مكتبة العلوم الشاملة

false EN-GB X-NONE AR-SA ath"/>

مكتبة العلوم الشاملة

https://sluntt.blogspot.com/

 

السبت، 12 فبراير 2022

رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية عند مداهمة التتار لأرض المسلمين ابن تيمية

رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية عند مداهمة التتار لأرض المسلمين  ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم تسليما.

أما بعد:

فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }، والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله: { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا }

فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام: قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم، على عهد رسول الله ﷺ في المغازي التي أنزل الله فيها كتبه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين: مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة ؛ فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد ﷺ يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي أو بالعموم المعنوي.

وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها، وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى } أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة، وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: { فأخذه الله نكال الأخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى }.

وقال في سيرة نبينا محمد ﷺ مع أعدائه ببدر وغيرها: { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }، وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع: أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة، فقال تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وقال تعالى: { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا }.

وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين، كدأب الكافرين من المستقدمين، فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الأسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الأيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء، وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والأخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والأيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق، وضعف إيمان ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى، ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه ؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الأيمان والعمل الصالح والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال، يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم، فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه، فاتخذ مع الرسول سبيلا، وبان صدق ما جاءت به الأثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة، على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى يوم القيامة.

حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الأسلام، وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور، وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }.

ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله تعالى بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولا، ثم إيجابا له ثانيا ؛ لما هاجر إلى المدينة، وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه ﷺ مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين: بضعا وعشرين غزوة، أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك: أنزل الله في أول مغازيه ( سورة الأنفال ) وفي آخرها ( سورة براءة )، وجمع بينهما في المصحف ؛ لتشابه أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان: لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة.

وكان القتال منها في تسع غزوات، فأول غزوات القتال: بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته كما أخبر به القرآن ؛ ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول، وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا ؛ فإن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة شامي مكة، وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة، وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة، ثم قسم النبي ﷺ غنائمها بالجعرانة واعتمر من الجعرانة، ثم حاصر الطائف، فلم يقاتله أهل الطائف زحفا وصفوفا، وإنما قاتلوه من وراء جدار، فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا: هي غزوة حنين.

وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم ؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد، وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء، فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة، وفيها النبي ﷺ وأصحابه، فخرج إليهم النبي ﷺ وأصحابه في نحو من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة ثم ينقلوهم إلي موضع آخر، وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار، فانهزم عامة عسكر المسلمين، إلا نفرا قليلا حول النبي ﷺ منهم من قتل ومنهم من جرح، وحرصوا على قتل النبي ﷺ، حتى كسروا رباعيته، وشجوا جبينه، وهشموا البيضة على رأسه، وأنزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال }، وقال فيها: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم }، وقال فيها: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين }، وقال فيها: { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير }.

وكان الشيطان قد نعق في الناس: أن محمدا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب، ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }.

وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة: من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والأعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعا في الدخول في الإسلام، وكان مبتدئا في الأيمان والأمان، وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الأيمان، فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ؛ ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام، فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم - الذي هو على الحال المذكورة - لاوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين ؛ فإن النبي ﷺ قال: « لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ».

فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة - وقيل بسنتين - قد ابتلي المسلمون عام الخندق، كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي ﷺ عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها ( سورة الأحزاب )، وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده ﷺ وأعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب - الذين تحزبوا عليه - وحده بغير قتال ؛ بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم، ذكر فيها خصائص رسول الله ﷺ وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته ؛ لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال، كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء، وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق.

وذلك أن الله تعالى منذ بعث محمدا ﷺ، وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام: قسما مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسما كفارا، وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسما منافقين، وهم الذين آمنوا ظاهرا لا باطنا، ولهذا افتتح ( سورة البقرة ) بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة آية في صفة المنافقين، وكل واحد من الأيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه في الأيمان ودعائمه وشعبه.

فمن النفاق ما هو أكبر ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار ؛ كنفاق عبد الله بن أبي وغيره ؛ بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله ﷺ وما زال بعده ؛ بل هو بعده أكثر منه على عهده ؛ لكون موجبات الأيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها - وكان النفاق معها موجودا - فوجوده فيما دون ذلك أولى.

وكما أنه ﷺ كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم، كما بينه قوله: { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } كذلك خلفاؤه بعده وورثته: قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمون ( الزنادقة )، وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم في الظاهر ؛ لكون ذلك لا يعلم إذ هم دائما يظهرون الإسلام، وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة: من المنجمين ونحوهم، ثم في الأطباء، ثم في الكتاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة والمتفقهة، وفي المقاتلة والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع ؛ لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والأسماعيلية والنصيرية، ونحوهم من المنافقين الزنادقة: منتسبة إلى الرافضة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار ؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام ؛ بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء والسبي ؛ لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر.

وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها: مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن، أو يفجر إذا خاصم، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان »، وفي رواية صحيحة: « وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ».

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ».

ومن هذا الباب: الأعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، قال النبي ﷺ: « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق » رواه مسلم، وقد أنزل الله ( سورة براءة ) التي تسمى الفاضحة ؛ لأنها فضحت المنافقين، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل: « ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها ».

وعن المقداد بن الأسود قال: « هي سورة البحوث ؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين »، وعن قتادة قال: « هي المثيرة ؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين »، وعن ابن عباس قال: « هي المبعثرة »، والبعثرة والأثارة متقاربان، وعن ابن عمر: « أنها المقشقشة، لأنها تبرئ من مرض النفاق »، يقال: تقشقش المريض إذا برأ: قال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الأخلاص: المقشقشتان ؛ لأنهما يبرئان من النفاق.

وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي ﷺ غزوة تبوك عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام وظهر، فكشف الله فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد، ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال، وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل، قال النبي ﷺ: « شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع » حديث صحيح ؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }.

وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون }، فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم ؛ ولكن يفزعون من العدو: { لو يجدون ملجأ } يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد، أو ( مغارات وهي جمع مغارة، ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر ؛ كما يغور الماء: { أو مدخلا }، وهو الذي يتكلف الدخول إليه، إما لضيق بابه أو لغير ذلك، أي مكانا يدخلون إليه، ولو كان الدخول بكلفة ومشقة: لولوا عن الجهاد { إليه وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام، وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا، وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.

وكذلك قال في ( سورة محمد ) ﷺ: { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } أي فبعدا لهم: { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم }، وقال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد.

وقال تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الأخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون }، فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد ؛ وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن، فكيف بالتارك من غير استئذان.

ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى، وقال في وصفهم بالشح: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }، فهذه حال من أنفق كارها، فكيف بمن ترك النفقة رأسا، وقال: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون }، وقال: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون }، وقال في السورة: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } فانتظمت هذه الأية حال من أخذ المال بغير حقه، أو منعه من مستحقه من جميع الناس ؛ فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد، وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون، يقال: صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا، وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل: من وقف أو عطية على الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك، فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين، ثم قال: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله }، فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله، والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله، سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك، وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب، فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها: مصالحهم - أولى وأحرى.

فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق، فإذا قرأ الأنسان ( سورة الأحزاب )، وعرف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي: كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك: وجد مصداق ما ذكرنا، وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة، كما انقسموا في تلك، وتبين له كثير من المتشابهات، افتتح الله السورة بقوله: { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين }، وذكر في أثنائها قوله: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا. ولا تطع الكافرين والمنافقين }، ثم قال: { واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا. وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }، فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة - التي هي سنته - وبأن يتوكل على الله، فبالأولى يحقق قوله: { إياك نعبد }، وبالثانية يحقق قوله: { وإياك نستعين }، ومثل ذلك قوله: { فاعبده وتوكل عليه }، وقوله: { عليه توكلت وإليه أنيب }.

وهذا وإن كان مأمورا به في جميع الدين ؛ فإن ذلك في الجهاد أوكد ؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين ؛ وذلك لا يتم إلا بتأييد قوي من الله ؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة كما في قوله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } وفيه سنام التوكل وسنام الصبر ؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ؛ ولهذا قال تعالى: { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } و قال موسى لقومه: { استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }، ولهذا كان الصبر واليقين - اللذين هما أصل التوكل - يوجبان الأمامة في الدين كما دل عليه قوله تعالى: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }، ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }.

فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى ؛ ولهذا قال الأمامان عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم ؛ لأن الله يقول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }، وفي الجهاد أيضا: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضا: حقيقة الأخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الأخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون }، والجنة: اسم للدار التي حوت كل نعيم، أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله ﷺ: « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».

فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا، ثم إنه تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } كان مختصر القصة: أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاءوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بني أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد، واجتمعت أيضا اليهود: من قريظة والنضير، فإن بني النضير كان النبي ﷺ قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله تعالى في ( سورة الحشر )، فجاءوا في الأحزاب إلى قريظة، وهم معاهدون للنبي ﷺ، ومجاورون له قريبا من المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا في الأحزاب، فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة، فرفع النبي ﷺ الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة، وهي مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر، وجعل ظهرهم إلى سلع - وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام - وجعل بينه وبين العدو خندقا، والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة، وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات.

وفي هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغول، وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الأقدام والأحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين، ودام الحصار على المسلمين عام الخندق - على ما قيل - بضعا وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الأخر، وكان أول انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه: يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم: ألقى الله في قلوب عدوهم الروع والانصراف، وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها }.

وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات، حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك ؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو ؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضا منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا: أعدونا في الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم ؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم ؛ لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة، وقال الله في شأن الأحزاب: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }.

وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما، وبلغت القلوب الحناجر ؛ لعظم البلاء ؛ لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن إنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا - إذا أحسن ظنه - قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم.

وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الأثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات، أماني كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم، وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الأرادات ؛ لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء ؛ بل إما أن يكون جاهلا بها، وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية، فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء، وتراجمت به الأراء تراجم الصبيان بالحصباء: { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات ما استوجبوا به أعلى الدرجات، قال الله تعالى: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا }.

وهكذا قالوا في هذه الفتنة، فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عنه، حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله ﷺ، كما قال الله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }.

فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم، وأما الذين في قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة، فذكروا هنا وفي قوله: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة }، وفي قوله: { فيطمع الذي في قلبه مرض } وذكر الله مرض القلب في مواضع، فقال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم }، والمرض في القلب كالمرض في الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته، وذلك - كما فسروه -: هو من ضعف الأيمان ؛ إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته، فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع ؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك كلها أمراض.

وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التي فيه، وعلى هذا فقول: { فيطمع الذي في قلبه مرض } هو إرادة الفجور وشهوة الزنا كما فسروه به، ومنه قول النبي ﷺ: « وأي داء أدوأ من البخل ؟ »، وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء لما في الصدور، وقال النبي ﷺ: « إنما شفاء العي السؤال »، وكان يقول في دعائه: « اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء »، ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: لو صححت لم تخف أحدا، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.

ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان ؛ بل لا يخافون غيره تعالى فقال: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي يخوفكم أولياءه، وقال لعموم بني إسرائيل تنبيها لنا: { وإياي فارهبون }، وقال: { فلا تخشوا الناس واخشون }، وقال: { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني }، وقال تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون }، وقال: { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله }، وقال: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله }، وقال: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه }.

فدلت هذه الأية - وهي قوله تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض }، على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة، التي توجب أمن الأنسان: من الخوف حتى يظنوا أنها كانت غرورا لهم، كما وقع في حادثتنا هذه سواء، ثم قال تعالى: { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا }، وكان النبي ﷺ قد عسكر بالمسلمين عند سلع، وجعل الخندق بينه وبين العدو، فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا ؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة، وقيل: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك، وقيل: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.

وهكذا لما قدم هذا العدو، كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغي الدخول في دولة التتار، وقال بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن ؛ بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول تحت حكمهم، فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك، وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض، ونفي المقام بها أبلغ من نفي المقام، وإن كانت قد قرئت بالضم أيضا، فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان فكيف يقيم به ؟.

قال الله تعالى: { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }، وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون - والناس مع النبي ﷺ عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة -: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل، - وأصل العورة: الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر، يقال: اعور مجلسك إذا ذهب ستره أو سقط جداره، ومنه عورة العدو -، وقال مجاهد والحسن: أي ضائعة تخشى عليها السراق، وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو، فلا نأمن على أهلنا فائذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان، قال الله تعالى: { وما هي بعورة } ؛ لأن الله يحفظها { إن يريدون إلا فرارا }، فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة.

وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة، صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله ﷺ، وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله ؟ قال الله تعالى: { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا }، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها، ثم طلبت منهم الفتنة - وهي الافتتان عن الدين بالكفر أو النفاق - لاعطوا الفتنة، ولجئوها من غير توقف.

وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم، ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام - وتلك فتنة عظيمة - لكانوا معه على ذلك، كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا ما بين ترك واجبات وفعل محرمات، إما في حق الله وإما في حق العباد، كترك الصلاة وشرب الخمور، وسب السلف وسب جنود المسلمين والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم، وأخذ أموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من أنواع الفتنة، ثم قال تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا في هذه الغزوة، فإن في العام الماضي وفي هذا العام: في أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر ثم فر منهزما لما اشتد الأمر.

ثم قال الله تعالى: { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا }، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل، فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون، ولذلك قال النبي ﷺ: « إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه » والفرار من القتل كالفرار من الجهاد، وحرف ( لن ) ينفي الفعل في الزمن المستقبل، والفعل نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم جميع أفرادها، فاقتضى ذلك: أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدا، وهذا خبر الله الصادق، فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله في خبره.

والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن، فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم ؛ بل خسروا الدين والدنيا وتفاوتوا في المصائب، والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدين والدنيا حتى الموت الذي فروا منه كثر فيهم، وقل في المقيمين، فما منع الهرب من شاء الله، والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد ولا قتل ؛ بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون، وهكذا سنة الله قديما وحديثا.

ثم قال تعالى: { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون، فإن الموت لا بد منه، وقد حكي عن بعض الحمقى أنه قال: فنحن نريد ذلك القليل، وهذا جهل منه بمعنى الأية، فإن الله لم يقل: إنهم يمتعون بالفرار قليلا، لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدا، ثم ذكر جوابا ثانيا، أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل، ثم ذكر جوابا ثالثا وهو أن الفار يأتيه ما قضي له من المضرة، ويأتي الثابت ما قضي له من المسرة، فقال: { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }، ونظيره: قوله في سياق آيات الجهاد: { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }، الآية وقوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير }.

فمضمون الأمر: أن المنايا محتومة، فكم من حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد - لما احتضر -: « لقد حضرت كذا وكذا صفا، وأن ببدني بضعا وثمانين، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ».

ثم قال تعالى: { قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا }، قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم، يثبطونهم عن القتال، وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدا، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فانصرف بعضهم من عند النبي ﷺ، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ، فقال: أنت ههنا ورسول الله ﷺ بين الرماح والسيوف ؟ فقال: هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك.

فوصف المثبطين عن الجهاد - وهم صنفان - بأنهم:

إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما، وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم: بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد، كما جرى في هذه الغزاة، فإن أقواما في العسكر والمدينة وغيرهما، صاروا يعوقون من أراد الغزو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا قال الله تعالى فيهم: { ولا يأتون البأس إلا قليلا. أشحة عليكم }، أي بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله، وقال مجاهد: بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة، وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله: من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره، فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله، وهم الحساد.

ثم قال تعالى: { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت }، من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف، فكذلك هؤلاء ؛ لأنهم يخافون القتل: { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد }، ويقال في اللغة ( صلقوكم ): وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي، ومنه ( الصالقة ): وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة، يقال: صلقه وسلقه، وقد قرأ طائفة من السلف بها ؛ لكنها خارجة عن المصحف - إذا خاطبه خطابا شديدا قويا، ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغا في خطبته ؛ لكن الشدة هنا في الشر لا في الخير، كما قال { بألسنة حداد أشحة على الخير } وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه: تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم ؛ فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم ؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.

وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا، وتارة يقولون - أنتم مع قلتكم وضعفكم - تريدون أن تكسروا العدو وقد غركم دينكم، كما قال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم }، وتارة يقولون: أنتم مجانين لا، عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم، وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم، قال قتادة: إن كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا فلستم بأحق بها منا، فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند الغنيمة فأشح قوم.

وقيل: أشحة على الخير أي بخلاء به، لا ينفعون لا بنفوسهم ولا بأموالهم، وأصل الشح: شدة الحرص الذي يتولد عنه البخل والظلم: من منع الحق وأخذ الباطل، كما قال النبي ﷺ: « إياكم والشح ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا »، فهؤلاء أشحاء على إخوانهم: أي بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير أي حراص عليه، فلا ينفقونه، كما قال: { وإنه لحب الخير لشديد }.

ثم قال تعالى: { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا }، فوصفهم بثلاثة أوصاف:

أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن، الوصف.

الثاني: أن الأحزاب إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم ؛ بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: إيش خبر المدينة ؟ وإيش جرى للناس ؟.

والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا - وهم فيكم - لم يقاتلوا إلا قليلا.

وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة، كما يعرفونه من أنفسهم ويعرفه منهم من خبرهم.

ثم قال تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا }، فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلي رسول الله ﷺ، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه، فليتأسوا به في التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له، فإنه لو كان كذلك ما ابتلي بها رسول الله ﷺ خير الخلائق ؛ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابا، كالكفار والمنافقين.

ثم قال تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }، قال العلماء: كان الله قد أنزل في سورة البقرة: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }، فبين الله سبحانه - منكرا على من حسب خلاف ذلك - أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم ب ( البأساء ): وهي الحاجة والفاقة، و ( الضراء ): وهي الوجع والمرض، و ( الزلزال ): وهي زلزلة العدو، فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا: { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال، وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما لحكم الله وأمره، وهذه حال أقوام في هذه الغزوة: قالوا ذلك.

وكذلك قوله: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه }، أي: عهده الذي عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل أو عاش، و ( النحب ): النذر والعهد، وأصله من النحيب، وهو الصوت، ومنه: الانتحاب في البكاء، وهو الصوت الذي تكلم به في العهد، ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق في اللقاء - ومن صدق في اللقاء فقد يقتل - صار يفهم من قوله: { قضى نحبه } أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب: نذر الصدق في جميع المواطن ؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت، وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه } أي أكمل الوفاء، وذلك لمن كان عهده مطلقا: بالموت أو القتل، { ومنهم من ينتظر } قضاءه إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد.

وأصل القضاء: الأتمام والأكمال: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }، بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا في إيمانهم، كما قال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }، فحصر الأيمان في المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: آمنا ؛ لا من قال كما قالت الأعراب: آمنا والأيمان لم يدخل في قلوبهم ؛ بل انقادوا واستسلموا.

وأما المنافقون فهم بين أمرين:

إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم، فهذا حال الناس في الخندق وفي هذه الغزاة، وأيضا فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة ؛ ليجزي الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم، ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين ؛ فإن منهم من ندم، والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها،

وقد ذكر أهل المغازي - منهم ابن إسحاق - أن النبي ﷺ قال في الخندق: « الأن نغزوهم ولا يغزونا »، فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها ؛ بل غزاهم المسلمون: ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة.

كذلك - إن شاء الله - هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا، ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم بالإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم، فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار كما قال: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }.

فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا: ريح شديدة باردة، وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرا، إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم، وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة، وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه، فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل: سبب رحيلهم، وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله، وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه، وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب: يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه.

فلما ثبت الله قلوب المسلمين، صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار، وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغول والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا، كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود، كما ذكر ذلك أهل المغازي، فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي، مثل عروة بن الزبير والزهري وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ ومحمد بن إسحاق والواقدي وغيرهم.

ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك، وثبت المسلمون بإزائهم، وكانوا أكثر من المسلمين بكثير ؛ لكن في ضعف شديد وتقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى، فلم يقدموا على المسلمين قط، وصار من المسلمين من يريد الأقدام عليهم فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق، حيث قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامري، لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين، كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين، وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم، وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات، فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات، وبعضهم في جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم ؛ وأصاب المسلمون بعضهم، وقيل: إنه غرق بعضهم.

وكان عبورهم وخلو الشام منهم في أوائل رجب بعد أن جرى - ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور، رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة ؛ لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا، وثبت بإزائهم المقدم الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما، وقد قيل: إنهم كانوا عدة كمانات ؛ إما ثلاثة أو أربعة.

فكان من المقدر: أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقي في قلوب عدوهم الرعب، فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل ( تيزين ) و ( الفوعة ) و ( معرة مصرين ) وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي، وقيل: إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ؛ بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم ؛ لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلي به، والله تعالى يقول: { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون }، وقد ظاهروهم على المسلمين: الذين كفروا من أهل الكتاب من أهل ( سيس ) والأفرنج، فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم، وهي الحصون - ويقال للقرون: الصياصي - ويقذف في قلوبهم الرعب، وقد فتح الله تلك البلاد، ونغزوهم إن شاء الله تعالى، فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه.

فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس، وخرجت عن سنن العادة، وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم وكر العدو كرة فلم يلو عن،، وخذل الناصرون فلم يلووا على، وتحير السائرون فلم يدروا من..، ولا إلى..، وانقطعت الأسباب الظاهرة، وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق، فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الأيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم.

(والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. )

قال الشيخ رحمه الله كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر في جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد، ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالأهتمام بجهادهم وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم، فكتبته في رجب والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
تصنيف:
رسالة ابن تيمية عند مداهمة التتار أرض المسلمين

مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في الحقيقة والمجاز لابن تيمية

مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في الحقيقة والمجاز
فصل في الحقيقة والمجاز

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه -

قال أبو الحسن الآمدي في إحكامه: 
 
2.المسألة الثانية: اختلف الأصوليون في اشتمال اللغة على الأسماء المجازية؛ فنفاه الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه؛ يعني أبا إسحاق الإسفراييني وأثبته الباقون وهو الحق.
 
 
= قلت الكلام في شيئين:
1. أحدهما: في تحرير هذا النقل؛ 
 
2.والثاني في النظر في أدلة القولين. 
 
 
1. أما الأول فيقال: إن أراد بالباقين من الأصوليين كل من تكلم في أصول الفقه من السلف والخلف فليس الأمر كذلك؛ فإن الكلام في أصول الفقه وتقسيمها إلى: الكتاب؛ والسنة؛ والإجماع{؟؟}؛ واجتهاد الرأي{؟؟}؛ والكلام في وجه دلالة الأدلة الشرعية على الأحكام: أمر معروف من زمن أصحاب محمد ﷺ والتابعين لهم بإحسان؛ ومن بعدهم من أئمة المسلمين وهم كانوا أقعد بهذا الفن وغيره من فنون العلم الدينية ممن بعدهم
 
 = وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شريح: اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله ﷺ فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس وفي لفظ فبما قضى به الصالحون؛ فإن لم تجد فإن شئت أن تجتهد رأيك. وكذلك قال ابن مسعود وابن عباس وحديث معاذ من أشهر الأحاديث عند الأصوليين.

وإن كان مقصوده بالأصولي من يعرف أصول الفقه وهي أدلة الأحكام الشرعية على طريق الإجمال؛ بحيث يميز بين الدليل الشرعي وبين غيره؛ ويعرف مراتب الأدلة؛ فيقدم الراجح منها وهذا هو موضوع أصول الفقه؛ فإن موضوعه معرفة الدليل الشرعي ومرتبته فكل مجتهد في الإسلام فهو أصولي؛ إذ معرفة الدليل الشرعي ومرتبته بعض ما يعرفه المجتهد ولا يكفي في كونه مجتهدا أن يعرف جنس الأدلة بل لا بد أن يعرف أعيان الأدلة ومن عرف أعيانها وميز بين أعيان الأدلة الشرعية وبين غيرها كان بجنسها أعرف كمن يعرف أن يميز بين أشخاص الإنسان وغيرها فالتمييز بين نوعها لازم لذلك؛ إذ يمتنع تمييز الأشخاص بدون تمييز الأنواع.

وأيضا فالأصوليون يذكرون في مسائل أصول الفقه مذاهب المجتهدين كمالك؛ والشافعي؛ والأوزاعي؛ وأبي حنيفة؛ وأحمد بن حنبل وداود ومذهب أتباعهم بل هؤلاء ونحوهم هم أحق الناس بمعرفة أصول الفقه؛ إذ كانوا يعرفونها بأعيانها ويستعملون الأصول في الاستدلال على الأحكام بخلاف الذين يجردون الكلام في أصول مقدرة بعضها وجد وبعضها لا يوجد من غير معرفة أعيانها فإن هؤلاء لو كان ما يقولونه حقا فهو قليل المنفعة أو عديمها؛ إذ كان تكلما في أدلة مقدرة في الأذهان لا تحقق لها في الأعيان كمن يتكلم في الفقه فيما يقدره من أفعال العباد وهو لا يعرف حكم الأفعال المحققة منه فكيف وأكثر ما يتكلمون به من هذه المقدرات فهو كلام باطل.

وإذا كان اسم الأصوليين يتناول المجتهدين المشهورين المتبوعين كالأئمة الأربعة؛ والثوري؛ والأوزاعي والليث بن سعد؛ وإسحاق بن راهويه؛ وغيرهم. وإن كان مقصود الأصوليين من جرد الكلام في أصول الفقه عن الأدلة المعينة كما فعله الشافعي وأحمد بن حنبل ومن بعدهما، وكما فعله عيسى بن أبان ونحوه، وكما فعله المصنفون في أصول الفقه من الفقهاء والمتكلمين: فمعلوم أن أول من عرف أنه جرد الكلام في أصول الفقه هو الشافعي، وهو لم يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، بل لا يعرف في كلامه مع كثرة استدلاله وتوسعه ومعرفته الأدلة الشرعية أنه سمى شيئا منه مجازا ولا ذكر في شيء من كتبه ذلك؛ لا في الرسالة ولا في غيرها.

وحينئذ فمن اعتقد أن المجتهدين المشهورين وغيرهم من أئمة الإسلام وعلماء السلف قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز كما فعله طائفة من المتأخرين: كان ذلك من جهله وقلة معرفته بكلام أئمة الدين وسلف المسلمين. كما قد يظن طائفة أخرى أن هذا مما أخذ من الكلام العربي توقيفا وأنهم قالوا: هذا حقيقة وهذا مجاز، كما ظن ذلك طائفة من المتكلمين في أصول الفقه وكان هذا من جهلهم بكلام العرب كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وكما يظن بعضهم أن ما يوجد في كلام بعض المتأخرين كالرازي والآمدي وابن الحاجب: هو مذهب الأئمة المشهورين وأتباعهم ولا يعرف ما ذكره أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أصول الفقه الموافق لطريق أئمتهم فهذا أيضا من جهله وقلة علمه.

وإن قال الناقل عن كثير من الأصوليين: مرادي بذلك أكثر المصنفين في أصول الفقه من أهل الكلام والرأي كالمعتزلة والأشعرية وأصحاب الأئمة الأربعة فإن أكثر هؤلاء قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز. قيل له: لا ريب أن هذا التقسيم موجود في كتب المعتزلة ومن أخذ عنهم وشابههم وأكثر هؤلاء ذكروا هذا التقسيم وأما من لم يكن كذلك فليس الأمر في حقه كذلك.

ثم يقال: ليس في هؤلاء إمام من أئمة المسلمين الذين اشتغلوا بتلقي الأحكام من أدلة الشرع ولهذا لا يذكر أحد من هؤلاء في الكتب التي يحكي فيها أقوال المجتهدين ممن صنف كتابا وذكر فيه اختلاف المجتهدين المشتغلين بتلقي الأحكام عن الأدلة الشرعية وهم أكمل الناس معرفة بأصول الفقه وأحق الناس بالمعنى الممدوح من اسم الأصولي فليس من هؤلاء من قسم الكلام إلى الحقيقة والمجاز.

وإن أراد من عرف بهذا التقسيم من المتأخرين المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن سلك طريقتهم من ذلك من الفقهاء.

قيل له: لا ريب أن أكثر هؤلاء قسموا هذا التقسيم لكن ليس فيهم إمام في فن من فنون الإسلام لا التفسير ولا الحديث ولا الفقه ولا اللغة ولا النحو بل أئمة النحاة أهل اللغة كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء وأمثالهم وأبي عمرو بن العلاء وأبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وغيرهم: لم يقسموا تقسيم هؤلاء.
فصل

وأما المقام الثاني ففي أدلة القولين. قال الآمدي: حجة المثبتين أنه قد ثبت إطلاق أهل اللغة اسم الأسد على الإنسان الشجاع؛ والحمار على الإنسان البليد؛ وقولهم ظهر الطريق ومتنها؛ وفلان على جناح السفر؛ وشابت لمة الليل؛ وقامت الحرب على ساق؛ وكبد السماء وغير ذلك. وإطلاق هذه الأسماء لغة مما لا ينكر إلا عن عناد. وعند ذلك فإما أن يقال: هذه الأسماء حقيقة في هذه الصورة أو مجازية؛ لاستحالة خلو هذه الأسماء اللغوية عنها ما سوى الوضع الأول كما سبق تحقيقه لا جائز أن يقال: بكونها حقيقة فيها؛ لأنها حقيقة فيما سواه بالاتفاق فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع؛ والحمار في البهيمة والظهر والمتن والساق والكبد في الأعضاء المخصوصة بالحيوان؛ واللمة في الشعر إذا جاوز الأذن.

وعند ذلك فلو كانت هذه الأسماء حقيقة فيما ذكر من الصورلكان اللفظ مشتركا، ولو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند إطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوي في الأدلة الحقيقية.

ولا شك أن السابق إلى الفهم من إطلاق لفظ الأسد إنما هو السبع، ومن إطلاق لفظ الحمار إنما هو البهيمة، وكذلك في باقي الصور. كيف وأن أهل الأعصار لم تزل تتناقل في أقوالها وكتبها عن أهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازا؟ فإن قيل: لو كان في لغة العرب لفظ مجازي فإما أن يقيد معناه بقرينة؛ أو لا يقيد بقرينة. فإن كان الأول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك المعنى فكان مع القرينة حقيقة في ذلك المعنى وإن كان الثاني فهو أيضا حقيقة؛ إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستعملا بالإفادة من غير قرينة. وأيضا فإنه ما من صورة من الصور إلا ويمكن أن يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها فاستعمال اللفظ المجازي فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة والبلاغة في وضعهم. قلنا: الجواب عن الأول أن المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة إلا بقرينة، ولا معنى للمجاز سوى هذا النوع في ذلك اللفظي. كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية؛ فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع.

وجواب ثان: أن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقة قد يكون لاختصاصه بالخفة على اللسان، أو لمساعدته على وزن الكلام نظما ونثرا، أو للمطابقة والمجانسة والسجع، وقصد التعظيم، والعدول عن الحقيقي للتحقير، إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام. هذا كلام أبي الحسن الآمدي في كتابه الكبير وهو أجل كتب المتأخرين الناصرين لهذا الفرق.

والجواب عن هذه الحجة من وجوه:

أحدها: أن يقال ما ذكرته من الاستعمال غير ممنوع لكن قولك إن هذه الأسماء إما أن تكون حقيقية أو مجازية: إنما يصح إذا ثبت انقسام الكلام إلى الحقيقة والمجاز وإلا فمن ينازعك ويقول لك: لم تذكر حدا فاصلا معقولا بين الحقيقة والمجاز يتميز به هذا عن هذا؛ وأنا أطالبك بذكر هذا الفرق بين النوعين. أو يقول: ليس في نفس الأمر بينهما فرق ثابت. أو يقول: أنا لا أثبت انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز إما لمانع عقلي أو شرعي أو غير ذلك. أو يقول: لم يثبت عندي انقسام الكلام إلى هذا وهذا؛ وجواز ذلك في اللغة والشرع والعقل ونحو ذلك من الأقوال: ليس لك أن تحتج عليه بقولك: إما أن تكون حقيقية أو مجازية؛ إذ دخول هذه الألفاظ في أحد النوعين فرع ثبوت التقسيم فلو أثبت التقسيم بهذا كان دورا؛ فإنه لا يمكن أن يقال: إن هذه من أحد القسمين دون الآخر إلا إذا أثبت أن هناك قسمين لا ثالث لهما وأنه لا يتناول شيء من أحدهما شيئا من الآخر؟ وهذا محل النزاع؛ فكيف تجعل محل النزاع مقدمة في إثبات نفسه وتصادر على المطلوب؟ فإن ذلك أثبت الشيء بنفسه فلم تذكر دليلا وهذا أثبت الأصل بفرعه الذي لا يثبت إلا به فهذا التطويل أثبت غاية المصادرة على المطلوب.

الوجه الثاني: أن يقال: من الناس القائلين بالحقيقة والمجاز من جعل بعض الكلام حقيقة ومجازا فوصف اللفظ الواحد بأنه حقيقة ومجاز كألفاظ العموم المخصوصة؛ فإن كثيرا من الناس قال: هي حقيقة باعتبار دلالتها على ما بقي؛ وهي مجاز باعتبار سلب دلالتها على ما أخرج. وعند هؤلاء: الكلام إما حقيقة؛ وإما مجاز؛ وإما حقيقة ومجاز.

الوجه الثالث: أنك أنت وطائفة كالرازي ومن اتبعه كابن الحاجب، يقولون: إن الألفاظ قبل استعمالها وبعد وضعها ليست حقيقة ولا مجازا، أو المجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له؛ وحينئذ فهذه الألفاظ كقولهم: ظهر الطريق؛ وجناح السفر؛ ونحوها: إن لم يثبتوا أنها وضعت لمعنى ثم استعملت في غيره لم يثبت أنها مجاز وهذا مما لا سبيل لأحد إليه؛ فإنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب أنها وضعت هذه الألفاظ لغير هذه المعاني المستعملة فيها. فإن قالوا: قد قالوا: جناح الطائر وظهر الإنسان وتكلموا بلفظ الظهر والجناح وأرادوا به ظهر الإنسان وجناح الطائر.

قيل لهم: هذا لا يقتضي أنهم وضعوا جناح السفر وظهر الطريق، بل هذا استعمل مضافا إلى غير ما أضيف إليه ذاك؛ إن كان ذلك مضافا. وإن لم يكن ذلك مضافا فالمضاف ليس هو مثل المعرف الذي ليس بمضاف؛ فاللفظ المعرف والمضاف إلى شيء ليس هو مثل اللفظ المضاف إلى شيء آخر فإذا قال: الجناح والظهر؛ وقيل: جناح الطائر وظهر الإنسان: فليس هذا وهذا مثل لفظ جناح السفر وظهر الطريق؛ وجناح الذل. كذلك إذا قيل: رأس الطريق وظهره ووسطه وأعلاه وأسفله كان ذلك مختصا بالطريق؛ وإن لم يكن ذلك مماثلا كرأس الإنسان وظهره ووسطه وأعلاه وأسفله وكذلك أسفل الجبل وأعلاه هو مما يختص به وكذلك سائر الأسماء المضافة يتميز معناه بالإضافة ومعلوم أن اللفظ المركب تركيب مزج أو إسناد أو إضافة ليس هو من لغتهم كاللفظ المجرد عن ذلك لا في الإعراب ولا في المعنى.

بل يفرقون بينهما في النداء والنفي فيقولون: يا زيد، ويا عمرو بالضم كقوله: يا آدم ويا نوح، ويقولون في المضاف وما أشبهه: يا عبد الله يا غلام زيد كقوله: يا بني آدم يا بني إسرائيل، ويا أهل الكتاب، ويا أهل يثرب، ويا قومنا أجيبوا داعي الله، ونحو ذلك في المضاف المنصوب. وكذلك في تركيب المزج فليس قولهم: خمسة كقولهم: خمسة عشر بل بالتركيب يغير المعنى.

وإذا كان كذلك فلو قال القائل: الخمسة حقيقة في الخمسة؛ وخمسة عشر مجاز: كان جاهلا؛ لأن هذا اللفظ ليس هو ذلك وإن كان لفظ الخمسة موجودا في الموضعين؛ لأنها ركبت تركيبا آخر وجنس هذا التركيب موضوع كما أن جنس الإضافة موضوع.

وكذلك قولهم: جناح السفر والذل، وظهر الطريق تركيب آخر أضيف فيه الاسم إلى غير ما أضيف إليه في ذلك المكان، فليس هذا كالمجرد مثل الخمسة؛ ولا كالمقرون بغيره كلفظ الخمسة والعشرين، وهذا المعنى يقال في:

الوجه الرابع: وهو أنه سواء ثبت وضع متقدم على الاستعمال؛ أو كان المراد بالوضع هو ما عرف من الاستعمال: فعلى التقديرين هذا اللفظ المضاف لم يوضع ولم يستعمل إلا في هذا المعنى، ولا يفهم منه غيره، بل ولا يحتمل سواه ولا يحتاج في فهم المراد به إلا قرينة معنوية غير ما ذكر في الإضافة بل دلالة الإضافة على معناه كدلالة سائر الألفاظ المضافة فكل لفظ أضيف إلى لفظ دل على معنى يختص ذلك المضاف إليه فكما إذا قيل: يد زيد ورأسه؛ وعلمه ودينه؛ وقوله وحكمه وخبره: دل على ما يختص به وإن لم يكن دين زيد مثل دين عمرو؛ بل دين هذا الكفر ودين هذا الإسلام ولا حكمه مثل حكمه؛ بل هذا الحكم بالجور وهذا الحكم بالعدل ولا خبره مثل خبره؛ بل خبر هذا صدق وخبر هذا كذب وكذلك إذا قيل: لون هذا ولون هذا كان لون كل منهما يختص به وإن كان هذا أسود وهذا أبيض. فقد يكون اللفظ المضاف واحدا مع اختلاف الحقائق في الموضعين؛ كالسواد والبياض وإنما يميز اللون أحدهما عن الآخر بإضافته إلى ما يميزه. فإن قيل: لفظ الكون والدين والخبر ونحو ذلك عند الإطلاق يعم هذه الأنواع؛ فكانت عامة؛ وتسمى متواطئة؛ بخلاف لفظ الرأس والظهر والجناح فإنها عند الإطلاق إنما تنصرف إلى أعضاء الحيوان.

قيل: فهب أن الأمر كذلك: أليست بالإضافة اختصت؟ فكانت عامة مطلقة ثم تخصصت بالإضافة أو التعريف فهي من باب اللفظ العام إذا خص بإضافة أو تعريف. وتخصيصه بذلك كتخصيصه بالصفة والاستثناء؛ والبدل والغاية كما يقال: اللون الأحمر والخبر الصادق أو قيل: ألف إلا خمسين فقد تغيرت دلالتها بالإطلاق والتقييد. ثم إنه في كلا الموضعين لم يستعمل اللفظ المعين في غير ما استعمل فيه أولا فإن النبي ﷺ لما قال: «رأس الأمر الإسلام؛ وعموده الصلاة: وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» وقال: «وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» قد أضاف الرأس إلى الأمر، وهذا اللفظ لم يستعمل في رأس الحيوان. وكذلك إذا قالوا: رأس المال؛ والشريكان يقتسمان ما يفضل بعد رأس المال والمضارب يستحق نصيبه من الربح بعد رأس المال فلفظ رأس المال لم يستعمل في رأس الحيوان. وكذلك لفظ رأس العين سواء كان جنسا أو علما بالغلبة.

وأيضا فقولهم: تلك عند الإطلاق ينصرف إلى أعضاء الحيوان عنه جوابان: أحدهما: أن اللفظ لا يستعمل قط مطلقا لا يكون إلا مقيدا؛ فإنه إنما تقيد بعد العقد والتركيب إما في جملة اسمية أو فعلية من متكلم معروف قد عرفت عاداته بخطابه؛ وهذه قيود يتبين المراد بها. الثاني: أن تجريده عن القيود الخاصة قيد؛ ولهذا يقال: للأمر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرا وللعموم صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه عاما فنفس التكلم باللفظ مجردا قيد، ولهذا يشترط في دلالته الإمساك عن قيود خاصة فالإمساك عن القيود الخاصة قيد كما أن الاسم الذي يتكلم به لقصد الإسناد إليه مع تجريده عن العوامل اللفظية فيه هو المبتدأ الذي يرفع وسر ذلك تجريده عن العوامل اللفظية فهذا التجريد قيد في رفعه كما أن تقييده بلفظ مثل: كان وإن وظننت يوجب له حكما آخر.

ولهذا كان المتكلم بالكلام له حالان: تارة يسكت ويقطع الكلام ويكون مراده معنى، وتارة يصل ذلك الكلام بكلام آخر بغير المعنى الذي كان يدل عليه اللفظ الأول إذا جرد فيكون اللفظ الأول له حالان: حال يقرنه المتكلم بالسكوت والإمساك وترك الصلة، وحال يقرنه بزيادة لفظ آخر. ومن عادة المتكلم أنه إذا أمسك أراد معنى آخر؛ وإذا وصل أراد معنى آخر، وفي كلا الحالين قد تبين مراده وقرن لفظه بما يبين مراده. ومعلوم أن اللفظ دلالة على المعنى، والدلالات تارة تكون وجودية وتارة تكون عدمية، سواء في ذلك الأدلة التي تدل بنفسها التي قد تسمى الأدلة العقلية؛ والأدلة التي تدل بقصد الدال وإرادته وهي التي تسمى الأدلة السمعية أو الوضعية أو الإرادية. وهي في كلا القسمين كثيرا ما كان مستلزما لغيره؛ فإن وجوده يدل على وجود اللازم له، وعدم اللازم لا يدل على عدمه. كما يدل عدم ذات من الذوات على عدم الصفات القائمة بها؛ وعدم كل شرط معنوي على عدم مشروطه، كما يدل عدم الحياة على عدم العلم؛ وعدم الفساد على عدم إلهية سوى الله وأمثال ذلك.

وأما الثاني الذي يدل بالقصد والاختيار، فكما أن حروف الهجاء إذا كتبوها يعلمون بعضها بنقطة وبعضها بعدم نقطة؛ كالجيم والحاء والخاء فتلك علامتها نقطة من أسفل والخاء علامتها نقطة من فوق والحاء علامتها عدم النقطة، وكذلك الراء والزاي، والسين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء. وكذلك يقال في حروف المعاني: علامتها عدم علامات الأسماء والأفعال فكذلك الألفاظ إذا قال له: علي ألف درهم وسكت: كان ذلك دليلا على أنه أراد ألفا وازنة فإذا قال: ألف زائفة أو ناقصة؛ وإلا خمسين كان وصله لذلك بالصفة والاستثناء دليلا ناقض الدليل الأول.

وهنا ألف متصلة بلفظ، وهناك ألف منقطعة عن الصلة، والانقطاع فيها غير الدلالة فليست الدلالة هي نفس اللفظ، بل اللفظ مع الاقتصار عليه وعدم زيادة عليه.

وسواء قيل: إن ترك الزيادة من المتكلم أمر وجودي أو قيل: إنه عدمي. فإن أكثر الناس يقولون: الترك أمر وجودي يقوم بذات التارك، وذهب أبو هاشم وطائفة إلى أنه عدمي ويسمون الذمية؛ لأنهم يقولون: العبد يذم على ما لم يفعله، وعلى التقديرين فهو يقصد الدلالة باللفظ وحده لا باللفظ مع المعنى، وكونه وحده قيد في الدلالة؛ وهذا القيد منتف إذا كان معه لفظ آخر.

ثم العادة في اللفظ أن الزيادة في الألفاظ المقيدة نقص من اللفظ المفرد ولهذا يقال: الزيادة في الحد نقص في المحدود، وكلما زادت قيود اللفظ العام نقص معناه؛ فإذا قال: الإنسان؛ والحيوان كان معنى هذا أعم من معنى الإنسان العربي؛ والحيوان الناطق.

الوجه الخامس: لا جائز أن يقال بكونها حقيقة فيها، لأنها حقيقة فيما سواها بالاتفاق، فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع، والحمار في البهيمة، والظهر والمتن والساق والكلكل في الأعضاء المخصوصة بالحيوان. ولو كانت حقيقة فيما ذكر كان اللفظ مشتركا، ولو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند الإطلاق هذا البعض دون بعض ضرورة التساوي في الدلالة الحقيقية.

يقال له: قولك: لو كان حقيقة فيما ذكر كان اللفظ مشتركا ما تعني بالمشترك؟ إن عنيت الاشتراك الخاص وهو: أن يكون اللفظ دالا على معنيين من غير أن يدل على معنى مشترك بينهما ألبتة فمن الناس من ينازع في وجود معنى هذا في اللغة الواحدة التي تستند إلى وضع واحد؛ ويقول: إنما يقع هذا في موضعين كما يسمي هذا ابنه باسم ويسمي آخر ابنه بذلك الاسم. وهم لا يقولون: إن تسمية الكوكب سهيلا والمشتري وقلب الأسد والنسر ونحو ذلك هو باعتبار وضع ثان سماها من سماها من العرب وغيرها بأسماء منقولة كالأعلام المنقولة كما يسمي الرجل ابنه كلبا وأسدا ونمرا وبحرا ونحو ذلك.

ولا ريب أن الاشتراك بهذا المعنى مما لا ينازع فيه عاقل، لكن معلوم أن هذا وضع ثان وهذا لا يغيره دلالة الأعلام الموضوعة على مسمياتها، والعلامة المميزة في المجاز وإن كان المسمى بالاسم قد يقصد به اتصاف المسمى إما التفاؤل بمعناها؛ وإما دفع العين عنه؛ وإما تسميته باسم محبوب له من أب أو أستاذ أو مميز؛ أو يكون فيه معنى محمود كعبد الله وعبد الرحمن ومحمد وأحمد. لكن بكل حال هذا وضع ثان لهذا واللفظ بهذا الاعتبار يصير به مشتركا ولهذا احتيج في الأعلام إلى التمييز باسم الأب أو الجد مع الأب إذا لم يحصل التمييز باسمه واسم أبيه وإن حصل التمييز بذلك اكتفى به كما فعل النبي ﷺ في كتابة الصلح بينه وبين قريش حيث كتب: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو» بعد أن امتنع المشركون أن يكتبوا محمدا رسول الله، وهو ﷺ متميز بصفة الرسالة والنبوة عند الله، فلما غير تمييزه بوصفه الذي يوجب تصديقه والإيمان به وافقهم على التمييز باسم أبيه.

والمقصود أن من الناس من يقول: ما من لفظ على معنيين في اللغة الواحدة إلا وبينهما قدر مشترك، بل ويلتزم ذلك في الحروف فيجعل بينها وبين المعاني مناسبة تكون باعثة للمتكلم على تخصيص ذلك المعنى بذلك اللفظ. ولم يقل أحد من العقلاء: إن اللفظ يدل على المعنى بنفسه من غير قصد أحد، وأن تلك الدلالة صفة لازمة للفظ حتى يقول القائل: لو كان اللفظ يناسب المعنى لم يختلف باختلاف الأمم فإن الأمور الاختيارية من الألفاظ والأعمال العادية يوجد فيها مناسبات وتكون داعية للفاعل المختار وإن كانت تختلف بحسب الأمكنة والأزمنة والأحوال. والأمور الطبيعية التي ليست باختيار حيوان تختلف أيضا، فالحر والبرد، والسواد والبياض، ونحو ذلك من الأمور الطبيعية تختلف باختلاف طبائع البلاد والأمور الاختيارية من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمركب والمنكح وغير ذلك تختلف باختلاف عادات الناس مع أنها أمور اختيارية ولها مناسبات فتناسب أهل مكان وزمان من ذلك ما لا تناسب أهل زمان آخر، كما يختار الناس من ذلك في الشتاء والبلاد الباردة ما لا يختارونه في الصيف والبلاد الحارة مع وجود المناسبة الداعية لهم؛ إذ كانوا يختارون في الحر من المأكل الخفيف والفاكهة ما يخف هضمه لبرد بواطنهم وضعف القوى الهاضمة، وفي الشتاء والبلاد الباردة يختارون من المآكل الغليظة ما يخالف ذلك لقوة الحرارة الهاضمة في بواطنهم أو كان زمن الشتاء تسخن فيه الأجواف وتبرد الظواهر من الجماد والحيوان والشجر وغير ذلك لكون الهواء يبرد في الشتاء، وشبيه الشيء منجذب إليه فينجذب إليه البرد فتسخن الأجواف وفي الحر يسخن الهواء فتنجذب إليه الحرارة فتبرد الأجواف فتكون الينابيع في الصيف باردة لبرد جوف الأرض وفي الشتاء تسخن لسخونة جوف الأرض.

والمقصود هنا أن بشرا من الناس ليس عباد بن سليمان وحده بل كثير من الناس بل أكثر المحققين من علماء العربية والبيان يثبتون المناسبة بين الألفاظ والمعاني، ويقسمون الاشتقاق إلى ثلاثة أنواع:

الاشتقاق الأصغر وهو اتفاق اللفظين في الحروف والترتيب مثل علم وعالم وعليم.

والثاني الاشتقاق الأوسط وهو اتفاقهما في الحروف دون الترتيب مثل سمي ووسم وقول الكوفييين إن الاسم مشتق من السمة صحيح إذا أريد به هذا الاشتقاق، وإذا أريد به الاتفاق في الحروف وترتيبها فالصحيح مذهب البصريين أنه مشتق من السمو فإنه يقال في الفعل سماه؛ ولا يقال: وسمه ويقال في التصغير سمي ولا يقال وسيم، ويقال في جمعه أسماء ولا يقال أوسام.

وأما الاشتقاق الثالث فاتفاقهما في بعض الحروف دون بعض، لكن أخص من ذلك أن يتفقا في جنس الباقي مثل: أن يكون حروف حلق كما يقال حزر وعزر وأزر فالمادة تقتضي القوة والحاء والعين والهمزة جنسها واحد، ولكن اعتبار كونها من حروف الحلق ومنه المعاقبة بين الحروف المعتل والمضعف. كما يقال: تقضى البازي وتقضض، ومنه يقال: السرية مشتق من السر وهو النكاح، ومنه قول أبي جعفر الباقر: العامة مشتقة من العمى، ومنه قولهم: الضمان مشتق من ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى.

وإذا قيل هذا اللفظ مشتق من هذا فهذا يراد به شيئان: أحدهما: أن يكون بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى، من غير اعتبار كون أحدهما أصلا والآخر فرعا، فيكون الاشتقاق من جنس آخر بين اللفظين، ويراد الاشتقاق أن يكون أحدهما مقدما على الآخر أصلا له؛ كما يكون

الأب أصلا لولده. وعلى الأول فاذا قيل الفعل مشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل فكلا القولين قول البصريين والكوفيين صحيح. وأما على الثاني فاذا أريد الترتيب العقلي فقول البصريين أصح، فإن المصدر إنما يدل على الحدث فقط؛ والفعل يدل على الحدث والزمان. وان أريد الترتيب الوجودي وهو تقدم وجود أحدهما على الآخر فهذا لا ينضبط، فقد يكونون تكلموا بالفعل قبل المصدر، وقد يكونون تكلموا بالمصدر قبل الفعل، وقد تكلموا بأفعال لا مصادر لها مثل: بد، وبمصادر لا أفعال لها مثل: ويح وويل.

وقد يغلب عليهم استعمال فعل ومصدر فعل آخر كما في الحب فإن فعله المشهور هو الرباعى يقال: أحب يحب، ومصدره المشهور هو: الحب دون الإحباب، وفي اسم الفاعل قالوا: محب ولم يقولوا: حاب، وفي المفعول قالوا: محبوب ولم يقولوا محب الا في الفاعل وكان القياس أن يقال: أحبه إحبابا؛ كما يقال أعلمه اعلاما.

وهذا أيضا له أسباب يعرفها النحاة وأهل التصريف إما كثرة الاستعمال، وإما نقل بعض الالفاظ، وإما غير ذلك كما يعرف ذلك أهل النحو والتصريف: اذ كانت أقوى الحركات هي الضمة؛ وأخفها الفتحة؛ والكسرة متوسطة بينهما، فجاءت اللغة على ذلك من الألفاظ المعربة والمبنية.

فما كان من المعربات عمدة في الكلام لا بد له منه كان له المرفوع كالمبتدأ والخبر؛ والفاعل والمفعول القائم مقامه، وما كان فضلة كان له النصب كالمفعول؛ والحال؛ والتمييز، وما كان متوسطا بينهما لكونه يضاف إليه العمدة تارة والفضلة تارة كان له الجر وهو المضاف إليه.

وكذلك في المبنيات مثل ما يقولون في أين وكيف بنيت على الفتح طلبا للتخيف لأجل الياء، وكذلك في حركات الألفاظ المبينة الأقوى له الضم، وما دونه له الفتح، فيقولون كره الشيء والكراهية يقولون فيها كرها بالفتح كما قال تعالى: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [1] وقال: { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } [2]، وكذلك الكسر مع الفتح فيقولون في الشيء المذبوح والمنهوب ذبح ونهب بالكسر كما قال تعالى: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [3] وكما في الحديث: أتى رسول الله ﷺ بنهب إبل، في المثل السائر: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا بالكسر أي ولا أرى طحينا. ومن قال بالفتح أراد الفعل كما أن الذبح والنهب هو الفعل،

ومن الناس من يغلط هذا القائل.

وهذه الأمور وأمثالها هي معروفة من لغة العرب لمن عرفها، معروفة بالاستقراء والتجربة تارة؛ وبالقياس أخرى، كما تفعل الأطباء في طبائع الأجسام، وكما يعرف ذلك في الأمور العادية التي تعرف بالتجربة المركبة من الحس والعقل، ثم قد قيل تعرف مالم تجرب بالقياس، ومعلوم أن هذه الأمور لها أسباب ومناسبات عند جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم ومن أنكر ذلك من النظار فذلك لا يتكلم معه في خصوص مناسبات هذا؛ فإنه ليس عنده في المخلوقات قوة يحصل بها الفعل ولا سبب يخص أحد المتشابهين، بل من أصله أن محض مشيئة الخالق

تخصص مثلا عن مثل بلا سبب ولا لحكمة. فهذا يقول كون اللفظ دالا

على المعنى إن كان بقول الله فهذا لمجرد الاقتران العادي وتخصيص الرب عنده ليس لسبب ولا لحكمة بل نفس الإرادة تخصص مثلا عن مثل بلا حكمة ولا سبب. وإن كان باختيار العبد فقد يكون السبب خطور ذلك اللفظ في القلب الواضع دون غيره، وبسط هذه الأمور له موضع آخر. والمقصود هنا أن الحجة التي احتج بها على إثبات المجاز وهي قوله: أن هذه الألفاظ إن كانت حقيقة لزم أن تكون مشتركة. هى مبنية على مقدمتين: إحداهما أنه يلزم الاشتراك، والثانية أنه باطل، وهذه الحجة ضعيفة، فإنه قد تمنع المقدمة الأولى وقد تمنع المقدمة الثانية وقد تمنع المقدمتان جميعا، وبذلك أن قوله يلزم الاشترك إنما يصح إذا سلم له أن في اللغه الواحدة باعتبار اصطلاح واحد ألفاظا تدل على معان متباينة من غير قدر مشترك وهذا فيه نزاع مشهور وبتقدير التسليم فالقائلون بالاشتراك متفقون على أنه في اللغة ألفاظ بينها قدر مشترك، وبينها قدر مميز، وهذا يكون مع تماثل الألفاظ تارة ومع اختلافها أخرى، وذلك أنه كما أن اللفظ قد يتحد ويتعدد معناه فقد يتعدد ويتحد معناها كالألفاظ المترادفة وإن كان من الناس من ينكر الترادف المحض فالمقصود أنه قد يكون اللفظان متفقين في الدلالة على معنى ويمتاز أحدهما بزيادة كما إذا قيل في السيف: أنه سيف؛ وصارم ؛ومهند؛ فلفظ السيف يدل عليه مجردا، ولفظ الصارم في الأصل يدل على صفة الصرم عليه، والمهند يدل على النسبة الى الهند، وإن كان يعرف الاستعمال من نقل الوصفية إلى الاسمية فصار هذا اللفظ يطلق على ذاته مع قطع النظر عن هذه الإضافة لكن مع مراعاة هذه الإضافة.

منهم من يقول: هذه الأسماء ليست مترادفة لاختصاص بعضها بمزيد معنى. ومن الناس من جعلها مترادفة باعتبار اتحادها في الدلالة على الذات، وأولئك يقولون هي من المتباينة كلفظ الرجل والأسد، فقال لهم: هؤلاء ليست كالمتباينة. والإنصاف أنها متفقة في الدلالة على الذات، متنوعة في الدلالة على الصفات، فهي قسم آخر قد يسمى المتكافئة. وأسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله وكتابه من هذا النوع فإنك إذا قلت: إن الله عزيز حكيم غفور رحيم عليم قدير، فكلها دالة على الموصوف بهذه الصفات سبحانه وتعالى، كل اسم يدل على صفة تخصه، فهذا يدل على العزة؛ وهذا يدل على الحكمة؛ وهذا يدل على المغفرة؛ وهذا يدل على الرحمة؛ وهذا يدل على العلم؛ وهذا يدل على القدرة؛ وكذلك قول النبى ﷺ: «إن لي خمسة أسماء أنا محمد؛ وأنا أحمد؛ وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر؛ وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي؛ وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي».

والأسماء التى أنكرها الله على المشركين بتسميتهم أوثانهم بها من هذا الباب حيث قال: { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [4] فإنهم سموها آلهة فأثبتوا لها صفة الإلهية التي توجب استحقاقها أن تعبد. وهذا المعنى لايجوز إثباته إلا بسلطان وهو الحجة وكون الشيء معبودا تارة يراد به أن الله أمر بعبادته فهذا لا يثبت إلا بكتاب منزل، وتارة يراد به أنه متصف بالربوبية والخلق المقتضى لاستحقاق العبودية فهذا يعرف بالعقل ثبوته وانتفاؤه ولهذا قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [5] وقال في سورة فاطر: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا } [6] فطالبهم بحجة عقلية عيانية، وبحجة سميعة شرعية فقال: أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات، ثم قال: أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه. كما قال هناك: أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات، ثم قال: ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم. فالكتاب: المنزل، والأثارة: ما يؤثر عن الأنبياء بالرواية

والإسناد، وقد يقيد في الكتاب فلهذا فسر بالرواية؛ وفسر بالخط.

وهذا مطالبة بالدليل الشرعي على أن الله شرع أن يعبد غيره فيجعل شفيعا أو يتقرب بعبادته إلى الله، وبيان أنه لاعبادة أصلا إلا بأمر من الله فلهذا قال تعالى: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ } [7] كما قال في موضع آخر: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } [8] والسلطان الذي يتكلم بذلك الكتاب المنزل، كما قال: { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [9] وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } [10].

والمقصود هنا أنه إذا كان من الأسماء المختلفة الألفاظ ما يكون معناه واحدا كالجلوس والقعود وهي المترادفة، ومنها ما تتباين معانيها كلفظ السماء والأرض، ومنها ما يتفق من وجه ويختلف من وجه كلفظ الصارم والمهند.

وهذا قسم ثالث فإنه ليس معنى هذا مباينا لمعنى ذاك كمباينة السماء للأرض، ولا هو مماثلا لها كماثلة لفظ الجلوس للقعود. فكذلك الأسماء المتفقة اللفظ قد يكون معناها متفقا وهي المتواطئة، وقد يكون معناها متباينا وهي المشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ سهيل المقول على الكوكب وعلى الرجل، وقد يكون معناها متفقا من وجه مختلفا من وجه فهذا قسم ثالث ليس هو كالمشترك اشتراكا لفظيا ولا هو كالمتفقة المتواطئة فيكون بينها اتفاق هو اشتراكا معنوي من وجه وافتراق هو اختلاف معنوي من وجه. ولكن هذا لا يكون إلا اذا خص كل لفظ بما يدل على المعنى المختص.

وهذه الألفاظ كثيرة في الكلام المؤلف أو هي أكثر الألفاظ الموجودة في الكلام المؤلف الذي تكلم به كل متكلم، فإن الألفاظ التي يقال أنها متواطئة كأسماء الأجناس مثل: لفظ الرسول والوالي والقاضي والرجل والمرأة والإمام والبيت ونحو ذلك قد يراد بها المعنى العام، وقد يراد بها ما هو أخص منه مما يقترن بها تعريف الإضافة أو اللام كما في قوله: { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [11] وقال في موضع آخر: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا } [12] فلفظ الرسول في الموضعين لفظ واحد مقرون باللام لكن ينصرف في كل موضع إلى المعروف عند المخاطب في ذلك الموضع فلما قال هنا: { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [13] كان اللام لتعريف رسول فرعون وهو موسى ابن عمران عليه السلام ولما قال لأمة محمد: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا } [14] كان اللام لتعريف الرسول المعروف عند المخاطبين بالقرآن والمأمورين بأمرهم والمنتهين بنهيه وهم أمة محمد ﷺ، ومعلوم أن مثل هذا لا يجوز أن يقال. وهو مجاز في أحدهما باتفاق الناس، ولا يجوز أن يقال هو مشترك اشتراكا لفظيا محضا كلفظ المشترى لمبتاع والكوكب، وسهيل للكوكب والرجل، ولا يجوز أن يقال هو متواطىء دل في الموضعين على القدر المشترك فقط فإنه قد علم أنه في أحد الموضعين هو محمد وفى الآخر موسى مع أن لفظ الرسول واحد. ولكن هذا اللفظ تكلم به من سياق كلام من مدلول لام التعريف وهكذا جميع أسماء المعارف فإن الأسماء نوعان معرفة ونكرة. والمعارف مثل: المضمرات؛ وأسماء الاشارة مثل: أنا وأنت وهو، ومثل: وهذا وذاك، والأسماء الموصولة مثل: { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [15]، وأسماء المعرفة باللام كالرسول والأسماء الأعلام مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، ومثل شهر رمضان والمضاف إلى المعرفة، مثل قوله وطهر بيتي، وقوله واغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق، ومثل ناقة الله وسقياها، ومثل قوله أحل لكم ليلة الصيام، ومثل المنادى المعين، مثل قول يوسف يا أبتي إني رأيت أحد عشر كوكبا وقول ابنة صاحب مدين يا أبتي استأجره فإن لفظ الأب هناك أريد به يعقوب وهنا اريد به صاحب مدين الذى تزوج موسى ابنته وليس هو شعيبا كما يظنه بعض الغالطين بل علماء المسلمين من اهل السلف واهل الكتاب يعرفون انه ليس شعيبا كما قد بسط في موضع اخر والمقصود هنا ان هذه الاسماء المعارف وهى أصناف كل نوع منها لفظه واحد كلفظ أنا وأنت ولفظ هذا وذاك ومع هذا ففى كل موضع يدل على المتكلم المعين والمخاطب والغائب المعين ولا يجوز أن يقال هى مشتركة كلفظ سهيل ولا متواطئة كلفظ الانسان بل بينها قدر مشترك وقدر مميز فباعتبار المشترك تشبه المتواطئه وباعتبار المميز تشبه المشتركة اشتراكا لفظيا وهى لا تستعمل قط إلا مع ما يقترن بها مما تعين المضمر والمشار اليه ونحو ذلك فصارت دلالتها مؤلفة من لفظها ومن قرينة تقترن بها تعيين المعروف وهذه حقيقة باتفاق الناس لا يقول عاقل ان هذه مجاز مع انها لا تدل قط الا مع قرينة تبين تعيين المعروف والمراد فاذا قيل لفظ انا قيل يدل على المتكلم مطلقا ولكن لم ينطق به احد قط مطلقا اذ ليس في الوجود متكلم مطلق كلي مشترك بل كل متكلم هو معين متميز عن غيره فاذا طلب معرفة مدلوها ومعناها قيل من هو المتكلم بها ومن هو المخاطب بانت واياك ونحو ذلك فإن كان المتكلم بها هو الله كقوله تعالى لموسى اننى انا الله لا اله الا انا ونحو ذلك كان هذا اللفظ في هذا الموضع اسما لله تعالى لا يحتمل غيره ولا يمكن مخلوق أن يقول: { إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى }. وقد ذكر سبحانه أن الذى حاج إبراهيم في ربه قال: { أنا أحيي وأميت } وذكر عن صاحب يوسف أنه قال: { أنا انبئكم بتأويله فأرسلون } وأخبر عن عفريت من الجن أنه قال: { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } وعن الذى عنده علم من الكتاب أنه قال: { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك }. فلفظ "أنا" في كل موضع معين ليس هو مدلوله في الموضع الآخر وإن كان لفظ أنا في الموضعين واحدا. ولم يقل أحد من العقلاء إن هذا اللفظ مشترك ولا مجاز مع أنه لا يدل إلا بقرينة تبين المراد.
هامش 
[المائدة 55] 
مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العشرون - أصول الفقه
اتفاق الرسل في الأصول الاعتقادية | سئل عن معنى إجماع العلماء | فصل في أقوال الصحابة | سئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع | سئل هل كل مجتهد مصيب | فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد | فصل في التفريق في الأحكام قبل الرسالة وبعدها | سئل هل كان البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم مجتهدين أم مقلدين | القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي | فصل في تعارض الحسنات والسيئات | فصل في الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام | قاعدة جامعة في كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات | فصل في كلام الفقهاء في الطاعات الشرعية والعقلية | فصل في أن الصدق أساس الحسنات وجماعها | فصل أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم | فصل في العدل القولي والصدق | قاعدة في أن جنس فعل المأمورات أعظم من جنس فعل المنهيات | أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله | أول ذنب عصي الله به | ما يكفر به الشخص عند أهل السنة | الحسنات تذهب بعقوبة الذنوب | تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر | قتل من ترك أركان الإسلام الخمسة | أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية | أكثر شرك بني آدم من عدم التصديق بالحق | جوامع تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه | عامة ما ذم الله به المشركين هو الشرك | خلق الله الخلق لعبادته | مقصود النهي ترك المنهي عنه | المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل | المطلوب بالأمر وجود المأمور به | الأمر أصل والنهي فرع | لم يأمر الله بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد | فعل الحسنات يوجب ترك السيئات | فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا | ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة | بعث الله الرسل وأنزل الكتب بالكلم الطيب والعمل الصالح | النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت | الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا | تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه | فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين | فصل في العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع | فصل في أن العلتين كلا منهما ليس واجبا بنفسه بل مفتقرا إلى غيره | المنحرفون من أتباع الأئمة على أنواع | فصل في المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام | قاعدة في تعليل الحسنات | فصل في الإيجاب والتحريم | فصل في التمذهب | سئل عن تقليد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد | سئل عمن سئل عن مذهبه فقال إنه محمدي | سئل عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب واشتغل بعده بالحديث | سئل هل لازم المذهب مذهب أم لا | سئل عمن لازم مذهبا هل ينكر عليه مخالفته | موالاة علماء المسلمين | أعذار العلماء في الخطأ في الأحكام | المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد | سئل عن الشيخ عبد القادر والإمام أحمد | سئل عن صحة أصول مذهب أهل المدينة | والكلام في إجماع أهل المدينة ومراتبه | حديث أهل المدينة أصح حديث أهل الأمصار | موقف أهل المدينة من الكلام والرأي | مالك أقوم الناس بمذهب أهل المدينة | أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول | قواعد توضح أن جملة مذاهب أهل المدينة راجحة في الجملة على المذاهب | مذهب أهل المدينة في المحرم لكسبه | فصل في أنواع الكسب | مذهب أهل المدينة في مسائل العبادات | مذهب أهل المدينة في مسائل النكاح | مذهب أهل المدينة في العقوبات والأحكام | فصل في مذهب أهل المدينة في الأحكام | فصل نسخ القرأن بالسنة | فصل في الحقيقة والمجاز | فصل في ألفاظ لا تستعمل إلا مقرونة | فصل في تسمية أهل الأمصار الحقيقة والمجاز | فصل في حجة نفاة المجاز | فصل في حجة أخرى لنفاة المجاز | فصل في رد ابن عقيل على من تكلف وجعل المجاز حقيقة | فصل في أصول العلم والدين | سئل عن القياس | فصول عن القياس | فصل أن الإجارة خلاف القياس | فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس | فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس | فصل في قولهم إن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس | فصل في حجة من قال إن الأكل ناسيا على خلاف القياس | فصل في موقف الصحابة من القياس | سئل هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي




تصنيفان:
مجموع الفتاوى
مجموع الفتاوى:أصول الفقه

كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من 1 الي 2001 -

      مكتبة العلوم الشاملة https://sluntt.blogspot.com/ الاثنين، 21 فبراير 2022 كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من...