بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد:
فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }، والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله: { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا }
فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام: قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم، على عهد رسول الله ﷺ في المغازي التي أنزل الله فيها كتبه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين: مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة ؛ فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد ﷺ يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي أو بالعموم المعنوي.
وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها، وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى } أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة، وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: { فأخذه الله نكال الأخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى }.
وقال في سيرة نبينا محمد ﷺ مع أعدائه ببدر وغيرها: { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }، وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع: أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة، فقال تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وقال تعالى: { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا }.
وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين، كدأب الكافرين من المستقدمين، فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الأسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الأيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء، وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والأخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والأيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق، وضعف إيمان ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى، ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه ؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الأيمان والعمل الصالح والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال، يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم، فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه، فاتخذ مع الرسول سبيلا، وبان صدق ما جاءت به الأثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة، على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى يوم القيامة.
حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الأسلام، وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور، وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }.
ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله تعالى بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولا، ثم إيجابا له ثانيا ؛ لما هاجر إلى المدينة، وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه ﷺ مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين: بضعا وعشرين غزوة، أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك: أنزل الله في أول مغازيه ( سورة الأنفال ) وفي آخرها ( سورة براءة )، وجمع بينهما في المصحف ؛ لتشابه أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان: لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة.
وكان القتال منها في تسع غزوات، فأول غزوات القتال: بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته كما أخبر به القرآن ؛ ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول، وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا ؛ فإن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة شامي مكة، وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة، وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة، ثم قسم النبي ﷺ غنائمها بالجعرانة واعتمر من الجعرانة، ثم حاصر الطائف، فلم يقاتله أهل الطائف زحفا وصفوفا، وإنما قاتلوه من وراء جدار، فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا: هي غزوة حنين.
وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم ؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد، وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء، فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة، وفيها النبي ﷺ وأصحابه، فخرج إليهم النبي ﷺ وأصحابه في نحو من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة ثم ينقلوهم إلي موضع آخر، وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار، فانهزم عامة عسكر المسلمين، إلا نفرا قليلا حول النبي ﷺ منهم من قتل ومنهم من جرح، وحرصوا على قتل النبي ﷺ، حتى كسروا رباعيته، وشجوا جبينه، وهشموا البيضة على رأسه، وأنزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال }، وقال فيها: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم }، وقال فيها: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين }، وقال فيها: { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير }.
وكان الشيطان قد نعق في الناس: أن محمدا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب، ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }.
وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة: من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والأعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعا في الدخول في الإسلام، وكان مبتدئا في الأيمان والأمان، وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الأيمان، فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ؛ ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام، فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم - الذي هو على الحال المذكورة - لاوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين ؛ فإن النبي ﷺ قال: « لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ».
فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة - وقيل بسنتين - قد ابتلي المسلمون عام الخندق، كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي ﷺ عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها ( سورة الأحزاب )، وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده ﷺ وأعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب - الذين تحزبوا عليه - وحده بغير قتال ؛ بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم، ذكر فيها خصائص رسول الله ﷺ وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته ؛ لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال، كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء، وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق.
وذلك أن الله تعالى منذ بعث محمدا ﷺ، وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام: قسما مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسما كفارا، وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسما منافقين، وهم الذين آمنوا ظاهرا لا باطنا، ولهذا افتتح ( سورة البقرة ) بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة آية في صفة المنافقين، وكل واحد من الأيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه في الأيمان ودعائمه وشعبه.
فمن النفاق ما هو أكبر ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار ؛ كنفاق عبد الله بن أبي وغيره ؛ بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله ﷺ وما زال بعده ؛ بل هو بعده أكثر منه على عهده ؛ لكون موجبات الأيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها - وكان النفاق معها موجودا - فوجوده فيما دون ذلك أولى.
وكما أنه ﷺ كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم، كما بينه قوله: { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } كذلك خلفاؤه بعده وورثته: قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمون ( الزنادقة )، وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم في الظاهر ؛ لكون ذلك لا يعلم إذ هم دائما يظهرون الإسلام، وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة: من المنجمين ونحوهم، ثم في الأطباء، ثم في الكتاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة والمتفقهة، وفي المقاتلة والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع ؛ لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والأسماعيلية والنصيرية، ونحوهم من المنافقين الزنادقة: منتسبة إلى الرافضة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار ؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام ؛ بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء والسبي ؛ لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر.
وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها: مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن، أو يفجر إذا خاصم، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان »، وفي رواية صحيحة: « وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ».
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ».
ومن هذا الباب: الأعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، قال النبي ﷺ: « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق » رواه مسلم، وقد أنزل الله ( سورة براءة ) التي تسمى الفاضحة ؛ لأنها فضحت المنافقين، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل: « ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها ».
وعن المقداد بن الأسود قال: « هي سورة البحوث ؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين »، وعن قتادة قال: « هي المثيرة ؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين »، وعن ابن عباس قال: « هي المبعثرة »، والبعثرة والأثارة متقاربان، وعن ابن عمر: « أنها المقشقشة، لأنها تبرئ من مرض النفاق »، يقال: تقشقش المريض إذا برأ: قال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الأخلاص: المقشقشتان ؛ لأنهما يبرئان من النفاق.
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي ﷺ غزوة تبوك عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام وظهر، فكشف الله فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد، ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال، وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل، قال النبي ﷺ: « شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع » حديث صحيح ؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }.
وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون }، فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم ؛ ولكن يفزعون من العدو: { لو يجدون ملجأ } يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد، أو ( مغارات وهي جمع مغارة، ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر ؛ كما يغور الماء: { أو مدخلا }، وهو الذي يتكلف الدخول إليه، إما لضيق بابه أو لغير ذلك، أي مكانا يدخلون إليه، ولو كان الدخول بكلفة ومشقة: لولوا عن الجهاد { إليه وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام، وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا، وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.
وكذلك قال في ( سورة محمد ) ﷺ: { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } أي فبعدا لهم: { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم }، وقال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد.
وقال تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الأخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون }، فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد ؛ وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن، فكيف بالتارك من غير استئذان.
ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى، وقال في وصفهم بالشح: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }، فهذه حال من أنفق كارها، فكيف بمن ترك النفقة رأسا، وقال: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون }، وقال: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون }، وقال في السورة: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } فانتظمت هذه الأية حال من أخذ المال بغير حقه، أو منعه من مستحقه من جميع الناس ؛ فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد، وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون، يقال: صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا، وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل: من وقف أو عطية على الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك، فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين، ثم قال: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله }، فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله، والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله، سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك، وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب، فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها: مصالحهم - أولى وأحرى.
فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق، فإذا قرأ الأنسان ( سورة الأحزاب )، وعرف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي: كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك: وجد مصداق ما ذكرنا، وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة، كما انقسموا في تلك، وتبين له كثير من المتشابهات، افتتح الله السورة بقوله: { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين }، وذكر في أثنائها قوله: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا. ولا تطع الكافرين والمنافقين }، ثم قال: { واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا. وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }، فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة - التي هي سنته - وبأن يتوكل على الله، فبالأولى يحقق قوله: { إياك نعبد }، وبالثانية يحقق قوله: { وإياك نستعين }، ومثل ذلك قوله: { فاعبده وتوكل عليه }، وقوله: { عليه توكلت وإليه أنيب }.
وهذا وإن كان مأمورا به في جميع الدين ؛ فإن ذلك في الجهاد أوكد ؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين ؛ وذلك لا يتم إلا بتأييد قوي من الله ؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة كما في قوله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } وفيه سنام التوكل وسنام الصبر ؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ؛ ولهذا قال تعالى: { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } و قال موسى لقومه: { استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }، ولهذا كان الصبر واليقين - اللذين هما أصل التوكل - يوجبان الأمامة في الدين كما دل عليه قوله تعالى: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }، ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }.
فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى ؛ ولهذا قال الأمامان عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم ؛ لأن الله يقول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }، وفي الجهاد أيضا: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضا: حقيقة الأخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الأخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون }، والجنة: اسم للدار التي حوت كل نعيم، أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله ﷺ: « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».
فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا، ثم إنه تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } كان مختصر القصة: أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاءوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بني أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد، واجتمعت أيضا اليهود: من قريظة والنضير، فإن بني النضير كان النبي ﷺ قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله تعالى في ( سورة الحشر )، فجاءوا في الأحزاب إلى قريظة، وهم معاهدون للنبي ﷺ، ومجاورون له قريبا من المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا في الأحزاب، فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة، فرفع النبي ﷺ الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة، وهي مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر، وجعل ظهرهم إلى سلع - وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام - وجعل بينه وبين العدو خندقا، والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة، وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات.
وفي هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغول، وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الأقدام والأحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين، ودام الحصار على المسلمين عام الخندق - على ما قيل - بضعا وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الأخر، وكان أول انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه: يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم: ألقى الله في قلوب عدوهم الروع والانصراف، وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها }.
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات، حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك ؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو ؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضا منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا: أعدونا في الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم ؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم ؛ لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة، وقال الله في شأن الأحزاب: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }.
وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما، وبلغت القلوب الحناجر ؛ لعظم البلاء ؛ لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن إنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا - إذا أحسن ظنه - قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم.
وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الأثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات، أماني كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم، وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الأرادات ؛ لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء ؛ بل إما أن يكون جاهلا بها، وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية، فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء، وتراجمت به الأراء تراجم الصبيان بالحصباء: { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات ما استوجبوا به أعلى الدرجات، قال الله تعالى: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا }.
وهكذا قالوا في هذه الفتنة، فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عنه، حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله ﷺ، كما قال الله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }.
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم، وأما الذين في قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة، فذكروا هنا وفي قوله: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة }، وفي قوله: { فيطمع الذي في قلبه مرض } وذكر الله مرض القلب في مواضع، فقال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم }، والمرض في القلب كالمرض في الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته، وذلك - كما فسروه -: هو من ضعف الأيمان ؛ إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته، فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع ؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك كلها أمراض.
وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التي فيه، وعلى هذا فقول: { فيطمع الذي في قلبه مرض } هو إرادة الفجور وشهوة الزنا كما فسروه به، ومنه قول النبي ﷺ: « وأي داء أدوأ من البخل ؟ »، وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء لما في الصدور، وقال النبي ﷺ: « إنما شفاء العي السؤال »، وكان يقول في دعائه: « اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء »، ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: لو صححت لم تخف أحدا، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.
ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان ؛ بل لا يخافون غيره تعالى فقال: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي يخوفكم أولياءه، وقال لعموم بني إسرائيل تنبيها لنا: { وإياي فارهبون }، وقال: { فلا تخشوا الناس واخشون }، وقال: { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني }، وقال تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون }، وقال: { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله }، وقال: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله }، وقال: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه }.
فدلت هذه الأية - وهي قوله تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض }، على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة، التي توجب أمن الأنسان: من الخوف حتى يظنوا أنها كانت غرورا لهم، كما وقع في حادثتنا هذه سواء، ثم قال تعالى: { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا }، وكان النبي ﷺ قد عسكر بالمسلمين عند سلع، وجعل الخندق بينه وبين العدو، فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا ؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة، وقيل: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك، وقيل: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.
وهكذا لما قدم هذا العدو، كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغي الدخول في دولة التتار، وقال بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن ؛ بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول تحت حكمهم، فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك، وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض، ونفي المقام بها أبلغ من نفي المقام، وإن كانت قد قرئت بالضم أيضا، فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان فكيف يقيم به ؟.
قال الله تعالى: { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }، وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون - والناس مع النبي ﷺ عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة -: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل، - وأصل العورة: الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر، يقال: اعور مجلسك إذا ذهب ستره أو سقط جداره، ومنه عورة العدو -، وقال مجاهد والحسن: أي ضائعة تخشى عليها السراق، وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو، فلا نأمن على أهلنا فائذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان، قال الله تعالى: { وما هي بعورة } ؛ لأن الله يحفظها { إن يريدون إلا فرارا }، فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة.
وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة، صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله ﷺ، وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله ؟ قال الله تعالى: { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا }، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها، ثم طلبت منهم الفتنة - وهي الافتتان عن الدين بالكفر أو النفاق - لاعطوا الفتنة، ولجئوها من غير توقف.
وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم، ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام - وتلك فتنة عظيمة - لكانوا معه على ذلك، كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا ما بين ترك واجبات وفعل محرمات، إما في حق الله وإما في حق العباد، كترك الصلاة وشرب الخمور، وسب السلف وسب جنود المسلمين والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم، وأخذ أموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من أنواع الفتنة، ثم قال تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا في هذه الغزوة، فإن في العام الماضي وفي هذا العام: في أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر ثم فر منهزما لما اشتد الأمر.
ثم قال الله تعالى: { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا }، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل، فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون، ولذلك قال النبي ﷺ: « إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه » والفرار من القتل كالفرار من الجهاد، وحرف ( لن ) ينفي الفعل في الزمن المستقبل، والفعل نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم جميع أفرادها، فاقتضى ذلك: أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدا، وهذا خبر الله الصادق، فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله في خبره.
والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن، فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم ؛ بل خسروا الدين والدنيا وتفاوتوا في المصائب، والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدين والدنيا حتى الموت الذي فروا منه كثر فيهم، وقل في المقيمين، فما منع الهرب من شاء الله، والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد ولا قتل ؛ بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون، وهكذا سنة الله قديما وحديثا.
ثم قال تعالى: { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون، فإن الموت لا بد منه، وقد حكي عن بعض الحمقى أنه قال: فنحن نريد ذلك القليل، وهذا جهل منه بمعنى الأية، فإن الله لم يقل: إنهم يمتعون بالفرار قليلا، لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدا، ثم ذكر جوابا ثانيا، أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل، ثم ذكر جوابا ثالثا وهو أن الفار يأتيه ما قضي له من المضرة، ويأتي الثابت ما قضي له من المسرة، فقال: { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }، ونظيره: قوله في سياق آيات الجهاد: { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }، الآية وقوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير }.
فمضمون الأمر: أن المنايا محتومة، فكم من حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد - لما احتضر -: « لقد حضرت كذا وكذا صفا، وأن ببدني بضعا وثمانين، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ».
ثم قال تعالى: { قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا }، قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم، يثبطونهم عن القتال، وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدا، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فانصرف بعضهم من عند النبي ﷺ، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ، فقال: أنت ههنا ورسول الله ﷺ بين الرماح والسيوف ؟ فقال: هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك.
فوصف المثبطين عن الجهاد - وهم صنفان - بأنهم:
إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما، وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم: بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد، كما جرى في هذه الغزاة، فإن أقواما في العسكر والمدينة وغيرهما، صاروا يعوقون من أراد الغزو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا قال الله تعالى فيهم: { ولا يأتون البأس إلا قليلا. أشحة عليكم }، أي بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله، وقال مجاهد: بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة، وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله: من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره، فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله، وهم الحساد.
ثم قال تعالى: { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت }، من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف، فكذلك هؤلاء ؛ لأنهم يخافون القتل: { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد }، ويقال في اللغة ( صلقوكم ): وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي، ومنه ( الصالقة ): وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة، يقال: صلقه وسلقه، وقد قرأ طائفة من السلف بها ؛ لكنها خارجة عن المصحف - إذا خاطبه خطابا شديدا قويا، ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغا في خطبته ؛ لكن الشدة هنا في الشر لا في الخير، كما قال { بألسنة حداد أشحة على الخير } وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه: تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم ؛ فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم ؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا، وتارة يقولون - أنتم مع قلتكم وضعفكم - تريدون أن تكسروا العدو وقد غركم دينكم، كما قال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم }، وتارة يقولون: أنتم مجانين لا، عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم، وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم، قال قتادة: إن كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا فلستم بأحق بها منا، فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند الغنيمة فأشح قوم.
وقيل: أشحة على الخير أي بخلاء به، لا ينفعون لا بنفوسهم ولا بأموالهم، وأصل الشح: شدة الحرص الذي يتولد عنه البخل والظلم: من منع الحق وأخذ الباطل، كما قال النبي ﷺ: « إياكم والشح ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا »، فهؤلاء أشحاء على إخوانهم: أي بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير أي حراص عليه، فلا ينفقونه، كما قال: { وإنه لحب الخير لشديد }.
ثم قال تعالى: { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا }، فوصفهم بثلاثة أوصاف:
أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن، الوصف.
الثاني: أن الأحزاب إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم ؛ بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: إيش خبر المدينة ؟ وإيش جرى للناس ؟.
والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا - وهم فيكم - لم يقاتلوا إلا قليلا.
وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة، كما يعرفونه من أنفسهم ويعرفه منهم من خبرهم.
ثم قال تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا }، فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلي رسول الله ﷺ، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه، فليتأسوا به في التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له، فإنه لو كان كذلك ما ابتلي بها رسول الله ﷺ خير الخلائق ؛ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابا، كالكفار والمنافقين.
ثم قال تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }، قال العلماء: كان الله قد أنزل في سورة البقرة: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }، فبين الله سبحانه - منكرا على من حسب خلاف ذلك - أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم ب ( البأساء ): وهي الحاجة والفاقة، و ( الضراء ): وهي الوجع والمرض، و ( الزلزال ): وهي زلزلة العدو، فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا: { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال، وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما لحكم الله وأمره، وهذه حال أقوام في هذه الغزوة: قالوا ذلك.
وكذلك قوله: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه }، أي: عهده الذي عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل أو عاش، و ( النحب ): النذر والعهد، وأصله من النحيب، وهو الصوت، ومنه: الانتحاب في البكاء، وهو الصوت الذي تكلم به في العهد، ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق في اللقاء - ومن صدق في اللقاء فقد يقتل - صار يفهم من قوله: { قضى نحبه } أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب: نذر الصدق في جميع المواطن ؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت، وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه } أي أكمل الوفاء، وذلك لمن كان عهده مطلقا: بالموت أو القتل، { ومنهم من ينتظر } قضاءه إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد.
وأصل القضاء: الأتمام والأكمال: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }، بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا في إيمانهم، كما قال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }، فحصر الأيمان في المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: آمنا ؛ لا من قال كما قالت الأعراب: آمنا والأيمان لم يدخل في قلوبهم ؛ بل انقادوا واستسلموا.
وأما المنافقون فهم بين أمرين:
إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم، فهذا حال الناس في الخندق وفي هذه الغزاة، وأيضا فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة ؛ ليجزي الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم، ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين ؛ فإن منهم من ندم، والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها،
وقد ذكر أهل المغازي - منهم ابن إسحاق - أن النبي ﷺ قال في الخندق: « الأن نغزوهم ولا يغزونا »، فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها ؛ بل غزاهم المسلمون: ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة.
كذلك - إن شاء الله - هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا، ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم بالإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم، فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار كما قال: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }.
فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا: ريح شديدة باردة، وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرا، إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم، وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة، وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه، فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل: سبب رحيلهم، وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله، وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه، وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب: يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه.
فلما ثبت الله قلوب المسلمين، صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار، وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغول والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا، كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود، كما ذكر ذلك أهل المغازي، فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي، مثل عروة بن الزبير والزهري وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ ومحمد بن إسحاق والواقدي وغيرهم.
ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك، وثبت المسلمون بإزائهم، وكانوا أكثر من المسلمين بكثير ؛ لكن في ضعف شديد وتقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى، فلم يقدموا على المسلمين قط، وصار من المسلمين من يريد الأقدام عليهم فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق، حيث قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامري، لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين، كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين، وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم، وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات، فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات، وبعضهم في جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم ؛ وأصاب المسلمون بعضهم، وقيل: إنه غرق بعضهم.
وكان عبورهم وخلو الشام منهم في أوائل رجب بعد أن جرى - ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور، رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة ؛ لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا، وثبت بإزائهم المقدم الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما، وقد قيل: إنهم كانوا عدة كمانات ؛ إما ثلاثة أو أربعة.
فكان من المقدر: أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقي في قلوب عدوهم الرعب، فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل ( تيزين ) و ( الفوعة ) و ( معرة مصرين ) وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي، وقيل: إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ؛ بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم ؛ لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلي به، والله تعالى يقول: { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون }، وقد ظاهروهم على المسلمين: الذين كفروا من أهل الكتاب من أهل ( سيس ) والأفرنج، فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم، وهي الحصون - ويقال للقرون: الصياصي - ويقذف في قلوبهم الرعب، وقد فتح الله تلك البلاد، ونغزوهم إن شاء الله تعالى، فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه.
فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس، وخرجت عن سنن العادة، وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم وكر العدو كرة فلم يلو عن،، وخذل الناصرون فلم يلووا على، وتحير السائرون فلم يدروا من..، ولا إلى..، وانقطعت الأسباب الظاهرة، وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق، فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الأيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم.
(والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. )
قال الشيخ رحمه الله كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر في جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد، ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالأهتمام بجهادهم وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم، فكتبته في رجب والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
تصنيف:
رسالة ابن تيمية عند مداهمة التتار أرض المسلمين
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد:
فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }، والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله: { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا }
فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام: قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم، على عهد رسول الله ﷺ في المغازي التي أنزل الله فيها كتبه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين: مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة ؛ فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد ﷺ يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي أو بالعموم المعنوي.
وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها، وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى } أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة، وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: { فأخذه الله نكال الأخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى }.
وقال في سيرة نبينا محمد ﷺ مع أعدائه ببدر وغيرها: { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }، وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع: أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة، فقال تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وقال تعالى: { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا }.
وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين، كدأب الكافرين من المستقدمين، فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الأسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الأيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء، وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والأخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والأيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق، وضعف إيمان ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى، ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه ؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الأيمان والعمل الصالح والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال، يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم، فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه، فاتخذ مع الرسول سبيلا، وبان صدق ما جاءت به الأثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة، على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى يوم القيامة.
حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الأسلام، وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور، وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }.
ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله تعالى بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولا، ثم إيجابا له ثانيا ؛ لما هاجر إلى المدينة، وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه ﷺ مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين: بضعا وعشرين غزوة، أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك: أنزل الله في أول مغازيه ( سورة الأنفال ) وفي آخرها ( سورة براءة )، وجمع بينهما في المصحف ؛ لتشابه أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان: لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة.
وكان القتال منها في تسع غزوات، فأول غزوات القتال: بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته كما أخبر به القرآن ؛ ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول، وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا ؛ فإن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة شامي مكة، وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة، وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة، ثم قسم النبي ﷺ غنائمها بالجعرانة واعتمر من الجعرانة، ثم حاصر الطائف، فلم يقاتله أهل الطائف زحفا وصفوفا، وإنما قاتلوه من وراء جدار، فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا: هي غزوة حنين.
وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم ؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد، وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء، فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة، وفيها النبي ﷺ وأصحابه، فخرج إليهم النبي ﷺ وأصحابه في نحو من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة ثم ينقلوهم إلي موضع آخر، وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار، فانهزم عامة عسكر المسلمين، إلا نفرا قليلا حول النبي ﷺ منهم من قتل ومنهم من جرح، وحرصوا على قتل النبي ﷺ، حتى كسروا رباعيته، وشجوا جبينه، وهشموا البيضة على رأسه، وأنزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال }، وقال فيها: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم }، وقال فيها: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين }، وقال فيها: { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير }.
وكان الشيطان قد نعق في الناس: أن محمدا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب، ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }.
وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة: من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والأعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعا في الدخول في الإسلام، وكان مبتدئا في الأيمان والأمان، وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الأيمان، فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ؛ ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام، فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم - الذي هو على الحال المذكورة - لاوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين ؛ فإن النبي ﷺ قال: « لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ».
فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة - وقيل بسنتين - قد ابتلي المسلمون عام الخندق، كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي ﷺ عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها ( سورة الأحزاب )، وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده ﷺ وأعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب - الذين تحزبوا عليه - وحده بغير قتال ؛ بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم، ذكر فيها خصائص رسول الله ﷺ وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته ؛ لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال، كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء، وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق.
وذلك أن الله تعالى منذ بعث محمدا ﷺ، وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام: قسما مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسما كفارا، وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسما منافقين، وهم الذين آمنوا ظاهرا لا باطنا، ولهذا افتتح ( سورة البقرة ) بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة آية في صفة المنافقين، وكل واحد من الأيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه في الأيمان ودعائمه وشعبه.
فمن النفاق ما هو أكبر ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار ؛ كنفاق عبد الله بن أبي وغيره ؛ بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله ﷺ وما زال بعده ؛ بل هو بعده أكثر منه على عهده ؛ لكون موجبات الأيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها - وكان النفاق معها موجودا - فوجوده فيما دون ذلك أولى.
وكما أنه ﷺ كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم، كما بينه قوله: { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } كذلك خلفاؤه بعده وورثته: قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمون ( الزنادقة )، وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم في الظاهر ؛ لكون ذلك لا يعلم إذ هم دائما يظهرون الإسلام، وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة: من المنجمين ونحوهم، ثم في الأطباء، ثم في الكتاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة والمتفقهة، وفي المقاتلة والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع ؛ لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والأسماعيلية والنصيرية، ونحوهم من المنافقين الزنادقة: منتسبة إلى الرافضة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار ؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام ؛ بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء والسبي ؛ لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر.
وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها: مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن، أو يفجر إذا خاصم، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان »، وفي رواية صحيحة: « وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ».
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ».
ومن هذا الباب: الأعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، قال النبي ﷺ: « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق » رواه مسلم، وقد أنزل الله ( سورة براءة ) التي تسمى الفاضحة ؛ لأنها فضحت المنافقين، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل: « ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها ».
وعن المقداد بن الأسود قال: « هي سورة البحوث ؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين »، وعن قتادة قال: « هي المثيرة ؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين »، وعن ابن عباس قال: « هي المبعثرة »، والبعثرة والأثارة متقاربان، وعن ابن عمر: « أنها المقشقشة، لأنها تبرئ من مرض النفاق »، يقال: تقشقش المريض إذا برأ: قال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الأخلاص: المقشقشتان ؛ لأنهما يبرئان من النفاق.
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي ﷺ غزوة تبوك عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام وظهر، فكشف الله فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد، ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال، وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل، قال النبي ﷺ: « شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع » حديث صحيح ؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }.
وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون }، فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم ؛ ولكن يفزعون من العدو: { لو يجدون ملجأ } يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد، أو ( مغارات وهي جمع مغارة، ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر ؛ كما يغور الماء: { أو مدخلا }، وهو الذي يتكلف الدخول إليه، إما لضيق بابه أو لغير ذلك، أي مكانا يدخلون إليه، ولو كان الدخول بكلفة ومشقة: لولوا عن الجهاد { إليه وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام، وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا، وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.
وكذلك قال في ( سورة محمد ) ﷺ: { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } أي فبعدا لهم: { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم }، وقال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد.
وقال تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الأخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون }، فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد ؛ وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن، فكيف بالتارك من غير استئذان.
ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى، وقال في وصفهم بالشح: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }، فهذه حال من أنفق كارها، فكيف بمن ترك النفقة رأسا، وقال: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون }، وقال: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون }، وقال في السورة: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } فانتظمت هذه الأية حال من أخذ المال بغير حقه، أو منعه من مستحقه من جميع الناس ؛ فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد، وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون، يقال: صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا، وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل: من وقف أو عطية على الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك، فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين، ثم قال: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله }، فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله، والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله، سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك، وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب، فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها: مصالحهم - أولى وأحرى.
فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق، فإذا قرأ الأنسان ( سورة الأحزاب )، وعرف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي: كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك: وجد مصداق ما ذكرنا، وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة، كما انقسموا في تلك، وتبين له كثير من المتشابهات، افتتح الله السورة بقوله: { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين }، وذكر في أثنائها قوله: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا. ولا تطع الكافرين والمنافقين }، ثم قال: { واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا. وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }، فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة - التي هي سنته - وبأن يتوكل على الله، فبالأولى يحقق قوله: { إياك نعبد }، وبالثانية يحقق قوله: { وإياك نستعين }، ومثل ذلك قوله: { فاعبده وتوكل عليه }، وقوله: { عليه توكلت وإليه أنيب }.
وهذا وإن كان مأمورا به في جميع الدين ؛ فإن ذلك في الجهاد أوكد ؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين ؛ وذلك لا يتم إلا بتأييد قوي من الله ؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة كما في قوله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } وفيه سنام التوكل وسنام الصبر ؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ؛ ولهذا قال تعالى: { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } و قال موسى لقومه: { استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }، ولهذا كان الصبر واليقين - اللذين هما أصل التوكل - يوجبان الأمامة في الدين كما دل عليه قوله تعالى: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }، ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }.
فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى ؛ ولهذا قال الأمامان عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم ؛ لأن الله يقول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }، وفي الجهاد أيضا: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضا: حقيقة الأخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الأخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون }، والجنة: اسم للدار التي حوت كل نعيم، أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله ﷺ: « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».
فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا، ثم إنه تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } كان مختصر القصة: أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاءوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بني أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد، واجتمعت أيضا اليهود: من قريظة والنضير، فإن بني النضير كان النبي ﷺ قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله تعالى في ( سورة الحشر )، فجاءوا في الأحزاب إلى قريظة، وهم معاهدون للنبي ﷺ، ومجاورون له قريبا من المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا في الأحزاب، فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة، فرفع النبي ﷺ الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة، وهي مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر، وجعل ظهرهم إلى سلع - وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام - وجعل بينه وبين العدو خندقا، والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة، وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات.
وفي هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغول، وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الأقدام والأحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين، ودام الحصار على المسلمين عام الخندق - على ما قيل - بضعا وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الأخر، وكان أول انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه: يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم: ألقى الله في قلوب عدوهم الروع والانصراف، وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها }.
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات، حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك ؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو ؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضا منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا: أعدونا في الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم ؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم ؛ لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة، وقال الله في شأن الأحزاب: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }.
وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما، وبلغت القلوب الحناجر ؛ لعظم البلاء ؛ لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن إنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا - إذا أحسن ظنه - قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم.
وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الأثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات، أماني كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم، وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الأرادات ؛ لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء ؛ بل إما أن يكون جاهلا بها، وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية، فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء، وتراجمت به الأراء تراجم الصبيان بالحصباء: { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات ما استوجبوا به أعلى الدرجات، قال الله تعالى: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا }.
وهكذا قالوا في هذه الفتنة، فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عنه، حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله ﷺ، كما قال الله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }.
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم، وأما الذين في قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة، فذكروا هنا وفي قوله: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة }، وفي قوله: { فيطمع الذي في قلبه مرض } وذكر الله مرض القلب في مواضع، فقال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم }، والمرض في القلب كالمرض في الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته، وذلك - كما فسروه -: هو من ضعف الأيمان ؛ إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته، فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع ؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك كلها أمراض.
وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التي فيه، وعلى هذا فقول: { فيطمع الذي في قلبه مرض } هو إرادة الفجور وشهوة الزنا كما فسروه به، ومنه قول النبي ﷺ: « وأي داء أدوأ من البخل ؟ »، وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء لما في الصدور، وقال النبي ﷺ: « إنما شفاء العي السؤال »، وكان يقول في دعائه: « اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء »، ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: لو صححت لم تخف أحدا، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.
ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان ؛ بل لا يخافون غيره تعالى فقال: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي يخوفكم أولياءه، وقال لعموم بني إسرائيل تنبيها لنا: { وإياي فارهبون }، وقال: { فلا تخشوا الناس واخشون }، وقال: { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني }، وقال تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون }، وقال: { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله }، وقال: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله }، وقال: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه }.
فدلت هذه الأية - وهي قوله تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض }، على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة، التي توجب أمن الأنسان: من الخوف حتى يظنوا أنها كانت غرورا لهم، كما وقع في حادثتنا هذه سواء، ثم قال تعالى: { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا }، وكان النبي ﷺ قد عسكر بالمسلمين عند سلع، وجعل الخندق بينه وبين العدو، فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا ؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة، وقيل: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك، وقيل: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.
وهكذا لما قدم هذا العدو، كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغي الدخول في دولة التتار، وقال بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن ؛ بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول تحت حكمهم، فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك، وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض، ونفي المقام بها أبلغ من نفي المقام، وإن كانت قد قرئت بالضم أيضا، فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان فكيف يقيم به ؟.
قال الله تعالى: { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }، وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون - والناس مع النبي ﷺ عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة -: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل، - وأصل العورة: الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر، يقال: اعور مجلسك إذا ذهب ستره أو سقط جداره، ومنه عورة العدو -، وقال مجاهد والحسن: أي ضائعة تخشى عليها السراق، وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو، فلا نأمن على أهلنا فائذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان، قال الله تعالى: { وما هي بعورة } ؛ لأن الله يحفظها { إن يريدون إلا فرارا }، فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة.
وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة، صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله ﷺ، وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله ؟ قال الله تعالى: { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا }، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها، ثم طلبت منهم الفتنة - وهي الافتتان عن الدين بالكفر أو النفاق - لاعطوا الفتنة، ولجئوها من غير توقف.
وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم، ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام - وتلك فتنة عظيمة - لكانوا معه على ذلك، كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا ما بين ترك واجبات وفعل محرمات، إما في حق الله وإما في حق العباد، كترك الصلاة وشرب الخمور، وسب السلف وسب جنود المسلمين والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم، وأخذ أموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من أنواع الفتنة، ثم قال تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا في هذه الغزوة، فإن في العام الماضي وفي هذا العام: في أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر ثم فر منهزما لما اشتد الأمر.
ثم قال الله تعالى: { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا }، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل، فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون، ولذلك قال النبي ﷺ: « إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه » والفرار من القتل كالفرار من الجهاد، وحرف ( لن ) ينفي الفعل في الزمن المستقبل، والفعل نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم جميع أفرادها، فاقتضى ذلك: أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدا، وهذا خبر الله الصادق، فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله في خبره.
والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن، فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم ؛ بل خسروا الدين والدنيا وتفاوتوا في المصائب، والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدين والدنيا حتى الموت الذي فروا منه كثر فيهم، وقل في المقيمين، فما منع الهرب من شاء الله، والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد ولا قتل ؛ بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون، وهكذا سنة الله قديما وحديثا.
ثم قال تعالى: { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون، فإن الموت لا بد منه، وقد حكي عن بعض الحمقى أنه قال: فنحن نريد ذلك القليل، وهذا جهل منه بمعنى الأية، فإن الله لم يقل: إنهم يمتعون بالفرار قليلا، لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدا، ثم ذكر جوابا ثانيا، أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل، ثم ذكر جوابا ثالثا وهو أن الفار يأتيه ما قضي له من المضرة، ويأتي الثابت ما قضي له من المسرة، فقال: { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }، ونظيره: قوله في سياق آيات الجهاد: { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }، الآية وقوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير }.
فمضمون الأمر: أن المنايا محتومة، فكم من حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد - لما احتضر -: « لقد حضرت كذا وكذا صفا، وأن ببدني بضعا وثمانين، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ».
ثم قال تعالى: { قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا }، قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم، يثبطونهم عن القتال، وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدا، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فانصرف بعضهم من عند النبي ﷺ، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ، فقال: أنت ههنا ورسول الله ﷺ بين الرماح والسيوف ؟ فقال: هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك.
فوصف المثبطين عن الجهاد - وهم صنفان - بأنهم:
إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما، وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم: بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد، كما جرى في هذه الغزاة، فإن أقواما في العسكر والمدينة وغيرهما، صاروا يعوقون من أراد الغزو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا قال الله تعالى فيهم: { ولا يأتون البأس إلا قليلا. أشحة عليكم }، أي بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله، وقال مجاهد: بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة، وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله: من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره، فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله، وهم الحساد.
ثم قال تعالى: { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت }، من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف، فكذلك هؤلاء ؛ لأنهم يخافون القتل: { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد }، ويقال في اللغة ( صلقوكم ): وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي، ومنه ( الصالقة ): وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة، يقال: صلقه وسلقه، وقد قرأ طائفة من السلف بها ؛ لكنها خارجة عن المصحف - إذا خاطبه خطابا شديدا قويا، ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغا في خطبته ؛ لكن الشدة هنا في الشر لا في الخير، كما قال { بألسنة حداد أشحة على الخير } وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه: تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم ؛ فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم ؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا، وتارة يقولون - أنتم مع قلتكم وضعفكم - تريدون أن تكسروا العدو وقد غركم دينكم، كما قال تعالى: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم }، وتارة يقولون: أنتم مجانين لا، عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم، وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم، قال قتادة: إن كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا فلستم بأحق بها منا، فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند الغنيمة فأشح قوم.
وقيل: أشحة على الخير أي بخلاء به، لا ينفعون لا بنفوسهم ولا بأموالهم، وأصل الشح: شدة الحرص الذي يتولد عنه البخل والظلم: من منع الحق وأخذ الباطل، كما قال النبي ﷺ: « إياكم والشح ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا »، فهؤلاء أشحاء على إخوانهم: أي بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير أي حراص عليه، فلا ينفقونه، كما قال: { وإنه لحب الخير لشديد }.
ثم قال تعالى: { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا }، فوصفهم بثلاثة أوصاف:
أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن، الوصف.
الثاني: أن الأحزاب إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم ؛ بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: إيش خبر المدينة ؟ وإيش جرى للناس ؟.
والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا - وهم فيكم - لم يقاتلوا إلا قليلا.
وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة، كما يعرفونه من أنفسهم ويعرفه منهم من خبرهم.
ثم قال تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا }، فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلي رسول الله ﷺ، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه، فليتأسوا به في التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له، فإنه لو كان كذلك ما ابتلي بها رسول الله ﷺ خير الخلائق ؛ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابا، كالكفار والمنافقين.
ثم قال تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }، قال العلماء: كان الله قد أنزل في سورة البقرة: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }، فبين الله سبحانه - منكرا على من حسب خلاف ذلك - أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم ب ( البأساء ): وهي الحاجة والفاقة، و ( الضراء ): وهي الوجع والمرض، و ( الزلزال ): وهي زلزلة العدو، فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا: { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال، وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما لحكم الله وأمره، وهذه حال أقوام في هذه الغزوة: قالوا ذلك.
وكذلك قوله: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه }، أي: عهده الذي عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل أو عاش، و ( النحب ): النذر والعهد، وأصله من النحيب، وهو الصوت، ومنه: الانتحاب في البكاء، وهو الصوت الذي تكلم به في العهد، ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق في اللقاء - ومن صدق في اللقاء فقد يقتل - صار يفهم من قوله: { قضى نحبه } أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب: نذر الصدق في جميع المواطن ؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت، وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه } أي أكمل الوفاء، وذلك لمن كان عهده مطلقا: بالموت أو القتل، { ومنهم من ينتظر } قضاءه إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد.
وأصل القضاء: الأتمام والأكمال: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }، بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا في إيمانهم، كما قال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }، فحصر الأيمان في المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: آمنا ؛ لا من قال كما قالت الأعراب: آمنا والأيمان لم يدخل في قلوبهم ؛ بل انقادوا واستسلموا.
وأما المنافقون فهم بين أمرين:
إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم، فهذا حال الناس في الخندق وفي هذه الغزاة، وأيضا فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة ؛ ليجزي الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم، ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين ؛ فإن منهم من ندم، والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها،
وقد ذكر أهل المغازي - منهم ابن إسحاق - أن النبي ﷺ قال في الخندق: « الأن نغزوهم ولا يغزونا »، فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها ؛ بل غزاهم المسلمون: ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة.
كذلك - إن شاء الله - هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا، ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم بالإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم، فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار كما قال: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }.
فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا: ريح شديدة باردة، وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرا، إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم، وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة، وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه، فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل: سبب رحيلهم، وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله، وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه، وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب: يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه.
فلما ثبت الله قلوب المسلمين، صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار، وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغول والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا، كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود، كما ذكر ذلك أهل المغازي، فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي، مثل عروة بن الزبير والزهري وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ ومحمد بن إسحاق والواقدي وغيرهم.
ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك، وثبت المسلمون بإزائهم، وكانوا أكثر من المسلمين بكثير ؛ لكن في ضعف شديد وتقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى، فلم يقدموا على المسلمين قط، وصار من المسلمين من يريد الأقدام عليهم فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق، حيث قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامري، لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين، كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين، وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم، وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات، فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات، وبعضهم في جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم ؛ وأصاب المسلمون بعضهم، وقيل: إنه غرق بعضهم.
وكان عبورهم وخلو الشام منهم في أوائل رجب بعد أن جرى - ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور، رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة ؛ لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا، وثبت بإزائهم المقدم الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما، وقد قيل: إنهم كانوا عدة كمانات ؛ إما ثلاثة أو أربعة.
فكان من المقدر: أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقي في قلوب عدوهم الرعب، فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل ( تيزين ) و ( الفوعة ) و ( معرة مصرين ) وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي، وقيل: إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ؛ بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم ؛ لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلي به، والله تعالى يقول: { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون }، وقد ظاهروهم على المسلمين: الذين كفروا من أهل الكتاب من أهل ( سيس ) والأفرنج، فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم، وهي الحصون - ويقال للقرون: الصياصي - ويقذف في قلوبهم الرعب، وقد فتح الله تلك البلاد، ونغزوهم إن شاء الله تعالى، فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه.
فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس، وخرجت عن سنن العادة، وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم وكر العدو كرة فلم يلو عن،، وخذل الناصرون فلم يلووا على، وتحير السائرون فلم يدروا من..، ولا إلى..، وانقطعت الأسباب الظاهرة، وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق، فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الأيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم.
(والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. )
قال الشيخ رحمه الله كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر في جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد، ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالأهتمام بجهادهم وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم، فكتبته في رجب والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
تصنيف:
رسالة ابن تيمية عند مداهمة التتار أرض المسلمين