسين يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم واهتدم بعضهم هذا فقال يا من يعز علينا أن نلم بهم ... إذ بعدنا عنهم قد صار قصدهم إن كان يرضيكم هذا البعاد فما ... فيه لصبكم جرح ولا ألم ولعمر الله أكثر هذه دعاوى لا حقيقة لها والصادق منهم يخبر عن علمه وإرادته لا عن حاله وصفته ولقد أحسن القائل رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى وما ابتلوا فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا وإن كان هذا هو وصف قائلها بعينه وحاله فإنه خاض بحار الحب وما ابتل فيه له قدم وأخبر عن نفسه عند انكشاف غطائه وطلب الرسل له لقدومه على ربه فقال وصدق إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ... فاليوم أحسبها أضغاث أحلام
وهذه حال كل من أحب مع الله شيئا سواه فإنه إلى هذه الغاية يصير ولا بد وسيبدو له إذا انكشف الغطاء أنه إنما كان مغرورا مخدوعا بأمنية ظفرت نفسه بها مدة حياته ثم انقطعت وأعقبت الحسرة والندامة قال الله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأمنهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار فالأسباب التي تقطعت بهم هي الوصل والعلائق والمودات التي كانت لغير الله وفي غير ذات الله وهي التي يقدم إليها سبحانه فيجعلها هباء منثورا فكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها وحسرة عليه إلا محبته ومحبة ما يدعو إلى محبته ويعين على طاعته ومرضاته فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر كما قال سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا ... سريرة حب يوم تبلى السرائر وقال آخر إذا تصدع شمل الوصل بينهم ... فلمحبين شمل غير منصدع وإن تقطع حبل الوصل يومئذ ... فللمحبين حبل غير منقطع فصل ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة والتفرد عن الناس وكأن المحبة قد ثبتت على ذلك فلا شيء أحلىللمحب الصادق من خلوته وتفرده فإنه إن ظفر بمحبوبه أحب خلوته به وكره من يدخل بينهما غاية الكراهة
ولهذا السر والله أعلم أمر النبي برد المار بين يدي المصلي حتى أمر بقتاله وأخبر أنه لو يدري ما عليه من الإثم لكان وقوفه أربعين خيرا له من مروره بين يديه ولا يجد ألم المرور وشدته إلا قلب حاضر بين يدي محبوبه مقبل وقد ارتفعت الأغيار بينه وبينه فمرور المار بينه وبين ربه بمنزلة دخول البغيض بين المحب ومحبوبه وهذا أمر الحاكم فيه الذوق فلا ينكره إلا من لم يذق وقال ابن مسعود رضي الله عنه مرور المار بين يدي المصلي يذهب نصف أجره ذكره الإمام أحمد وأيضا فإن المحب يستأنس بذكر محبوبه وكونه في قلبه لا يفارقه فهو أنيسه وجليسه لا يستأنس بسواه فهو مستوحش ممن يشغله عنه وحدثني تقي الدين بن شقير قال خرج شيخ الإسلام ابن تيمية يوما فخرجت خلفه فلما انتهى إلى الصحراء وانفرد عن الناس بحيث لا يراه أحد سمعته يتمثل بقول الشاعر وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك القلب بالسر خاليا فخلوة المحب لمحبوبه هي غاية أمتيته فإن ظفر بها وإلا خلا به في سره وأوحشه ذلك من الأغيار وكان قيس بن الملوح إذا رأى إنسانا هرب منه فإذا أراد أن يدنو منه ويحادثه ذكر له ليلى وحديثها فيأنس به ويسكن إليه وينبغي للمحب أن يكون كما قال يوسف لإخوته وقد طلب منهم أخاهم فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون إذا لم تكن فيكن سعدى فلا أرى ... لكن وجوها أو أغيب في لحدي
فصل ومنها استكانة المحب لمحبوبه وخضوعه وذله له والحب مبني على الذل ولا يأنف العزيز الذي لا يذل لشيء من ذله لمحبوبه ولا يعده نقصا ولا عيبا بل كثير منهم يعد ذله عزا كما قال إذا كنت تهوى من تحب ولم تكن ... ذليلا فه فاقرأ السلام على الوصل تذلل لمن تهوى لتكسب عزة ... فكم عزة قد نالها المرء بالذل وقال الآخر إخضع وذل لمن تحب فليس في ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد وقال الآخر ويعجبني ذلي لديك ولم يكن ... ليعجبني لولا محبتك الذل وقال آخر يلذ له ذل الهوى وخضوعه ... ولولا الهوى ما لذ للعاقل الذل وقال الآخر مساكين أهل الحب حتى قبورهم ... عليها تراب الذل دون المقابر ومتى استحكم الذل والحب صار عبودية فيصير القلب المحب معبدا لمحبوبه وهذه الرتبة لا يليق أن تتعلق بمخلوق ولا تصلح إلا لله وحده
فصل ومنها امتداد النفس وتردد الأنفاس وتصاعدها وهذا نوعان أحدهما ما يقارنه حزن ولهف كما قال القائل رب ليل أمد من نفس العا ... شق طولا قطعته بانتحاب وقال آخر تردد أنفاس المحب يدلنا ... على كنه ما أخفاه من ألم الحب إذا خطرات الحب خامرن قلبه ... تنفس حتى ظل متصدع القلب والثاني ما يكون سببه طربا ولذة وسبب وجود النوعين انحصار القلب وانفراجه بسبب الوارد الذي ورد عليه فأحدث للنفس الذي تروحه عليه الرئة كيفية مؤذية وطلب إخراجها فهو تنفس الصعداء وأما تنفس الراحة فإن القلب ينبسط بعد انقباضه فيدفع الهواء المحيط به فيطلب الخروج فصل ومنها هجره كل سبب يقصيه من محبوبه ويبغضه المحبوب وارتياحه لكل سبب يدنيه منه ويستحمد به عنده إذا بلغه عنه وفي الباب عجائب للمحبين فكثير منهم هجر طعاما أو لباسا أو أرضا أو صناعة أو حالة من الحالات كان محبوبه يمقتها فلم يعد إليها أبدا ولم تطاوعه نفسه بفعله البتة وكثير منهم حمله الحب على اكتساب المعالي والفضائل وغيرها مما يعلم أن المحبوب يعظمه ويحبه وهذا نوعان أيضا
أحدهما أن يكون المحبوب مؤثرا لذلك محبا له فالمحب يبذل جهده فيه لينال منه أعلاه إن أمكنه فإن كان المحبوب مشغوفا بجمع المال أثر ذلك في محبه شغفا أشد من شغفه وإن كان مشغوفا بالعلم اجتهد المحب في طلبه أشد من من اجتهاده وإن كان مشغوفا بحرفة أو صناعة حرص المحب علىتعلمها إن وجد إلى ذلك سبيلا وإن كان مشغوفا بالنوادر والحكايات الحسان والأخبار المستحسنة بالغ المحب في تحفظها فالمحبة النافعة أن تقع على عشق كامل يحملك عشقه على طلب الكمال والبلية كل البلية أن تبتلى بمحبة فارغ بطال صفر من كل خير فيحملك حبه على التشبه به والثاني أن يكون المحبوب فارغا من محبة ذلك وإيثاره ولكن المحبة تستخرج من قلب المحب عزما وإرادة وحرصا على ما يعظم به في عين المحبوب وقلبه فتجده من أحرص الناس على ذلك بحسب استعداده كما قيل ويرتاح للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله وهذا قد يكون له سبب آخر وهو معاداة الناس له وتنقصهم إياه وازدراؤهم به فيحمله الانتخاء لنفسه والغيرة لها ومحبتها على المنافسة في المعالي واكتساب الحمد وهذا من شرف النفس وعزتها كما قيل من كان يشكر للصديق فإنني ... أحبو بصالح شكري الأعداء هم صيروا طلب المعالي ديدني ... حتى وطئت بنعلي الجوزاء ولربما انتفع الفتى بعدوه ... والسم أحيانا يكون شفاء وقال الآخر عداي لهم فضل علي ومنة ... فلا أعدم الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا فصل ومنها الاتفاق الواقع بين المحب ومحبوبه ولا سيما إذا كانت المحبة محبة مشاكلة ومناسبة فكثيرا ما يمرض المحب بمرض محبوبه ويتحرك بحركته ولا يشعر أحدهما بالآخر ويتكلم المحبوب بكلام فيتكلم المحب به بعينه اتفاقا فانظر إلى قول النبي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية لما قال له ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه فقال ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به فقال قلت لك إنك تأتيه العام قال لا قال فإنك آتيه ومطوف به ثم جاء أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال له يا أبا بكر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديتنا ونرجع ولما يحكم الله بيننا فقال له إنه رسول الله وهو ناصره وليس يعصيه قال ألم يكن يحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به قال أقال لك إنك تأتيه العام قال لا قال فإنك آتيه ومعطوف به فأجاب على جواب رسول الله حرفا بحرف من غير تواطؤ ولا تشاعر بل موافقة محب لمحبوب هكذا وقع في صحيح البخاري ووقع في بعض المغازي أنه أتى أبا بكر أولا فقال له ذلك ثم أتى رسول الله بعده فقال له مثل ما قال أبو بكر قال السهيلي وهذا هو الأولى ويشبه أن يكون المحفوظ فإنه لا يظن بعمر رضي الله عنه أن رسول الله يقول له قولا فلا يرضى به
حتى يأتي أبا بكر رضي الله عنه بعد ذلك والشبهة عنده لم تزل فيعيدها عليه ولا يظن ذلك بعمر رضي الله عنه ولعمري لقد نزع أبو القاسم بذنوب صحيح ولكن المحفوظ هو الذي وقع في البخاري وعليه عامة أهل السير والمسانيد والسنن وأما ما نسب إليه عمر رضي الله عنه فقد أجيب عنه بأنه كان يرجو النسخ وموافقة ربه له في ذلك كما تقدم له أمثالها فإنه كان يقول القول فينزل به الوحي والثاني أن المقام كان مقام محنة وابتلاء عجز عنه صبر أكثر الصحابة ولم يتسع له بطانهم وداخلهم من الهم والقلق والتحرق على أعدائهم أمر عظيم ولهذا لما أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم وينحرا بدنهم لم يقم منهم رجل واحد حتى دخل على أم سلمة مغضبا فقالت له من أغضبك أغضبه الله فقال ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع وهذا يرد تأويل من تأوله على أن القوم كانوا محسنين في ذلك التثبت وأنهم كانوا ينتظرون النسخ فلا لوم عليهم وهذا خطأ قبيح من هذا المعتذر بل كانت المبادرة إلى امتثال أوامره أولى بهم ولو كانوا محسنين في التأخير لما اشتد غضبه عليهم ولكان أولى منهم بانتظار النسخ بل هذا من سعيهم المغفور الذي غفره الله لهم بكمال إيمانهم ونصحهم لله ورسوله وعذرهم الله سبحانه لقوة الوارد وضعفهم عن حمله حتى لم يحمله عمر رضي الله عنه في قوته وشدته واحتمله رسول الله وأبو بكر وكان جوابهما من مشكاة واحدة ولما احتمل رسول الله هذا الحكم الكوني الأمري
الذي حكم الله له به ورضي به وأقر به ودخل تحته طوعا وانقيادا وهو الفتح الذي فتح الله له أثابه الله عليه بأربعة أشياء مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإتمام نعمته عليه وهدايته صراطا مستقيما ونصر الله له نصرا عزيزا وبهذا يقع جواب السؤال الذي أورده بعضهم هاهنا فقال كيف يكون حكم الله له بذلك علة لهذه الأمور الأربعة إذ يقول الله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الآية وجوابه ما ذكرنا أن تسليمه لهذا الحكم والرضا به والانقياد له والدخول تحته أوجب له أن آتاه الله ذلك والمقصود إنما هو ذكر الاتفاق بين المحب والمحبوب وهذا الذي جرى للصديق رضي الله عنه من أحسن الموافقة ومن هذا موافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لربه تعالى في عدة أمور قالها فنزل بها الوحي كما قال وتقوى هذه الموافقة حتى يعلم المحب بكثير من أحوال محبوبه وهو غائب عنه وهذا بحسب تعلق الهمة به وتوجه القلب إليه واتحاد مراده بمراده وربما اقتضى ذلك اتفاقهما في المرض والصحة والفرح والحزن والخلق فإن كان مع ذلك بينهما تشابه في الخلق الظاهر فهو الغاية في الاتفاق ولنقتصر من العلامات على هذا القدر وبالله التوفيق
الباب الحادي والعشرون في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه هذا من موجبات المحبة الصاقة وأحكامها فإن قوى الحب متى انصرفت إلى جهة لم يبق فيها متسع لغيرها ومن أمثال الناس ليس في القلب حبان ولا في السماء ربان ومتى تقسمت قوى الحب بين عدة محال ضعفت لا محالة وتأمل قوله سبحانه وتعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا كيف أمره بتقواه المتضمنة لإفراده بامتثال أمره ونهيه محبة له وخشية ورجاء فإن التقوى لا تتم إلا بذلك واتباع ما أوحي إليه المتضمن لتركه ما سوى ذلك واتباع المنزل خاصة وبالتوكل عليه وهو يتضمن اعتماد القلب عليه وحده وثقته به وسكونه إليه دون غيره ثم أتبع ذلك بقوله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فأنت تجد تحت هذا اللفظ أن القلب ليس له إلا وجهة واحدة إذا مال بها إلى جهة لم يمل إلى غيرها وليس للعبد قلبان يطيع الله ويتبع أمره ويتوكل عليه بأحدهما والآخر لغيره بل ليس إلا قلب واحد فإن لم يفرد بالتوكل والمحبة والتقوى ربه وإلا انصرف ذلك إلى غيره ثم استطرد من ذلك إلى أنه سبحانه لم يجعل زوجة الرجل أمه واستطرد منه إلى
أنه لم يجعل دعيه ابنه فانظر ما أحسن هذا التأصيل وهذا الاستطراد الذي تسجد له العقول والألباب وله نظائر في القرآن عديدة فمنها قوله هو الذي خلقكم من نفس واحدةوجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون فالنفس الواحدة وزوجها آدم وحواء واللذان جعلا له شركاء فيما آتاهما المشركون من أولادهما ولا يلتفت إلى غير ذلك مما قيل إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد فأتاهما إبليس فقال إن أحببتما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ففعلا فإن الله سبحانه اجتباه وهداه فلم يكن ليشرك به بعد ذلك ونظير هذا الاستطراد قوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ثم قال وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها فإنهم كانوا يفعلون ذلك في الإحرام فلما ذكر لهم وقت الإحرام الذي هو من فوائد الأهلة استطرد منه إلى ذكر ما يفعلونه فيه وهو كثير جدا والمقصود أن المحبة تستلزم توحيد المحبوب فيها وقد بالغ أبو محمد بن حزم في إنكاره على من يزعم أنه يعشق أكثر من واحد وقال في ذلك شعرا ونحن نذكر كلامه وشعره قال بعد كلام طويل ومن هذا دخل الغلط على من يزعم أنه يحب اثنين ويعشق شخصين متغيارين وإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرنا آنفا وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق وأما نفس المحب
فما في الميل به فضل يصرفه من أسباب دينه ودنياه فكيف بالاشتغال بحب ثان وفي ذلك أقول كذب المدعي هوى اثنين حتما ... مثل ما في الأصول أكذب ماني ليس في القلب موضع لحبيبين ... ولا أحدث الأمور اثنان فكما العقل واحد ليس يدري ... خالقا غير واحد رحمان فكذا القلب واحد ليس يقوى ... غير فرد مباعد أو مدان هو في شرعة المودة ذو شك ... بعيد من صحة الإيمان وكذا الدين واحد مستقيم ... وكفور من عنده دينان وقد اختلف الناس في هذه المسألة فقالت طائفة ليس للقلب إلا وجهة واحدة إذا توجه إليها لم يمكنه التوجه إلى غيرها قالوا وكما أنه لا يجتمع فيه إرادتان معا فلا يكون فيه حبان وكان الشيخ إبراهيم الرقي رحمه الله يميل إلى هذا وقالت طائفة بل يمكن أن يكون له وجهتان فأكثر باعتبارين فيتوجه إلى أحدهما ولا يشغله عن توجهه إلى الآخر قالوا والقلب حمال فما حملته تحمل فإذا حملته الأثقال حملها وإن استعجزته عجز عن حمل غير ما هو فيه فالقلب واسع يجتمع فيه التوجه إلى الله سبحانه وإلى أمره وإلى مصالح عباده
ولا يشغله واحد من ذلك عن الآخر فقد كان رسول الله قلبه متوجه في الصلاة إلى ربه وإلىمراعاة أحوال من يصلي خلفه وكان يسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة خشية أن يشق على أمه أفلا ترى قلبه الواسع الكريم كيف اتسع للأمرين ولا يظن أن هذا من خصائص النبوة فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجهز جيشه وهو في الصلاة فيتسع قلبه للصلاة والجهاد في آن واحد وهذا بحسب سعة القلب وضيقه وقوته وضعفه قالوا وكمال العبودية أن يتسع قلب العبد لشهود معبوده ومراعاة آداب عبوديته فلا يشغله أحد الأمرين عن الآخر وهذا موجود في الشاهد فإن الرجل إذا عمل عملا للسلطان مثلا بين يديه وهو ناظر إليه يشاهده فإن قلبه يتسع لمراعاة عمله وإتقانه وشهود إقبال السلطان عليه ورؤيته له بل هذا شأن كل محب يعمل لمحبوبه عملا بين يديه أو ي غيبته قالوا وهذا رسول الله بكى يوم موت ابنه إبراهيم فكان بكاؤه رحمة له فاتسع قلبه لرحمة الولد وللرضا بقضاء الله ولم يشغله أحدهما عن الآخر لكن الفضيل لم يتسع قلبه يوم موت ابنه لذلك فجعل يضحك فقيل له أتضحك وقد مات ابنك فقال إن الله سبحانه قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه ومعلوم أن بين هذه الحال وحال رسول الله حينئذ تفاوت لا يعلمه إلا الله ولكن لم يتسع قلبه لما اتسع له قلب رسول الله ونظير هذا اتساع قلب رسول الله لغناء الجويريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة رضي الله عنها فلم يشغله ذلك عن ربه ورأى فيه من مصلحة إرضاء النفوس الضعيفة بما يستخرج منها من محبة الله ورسوله ودينه فإن النفوس متى نالت شيئامن حظها طوعت ببذل ما عليها من الحق ولم يتسع
قلب عمر لذلك لما دخل فأنكره وكم بين من ترد عليه الواردات فكل منها يثير همته ويحرك قلبه إلىالله كما قال القائل يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقع ومن يرد عليه من الواردات فيشغله عن الله ويقطعه عن سير قلبه إليه فالقلب الواسع يسير بالخلق إلى الله ما أمكنه فلا يهرب منهم ولا يلحق بالقفار والجبال والخلوات بل لو نزل به من نزل سار به إلى الله فإن لم يسر معه سار هو وتركه ولا ينكر هذا فالمحبة الصحيحة تقتضيه وخذ هذا في المغني إذا طرب فلو نزل به من نزل أطربهم كلهم فإن لم يطربوا معه لم يدع طربه لغلظ أكبادهم وكثافة طبعهم وكان شيخنا يميل إلى هذا القول وهو كما ترى قوته وحجته والتحقيق أن المحبوب لذاته لا يمكن أن يكون إلا واحدا ومستحيل أن يوجد في القلب محبوبان لذاتهما كما يستحيل أن يكون في الخارج ذاتان قائمتان بأنفسهما كل ذات منهما مستغنية عن الأخرى من جميع الوجوه وكما يستحيل أن يكون للعالم ربان متكافئان مستقلان فليس الذي يحب لذاته إلا الإله الحق الغني بذاته عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير بذاته إليه وأما ما يحب لأجله سبحانه فيتعدد ولا تكون محبة العبد له شاغلة له عن محبة ربه ولا يشركه معه في الحب فقد كان رسول الله يحب زوجاته وأحبهن إليه عائشة رضي الله عنها وكان يحب أباها ويحب عمر رضي الله عنهم وكان يحب أصحابه وهم مراتب في حبه لهم ومع هذا فحبه كله لله وقوى حبه جميعها منصرفة إليه سبحانه
فإن المحبة ثلاثة أقسام محبةالله والمحبة له وفيه والمحبة معه فالمحبة له وفيه من تمام محبته وموجباتها لا من قواطعها فإن محبة الحبيب تقتضي محبة ما يحب ومحبة ما يعين على حبه ويوصل إلى رضاه وقربه وكيف لا يحب المؤمن ما يستعين به على مرضاة ربه ويتوصل به إلى حبه وقربه وأما المحبة مع الله فهي المحبة الشركية وهي كمحبة أهل الأنداد لأندادهم كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وأصل الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك في هذه المحبة فإن المشركين لم يزعموا أن آلهتهم وأوثانهم شاركت الرب سبحانه في خلق السموات والأرض وإنما كان شركهم بها من جهة محبتها مع الله فوالوا عليها وعادوا عليها وتألهوها وقالوا هذه آلهة صغار تقربنا إلى الإله الأعظم ففرق بين محبة الله أصلا والمحبة له تبعا والمحبةمع شركا وعليك بتحقيق هذا الموضع فإنه مفرق الطرق بين أهل التوحيد وأهل الشرك ويحكى أن الفضيل دخل على ابنته في مرضها فقالت له يا أبت هل تحبني قال نعم قالت لا إله إلا الله والله ما كنت أظن فيك هذا ولم أكن أظنك تحب مع الله أحدا ولكن أفرد الله بالمحبة واجعل لي منك الرحمة أي يكون حبك لي حب رحم جعلها الله في قلب الوالد لولده لا محبة مع الله فلله حق من المحبة لا يشركه فيه غيره وأظلم الظلم وضع تلك المحبة في غير موضعها والتشريك بين الله وغيره فيها فليتدبر اللبيب هذا الباب فإنه من أنفع أبواب الكتاب إن شاء الله تعالى
الباب الثاني والعشرون في غيرة المحبين على أحبابهم لما كان هذا الباب متصلا بإفراد المحبوب بالمحبة ومن موجباته فإن الغيرة بحسب قوة المحبة وقوتها بحسب إفراد المحبوب حسن ذكره بعده وأصل الغيرة الحمية والأنفة والغيرة نوعان غيرة للمحبوب وغيرة عليه فأما الغيرة له فهي الحمية له والغضب له إذا استهين بحقه وانتقصت حرمته وناله مكروه من عدوه فيغضب له المحب ويحمى وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه فهذه غيرة المحبين حقا وهي من غيرةالرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به واستحل محارمه وعصى أمره وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب وماله وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفة يكرهها محبوبه ويمقته عليها أو يفعل ما يبغضه عليه ثم يغار له بعد ذلك أن يكون في غيره صفة يكرهها ويبغضها والدين كله في هذه الغيرة بل هي الدين وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر إلا بهذه الغيرة ومتى خلت من القلب خلا من الدين فالمؤمن يغار لربه من نفسه ومن غيره إذا لم يكن له كما يحب والغيرة تصفي القلب وتخرج خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد
فصل وأما الغيرة علىالمحبوب فهي أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره وهذه أيضا نوعان غيرة المحب أن يشاركه غيره في محبوبه وغيرة المحبوب على محبه أن يحب معه غيره والغيرة من صفات الرب جل جلاله والأصل فيها قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ومن غيرته تعالى لعبده وعليه يحميه مما يضره في آخرته كما في الترمذي وغيره مرفوعا إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وفي الصحيحين أن رسول الله قال في خطبة الكسوف والله يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته وفي ذكر هذا الذنب بخصوصه في خطبة الكسوف سر بديع قد نبهنا عليه في باب غض البصر وأنه يورث نورا في القلب ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين الأمر به وبين ذكر آية النور فجمع الله سبحانه بين نور القلب بغض البصر وبين نوره الذي مثله بالمشكاة لتعلق أحدهما بالآخر فجمع النبي بين ظلمة القلب بالزنا وبين ظلمة الوجود بكسوف الشمس وذكر أحدهما مع الآخر وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ليس شيء أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه ولا أحد أحاب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل
وروى الثوري عن حماد بن إبراهيم عن عبدالله قال إن الله تعالى ليغار للمسلم فليغر وروي أيضا عن عبدالأعلى عن ابن عيينة عن أمه عن عبدالله رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله تعالى يغار فليغر أحدكم وفي الصحيح عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله يغار والمؤمن يغار وغيرةالله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه وروى القعنبي عن الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله المؤمن يغار والله أشد غيرة فصل وغيرةالعبد علىمحبوبه نوعان غيرةممدوحة يحبها الله وغيرة مذمومة يكرهها الله فالتي يحبها الله أن يغار عند قيام الريبة والتي يكرهها أن يغار من غير ريبة بل من مجرد سوء الظن وهذه الغيرة تفسد المحبة وتوقع العداوة بين المحب ومحبوبه وفي المسند وغيره عنه قال الغيرة غيرتان فغيرة يحبها الله الله وأخرى يكرهها الله قلنا يا رسول الله ما الغيرة التي يحب الله قال أن تؤتى معاصيه أو تنتهك محارمه قلنا فما الغيرة التي يكره الله
قال غيرة أحدكم في غير كنهه وفي الصحيح عنه إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة وفي الصحيح عنه أنه قال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني وقال عبدالله بن شداد الغيرة غيرتان غيرة يصلح بهاالرجل أهله وغيرة تدخله النار وروى عبدالله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن شماسة المهري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله دخل على مارية القبطية وهي حامل بإبراهيم وعندها نسيب لها قدم معها من مصر فأسلم وكان كثيرا ما يدخل على أم إبراهيم وأنه جب نفه فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق قليل ولا كثير فدخل رسول الله يوما عليها فوجد عندها قريبها فوجد في نفسه من ذلك شيئا كما يقع في أنفس الناس فخرج متغير اللون فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعرف ذلك في وجهه فقال يا رسول الله أراك متغير اللون فأخبره ما وقع في نفسه من قريب مارية فمضى بسيفه فأقبل يسعى حتى دخل على مارية فوجد عندها قريبها ذلك فأهوى بالسيف ليقتله فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه فلما رآه عمر رضي الله عنه رجع إلى رسول الله فأخبره فقال إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله تعالى قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي وبشرني أن في بطنها غلاما وأنه أشبه الخلق بي وأمرني أن أسميه إبراهيم
وقال الواقدي عن محمد بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه قال كانت سارة عند إبراهيم فمكثت معه دهرا لا ترزق منه ولدا فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمتها فولدت لإبراهيم فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها وعتبت على هاجر فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أعضاء فقال لها إبراهيم هل لك أن تبر يمينك قالت كيف أصنع قال اثقبي أذنيها واخفضيها والخفض هو الختان ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسنا فقالت سارة إنما زدتها جمالا فلم تقاره على كونها معه ووجد بها إبراهيم وجدا شديدا فنقلها إلى مكة فكان يزورها كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها وفي الصحيح من حديث حميد عن أنس رضي الله عنه قال أهدى بعض نساء النبي له قصعة فيها ثريد وهو في بيت بعض نسائه فضربت يد الخادم فانكسرت القصعة فجعل النبي يأخذ الثريد ويرده في القصعة ويقول كلوا غارت أمكم ثم انتظر حتى جاءت قصعة صحيحة فأعطاها التي كسرت قصعتها وقالت عائشة رضي الله عنها ما غرت على امرأة قط ما غرت على خديجة من كثرة ذكر النبي إياها ولقد ذكرها يوما فقلت ما تصنع بعجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها فقال والله ما أبدلني الله خيرا منها فانظر هذه الغيرة
الشديدة على امرأة بعدما ماتت وذلك لفرط محبتها لرسول الله كانت تغار عليه أن يذكر غيرها وكذلك غيرتها من صفية رضي الله عنها فإن رسول الله لما قدم بها المدينة وقد اتخذها لنفسه زوجة وعرس بها في الطريق قالت عائشة رضي الله عنها تنكرت وخرجت أنظر فعرفني فأقبل إلي فانقلبت فأسرع المشي فأدركني فاحتضنني وقال كيف رأيتها قلت يهودية بين يهوديات تعني السبي وفي المسند من حديث الأشعث بن قيس قال تضيفت بعض أصحاب النبي فقام إلى امرأته فضربها قال فحجزت بينهما فرجع إلى فراشه فقال ياأشعث احفظ عني شيئا سمعته من رسول الله لا تسألن رجلا فيم يضرب امرأته وذكر حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع امرأته تكلم رجلا من وراء جدار بينها وبينه قرابة لا يعلمها ابن عمر فجمع لها جرائد ثم ضربها حتى أضبت حسيسا وذكر الخرائطي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يأكل تفاحا ومعه امرأته فدخل عليه غلام له فناولته تفاحة قد أكلت منها فأوجعها معاذ ضربا ودخل يوما على امرأته وهي تطلع في خباء أدم فضربها وذكر الثوري عن أشعث عن الحسن أن امرأة جاءت تشكو زوجها إلى النبي
لطمها فدعا الرجل ليأخذ حقها فأنزل الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض فقال رسول الله أردنا أمرا وأراد الله أمرا وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد الغيرة وكانت امرأته تخرج فتشهد الصلاة فيكره ذلك فتقول إن نهيتني انتهيت فيسكت امتثالا لقول رسول الله لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وهو الذي أشار على النبي أن يحجب نساءه وكان عادة العرب أن المرأة لا تحتجب لنزاهتهم ونزاهة نسائهم ثم قام الإسلام على ذلك فقال عمر يا رسول الله لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر فأنزل الله تعالى آية الحجاب ورفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل قد قتل امرأته ومعها رجل آخر فقال أولياء المرأة هذا قتل صاحبتنا وقال أولياء الرجل إنه قد قتل صاحبنا فقال عمر رضي الله عنه ما يقول هؤلاء قال ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال لهم عمر ما يقول فقالوا ضرب بسيفه فقطع فخذي المرأة فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنتين فقال عمر رضي الله عنه إن عادوا فعد ذكره سعيد بن منصور في سننه وأخذ بهذا جماعة من الفقهاء منهم الإمام أحمد وأصحابه رحمهم الله تعالى قالوا لو وجد رجلا يزني بامرأته
فقتلهما فلا قصاص عليه ولا ضمان إلا أن تكون المرأة مكرهة فعليه القصاص بقتلها ولكن لا يقبل قول الزوج إلا بتصديق الولي أو بينة واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في عدد البينة فروي عنه أنها رجلان ويروى عنه لا بد من أربعة ووجه هذه الرواية ظاهر حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت رجلا مع امرأتي أمهله حتى آتي بأربعة شهداء فقال النبي نعم فقال والذي بعثك بالحق إن كنت لأضربه بالسيف غير مصفح فقال النبي ألا تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني وذكر سعيد بن منصور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته فإذا مع امرأته رجل فقتلها وقتله فقال علي رضي الله عنه إن جاء بأربعة شهداء وإلا دفع برمته ووجه رواية الاكتفاء باثنين أن البينة ليست على إقامة الحد ولكن على وجوب السبب المانع من القصاص فإن الزوج كان له أن يقتل المتعدي على أهله ولكن لما أنكر أولياء القتيل طولب القاتل بالبينة فاكتفي برجلين ورفع إلى عمر رضي الله عنه رجل قد قتل يهوديا فسأله عن قصته فقال إن فلانا خرج غازيا وأوصاني بامرأته فبلغني أن يهوديا يختلف إليها فكمنت له حتى جاء فجعل ينشد ويقول
وأبيض غرةالإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها ويمسي ... على جرداء لاحقة الحزام كأن مواضع الربلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام فقمت إليه فقتلته فأهدر عمر دمه وليس في هذين الأمرين مطلبة عمر رضي الله عنه القاتل بالبينة إذ لعله تيقن ذلك أو أقر به الولي والصواب أنه متى قام على ذلك دلالة ظاهرة لا تحتمل الكذب أغنت عن البينة وذكر سفيان بن عيبنة عن الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير أن رجلا أضاف إنسانا من هذيل فذهبت جارية لهم تحتطب فأرادها عن نفسها فرمته بفهر فقتلته فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ذاك قتيل الله لا يودى أبدا وذكر حماد بن سلمة عن القاسم بن محمد أن أبا السيارة أولع بامرأة أبي جندب يراودها عن نفسها فقالت لا تفعل فإن أبا جندب إن يعلم بهذا يقتلك فأبى أن ينزع فكلمت أخا أبا جندب فكلمه فأبى أن ينزع فأخبرت بذلك أبا جندب فقال أبو جندب إني مخبر القوم أني أذهب إلى الإبل فإذا أظلمت جئت فدخلت البيت فإن جاءك فأدخليه علي فودع أبو جندب القوم وأخبرهم أني ذاهب إلى الإبل فلما أظلم الليل جاء فكمن في
البيت وجاء أبو السيارة وهي تطحن في ظلها فراودها عن نفسها فقالت ويحك أرأيت هذا الأمر الذي تدعوني إليه هل دعوتك إلى شيء منه قط قال لا ولكن لا أصبر عنك قالت أدخل البيت حتى أتهيأ لك فلما دخل البيت أغلق أبو جندب الباب ثم أخذه فدقه من عنقه إلى عجب ذنبه فذهبت المرأة إلى أخي أبي جندب فقالت ادرك الرجل فإن أبا جندب قاتله فجعل أخوه يناشده فتركه وحمله أبو جندب إلى مدرجة الإبل فألقاه فكان إذ مر به إنسان قال له ما شأنك فيقول وقعت من بكر فحطمني وبلغ الخبر عمر رضي الله عنه فأرسل إلى أبي جندب فأخبره بالأمر على وجهه فأرسل إلى أهل المرأة فصدقوه فجلد عمر أبا السيارة مائة جلدة وأبطل ديته وذكر العباس بن هشام الكلبي عن أبيه أن عمرو بن حممة الدوسي أتى مكة حاجا وكان من أجمل العرب فنظرت إليه امرأة فقالت لا أدري وجهه أحسن أم فرسه وكانت له جمة تسمى الزينة فكان إذا جلس مع أصحابه نشرها وإذا قام عقصها فقالت له المرأة أين منزلك قال نجد قالت ما أنت بنجدي ولا تهامي فاصدقني فقال رجل من أهل السراة فيما بين مكة واليمن ثم أشار إليها ارتدفي خلفي ففعلت فمضى بها إلى السراة وتبعها زوجها فلم يلحقها فرجع فلما استقرت عنده قطع عروقها وقال والله لا تتبعين بعدي رجلا أبدا ثم ردها إلى زوجها على تلك الحال
فصل والله سبحانه وتعالى يغار على قلب عبده أن يكون معطلا من حبه وخوفه ورجائه وأن يكون فيه غيره فالله سبحانه وتعالى خلقه لنفسه واختاره من بين خلقه كما في الأثر الإلهي ابن آدم خلقتك لنفسي وخلقت كل شيء لك فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عم ما خلقتك له وفي أثر آخر خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت لك برزقك فلا تتعب يا ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا خير لك من كل شيء ويغار على لسانه أن يتعطل من ذكره ويشتغل بذكر غيره ويغار على جوارحه أن تتعطل من طاعته وتشتغل بمعصيته فيقبح بالعيد أن يغار مولاه الحق على قلبه ولسانه وجوارحه وهو لا يغار عليها وإذا أراد الله بعبده خيرا سلط على قلبه إذا أعرض عنه واشتغل بحب غيره أنواع العذاب حتى يرجع قلبه إليه وإذا اشتغلت جوارحه بغير طاعته ابتلاها بأنواع البلاء وهذا من غيرته سبحانه وتعالى على عبده وكما أنه سبحانه وتعالى يغار على عبده المؤمن فهو يغار له ولحرمته فلا يمكن المفسد أن يتوصل إلى حرمته غيرة منه لعبده فإنه سبحانه وتعالى يدفع عن الذين آمنوا فيدفع عن قلوبهم وجوارحهم وأهلهم وحريمهم وأموالهم يتولى سبحانه الدفع عن ذلك كله غيرة منه لهم كما غاروا لمحارمه من نفوسهم ومن غيرهم والله تعالى يغار على إمائه وعبيده من المفسدين شرعا وقدرا ومن أجل ذلك حرم الفواحش وشرع عليها أعظم العقوبات وأشنع القتلات لشدة غيرته على إمائه وعبيده فإن عطلت هذه العقوبات شرعا أجراها سبحانه قدرا
فصل ومن غيرته سبحانه وتعالى غيرته على توحيده ودينه وكلامه أن يحظى به من ليس من أهله بل حال بينهم وبينه غيرة عليه قال الله تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ولذلك ثبط سبحانه أعداءه عن متابعة رسوله واللحاق به غيرة كما قال الله تعالى ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين فغار سبحانه على نبيه وأصحابه أن يخرج بينهم المنافقون فيسعوا بينهم بالفتنة فثبطهم وأقعدهم عنهم وسمع الشبلي رحمه الله تعالى قارئا يقرأ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فقال أتدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله يعني أنه سبحانه وتعالى لم يجعل الكفار أهلا لمعرفته وها هنا نوع من غيرة الرب سبحانه وتعالى لطيف لا تهتدي إليه العقول وهو أن العبد يفتح له باب من الصفاء والأنس والوجود فيساكنه ويطمئن إليه وتلتذ به نفسه فيشتغل به عن المقصود فيغار عليه مولاه الحق
فيخليه منه ويرده حينئذ إليه بالفقر والذلة والمسكنة ويشهده غاية فقره وإعدامه وأنه ليس معه من نفسه شيء البتة فتعود عزة ذلك الأنس والصفاء الوجود ذلو ومسكنة وفقرا وفاقة وذرة من هذا أحب إليه سبحانه وتعالى وأنفع للعبد من الجبال الرواسي من ذلك الصفاء والأنس المجرد عن شهود الفقر والذ1لة والمسكنة وهذا باب لا يتسع له قلب كل أحد فصل ومن الغيرة الغيرة على دقيق العلم ومالا يدركه فهم السامع أن يذكر له ولهذه الغيرة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال ابن مسعود رضي الله عنه ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة فالعالم يغار على علمه أن يبذله لغير أهله او يضعه في غير محله كما قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تبذلوها لغير أهلها فتظلموها وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير قوله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن فقال للسائل وما يؤمنك أني إن أخبرتك بتفسيرها كفرت فإنك تكذب به وتكذيبك بها كفرك بها فالمسألة الدقيقة اللطيفة التي تبذل لغير أهلها كالمرأة لحسناء التي تهدى إلى ضرير مقعد كما قيل
خود تزف إلى ضرير مقعد وكان أبو علي إذا وقع شيء في خلال مجلسه من تشويش الوقت يقول هذا من غيرة الحق يريد أن لا يجري ما يجري من صفاء الوقت قال الشاعر همت بإتياننا حتى إذا نظرت ... إلى المراة نهاها وجهها الحسن ما كان هذا جزائي من محاسنها ... عذبت بالهجر حتى شفني الحزن قال القشيري وقيل لبعضهم أتحب أن تراهم قال لا قيل ولم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي وفي معناه أنشدوا إني لأحد ناظري عليكا ... حتى أغض إذا نظرت إليكا وأراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا قلت وهذه غيرة فاسدة وغاية صاحبها أن يعفى عنه وأن يعد ذلك في شطحاته المذمومة وأما أن تعد في مناقبه وفضائله أن يقال أتحب أن ترى الله فيقول لا ورؤيته أعلى نعيم أهل الجنة وهو سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يسأله النظر إليه وقبد ثبت عن النبي أنه كان من دعائه اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وقول هذا القائل أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي من خدع الشيطان والنفس وهو يشبه ما يحكى عن بعضهم أنه قيل له ألا تذكره فقال أنزهه أن يجري ذكره على لساني وطرد هذا التنزيه الفاسد أن ينزهه أن يجري كلامه على لسانه أو يخطر هو أيضا على قلبه وقد وقع بعضهم في شيء من هذا فلاموه فأنشد
يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني إذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني وطرد هذه الغيرة أن لا يزور بيته غيرة على بيته أن يزوره مثله ولقد لمت شخصا مرة على ترك الصلاة فقال لي إني لا أرى نفسي أهلا أن أدخل بيته فانظر إلى تلاعب الشيطان بهؤلاء ومن هذا ما ذكره القشيري قال سئل الشبلي متى تستريح فقال إذا لم أر له ذاكرا ومات ابن له فقطعت أمه شعرها فدخل هو الحمام ونور لحيته حتى ذهب شعرها فقيل له لم فعلت هذا فقال إنهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله ففديت ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي وموافقة لأهلي ونظير هذا ما يحكى عن النوري رحمه الله تعالى أنه سمع رجلا يؤذن فقال طعنة وسم الموت وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فسئل عن ذلك فقال أما ذاك فكان يذكره على راس الغفلة وأما الكلب فقال الله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده وسمع الشبلي مرة رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله هن هذا وياعجبا ممن يعد هذا في مناقب رجل ويجعله قدوة ويزين به كتابه وهل شيء أشد على قلب المؤمن وأمر عليه من أن لا يرى لربه ذاكرا وهل شيئ أقر لعينه من أن يرى ذاكرين الله بكل مكان وعذر هذا القائل أنه لا يرى ذاكرا لله بحق الذكر بل لا يرى ذاكرا إلا والغفلة والسهوة مستولية على قلبه فيذكر ربه بلسان فارغ من القلب وحضوره في الذكر وذلك ذكر لا يليق به فيغار محبه أن يذكر بهذا الذكر فيحب أن لا يسمع أحدا
يذكره هذا الذكر ولما اشترك الناس في هذا الذكر أخبر أن راحته أن لا يرى له ذاكرا هذا أحسن ما يحمل عليه كلامه وإلا فظاهره إلى العداوة أقرب منه إلى المحبة وليس هذا حال الشبلي رحمه الله تعالى فإن المحبة كانت تغلب عليه ومع ذلك فهو من شطحاته التي يرجى أن تغفر له بصدقه ومحبته وتوحيده لا أنها مما يحمد عليه ويقتدى به فيه وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يذكروه على جميع أحوالهم وإن كان ذكرهم إياه مراتب فأعلاها ذكر القلب واللسان مع شهود القلب للمذكور وجمعيته بكليته بأحب الأذكار إليه ثم دونه ذكر القلب واللسان أيضا وإن لم يشاهد المذكور ثم ذكر القلب وحده ثم ذكر اللسان وحده فهذه مراتب الذكر وبعضها أحب إلى الله من بعض وكان طرد قول الشبلي أن راحته أن لا يرى لله مصليا ولا لكلامه تاليا ولا يرى أحدا ينطق بالشهادتين فإن هذا كله من ذكره بل هو أعلى أنواع ذكره فكيف يستريح قلب المحب إذا لم ير من يفعل ذلك والله سبحانه وتعالى يحب أن يذكر ولو كان من كافر وقال بعض السلف إن الله يحب أن يذكر على جميع الأحوال إلا في حال الجماع وقضاء الحاجة وأوحى الله تعالى إلى موسى أن اذكرني على جميع أحوالك والله تعالى لا يضيع أجر ذكر اللسان المجرد بل يثيب الذاكر وإن كان قلبه غافلا ولكن ثواب دون ثواب قال القشيري وسمعت الأستاذ أبا علي يقول في قول النبي في مبايعته فرسا من أعرابي وأنه استقاله فأقاله فقال له الأعرابي عمرك الله فمن أنت فقال له النبي امرؤ من قريش فقال له بعض
الحاضرين كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك قال أبو علي فإنما قال امرؤ من قريش غيرة وإلا كان واجبا عليه التعرف إلى كل أحد أنه من هو ثم إن الله أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي فيقال من العجب أن يقال إن النبي غار أن يذكر أنه رسول الله للأعرابي الذي لا يعرفه وهو كان دائما يذكر ذلك لأعدائه من الكفار سرا وجهرا ليلا ونهارا ولا يغار من ذلك فكيف يظن به أنه غار أن يعرف ذلك المسكين أنه رسول الله هذا من خيالات القوم وترهاتهم وإنما ستر عنه ذلك الوقت معرفته له لحكمة لطيفة فهمها الصحابي فصرح بها للأعرابي وهي أن هذا الأعرابي كان جافيا جلفا فأحب النبي أن يعرفه جفاءه وجلافته بطريق لا يبكته بها ويعرف من نفسه أنه أهل لذلك فكأنه يقول بلسان الحال كفاك جفاء أن تجهلني فتسألني من أنا فلما فهم الصحابي ذلك بلطف إدراكه ودقة فهمه فبادأه به وقال كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك ثم ذكر القشيري كلام الشبلي أنه قال غيرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله وهذا كلام حسن قال القشيري والواجب أن يقال الغيرة غيرتان غيرة الحق على العبد وهو أن لا يجعله للخلق فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق وهو أن لا يجعل شيئا من أحواله وأنفاسه لغير الحق سبحانه فلا يقال أنا أغار على الله ولكن يقال أنا أغار لله قال فإذا الغيرة على الله جهل وربما تؤدي إلى ترك الدين والغيرة لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الأعمال له فمن سنة الحق مع
أوليائه أنهم إذا ساكنوا غيرا أو لاحظوا شيئا أو صالحوا بقلوبهم شيئا يشوش عليهم ذلك فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغة كآدم عليه السلام لما وطن نفسه على الخلود في الجنة أخرجه من الجنة وإبراهيم الخليل عليه السلام لما أعجبه إسماعيل أمره بذبحه حتى أخرجه من قلبه فلما أسلما وتله للجبين وصفى سره منه أمره بالفداء عنه وقال بعضهم احذروه فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه وقيل الحق تعالى غيور ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقا سواه وقال السري لرجل عارف بي علة باطنة فما دواؤها قال يا سري الله غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه فهذه غيرة صحيحة فصل وها هنا أقسام آخر من الغيرة مذمومة منها غيرة يحمل عليها سوء الظن فيؤذى بها المحب محبوبه ويغري عليه قلبه بالغضب وهذه الغيرة يكرهها الله إذا كانت في غير ريبة ومنها غيرة تحمله على عقوبة المحبوب بأكثر مما يستحقه كما ذكر عن جماعة أنهم قتلوا محبوبهم وكان ديك الجن الشاعر له غلام وجارية في غاية الجمال وكان يهواهما جميعا فدخل المنزل يوما فوجد الجارية معانقة للغلام تقبله فشد عليهما فقتلهما ثم جلس عند رأس الجارية فبكاها طويلا ثم قال يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
وأجلت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها فوحق نعليها فما وطىء الثرى ... شيء أعز علي من نعليها ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها لكن بخلت على سواي بحسنها ... وأنفت من نظر الغلام إليها ثم جلس عند رأس الغلام فبكى وأنشأ يقول أشفقت أن يرد الزمان بغدره ... أو أبتلى بعد الوفاء بهجره قمر أنا استخرجته من دجنه ... بمودتي وجنيته من خدره فقتلته وله علي كرامة ... ملء الحشا وله الفؤاد بأسره عهدي به ميتا كأحسن نائم ... والدمع ينحر مقلتي في نحره لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه بكى له في قبره غصص تكاد تفيض منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره فصل وقد يغار المحب على محبوبه من نفسه وهذا من أعجب الغيرة وله أسباب منها خشية أن يكون مفتاحا لغيره كما ذكر أن الحسن بن هانىء وعلي بن عبدالله الجعفري اجتمعا فتناشدا فأنشد الحسن ولما بدا لي أنها لا تودني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي
تمنيت أن تبلى بغيري لعلها ... تذوق حرارات الهوى فترق لي فأنشده علي ربما سرني صدودوك عني ... في طلابيك وامتناعك مني حذرا أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني وكان بعضهم يمتنع من وصف محبوبه وذكر محاسنه خشية تعريضه لحب غيره له كما قال علي بن عبسى الرافقي ولست بواصف أبدا خليلا ... أعرضه لأهواء الرجال وما بالي أشوق قلب غيري ... ودون وصاله ستر الحجال وكثير من الجهال وصف امرأته ومحاسنها لغيره فكان ذلك سبب فراقها له واتصالها به فصل ومنها أن يحمله فرط الغيرة على أن ينزل نفسه منزلة الأجنبي فيغار على المحبوب من نفسه ولا ينكر هذا فإن في المحبة عجائب وقد قال أبو تمام الطأبي بنفسي من أغار عليه مني ... وأحسد أهله نظري إليه ولو أني قدرت طمست عنه ... عيون الناس من حذري عليه حبيب بث في جسمي هواه ... وأمسك مهجتي رهنا لديه فروحي عنده والجسم خال ... بلا روح وقلبي في يديه
وقال آخر يا من إذا ذكر اسمه في مجلس ... لذ الحديث به وطاب المجلس إني لمن نظري أغار وإتي ... بك عن سواي من الأنام لأنفس نفسي فداؤك ولو رأيت تلددي ... خضل المدامع مطرقا أتنفس لعلمت أني في هواك معذب ... ومن الحياة وروحها مستيئس وقال علي بن نصر أفاتك أنت فاتكة بقلبي ... وحسن الوجه يفتك بالقلوب أصونك عن جميع الناس يامن ... بليت بها فأضحت من نصيبي وعن نفسي أصونك ليت نفسي ... تقيك من الحوادث والخطوب وما حق الحسان علي إلا ... صيانتهن من دنس الذنوب فصل ومنها شدة الموافقة للحبيب والحبيب يكره أن ينسب محبته إليه وأن يذكر ذلك فهو لموافقته لمحبوبه يغار عليه من نفسه كما يسره هجر محبوبه إذا علم أن فيه مراده قال الشاعر سررت بهجرك لما علم ... ت أن لقلبك فيه سرورا ولولا سرورك ما سرني ... ولا كنت يوما عليه صبورا فصل وملاك الغيرة وأعلاها ثلاثة أنواع غيرة العبد لربه أن تنتهك محارمه وتضيع حدوده وغيرته على قلبه أن يسكن إلى غيره وأن يأنس بسواه
وغيرته على حرمته أن يتطلع إليها غيره فالغيرة التي يحبها الله ورسوله دارت على هذه الأنواع الثلاثة وما عداها فإما من خدع الشيطان وإما بلوى من الله كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها فإن قيل فمن أي الأنواع تعدون غيرة فاطمة رضي الله عنها ابنة رسول الله على علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما عزم على نكاح ابنة أبي جهل وغيرة رسول الله لها قيل من الغيرة التي يحبها الله ورسوله وقد أشار إليها النبي بأنها بضعة منه وأنه يؤذيه ما آذاها ويريبه ما أرابها ولم يكن يحسن ذلك الاجتماع البتة فإن بنت رسول الله لا يحسن أن تجتمع مع بنت عدوه عند رجل فإن هذا في غاية منافرة مع أن ذكر النبي صهره الذي حدثه فصدقه ووعده فوفى له دليل على أن عليا رضي الله عنه كان مشروطا عليه في العقد إما لفظا وإما عرفا وحالا أن لا يريب فاطمة ولا يؤذيها بل يمسكها بالمعروف وليس من المعروف أن يضم إليها بنت عدو الله ورسوله ويغيظها بها ولهذا قال النبي إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنة أبي جهل والشرط العرفي الحالي كالشرط اللفظي عند كثير من الفقهاء كفقهاء المدينة وأحمد بن حنبل وأصحابه رحمهم الله تعالى على أن رسول الله خلف عليها الفتنة في دينها باجتماعها وبنت عدو الله عنده فلم تكن غيرته لمجرد كراهية الطبع للمشاركة بل الحامل عليها حرمة الدين وقد أشار إلى هذا بقوله إني أخاف أن تفتن في دينها والله أعلم بالصواب
الباب الثالث والعشرون في عفاف المحبين مع أحبابهم قال الله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ولما أنزلت هذه الآيات على النبي قال قد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ هذه الآيات وقال الله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إلى قوله والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وقال تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن الآية وقال تعالى وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى
يغنيهم الله من فضله وقال تعالى وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم وقال تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا فإن قيل فقد قال الله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وقال في الآية الآخرى وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله فأمرهم بالاستعفاف إلى وقت الغنى وأمر بتزويج أولئك مع الفقر وأخبر أنه تعالى يغنيهم فما محمل كل من الآيتين فالجواب أن قوله وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله في حق الأحرار أمرهم الله تعالى أن يستعفوا حتى يغنيهم الله من فضله فإنهم إن تزوجوا مع الفقر التزموا حقوقا لم يقدروا عليها وليس لهم من يقوم بها عنهم وأما قوله وأنكحوا اللأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم فإنه سبحانه أمرهم فيها أن ينكحوا الأيامى وهن النساء اللواتي لا أزواج لهن هذا هو المشهور من لفظ الأيم عند الإطلاق وإن استعمل في حق الرجل بالتقييد مع أن العزب عند الإطلاق للرجل وإن استعمل في حق المرأة ثم أمرهم سبحانه أن يزوجوا عبيدهم وإماءهم إذا صلحوا للنكاح فالآية الأولى في حكم تزوجهم لأنفسهم والثانية في حكم تزويجهم لغيرهم وقوله في هذا القسم إن يكونوا فقراء يعم الأنواع الثلاثة التي ذكرت فيه فإن الأيم تستغني بنفقة زوجها وكذلك الأمة وأما العبد فإنه لما كان لا مال له وكان ماله لسيده
فهو فقير ما دام رقيقا فلا يمكن أن يجعل لنكاحه غاية وهي غناه ما دام عبدا بل غناه إنما يكون إذا عتق واستغنى بهذا العتق والحاجة تدعوه إلى النكاح في الرق فأمر سبحانه بإنكاحه وأخبر أنه يغنيه من فضله إما بكسبه وإما بإنفاق سيده عليه وعلى امرأته فلم يمكن أن ينتظر بنكاحه الغنى الذي ينتظر بنكاح الحر والله أعلم وفي المسند وغيره مرفوعا ثلاثة حق على الله عونهم المتزوج يريد العفاف والمكاتب يريد الآداء وذكر الثالث فصل وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن يوسف الصديق من العفاف أعظم ما يكون فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره فإنه كان شابا والشباب مركب الشهوة وكان عزبا ليس عنده ما يعوضه وكان غريبا عن أهله ووطنه والمقيم بين أهله وأصحابه يستحي منهم أن يعلموا به فيسقط من عيونهم فإذا تغرب زال هذا المانع وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر وكانت المرأة ذات منصب وجمال والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان
ومكانه الذي لا تناله العيون وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة وأتته بالرغبة والرهبة ومع هذا كله فعف لله ولم يطعها وقد حق الله وحق سيدها على ذلك كله وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف كانت تكون حاله فإن قيل فقد هم بها قيل عنه جوابان أحدهما أنه لم يهم بها بل لولا أن رأى برهان ربه لهم هذاقول بعضهم في تقدير الآية والثاني وهو الصواب أن همه كان هم خطرات فتركه لله فأثابه الله عليه وهمها كان هم إصرار بذلت معه جهدها فلم تصل إليه فلم يستو الهمان قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه الهم همان هم خطرات وهم إصرار فهم الخطرات لا يؤاخذ به وهم الإصرار يؤاخذ به فإن قيل فكيف قال وقت ظهور براءته وما أبرىء نفسى قيل هذا قد قاله جماعة من المفسرين وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم وقالوا إن هذا من قول امرأة العزيز لا من قول يوسف عليه السلام والصواب معهم لوجوه أحدها أنه متصل بكلام المرأة وهو قولها الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرىء نفسي ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه والقول في مثل هذا لا يحذف لئلا يوقع في اللبس فإن غايته أن يحتمل الأمرين فالكلام الأول أولى به قطعا
الثاني أن يوسف عليه السلام لم يكن حاضرا وقت مقالتها هذه قبل كان في السجن لما تكلمت بقولها الآن حصحص الحق والسياق صريح في ذلك فإنه لما أرسل الملك إليه يدعوه قال للرسول ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن فأرسل إليهم الملك وأحضرهن وسألهن وفيهن امرأته فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته ولم يمكنهن إلا قول الحق فقال النسوة حاش لله ما علمنا عليه من سوء وقالت امرأة العزيز أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فإن قيل لكن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين الأحسن أن يكون من كلام يوسف عليه السلام أي إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال غيبته وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ثم إنه قال وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم وهذا من تمام معرفته بربه ونفسه فإنه لما أظهر براءته ونزاهته مما قذف به أخبر عن حال نفسه وأنه لا يزكيها ولا يبرئها فإنها أمارة بالسوء لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه فرد الأمر إلى الله بعد أن أظهر برءته قيل هذا وإن كان قد قاله طائفة فالصواب أنه من تمام كلامها فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه وهو قول النسوة ما علمنا عليه من سوء وقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر ثم اتصل بها قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب فهذا هو
المذكور أولا بعينه فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه ويضمر فيه قول لا دليل عليه فإن قيل فما معنى قولها ليعلم أني لم أخنه بالغيب قيل هذا من تمام الاعتذار قرنت الاعتذار بالاعتراف فقالت ذلك أي قولي هذا وإقراري ببراءته ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته وإن خنته في وجهه في أول الأمر فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته ثم اعتذرت عن نفسها بقولها وما أبرىء نفسى ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرىء نفسها وهي أن النفس أمارة بالسوء فتأمل ما أعجب أخر هذه المرأة أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها ثم اعتذرت عن نفسها ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام لفظا ومعنى وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه وإن أشركوا معه غيره ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين فصل وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان
تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه وفي الصحيح من حديث أبي هريلارة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي قال بينما ثلاثة يمشون إذ أخذتهم السماء فأووا إلى غار في الجبل فانحطت عليهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا صالحة عملتموها فادعوا الله بها فقال بعضهم اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وامرأة وصبيان وكنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني وأنه نآى بي الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم أزل كذلك حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله لهم فرجة وقال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء فطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فسعيت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما قعدت بين رجليها قالت يا عبدالله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت عنها وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا من
هذه الصخرة ففرج الله لهم فرجة فقال الآخر اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق من أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فأعطيته فأبى أن يأخذه فزرعته ونميته حتى اشتريت له بقرا ورعاءها فجاءني بعد حين فقال يا هذا اتق الله ولا تظلمني وأعطني حقي فقلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فهو لك فقال اتق الله ولا تهزأ بي فقلت لا أستهزىء بك فخذ ذلك فأخذها وذهب فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما بقي من الصخرة ففرج الله عنهم وخرجوا يمشون وقال عبيد الله بن موسى حدثنا شيبان بن عبدالرحمن عن الأعمش عن عبدالله بن عبدالله الرازي عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لقد سمعت من رسول الله حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرات ما حدثت به ولكن سمعته أكثر من ذلك قال كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط قال فتفعلين هذا ولم تفعليه قط قالت حملتني عليه الحاجة فتركها ثم قال اذهبي والدنانير لك ثم قال والله
لا يعصي الله ذو الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه غفر الله لذي الكفل وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال قا رسول الله عجب ربك من الشاب ليست له صبوة وذكر المبرد عن أبي كامل عن إسحاق بن إبراهيم عن رجاء بن عمرو النخعي قال كان بالكوفة فتى جميل الوجه شديد التعبد والاجتهاد فنزل في جوار قوم من النخع فنظر إلى جارية منهن جميلة فهويها وهام بها عقله ونزل بالجارية ما نزل به فأرسل يخطبها من أبيها فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عم لها فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية قد بلغني شدة محبتك لي وقد اشتد بلائي بك فإن شئت زرتك وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي فقال للرسول ولا واحدة من هاتين الخلتين إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم أخاف نارا لا يخبو سعيرها ولا يخمد لهيبها فلما أبلغها الرسول قوله قالت وأراه مع هذا يخاف الله والله ما أحد أحق بهذا من أحد وإن العباد فيه لمشتركون ثم انخلعت من الدنيا وألقت علائقها خلف ظهرها وجعلت تتعبد وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبا للفتى وشوقا إليه حتى ماتت من ذلك فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده ويدعو لها فغلبته عينه ذات يوم على قبرها فرآها في منامه في أحسن منظر فقال كيف أنت وما لقيت بعدي قالت
نعم المحبة يا سؤلي محبتكم ... حب يقود إلى خير وإحسان فقال على ذلك إلى م صرت فقالت إلى نعيم وعيش لا زوال له ... في جنةالخلد ملك ليس بالفاني فقال لها اذكريني هناك فإني لست أنساك فقالت ولا أنا والله أنساك ولقد سألت مولاي ومولاك أن يجمع بيننا فأعني على ذلك بالاجتهاد فقال لها متى أراك فقالت ستأتينا عن قريب فترانا فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال حتى مات رحمه الله تعالى وذكر الزبير بن بكار أن عبدالرحمن بن أبي عمار نزل مكة وكان من عباد أهلها فسمي القس من عبادته فمر يوما بجارية تغني فوقف فسمع غناءها فرآها مولاها فأمره أن يدخل عليها فأبى فقال فاقعد في مكان تسمع غناءها ولا تراها ففعل فأعجبته فقال له مولاها هل لك أن أحولها إليك فامتنع بعض الامتناع ثم أجابه إلى ذلك فنظر إليها فأعجبته فشغف بها وشغفت به وعلم بذلك أهل مكة فقالت له ذات يوم أنا والله أحبك فقال وأنا والله أحبك قالت فإني والله أحب أن أضع فمي على فمك قال وأنا والله أحب ذلك قالت فما يمنعك فإن الموضع خال قا لها ويحك إني سمعت الله يقول الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاالمتقين فأنا والله أكره أن يكون صلة ما بيني وبينك في الدنيا عداوة في القيامة ثم نهض وعيناه تذرفان بالدموع من حبها وقال عبدالملك بن قريب قلت لأعرابي حدثني عن ليلتك مع فلانة
قال نعم خلوت بها والقمر يرينيها فلما غاب أرتنيه قلت فما كان بينكما قال أقرب ما أحل الله مما حرم الله الإشارة بغير ماباس والدنو بغير إمساس ولعمري لئن كانت الأيام طالت بعدها لقد كانت قصيرة معها وحسبك بالحب ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا نهاني الحياء والكرم فلا إلى فاحش مددت يدي ... ولا مشت بي لريبة قدم وقال آخر وصفوها فلم أزل علم الل ... ه كئيبا مستولها مستهاما هل عليها في نظرة من جناح ... من فتى لا يزور إلا لماما حال فيها الإسلام دون هواه ... فهو يهوى ويحفظ الإسلاما ويميل الهوى به ثم يخشى ... أن يطيع الهوى فيلقى أثاما وقال الحسين بن مطير أحبك يا سلمى على غير ريبة ... ولا بأس في حب تعف سرائره أحبك حبا لا أعنف بعده ... محبا ولكني إذا ليم عاذره وقد مات قلبي أول الحب مرة ... ولو مت أضحى الحب قد مات آخره وقال محمد بن أبي زرعة الدمشقي إن حظي ممن أحب كفاف ... لا صدود مقص ولا إنصاف كلما قلت قد أنابت إلى الوص ... ل ثناها عما أريد العفاف
فكأني بين الصدود وبين ال ... وصل ممن مقامه الأعراف في محل بين الجنان وبين النا ... ر أرجوطورا وطورا أخاف وقال عثمان بن الضحاك الحزامي خرجت أريد الحج فنزلت بالأبواء فإذا امرأة جالسة على باب خيمة فأعجبني حسنها فتمثلت بقول نصيب بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب فقالت يا هذا أتعرف قائل هذا الشعر قلت نعم نصيب قالت فتعرف زينبه قلت لا قالت فأنا زينبه قلت حياك الله قالت أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين خرج إليه عام أول فوعدني هذا اليوم لعلك لا تبرح حتى تراه قال فبينا أنا كذلك إذا أنا براكب قالت ترى ذلك الراكب إني لأحسبه إياه قال فأقبل فإذا هو نصيب فنزل قريبا من الخيمة ثم أقبل فسلم حتى جلس قريبا منها يسائلها وتسائله أن ينشدها ما أحدث فأنشدها فقلت في نفسي محبان طال التنائي بينهما لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة فقمت إلى بعيري لأشد عليه فقال على رسلك إني معك فجلست حتى نهض معي فتسايرنا ثم التفت إلي فقال أقلت في نفسك محبان التقيا بعد طول التنائي فلا بد أن يكون لأحدهماإلى صاحبه حاجة قلت نعم قد كان ذلك قال ورب هذه البنية ما جلست منها مجلسا هو أقرب من هذا وقال عمر بن شبة حدثنا أبو غسان قال سمعت بعض المدنيين يقول كان الرجل يحب الفتاة فيطوف بدارها حولا يفرح أن يرى من يراها فإن
ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار واليوم يشير إليها وتشير إليه فيعدها وتعده فإذا التقيا لم يشك حبا ولم ينشد شعرا وقام إليها كأنه قد أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله عنه وقال محمد بن سيرين كانوا يعشقون في غير ريبة وكان الرجل يأتي إلى القوم يتحدث عندهم لا يستنكر له ذلك وقال هشام بن حسان لكن اليوم لا يرضون إلا بالمواقعة وقيل لأعرابي ما تعدون العشق فيكم قال القبلة والضمة والغمزة وإذا نكح الحب فسد وقال المبرد كان العتبي يحب جارية تسمى ملك فكتب إليها يا ملك قد صرت إلى خطة ... رضيت منها فيك بالضيم ما اشتملت عيني على رقدة ... مذ غبت عن عيني إلى اليوم فبت مفتوق مجاري البكا ... معطل العين عن النوم ووجدي الدهر بكم غلمة ... فالموت من نفسي على سوم يلومني الناس على حبكم ... والناس أولى فيك باللوم قال فكتبت إليه إن تكن الغلمة هاجت بكم ... فعالج الغلمة بالصرم ليس بك الحب ولكنما ... تدور من هذا على كوم يقال كام الفحل يكوم كوما إذا نزا على الحجرة وأرادت هذه المعشوقة قول النبي يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم
فإنه له وجاء وقال أبو الحسن المدائني هوي يعض المسلمين جارية بمكة فأرادها فامتنعت عليه فقال على لسان عطاء بن أبي رباح سألت الفتى المكي هل في تعانق ... وقبلة مشتاق الفؤاد جناح فقال معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراج فقالت ألله سألت عطاءعن ذلك فقال لك هذا فقال اللهم نعم فزارته وجعلت تقول إياك أن تتعدى ما أفتاك به عطاء وقال الزبير بن بكار عن عبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون قال أنشدت محمد بن المنكدر قول وضاح اليمن فما تولت حتى تضرعت حولها ... وأقرأتها ما رخص الله في اللمم فضحك محمد وقال إن كان وضاح لمفتيا في نفسه وقال الأصمعي قيل لأعرابي ما كنت صانعا لو ظفرت بمن تهوى قال كنت أمتع عيني من وجهها وقلبي من حديثها وأستر منها مالا يحبه الله ولا يرضى كشفه إلا عند حله قيل فإن خفت أن لا تجتمعا بعد ذلك قال أكل قلبي إلى حبها ولا أصير بقبيح ذلك الفعل إلى نقض عهدها قال وقيل لآخر وقد زوجت عشيقته من ابن عمها وأهلها على إهدائها إليه أيسرك أن تظفر بها الليلة قال نعم والذي أمتعني بها وأشقاني بطلبها قيل فما كنت صانعا قال كنت أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في إثمها ولا أفسد
عشق عشر سنين بما يبقى عاره وتنشر بالقبيح أخباره في ساعة تنفد لذتها وتبقى تبعتها إني إذا للئيم لم يغذني أصل كريم وقال عباس الدوري كان بعض أصحابنا يقول كان سفيان الثوري كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الوزر والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار وقال الحسين بن مطير ونفسك أكرم عن أمور كثيرة ... فما لك نفس بعدها تستعيرها ولا تقرب المرعى الحرام فإنما ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى وقال الخرائطي حدثنا إبراهيم بن الجنيد حدثنا عبدالله بن أبي بكر المقدمي حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال سمعت مالك بن دينار يقول بينا أنا أطوف إذ أنا بجارية متعبدة متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول يا رب كم من شهوة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها أيا رب أما لك أدب إلا النار فما زال مقامها حتى طلع الفجر فلما رأيت ذلك وضعت يدي على رأسي خارجا أقول ثكلت مالكا أمه جويرية منذ الليلة قد بطلته وطائفة بالبيت والليل مظلم ... تقول ومنها دمعها يتسجم أيا رب كم من شهوة قد رزئتها ... ولذة عيش حبلها يتصرم
أما كان يكفي للعباد عقوبة ... ولا أدبا إلا الجحيم المضرم فما زال ذاك القول منها تضرعا ... إلى أن بدا فجر الصباح المقدم فشبكت مني الكف أهتف خارجا ... على الرأس أبدى بعض ما كنت أكتم وقلت لنفسي إذا تطاول ما بها ... وأعيا عليها وردها المتغنم ألا ثكلتك اليوم أمك مالكا ... جويرية ألهاك منها التكلم فمازلت بطالا بها طول ليلة ... تنال بها حظا جسيما وتغنم وقال مخرمة بن عثمان نبئت أن فتى من العباد هوى جارية من أهل البصرة فبعث إيها يخطبها فامتنعت وقالت إن أردت غير ذلك فعلت فأرسل إليها سبحان الله أدعوك إلى مالا إثم فيه وتدعينني إلى مالا يصلح فقالت قد أخبرتك بالذي عندي فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر فأنشأ يقول وأسألها الحلال وتدع قلبي ... إلى مالا أريد من الحرام كداعي آل فرعون إليه ... وهم يدعونه نحو الأثام فظل منعما في الخلد يسعى ... وظلوا في الجحيم وفي السقام فلما علمت أنه قد امتنع من الفاحشة أرسلت إليه أنا بين يديك على الذي تحب فأرسل إليها لا حاجة لنا فيمن دعوناه إلى الطاعة ودعانا إلى المعصية ثم أنشد لا خير فيمن لا يراقب ربه ... عند الهوى ويخافه إيمانا حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى ... يخشى إذا وافى المعاد هوانا
وقال عبدالملك بن مروان لليلى الأخيلية بالله هل كان بينك وبين توبة سوء قط قالت والذي ذهب بنفسه وهو قادر على ذهاب نفسي ما كان بيني وبينه سوء قط إلا أنه قدم من سفر فصافحته فغمز يدي فظننت أنه يخنع لبعض الأمر فذلك معنى قولي وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا بنبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل قالت لا والذي ذهب بنفسه ما كلمني بسوء قط حتى فرق بيني وبينه الموت وقال ابن أحمر بينا أنا أطوف بالبيت إذ بصرت بامرأة متبرقعة تطوف بالبيت وهي تقول لا يقبل الله من معشوقة عملا ... يوما وعاشقها غضبان مهجور ليست بمأجورة في قتل عاشقها ... لكن عاشقها في ذاك مأجور فقلت لها في هذا الموضع فقالت إليك عني لا يعلقك الحب قلت وما الحب قالت جل والله عن أن يخفى وخفي عن أن يرى فهو كالنار في أحجارها إن حركته أورى وإن تركته توارى ثم أنشدت تقول غيد أوانس ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من لين الحديث أوانسا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
وقد روى محمد بن عبدالله الأنصاري حدثنا عبدالوارث عن محمد بن جحادة عن الوليد عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال قال رسول الله إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت الجنة وقال هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله أيما امرأة اتقت ربها وأحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها يوم القيامة ادخلي من أي أبواب الجنة شئت وقال الزبير بن بكار أخبرني سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي حدثني أبي أن امرأة لقيت كثير عزة فقالت تسمع بالمعيدي خير من أن تراه قال مه رحمك الله فأنا الذي أقول فإن أك معروق العظام فإنني ... إذا ما وزنت القوم بالقوم أوزن قالت وكيف توزن بالقوم وأنت لا تعرف إلا بعزة قال والله لئن قلت ذاك لقد رفع الله بها قدري وزين بها شعري وإنها لكما قلت وما روضة بالحزن طاهرة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف نجارها فإن برزت كانت لعينيك قرة ... وإن غبت عنها لم يعمك عارها
قالت أرأيت حين تذكر طيبها فلو أن زنجية تخمرت بالمندل الرطب لطاب ريحها ألا قلت كما قال امرؤ القيس خليلي مرا بي على أم جندب ... نقضي لبانات الفؤاد المعذب ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب فقال والله الحق خير ما قيل هو والله أنعت لصاحبته مني ودخلت عزة على عبدالملك بن مروان وهو لا يعرفها ترفع مظلمة لها فلما سمع كلامها تعجب منه فقال له بعض جلسائه هذه عزة كثير فقال لها عبدالملك إن أردت أن أرد عليك مظلمتك فأنشديني ما قال فيك كثير فاستحيت وقالت والله ما أعرف كثيرا ولكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال في قضى كل ذي دين فوقى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها فقال عبدالملك ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني من قوله وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير تغير جسمي والخليقة كالذي ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبر قالت ما سمعت هذا ولكن سمعت الناس يحكون عنه أنه قال في كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلت صفوح فما تلقاك إلابخيلة ... فمن مل منها ذلك الوصل ملت فقضى حاجتها ورد مظلمتها وقال أدخلوها على الجواري يأخذن من أدبها وذكرت عنه أنه قال فيها أيضا
وما نلت منها محرما غير أنني ... أقبل بساما من الثغر أفلجا وألثم فاها تارة ثم تارة ... وأترك حاجات النفوس تحرجا وقال الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي قال بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال هل لكم في جميل نعوده فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه وما يخيل إلي إلا أن الموت يكرثه فنظر إلي ثم قال يا ابن سهل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل نفسا يشهد أن لا إله إلا الله قلت أظنه قد نجا وأرجو له الجنة فمن هذا الرجل قال أنا قلت والله ما أحسبك سلمت وأنت تشبب منذ عشرين سنة في بثينة فقال لا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة فإني في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها لريبة فما برحنا حتى مات وقال عوانة بن الحكم كان عبدالمطلب لا يسافر إلا ومعه ابنه الحارث وكان أكبر ولده وكان شبيها به جمالا وحسنا فأتى اليمن وكان يجالس عظيما من عظمائهم فقال له لو أمرت ابنك هذا يجالسني وينادمني ففعل فعشقت امرأته الحارث فراسلته فأبى عليها فألحت عليه فأخبر بذلك أباه فلما يئست منه سقته سم شهر فارتحل به عبدالمطلب حتى إذا قدم مكة مات الحارث وذكرها هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وذكر رثاء أبيه له بقصيدته التي فيها
والحارث الفياض أكرم ماجد ... أيام نازعه الهمام الكاسا ولما احتضر أبو سفيان بن الحارث هذا وهو ابن عم النبي قال لأهله لا تبكوا علي فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت ولما قدم عروة بن الزبير علىالوليد بن عبدالملك خرجت برجله الآكلة فاجتمع رأي الأطباء على نشرها وأنه إن لم يفعل سرت إلى جسمه فهلك فلما عزم على ذلك قالوا له نسقيك مرقدا قال ولم قالوا لئلا تحس بما يصنع قال لا بل شأنكم فنشروا ساقه بالمنشار فما أزال عضوا عن عضو حتى فرغوا منها ثم حسموها فلما نظر إليها في أيديهم تناولها وقال الحمد لله أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام قط ولما حضرت عمر بن أبي ربيعة الوفاة بكى عليه أخوه الحارث فقال له عمر يا أخي إن كان أسفك لما سمعت من قولي قلت لها وقالت لي فكل مملوك لي حر إن كنت كشفت حراما قط فقال الحارث الحمد لله تعالى طيبت نفسي وقال سفيان بن محمد دخلت يوما عزة على أم البنين أخت عمر بن عبدالعزيز فقالت يا عزة ما قول كثير قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما كان هذا الدين فقالت كنت وعدته بقبلة فتحرجت منها فقالت أم البنين أنجزيها وعلي إثمها قالت فأعتقت أم البنين بكلمتها هذه أربعين رقبة وكانت إذا ذكرتها بكت وقالت ليتني خرست ولم أتكلم بها ولما احتضر ذو الرمة قال لقد هممت بمي عشرين سنة في غير ريبة ولا فساد وكان الحارث بن خالد بن هشام المخزمي عاشقا لعائشة بنت طلحة وله فيها أشعار أفرد لها ابن المرزبان كتابا فلما قتل عنها مصعب بن الزبير قيل للحارث ما يمنعك الآن منها قال والله لا يتحدث رجالات قريش أن تشبيبي بها كان لريبة ولشيء من الباطل وقال ابن علاقة دخلت على رجل من الأعراب خيمته وهو يئن فقلت ما شأنك قال عاشق فقلت له ممن الرجل قال من قوم إذا عشقوا ماتوا عفة فجعلت أعذله وأزهده فيما هو فيه فتنفس الصعداء ثم قال ليس لي مسعد فأشكو إليه ... إنما يسعد الحزين الحزين وقال سعيد بن عقبة لأعرابي ممن الرجل قال من قوم إذا عشقوا ماتوا قال عذري ورب الكعبة فقلت له ومم ذاك قال في نسائنا صباحة وفي رجالنا عفة وقال سفيان بن زياد قلت لامرأة من عذرة ورأيت بها هوى غالبا خفت عليها الموت منه ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب فقالت فينا جمال وتعفف والجمال يحملنا على العفاف والعفاف يورثنا رقة القلوب والعشق يفني آجالنا وإنا نرى عيونا لا ترونها وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى قال رجل من بن بني فزارة لرجل من
بني عذرة ما يعد موتكم من الحب مزيه وإنما ذاك من ضعف البنية ووهن العقل وضيق الرئة فقال له العذري أما لو رأيتم المحاجر البلج ترشق بالأعين الدعج من فوقها الحواجب الزج والشفاه السمر تفتر عن الثنايا الغر كأنها نظم الدر لجعلتموها اللات والعزى ونبذتم الإسلام وراء ظهوركم وقال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول في مرضه الذي مات فيه اللهم إنك تعلم أني لم أطأ فرجا حراما قط وأنا أعلم ولم آكل درهما حراما قط وأنا أعلم وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي دخلت على المعتضد وعلى رأسه غلمان صباح الوجوه أحداث فنظرت إليهم فرآني المعتضد وأنا أتأملهم فلما أردت القيام أشار إلي فمكثت ساعة فلما خلا قال لي أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط وقال اليزيدي جلس محمد بن منصور بن بسام وعلى رأسه عدة خدم لم ير قط أحسن منهم ما منهم من ثمنه ألف دينار بل أكثر فجعل الناس ينظرون إليهم فقال محمد هم أحرار لوجه الله إن كان الله كتب علي ذنبا مع واحد منهم فمن عرف خلاف ذلك منهم فليمض فإنه قد عتق وهو في حل مما يأخذ من مالي وقال إبراهيم بن أبي بكر بن عياش شهدت أبي عند الموت فبكيت فقال ما يبكيك فما أتى أبوك فاحشة قط
وقال عمر بن حفص بن غياث لما حضرت أبي الوفاة أغمي عليه فبكيت عند رأسه فقال لي حين أفاق ما يبكيك قلت أبكي لفراقك ولما دخلت فيه من هذا الأمر يعني القضاء قال لا تبك فإني ما حللت سراويلي على حرام قط ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم منهما وقال سفيان بن أحمد المصيصي شهدت الهيثم بن جميل وهو يموت وقد سجي نحو القبلة فقامت جاريته تغمز رجليه فقال اغمزيهما فإن الله يعلم أنهما ما مشتا إلى حرام قط وقال محمد بن إسحاق نزل السري بن دينار في درب بمصر وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها فعلمت به المرأة فقالت لأفتننه فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها فقال مالك فقالت هل لك في فراش وطي وعيش رخي فأقبل عليها وهو يقول وكم ذي معاص نال منهن لذة ... ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي ... وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فيا سوءتا والله راء وسامع ... لعبد بعين الله يغشى المعاصيا وقال عمر بن بكير قال أعرابي علقت امرأة كنت آتيها فأحدثها سنين وما جرت بيننا ريبة قط إلا أني رأيت بياض كفيها في ليلة ظلماء فوضعت يدي على يدها فقالت مه لا تفسد ما بيني وبينك فإنه ما نكح حب
قط إلا فسد قال فقمت وقد تصببت عرقا حياء منها ولم أعد إلى شيء من ذلك وذكر أبو الفرج وغيره أن امرأة جميلة كانت بمكة وكان لها زوج فنظرت يوما إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها أترى أحدا يرى هذا الوجه ولا يفتتن به قال نعم قالت من قال عبيد بن عمير قالت فائذن لي فيه فلأفتننه قال قد أذنت لك قال فأتته كالمستفتية فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر فقال لها يا أمة الله استتري فقالت إني قد فتنت بك قال إني سائلك عن شيء فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك قالت لا تسألني عن شيء إلا صدقتك قال أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة قالت اللهم لا قال صدقت قال فلو دخلت قبرك وأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك قالت اللهم لا قال صدقت قال فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك أكان يسرك أني قضيتها لك قالت اللهم لا قال صدقت قال فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين أكان يسرك أني قضيتها لك قالت اللهم لا قال صدقت قال فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك قالت اللهم لا قال فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك قالت اللهم لا قال صدقت قال اتسقي الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك قال فرجعت إلى زوجها فقال ما صنعت قالت أنت بطال ونحن بطالون فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فكان زوجها يقول مالي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي كانت في كل ليلة عروسا فصيرها راهبة
وقال سعيد بن عبدالله بن راشد علقت فتاة من العرب فتى من قومها وكان عاقلا فجعلت تكثر التردد إليه فلما طال عليها ذلك مرضت وتغيرت واحتالت في أن خلا لها وجهه فتعرضت إليه ببعض الأمر فصرفها ودفعها عنه فتزايد المرض حتى سقطت على الفراش فقالت له أمه إن فلانة قد مرضت وها علينا حق قال فعوديها وقولي لها يقول لك ما خبرك فسارت إليها أمه وسألتها ما بك فقالت وجع في فؤادي هو أصل علتي قالت فإن ابني يسألك عن علتك فتنفست الصعداء ثم قالت يسائلني عن علتي وهو علتي ... عجيب من الأنباء جاء به الخبر فانصرفت إليه أمه وأخبرته وقالت له تريد أن تصير إليك فقال نعم فذكرت أمه لها ذلك فبكت وقالت ويبعدني عن قربه ولقائه ... فلما أذاب الجسم مني تعطفا فلست بآت موضعا فيه قاتلي ... كفاني سقاما أن أموت تلهفا وتزايدت بها العلة حتى ماتت وأحب رجل من أهل الكوفة يسمى أبا الشعثاء امرأة جميلة فلما علمت به كتبت إليه وقالت لأبي الشعثاء حب دائم ... ليس فيه تهمة لمتهم يا فؤادي فازدجر عنه ويا ... عبث الحب به فاقعد وقم جاءني منه كلام صائد ... ورسالات المحبين الكلم
صائد يأمنه غزلانه ... مثل ما يأمن غزلان الحرم صل إن أحببت أن تعطى المنى ... يا أبا الشعثاء لله وصم ثم ميعادك بعد الموت في ... جنة الخلد إن الله رحم حيث ألقاك غلاما ناشئا ... ناعما قد كملت فيه النعم وقال الأصمعي عن أبي سفيان بن العلاء قال بصرت الثريا بعمر بن أبي ربيعة وهو يطوف حول البيت فتنكرت وفي كفها خلوق فزحمته فأثر الخلوق في ثوبه فجعل الناس يقولون يا أبا الخطاب ما هذا زي المحرم فأنشأ يقول أدخل الله رب موسى وعيسى ... جنة الخلد من ملاني خلوقا مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحا رفيقا فقال له عبدالله بن عمر مثل هذا القول في هذا الموضع فقال له يا أبا عبدالرحمن قد سمعت مني ما قد سمعت فورب هذه البنية ما حللت إزاري على حرام قط وقيل لليلى الأخيلية هل كان بينك وبين توبة ما يكرهه الله قالت إذا أكون منسلخة من ديني إن كنت ارتكبت عظيما ثم أتبعه بالكذب وقال العتبي خرجت إلى المربد فإذا بأعرابي غزل فملت إليه فذكرت النساء فتنفس ثم قال يا ابن أخي إن من كلامهن لما يقوم مقام الماء فيشفي من الظمأ فقلت صف لي نساءكم فقال نساء الحي تريد قلت نعم فأنشأ يقول
رجح ولسن من اللواتي بالضحى ... لذيولهن على الطريق غبار يأنسن عند بعولهن إذا خلوا ... وإذا هم خرجوا فهن خفار قال العتبي فأخبرت به أبي قال تدري من أين أخذ قوله وإن من كلامهن ما يقوم مقام الماء فيشفي من الظمأ قلت لا قال من قول القطامي يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه بادي فهن يبدين من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي وهذه الطائفة لعفتهم أسباب أقواها إجلال الجبار ثم الرغبة في الحور الحسان في دار القرار فإن من صرف استمتاعه في هذه الدار إلى ما حرم الله عليه منعه من الاستمتاع بالحور الحسان هناك قال من يلبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة فلا يجمع الله للعبد لذة شرب الخمر ولبس الحرير والتمتع بما حرم الله عليه من النساء والصبيان ولذة التمتع بذلك في الآخرة فليتخير العبد لنفسه إحدى اللذتين وليطب نفسا عن إحداهما بالأخرى فلن يجعل الله من أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها كمن صام عنها ليوم فطره من الدنيا إذا لقي الله ودون ذلك مرتبة أن يتركها خوف النار فقط فإن تركها رغبة ومحبة أفضل من تركها لمجرد خوف العقوبة
ثم أدنى من ذلك أن يحمله عليها خوف العار والشنار ومنهم من يحمله على العفة الإبقاء على محبته خشية ذهابها بالوصال ومنهم من يحمله عليها عفة محبوبه ونزاهته ومنهم من يحمله عليها الحياء منه والاحتشام له وعظمته في صدره ومنهم من يحمله عليها الرغبة في جميل الذكر وحسن الأحدوثة ومنهم من يحمله عليها الإبقاء على جاهه ومروءته وقدره عند محبوبه وعند الناس ومنهم من يحمله عليها كرم طبعه وشرف نفسه وعلو همته ومنهم من يحمله عليها لذة الظفر بالعفة فإن للعفة لذة أعظم من لذة قضاء الوطر لكنها لذة يتقدمها ألم حبس النفس ثم تعقبها اللذة وأما قضاء الوطر فبالضد من ذلك ومنهم من يحمله عليها علمه بما تعقبه اللذة المحرمة من المضار والمفاسد وجمع الفجور خلال الشر كلها كما ستقف عليه في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى فصل ولم يزل الناس يفتخرون بالعفة قديما وحديثا قال إبراهيم بن هرمة ولرب لذة ليلة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع وقال غيره إذا ما هممنا صدنا وازع التقى ... فولى على أعقابه الهم خاسئا وقال آخر أتأذنون لصب في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر لا يضمر السوء إن طالت إقامته ... عف الضمير ولكن فاسق النظر
وقال مسلم بن الوليد ألا ريب يوم صادق العيش نلته ... بها ونداماي العفافة والنهى وقال آخر إن تريني زاني العينين ... فالفرج عفيف ليس إلا النظر الفا ... تر والشعر الظريف وقال الموسوي بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفنا الشوق من فرق إلى قدم يشي بنا الطيب أحيانا وآونة ... يضيئنا البرق مجتازا على إضم ثم انثنينا وقد رابت ظواهرنا ... وفي بواطننا بعد عن التهم وقال نفطويه كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر وكم ظفرت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتجميش والنظر أهوى الحسان وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر كذلك الحب لا إتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر وقال الشهاب محمود بن سليمان صاحب ديوان الإنشاء الحلبي
لله وقفة عاشقين تلاقيا ... من بعد طول نوى وبعد مزار يتعاطيان من الغرام مدامة ... زادتهما بعدا من الأوزار صدقا الغرام فلم يمل طرف إلى ... فحش ولا كف لحل إزار فتلاقيا وتفرقا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائب أو زار وقيل لبثينة هذا جميل لما به فهل عندك من حيلة تنفسين بها وجده فقالت ما عندي أكثرمن البكاء إلى أن ألقاه في الدار الأخرى أو زيارته وهو ميت تحت الثرى وقيل لعتبة بعد موت عاشقها ما كان يضرك لو أمتعتيه بوجهك قالت منعني من ذلك خوف العار وشماتة الجار ومخافة الجبار وإن بقلبي أضعاف ما بقلبه غير أني أجد ستره أبقى للمودة وأحمد للعاقبة وأطوع للرب وأخف للذنب وهوي فتى امرأة وهويته وشاع خبرهما فاجتمعا يوما خاليين فقال لها هلمي نحقق ما يقال فينا فقالت لا والله لا كان هذا أبدا وأنا أقرأ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وقيل لبعضهم وقد هوي جارية فطال عشقه بها ما أنت صانع لوظفرت بها ولا يراكما إلا الله قال والله لا جعلته أهون الناظرين إلي لا أفعل بها خاليا إلا ما أفعله بحضرة أهلها حنين طويل ولحظ من بعيد وأترك ما يسخط الرب ويفسد الحب إذا كان حظ المرء ممن يحبه ... حراما فحظي ما يحل ويجمل حديث كماء المزن بين فصوله ... عتاب به حسن الحديث يفصل
ولثم فم عذب اللثات كأنما ... جناهن شهد فت فيه القرنفل وما العشق إلا عفة ونزاهة ... وأنس قلوب أنسهن التغزل وإني لأستحيي الحبيب من التي ... تريب وأدعى للجميل فأجمل وقال آخر وإني لمشتاق إلى كل غاية ... من المجد يكبو دونها المتطاول بذول لمالي حين يبخل ذو النهى ... عفيف عن الفحشاء قرم حلاحل وما ألطف قوله حين يبخل ذو النهى فإن ذا النهى لا يبخل إلا في موضع البخل فأخبر هذا أنه يبذل ماله حين يبخل به ربه في موضع البخل وقال عامر بن حذافة رأيت بصحار جارية قد ألصقت خدها بقبر وهي تبكي وتقول خدي يقيك خشونة اللحد ... وأقل ما لك سيدي خدي يا ساكن الترب الذي بوفاته ... عميت علي مسالك الرشد إسمع فديتك قصتي فلعلني ... أشفي بذلك غلة الوجد قال فسألتها عن صاحب القبر فقالت فتى رافقته في الصبا ثم أنشأت تقول كنا كزوج حمائم في أيكة ... متنعمين بصحة وشباب فغدا الزمان مشتتا بفراقه ... إن الزمان مفرق الأحباب
قال فبكيت لرقة شعرها فأنشأت تقول تبكي عليه ولست تعرف أمره ... فلأعلمنك حاله ببيان ما كان للعافين غير نواله ... فإذا استجير ففارس الفرسان لا يتبع الجيران رفة طرفه ... ويتابع الإحسان للجيران عف السريرة والجهيرة مثلها ... فإذا استضم أراك فتق طعان فقلت أعلميني من هو قالت سنان بن وبرة الذي يقول فيه الشاعر يا رائدا غيثا لنجعة قومه ... يكفيك من غيث نوال سنان ثم قالت يا هذا والله لولا أنك غريب ما متعك من حديثي قلت فكيف كان حبه لك قالت ما كان يوسدني إذا نمت إلا يده فمكثت معه أربعة أحوال ما توسدت غيرها إلا في حال يمنعه مانع وقال سعيد بن يحيى الأموي حدثني عمي محمد بن سعيد حدثنا عبدالملك ابن عمير قال كان أخوان من ثقيف من بني كنة بينهما من التحاب شيء لا يعلمه إلا الله وكل واحد منهما أخوه عنده عدل نفسه فخرج الأكبر منهما إلى سفر له وله امرأة فأوصى أخاه بحاجة أهله فبينا المقيم في دار الظاعن إذ مرت امرأة أخيه في درع تجوز من بيت إلى بيت وكانت من أجمل البشر فرأى شيئا حيره فلما رأته ولت ووضعت يدها على رأسها ودخلت بيتا ووقع حبها في قلبه فجعل يذوب وينحل جسمه ويتغير لونه وقدم أخوه فقال مالك يا أخي متغيرا ما وجعك قال ما بي من وجع فدعا له الأطباء فلم يقف
أحد على دائه غير الحارث بن كلدة وكان طبيبا فقال أرى عينين صحيحتين وما أدري ما هذا الوجع وما أظنه إلا عاشقا فقال له أخوه سبحان الله أسألك عن وجع أخي وأنت تستهزىء بي فقال ما فعت وسأسقيه شرابا عندي فإن كان عاشقا فسيتبين لكم فأتاه بشراب فجعل يسقيه قليلا قليلا فلما أخذه الشراب هاج وقال ألما بي على الأبيا ... ت من خيف نزرهنه غزال ما رأيت اليو ... م في دور بني كنه أسيل الخد مربوب ... وفي منطقه غنه فقال أنت طبيب العرب فبمن قال سأعيد له الشراب ولعله يسمي فأعاد له الشراب فسمى المرأة فطلقها أخوه ليتزوجها فقال المريض علي كذا وكذا إن تزوجتها فقضى ولم يتزوجها وقال علي بن المبارك السراج حدثنا أبو مسهر عن بكر بن عبدالله قال عرض الحجاج بن يوسف سجنه يوما فأتي برجل فقال ما كان جرمك فقال أصلح الله الأمير أخذني العسس وأنامخبرك بخبري فإن كان الكذب ينجي فالصدق أولى بالنجاة قال وما قصتك قال كنت أخا لفلان فضرب الأمير عليه البعث إلى خراسان فكانت امرأته تهواني وأنا لا أشعر فبعثت إلي ذات يوم رسولا أن قد جاء كتاب صاحبك فهلم لتقرأه فمضيت إليها فجعلت تشغلني بالحديث حتى صلينا المغرب ثم أظهرت لي ما في نفسها مني ودعتني إلى السوء فأبيت ذلك فقالت والله لئن لم تفعل لأصيحن ولأقولن
إنك لص فخفتها والله أيها الأمير على نفسي فقلت أمهليني حتى الليل فلما صليت العتمة وثقت بشدة حرس الأمير فخرجت من عندها هاربا وكان القتل أيسر علي من خيانة أخي فلقيني عسس الأمير فأخذوني وقد قلت في ذلك شعرا قال وما قلت فقال رب بيضاء آنس ذات دل ... قد دعتني لوصلها فأبيت لم يكن شأني العفاف ولكن ... كنت خلا لزوجها فاستحيت فأمر بإطلاقه وقال الربيع بن زياد رأيت جارية عند قبر وهي تقول بنفسي فتى أوفىالبرية كلها ... وأقواهم في الموت صبرا على الحب فقلت لها بم صار أوفاهم وأقواهم قالت هويني فكان أهلي إن جاهر بحبي لاموه وإن كتمه عنفوه فلما أخذه الأمر قال يقولون إن جاهرت قد عضك الهوى ... وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا وليس لمن يهوى ويكتم حبه ... من الأمر إلا أن يموت فيعذرا ولم يزل يردد هذين البيتين حتى مات فوالله يا هذا لا أبرح أو يتصل قبرانا ثم شهقت شهقة فصاح النساء وقلن قضت والذي اختار لها الوفاة فما رأيت أسرع ولا أوحى من أمرها قال ابن الدمينة وبتنا فويق الحي لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان وبات بقينا ساقط الطل والندى ... من الليل بردا يمنة عطران
نذور بذكر الله عنا غوى الصبا ... إذا كان قلبانا له يردان ونصدر عن ري العفاف وربما ... نقعنا غليل الحب بالرشفان قال أبو الفرج وشت جارية بثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما إن جميلا عندها فأتيا مشتملين على سيفيهما فرأياه خاليا حجرة منها يحدثها ويشكو إليها بثه ثم قال لها يا بثينة أرأيت ما بي من الشغف والعشق ألا تجزينيه قالت له بماذا قال بما يكون من المتحابين فقالت له يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا منه فإذا عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا فضحك وقال والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي إن طاوعتني نفسي أو هجرتك أبدا أما سمعت قولي وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله فقال أبوها لأخيها قم بنا فما ينبغي لنا بعد هذا اليوم أن نمنع هذا الرجل من إتيانها
الباب الرابع والعشرون في ارتكاب سبيلي الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام حقيق بكل عاقل أن لا يسلك سبيلا حتى يعلم سلامتها وآفاتها وما توصل إليه تلك الطريق من سلامة أو عطب وهذان السبيلان هلاك الأولين والآخرين بهما وفيهما من المعاطب والمهالك ما فيهما ويفضيان بصاحبهما إلى أقبح الغايات وشر موارد الهلكات ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى سبيل الزنى سر سبيل فقال تعالى ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا فإذا كانت هذه سبيل الزنى فكيف بسبيل اللواظ التي تعدل الفعلة منه في الإثم والعقوبة أضعافها وأضعاف أضعافها من الزنى كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى فأما سبيل الزنى فأسوأ سبيل ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل ومستقر أرواحهم في البرزخ في تنور من نار يأتيهم لهبها من تحتهم فإذا أتاهم اللهب ضجوا وارتفعوا ثم يعودون إلى موضعهم فهم هكذا إلى يوم القيامة كما رآهم النبي في منامه ورؤيا الأنبياء وحي لا شك فيها فروى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال كان رسول الله مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم من رؤيا فيقص عليه ما شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات
غداة إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ راسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى قال قلت لهما سبحان الله ما هذان قال قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى قال قلت سبحان الله ما هذان قال قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لغط وأصوات قال فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا قال قلت لهما ما هؤلاء قال قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيغفر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق يسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرا قال قلت لهما ما هذان قال
قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلا مرآة وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها قال قلت لهما ما هذا قال قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط قال قلت لهما ما هؤلاء قال قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على دوحة لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن قال قالا لي ارق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة قال فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قال قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر قال وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قال فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء قال قالا لي هذاك منزلك قال قلت لهما بارك الله فيكما ذراني فأدخله قالا أما الآن فلا وأنت داخله قال قلت لهما فإني قد رأيت
منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قال قالا لي أما إنا سنخبرك أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل الربا وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة قال فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم وقال أبو مسلم الكجي حدثنا صدقة بن جابر عن سليم بن عامر قال حدثني أبو أمامة الباهلي قال سمعت النبي يقول بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأخرجاني فأتيا بي جبلا وعرا وقالا لي اصعد فقلت إني لا أطيقه فقالا سنسهله لك قال فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات مديدة فقلت ما هذه الأصوات فقالا هذا عواء أهل النار ثم انطلق بي فإذا أنا بفوج أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا وأسوأه منظرا فقلت من هؤلاء فقالا هؤلاء قتلى الكفار ثم انطلق بي فإذا بفوج أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا كأن
ريحهم المراحيض فقلت من هؤلاء قال الزانون والزواني وقال قتيبة بن سعيد حدثنا نوح بن قيس قال حدثني أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ليلة أسري بي انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير نساء معلقات بثديهن ومنهن بأرجلهن منكسات ولهن صراخ وخوار فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء اللواتي يزنين ويقتلن أولادهن ويجعلن لأزواجهن ورثة من غيرهم وقال أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا عبدالسلام بن شداد عن غزوان بن جرير عن أبيه أنهم تذاكروا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه الفواحش فقال لهم هل تدرون أي الزنى أعظم قالوا يا أمير المؤمنين كله عظيم قال ولكن سأخبركم بأعظم الزنى عند الله هو أن يزني الرجل بزوجة الرجل المسلم فيصير زانيا وقد أفسد على الرجل زوجته ثم قال عند ذلك إن الناس يرسل عليهم يوم القيامة ريح منتنة حتى يتأذى منها كل بر وفاجر حتى إذا بلغت منهم كل مبلغ وألمت أن تمسك بأنفاس الأمم كلهم ناداهم مناد يسمعهم الصوت ويقول لهم هل تدرون ما هذه الريح التي قد آذتكم فيقولون لا ندري والله إلا أنها قد بلغت منا كل مبلغ فيقال ألا إنها ريح
فروج الزناة الذين لقوا الله بزناهم ولم يتوبوا منه ثم يصرف بهم فلم يذكر عند الصرف بهم جنة ولا نارا وقال الخرائطي حدثنا علي بن داود القنطري حدثنا سعيد بن عفير حدثني مسلم بن علي الخشني عن أبي عبدالرحمن عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله قال يا معشر المسلمين إياكم والزنى فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا فذهاب البهاء ودوام الفقر وقصر العمر وأما اللواتي في الآخرة فسخط الله وسوء الحساب ودخول النار ويذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال المقيم على الزنى كعابد وثن ورفعه بعضهم وهذا أولى أن يشبه بعابد الوثن من مدمن الخمر وفي المسند وغيره مرفوعا مدمن الخمر كعابد وثن فإن الزنى أعظم من شرب الخمر قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنى وفي الصحيحين من حديث أبي وائل عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم منك
قال قلت ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما وقال قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن ابن أنعم عن رجل عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال قال رسول الله الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه ويقول له ادخل النار مع الداخلين وذكر سفيان بن عيينة عن جامع بن شداد عن أبي وائل عن عبدالله قال إذا بخس المكيال حبس القطر وإذا ظهر الزنى وقع الطاعون وإذا كثر الكذب كثر الهرج وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر وذكر سفيان الثوري عن منصور عن ربعي بن حراش عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال إن الله يبغض ثلاثة
الشيخ الزاني والمقل المختال والبخيل المنان وذكر الأعمش عن خيثمة عن أبي عبدالرحمن عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال مثل الذي يجلس على فراش المغيبة مثل الذي ينهشه الأساود يوم القيامة المغيبة هي التي قد سافر زوجها في جهاد أو حج أو غيرهما وفي النسائي وغيره من حديث بريدة عن النبي قال حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كأمهاتهم وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله إلا نصب له يوم القيامة فيقال يا فلان هذا فلان فخذ من حسناته ما شئت ثم التفت النبي إلى أصحابه فقال ما ترون يدع له من حسناته شيئا وفي لفظ وإذ اخلفه في أهله فخانه قيل يوم القيامة هذا خانك في أهلك فخذ من حسناته ما شئت فما ظنكم ويكفي في قبح الزنى أن الله سبحانه وتعالى مع كمال رحمته شرع فيه أفحش القتلات وأصعبها وأفضحها وأمر أن يشهد عباده المؤمنون تعذيب فاعله ومن قبحه أن الله سبحانه فطر عليه بعض الحيوان البهيم الذي لا عقل له كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال رأيت في الجاهلية قردا زنى بقردة فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا وكنت فيمن رجمهما
فصل والزنى يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وذهاب الورع وفساد المروءة وقلة الغيرة فلا تجد زانيا معه ورع ولا وفاء بعهد ولا صدق في حديث ولا محافظة على صديق ولا غيرة تامة على أهله فالغدر والكذب والخيانة وقلةالحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرم وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمه وعياله ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بذلك لقابله أسوأ مقابلة ومنها سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين ومنها ظلمة القلب وطمس نوره وهو الذي أوجب طمس نور الوجه وغشيان الظلمة له ومنها الفقر اللازم وفي أثر يقول الله تعالى أنا الله مهلك الطغاة ومفقر الزناة ومنها أنه يذهب حرمة فاعله ويسقطه من عين ربه ومن أعين عباده ومنها أنه يسلبه أحسن الأسماء وهو اسم العفة والبر والعدالة ويعطيه أضدادها كاسم الفاجر والفاسق والزاني والخائن ومنها أنه يسلبه اسم المؤمن كما في الصحيحين عن النبي أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فسلبه اسم الإيمان المطلق وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان وسئل جعفر بن محمد عن هذا الحديث فخط دائرة في الأرض وقال هذه دائرة الإيمان ثم خط دائرة أخرى خارجة عنها وقال هذه دائرة الإسلام فإذا زنى العبد خرج من هذه ولم يخرج من هذه ولا يلزم من ثبوت جزء ما من الإيمان له
أن يسمى مؤمنا كما أن الرجل يكون معه جزء من العلم والفقه ولا يسمى به عالما فقيها ومعه جزء من الشجاعة والجود ولا يسمى بذلك شجاعا ولا جوادا وكذلك يكون معه شيء من التقوى ولا يسمى متقيا ونظائره فالصواب إجراء الحديث على ظاهره ولا يتأول بما يخالف ظاهره والله أعلم ومنها أن يعرض نفسه لسكنى التنور الذي رأى النبي فيه الزناة والزواني ومنها أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة كما قال الله تعالى الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات وقد حرم الله الجنة على كل خبيث بل جعلها مأوى الطيبين ولا يدخلها إلا طيب قال الله تعالى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وقال تعالى وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين فإنما استحقوا سلام الملائكة ودخول الجنة بطيبهم والزناة من أخبث الخلق وقد جعل الله سبحانه جهنم دار الخبيث وأهله فإذا كان يوم القيامة ميز الخبيث من الطيب وجعل الخبيث بعضه على بعض ثم ألقاه وألقى أهله في جهنم فلا يدخل النار طيب ولا يدخل الجنة خبيث ومنها الوحشة التي يضعها الله سبحانه وتعالى في قلب الزاني وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه فالعفيف على وجهه حلاوة وفي قلبه أنس ومن جالسه
استأنس به والزاني تعلو وجهه الوحشة ومن جالسه استوحش به ومنها قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم له وهو أحقر شيء في نفوسهم وعيونهم بخلاف العفيف فإنه يرزق المهابة والحلاوة ومنها أن الناس ينظرونه بعين الخيانة ولا يأمنه أحد على حرمته ولا على ولده ومنها الرائحة التي تفوح عليه يشمها كل ذي قلب سليم تفوح من فيه وجسده ولولا اشتراك الناس في هذه الرائحة لفاحت من صاحبها ونادت عليه ولكن كما قيل كل به مثل ما بي غير أنهم ... من غيرة بعضهم للبعض عذال ومنها ضيقة الصدر وحرجه فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ولم يجعل الله معصيته سببا إلى خير قط ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور وانشراح الصدر وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له دع ربح العاقبة والفوز بثواب الله وكرامته ومنها أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن وقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه لبسه يوم القيامة وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة فكذلك من تمتع بالصور المحرمة في الدنيا بل كل ما ناله العبد في الدنيا فإن توسع في حلاله ضيق من حظه يوم القيامة بقدر ما توسع فيه وإن ناله من حرام فاته نظيره يوم القيامة ومنها أن الزنى يجرئه على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وكسب الحرام وظلم الخلق وإضاعة أهله وعياله وربما قاده قسرا إلى سفك الدم الحرام وربما استعان عليه بالسحر وبالشرك وهو يدري أو لا يدري فهذه المعصية لا تتم
إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند بعدها وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة وإذا علقت بالعبد فوقع في حبائلها وأشراكها عز على الناصحين استنقاذه وأعيى الأطباء دواؤه فأسيرها لا يفدى وقتيلها لا يودى وقد وكلها الله سبحانه بزوال النعم فإذا ابتلي بها عبد فليودع نعم الله فإنها ضيف سريع الانتقال وشيك الزوال قال الله تعالى ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم وقال تعالى وإذا اراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال فصل فهذا بعض ما في هذه السبيل من الضرر وأما سبيل الأمة اللوطية فتلك سبيل الهالكين المفضية بسالكها إلى منازل المعذبين الذين جمع الله عليهم من أنواع العقوبات مالم يجمعه على أمة من الأمم لا من تأخر عنهم ولا من تقدم وجعل ديارهم وآثارهم عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فجمع أبو بكر رضي الله عنه لذلك ناسا من أصحاب رسول الله وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاستشارهم فكان علي رضي الله عنه أشدهم قولا فيه فقال إن
هذا لم يعمل به أمة من الأمم إلا أمة واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم أرى أن تحرقوه بالنار فأحرقوه بالنار وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة والتابعين يرجم بالحجارة حتى يموت أحصن أو لم يحصن ووافقه على ذلك الإمام أحمد وإسحاق ومالك وقال الزهري يرجم أحصن أو لم يحصن سنه ماضية وقال جابر بن زيد في رجل غشي رجلا في دبره قال الدبر أعظم حرمة من الفرج يرجم أحصن أولم يحصن وقال الشعبي يقتل أحصن أو لم يحصن وسئل ابن عباس عن اللوطي ما حده قال ينظر أعلى بناء في المدينة فيرمى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة ورجم علي لوطيا وافتى بتحريقه وكأنه رأى جواز هذا وهذا وقال إبراهيم النخعي لو كان أحد ينبغي له أن يرجم مرتين لكان ينبغي للوطي أن يرجم مرتين وذهبت طائفة إلى أنه يرجم إن احصن ويجلد إن لم يحصن وهذا قول الشافعي وأحمد في رواية عنه وسعيد بن المسيب في رواية عنه وعطاء بن أبي رباح قال عطاء شهدت ابن الزبير أتي بسبعة أخذوا في اللواط أربعة منهم قد أحصنوا وثلاثة لم يحصنوا فأمر بالأربعة فأخرجوا من المسجد الحرام فرجموا بالحجارة وأمر بالثلاثة فضربوا الحد وفي المسجد ابن عمر وابن عباس فالصحابة اتفقوا على قتل اللوطي وإنما اختلفوا في كيفية قتله فظن بعض الناس أنهم متنازعون في قتله ولا نزاع بينهم فيه إلا في إلحاقه بالزاني أو قتله مطلقا وقد اختلف الناس في عقوبته على ثلاثة أقوال أحدها أنها أعظم من
عقوبة الزنى كما أن عقوبته في الآخرة أشد الثاني أنها مثلها الثالث أنها دونها وذهب بعض الشافعية إلى أن عقوبة الفاعل كعقوبة الزاني وعقوبة المفعول به الجلد مطلقا بكرا كان أو ثيبا قال لأنه لا يلتذ بالفعل به بخلاف الفاعل وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا حد على واحد منهما قال لأن الوازع عن ذلك ما في الطباع من النفرة عنه واستقباحه وما كان ذلك لم يحتج إلى أن يزجر الشارع عنه بالحد كأكل العذرة والميتة والدم وشرب البول ثم قال هؤلاء إذا أكثر منه اللوطي فللإمام قتله تعزيرا صرح بذلك أصحاب أبي حنيفة والصحيح أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزاني لإجماع الصحابة على ذلك ولغلظ حرمته وانتشار فساده ولأن الله سبحانه وتعالى لم يعاقب أمة ما عاقب اللوطية قال ابن أبي نجيح في تفسيره عن عمرو بن دينار في قوله تعالى إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين قال ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط وقال محمد بن مخلد سمعت عباسا الدوري يقول بلغني أن الأرض تعج إذا ركب الذكر على الذكر وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن كعب قال كان إبراهيم يشرف على سدوم فيقول
ويل لك سدوم يوما مالك فجاءت إبراهيم الرسل وكلمهم إبراهيم في أمر قوم لوط قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا قال ولم جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا فذهب بهم إلى منزله فذهبت امرأته فجاءه قومه يهرعون إليه فقال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم أزوجكم بهن أليس منكم رجل رشيد وجعل لوط الأضياف في بيته وقعد على باب البيت وقال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قال أي عشيرة تمنعني قال ولم يبعث نبي بعد لوط إلا في عز من قومه فلما رأت الرسل ما قد لقي لوط في سببهم قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فخرج عليهم جبريل عليه السلام فضرب وجوههم بجناحه ضربة طمست أعينهم قال والطمس أن تذهب حتى تستوي واحتمل مدائنهم حتى سمع أهل سماء الدنيا نبيح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل قال على أهل بواديهم وعلى رعاتهم وعلى مسافريهم فلم ينفلت منهم إنسان وقال مجاهد نزل جبرل عليه السلام فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فرفعها حتى سمع أهل السماء نبيح الكلاب وأصوت الدجاج والديكة ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة
وفي تفسير أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أغلق لوط على ضيفه الباب فخلعوا الباب ودخلوا فطمس جبرل أعينهم فذهبت أبصارهم فقالوا يا لوط جئتنا بالسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال يذهب هؤلاء ونؤذى فقالوا لا تخف إنا رسل ربك إن موعدهم الصبح قال لوط الساعة قال جبريل أليس الصبح بقريب قال فرفعت المدينة حتىسمع أهل السماء نبيح الكلاب ثم أقلبت ورموا بالحجارة وقال حذيفة بن اليمان لما أرسلت الرسل إلى قوم لوط لتهلكهم قيل لهم لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث مرات وطريقهم على إبراهيم قال فأتوا إبراهيم فبشروه بما بشروه فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط قال كان مجادلته إياهم أن قال لهم إن كان فيهم خمسون أتهلكونهم قالوا لا قال أفرأيتم إن كان فيهم أربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى انتهى إلى عشرة أو خمسة فأتا لوطا وهو في أرض يعمل فيها فحسبهم ضيفا فأقبل بهم حين أمسى إلى أهله فأتوا معه فاتلفت إليهم فقال أما ترون ما يصنع هؤلاء قالوا وما يصنعون قال من من الناس أحد شر منهم قال فانتهى بهم إلى أهله فانطلقت العجوز السوء امرأته فأتت قومه فقالت لقد تضيف لوطا الليلة قوم ما رأيت قط أحسن وجوها ولا أطيب ريحا منهم فأقبلوا يهرعون إليه حتى دفعوا الباب ثم كادوا أن يقلبوه عليهم فقام ملك بجناحه فصفقه دونهم ثم أغلق الباب ثم علوا الأجاجير فجعل يخاطبهم فقال هؤلاء بناتي هن أطهر لكم حتى بلغ أو آوي إلى ركن شديد
شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فطمس جبريل أعينهم فما بقي أحد منهم تلك الليلة حتى عمي قال فباتوا بشر ليلة عميا ينتظرون العذاب قال وسار بأهله واستأذن جبريل عليه السلام في هلاكهم فأذن له فارتفع بالأرض التي كانوا عليها فألوى بها حتى سمع أهل السماء الدنيا ضغاء كلابهم وأوقد تحتها نارا ثم قلبها بهم قال فسمعت امرأته الوجبة وهي معه فالتفتت فأصابها العذاب وفي تفسير العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما جادل إبراهيم الملائكة في قوم لوط أن يتركوا فقال أرأيتم إن كان فيهم عشرةأبيات من المسلمين أتتركونهم فقالت الملائكة ليس فيها عشرة أبيات ولا خمسة ولا أربعة ولا ثلاثة ولا اثنان فحزن إبراهيم على لوط وأهل بيته و قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين فذلك قوله فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب فقالت الملائكة يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود فبعث الله إليهم جبريل فانتسف المدينة ومن فيها بأحد جناحيه فجعل عاليها سافلها وتبعتهم الحجارة بكل أرض فأهلك الله سبحانه الفاعل
والمفعول به والساكت الراضي والدال المحصن منهم وغير المحصن العاشق والمعشوق وأخذهم وهم في سكرة عشقهم يعمهون وذكر ابن أبي داود في تفسيره عن وهب بن منبه قال إن الملائكة حين دخلوا على لوط ظن أنهم أضياف ضافوه فاحتفل لهم وحرص على كرامتهم وخالفته امرأته إلى فساق قومه فأخبرتهم أنه ضاف لوطا أحسن الناس وجها وأنضرهم جمالا وأطيبهم ريحا فكانت هذه خيانتها التي ذكر الله تعالى في كتابه وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله فخانتاهما قال والله ما زنتا ولا بغت امرأة نبي قط فقيل له فما كانت خيانة امرأة نوح وامرأة لوط فقال أما امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون وأما امرأة لوط فإنها كانت تدل على الضيف وقال أبو مسلم الليثي في مسنده حثنا سليمان بن داود حدثنا عبدالوارث حدثنا القاسم بن عبدالرحمن حدثنا عبدالله بن محمد بن عقيل قال سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنه يقول قال رسول الله إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي عمل قوم لوط وقال هشام بن عمار حدثنا عبدالعزيز الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال لعن الله من وقع على بهيمة ولعن الله من عمل عمل قوم لوط رواه الإمام أحمد وقال القعنبي حدثنا عبدالعزيز هو الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبدالله بن حنطب المخزومي عن عكرمة عن
ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال لعن الله من تولى غير مواليه ولعن الله من غير تخوم الأرض ولعن الله من كمه أعمى عن السبيل ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من عمل عمل قوم لوط ولعن الله من عمل عمل قوم لوط ولعن الله من عمل عمل قوم لوط ثلاثا ولعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من وقع على بهيمة هذا الإسناد على شرط البخاري وقال أبو داود الطيالسي حدثنا بشر بن المفضل عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله إذا باشر الرجل الرجل فهما زانيان وفي لفظ إذا أتى الرجل الرجل وفي المسند والسنن من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله اقتلوا الفاعل والمفعول به وفي لفظ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به وإسناده على شرط البخاري وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
قال رسول الله من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فارجموه أو قال فاقتلوا الفاعل والمفعول به وحرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن الزبير وهشام بن عبدالملك وقال حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس عن عبيدالله بن معمر قال يقتل اللوطي وقال سعيد بن المسيب عندنا على اللوطي الرجم أحصن أو لم يحصن سنة ماضية وهذا يدل على أن ذلك سنة مضى عليها العمل وقال الشعبي يقتل أحصن أو لم يحصن وقال الزهري وربيعة وابن هرمز ومالك بن أنس عليه الرجم أحصن أو لم يحصن وقال بعض العلماء وإما قال سعيد بن المسيب إن ذلك سنة ماضية لقول النبي اقتلوا الفاعل والمفعول به ولم يقل محصنا أو غير محصن وحرقهم أبو بكر رضي الله عنه بالنار بعد مشاورة الصحابة وأشار عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك وحرقهم علي وابن الزبير كما ذكره الآجري وغيره عن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر أنه وجد رجلا في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة فجمع أبو بكر لذلك اصحاب رسول الله وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فقال علي إن هذا ذنب لم يعمل به إلا أمة واحدة ففعل الله بهم ما قد علمتم أرى أن تحرقوه بالنار فاجتمع رأي أصحاب رسول الله أن يحرق بالنار فأمر به أبو بكر أن يحرق
قال وقد حرقهم ابن الزبير وهشام بن عبدالملك وقال ابن عباس رضي الله عنهما يرجم اللوطي بكرا كان أو ثيبا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه ولم يفرق أحد منهم بين المحصن وغره وصرح بعضهم بعموم الحكم للمحصن وغير المحصن فلذلك قال ابن المسيب إن هذا سنة ماضية وفي مسائل إسحاق بن منصور الكوسج قلت لأحمد يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن فقال يرجم أحصن أو لم يحصن قال إسحاق بن راهويه هو كما قال والسنة في الذي يعمل عمل قوم لوط أن يرجم محصنا كان أو غير محصن لأن النبي قال من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه رواه ابن عباس عن النبي كذلك ثم أفتى ابن عباس بعد النبي فيمن يعمل عمل قوم لوط أنه يرجم وإن كان بكرا فحكم في ذلك بما رواه عن النبي وكذلك روي عن علي بن أبي طالب مثل هذا القول إن اللوطي يرجم ولم يذكر محصنا كان أو غير محصن وكذلك فعل الله سبحانه بقوم لوط وكذا يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه حرقهم بالنار هذا كلام إسحاق رحمه الله وذكر الآجري في كتاب تحريم اللواط من حديث عبدالله بن عمر مرفوعا سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويقول ادخلوا النار مع الداخلين الفاعل والمفعول به والناكح يده وناكح
البهيمة وناكح المرأة في دبرها والجامع بين المرأة وابنتها والزاني بحليلة جاره والمؤذي لجاره حتى يلعنه وذكر عن أنس مرفوعا نحوه وقال ادخلوا النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا إلا أن يتوبوا إلا أن يتوبوا فمن تاب تاب الله عليه الناكح يده والفاعل والمفعول به ومدمن الخمر والضارب أبويه حتى يستغيثا والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه والزاني بحليلة جاره وقال مجاهد لو أن الذي يعمل ذلك العمل يعني عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسا وقد ذكر الله سبحانه عقوبة اللوطية وما حل بهم من البلاء في عشر سور من القرآن وهي سورة الأعراف وهود والحجر والأنبياء والفرقان والشعراء والنمل والعنكبوت والصافات واقتربت الساعة وجمع على القوم بين عمى الأبصار وخسف الديار والقذف بالأحجار ودخول النار وقال محذرا لمن عمل عملهم ما حل بهم من العذاب الشديد وما قوم لوط منكم ببعيد وقال بعض العلماء إذا علا الذكر الذكر هربت الملائكة وعجت الأرض إلى ربها ونزل سخط الجبار جل جلاله عليهم وغشيتهم اللعنة
وحفت بهم الشياطين واستأذنت الأرض ربها أن تخسف بهم وثقل العرش على حملته وكبرت الملائكة واستعرت الجحيم فإذا جاءته رسل الله لقبض روحه نقلوها إلى ديار إخوانهم وموضع عذابهم فكانت روحه بين أرواحهم وذلك أضيق مكانا وأعظم عذابا من تنور الزناة فلا كانت لذة توجب هذا العذاب الأليم وتسوق صاحبها إلى مرافقة أصحاب الجحيم تذهب اللذات وتعقب الحسرات وتفنى الشهوة وتبقى الشقوة وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ينشد تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الخزي والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار فصل وأما إن كانت الفاحشة مع ذي رحم محرم فذلك الهلك كل الهلك ويجب قتل الفاعل بكل حال عند الإمام أحمد وغيره واحتج أحمد بحديث عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال لقيت خالي ومعه الراية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله إلى رجل تزوج امرأة أبيه أضرب عنقه وآخذ ماله رواه الإمام أحمد واحتج به وقال شعبة حدثنا الركين بن الربيع عن عدي بن ثابت عن البراء
قال رأيت أناسا ينطلقون فقلت أين تذهبون قالوا بعثنا رسول الله إلى رجل يأتي امرأة أبيه أن نقتله وذكر عبدالله بن صالح حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله قال اقتلوا الفاعل والمفعول به والذي يأتي البهيمة والذي يأتي كل ذات محرم وقال هشام بن عمار حدثنا رفدة بن قضاعة حدثنا صالح بن راشد قال أتي الحجاج برجل قد اغتصب أخته على نفسها فقال احبسوه وسلوه من هاهنا من أصحاب محمد فسألوا عبدالرحمن بن مطرف فقال سمعت رسول الله يقول من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف وأفتى ابن عباس رضي الله عنهما بمثل ذلك وقال عمر بن شبة حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة قال أتي الحجاج برجل زنى بأخته فسأل عنها عبدالله فقال يضرب بالسيف فأمر به الحجاج فضرب عنقه بالسيف وذكر جماعة عن حماد بن سلمة عن بكر بن عبدالله المزني أن رجلا تزوج خالته فرفع إلى عبدالملك بن مروان فقال إني ظننت أنها تحل لي
فقال لا جهالة في الإسلام وأظن أنه أمر به فقتل وفي مسائل صالح بن أحمد قال سألت أبي عن الرجل الذي تزج ذات محرم منه فقال إن كان عمدا يقتل ويؤخذ ماله وإن كان لا يعلم يفرق بينهما وأستحب أن يكون لها ما أخذت منه ولا يرجع عليها بشيء وفي صحيفةعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال لا يدخل الجنة من أتى ذات محرم
الباب الخامس والعشرون في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين قال الله تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكل من أعان غيره على أمر بقوله أو فعله فقد صار شفيعا له والشفاعة للمشفوع له هذا أصلها فإن الشافع يشفع صاحب الحاجة فيصير له شفعا في قضائها لعجزه عن الاستقلال بها فدخل في حكم هذه الآية كل متعاونين على خير أو شر بقول أو عمل ونظيرها قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وفي الصحيح عنه أنه كان إذا جاءه طالب حاجة يقول اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما أحب وفي صحيح البخاري أن بريرة لما عتقت اختارت نفسها فكان زوجها يمشي خلفها ودموعه تسيل على لحيته فقال لها النبي لوراجعتيه فإنه أبو ولدك فقالت أتأمرني قال لا إنما أنا شافع قالت فلا حاجة لي فيه فهذه شفاعة من سيد الشفعاء لمحب إلى محبوبه وهي من أفضل الشفاعات وأعظمها أجرا عند الله فإنها تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله ولهذا كان أحب ما لإبليس وجنوده التفريق بين هذين المحبوبين
وتأمل قوله تعالى في الشفاعة الحسنة يكن له نصيب منها وفي السيئة يكن له كفل منها فإن لفظ الكفل يشعر بالحمل والثقل ولفظ النصيب يشعر بالحظ الذي ينصب طالبه في تحصيله وإن كان كل منهما يستعمل في الأمرين عند الانفراد ولكن لما قرن بينهما حسن اختصاص حظ الخيز بالنصيب وحظ الشر بالكفل وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا على عهد رسول الله زوج ابنة له وكان خطبها قبل ذلك عم بنتها فبلغ النبي أنها كارهة هذا الذي زوجها أبوها وأنه كان يعجبها أن يتزوجها عم بنتها فأهدر النبي نكاح أبيها وزوجها عم بنتها وقد تقدم حديث عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم فقال رسول الله ليس للمتحابين مثل النكاح رواه سليمان بن موسى عنه وقال مخلد بن الحسين حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال كان عمر بن الخطاب يعس بالليل فسمع صوت امرأة تغني وتقول هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فقال أما وعمر حي فلا فلما أصبح بعث إلى نصر بن حجاج فإذا رجل جميل فقال اخرج فلا تساكني بالمدينة فخرج حتى أتى البصرة وكان يدخل على مجاشع بن مسعود وكانت له امرأة جميلة فأعجبها نصر فأحبها وأحبته فكان يقعد هو ومجاشع يتحدثان والمرأة معهما فكتب لها نصر في الأرض كتابا فقالت وأنا فعلم مجاشع أنها جواب كلام وكان مجاشع لا يكتب والمرأة تكتب فدعا بإناء فأكفاه على المكتوب ودعا كاتبا فقرأه فإذا هو إني لأحبك حبا لو كان فوقك لأظلك ولو كان تحتك لأقلك وبلغ نصرا ما صنع مجاشع فاستحيا ولزم بيته وضني جسمه حتى كان كالفرخ فقال مجاشع لامرأته اذهبي إليه فأسنديه إلى صدرك وأطعميه الطعام بيدك فأبت فعزم عليها فأتته فأسندته إلى صدرها وأطعمته الطعام بيدها فلما تحامل خرج من البصرة إن الذين بخير كنت تذكرهم ... هم أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا لا تطلبن شفاء عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا فإن قيل فهل تبيح الشريعة مثل ذلك قيل إذا تعين طريقا للدواء ونجاة العبد من الهلكة لم يكن بأعظم من مداواة المرأة للرجل الأجنبي ومداواته لها ونظر الطبيب إلى بدن المريض ومسه بيده للحاجة وأما التداوي بالجماع فلا يبيحه الشرع بوجه ما وأما التداوي بالضم والقبلة فإن تحقق الشفاء به كان نظير التداوي بالخمر عند من يبيحه بل هذا أسهل من التداوي
بالخمر فإن شربه من الكبائر وهذا الفعل من الصغائر والمقصود أن الشفاعة للعشاق فيما يجوز من الوصال والتلاق سنة ماضية وسعي مشكور وقد جاء عن غير واحد من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم أنهم شفعوا هذه الشفاعة فقال الخرائطي حدثنا علي بن الأعرابي حدثنا أبو غسان النهدي قال مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته بطريق من طرق المدينة فإذا جارية تطحن برحاها وهي تقول وهويته من قبل قطع تمائمي ... متمايسا مثل القضيب الناعم وكأن نور البدر سنة وجهه ... ينمي ويصعد في ذؤابة هاشم فدق عليها الباب فخرجت إليه فقال ويلك أحرة أنت أم مملوكة فقالت بل مملوكة يا خليفة رسول الله قال فمن هويت فبكت ثم قالت بحق الله إلا انصرفت عني قال لا أريم أو تعلميني فقالت وأنا التي لعب الغرام بقلبها ... فبكت لحب محمد بن القاسم فصار إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب وقال هؤلاء فتن الرجال وكم قد مات بهن من كريم وعطب عليهن من سليم
ويذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه جاءته جارية تستعدي على رجل من الأنصار فقال لها عثمان ما قصتك فقالت يا أمير المؤمنين كلفت بابن أخيه فما أنفك أراعيه فقال له عثمان إما أن تهبها لابن أخيك أو أعطيك ثمنها من مالي فقال أشهدك يا أمير المؤمنين أنها له وأتي علي بن أبي طالب بغلام من العرب وجد في دار قوم بالليل فقال له ما قصتك فقال لست بسارق ولكني أصدقك تعلقت في دار الرباحي خودة ... يذل لها من حسنها الشمس والبدر لها في بنات الروم حسن ومنصب ... إذا افتخرت بالحسن صدقها الفخر فلما طرقت الدار من حر مهجة ... أتيت وفيها من توقدها جمر تبادر أهل الدار لي ثم صيحوا ... هو اللص محتوما له القتل والأسر فلما سمع علي شعره رق له وقال للمهلب بن رباح اسمح له بها ونعوضك منها فقال يا أمير المؤمنين سله من هو لنعرف نسبه فقال النهاس بن عيينة العجلي فقال خذها فهي لك وذكر التميمي في كتابه المسمى بامتزاج النفوس أن معاوية بن أبي سفيان اشترى جارية من البحرين فأعجب بها إعجابا شديدا فسمعها يوما تنشد أبياتا منها وفارقته كالغصن يهتز في الثرى ... طريرا وسيما بعد ما طر شاربه فسألها فقالت هو ابن عمي فردها إليه وفي قلبه منها وقال سالم بن عبدالله كانت عاتكة ابنة زيد تحت عبدالله بن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه وكانت قد غلبته على رأيه وشغلته عن سوقه فأمره أبو بكر بطلاقها واحدة ففعل فوجد عليها فقعد لأبيه على طريقه وهو يريد الصلاة فلما بصر بأبي بكر بكى وأنشأ يقول ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير جرم يطلق لها خلق جزل وحلم ومنصب ... وخلق سوي في الحياة ومصدق فرق له أبو بكر رضي الله عنه وأمره بمراجعتها فلما مات قالت ترثيه آليت لا تنفك عيني سخينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغرا فلله عينا من رأى مثله فتى ... أعف وأمضى في الهياج وأصبرا إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا فلما حلت تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأولم عليها فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتأذن لي يا أمير المؤمنين أدخل رأسي إلى عاتكة أكلمها قال نعم فأدخل علي رأسه إليها وقال يا عدية نفسها آليت لا تنفك عيني قريرة ... عليك ولا ينفك جلدي أصفرا فبكت فقال له عمر ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن كل النساء يفعلن هذا فلما قتل عمر قالت ترثيه عين جودي بعبرة ونحيب ... لا تملي على الجواد النجيب
فجعتني المنون بالفارس المعلم ... يوم الهياج والتثويب قل لأهل الضراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب فلما حلت تزوجها الزبير بن العوام فاستأذنت ليلة أن تخرج إلى المسجد فشق ذلك عليه وكره أن يمنعها لقول رسول الله لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فأذن لها ثم انكمى في موضع مظلم من الطريق فلما مرت وضع يده عليها فكرت راجعة تسبح فسبقها الزبير إلىالمنزل فلما رجعت قال لها ما ردك عن وجهك قالت كنا نخرج والناس ناس وأما اليوم فلا وتركت المسجد فلما قتل الزبير قالت ترثيه غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرد يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش السنان ولا اليد ثكلتك أمك إن ظفرت بمثله ... فيما مضى حتى تروح وتغتدي كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا ابن أم الفرقد إن الزبير لذو بلاء صادق ... سمح سجيته كريم المشهد فلما حلت خطبها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالت إني لأضن بك على القتل
وذكر الخرائطي أن المهدي خرج إلى الحج حتى إذا كان بزبالة جلس يتغدى فأتي بدوي فناداه يا أمير المؤمنين إني عاشق ورفع صوته فقال للحاجب ويحك ما هذا قال إنسان يصيح إني عاشق قال أدخلوه فأدخلوه عليه فقال من عشيقتك قال ابنة عمي قال أولها أب قال نعم قال فماله لا يزوجك إياها قال هاهنا شيء يا أمير المؤمنين قال ما هو قال إني هجين والهجين الذي أمه أمة ليست عربية قال له المهدي فما يكون قال إنه عندنا عيب فأرسل في طلب أبيها فأتي به فقال هذا ابن أخيك قال نعم قال فلم لا تزوجه كريمتك فقال له مثل مقالة ابن أخيه وكان من ولد العباس عنده جماعة فقال هؤلاء كلهم بنو العباس وهم هجن ما الذي يضرهم من ذلك قال هو عندنا عيب فقال له المهدي زوجه إياها على عشرين ألف درهم عشرة آلاف للعيب وعشرة آلاف مهرها قال نعم فحمد الله وأثنى عليه وزوجه إياها فأتى ببدرتين فدفعهما إليه فأنشأ الشاب يقول إبتعت ظبية بالغلاء وإنما ... يعطي الغلاء بمثلها أمثالي وتركت أسواق القباح لأهلها ... إن القباح وإن رخصن غوالي وذكر الخرائطي من حديث الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم أن عمر بن أبي ربيعة كان قد ترك الشعر ورغب عنه ونذر على نفسه بكل بيت يقوله هدى بدنة فمكث كذلك حينا ثم خرج ليلة يريد الطواف بالبيت إذ نظر
إلى امرأة ذات جمال تطوف وإذا رجل يتلوها كلما رفعت رجلها وضع رجله موضع رجلها فجعل ينظر إلى ذلك من أمرههما فلما فرغت المرأة من طوافها تبعها الرجل هنية ثم رجع فلما رآه عمر وثب إليه وقال لتخبرني عن أمرك قال نعم هذه المرأة التي رأيت ابنة عمي وأنا لها عاشق وليس لي مال فخطبتها إلى عمي فرغب عني وسألني المهر مالا أقدر عليه والذي رأيت هو حظي منها ومالي من الدنيا أمنية غيرها وإنما ألقاها عند الطواف وحظي ما رأيت من فعلي فقال له عمر ومن عمك قال فلان بن فلان قال انطلق معي إليه فانطلقا فاستخرجه عمر فخرج مبادرا فقال ما حاجتك يا أبا الخطاب قال تزوج ابنتك فلانة من ابن أخيك فلان وهذا المهر الذي تسأله يساق إليك من مالي قال فإني قد فعلت قال عمر إني أحب أن لا أبرح حتى يجتمعا قال وذلك ايضا قال فلم يبرح حتى جمعهما جميعا وأتى منزله فاستلقى على فراشه فجعل النوم لا يأخذه وجعل جوفه يجيش بالشعر فأنكرت جاريته ذلك فجعلت تسأله عن أمره وتقول ويحك ما الذي قد دهاك فلما أكثرت عليه جلس وأنشد تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا أراك اليوم قد أحدثت شوقا ... وهاج لك البكا داء دفينا بربك هل أتاك لها رسول ... فشاقك أم رأيت لها خدينا فقلت شكا إلي أخ محب ... كبعض زماننا إذ تعلمينا فعد علي ما يلقى بهند ... فوافق بعض ما كنا لقينا
وذو القلب المصاب وإن تعزى ... يهيج حين يلقى العاشقينا وكم من خلة أعرضت عنها ... لغير قلى وكنت بها ضنينا رأيت صدودها فصددت عنها ... ولو هام الفؤاد بها جنونا وعرض خالد بن عبدالله القسري سجنه يوما وكان فيه يزيد بن فلان البجلي فقال له خالد في أي شيء حبست يا يزيد قال في تهمة أصلح الله الأمير قال أفتعود إن أطلقتك قال نعم وكره أن يعرض بقصته لئلا يفضح معشوقته فقال خالد أحضروا رجال الحي حتى نقطع يده بحضرتهم وكان ليزيد أخ فكتب شعرا ووجه به إلى خالد أخالد قد أعطيت في الخلق رتبة ... وما العاشق المسكين فينا بسارق أقر بما لم يأته المرء إنه ... رأى القطع خيرا من فضيحة عاشق ولولا الذي قد خفت من قطع كفه ... لألفيت في شأن الهوى غير ناطق إذا بدت الرايات للسبق في العلى ... فأنت ابن عبدالله أول سابق فلما قرأ خالد الأبيات علم صدق قوله فأحضر أولياء الجارية فقال زوجوا يزيد فتاتكم فقالوا أما وقد ظهر عليه ما ظهر فلا فقال لئن لم تزوجوه طائعين لتزوجنه كارهين فزوجوه ونقد خالد المهر من عنده وذكر أبو العباس المبرد قال كان رجل بالكوفة يدعى ليث بن زياد قد ربى جارية وأدبها فخرجت بارعة في كل فن مع جمال وافر فلم يزل معها مدة حتى تبينت منه الحاجة فقالت يا مولاي لو بعتني كان أصلح لك مما أراك به وإن كنت لأظن أني لا أصبر عنك فقصد رجلا من الأغنياء يعرفها
ويعرف فضلها فباعها بمائة ألف درهم فلما قبض المال وجه بها إلى مولاها وجزع عليها جزعا شديدا فلما صارت الجارية إلى سيدها نزل بها من الوحشة للأول مالم تستطع دفعه ولا كتمه فباحت به وقالت أتاني البلا حقا فما أنا صانع ... أمصطبر للبين أم أنا جازع كفى حزنا أني على مثل جمرة ... أقاسي نجوم الليل والقلب نازع فإن يمنعوني أن أبوح بحبه ... فإني قتيل والعيون دوامع فبلغ سيدها شعرها فدعا بها وأرادها فامتنعت عليه وقالت له يا سيدي إنك لا تنتفع بي قال ولم ذاك قالت إني لما بي قال وما بك صفيه لي قالت أجد في أحشائي نيرانا تتوقد لا يقدر على إطفائها أحد ولا تسأل عما وراء ذلك فرحمها ورق لها وبعث إلى مولاها فسأل عن خبره فوجد عنده مثل الذي عندها فأحضره فرد الجارية عليه ووهب له من ثمنها خمسين ألفا فلم تزل عنده مدة طويلة وبلغ عبدالله بن طاهر خبرهما وهو بخراسان فكتب إلى خليفته بالكوفة يأمره أن ينظر فإن كان هذا الشعر الذي ذكر له من قبل الجارية أن يشتريها له بما ملكت يمينه فركب إلى مولى الجارية فخبره بما كتب إليه عبدالله بن طاهر فلم يجد سيدها بدا من عرضها عليه وهو كاره فأراد الأمير أن يعلم ما عند الجارية فأنشأ يقول بديع حسن رشيق قد ... جعلت مني له ملاذا فأجابته الجارية فعاتبوه فزاد عشقا ... فمات شوقا فكان ماذا فعلم أنها تصلح له فاشتراها بمائتي ألف درهم فجهزها وحملها إلى عبدالله بن
طاهر إلى خراسان فلما صارت إليه اختبرها فوجدها على ما أراد فغلبته على عقله ويقال إنها أم محمد بن عبدالله بن طاهر ولم تزل ألطافها وجوائزها تأتي مولاها الأول حتى ماتت وقال عمر بن شبة حدثنا أيوب بن عمر الغفاري قال طلق عبدالله بن عامر امرأته ابنة سهل بن عمرو فقدمت المدينة ومعها ابنة لها ومعها وديعة جوهر استودعها إياه فتزوجها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم أراد ابن عامر الحج فأتى المدينة فلقي الحسن فقال يا أبا محمد إن لي إلى ابنة سهل حاجة فأحب أن تأذن لي عليها فقال الحسن البسي ثيابك فهذا ابن عامر يستأذن عليك فدخل عليها فسألها وديعته فجاءته بها عليها خاتمه فقال لها خذي ثلثها فقالت ما كنت لآخذ على أمانة ائتمنت عليها شيئا أبدا ثم أقبل عليها ابن عامر فقال إن ابنتي قد بلغت فأحب أن تخلي بيني وبينها فبكت وبكت ابنتها فرق ابن عامر فقال الحسن فهل لكما فوالله ما من محلل خير مني قال فوالله لا أخرجها من عندك أبدا فكفلها حتى مات وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أن زبيدة بنت أبي جعفر قرأت في طريق مكة على حائط أما في عباد الله أو في إمائه ... كريم يجلي الهم عن ذاهب العقل له مقلة أما المآقي فقرحة ... وأما الحشا فالنار منه على رجل
فنذرت أن تحتال لقائلهما حتى تجمع بينه وبين من يحبه قالت فإني لبمزدلفة إذ سمعت من ينشدهما فاستدعيت به فزعم أنه قالهما في بنت عم له وقد حلف أهلها أن لا يزوجوهها منه فوجهت إلى الحي وما زالت تبذل لهم المال حتى زوجوه وإذا المرأة أعشق من الرجل فكانت زبيدة تعده في أعظم حسناتها وتقول ما أنا بشيء أسر مني بجمعي بين ذلك الفتى والفتاة قال الزمخشري وهوي أحمد بن أبي عثمان الكاتب جارية لزبيدة اسمها نعم حتى مرض وقال فيها أبياتا منها وإني ليرضيني الممر ببابها ... وأقنع منها بالشتيمة والزجر فوهبتها له وذكر الخرائطي أنه كان لبعض الخلفاء غلام وجارية من غلمانه وجواريه متحابين فكتب الغلام إليها يوما يقول ولقد رأيتك في المنام كأنما ... عاطيتني من ريق فيك البارد وكأن كفك في يدي وكأننا ... بتنا جميعا في فراش واحد فطفقت يومي كله متراقدا ... لأراك في نومي ولست براقد ثم انتبهت ومعصماك كلاهما ... بيدي اليمين وفي يمينك ساعدي فأجابته الجارية خيرا رأيت وكل ما أبصرته ... ستناله مني برغم الحاسد إني لأرجو أن تكون معانقي ... فتبيت مني فوق ثدي ناهد وأراك بين خلاخلي ودمالجي ... وأراك بين ترائبي ومجاسدي
ونبيت ألطف عاشقين تعاطيا ... طرف الحديث بلا مخافة راصد فبلغ الخليفة خبرهما فأنكحهما وأحسن إليهما على شدة غيرته وقال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى سمع المهلب فتى يتغنى بشعر في جارية له فقال المهلب لعمري إني للمحبين راحم ... وإني بستر العاشقين حقيق سأجمع منكم شمل ود مبدد ... وإني بما قد ترجوان خليق ثم وهبها له ومعها خمسة آلاف دينار وقال الخرائطي كان رجل نخاس عنده جارية لم يكن له مال غيرها وكان يعرضها في المواسم فتغالى الناس فيها حتى بلغت مبلغا كثيرا من المال وهو يطلب الزيادة فعلقها رجل فقير فكاد عقله أن يذهب فلما بلغه ذلك وهبها له فعوتب في ذلك فقال إني سمعت الله تعالى يقول ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا أفلا أحيي الناس جميعا وقال علي بن قريش الجرجاني شكوت بلاء لا أطيق احتماله ... وقلبي مطيع للهوى غير دافع فأقسم ما تركي عتابك عن قلى ... ولكن لعلمي أنه غير نافع وإني متى لم ألزم الصبر طائعا ... فلا بد منه مكرها غير طائع
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ود يكون بشافع وكان أبو السائب المخزومي أحد القراء والفقهاء فرؤي متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول اللهم ارحم العاشقين واعطف عليهم قلوب المعشوقين فقيل له في ذلك فقال الدعاء لهم أفضل من عمرة من الجعرانة وذكر أحمد بن الفضل الكاتب أن غلاما وجارية كانا في كتاب فهويها الغلام فلما كان في بعض أيامه في غفلة من الغلمان كتب في لوح الجارية ماذا تقولين فيمن شفه سقم ... من طول حبك حتى صار حيرانا فلما قرأته الجارية أغرورقت عيناها بالدموع رحمة له وكتبت تحته إذا رأينا محبا قد أضر به ... طول الصبابة أوليناه إحسانا وذكر الهيثم بن عدي عن محمد بن زياد أن الحارث بن السليل الأزدي خرج زائرا لعلقمة بن حزم الطائي وكان حليفا له فنظر إلى ابنة له تدعى الرباب وكانت من أجمل النساء فأعجب بها وعشقها عشقا حال بينه وبين الانصراف إلى أهله فقال لعلقمة إني أتيتك خاطبا وقد ينكح الخاطب ويدرك الطالب ويمنح الراغب قال كفو كريم فأقم ننظر في أمرك ثم انكفأ إلى أم لجارية فقال لها إن الحارث سيد قومه حسبا ومنصبا وبيتا فلا ينصرفن من عندنا إلا بحاجته فشاوري ابنتك وأديريها عما في نفسها فقالت لها أي
بنية أي الرجال أعجب إليك الكهل الجحجاح المفضل المياح أم الفتى الوضاح الملوك الطماح قالت الفتى الوضاح فقالت إن الفتى يغيرك وإن الشيخ يميرك وليس الكهل الفاضل الكثير النائل كالحديث السن الكثير المن فقالت يا أماه أحب الفتى كحب الرعاء أنيق الكلا قالت يا بنية إن الفتى شديد الحجاب كثير العتاب قالت يا أماه أخشى من الشيخ أن يدنس ثيابي ويبلي شبابي ويشمت بي أترابي فلم تزل بها الأم حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث على خمسين ومائة من الإبل وخادم وألف درهم فبنى بها وكانت عنده أحب شيء إليه فارتحل بها إلى أهله فإنه لجالس يوما بفناء مظلته هي إلى جانبه إذ أقبل فتية يعتلجون الصراع فتنفست الصعداء ثم أرسلت عينيها بالبكاء فقال ما يبكيك فقالت مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ فقال ثكلتك أمك قد تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها فسارت مثلا أي لا تكون ظئرا وكان أول من نطق بها ثم قال أما وأبيك لرب غارة شهدتها وسبية أردفتها وخمرة شربتها
الحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك ثم أنشأ يقول وعيرت أن رأتني لابسا كبرا ... وغاية النفس بين الموت والكبر فإن بقيت رأيت الشيب راغمة ... وفي التفرق ما يقضي من العبر وإن يكن قد علا رأسي وغيره ... صرف الزمان وتقتير من الشعر فقد أروح للذات الفتى جذلا ... وهمتي لم تشب فاستخبري أثري
الباب السادس والعشرون في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما هذا باب لا يدخل فيه إلا النفوس الفاضلة الشريفة الأبية التي لا تقنع بالدون ولا تبيع الأعلى بالأدنى بيع العاجز المغبون ولا يملكها لطخ جمال مغش على أنواع من القبائح كما قال بعض الأعراب وقد نظر إلى امرأة مبرقعة إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع يريك عيون المها مسبلا ... ويكشف عن منظر في أشنع وقال الآخر لا يغرنك ما ترى من نقاب ... إن تحت النقاب داء دويا فالنفس الأبية لا ترضى بالدون وقد عاب الله سبحانه أقواما استبدلوا طعاما بطعام أدنى منه فنعى ذلك عليهم وقال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وذلك دليل على وضاعة النفس وقلة قيمتها وقال الأصمعي خلا رجل من الأعراب بامرأة فهم بالريبة فلما تمكن منها تنحى سليما وجعل يقول إن امرءا باع جنة عرضها السموات والأرض بفتر ما بين رجليك لقليل البصر بالمساحة
وقال أبو أسماء دخل رجل غيضة فقال لو خلوت هاهنا بمعصية من كان يراني فسمع صوتا ملأ ما بين لابتي الغيضة ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وقال الإمام أحمد حدثنا هيثم هو ابن خارجة حدثنا إسماعيل ابن عياش عن عبدالرحمن بن عدي البهراني عن يزيد بن ميسرة قال إن الله تعالى يقول أيها الشاب التارك شهوته لي المتبذل شبابه من أجلي أنت عندي كبعض ملائكتي وذكر إبراهيم بن الجنيد أن رجلا راود امرأة عن نفسها فقالت له أنت قد سمعت القرآن والحديث فأنت أعلم قال فأغلقي الأبواب فأغلقتها فلما دنا منها قالت بقي باب لم أغلقه قال أي باب قالت الباب الذي بينك وبين الله فلم يتعرض لها وذكر أيضا عن أعرابي قال خرجت في بعض ليالي الظلم فإذا أنا بجارية كأنها علم فأردتها عن نفسها فقالت ويلك أما كان لك زاجر من عقل إذ لم يكن لك ناه من دين فقلت إنه والله ما يرانا إلا الكواكب قالت فأين مكوكبها وجلس زياد مولى ابن عياش رضي الله عنهما إلى بعض إخوانه فقال له
يا عبدالله فقال له قل ما تشاء قال ما هي إلا الجنة أو النار قلت نعم قال وما بينهما منزل ينزله العباد قلت لا والله فقال والله إن نفسي لنفس أضن بها على النار والصبر اليوم عن معاصي الله خير من الصبر على الأغلال وقال وهب بن منبه قالت امرأة العزيز ليوسف عليه السلام ادخل معي القيطون تعني الستر قال إن القيطون لا يسترني من ربي وقال اليزيدي دخلت على هارون الرشيد فوجدته مكبا على ورقه ينظر فيها مكتوبة بالذهب فلما رآني تبسم فقلت فائدة أصلح الله أمير المؤمنين قال نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما فأضفت إليهما ثالثا فقال ثم أنشدني إذا سد باب عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها فإن قراب البطن يكفيك ملأه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها فلا تك مبذالا لدينك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها وقال أبو العباس الناشئ إذا المرء يحمي نفسه حل شهوة ... لصحة أيام تبيد وتنفد فما باله لا يحتمي من حرامها ... لصحة ما يبقى له ويخلد وقيل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينشد هذين البيتين إقدع النفس بالكفاف وإلا ... طلبت منك فوق ما يكفيها إنما طول عمرك ما عمرت ... في الساعة التي أنت فيها ومن أحسن شعر العرب وكان عمرو بن العاص يتمثل بهما
إذا المرء لم يترك طعاما أحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما قضى وطرا منه وغادر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما وقال شعبة عن منصور عن إبراهيم كلم رجل من العباد امرأة فلم يزل بها حتى وضع يده على فخذها فانطلق فوضع يده على النار حتى نشت وقال زيد بن أسلم عن أبيه كان عابد في صومعة يتعبد فأشرف ذات يوم فرأى امرأة ففتن بها فأخرج إحدى رجليه من الصومعة يريد النزول إليها ثم فكر وادكر فأناب فأراد أن يعيد رجله إلى الصومعة فقال والله لا أدخل رجلا خرجت تريد أن تعصي الله في صومعتي أبدا فتركها خارجة من الصومعة فأصابها الثلج والبرد والرياح حتى تقطعت وقال بعض السلف من كان له واعظ من قلبه زاده الله تعالى عزا والذل في طاعة الله أقرب من العز في معصيته وقال أبو العتاهية لقيت أبا نواس في المسجد الجامع فعذلته وقلت له أما آن لك أن ترعوي وتنزجر فرفع رأسه إلي وقال أتراني يا عتاهي ... تاركا تلك الملاهي أتراني مفسدا بالنسك ... عند القوم جاهي فلما ألححت عليه في العذل أنشأ يقول لا ترجع الأنفس عن غيها ... مالم يكن منها لها زاجر
فوددت أني قلت هذا البيت بكل شيء قلته وقال ابن السماك عن امرأة كان تسكن البادية لو طالعت قلوب المؤمنين بفكرها ما ذخر لها في حجب الغيوب من خير الآخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش ولم تقر لهم عين وقال ضيغم لرجل إن حبه تعالى شغل قلوب محبيه عن التلذذ بمحبةغيره فليس لهم في الدنيا مع محبته تعالى لذة تداني محبته ولا يأملون في الآخرة من كرامة الثواب أكبر عندهم من النظر إلى وجه مجبوبهم فسقط الرجل مغشيا عليه وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن رسول الله قال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى رأس الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط ولا تعرجوا وداع يدعو فوق الصراط فإذا أراد أحد فتح شيء من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه فالصراط الإسلام والستور المرخاة حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله تعالى والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم وقال خالد بن معدان ما من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما ما وعده الله بالغيب وإذا أراد الله به غير ذلك تركه على ما هو فيه ثم قرأ أم على قلوب أقفالها
وفي الترمذي عنه الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني وفي المسند من حديث فضالة بن عبيد عن النبي المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا عبدالعزيز بن مسلم عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال من أصبح وأكثر همه غير الله فليس من الله وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار قال قال موسى يا رب من أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك قال هم البريئة أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون بجلالي الذين إذا ذكرت ذكروا بي وإذا ذكروا بي ذكرت بذكرهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى وكورها ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب وقال أحمد حدثنا إبراهيم بن خالد حدثني عبدالله بن يحيى قال سمعت وهب بن منبه يقول قال موسى عليه السلام أي رب أي عبادك أحب إليك قال من أذكر برؤيته
وقال أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا هشام الدستوائي قال بلغني أن في حكمة عيسى بن مريم تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل ويحكم علماء السوء الأجر تأخذون والعمل تضيعون توشكون أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر وضيقه والله تعالى نهاكم عن المعاصي كما أمركم بالصوم والصلاة كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من آخرته وهو في الدنيا أعظم رغبة كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أشهى إليه مما لا يضره كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله تعالى في قضائه فليس يرضى بشيء أصابه كيف يكون من أهل العلم من طلب العلم ليتحدث به ولم يطلبه ليعمل به وقال عبدالله بن المبارك عن معمر قال الصبيان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب قال أو للعب خلقنا وقال أحمد حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبدالحميد بن جعفر حدثني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أن أمه فاطمة حدثته أن رسول الله قال إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون بالكلام وقال أحمد حدثنا أبو قطن حدثنا شعبة عن أبي مسلمة عن
أبي نضرة قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى يا أبا موسى شوقنا إلى ربنا قال فقرأ فقالوا الصلاة فقال عمر أولسنا في الصلاة فصل وملاك الأمر كله الرغبة في الله وإرادة وجهه والتقرب إليه بأنواع الوسائل والشوق إلى الوصول إليه وإلى لقائه فإن لم يكن للعبد همة إلى ذلك فالرغبة في الجنة ونعيمها وما أعد الله فيها لأوليائه فإن لم تكن له همة عالية تطالبه بذلك فخشية النار وما أعد الله فيها لمن عصاه فإن لم تطاوعه نفسه بشيء من ذلك فليعلم أنه خلق للجحيم لا للنعيم ولا يقدر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه فهذه فصول أربعة هن ربيع المؤمن وصيفه وخريفه وشتاؤه وهن منازله في سيره إلى الله تعالى وليس له منزلة غيرها فأما مخالفة الهوى فلم يجعل الله للجنة طريقا غير مخالفته ولم يجعل للنار طريقا غير متابعته قال الله تعالى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان قيل هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها لله وقد أخبر سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيله فقال الله تعالى
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ثم ذكر مآل الضالين عن سبيله ومصيرهم فقال إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وأخبر سبحانه أن باتباع الهوى يطبع على قلب العبد فقال أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم وقد أخبر النبي أن العاجز هو الذي اتبع هواه وتمنى على الله وذكر الإمام أحمد من حديث راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال قال رسول الله ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع وذكر من حديث جعفر بن حيان عن أبي الحكم عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال قال رسول الله أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى وفي نسخة كثير ابن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال قال رسول الله إن أخوف ما أخاف على أمتي حكم جائر وزلة عالم وهوى متبع
وقيل لبعض الحكماء أي الأصحاب أبر قال العمل الصالح قيل فأي شيء أضر قال النفس والهوى وقال بعض الحكماء إذا اشتبه عليك أمران فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه وأتي بعض الملوك بأسير عظيم الجرم فقال لو كان هواي في العفو عنك لخالفت الهوى إلى قتلك ولكن لما كان هواي في قتلك خالفته إلى العفو عنك وقال الهيثم بن مالك الطائي سمعت النعمان بن بشير يقول علىالمنبر إن للشيطان فخوخا ومصالي وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله والفخر بإعطاء الله والكبرياء على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله وفي المسند وغيره من حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه والمنجيات تقوى الله تعالى في السر والعلانية والعدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وفي جامع الترمذي من حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله يقول بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى بئس العبد عبد بغى وعتا ونسي المبدأ والمنتهى بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات بئس العبد عبد طمع
يقوده بئس العبد عبد هوى يضله بئس العبد عبد رغب يذله وقد أقسم النبي أنه لا يؤمن العبد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به فيكون هواه تابعا لا متبوعا فمن اتبع هواه فهواه متبوع له ومن خالف هواه لما جاء به الرسول فهواه تابع له فالمؤمن هواه تابع له والمنافق الفاجر هواه متبوع له وقد حكم الله تعالى لتابع هواه بغير هدى من الله أنه أظلم الظالمين فقال الله تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وأنت تجد تحت هذا الخطاب أن الله لا يهدي من اتبع هواه وجعل سبحانه وتعالى المتع قسمين لا ثالث لهما إما ما جاء به الرسول وإما الهوى فمن اتبع أحدهما لم يمكنه اتباع الآخر والشيطان يطيف بالعبد من أين يدخل عليه فلا يجد عليه مدخلا ولا إليه طريقا إلا من هواه فلذلك كان الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله وإنما تطاق مخالفة الهوى بالرغبة في الله وثوابه والخشية من حجابه وعذابه ووجد حلاوة الشفاء في مخالفة الهوى فإن متابعته الداء الأكبر ومخالفته الشفاء الأعظم وقيل لأبي القاسم الجنيد متى تنال النفوس مناها فقال إذا صار داؤها دواها فقيل له ومتى يصير داؤها دواها فقال إذا خالفت هواها ومعنى قوله يصير
داؤها دواها أن داءها هو الهوى فإذا خالفته تداوت منه بمخالفته وقيل إنما سمي هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى أسف السافلين والهوى ثلاثة أرباع الهوان وهو شارع النار الأكبر كما أن مخالفته شارع الجنة الأعظم وقال أبو دلف العجلى واسوأتا لفتى له أدب ... يضحى هواه قاهرا أدبه يأتي الدنية وهو يعرفها ... فيشين عرضا صائنا أربه فإذا ارعوى عادت بصيرته ... فبكى على الحين الذي سلبه وقال ابن المرتفق الهذلي أين لي ما ترى والمرء يأتي ... عزيميته ويغلبه هواه فيعمى ما يرى فيه عليه ... ويحسب من يراه لا يراه فصل وأما الرغبة في الله وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه فهي رأس مال العبد وملاك أمره وقوام حياته الطيبة وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه وقرة عينه ولذلك خلق وبه أمر وبذلك أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلا بأن تكون رغبته إلى الله تعالى وحده فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده كما قال الله تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم
الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون والراغبون ثلاثة أقسام راغب في الله وراغب فيما عند الله وراغب عن الله فالمحب راغب فيه والعامل راغب فيما عنده والراضي بالدنيا من الآخرة راغب عنه ومن كانت رغبته في الله كفاه الله كل مهم وتولاه في جميع أموره ودفع عنه مالا يستطيع دفعه عن نفسهووقاه وقاية الوليد وصانه من جميع الآفات ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره ومن كان لله كان الله له حيث لا يكون لنفسه ومن عرف الله لم يكن شيء أحب إليه منه ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه ويعينه على سفره إليه ومن علامات المعرفة الهيبة فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له وخشيته إياه كما قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء أي العلماء به وقال النبي أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية ومن عرف الله صفا له العيش وطابت له الحياة وهابه كل شيء وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله واستوحش من الناس وأورثته المعرفة الحياء من الله والتعظيم له والإجلال والمراقبة والمحبة والتوكل عليه والإنابة إليه والرضا به والتسليم لأمره وقيل للجنيد رحمه الله تعالى
إن ها هنا أقواما يقولون إنهم يصلون إلى البر بترك الحركات فقال هؤلاء تكلموا بإسقاط الأعمال وهو عندي عظيم والذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإلى الله رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر شيئا وقال لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤه البر والفاجر وكالمطر يسقى ما يحب ومالا يحب وقال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين بكاؤه على نفسه وشوقه إلى ربه وقال بعضهم لا يكون العارف عارفا حتى لو أعطي ملك سليمان لم يشغله عن الله طرفة عين وقيل العارف أنس بالله فاستوحش من غيره وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه وذل لله فأعزه في خلقه وقال أبو سليمان الداراني يفتح للعارف على فراشه مالا يفتح له وهو قائم يصلي وقال ذو النون لكل شيء عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله وبالجملة فحياة القلب مع الله لا حياة له بدون ذلك أبدا ومتى واطأ اللسان القلب في ذكره وواطأ القلب مراد حبيبه منه واستقل له الكثير من قوله وعمله واستكثر له القليل من بره ولطفه وعانق الطاعة وفارق المخالفة وخرج عن كله لمحبوبه فلم يبق منه شيء وامتلأ قلبه بتعظيمه وإجلاله وإيثار رضاه وعز عليه الصبر عنه وعدم القرار دون ذكره والرغبة إليه
والاشتياق إلى لقائه ولم يجد الأنس إلا بذكره وحفظ حدوده وآثره على غيره فهو المحب حقا وقال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه وقيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد الحبيب من محبه وقيل بل هي بذل المجهود في رضا الحبيب ولا تصح إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب وفي بعض الآثار الإلهية عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا وقال عبدالله بن المبارك من أعطي شيئا من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع وقال يحيى بن معاذ مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب وقال أبو بكر الكتاني جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا هات ما عندك يا عراقي فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه ناظر إليه بقلبه أحرق قلبه أنوار هويته وصفا شربه من كأس وده فإن تكلم فبالله وإن نطق فمن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكت فمع الله فهو بالله ولله ومع الله فبكى الشيوخ وقالوا ما على هذا مزيد جبرك الله يا تاج العارفين وقيل أوحى الله إلى داود عليه السلام يا داود إني حرمت على القلوب بان يدخلها حبي وحب غيري فأجمع العارفون كلهم أن المحبةلا تصح إلا بالموافقة حتى قال بعضهم حقيقة الحب موافقة المحبوب في مراضيه ومساخطه واتفق القوم أن المحبة لا تصح إلا بتوحيد المحبوب
ويحكى أن رجلا ادعى الاستهلاك في محبة شخص فقال له كيف وهذا أخي أحسن مني وجها وأتم جمالا فالتفت الرجل إليه فدفعه الشاب وقال من يدعي هوانا ينظر إلى سوانا وذكرت المحبة عند ذي النون فقال كفوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها ثم أنشأ يقول الخوف أولى بالمسي ... ء إذا تأله والحزن والحب يجمل بالتق ... ي وبالنقي من الدرن وقال سمنون ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة إن النبي قال المرء مع من أحب فهم مع الله في الدنيا والآخرة وقال يحيى بن معاذ ليس بصادق من ادعى محبته ثم لم يحفظ حدوده فصل فالمحبة شجرة في القلب عروقها الذل للمحبوب وساقها معرفته وأغصانها خشيته وورقها الحياء منه وثمرتها طاعته ومادتها التي تسقيها ذكره فمتى خلا الحب عن شيء من ذلك كان ناقصا وقد وصف الله سبحانه نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه فأخبر أنهم أشد حبا لله ووصف نفسه بأنه الودود وهو الحبيب قاله البخاري والود خالص الحب فهو يود عباده المؤمنين ويودونه وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله فيما يروى عنه ربه تعالى أنه قال من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء
ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شي أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه وفي لفظ في غير البخاري فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا فتأمل كمال الموافقة في الكراهةكيف اقتضى كراهة الرب تعالى لمساءة عبده بالموت لما كره العبد مساخط ربه وكمال الموافقة في الإرادة كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه وإجابة طلباته وإعاذته مما استعاذ به كما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وقال له عمه أبو طالب يا ابن أخي ما أرى ربك إلا يطيعك فقال له وأنت يا عم لو أطعته أطاعك وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا قال حبيبا قريبا إذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه وأوحى الله تعالى إلى موسى E يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد وتأمل هذه الباء في قوله فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي كيف تجدهامبنية لمعنى قوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به إلى آخره فإن سمع سمع بالله وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشى مشى به وهذا تحقيق قوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون وقوله وإن الله لمع المحسنين وقوله وأن الله مع المؤمنين وقوله فيما رواه عنه رسوله من قوله أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وهذا ضد قوله أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون فالصحبة التي نفاها ها هنا هي التي أثبتها لأحبابه وأوليائه فتأمل كيف جعل محبته لعبده متعلقة بأداء فرائضه وبالتقرب إليه بالنوافل بعدها لا غير وفي هذا تعزية لمدعي محبته بدون ذلك أنه ليس من أهلها وإنما معه الأماني الباطلة والدعاوي الكاذبة وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وفي لفظ لمسلم إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ثم يوضع له البغضاء في الأرض وفي لفظ آخر لمسلم عن سهيل بن أبي صالح قال كنا بعرفة فمر عمر بن عبدالعزيز وهو
على الموسم فقام الناس ينظرون إليه فقلت لأبي يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبدالعزيز قال وما ذاك قلت لما له من الحب في قلوب الناس فقال إني سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن رسول الله ثم ذكر الحديث وأخرجه الترمذي ثم زاد في آخره فذلك قول الله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا انتهى وقال بعض السلف في تفسيرها يحبهم ويحببهم إلى عباده وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي عن الساعة فقال وما أعددت لها قال لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله فقال أنت مع من أحببت قال أنس رضي الله عنه فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي أنت مع من أحببت قال أنس فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل أعمالهم وفي الترمذي عنه أن رسول الله قال المرء مع من أحب وله ما اكتسب وفي سنن أبي داود عنه قال رأيت أصحاب النبي فرحوا بشيء لم أرهم فرحوا بشيء أشد منه قال رجل يا رسول الله الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله فقال رسول الله المرء مع من أحب وهذه المحبة لله توجب المحبة في الله قطعا فإن من محبة الحبيب المحبة فيه والبغض فيه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يقول الله تعالى يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وفي جامع أبي عيسى الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول قال الله تعالى المتحابون
بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء وفي لفظ لغيره المتحابون بجلال الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور يغبطهم أهل الجمع وفي الموطأ من حديث أبي إدريس الخولاني قال دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا والناس حوله فإذا اختلفوا في شيء اسندوه إليه وصدروا عن رأيه فسألت عنه فقالوا هذا معاذ بن جبل فلما كان الغد هجرت إليه فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه ثم قلت والله إني لأحبك في الله فقال آ لله قلت الله فقال آ لله فقلت الله فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال أبشر فإني سمعت رسول الله يقول قال الله تبارك وتعالى وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في وفي سنن أبي داود من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله
وفيه أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي لفظ لغيره إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء بمكانهم من الله قالوا يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا لعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا أرحام تواصلوها هم نور ووجوههم نور وعلى كراسي من نور لا يخافون إذاخاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ هذه الآية ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد أخا لي في هذه القرية قال لك عليه من نعمة تربها قال لا غير أني أحبه في الله تعالى قال فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه
وقال رجل لمعاذ بن جبل إني أحبك في الله قال أحبك الذي أحببتني له وفي سنن أبي داود أن رجلا كان عند رسول الله فمر رجل فقال يا رسول الله إني لأحب هذا فقال له رسول الله أعلمته قال لا قال أعلمه فلحقه فقال إني أحبك في الله قال أحبك الذي أحببتني له وفيها أيضا عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن رسول الله قال إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه وفي الترمذي من حديث يزيد بن نعامة الضبي رضي الله عنه قال قال رسول الله إذا آخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممن هو فإنه أوصل للمودة وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وقال الإمام أحمد حدثنا حجاج بن محمد الترمذي حدثنا شريك عن أبي سنان عن عبدالله بن أبي الهذيل عن عمار بن ياسر أن أصحابه كانوا ينتظرونه فلما خرج قالوا ما أبطأك عنا أيها الأمير قال أما إني سوف أحدثكم أن أخا لكم ممن كان قبلكم وهو موسى قال يا رب حدثني بأحب الناس إليك قال ولم قال لأحبه بحبك إياه قال عبد في أقصى الأرض أو طرف الأرض سمع به عبد آخر في أقصى أو طرف الأرض
لا يعرفه فإن أصابته مصيبة فكأنما أصابته وإن شاكته شوكة فكأنما شاكته لا يحبه إلا لي فذلك أحب خلقي إلي قال يا رب خلقت خلقا تدخلهم النار أو تعذبهم فأوحى الله إليه كلهم خلقي ثم قال أزرع زرعا فزرعه فقال اسقه فسقاه ثم قال قم عليه فقام عليه ما شاء الله من ذلك فحصده ورفعه فقال ما فعل زرعك يا موسى قال فرغت منه ورفعته قال ما تركت منه شيئا قال مالا خير فيه أو مالا حاجة لي فيه قال فكذلك أنا لا أعذب إلا من لا خير فيه فصل ولو لم يكن في محبة الله إلا أنها تنجي محبه من عذابه لكان ينبغي للعبد أن لا يتعوض عنها بشيء ابدا وسئل بعض العلماء أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه فقال في قوله تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم الآية وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن يونس عن الحسن رضي الله عنه أن النبي قال والله لا يعذب الله حبيبه ولكن قد يبتليه في الدنيا وقال الإمام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا أبو غالب قال بلغنا أن هذا الكلام في وصية عيسى بن مريم يا معشر الحواريين تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إليه بالمقت لهم والتمسوا رضاه بسخطهم قالوا يا نبي الله فمن نجالس قال جالسوا من يزيد في أعمالكم منطقه ومن تذكركم بالله رؤيته ويزهدكم في دنياكم علمه
ويكفي في الإقبال على الله تعالى ثوابا عاجلا أن الله سبحانه وتعالى يقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه كما أنه يعرض بقلوبهم عمن أعرض عنه فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم وقال الإمام أحمد حدثنا حسن في تفسير شيبان عن قتادة قال ذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول ما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله تعالى بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم وقد روى هذا مرفوعا ولفظه وما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله غتعالى عليه بقلوب عباده وجعل قلوبهم تفد إليه بالود والرحمة وكان الله بكل خير إليه أسرع وإذا كانت القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وكل إحسان وصل إلى العبد فمن الله تعالى كما قال الله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله فلا ألأم ممن شغل قلبه بحب غيره دونه قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية قال حدثني الأعمش عن المنهال عن عبدالله بن الحارث قال أوحى الله إلى داود عليه السلام يا داود أحببني وحبب عبادي إلي وحببني إلى عبادي قال يا رب هذا أنا أحبك وأحبب عبادك إليك فكيف أحببك إلى عبادك قال تذكرني عندهم فإنهم لا يذكرون مني إلا الحسن ومن أفضل ما سئل الله تعالى حبه وحب من يحبهوحب عمل يقرب إلى حبه ومن أجمع ذلك أن يقول اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي
فيما تحب وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ومالي ومن الماء البارد على الظمأ اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين اللهم أحي قلبي بحبك واجعلني لك كما تحب اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله وأرضيك بجهدي كله اللهم اجعل حبي كله لك وسعيي كله في مرضاتك وهذا الدعاء هو فسطاط خيمة الإسلام الذي قيامها به وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والقائمون بحقيقة ذلك هم الذين هم بشهادتهم قائمون والله سبحانه تعرف إلى عباده من أسمائه وصفاته وأفعاله بما يوجب محبتهم له فإن القلوب مفطورة على محبة الكمال ومن قام به والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق من كل وجه الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه بل لو كان جمال الخلق كلهم على رجل واحد منهم وكانوا جميعهم بذلك الجمال لما كان لجمالهم قط نسبة إلى جمال الله بل كانت النسبة أقل من نسبة سراج ضعيف إلى حذاء جرم الشمس ولله المثل الأعلى وقد روى عن النبي قوله إن الله جميل يحب الجمال عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو سعيد الخدري وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر بن الخطاب وثابت بن قيس وأبو الدرداء وأبو هريرة وأبو ريحانه رضي الله عنهم
ومن أسمائه الحسنى الجميل ومن أحق بالجمال ممن كل جمال في الوجود فهو من آثار صنعه فله جمال الذات وجمال الأوصاف وجمال الأفعال وجمال الأسماء فأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها جميلة فلا يستطيع بشر النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدار فإذا رأوه سبحانه في جنات عدن أنستهم رؤيته ماهم فيه من النعيم فلا يلتفتون حينئذ إلى شيء غيره ولولا حجاب النور على وجهه لأحرقت سبحات وجهه سبحانه وتعالى ما انتهى إليه بصره من خلقه كما في صحيح البخاري من حديث أبو موسى رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عند الله اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس فتعرض عليه أول النهار أو اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع منها على بعض ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة وينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا الثقلين الجن والإنس فيسبحونه ثلاث ساعات حتى يمتلىء الرحمن رحمة فتلك ست ساعات ثم يؤتى بما في الأرحام فينظر فيها
ثلاث ساعات فيصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم فتلك تسع ساعات ثم ينظر في أرزاق الخلق كلهم ثلاث ساعات فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم ثم قرأ كل يوم هو في شأن ثم قال عبدالله هذا من شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى رواه عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن عبدالسلام عن أيوب بن عبدالله الفهري عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه الحسن ابن إدريس عن خالد بن الهياج عن أبيه عن عباد بن كثير عن جعفر بن الحارث عن معدان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن ربكم ليس عنده نهار ولا ليل وإن السموات مملوءات نورا من نور الكرسي وإن يوما عند ربك اثنتا عشرة ساعة فترفع فيها أعمال الخلائق في ثلاث ساعات فيرى فيها ما يكره فيغضبه ذلك وإن أول من يعلم بغضبه حملة العرش يرونه يثقل عليهم فيسبحون له ويسبح له سرادقات العرش في ثلاث ساعات من النهار حتى يمتلىء ربنا رضا فتلك ست ساعات من النهار ثم يأمر بأرزاق الخلائق فيعطى من يشاء في ثلاث ساعات من النهار فتلك تسع ساعات ثم يرفع إليه أرحام كل دابة فيخلق فيها ما يشاء ويجعل المدة لمن يشاء في ثلاث ساعات من النهار فتلك اثنتا عشرة ساعة ثم تلا ابن مسعود رضي الله عنه هذه الآية كل يوم هو في شأن هذا من شأن ربنا تبارك وتعالى وفي دعاء النبي الذي دعا به يوم الطائف أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو ينزل علي سخطك
لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك وإذا جاء سبحانه وتعالى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده تشرق لنوره الأرض كلها كما قال الله تعالى وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وقول عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه نور السموات والأرض من نور وجهه تفسير لقوله تعالى الله نور السموات والأرض وفي الصحيحين من حديث أبي بكر رضي الله عنه في استفتاح النبي قيام الليل اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن وفي سنن ابن ماجة وحرب السكرماني من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال قال رسول الله بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فيقول السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قوله سلام قولا من رب رحيم فيرفعون رؤوسهم فينظرون إليه وينظر إليهم ولا يلتفتون إلى شيء من النعيم حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم وعلى ديارهم ومنازلهم لفظ حديث حرب فما ظن المحبين بلذة النظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم وقد كان من دعاء النبي أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ذكره الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه فاسمع الآن شأن أوليائه وأحبائه عند لقائه ثم اختر لنفسك
أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي قال هشام بن حسان عن الحسن إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى نسوا نعيم الجنة وقال هشام بن عمار حدثنا محمد بن سعيد بن سابور حدثنا عبدالرحمن بن سليمان حدثنا سعيد بن عبدالله الجرشي القاضي أنه سمع أبا إسحاق الهمداني يحدث عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه قال إن الله إذا أسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعث إلى أهل الجنة الروح الأمين فيقول يا أهل الجنة إن ربكم يقرئكم السلام ويأمركم أن تزوروه إلى فناء الجنة وهو أبطح الجنة تربته المسك وحصباؤه الدر والياقوت وشجره الذهب الرطب وورقه الزمرد فيخرج أهل الجنة مستبشرين مسرورين فثم يجمعهم وثم كرامة الله والنظر إلى وجهه وهو موعد الله أنجزه لهم فيأذن الله لهم في السماع والأكل والشرب ويكسون حلل الكرامة ثم ينادي مناد يا أولياء الله هل بقي مما وعدكم الله ربكم شيء فيقولون لا وقد أنجزنا ما وعدنا فما بقي شيء إلا النظر إلى وجهه فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في حجب فيقول يا جبريل ارفع حجابي لعبادي كي ينظروا إلى وجهي قال فيرفع
الحجاب الأول فينظرون إلى نور من نور الرب فيخرون له سجدا فيناديهم الرب يا عبادي ارفعوا رؤوسكم فإنها ليست بدار عمل إنما هي دار ثواب فيرفع الحجاب الثاني فينظرون أمرا هو أعظم وأجل فيخرون لله حامدين ساجدين فيناديهم الرب أن ارفعوا رؤوسكم إنها ليست بدار عمل إنما هي دار ثواب ونعيم مقيم فيرفع الحجاب الثالث فعند ذلك ينظرون إلى وجه رب العالمين فيقولون حين ينظرون إلى وجهه سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فيقول كرامتي أمكنتكم من النظر إلى وجهي وأحلتكم داري فيأذن الله للجنة أن تكلمي فتقول طوبى لمن سكنني وطوبى لمن يخلد في وطوبي لمن أعددت له وذلك قوله تعالى طوبى لهم وحسن مآب وقوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وذكر عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا أبو الربيع حدثنا جرير بن عبدالحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبدالله بن الحارث عن كعب قال ما نظر الله إلى الجنة إلا قال طيبي لأهلك فزادت طيبا على ما كانت وما من
يوم كان عيدا في الدنيا إلا يخرجون في مقداره إلى رياض الجنة ويبرز لهم الرب تبارك وتعالى وينظرون إليه وتسفى عليهم الريح بالطيب والمسك فلا يسألون ربهم تبارك وتعالى شيئسا إلا أعطاهم فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا على ما كانوا عليه من الحسن والجمال سبعين ضعفا وقال عبد بن حميد أخبرني شبابة عن إسرائيل حدثنا ثوير بن أبي فاختة سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى خدمه ونعيمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة رواه الترمذي في جامعه عنه وذكر عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عمر رضي الله عنهما رفعه إلى النبي قال إن أهل الجنة إذا بلغ منهم النعيم كل مبلغ وظهنوا أن لا نعيم أفضل منه تجلى لهم الرب تبارك وتعالى فنظروا إلى وجه الرحمن فنسوا كل نعيم عاينوه حين نظروا إلى وجه الرحمن وقال الحسن البصري في قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال حسنها الله تعالى بالنظر إليه سبحانه وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى ربها تعالى قال أبو سليمان الداراني لو لم يكن لأهل
المحبة أو قال المعرفة إلا هذه الآية وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة لاكتفوا بها وذكر النسائي من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضامون فى رؤية الشمس في يوم لا غيم فيه وفي القمر ليلة البدر لا غم فيها قلنا لا قال فإنكم سترون ربكم حتى إن أحدكم ليحاضره محاضرة فيقول عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا فيقول يارب ألم تغفر لي فيقول بمغفرتي صرت إلى هذا وفي الصحيحين من حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا وفي الصحيح والسنن والمساند من حديث ثابت البناني عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه عن النبي قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم
عند الله موعدا يريد أن ينجز كموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلن ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم وفي صحيح البخاري من حديث جرير بن عبدالله قال كنا جلوسا عند النبي إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا وفي الصحيحين من حديث الزهرى عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا لا يارسول الله قال قال فهل تضارون في الشمس ليس دوننا سحاب قالوا لايا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك وفي لفظ فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين تبارك وتعالى فيقول ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره
فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون فيطلع عليهم رب العالمين تبارك وتعالى فيقول ألآ تتبعون الناس فيقولون نعود بالله منك نعوذ بالله منك ألله ربنا هذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم ثم يتوارى ثم يطلع عليهم فيقول ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك ألله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم قالوا وهل نراه يا رسول الله قال وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم لا تضارون في رؤيته تلك الساعة قال ثم يتوارى ثم يطلع فيعرفهم نفسه ثم يقول أنا ربكم فاتبعوني فيقوم المسلمون ويوضع الصراط فيمرون عليه مثل جياد الخيل والركاب وقولهم عليه سلم سلم ويبقى أهل النار فيطرح منهم فيها فوج فيقال هل امتلأت فتقول هل من مزيد ثم يطرح فيها فوج فيقال هل امتلأت فتقول هل من مزيد حتى إذا أوعبوا فيها وضع الرحمن تبارك وتعالى فيها قدمه فأزوى بعضها إلى بعض وقالت قط قط فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت ملبيا فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة واهل النار ثم يقال يا أهل الجنةفيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لأهل الجنة والنار هل تعرفون هذا فيقولون هؤلاء وهؤلاء قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا فيضجع فيذبح ذبجا
علىالسور ثم يقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وأصله في الصحيحين لكن هذا السياق أجمع وأخصر وفي لفظ الترمذي فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار وفي مسند الحارث بن أبي أسامة من حديث قرة عن مالك عن زياد بن سعد حدثنا أبو الزبير قال سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يقول سمت رسول الله يقول إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم ودعي كل أناس بإمامهم فجئنا آخر الناس فيقول قائل من الناس من هذه الأمة قال فيشرف إلينا الناس فيقال هذه الأمة الأمينة هذه أمة محمد وهذا محمد في أمته فينادي مناد إنكم الآخرون الأولون قال فنأتي فنتخطى رقاب الناس حتى نكون أقرب الناس إلى الله تعالى منزلة ثم يدعى الناس كل أناس بإمامهم فيدعى اليهود فيقال من أنتم فيقولون نحن اليهود فيقول من نبيكم فيقولون نبينا موسى فيقول ما كتابكم فيقولون كتابنا التوراة فيقول ما تعبدن فيقولون نعبد عزيرا ونعبد الله فيقول للملإ حوله اسلكوا بهم في جهنم ثم يدعى النصارى فيقول من أنتم فيقولون نحن النصارى فيقول من نبيكم فيقولون نبينا عيسى فيقول ما كتابكم فيقولون كتبنا الإنجيل فيقول ما تعبدون فيقولون نعبد عيسى وأمه والله فيقول للملإ حوله اسلكوا بهؤلاء في جهنم فيدعى عيسى فيقول
لعيسى يا عيسى ءأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيقول سبحانك ما يكون لي أن أقول مال ليس لي بحق إلى قوله العزيز الحكيم ثم يدعى كل أناس بإمامهم وما كانوا يعبدون ثم يصرخ الصارخ أيها الناس من كان يعبد إلها فليتبعه تقدمهم آلهتهم منها الخشب والحجارة ومنها الشمس والقمر ومنها الدجال حتى تبقى المسلمون فيقف عليهم فيقول من أنتم فيقولون نحن المسلمون قال قال خير اسم وخير داعية فيقول من نبيكم فيقولون محمد فيقول ما كتابكم فيقولون القرآن فيقول ما تعبدون ! فيقولون نعبد الله وحده لا شريك له قال سينفعكم ذلك إن صدقتم قالوا هذا يومنا الذي وعدنا فيقول أتعرفون الله إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقول وكيف تعرفونه ولم تروه فيقولون نعلم أنه لا عدل له قال فيتجلى لهم تبارك وتعالى فيقولون أنت ربنا تباركت اسماؤك ويخرون له سجدا ثم يمضى النور بأهله وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث أبي الزبير قال سألت جابرا عن الورود فأخبرني أنه سمع رسول الله يقول نجيء يوم القيامة على كوم فوق الناس فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد ألأول فالأول ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول ما تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك فيتبعونه
وذكر عثمان بن سعيد الدارمي أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري أتى عمر بن عبدالعزيز فقال حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال يجمع الله الأمم يوم القيامة في صعيد واحدفإذا بدا له أن يصدع بين خلقه مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون فيتبعونهم حتى يقحموهم النار ثم يأتينا ربنا ونحن في مكان فيقول من أنتم فبقول نحن المؤمنون فيقول ما تنتظرون فنقول ننتظر ربنا فيقول من أين تعلمون انه ربكم فنقول حدثتنا الرسل أو جاءتنا الكتب فيقول هل تعرفونه فيقولون نعلم أنه لا عدل فيتجلى لنا ضاحكا ثم يقول أبشروا معشر المسلمين فإنه ليس منكم أحد إلا وقد جعلت مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا فقال عمر لأبي بردة آلله لقد سمعت أبا موسى يحدث بهذا الحديث عن رسول الله قال إي والله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت أبي يذكره عن رسول الله غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا فقال عمر بن عبدالعزيز ما سمعت في الإسلام حديثا هو أحب إلي منه وفي الترمذي من حديث الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن سعيد ابن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أو فيها سوق قال نعم أخبرني رسول الله أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله تبارك وتعالى فيبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور
ومنار من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيءعلى كثبان المسك والكافور ما يرون أن أهل الكراسي أفضل منهم مجلسا قال أبو هريرة قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا يوم القيامةقال نعم هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر قلنا لا قال كذلك لا تمارون في رؤية ربكم ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله تعالى محاضرة حتى يقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم كذا عملت كذا وكذا فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول يا رب ألم تغفر لي فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبيناهم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ثم يقول قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه مالم تنظرالعيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيحمل إلينا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فتتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا لقد جئت وإن
بك من الجمال والطيب أكثر مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا وقال يعقوب بن سفيان في مسنده حدثنا ابن المصفى حدثنا سويد بن عبدالعزيز حدثنا عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله يزور أهل الجنة الرب تبارك وتعالى في كل يوم جمعة وذكر ما يعطون قال ثم يقول الله تعالى اكشفوا الحجب فيكشفوا حجابا ثم حجابا حتى يتجلى لهم عن وجهه تبارك وتعالى وكأنهم لم يرو نعمة قبل ذلك وهو قول الله تعالى ولدينا مزيد وذكر عثمان بن سعيد الدارمي من حديث الحسن رضي الله عنه عن النبي مرسلا أنه قال يأتينا ربنا يوم القيامة ونحن على مكان رفيع فيتجلى لنا ضاحكا مرسل - مرسل صحيح - وقال عثمان الدارمي حدثنا أبو موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا الأجلح حدثنا الضحاك بن مزاحم قال إن الله يأمر السماء يوم القيامة فتنشق بمن فيها فيحيطون بالأرض ومن فيها ثم يأمر السماء الثانية حتى ذكر سبع سموات فيكونون سبعة صفوف قد أحاطوا بالناس ثم ينزل الملك الأعلى جل جلاله في بهائه وجماله معه ماشاء من الملائكة وقال عثمان بن سعيد حدثنا هشام بن خالد الدمشقي وكان ثقة حدثنا محمد بن شعيب بن شاور حدثنا عمر بن عبدالله مولى غفرة عن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال قال رسول الله جاءني جبريل وفي كفه مرآة فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة أرسل بها إليك ربك فتكون هدى لك ولأمتك من بعدك فقلت ومالنا فيها قال لكم فيها خير كثير أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله خيرا هو له قسم إلا أتاه ولا خيرا ليس له بقسم إلا دخر له أفضل منه ولا يستعيذ بالله ما هو مكتوب عليه إلا دفع عنه أكثر منه قلت ما هذه النكتة السوداء قال هذه الساعة يوم تقوم القيامة وهو سيد الأيام ونحن نسميه عندنا يوم المزيد قلت ولم تسمونه يوم المزيد يا جبريل قال لأن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة هبط الجبار عن عرشه إلى كرسيه إلى ذلك الوادي وقد حف الكرسي بمنابر من نور يجلس عليها الصديقون والشهداء يوم القيامة ثم يجيء أهل الغرف حتى يحفوا بالكثيب ثم يبدو لهم ذو الجلال والإكرام تبارك وتعالى فيقول أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وأحللتكم دار كرامتي فسلوني فيقولون بأجمعهم نسألك الرضا عنا فيشهد لهم على الرضا ثم يقول لهم سلوني فيسألونه حتى ينتهي نهمة كل عبد منهم ثم يقول سلوني فيقولون حسبنا ربنا رضينا فيرجع الجبار جل جلاله إلى
عرشه فيفتح لهم بقدر إشراقهم من يوم الجمعة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم وهي غرفة من لؤلؤة بيضاء وياقوتة حمراء وزمردة خضراء ليس فيها قصم ولا وصم مطردة أنهارها متدلية فيها ثمارها فيها أزواجها وخدمها ومساكنها فليسوا إلى يوم أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا فضلا من ربهم ورضوانا رواه عن أنس جماعة منهم عثمان بن عمير بن اليقظان ومن طريقه رواه الشافعي في مسنده وعبدالله بن الإمام أحمد في السنة ومنهم أبو صالح والزبير بن عدي وعلي بن الحكم البناني وعبدالملك بن عمير ويزيد الرقاشي وعبدالله بن بريدة كلهم عن أنس وصححه جماعة من الحفاظ وزاد الشافعي في مسنده في آخره وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وساقه عثمان بن أبي شيبة من طرق وقال في بعضها ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى فيقول أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي إلى أن قال ثم يرتفع على كرسيه ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم وروى محمد بن الزبرقان عن مقاتل بن حيان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله إن أهل الجنة
ليحتاجون إلى العلماء في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا وذلك أنهم يزورون ربهم في كل جمعة فيقول لهم تمنوا فيقولون وما نتمنى وقد أدخلتنا الجنة وقد أعطيتنا ما أعطيتنا فيقال لهم تمنوا فيلتفتون إلى العلماء وذكر الحديث في قصة الجمعة وروى ابن منده من حديث الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قصة الجمعة بطولها وفيها يقول سلوني فيقولون أرنا وجهك رب العالمين ننظر إليك فيكشف الله تبارك وتعالى تلك الحجب ويتجلى لهم فينظرون إليه وذكر عثمان الدارمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدث عمر بن عبدالعزيز قال إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار أقبل في ظلل من الغمام والملائكة فيسلم على أهل الجنة في أول درجة فيردون عليه السلام قال القرظي وهذا في القرآن سلام قولا من رب رحيم فيقول سلوني يفعل بهم ذلك في درجهم حتى يستوي على عرشه ثم تأتيهم التحف من الله تحمله الملائكة إليهم وقال عبدالواحد بن زيد عن الحسن لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا وقال هشام بن حسان عنه أنه تبارك وتعالى يتجلى لأهل الجنة فإذا رأوه نسوا نعيم الجنة أعجب الصبر صبر المحبين قال الشاعر
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمد وقف رجل على الشبلي فقال أي الصبر أشد على الصابرين قال الصبر في الله فقال السائل لا فقال الصبر لله قال لا قال فالصبر مع الله قال لا قال فما هو قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تزهق قال الشاعر والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود الخوف يبعدك عن معصيته والرجاء يخرجك إلى طاعته والحب يسوقك إليه سوقا لما علم الله سبحانه أن قلوب المشتاقين إليه لا تهدأإلا بلقائه ضرب لهم أجلا للقاء تسكينا لقلوبهم فقال الله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت يامن شكى شوقه من طول فرقته ... إصبر لعلك تلقى من تحب غدا وسر إليه بنار الشوق مجتهدا ... عساك تلقى على نار الغرام هدى المحب الصادق كلما قرب من محبوبه زاد شوقا إليه وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام كلما وقع بصر المحب على محبوبه أحدثت له رؤيته شوقا على شوقه ما يرجع الطرف عنه حين يبصره ... حتى يعود إليه الطرف مشتاقا المحب الصادق إذا سافر طرفه في الكون لم يجد له طريقا إلا على محبوبه
فإذا انصرف بصره عنه رجع إليه خاسئا وهو حسير ويسرح طرفي في الأنام وينثني ... وإنسان عيني بالدموع غريق فيرجع مردودا إليك وماله ... على أحد إلا عليك طريق أقر شيء لعيون المحب خلوته بسره مع محبوبه حدثني من رأى شيخنا في عنفوان أمره خرج إلى البرية بكرة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم تمثل بقول الشاعر وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك القلب بالسر خاليا الشوق يحمل المحب على العجلة في رضا المحبوب والمبادرة إليها على الفور ولو كان فيها تلفه وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال بعضهم أراد شوقا إليك فستره بلفظ الرضا ولو قلت طأ في النار أعلم أنه ... رضا لك أو مدن لنا من وصالك لقدمت رجلي نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أو ضلة من ضلالك ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ... ورقراق عيني خشية من زيالك
وإن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك من علامات المحبة الصادقة أن المحب لا يتم له سرور إلا بمحبوبه وما دام غائبا عنه فعيشه كله منغص نحن في أكمل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غيب ونحن حضور وقال آخر من سره العيد الجديد ... فقد عدمت به السرورا كان السرور يتم لي ... لو كان أحبابي حضورا لو قيل للمحب على الدوام ما تتمنى لقال لقاء المحبوب ولما نزلنا منزلا طله الندى ... أنيقا وبستانا من النور حاليا أجد لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا وقال الجنيد سمعت السري يقول الشوق أجل مقام العارف إذا تحقق فيه وإذا تحقق بالشوق لها عن كل ما يشغله عمن يشتاق إليه وقيل أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قال لشبان بني إسرائيل لم تشغلون نفوسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم ما هذا الجفاء ولو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم ومحبتي لترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وانقطعت أوصالهم من محبتي هذه إرادتي للمدبرين عني فكيف إرادتي للمقبلين علي وسئل الجنيد من أي شيء بكاء المحب إذا لقي المحبوب فقال إنما يكون ذلك سرورا به
ووجدا من شدة الشوق إليه قال ولقد بلغني أن أخوين تعانقا فقال أحدهما واشوقاه وقال الآخر وواجداه وكانت عجوز لها غائب فقدم من السفر فأظهر أهلها الفرح والسرور به فجعلت تبكي فقيل لها ما هذا البكاء فقالت ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله وقال بعض المحبين قلوب المشتاقين منورة بنور الله فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض فيعرضهم الله سبحانه وتعالى على الملائكة فيقول هؤلاء المشتاقون إلي أشهدكم أني إليهم أشوق فصل قال ابن أبي الحواري رحمه الله تعالى سئل أبو سليمان الداراني رحمه الله وأنا حاضر ما أقرب ما يتقرب به إلى الله تعالى فبكى ثم قال مثلي يسأل عن هذا أقرب ما يتقرب به إليه أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو وقال يحيى بن معاذ النسك هو العناية بالسرائر وإخراج ما سوى الله من القلب وقال سهل بن عبدالله ما من ساعة إلا والله سبحانه يطلع فيها على قلوب العباد فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس وقال سهل بن عبدالله من نظر إلى الله تعالى قريبا منه بعد عن قلبه كل شيء سوى الله ومن طلب مرضاته أرضاه الله سبحانه وتعالى ومن أحلم قلبه إلى الله تولى الله جوارحه وقال سهل أيضا حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله وسئل يعضهم عن افضل الأعمال فقال رعاية السر عن الالتفات إلى شيء
سوى الله تعالى وقال مسلم تركتموه وأقبل بعضكم على بعض لو أقبلتم عليه لرأيتم العجائب فصل فإن تقاصرت همتك الدنية عن ترك الفواحش محبة لهذا المحبوب الأعلى ولست هناك فاتركها محبة للنساء اللاتي وصفهن الله في كتابه وبعث رسوله داعيا إلى وصالهن في جنة المأوى وقد تقدم ذكر بعض صفاتهن ولذة وصالهن فإن تقاصرت همتك عنهن ولم تكن كفؤا لخطبتهن ودعتك نفسك إلى إيثار ما هاهنا عليهن فكن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر واعلم أن العقوبات تختلف فتارة تعجل وتارة توخر وتارة يجمع الله على العاصي بينهما وأشد العقوبات العقوبة بسلب الإيمان ودونها العقوبة بموت القلب ومحو لذة الذكر والقراءة والدعاء والمناجاة منه وربما دبت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلئ القلب بهما فتعمى البصيرة وأهون العقوبة ما كان واقعا بالبدن في الدنيا وأهون منها ما وقع بالمال وربما كانت عقوبة النظر في البصيرة أو في البصر أو فيهما قال الفضيل يقول الله تعالى ابن آدم إذا كنت أقلبك في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي فاحذر لئلا أصرعك بين معاصيك ابن آدم اتقني ونم حيث شئت إنك إن ذكرتني ذكرتك وإن نسيتني نسيتك والساعة التي لا تذكرني فيها عليك لا لك
وقال الفضيل أيضا ما يؤمنك أن تكون بارزت الله تعالى بعمل مقتك عليه فأغلق عنك أبواب المغفرة وأنت تضحك وقال علقمة بن مرثد بينا رجل يطوف بالبيت إذ برق له ساعد امرأة فوضع ساعده على ساعدها فالتذ به فلصقت ساعداهما فأتى بعض أولئك الشيوخ فقال ارجع إلى المكان الذي فعلت هذا فيه فعاهد رب البيت أن لا تعود فقعل فخلي عنه وقال ابن عباس وأنس رضي الله عنهم إن للحسنة نورا في القلب وزينا في الوجه وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة ظلمة في القلب وشينا في الوجه ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق وقال الحسن ما عصى الله عبد إلا أذله الله وقال المعتمر بن سليمان إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته وقال الحسن هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم وكان شيخ من الأعراب يدور على المجالس ويقول من سره أن تدوم له العافية فليتق الله وقال أبو سليمان الداراني من صفا صفا له ومن كدر كدر عليه ومن أحسن في ليله كفي في نهاره ومن أحسن في نهاره كفي في ليله ومن ترك لله شهوة من قلبه فالله أكرم أن يعذب بها قلبه وكتبت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى معاوية أما بعد فإن العامل إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاما وقال محارب بن دثار إن الرجل ليذنب الذنب فيجد له في قلبه وهنا وقال الحسين بن مطير ونفسك أكرم عن أمور كثيرة ... فما لك نفس بعدها تستعيرها
ولا تقرب الأمر الحرام فإنما ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها وكان سفيان الثوري يتمثل بهذين البيتين تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار فصل واعلم أن الجزاء من جنس العمل والقلب معلق بالحرام كلما هم أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا وفي بعض طرق حديث سمرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي قال رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على مثل بناء التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار فيه رجال ونساء عراة فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا فإذا أخمدت رجعوا فيها فقلت من هؤلاء قال هم الزناة فتأمل مطابقة هذا العذاب لحال قلوبهم في الدنيا فإنهم كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور الشهوة إلى فضاء التوبة أركسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يخرجون ولما كان الكفار في سجن الكفر والشرك وضيقه وكانوا كلما هموا
بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسعته وروحه رجعوا على حوافرهم كان عقوبتهم في الآخرة كذلك قال الله تعالى كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقال في موضع آخر كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها فالكفر والمعاصي والفسوق كله غموم وكلما عزم العبد أن يخرج منه أبت عليه نفسه وشيطانه ومألفه فلا يزال في غم ذلك حتى يموت فإن لم يخرج من غم ذلك في الدنيا بقي في غمه في البرزخ وفي القيامة وإن خرج من غمه وضيقه هاهنا خرج منه هناك فما حبس العبد عن الله في هذه الدار حبسه عنه بعد الموت وكان معذبا به هناك كما كان قلبه معذبا به في الدنيا فليس العشاق والفجرة والظلمة في لذة في هذه الدار وإنما هم يعذبون فيها وفي البرزخ وفي القيامة ولكن سكر الشهوة وموت القلب حال بينهم وبين الشعور بالألم فإذا حيل بينهم وبين ما يشتهون أحضرت نفوسهم الألم الشديد وصار يعمل فيها بعد الموت نظير ما يعمل الدود في لحومهم فالآلام تأكل أرواحهم غير أنها لا تفنى والدود يأكل جسومهم قال الإمام أحمد رضي الله عنه حدثنا إسماعيل بن عبدالكريم قال حدثني عبدالصمد بن معقل حدثني وهب بن منبه قال كان حزقيل قائما فأتاه ملك فذكر حديثا طويلا وفيه أنه مر بقوم أموات فقيل له ادعهم فدعاهم فأحياهم الله له فقال سلهم فيم كنتم فقالوا لما فارقنا
الحياة لقيا ملكا يقال له ميكائيل فقال هلموا أعمالكم وخذوا أجوركم فذلك سنتنا فيكم وفيمن كان قبلكم وفيمن هو كائن بعدكم فنظروا في أعمالنا فوجدونا نعبد الأوثان فسلط الدود على أجسادنا وجعلت الأرواح تألم وسلط الغم على أرواحنا وجعلت الأجساد تألم فلم نزل كذلك نعذب حتى دعوتنا
الباب السابع والعشرون فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاضه الله خيرا منه عنوان هذا الباب وقاعدته أن من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه كما ترك يوسف الصديق عليه السلام امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فعوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها فلما دخل بها قال هذا خير مما كنت تريدين فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء وأذل له العزيز امرأته وأقرت المرأة والنسوة ببراءته وهذه سنته تعالى في عباده قديما وحديثا إلى يوم القيامة ولما عقر سليمان بن داود عليهم السلام الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا وملكهم شرق الأرض وغربها ولو اتقى الله السارق وترك سرقة المال المعصوم لله لآتاه الله مثله حلالا قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه بترك أخذ مالا يحل له رزقه الله من حيث لا يحتسب وكذلك الزاني
لو ترك ركوب ذلك الفرج حراما لله لأثابه الله بركوبه أو ركوب ما هو خير منه حلالا وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال قال رسول الله النظرة إلى المرأة سهم من سهام إبليس مسموم من تركه خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه وقال عمر بن شبة حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا عنبسة بن عبدالرحمن حدثنا أبو الحسن المدني عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله نظر الرجل في محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره وقال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى بلغني عن بعض الأشراف أنه اجتاز بمقبرة فإذا جارية حسناء عليها ثياب سواد فنظر إليها فعلقت بقلبه فكتب إليها قد كنت أحسب أن الشمس واحدة ... والبدر في منظر بالحسن موصوف حتى رأيتك في أثواب ثاكلة ... سود وصدغك فوق الخد معطوف فرحت والقلب مني هائم دنف ... والكبد حرى ودمع العين مذروف
ردي الجوب ففيه الشكر واغتنمي ... وصل المحب الذي بالحب مشغوف ورمى بالرقعة إليها فلما قرأتها كتبت إن كنت ذا حسب زاك وذا نسب ... إن الشريف بغض الطرف معروف إن الزناة أناس لا خلاق لهم ... فاعلم بأنك يوم الدين موقوف واقطع رجاك لحاك الله من رجل ... فإن قلبي عن الفحشاء مصروف فلما قرأ الرقعة زجر نفسه وقال أليس امرأة تكون أشجع منك ثم تاب ولبس مدرعة من الصوف والتجأ إلى الحرم فبينا هو في الطواف يوما وإذا بتلك الجارية عليها درع من صوف فقالت له ما أليق هذا بالشريف هل لك في المباح فقال قد كنت أروم هذا قبل أن أعرف الله وأحبه والآن قد شغلني حبه عن حب غيره فقالت له أحسنت ثم طافت وهي تنشد فطفنا فلاحت في الطواف لوائح ... غنينا بها عن كل مرأى ومسمع وقال الحسن البصري كانت امرأة بغي قد فاقت أهل عصرها في الحسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار وإن رجلا أبصرها فأعجبته فذهب فعمل بيديه وعالج فجمع مائة دينار فجاء فقال إنك قد أعججبتني فانطلقت فعملت بيدي وعالجت حتى جمعت مائة دينار فقالت ادفعها إلىالقهرمان حتى ينقدها ويزنها فلما فعل قالت ادخل وكان لها بيت منجد وسرير من
ذهب فقالت هلم لك فلما جلس منها مجلس الخائن تذكر مقامه بين يدي الله فأخذته رعدة وطفئت شهوته فقال أتركيني لأخرج ولك المائة دينار فقالت ما بدا لك وقد رأيتني كما زعمت فأعجبتك فذهبت فعالجت وكدحت حتى جمعت مائة دينار فلما قدرت علي فعلت الذي فعلت فقال ما حملني على ذلك إلا الفرق من الله وذكرت مقامي بين يديه قالت إن كنت صادقا فمالي زوج غيرك قال ذريني لأخرج قالت لا إلا أن تجعل لي عهدا أن تتزوجني فقال لا حتى أخرج قالت عليك عهد الله إن إنا أتيتك أن تتزوجني قال لعل فتقنع بثوبه ثم خرج إلى بلده وارتحلت المرأة بدنياها نادمة على ما كان منها حتى قدمت بلده فسألت عن اسمه ومنزله فدلت عليه فقيل له الملكة جاءت بنفسها تسأل عنك فلما رآها شهق شهقة فمات فأسقط في يدها فقالت أما هذا فقد فاتني أما له من قريب قيل بلى أخوه رجل فقير فقالت إني أتزوجك حبا لأخيك قال فتزوجته فولدت له سبعة أبناء وقال يحيى بن عامر التيمي خرج رجل من الحي حاجا فورد بعض المياه ليلا فإذا هو بامرأة ناشرة شعرها فأعرض عنها فقالت له هلم إلي فلم تعرض عني فقال إني أخاف الله رب العالمين فتجلببت ثم قالت هبت والله مهابا إن أولى من شركك في الهيبة لمن أراد أن يشركك في المعصية ثم ولت فتبعها فدخلت بعض خيام الأعراب قال فلما أصبحت أتيت رجلا من القوم فسألته عنها وقلت فتاة صفتها كذا وكذا فقال هي
والله ابنتي فقلت هل أنت مزوجي بها فقال على الأكفاء فمن أنت فقلت رجل من تيم الله قال كفو كريم فما رمت حتى تزوجتها ودخلت بها ثم قلت جهزوها إلى قدومي من الحج فلما قدمنا حملتها إلى الكوفة وهاهي ذي ولي منها بنون وبنات قال فقلت لها ويحك ما كان تعرضك لي حينئذ فقالت يا هذا ليس للنساء خير من الأزواج فلا تعجبن من امرأة تقول هويت فوالله لو كان عند بعض السودان ما تريده من هواها لكان هو هواها وقال الحسن بن زيد ولينا بديار مصر رجل فوجد على بعض عماله فحبسه وقيده فأشرفت عليه ابنة الوالي فهويته فكتبت إليه أيها الرامي بعينيه ... وفي الطرف الحتوف إن ترد وصلا فقد أمكنك ... الظبي الألوف فأجابها الفتى إن تريني زاني العينين ... فالفرج عفيف ليس إلا النظر الفا ... تر والشعر الظريف فأجابته قد أردناك فألفيناك ... إنسانا عفيفا فتأبيت فلا زلت ... لقيديك حليفا فأجابها
ما تأبيت لأني ... كنت للظبي عيوفا غير أني خفت ربا ... كان بي برا لطيفا فذاع الشعر وبلغت القصة الوالي فدعا به فزوجه إياها ودفعها إليه وذكر أن رجلا أحب امرأة وأحبته فاجتمعا فراودته المرأة عن نفسه فقال إن أجلي ليس بيدي وأجلك ليس بيدك فربما كان الأجل قد دنا فنلقى الله عاصيين فقالت صدقت فتابا وحسنت حالهما وتزوجت به وذكر بكر بن عبدالله المزني أن قصابا ولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها إلى حاجة في قرية أخرى فتبعها فراودها عن نفسها فقالت لا تفعل لأنا أشد حبا لك مني ولكني أخاف الله قال فأنت تخافينه وأنا لا أخافه فرجع تائبا فأصابه العطش حتى كاد ينقطع عنقه فإذا هو برسول لبني إسرائيل فسأله فقال مالك قال العطش فقال تعال حتى ندعو الله حتى تظلنا سحابة حتى ندخل القرية قال مالي من عمل فأدعوه قال فأنا أدعوه وأمن أنت فدعا وأمن الرجل فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية فذهب القصاب إلى مكانه فرجعت السحابة معه فرجع إليه الرسول فقال زعمت أن ليس لك عمل وأنا الذي دعوت وأنت أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك لتخبرني ما أمرك فأخبره فقال الرسول إن التائب إلى الله يمكان ليس أحد من الناس بمكانه وقال يحيى بن أيوب كان بالمدينة فتى بعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه شأنه فانصرف ليلة من صلاة العشاء فتمثلت له امرأة بين يديه
فعرضت له بنفسها ففتن بها ومضت فأتبعها حتى وقف على بابها فأبصر وجلا عن قلبه وحضرته هذه الآية إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون فخر مغشيا عليه فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت فلم تزل هي وجارية لها يتعاونان عليه حتى ألقياه على باب داره فخرج أبوه فرآه ملقى على باب الدار لما به فحمله وأدخله فأفاق فسأله ما أصابك يا بني فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره فلما تلا الآية شهق شهقة فخرجت نفسه فبلغ عمر رضي الله عنه قصته فقال ألا آذنتموني بموته فذهب حتى وقف على قبره فنادى يا فلان ولمن خاف مقام ربه جنتان فسمع صوتا من داخل القبر قد أعطاني ربي يا عمر وذكر الحسن هذه القصة عن عمر رضي الله عنه على وجه آخر قال كان شاب على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملازما للمسجد والعبادة فهويته جارية فحدث نفسه بها ثم إنه تذكر وأبصر فشهق شهقة فغشي عليه منها فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه فأخبر عمر فأتاه وقد مات فقال لك جنتان وفي جامع الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله كان ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله
فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكن هذا عمل لم أعمله وإنما حملتني عليه الحاجة قال فتفعلين هذا وأنت لم تفعليه قط ثم قال اذهبي والدنانير لك ثم قال والله لا يعصي الله ذوالكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله لذي الكفل قال الترمذي هذا حديث حسن وقال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهم خطب رسول الله قبل وفاته فقال في خطبته ومن قدر على امرأة أو جارية حراما فتركها مخافة من الله أمنه الله يوم الفزع الأكبر وحرمه على النار وأدخله الجنة وقال مالك بن دينار جنات النعيم بين الفردوس وبين جنات عدن فيها جوار خلقن من ورد الجنة يسكنها الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا الله تعالى راقبوه فانثنت رقابهم من خشية الله تعالى قال ميمون بن مهران الذكر ذكران فذكر الله تعالى باللسان حسن وأفضل منه أن تذكر الله تعالى عندما تشرف على معاصيه وقال قتادة رضي الله عنه ذكر لنا أن نبي الله كان يقول لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك وقال عبيد بن عمير صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله تعالى
وقال أبو عمران الجوني كان رجل من بني إسرائيل لا يمتنع من شيء فجهد أهل بيت من بني إسرائيل فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله شيئا فقال لا أو تمكنيني من نفسك فخرجت فجهدوا جهدا شديدا فرجعت إليه فقالت أعطنا فقال لا أو تمكنيني من نفسك فرجعت فجهدوا جهدا كثيرا فأرسلوها إليه فقال لها ذلك فقالت دونك فلما خلا بها جعلت تنتفض كا تنتفض السعفة قال لها مالك قالت إني أخاف الله رب العالمين هذا شيء لم أصنعه قط قال أنت تخافين الله ولم تصنعيه وأفعله أعاهد الله أني لا أرجع إلى شيء مما كنت فيه فأوحى الله إلى نبي من أنبيائهم أن فلانا أصبح في كتب أهل الجنة وذكر أن شابا في بني إسرائيل لم يكن فيهم شاب أحسن منه كان يبيع المكاتل فبينا هو ذات يوم يطوف بمكاتله إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل فلما رأته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك إني رأيت شابا بالباب يبيع المكاتل لم أر شابا قط أحسن منه قالت أدخليه فخرجت فقالت ادخل فدخل فأغلقت الباب دونه ثم قالت ادخل فدخل فأغلقت بابا آخر دونه ثم استقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها فقال لها استتري عافاك الله فقالت إنا لم ندعك لهذا إنما ندعوك لكذا وراودته عن نفسه فقال لها اتقي الله قالت إنك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت تكابرني على نفسي قال لها فضعي لي وضوءا فقالت أعلي تتعلل يا جارية ضعي له وضوءا فوق الجوسق مكانا لا يستطيع أن يفر منه فلما
صار في الجوسق قال اللهم إني دعيت إلى معصيتك وإني أختار أن ألقي نفسي من هذا الجوسق ولا أركب معصيتك ثم قال بسم الله وألقى نفسه من أعلاه فأهبط الله ملكا أخذ بضبعيه فوقع قائما على رجليه فلما صار في الأرض قال اللهم إن شئت رزقتني رزقا يغنيني عن بيع هذه المكاتل فأرسل الله عليه رجلا من جراد من ذهب فأخذ منه حتى ملأ ثوبه فلما صار في ثوبه قال اللهم إن كان هذا رزقا رزقتنيه من الدنيا فبارك لي فيه وإن كان ينقصني مما لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي فيه فنودي إن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءا لصبرك على إلقائك نفسك فقال اللهم فلا حاجة لي فيما ينقصني مما لي عندك في الآخرة فرجع الجراد وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن رجل من بعض المياسير قال بينا أنا يوما في منزلي إذ دخل علي خادم لي فقال لي رجل بالباب معه كتاب فقلت أدخله أو خذ كتابه فأخذ الكتاب منه فإذا فيه تجنبك الردى ولقيت خيرا ... وسلمك المليك من الغموم شكون بنات أحشائي إليكم ... وما إن تشتكين إلى ظلوم وسألتني الكتاب إليك فيما ... يخامرها فدتك من الهموم وهن يقلن يا ابن الجود إنا ... برمنا من مراعاة النجوم وعندك لو مننت شفاء سقم ... لأعضاء دمين من الكلوم
قال فلما قرأت الأبيات قلت عاشق فقلت للخادم أدخله فخرج فلم يره فارتبت في أمره فجعل الفكر يتردد في قلبي فدعوت جواري كلهن فجمعتهن فقلت لهن ما قصة هذا الكتاب فحلفن لي وقلن يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سببا فمن جاءك به فقلت قد فاتني وما أردت سؤالكن إلا أني ظننت له هوى في بعضكن فمن عرفت منكم أنها صاحبته فهي له فلتذهب إليه ولتأخذ كتابي إليه وكتبت كتابا أشكره على فعله وأسأله عن حاله ووضعت الكتاب في موضع من الدار فمكث الكتاب في موضعه حينا لا يأخذه أحد ولا أرى الرجل فاغتممت غما شديدا ثم قلت لعله بعض فتياننا ثم قلت إن هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع وقد قنع ممن يحبه بالنظر فدبرت عليه فحجبت جواري عن الخروج فما كان إلا يوم وبعض الآخر إذ دخل علي الخادم ومعه كتاب قال أرسل به إليك فلان وذكر بعض أصدقائي ففضضته فإذا فيه مكتوب ماذا أردت إلى روح معلقة ... عند التراقي وحادي الموت يحدوها حثثت حاديها ظلما فجد بها ... في السير حتى تولت عن تراقيها حجبت من كان تحيا عند رؤيتها ... روحي ومن كان يشفيني ترائيها فالنفس تجنح نحو الظلم جاهلة ... والقلب مني سليم ما يؤاتيها والله لو قيل لي تأتي بفاحسة ... وإن عقباك دنيانا وما فيها لقلت لا والذي أخشى عقوبته ... ولا بأضعافها ما كنت آتيها لولا الحياء لبحنا بالذي كتمت ... بنت الفؤاد وأبدينا تمنيها
قال فبهت وقلت لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرجل وقلت للخادم لا يأتيك أحد بكتاب إلا قبضت عليه حتى تدخله علي ثم لم أعرف له خبرا بعد ذلك فبينا أنا أطوف بالكعبة إذا فتى قد أقبل نحوي وجعل يطوف إلى جنبي ويلاحظني وقد صار مثل العود فلما قضيت طوافي خرجت وأتبعني فقال يا هذا أتعرفني قلت لا أنكرك لسوء قال أنا صاحب الكتابين فما تمالكت أن قبلت رأسه وبين عينيه وقلت بأبي أنت وأمي والله لقد شغلت قلبي وأطلت غمي بشدة كتمانك لأمرك فهل لك فيما سألت وطلبت قال بارك الله لك وأقر عينيك إنما أتيتك أستحلك من نظرة كنت نظرتها على غير حكم الكتاب والسنة والهوى داع إلى كل بلاء وأستغفر الله العظيم فقلت يا حبيبي أحب أن تصير معي إلى منزلي فآنس بك وتجري الحرمة بيني وبينك قال ليس إلى ذلك سبيل فقلت غفر الله لك ذنبك وقد وهبتها لك ومعها مائة دينار ولك في كل سنة كذا وكذا قال بارك الله لك فيها فلولا عهود عاهدت الله عليها وأشياء أكدتها علي لم يكن في الدنيا شيء أحب غلي من هذا الذي تعرضه علي ولكن ليس إلى ذلك سبيل والدنيا منقطعة فقلت له فإذا أبيت أن تقبل مني ذلك فأخبرني من هي حتى أكرمها لأجلك ما بقيت فقال ما كنت لأذكرها لأحد ثم قام وتركني وذكر عبدالملك بن قريب قال هوي رجل من النساء جارية فاشتد حبه لها فبعث إليها يخطبها فامتنعت وأجابته إلى غير ذلك فأبى وقال لا إلا ما أحل الله ثم إن محبته ألقيت في قلبها فبذلت له ما سأل فقال لا والله لا حاجة لي بمن دعوتها إلى طاعة الله ودعتني إلى معصيته وحكى المبرد عن شيخه أبي عثمان المازني أنه قصده بعض أهل الذمة ليقرأ
عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار فامتنع ورده فقلت له أترد هذا القدر مع شدة فاقتك فقال إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله ولست أرى تمكين هذا الذمي منها غيرة على القرآن فاتفق أن غنت جارية بحضرة الوائق يقول العرجي أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم فاختلف أهل مجلسه في إعراب رجل فمنهم من قال هو نصب وجعله اسم إن ومنهم من رفعه على أنه خبرها والجارية أصرت على النصب وقالت لقنني إياه كذلك شيخي أبو عثمان المازني فأمر الواثق بإحضاره إلى بين يديه قال فلما مثلت بين يديه قال ممن الرجل قلت من بني مازن قال أي الموازن أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة قلت من مازن ربيعة فكلمني بكلام قومي فقال لي با اسمك وقومي يقلبون الميم باء والباء ميما فكرهت أن أواجهه بلفظة مكر فقلت بكر يا أمير المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجب به فقال ما تقول في قول الشاعر أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم أترفع رجلا أم تنصبه فقلت الوجه النصب يا أمير المؤمنين فقال ولم ذلك فقلت لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم فأخذ البزيدي في معارضتي فقلت هو بمنزلة قولك إن ضربك زيدا ظلم فرجلا مفعول مصابكم ومنصوب به والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول ظلم فيتم فاستحسنه الواثق وقال هل لك من ولد قلت نعم يا أمير المؤمنين بنية قال فما قالت لك عند مسيرك إلينا قلت أنشدت قول الأعشى
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم ترانا إذا أضمرتك البلا ... د بجفى وتقطع منا الرحم قال فما قلت لها قال قلت قول جرير ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح فقال علي النجاح إن شاء الله ثم أمر لي بألف دينار وردني إلى البصرة مكرما فقال أبو العباس المبرد فلما عاد إلى البصرة قال لي كيف رأيت يا أبا العباس رددنا لله مائة دينار فعوضنا الله ألفا
الباب الثامن والعشرون فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام هذا باب إنما يدخل منه رجلان أحدهما من تمكن من قلبه الإيمان بالآخرة وما أعد الله فيها من الثواب والعقاب لمن عصاه فآثر أدنى الفوتين واختار أسهل العقوبتين والثاني رجل غلب عقله على هواه فعلم ما في الفاحشة من المفاسد وما في العدول عنها من المصالح فآثر الأعلى على الأدنى وقد جمع الله سبحانه وتعالى ليوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه بين الأمرين فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الحرام فقالت المرأة ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاختار السجن على الفاحشة ثم تبرأ إلى الله من حوله وقوته وأخبر أن ذلك ليس إلا بمعونة الله له وتوفيقه وتأييده لا من نفسه فقال وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره وحاله وعفته ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله وأحاط به الخذلان وقد قال الله تعالى لأكرم الخلق عليه وأحبهم إليه ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ولهذا كان من دعائه يا مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك وكانت أكثر يمينه لا ومقلب القلوب كيف وهو الذي أنزل عليه واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرة التامة وإن هلك فالفوز العظم والله تعالى لا يضيع ما تحمل عبده لأجله وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله سبحانه وتعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي وكل من خرج عن شيء منه لله حفظه الله عليه أو أعاضه الله ما هو أجل منه ولهذا لما خرج الشهداء عن نفوسهم لله جعلهم الله أحياء عنده يرزقون وعوضهم عن أبدانهم التي بذلوها له أبدان طير خضر جعل أرواحهم فيها تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ولما تركوا مساكنهم له عوضهم مساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وقال وهب بن منبه كان عابد من عباد بني إسرائيل يتعبد في صومعة فجاء رجل من بني إسرائيل إلى امرأة بغي فبذل لها مالا وقال لعلك أن تفتنيه فجاءته في ليلة مطيرة فنادته فأشرف عليها فقالت آوني إليك فتركها وأقبل على صلاته فقالت يا عبد الله آوني إليك أما ترى الظلمة والمطر فلم تزل به حتى آواها فاضطجعت قريبا منه فجعلت تريه محاسنها حتى دعته نفسه إليها فقال لا والله حتى أنظر كيف صبرك على النار فتقدم إلى
المصباح فوضع إصبعا من أصابعه حتى احترقت ثم عاد إلى صلاته فدعته نفسه إليها فعاود المصباح فوضع إصبعه الأخرى حتى احترقت فلم يزل تدعوه نفسه وهو يعود إلى المصباح حتى احترقت أصابعه جميعا وهي تنظر فصعقت وماتت وقال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا أمية بن شبل عن عبدالله بن وهب قال لا أعلمه إلا ذكره عن أبيه أن عابدا من بني إسرائيل كان في صومعته يتعبد فإذا نفر من الغواة قالوا لو استنزلناه بشيء فذهبوا إلى امرأة بغي فقالوا لها تعرضى له فجاءته في ليلة مظلمة مطيرة فقالت يا عبد الله آوني إليك وهو قائم يصلي ومصباحه ثاقب فلم يلتفت إليها فقالت يا عبد الله الظلمة والغيث آوني إليك فلم تزل به حتى أدخلها إليه فاضطجعت وهو قائم يصلي فجعلت تتقلب وتريه محاسن خلقها حتى دعته نفسه إليها فقال لا والله حتى أنظر كيف صبرك على النار فدنا إلى المصباح فوضع إصبعا من أصابعه فيه حتى احترقت قال ثم رجع إلى مصلاه قال فدعته نفسه أيضا فعاد إلى المصباح فوضع إصبعه أيضا حتى احترقت أصابعه وهي تنظر إليه فصعقت فماتت فلما أصبحوا غدوا لينظروا ما صنعت فإذا بها ميتة فقالوا يا عدو الله يا مرائي وقعت عليها ثم قتلتها قال فذهبوا به إلى ملكهم فشهدوا عليه فأمر بقتله فقال دعوني حتىأصلي ركعتين قال فصلى ثم دعا فقال أي رب إني أعلم أنك لم تكن لتؤاخذني بما لم أفعل ولكن اسألك أن لا أكون عارا على القرى بعدي قال فرد الله نفسها فقالت أنظروا إلى يده ثم عادت ميتة
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم قال بينما رجل عابد عند امرأة إذ عمد فضرب بيده على فخذها فأخذ يده فوضعها في النار حتى نشت وقال حصين بن عبدالرحمن بلغني أن فتى من أهل المدينة كان يشهد الصلوات كلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عمر يتفقده إذا غاب فعشقته امرأة من أهل المدينة فذكرت ذلك لبعض نسائها فقالت أنا أحتال لك في إدخاله عليك فقعدت له في الطريق فلما مر بها قالت له إني امرأة كبيرة السن ولي شاة لا أستطيع أن أحلبها فلو دخلت فحلبتها لي وكانوا أرغب شيء في الخير فدخل فلم ير شاة فقالت اجلس حتى آتيك بها فإذا المرأة قد طلعت عليه فلما رأى ذلك عمد إلى محراب في البيت فقعد فيه فأرادته عن نفسه فأبى وقال اتقي الله أيتها المرأة فجعلت لا تكف عنه ولا تلتفت إلى قوله فلما أبى عليها صاحت عليه فجاءوا فقالت إن هذا دخل علي يريدني عن نفسي فوثبوا عليه وجعلوا يضربونه وأوثقوه فلما صلى عمر الغداة فقده فبينا هو كذلك إذ جاءوا به في وثاق فلما رآه عمر قال اللهم لا تخلف ظني به قال مالكم قالوا استغاثت امرأة بالليل فجئنا فوجدنا هذا الغلام عندها فضربناه وأوثقناه فقال عمر رضي الله عنه اصدقني فأخبره بالقصة على وجهها فقال له عمر رضي الله عنه أتعرف العجوز فقال نعم إن رايتها عرفتها فأرسل عمر إلى نساء جيرانها وعجائزهن فجاء بهن فعرضهن فلم يعرفها فيهن حتى مرت به العجوز فقال هذه يا أمير المؤمنين فرفع عمر عليها الدرة وقال أصدقيني فقصت عليه القصة كما قصها الفتى فقال عمر الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف
وقال أبو الزناد كان راهب يتعبد في صومعته فأشرف منها فرأى امرأة ففتن بها فأخرج رجله من الصومعة لينزل إليها فنزلت عليه العصمة فقال رجل خرجت من الصومعة لتعصي الله والله لا تعود معي في صومعتي فتركها معلقة خارج الصومعة يسقط عليها الثلوج والأمطار حتى تناثرت وسقطت فشكر الله ذلك من صنعه ومدحه في بعض كتبه بذي الرجل وقال مصعب بن عثمان كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجها فدخلت عليه امرأة بيته فسألته نفسه فامتنع عليها فقالت إذن أفضحك فخرج هاربا عن منزله وتركها فيه وقال جابر بن نوح كنت بالمدينة جالسا عند رجل في حاجة فمر بنا شيخ حسن الوجه حسن الثياب فقام إليه ذلك الرجل فسلم عليه وقال يا أبا محمد أسأل الله أن يعظم أجرك وأن يربط على قلبك بالصبر فقال الشيخ وكان يميني في الوغى ومساعدي ... فأصبحت قد خانت يميني ذراعها وقد صرت حيرانا من الثكل باهتا ... أخا كلف ضاقت علي رباعها فقال له الرجل أبشر فإن الصبر معول المؤمن وإني لأرجو أن لا يحرمك الله الأجر على مصيبتك فقلت له من هذا الشيخ فقال رجل منا من الأنصار فقلت وما قصته قال أصيب بابنه وكان به بارا قد كفاه جميع ما يعنيه ومنيته عجب قلت وما كانت قال أحبته امرأة فأرسلت إليه تشكو حبه وتسأله الزياره وكان لها زوج فألحت عليه فأفشى ذلك إلى صديق
له فقال له لو بعثت إليها بعض أهلك فوعظتها وزجرتها رجوت أن تكف عنك فأمسك وأرسلت إليه إما أن تزورني وإما أن أزورك فأبى فلما يئست منه ذهبت إلى امرأة كانت تعمل السحر فجعلت لها الرغائب في تهييجه فعملت لها في ذلك فبينا هو ذات ليلة مع أبيه إذ خطر ذكرها بقلبه وهاج منه أمر لم يكن يعرفه واختلط فقام مسرعا فصلى واستعاذ والأمر يشتد فقال يا أبه أدركني بقيد فقال يا بني ما قصتك فحدثه بالقصة فقام وقيده وأدخله بيتا فجعل يضطرب ويخور كما يخور الثور ثم هدأ فإذا هو ميت والدم يسيل من منخره فصل وهذا ليس بعجيب من الرجال ولكنه من النساء أعجب قال أبو إدريس الأودي كان رجلان في بني إسرائيل عابدان وكانت جارية جميلة فأحباها وكتم كل منهما صاحبه واختبأ كل منهما خلف شجرة ينظر إليها فبصر كل منهما سره إلى صاحبه فاتفقا على أن يراوداها فلما قربت منهما قالا لها قد عرفت منزلتنا في بني إسرائيل وإنك إن لم تؤاتينا وإلا قلنا إذا أصبحنا إنا أصبنا معك رجلا وإنه أفلتنا وإنا أخذناك فقالت ما كنت لأطيعكما في معصية الله فأخذاها وقالا إنا أصبنا معها رجلا فأفلتنا وأقبل نبي من أنبيائهم فوضعوا له كرسيا فجلس عليه وقال أقضي بينكم فقالا نعم اقض بيننا ففرق بين الرجلين وقال لأحدهما خلف أي شجرة رأيتها قال شجرة كذا
وكذا وقال للآخر فقال شجرة كذا وكذا غير التي ذكر صاحبه ونزلت نار من السماء فأحرقتهما وأفلتت المرأة وقال عبدالله بن المبارك عشق هارون الرشيد جارية من جواريه فأرادها فقالت إن أباك مسني فشغف بها وقال فيها أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس عندي كالعبيد وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي فسأل أبا يوسف عن ذلك فقال أو كلما قالت جارية شيئا تصدق قال ابن المبارك فلا أدري ممن أعجب من هارون الرشيد حيث رغب فيها أو منها حيث رغبت عنه أو من أبي يوسف حيث سوغ له إنيانها وقال أبو عثمان التيمي مر رجل براهبة من أجمل النساء فافتتن بها فتلطف في الصعود إليها فراودها عن نفسها فأبت عليه وقالت لا تغتر بما ترى وليس وراءه شيء فأبى حتى غلبها على نفسها وكان إلى جانبها مجمرة فوضعت يدها فيها حتى احترقت فقال لها بعد أن قضى حاجته منها ما دعاك إلى ما صنعت قالت إنك لما قهرتني على نفسي خفت أن أشاركك في اللذة فأشاركك في المعصية ففعلت ما رأيت فقال الرجل والله لا أعصي الله أبدا وتاب مما كان عليه وذكر الحسين بن محمد الدامغاني أن بعض الملوك خرج يتصيد وانفرد عن
أصحابه فمر بقرية فرأى امرأة جميلة فراودها عن نفسها فقالت إني غير طاهر فأتطهر وآتيك فدخلت بيتها وخرجت إليه بكتاب فقالت انظر في هذا حتى آتيك فنظر فيه فإذا فيه ما أعد الله للزاني من العقوبة فتركها وذهب فلما جاء زوجها أخبرته الخبر فكره أن يقربها مخافة أن يكون للملك فيها حاجة فاعتزلها فاستعدى عليه أهل الزوجة إلىالملك وقالوا إن لنا أرضا في يد الرجل فلا هو يعمرها ولا هو يردها علينا وقد عطلها فقال الملك ما تقول فقال إني رأيت في هذه الأرض أسدا وأنا أتخوف دخولها منه ففهم الملك القصة فقال اعمر أرضك فإن الأسد لا يدخلها ونعم الأرض أرضك وكانت بعض النساء المتعبدات وقعت في نفس رجل موسر وكانت جميلة وكانت تخطب فتأبى فبلغ الرجل أنها تريد الحج فاشترى ثلاثمائة بعير ونادى من أراد الحج فليكتر من فلان فاكترت منه المرأة فلما كان في بعض الطريق جاءها فقال إما أن تزوجيني نفسك وإما غير ذلك فقالت ويحك اتق الله فقال ما هو إلا ما تسمعين والله ما أنا بجمال ولا خرجت إلا من أجلك فلما خافت على نفسها قالت ويحك انظر أبقي في الرجال عين لم تنم فقال لا ناموا كلهم قالت أفنامت عين رب العالمين ثم شهقت شهقة خرت ميتة وخر الرجل مغشيا عليه فلما أفاق قال ويحي قتلت نفسا ولم أبلغ شهوتي وقال وهب بن منبه كان في بني إسرائيل رجل متعبد شديد الاجتهاد فرأى يوما امرأة فوقعت في نفسه بأول نظرة فقام مسرعا حتى لحقها فقال رويدك يا هذه فوقفت وعرفته فقالت ما حاجتك قال أذات زوج أنت
قالت نعم فما تريد قال لو كان غير هذا لكان لنا رأي قالت على ذلك وما هو قال عرض بقلبي من أمرك عارض قالت وما يمنعك من إنقاذه قال وتتابعيني على ذلك قالت نعم فحلت به في موضع فلما رأته مجدا في الذي سأل قالت رويدك يا مسكين لا يسقط جاهك عنده فانتبه لها وذهب عنه ما كان يجد فقال لا حرمك الله ثواب فعلك ثم تنحى ناحية فقال لنفسه اختاري إما عمى العين وإما الجب وإما السياحة مع الوحوش فاختارت السياحة مع الوحوش فكان كذلك إلى أن مات وأحب رجل جارية من العرب وكانت ذات عقل وأدب فما زال يحتال في أمرها حتى اجتمع معها في ليلة مظلمة شديدة السواد فحادثها ساعة ثم دعته نفسه إليها فقال يا هذه قد طال شوقي إليك قالت وأنا كذلك فقال هذا الليل قد ذهب والصبح قد اقترب قالت هكذا تفنى الشهوات وتنقطع اللذات فقال لها لو دنوت مني فقالت هيهات أخاف البعد من الله قال فما الذي دعاك إلى الحضور معي قالت شقوتي وبلائي قال لها فمتى أراك قالت ما أنساك وأما الاجتماع معك فما أراه يكون ثم تولت قال فاستحييت مما سمعت منها وأنشد توقت عذابا لا يطاق انتقامه ... ولم تأت ما تخشى به أن تعذبا وقالت مقالا كدت من شدة الحيا ... أهيم على وجهي حيا وتعجبا ألا أف للحب الذي يورث العمى ... ويورد نارا لا تمل التلهبا فأقبل عودي فوق بدئي مفكرا ... وقد زال عن قلبي العمى فتسربا وقال ابن خلف أخبرني أبو بكر العامري قال عشقت عاتكة المرية
ابن عم لها فأرادها عن نفسها فامتنعت عليه وقالت فما طعم ماء من السحاب مروق ... تحدر من غر طوال الذوائب بمنعرج أو بطن واد تطلعت ... عليه رياح الصيف من كل جانب ترقرق ماء المزن فيهن والتقت ... عليهن أنفاس الرياض الغرائب نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فليس به عيب تراه لشارب بأطيب مما يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء تلك العواقب
الباب التاسع والعشرون في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى وقد تقدم ذكر الآيات في ذلك وبعض ما ورد في السنة الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح فالهوى مستحث لها لما يريده كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ولا مدحه مطلقا كما أن الغضب لا يذم مطلقا ولا يحمد مطلقا وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار ولما كان الغالب من مطيع هواه وشهوته وغضبه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لعموم غلبة الضرر لأنه يندر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده كما أنه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه بل لا بد من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه فحرص الناصح على تعديل قوى الشهوة والغضب من كل وجه وهذا أمر يتعذر وجوده إلا في حق أفراد من العالم فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه إلا ذمه وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذموما إلا ما جاء منه مقيدا كقوله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به وقد قيل الهوى كمين لا يؤمن قال الشعبي وسمي هوى لأنه يهوي بصاحبه ومطلقه يدعو
إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة ويحث على نيل الشهوات عاجلا وإن كانت سببا لأعظم الآلام عاجلا وآجلا فللدنيا عاقبة قبل عاقبة الآخرة والهوى يعمي صاحبه من ملاحظتها والمروءة والدين والعقل ينهى عن لذة تعقب ألما وشهوة تورث ندما فكل منها يقول للنفس إذا أرادت ذلك لا تفعلي والطاعة لمن غلب ألا ترى أن الطفل يؤثر ما يهوى وإن أداه إلى التلف لضعف ناهي العقل عنده ومن لا دين له يؤثر ما يهواه وإن أداه إلى هلاكه في الآخرة لضعف ناهي الدين ومن لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها لضعف ناهي المروءة فأين هذا من قول الشافعي رحمه الله تعالى لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم وكان كل وقت تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان حاكم العقل وحاكم الدين وأمر أن يرفع حوادث الهوى دائما إلى هذين الحاكمين وأن ينقاد لحكمهما وينبغي أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرا في الأحيان غير أن العادة مقتضية ذلك فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما تطالبه به العادة ولو زال عنه رين الهوى لعلم أنه قد شقي من حيث قدر السعادة واغتم من حيث ظن الفرح وألم من حيث أراد اللذة فهو كالطائر المخدوع
بحبة القمح لا هو نال الحبة ولا هو تخلص مما وقع فيه فإن قيل فكيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه قيل يمكنه التخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور أحدها عزيمة حر يغار لنفسه وعليها الثاني جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة الثالث قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة والشجاعة كلها صبر ساعة وخير عيش أدركه العبد بصبره الرابع ملاحظته حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة الخامس ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه السادس إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى السابع إيثاره لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية الثامن فرحه بغلبة عدوه وقهره له ورده خاسئا بغيظه وغمه وهمه حيث لم ينل منه أمنيته والله تعالى يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه كما قال الله تعالى في كتابه العزيز ولا يطؤن موطئا يغبط الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح وقال ليغيظ بهم الكفار وقال تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض
مراغما كثيرة وسعة أي مكانا يراغم فيه أعداء الله وعلامة المحبة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم التاسع التفكر في أنه لم يخلق للهوى وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيت للهوى كما قيل قد هيأوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل العاشر أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه فيؤثر النافع على الضار والإنسان أعطي العقل لهذا المعنى فإذا لم يميز به بين ما يضره وما ينفعه أو عرف ذلك وآثر ما يضره كان حال الحيوان البهيم أحسن منه ويدل على ذلك أن البهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح مالا يناله الإنسان مع عيش هنيء خال عن الفكر والهم ولهذا تساق إلى منحرها وهي منهمكة على شهواتها لفقدان العلم بالعواقب والآدمي لا يناله ما يناله الحيوان لقوة الفكر الشاغل وضعف الآلة المستعملة وغير ذلك فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ووفر منه حظ البهائم وفي توفير حظ الآدمي من العقل والعلم والمعرفة عوض عن ذلك الحادي عشر أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كما أفاتت معصيته
من فضيلة وكم أوقعت في رذيلة وكم أكلة منعت أكلات وكم من لذة فوتت لذات وكم من شهوة كسرت جاها ونكست رأسا وقبحت ذكرا وأورثت ذما وأعقبت ذلا وألزمت عارا لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء الثاني عشر أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر وما فاته وما حصل له فأفضل الناس من لم يرتكب سببا ... حتى يميز لما تجني عواقبه الثالث عشر أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور ثم ينزل نفسه تلك المنزلة فحكم الشيء حكم نظيره الرابع عشر أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشيء قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه إذا أعجب أحدكم امرأة فليذكر مناتنها وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه لأن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر الحال الحاضرة الملازمة والشاعر حال على أمر متأخر الخامس عشر أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلا ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذل الناس بواطن قد أجمعوا بين فصيلتي الكبر والذل السادس عشر أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه ونيل
اللذة المطلوبة فإنه لا يحد بينهما نسبة البتة فليعلم أنه من أسفه الناس ببيعه هذا بهذا السابع عشر أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمة وميلا إلى هواه طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاسا وسرقة الثامن عشر أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه ويعزل بهواه وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة فما قارن شيئا إلا أفسده التاسع عشر أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه فإنه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله فلا يجد مدخلا إلا من باب الهوى فيسري معه سريان السم في الأعضاء العشرون أن الله سبحانه وتعالى جعل الهوى مضادا لما أنزله على رسوله وجعل اتباعه مقابلا لمتابعة رسله وقسم الناس إلى قسمين أتباع الوحي وأتباع الهوى وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم
وقوله تعالى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ونظائره الحادي والعشرون أن الله سبحانه وتعالى شبه أتباع الهوى بأخس الحيوانات صورة ومعنى فشبههم بالكلب تارة كقوله تعالى ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب وبالحمر تارة كقوله تعالى كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة وقلب صورهم إلى صورة القردة والخنازير تارة الثاني والعشرون أن متبع الهوى ليس أهلا أن يطاع ولا يكون إماما ولا متبوعا فإن الله سبحانه وتعالى عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته أما عزله فإن الله سبحانه وتعالى قال لخليله إبراهيم إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالما وكل من اتبع هواه فهو ظالم كما قال الله تعالى بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم وأما النهي عن طاعته فلقوله تعالى ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا الثالث والعشرون أن الله سبحانه وتعالى جعل متبع الهوى بمنزلة
عابد الوثن فقال تعالى أرأيت من اتخذ إلهه هواه في موضعين من كتابه قال الحسن هو المنافق لا يهوى شيئا إلا ركبه وقال أيضا المنافق عبد هواه لا يهوى شيئا إلا فعله الرابع والعشرون أن الهوى هو حظار جهنم المحيط بها حولها فمن وقع فيه وقع فيها كما في الصحيحين عن النبي أنه قال حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وفي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه لما خلق الله الجنة أرسل إليها جبريل فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فرجع إليه وقال وعزتك لا يسمع بها أحد من عبادك إلا دخلها فأمر بها فحجبت بالمكاره وقال ارجع إليها فانظر إليها فرجع فإذا هي قد حجبت بالمكاره فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع فانظر إليها فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات فرجع إليه فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد قال الترمذي - هذا حديث حسن صحيح الخامس والعشرون أنه يخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من
الإيمان وهو لا يشعر وقد ثبت عن النبي أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به وصح عنه أنه قال أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى السادس والعشرون أن اتباع الهوى من المهلكات قال ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فتقوى الله تعالى في السر والعلانية والقول بالحق في الرضا والسخط والقصد في الغنى والفقر وأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه السابع والعشرون أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه قال بعض السلف الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده وفي الحديث الصحيح المرفوع ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته الثامن والعشرون أن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه قال معاوية المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى فاتباع الهوى يزمن
المروءة ومخالفته تنعشها التاسع والعشرون أنه ما من يوم إلا والهوى والعقل يعتلجان في صاحبه فأيها قوي على صاحبه طرده وتحكم وكان الحكم له قال أبو الدرداء إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان هواه تبعا لعمله فيومه يوم صالح الثلاثون أن الله سبحانه وتعالى جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين كما قال بعض السلف إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيها أرشد فخالف أقربهما من هواك فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى الحادي والثلاثون أن الهوى داء ودواؤه مخالفته قال بعض العارفين إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك داؤك هواك ودواؤك ترك هواك ومخالفته وقال بشر الحافي رحمه الله تعالى البلاء كله في هواك والشفاء كله في مخالفتك إياه الثاني والثلاثون أن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل قال جهادك هواك وسمعت شيخنا يقول جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم
الثالث والثلاثون أن الهوى تخليط ومخالفته حمية ويخاف على من أفرط في التخليط وجانب الحمية أن يصرعه داؤه قال عبدالملك بن قريب مررت بأعرابي به رمد شديد ودموعه تسيل على خديه فقلت ألا تمسح عينيك قال نهاني الطبيب عن ذلك ولا خير فيمن إذا زجر لا ينزجر وإذا أمر لا يأتمر فقلت ألا تشتهي شيئا فقال بلى ولكني أحتمي إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا الرابع والثلاثون أن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق ويفتح عليه أبواب الخذلان فتراه يلهج بأن الله لو وفق لكان كذا وكذا وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه قال الفضيل ابن عياض من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق وقال بعض العلماء الكفر في أربعة أشياء في الغضب والشهوة والرغبة والرهبة ثم قال رأيت منهن اثنتين رجلا غضب فقتل أمه ورجلا عشق فتنصر وكان بعض السلف يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال أهوى هوى الدين واللذات تعجبني ... فكيف لي بهوى اللذات والدين فقالت دع أحدهما تنل الآخر
الخامس والثلاثون أن من نصر هواه فسد عليه عقله ورأيه لأنه قد خان الله في عقله فأفسده عليه وهذا شأنه سبحانه وتعالى في كل من خانه في أمر من الأمور فإنه يفسده عليه وقال المعتصم يوما لبعض أصحابه يا فلان إذا نصر الهوى ذهب الرأي وسمعت رجلا يقول لشيخنا إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد أو قال نسيه فقال الشيخ هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم السادس والثلاثون أن من فسح لنفسه في اتباع الهوى ضيق عليها في قبره ويوم معاده ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وسع عليها في قبره ومعاده وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله تعالى وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا فلما كان في الصبر الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى في هذه الآية جزاهم بما صبروا عن الشهوات السابع والثلاثون أن اتباع الهوى يصرع العبد عن النهوض يوم القيامة عن السعي مع الناجين كما صرع قلبه في الدنيا عن مرافقتهم قال محمد بن أبي الورد إن لله تعالى يوما لا ينجو من شره منقاد لهواه وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوته وإن العقول لما جرت في ميادين الطلب كان أوفرها حظا من يطالبها بقدر ما صحبه من الصبر والعقل معدن والفكر معول الثامن والثلاثون أن اتباع الهوى يحل العزائم ويوهنها ومخالفته تشدها
وتقويها والعزائم هي مركب العبد الذي يسيره إلى الله والدار الآخرة فمتى تعطل المركوب أوشك أن ينقطع المسافر قيل ليحيى بن معاذ من أصح الناس عزما قال الغالب لهواه ودخل خلف بن خليفة على سليمان بن حبيب بن المهلب وعنده جارية يقال لها البدر من أحسن الناس وجها فقال له سليمان كيف ترى هذه الجارية فقال أصلح الله الأمير ما رأت عيناي أحسن منها قط فقال له خذ بيدها فقال ما كنت لأفجع الأمير بها وقد رأيت شدة عجبه بها فقال ويحك خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب وأخذ بيدها وخرج وهو يقول لقد حباني وأعطاني وفضلني ... عن غير مسألة منه سليمان أعطاني البدر خودا في محاسنها ... والبدر لم يعطه إنس ولا جان ولست يوما بناس فضله أبدا ... حتى يغيبني لحد وأكفان التاسع والثلاثون أن مثل راكب الهوى كمثل راكب فرس حديد صعب جموح لا لجام له فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به أو يسير به إلى مهلك قال بعض العارفين أسرع المطايا إلى الجنة الزهد في الدنيا وأسرع المطايا إلى النار حب الشهوات ومن استوى على متن هواه أسرع به إلى وادي الهلكات وقال آخر أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا واستصعب قياده على الهوى وقال عطاء من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح الأربعون أن التوحيد واتباع الهوى متضادان فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له وليس مراد الله سبحانه كسر الأصنام المجسدة وترك
الأصنام التي في القلب بل المراد كسرها من القلب أولا قال الحسن بن علي المطوعي صنم كل إنسان هواه فمن كسره بالمخالفة استحق اسم الفتوة وتأمل قول الخليل لقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون كيف تجده مطابقا للتمائيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله قال الله تعالى أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا الحادي والأربعون أن مخالفة الهوى مطردة للداء عن القلب والبدن ومتابعته مجلبة لداء القلب والبدن فأمراض القلب كلها من متابعة الهوى ولو فتشت على أمراض البدن لرأيت غالبها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركه الثاني والأربعون أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس من اتباع الهوى فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح قال أبو بكر الوراق إذا غلب الهوى أظلم القلب وإذا أظلم ضاق الصدر وإذا ضاق الصدر ساء الخلق وإذا ساء الخلق أبغضه الخلق وأبغضهم فانظر ماذا يتولد من التباغض من الشر والعداوة وترك الحقوق وغيرها الثالث والأربعون أن الله سبحانه وتعالى جعل في العبد هوى وعقلا فأيهما ظهر توارى الآخر كما قال أبو علي الثقفي من غلبه هواه توارى عنه عقله فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه وقال علي بن سهل رحمه الله العقل والهوى يتنازعان فالتوفيق قرين العقل والخذلان قرين الهوى والنفس واقفة بينهما فأيهما غلب كانت النفس معه
الرابع والأربعون أن الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملك الجوارح ومعدن معرفته ومحبته وعبوديته وامتحنه بسلطانين وجيشين وعونين وعدتين فالحق والزهد والهدى سلطان وأعوانه الملائكة وجيشه الصدق والإخلاص ومجانبة الهوى والباطل سلطان وأعوانه الشياطين وجنده وعدته اتباع الهوى والنفس واقفة بين الجيشين ولا يقدم جيش الباطل على القلب إلا من ثغرتها وناحيتها فهي تخامر على القلب وتصير مع عدوه عليه فتكون الدائرة عليه فهي التي تعطي عدوها عدة من قبلها وتفتح له باب المدينة فيدخل ويتملك ويقع الخذلان على القلب الخامس والأربعون أن أعدى عدو للمرء شيطانه وهواه وأصدق صديق له عقله والملك الناصح له فإذا اتبع هواه أعطي بيده لعدوه واستأسر له وأشمته به وساء صديقه ووليه وهذا هو بعينه هو جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء السادس والأربعون أن لكل عبد بداية ونهاية فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه بل يصير له ذلك في نهايته عذابا يعذب به في قلبه كما قال القائل مآرب كانت في الشباب لأهلها ... عذابا فصارت في المشيب عذابا فلو تأملت حال كل ذي حال سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس قال أبو علي الدقاق من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله تعالى في حال كهولته
وقيل للمهلب بن أبي صفرة بم نلت ما نلت قال بطاعة الحزم وعصيان الهوى فهذا في بداية الدنيا ونهايتها وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه والنار نهاية من اتبع هواه السابع والأربعون أن الهوى رق في القلب وغل في العنق وقيد في الرجل ومتابعه أسير لكل سيء الملكة فمن خالفه عتق من رقه وصار حرا وخلع الغل من عنقه والقيد من رجله وصار بمنزلة رجل سالم لرجل بعد أن كان رجلا فيه شركاء متشاكسون رب مستور سبته شهوة ... فتعرى ستره فانهتكا صاحب الشهوة عبد فإذا ... غلب الشهوة أضحى ملكا وقال ابن المبارك ومن البلاء وللبلاء علامة ... أن لا يرى لك عن هواك نزوع العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع الثامن والأربعون أن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من هواه فهو كمن رغب عن بعرة فأعطي عوضها درة ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء مالا نسبة لما ظفر به من هواه البتة فتأمل انبساط يد يوسف الصديق E ولسانه وقدمه ونفسه بعد خروجه من السجن لما قبض نفسه عن الحرام وقال عبدالرحمن بن مهدي رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام فقلت له ما فعل الله بك قال لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت
بين يدي الله تبارك وتعالى فحاسبني حسابا يسيرا ثم أمر بي إلى الجنة فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حسا ولا حركة إذ سمعت قائلا يقول سفيان بن سعيد فقلت سفيان بن سعيد فقال تحفظ أنك آثرت الله تعالى على هواك يوما قلت إي والله فأخذني النثار من كل جانب وقال عبدالرزاق بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة وقال إن رأتم سفيان فاصلبوه فجاءوا ونصبوا الخشب وطلب ورأسه في حجر الفضيل فقال له أصحابه اتق الله تعالى ولا تشمت بنا الأعداء فتقدم إلى الأستار ثم أخذها بيده وقال برئت منه إن دخلها أبو جعفر فمات قبل أن يدخل مكة فتأمل عاقبة مخالفة الهوى كيف أقامه في هذا المقام التاسع والأربعون أن مخالفة الهوى توجب شرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الظاهر وعز الباطن ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة وتذله في الظاهر وفي الباطن وإذا جمع الله الناس في صعيد واحد نادى مناد ليعلمن أهل الجمع من أهل الكرم اليوم ألا ليقم المتقون فيقومون إلى محل الكرامة وأتباع الهوى ناكسو رؤسهم في الموقف في حر الهوى وعرقه وألمه وأولئك في ظل العرش الخمسون أنك إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه والشاب المؤثر
لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله تعالى وخالف هواه والذي ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى فالله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسوء وأن يجعل هوانا تبعا لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير تم الكتاب والحمد لله