مكتبة العلوم الشاملة

false EN-GB X-NONE AR-SA ath"/>

مكتبة العلوم الشاملة

https://sluntt.blogspot.com/

 

السبت، 12 فبراير 2022

رسالة في عموم رسالة الرسول للثقلين ابن تيمية

مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين
فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين ابن تيمية
فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين
يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا ﷺ إلي جميع الثقلين: الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلَّل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله، ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد ﷺ من الإنس والجن فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول.
وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين: أهل السنة والجماعة، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمدا ﷺ إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصاري، فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك. وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين؛ كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك.
وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره، كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترًا عن الأنبياء تواترًا ظاهرًا تعرفه العامة والخاصة؛ لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم، كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة، ولا إنكار معاد الأبدان ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له، ولا إنكار أن يرسل الله رسولا من الإنس إلي خلقه، ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترًا تعرفه العامة والخاصة، كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلي فرعون وغرق فرعون، ومجيء المسيح إلي اليهود وعداوتهم له، وظهور محمد ﷺ بمكة وهجرته إلي المدينة، ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة، وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه، كتكثير الطعام والشراب، والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله، وغير ذلك.
ولهذا أمر الله رسوله ﷺ بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [1] ؛ فإن من الكفار من أنكر أن يكون الله رسول بشر، فأخبر الله أن الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرًا، وأمر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم.
وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء، وكفر به الكافرون، قال تعالى: { قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [2]، وقال تعالى: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [3]، وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } [4].
وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي، وقد علموا أن محمدا لم يتعلم من أهل الكتاب شيئًا.
وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته في كتبهم، كقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ } [5]، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [6]، وأمثال ذلك.
وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم، كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض، فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من أهل الجهل والضلال؛ ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة، كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما، دخول الجن في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك؛ ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [7]، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي. فقال: يابني، يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه. وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن، وكذلك جمهور الكفار، كعامة أهل الكتاب، وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد سام، والهند وغيرهم من أولاد حام، وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث، فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن، بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم، سواء أكان ذلك سائغًا عند أهل الإيمان أو كان شركًا، فإن المشركين يقرؤون من العزائم والطلاسم والرقي ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم، وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقي التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن.
ولهذا نهي علماء المسلمين عن الرقي التي لا يفقه معناها؛ لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك. وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشْجَعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يارسول الله، كيف تري في ذلك؟ فقال: «اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك». وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر قال: نهي رسول الله ﷺ عن الرقي، فجاء آل عمرو بن حزم إلي رسول الله ﷺ فقالوا: يارسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقي، قال: فعرضوها عليه، فقال: «ما أرى بأسًا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه».
وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها، وأخبار العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم، ولكن المسلمين أخْبَرُ بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم؛ إذ كان خير القرون كانوا عربًا، وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه في الجاهلية، وكان ذلك من أسباب نزول القرآن، فذكروا في كتب التفسير والحديث والسير والمغازي والفقه، فتواترت أيام جاهلية العرب في المسلمين، وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين في هذا، وبعضهم كان أشد كفرًا وضلالا من مشركي العرب، وبعضهم أخف.
والآيات التي أنزلها الله على محمد ﷺ فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجودًا في العرب، فليس شيء من الآيات مختصًا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين، وإنما تنازعوا: هل يختص بنوع السبب المسؤول عنه؟ وأما بعين السبب فلم يقل أحد من المسلمين: إن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية.
وهذا الذي يسميه بعض الناس: تَنقِيح المناط، وهو أن يكون الرسول ﷺ حكم في معين، وقد علم أن الحكم لا يختص به، فيريد أن ينقح مناط الحكم، ليعلم النوع الذي حكم فيه، كما أنه لما أمر الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان بالكفارة، وقد علم أن الحكم لا يختص به، وعلم أن كونه أعرابيًا أو عربيًا أو الموطوءة زوجته لا أثر له، فلو وطئ المسلم العجمي سَرِيَّته كان الحكم كذلك.
ولكن هل المؤثر في الكفارة كونه مجامعًا في رمضان أو كونه مفطرًا؟ فالأول: مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، والثاني: مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو رواية منصوصة عن أحمد في الحجامة فغيرها أولي، ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر، وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه، فلا يوجبه في ابتلاع الحصاة والنواة.
وتنازعوا: هل يشترط أن يكون أفسد صومًا صحيحًا؟ وأحمد لا يشترط ذلك، بل كل إمساك وجب في شهر رمضان أوجب فيه الكفارة، كما يوجب الأربعة مثل ذلك في الإحرام الفاسد، فالصيام الفاسد عنده كالإحرام الفاسد، كلاهما يجب إتمامه والمضي فيه، والشافعي وغيره لا يوجبونها إلا في صوم صحيح، والنزاع فيمن أكل ثم جامع أو لم ينو الصوم ثم جامع، ومن جامع وكفَّر ثم جامع.
ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة في جُبَّةٍ مُتضَمخًا بالخلوق: «انزع عنك الجبَّة واغسل عنك أثر الصُّفرة»، هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك؟ أو لكونه نهي أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة؟ وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له في حجة الوداع؟.
ومثل قوله لما سئل عن فأرة وقعت في سَمْنٍ: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم»، هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة، أو بكونه جامدًا، أو كونها فأرة وقعت في سمن، فلا يتعدي إلي سائر المائعات؟ ومثل هذا كثير، وهذا لابد منه في الشرائع، ولا يسمي قياسًا عند كثير من العلماء كأبي حنيفة ونفاة القياس؛ لاتفاق الناس على العمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو: أن يعلق الشارع الحكم بمعني كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان، كأمره باستقبال الكعبة، وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضي من الشهداء، وكتحريمه الخمر والميسر، وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة، وكتفريقه بين الفدية والطلاق، وغير ذلك.
فيبقي النظر في بعض الأنواع: هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق؟ وفي بعض الأعيان: هل هي من هذا النوع؟ وهل هذا المصلي مستقبل القبلة؟ وهذا الشخص عدل مرضي؟ ونحو ذلك؛ فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين، بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم.
وحقيقة ذلك يرجع إلي تمثيل الشيء بنظيره وإدراج الجزئي تحت الكلي، وذاك يسمي قياس التمثيل، وهذا يسمي قياس الشمول، وهما متلازمان، فإن القدر المشترك بين الأفراد في قياس الشمول الذي يسميه المنطقيون: الحد الأوسط هو القدر المشترك في قياس التمثيل الذي يسميه الأصوليون: الجامع، والمناط، والعلة، والأمارة، والداعي، والباعث، والمقتضي، والموجب، والمشترك، وغير ذلك من العبارات.
وأما تخريج المناط وهو: القياس المحض، وهو: أن ينص على حكم في أمور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها؛ إما لانتفاء الفارق، أو للاشتراك في الوصف الذي قام الدليل على أن الشارع علق الحكم في الأصل، فهذا هو القياس الذي تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس. وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذي علق الشارع الحكم به، وهو الذي يسمي سؤال المطالبة، وهو: مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم، أو دليل العلة. فأكثر غلط القَائِسِين من ظنهم علة في الأصل ما ليس بعلة؛ ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد. فأما إذا قام دليل على إلغاء الفارق، وأنه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين، أو قام الدليل على أن المعني الفلاني هو الذي لأجله حكم الشارع بهذا الحكم في الأصل وهو موجود في صورة أخري، فهذا القياس لا ينازع فيه إلا من لم يعرف هاتين المقدمتين. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن دعوة محمد ﷺ شاملة للثقلين: الإنس والجن على اختلاف أجناسهم، فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا، بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر، ومؤمن ومنافق، وبر وفاجر، ومحسن وظالم، وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث، وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور، كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بألا يسترقوا، وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون، كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة، حيث استرق بني المصطلق وفيهم جويرية بنت الحارث، ثم أعتقها وتزوجها، وأعتق بسببها من استرق من قومها.
وقال في حديث هوازن: «اختاروا إحدي الطائفتين: إما السَّبْي، وإما المال»، وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله ﷺ؛ أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات؛ كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل».
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة، أنه كانت سَبْيةٌ من سبي هوازن عند عائشة فقال: «أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل»، وعامة من استرقه الرسول ﷺ من النساء والصبيان كانوا عربًا، وذكر هذا يطول.
ولكن عمر بن الخطاب لما رأي كثرة السبي من العجم، واستغناء الناس عن استرقاق العرب، رأي أن يعتقوا العرب، من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة، لا من باب الحكم الشرعي الذي يلزم الخلق كلهم، فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر، وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين.
وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم، ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك، ومنهم من لا يأخذها إلا من أهل الكتاب والمجوس؛ وذلك أن النبي ﷺ لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب.
فمن قال: تؤخذ من كل كافر. قال: إن آية الجزية لما نزلت أسلم مشركو العرب، فإنها نزلت عام تبوك، ولم يبق عربي مشرك محاربًا، ولم يكن النبي ﷺ ليغزو النصاري عام تبوك بجميع المسلمين إلا من عذر الله ويدع الحجاز وفيه من يحاربه، ويبعث أبا بكر عام تسع فنادي في الموسم: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ونبذ العهود المطلقة، وأبقي المؤقتة، مادام أهلها موفين بالعهد، كما أمر الله بذلك في أول سورة التوبة، وَأنْظَر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر، وأمر عند انسلاخها بغزو المشركين كافة، قالوا: فدان المشركون كلهم كافة بالإسلام، ولم يرض بذل أداء الجزية؛ لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون؛ إذ كان عامة العرب قد أسلموا، فلم يبق لمشركي العرب عز يعتزون به، فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله في العرب بالحجة والبيان والسيف والسِّنان.
وقول النبي ﷺ: «أُمِرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»، مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم. وكان النبي ﷺ قبل نزول براءة يعاهد من عاهده من الكفار من غير أن يعطي الجزية عن يد، فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة؛ لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم، بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [8]، وكان دين أهل الكتاب خيرًا من دين المشركين، ومع هذا فأمروا بقتالهم حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة، فالمشركون أولي بذلك ألا تجوز معاهدتهم بدون ذلك.
قالوا: فكان في تخصيص أهل الكتاب بالذكر؛ تنبيهًا بطريق الأولي على ترك معاهدة المشركين بدون الصَّغَار والجزية، كما كان يعاهدهم في مثل هدنة الحديبية، وغير ذلك من المعاهدات.
قالوا: وقد ثبت في الصحيح من حديث بُريدَة قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمرَّ أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولاتمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلي ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم؛ ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلي التحول من دارهم إلي دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تَخْفُروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا».
قالوا: ففي الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار إلي الإسلام ثم إلي الهجرة إلي الأمصار، وإلا فإلي أداء الجزية، وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين، والأعراب عامتهم كانوا مشركين، فدل على أنه دعا إلي أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب. والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية، وأهل اليمن كان فيهم مشركون وأهل كتاب، وأمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا، ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب، فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب، ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدي الجزية.
وقد أخذ النبي ﷺ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسًا، وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعًا، ولم يكن النبي ﷺ ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر، بل حاربهم قبل نزول آية الجزية، وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلي أن أجلاهم عمر؛ لأنهم كانوا مهادنين له، وكانوا فلاحين في الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم، ثم أمر بإجلائهم قبل موته، وأمر بإخراج اليهود والنصاري من جزيرة العرب، فقيل: هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب، وقيل: بل هو عام في جميع أهل الذمة إذا استغني المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام، وهذا قول ابن جرير وغيره. ومن قال: إن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال: إن آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم.
والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم، وإن قيل: إنه خص جزيرة العرب التي هي حول المسجد الحرام، كما خص المسجد الحرام بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [9].
وكذلك من قال من العلماء: إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه. فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه، ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول، وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء، وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم، بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله، كالدم والميتة، والمنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة، وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله، وكانوا بل خيارهم يكرهون أشياء لم يحرمها الله، حتي لحم الضب كان النبي ﷺ يكرهه، وقال: «لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، وقال مع هذا: إنه ليس بمحرم وأكل على مائدته وهو ينظر، وقال فيه: «لا آكله ولا أحرمه».
وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعًا لآكله في دينه، والخبيث ماكان ضارًا له في دينه. وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته، فما أورث الآكل بغيا وظلمًا وحرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع؛ لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي، فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان.
وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب، فإذا اغتذي منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل؛ ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر.
ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء، لا يعاف شيئًا، والله لم يحرم على أمة محمد شيئًا من الطيبات، وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب، كما قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [10]، وقال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [11].
وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث، كالدم المسفوح، فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه، بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفي جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح، وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولي أن يعفي عنه.
وكذلك ريق الكلب يعفي عنه عند جمهور العلماء في الصيد، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر القولين في مذهبه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وإن وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم، إذ كان الريق في الولوغ كثيرًا ساريا في المائع لا يشق الاحتراز منه، بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف في جامد يشق الاحتراز منه.
وكذلك التقديم في إمامة الصلاة بالنَّسَب لا يقول به أكثر العلماء، وليس فيه نص عن النبي ﷺ، بل الذي ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا»، فقدمه ﷺ بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية، وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة، ثم الأسبق إلى الدين باختياره، ثم الأسبق إلى الدين بسنه، ولم يذكر النَّسب.
وبهذا أخذ أحمد وغيره، فرتب الأئمة كما رتبهم النبي ﷺ ولم يذكر النسب، وكذلك أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة لم يرجحوا بالنسب، ولكن رجح به الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، كالخرقي وابن حامد والقاضي وغيرهم، واحتجوا بقول سلمان الفارسي: إن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم.
والأولون يقولون: إنما قال سلمان هذا تقديما منه للعرب على الفرس، كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه: حقك علي كذا، وليس قول سلمان حكمًا شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله، ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة؛ فإن سلمان سابق الفرس.
وكذلك اعتبار النسب في أهل الكتاب، ليس هو قول أحد من الصحابة، ولا يقول به جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتين، واختار بعضهم اعتبار النسب موافقة للشافعي، والشافعي أخذ ذلك عن عطاء، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن النبي ﷺ إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض، فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان، ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان، لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية، لكن نزل القرآن بلسانهم، بل نزل بلسان قريش، كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قريش فإن القرآن نزل بلسانهم. وكما قال عثمان للذين يكتبون المصحف من قريش والأنصار: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة هذا الحي من قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم. وهذا لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولًا ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولًا، ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه، كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب.
وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب ليسوا أكفاء للعرب في النكاح، فهذه مسألة نزاع بين العلماء، فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا في الدين، ومن رآها في النسب أيضا فإنه يحتج بقول عمر: لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء؛ لأن النكاح مقصوده حسن الألفة، فإذا كانت المرأة أعلى منصبًا اشتغلت عن الرجل فلا يتم به المقصود. وهذه حجة من جعل ذلك حقًا لله، حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها في الدين أو المنصب، ومن جعلها حقًا لآدمي قال: إن في ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها، والأمر إليهم في ذلك.
ثم هؤلاء لا يخصون الكفاءة بالنسب، بل يقولون: هي من الصفات التي تتفاضل بها النفوس، كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك، وهذه مسائل اجتهادية ترد إلى الله والرسول؛ فإن جاء عن الله ورسوله ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف، وإلا فلا يكون قول أحد حجة على الله ورسوله. وليس عن النبي ﷺ نص صحيح صريح في هذه الأمور، بل قد قال ﷺ: «إن الله أذهب عنكم عُبْيَة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي»، وفي صحيح مسلم عنه ﷺ؛ أنه قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم»، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: «إن الله اصطفي كنانة من بني إسماعيل، واصطفي قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسًا وخيركم نسبًا».
وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ؛ أنه قال: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا».
لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم، كما قال رسول الله ﷺ: «إن خير القرون القرن الذين بُعْثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، وفي القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثاني والثالث، ومع هذا فلم يخص النبي ﷺ القرن الثاني والثالث بحكم شرعي، كذلك لم يخص العرب بحكم شرعي، بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته، ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم، وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم، ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما اختصوا به من العمل، وذلك لا يتعلق بالنسب.
والمقصود هنا أنه أُرسل إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية، ولكن خص قريشًا بأن الإمامة فيهم، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم؛ وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان، وليست الإمامة أمرًا شاملًا لكل أحد منهم، وإنما يتولاها واحد من الناس.
وأما تحريم الصدقة، فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلًا لتطهيرهم ودفعًا للتهمة عنه، كما لم يورث، فلا يأخذ ورثته درهمًا ولا دينارًا، بل لا يكون له ولمن يُمونه من مال الله إلا نفقتهم، وسائر مال الله يصرف فيما يحبه الله ورسوله، وذوو قرباه يعطون بمعروف من مال الخمس، والفيء الذي يعطي منه في سائر مصالح المسلمين لا يختص بأصناف معينة كالصدقات، ثم ما جعل لذوي القربي قد قيل: إنه سقط بموته كما يقوله أبو حنيفة، وقيل: هو لقربي من يلي الأمر بعده، كما روي عنه: «ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر بعده»، وهذا قول أبي ثور وغيره. وقيل: إن هذا كان مأخذ عثمان في إعطاء بني أمية، وقيل: هو لذوي قربى الرسول ﷺ دائمًا.
ثم من هؤلاء من يقول: هو مقدر بالشرع وهو خمس الخمس، كما يقوله الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وقيل: بل الخمس والفيء يصرف في مصالح المسلمين باجتهاد الإمام، ولا يقسم على أجزاء مقدرة متساوية، وهذا قول مالك وغيره. وعن أحمد أنه جعل خمس الزكاة فيئًا، وعلى هذا القول يدل الكتاب وسيرة الخلفاء الراشدين، وبسط هذه الأمور له موضع آخر. والمقصود هنا أن بعض آيات القرآن، وإن كان سببه أمورًا كانت في العرب، فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظًا ومعني في أي نوع كان، ومحمد ﷺ بعث إلى الإنس والجن.
وجماهير الأمم يقر بالجن ولهم معهم وقائع يطول وصفها، ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال المتفلسفة والأطباء ونحوهم، وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم؛ إما الإقرار بها، وإما ألا يحكي عنهم في ذلك قول. ومن المعروف عن بُقْراط أنه قال في بعض المياه: إنه ينفع من الصرع، لست أعني الذي يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعني الصرع الذي يعالجه الأطباء. وأنه قال: طِبُّنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا.
وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي، وإنما معه عدم العلم؛ إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن، وإن كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرًا عظيمًا في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية، وكذلك للجن تأثير في ذلك، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: »إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم«، وفي الدم الذي هو البخار الذي تسميه الأطباء: الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن، كما قد بسط هذا في موضع آخر.
والمراد هنا أن محمدا ﷺ أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، وقد أخبر الله في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به، كما قال تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [12]، ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال تعالى: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } [13] إلخ، فأمره أن يقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن، وأنه مبعوث إلى الإنس والجن؛ لما في ذلك من هدى الإنس والجن ما يجب عليهم من الإيمان بالله ورسله وإلىوم الآخر، وما يجب من طاعة رسله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم، كما قال في السورة: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [14].
كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي والأودية مَظَانُّ الجن، فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعإلى الأرض فكان الإنسي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيرهم، وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم، فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه، فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سُؤْلِهِمْ، لاسيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرًا، فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضي له حاجته.
ثم الشياطين منهم من يختار الكفر والشرك ومعاصي الرب، وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر، ويلتذون به ويطلبونه، ويحرصون عليه بمقتضي خبث أنفسهم، وإن كان موجبًا لعذابهم وعذاب من يغوونه، كما قال إبليس: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [15]، وقال تعالى: { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلا } [16]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [17].
والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقًا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله، والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك؛ صار ذلك كالرشوة والبِرْطِيل [18] لهم. فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالًا ليقتل له من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة.
ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما غيرهما إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة. أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم؛ إما تَغْوِير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك.
وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته؛ فإنهم كثيرون جدًا.
والمقصود أن محمدا ﷺ بعث إلى الثقلين، واستمع الجن لقراءته وولوا إلى قومهم منذرين كما أخبر الله عز وجل وهذا متفق عليه بين المسلمين. ثم أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون: إنهم جاؤوه بعد هذا، وأنه قرأ عليهم القرآن وبايعوه، وسألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال لهم: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر مايكون لحمًا، ولكم كل بَعْرة علف لدوابكم» قال النبي ﷺ: «فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن»، وهذا ثابت في صحيح مسلم، وغيره من حديث ابن مسعود.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، من حديث أبي هريرة نهيه ﷺ عن الاستنجاء بالعظم والروث في أحاديث متعددة.
وفي صحيح مسلم وغيره، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِرَاءة، قال: فقال: أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي بِرَجِيعٍ أو عظم. وفي صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر قال: نهى رسول الله ﷺ أن نتمسح بعظم أو ببعر، وكذلك النهى عن ذلك في حديث خزيمة بن ثابت وغيره.
وقد بَيَّنَ علة ذلك في حديث ابن مسعود، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن مسعود؛ أن النبي ﷺ قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن»، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم لحمًا، وكل بَعْرة علف لدوابكم»، فقال النبي ﷺ: «فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم». وفي صحيح البخاري وغيره، عن أبي هريرة؛ أنه كان يحمل مع النبي ﷺ إدَاوَة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها قال: «من هذا؟» قلت: أبا هريرة، قال: «ابغني أحجارًا أسْتَنْفضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة» فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نَصِيبين ونعم الجن فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا».
ولما نهى النبي ﷺ عن الاستنجاء بما يفسد طعام الجن وطعام دوابهم؛ كان هذا تنبيهًا على النهي عما يفسد طعام الإنس وطعام دوابهم بطريق الأولى، لكن كراهة هذا والنفور عنه ظاهر في فطر الناس، بخلاف العظم والروثة فإنه لا يعرف نجاسة طعام الجن؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة المتعددة بالنهي عنه. وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه خاطب الجن وخاطبوه، وقرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس؛ أنه كان يقول: إن النبي ﷺ لم ير الجن ولا خاطبهم، ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن. وابن عباس قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجن إليه ومخاطبته إياهم، وأنه أخبره بذلك في القرآن وأمره أن يخبر به، وكان ذلك في أول الأمر لما حُرِسَتِ السماء، وحِيلَ بينهم وبين خبر السماء، وملئت حرسًا شديدًا، وكان في ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة، كما قد بسط في موضع آخر، وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن، وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال: { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [19] قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.
وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل، كقوله تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا } [20]، وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا: { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [21] أي: مذاهب شَتَّي؛ مسلمون وكفار، وأهل سنة وأهل بدعة، وقالوا: { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [22]، والقاسط: الجائر، يقال: قسط إذا جار وأقسط إذا عدل.
وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء، وأما مؤمنهم فجمهور العلماء على أنه في الجنة، وقد روي: «أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة، تراهم الإنس من حيث لا يرونهم وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقيل: إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة. وقد احتج الجمهور بقوله: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } [23]، قالوا: فدل ذلك على تأتي الطَّمْثُ منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة.
هامش
[الرحمن: 56]
مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع عشر - أصول الفقه
فصل الكتاب والسنة والإجماع واجبة الاتباع | فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين | فصل في استعمال الدعوة إلى الله مع الجن | فصل في تصور الشيطان في صورة المدعو المستغاث به | فصل في الذب عن المظلوم ونصرته | فصل في جواز أن يكتب للمصاب شيئا من كتاب الله ويغسل به ويسقى | فصل في الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه | فصل في أول البدع ظهورا في الإسلام | أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه | فصل في الأمر باتباع الكتاب والحكمة | قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة | فصل في أن الرسالة ضرورية لإصلاح العبد في معاشه ومعاده | فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع | فصل في قوله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون | فصل في الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف | فصل فيما تنازع فيه العلماء | قاعدة في العلوم والاعتقادات | فصل في غلط من قال أن الحقائق تابعة للعقائد | فصل ما لا تؤثر فيه الاعتقادات | فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب | فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية | فصل مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم | معارج الوصول | فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه | فصل في العمليات أو الفروع | قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم | فصل في العلوم الشرعية والعقلية | فصل في حدود الأسماء التي علق الله بها الأحكام | فصل في اسم الحيض | فصل في المسح على الخفين | فصل في القصر والفطر في السفر | فصل في مقادير الدراهم والدنانير والمكاييل | فصل في مقدار الإطعام شرعا | فصل في الاستبراء | فصل في العاقلة ومقدار ما تحمله من الدية | فصل في خمس الغنيمة وتقسيمه | فصل في التقليد الذي حرمه الله ورسوله | سئل عمن يقول أن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة | فصل أحوال العبد في العبادات المأمور بها | فصل في اسم الشريعة والشرع والسنة

تصنيفان:
مجموع الفتاوى
مجموع الفتاوى:أصول الفقه

رسالة في علم الباطن والظاهر لإبن تيمية

رسالة في علم الباطن والظاهر

رسالة في علم الباطن والظاهر لإبن تيمية
سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن طائفة من المتفقرة يدعون
أن للقرآن باطنا وأن لذلك الباطن باطنا إلى سبعة أبطن ويروون في ذلك حديثا أن النبي ﷺ قال { للقرآن باطن وللباطن باطن إلى سبعة أبطن }
ويفسرون القرآن بغير المعروف عن الصحابة والتابعين والأئمة من الفقهاء
ويزعمون أن عليا قال : لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب كذا وكذا حمل جمل
ويقولون : إنما هو من علمنا إذ هو اللدني .
ويقولون كلاما معناه : أن رسول الله ﷺ خص كل قوم بما يصلح لهم فإنه أمر قوما بالإمساك وقوما بالإنفاق وقوما بالكسب وقوما بترك الكسب .
ويقولون : إن هذا ذكرته أشياخنا في " العوارف " وغيره من كتب المحققين وربما ذكروا أن حذيفة كان يعلم أسماء المنافقين خصه بذلك رسول الله ﷺ
وبحديث أبي هريرة { حفظت جرابين } . ويروون كلاما عن أبي سعيد الخراز أنه قال : للعارفين خزائن أودعوها علوما غريبة يتكلمون فيها بلسان الأبدية يخبرون عنها بلسان الأزلية
ويقولون : إن رسول الله ﷺ قال : { إن من العلم كهيئة المخزون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله } .

فهل ما ادعوه صحيحا أم لا ؟ . فسيدي يبين لنا مقالاتهم ؛ فإن المملوك وقف على كلام لبعض العلماء ذكر فيه أن الواحدي قال : ألف أبو عبد الرحمن السلمي كتابا سماه " حقائق التفسير " إن صح عنه فقد كفر ووقفت على هذا الكتاب فوجدت كلام هذه الطائفة منه أو ما شابهه فما رأي سيدي في ذلك ؟ وهل صح عن النبي ﷺ أنه قال : { للقرآن باطن } الحديث يفسرونه على ما يرونه من أذواقهم ومواجيدهم المردودة شرعا ؟ أفتونا مأجورين .

فأجاب الشيخ - رضي الله عنه - الحمد لله رب العالمين . أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد من أهل العلم ولا يوجد في شيء من كتب الحديث ؛ ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفا أو مرسلا { إن لكل آية ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا } وقد شاع في كلام كثير من الناس : " علم الظاهر وعلم الباطن " و " أهل الظاهر وأهل الباطن " . ودخل في هذه العبارات حق وباطل . وقد بسط هذا في غير هذا الموضع ؛ لكن نذكر هنا جملا من ذلك فنقول : قول الرجل : " الباطن " إما أن يريد ’’’علم الأمور الباطنة مثل العلم بما في القلوب من المعارف والأحوال والعلم بالغيوب التي أخبرت بها الرسل‘‘‘ وإما أن يريد به العلم الباطن أي الذي يبطن عن فهم أكثر الناس أو عن فهم من وقف مع الظاهر ونحو ذلك . فأما الأول فلا ريب أن العلم منه ما يتعلق بالظاهر كأعمال الجوارح ومنه ما يتعلق بالباطن كأعمال القلوب ومنه ما هو علم بالشهادة وهو ما يشهده الناس بحواسهم ومنه ما يتعلق بالغيب وهو ما غاب عن إحساسهم . وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب كما قال تعالى : { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } { الذين يؤمنون بالغيب }سورة البقرة والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به الرسل من الأمور العامة ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وملائكته والجنة والنار فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب ؛ فإن وصف الرسالة هو من الغيب وتفصيل ذلك هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } .


محتويات
1 علم بأحوال القلوب
2 خواص يعرفون علم الباطن
3 علم الباطن يوافق أو يخالف علم الظاهر
4 القرامطة من شرور الناس
5 زيدية الذين يفضلون عليا على أبى بكر
6 باطنية الصوفية
7 أمثال كلام ابن عربي في فصوص
8 قول في هذا الباب
9 كتاب حقائق التفسير لأبى عبد الرحمن السلمي
10 هل حسن البصري صحب عليا رضي الله عنه
11 العلم اللدني
12 الناس في حصول العلم اللدني
13 ضل من زعم الهدى و الايمان يحصل بمجرد العلم و بمجرد العمل بدون العلم
14 هل النبي خص كل قوم بما يصلح لهم
15 قول القرامطة و الفلاسفة
16 علم النبي اصحابه علم الدين بغير كتمانه من بعضهم
17 حديث موضوع
18 حديث حذيفة
19 صفة المنافقين في كتاب الله
20 حديث أبى هريرة
21 ابو هريرة و علم الحديث
22 هل النبى يقول بباطن يخالف الظاهر
23 هل كذب على ابي يزيد البسطامي رحمه الله
24 مثال من عارض الكتاب والسنة
25 طريقة الصحابة في علم الباطن
26 الملاحدة و المنافقين
27 الرافضة
28 احتجاج بقصة موسى و الخضر عليهم السلام
29 فضل الولي على النبي حقيقة القول
30 حقيقة القول الظاهر و الباطن
علم بأحوال القلوب

والعلم بأحوال القلوب . - كالعلم بالاعتقادات الصحيحة والفاسدة والإرادات الصحيحة والفاسدة والعلم بمعرفة الله ومحبته والإخلاص له وخشيته والتوكل عليه والرجاء له والحب فيه والبغض فيه والرضا بحكمه والإنابة إليه والعلم بما يحمد ويذم من أخلاق النفوس كالسخاء والحياء والتواضع والكبر والعجب والفخر والخيلاء وأمثال ذلك من العلوم المتعلقة بأمور باطنة في القلوب ونحوه - قد يقال : له : " علم الباطن " أي علم بالأمر الباطن فالمعلوم هو الباطن وأما العلم الظاهر فهو ظاهر يتكلم به ويكتب وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وكلام السلف وأتباعهم بل غالب آي القرآن هو من هذا العلم ؛ فإن الله أنزل القرآن { وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } . بل هذا العلم هو العلم بأصول الدين ؛ فإن اعتقاد القلب أصل لقول اللسان وعمل القلب أصل لعمل الجوارح والقلب هو ملك البدن كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال : { ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } . ومن لم يكن له علم بما يصلح باطنه ويفسده ولم يقصد صلاح قلبه بالإيمان ودفع النفاق كان منافقا إن أظهر الإسلام ؛ فإن الإسلام يظهره المؤمن والمنافق وهو علانية والإيمان في القلب كما في المسند عن النبي ﷺ أنه قال : { الإسلام علانية والإيمان في القلب } وكلام الصحابة والتابعين والأحاديث والآثار في هذا أكثر منها في الإجارة والشفعة والحيض والطهارة بكثير كثير ؛ ولكن هذا العلم ظاهر موجود مقول باللسان مكتوب في الكتب ؛ ولكن من كان بأمور القلب أعلم كان أعلم به وأعلم بمعاني القرآن والحديث .
خواص يعرفون علم الباطن

وعامة الناس يجدون هذه الأمور في أنفسهم ذوقا ووجدا فتكون محسوسة لهم بالحس الباطن ؛ لكن الناس في حقائق الإيمان متفاضلون تفاضلا عظيما فأهل الطبقة العليا يعلمون حال أهل السفلى من غير عكس كما أن أهل الجنة في الجنة ينزل الأعلى إلى الأسفل ولا يصعد الأسفل إلى الأعلى والعالم يعرف الجاهل ؛ لأنه كان جاهلا والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما ؛ فلهذا كان في حقائق الإيمان الباطنة وحقائق أنباء الغيب التي أخبرت بها الرسل ما لا يعرفه إلا خواص الناس فيكون هذا العلم باطنا من جهتين : من جهة كون المعلوم باطنا ومن جهة كون العلم باطنا لا يعرفه أكثر الناس . ثم إن هذا الكلام في هذا العلم يدخل فيه من الحق والباطل ما لا يدخل في غيره فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالف ذلك فهو باطل كالكلام في الأمور الظاهرة .
علم الباطن يوافق أو يخالف علم الظاهر

فصل وأما إذا أريد بالعلم الباطن العلم الذي يبطن عن أكثر الناس أو عن بعضهم فهذا على نوعين :
؛باطن يخالف العلم الظاهر: فمن ادعى علما باطنا أو علما بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئا إما ملحدا زنديقا وإما جاهلا ضالا .
؛باطن لا يخالف علم الظاهر: وأما الثاني فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر قد يكون حقا وقد يكون باطلا فإن الباطن إذا لم يخالف الظاهر لم يعلم بطلانه من جهة مخالفته للظاهر المعلوم فإن علم أنه حق قبل وإن علم أنه باطل رد وإلا أمسك عنه

وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم ممن وافقهم من الفلاسفة وغلاة المتصوفة والمتكلمين .
القرامطة من شرور الناس

وشر هؤلاء القرامطة فإنهم يدعون أن للقرآن والإسلام باطنا يخالف الظاهر ؛ فيقولون : " الصلاة " المأمور بها ليست هذه الصلاة أو هذه الصلاة إنما يؤمر بها العامة وأما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا و " الصيام " كتمان أسرارنا و " الحج " السفر إلى زيارة شيوخنا المقدسين ويقولون : إن " الجنة " للخاصة : هي التمتع في الدنيا باللذات و " النار " هي التزام الشرائع والدخول تحت أثقالها ويقولون : إن " الدابة " التي يخرجها الله للناس هي العالم الناطق بالعلم في كل وقت وإن " إسرافيل " الذي ينفخ في الصور هو العالم الذي ينفخ بعلمه في القلوب حتى تحيا و " جبريل " هو العقل الفعال الذي تفيض عنه الموجودات و " القلم " هو العقل الأول الذي تزعم الفلاسفة أنه المبدع الأول وأن الكواكب والقمر والشمس التي رآها إبراهيم هي النفس والعقل وواجب الوجود وأن الأنهار الأربعة التي رآها النبي ﷺ ليلة المعراج هي العناصر الأربعة وأن الأنبياء التي رآها في السماء هي الكواكب . فآدم هو القمر ويوسف هو الزهرة وإدريس هو الشمس وأمثال هذه الأمور . وقد دخل في كثير من أقوال هؤلاء كثير من المتكلمين والمتصوفين ؛ لكن أولئك القرامطة ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض وعامة الصوفية والمتكلمين ليسوا رافضة يفسقون الصحابة ولا يكفرونهم ؛
زيدية الذين يفضلون عليا على أبى بكر

لكن فيهم من هو كالزيدية الذين يفضلون عليا على أبي بكر وفيهم من يفضل عليا في العلم الباطن كطريقة الحربي وأمثاله ويدعون أن عليا كان أعلم بالباطن وأن هذا العلم أفضل من جهته وأبو بكر كان أعلم بالظاهر . وهؤلاء عكس محققي الصوفية وأئمتهم فإنهم متفقون على أن أعلم الخلق بالعلم الباطن هو أبو بكر الصديق . وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أعلم الأمة بالباطن والظاهر وحكى الإجماع على ذلك غير واحد . وهؤلاء الباطنية قد يفسرون : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } أنه علي ويفسرون قوله تعالى { تبت يدا أبي لهب وتب } بأنهما أبو بكر وعمر وقوله : { فقاتلوا أئمة الكفر } أنهم طلحة والزبير و { والشجرة الملعونة في القرآن } بأنها بنو أمية .
باطنية الصوفية

وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله تعالى { اذهب إلى فرعون } إنه القلب و { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } إنها النفس ويقول أولئك هي عائشة ويفسرون هم والفلاسفة تكليم موسى بما يفيض عليه من العقل الفعال أو غيره ويجعلون ( خلع النعلين ترك الدنيا والآخرة ويفسرون ( الشجرة التي كلم منها موسى و ( الوادي المقدس ونحو ذلك بأحوال تعرض للقلب عند حصول المعارف له وممن سلك ذلك صاحب " مشكاة الأنوار " وأمثاله وهي مما أعظم المسلمون إنكاره عليه وقالوا أمرضه " الشفاء " وقالوا : دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج فما قدر ومن الناس من يطعن في هذه الكتب ويقول : إنها مكذوبة عليه وآخرون يقولون : بل رجع عنها وهذا أقرب الأقوال ؛ فإنه قد صرح بكفر الفلاسفة في مسائل وتضليلهم في مسائل أكثر منها وصرح بأن طريقتهم لا توصل إلى المطلوب . وباطنية الفلاسفة يفسرون الملائكة والشياطين بقوى النفس وما وعد الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها ويتألم بها وقد وقع في هذا الباب في كلام كثير من متأخري الصوفية ما لم يوجد مثله عن أئمتهم ومتقدميهم كما وقع في كلام كثير من متأخري أهل الكلام والنظر من ذلك ما لا يوجد عن أئمتهم ومتقدميهم . وهؤلاء المتأخرون - مع ضلالهم وجهلهم - يدعون أنهم أعلم وأعرف من سلف الأمة ومتقدميها حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا الوجود واحدا كما فعل ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله فإنهم دخلوا من هذا الباب حتى خرجوا من كل عقل ودين وهم يدعون مع ذلك أن الشيوخ المتقدمين : كالجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وإبراهيم الخواص وغيرهم ماتوا وما عرفوا التوحيد وينكرون على الجنيد وأمثاله إذا ميزوا بين الرب والعبد كقوله : " التوحيد " إفراد الحدوث عن القدم . ولعمري إن توحيدهم الذي جعلوا فيه وجود المخلوق وجود الخالق هو من أعظم الإلحاد الذي أنكره المشايخ المهتدون وهم عرفوا أنه باطل فأنكروه وحذروا الناس منه وأمروهم بالتمييز بين الرب والعبد والخالق والمخلوق والقديم والمحدث وأن التوحيد أن يعلم مباينة الرب لمخلوقاته وامتيازه عنها وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته .
أمثال كلام ابن عربي في فصوص

ثم إنهم يدعون أنهم أعلم بالله من المرسلين وأن الرسل إنما تستفيد معرفة الله من مشكاتهم ويفسرون القرآن بما يوافق باطنهم الباطل كقوله : { مما خطيئاتهم } فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وقولهم إن العذاب مشتق من العذوبة ويقولون : إن كلام نوح في حق قومه ثناء عليهم بلسان الذم ويفسرون قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } بعلم الظاهر بل { ختم الله على قلوبهم } فلا يعلمون غيره { وعلى سمعهم وعلى أبصارهم } فلا يسمعون من غيره ولا يرون غيره فإنه لا غير له فلا يرون غيره . ويقولون في قوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } أن معناه قدر ذلك لأنه ليس ثم موجود سواه فلا يتصور أن يعبد غيره فكل من عبد الأصنام والعجل ما عبد غيره لأنه ما ثم غير وأمثال هذه التأويلات والتفسيرات التي يعلم كل مؤمن وكل يهودي ونصراني علما ضروريا أنها مخالفة لما جاءت به الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين .
قول في هذا الباب

وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان :
" أحدهما " أن يكون المعنى المذكور باطلا ؛ لكونه مخالفا لما علم فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا ؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق .
و " الثاني " ما كان في نفسه حقا لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك فهذا الذي يسمونه " إشارات " و " حقائق التفسير " لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير .
أما " النوع الأول " فيوجد كثيرا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم فإن من علم أن السابقين الأولين قد رضي الله عنهم ورضوا عنه علم أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك فهو باطل ومن أقر بوجوب الصلوات الخمس على كل أحد ما دام عقله حاضرا علم أن من تأول نصا على سقوط ذلك من بعضهم فقد افترى ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد ما دام عقله حاضرا علم أن من تأول نصا يقتضي تحليل ذلك لبعض الناس أنه مفتر .
أما " النوع الثاني " فهو الذي يشتبه كثيرا على بعض الناس فإن المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسنة عليه ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه وهذان قسمان :
" أحدهما " أن يقال : إن ذلك المعنى مراد باللفظ فهذا افتراء على الله فمن قال المراد بقوله : { تذبحوا بقرة } هي النفس وبقوله { اذهب إلى فرعون } هو القلب { والذين معه } أبو بكر { أشداء على الكفار } عمر { رحماء بينهم } عثمان { تراهم ركعا سجدا } علي : فقد كذب على الله إما متعمدا وإما مخطئا . و
" القسم الثاني " أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ فهذا من نوع القياس فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك فمن سمع قول الله تعالى : { لا يمسه إلا المطهرون } وقال : إنه اللوح المحفوظ أو المصحف فقال : كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف ؛ قال تعالى : { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } وقال : { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } وقال : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وأمثال ذلك . وكذلك من قال : " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب " فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد فقد أصاب قال تعالى : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وقال تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } وأمثال ذلك .
كتاب حقائق التفسير لأبى عبد الرحمن السلمي

و " كتاب حقائق التفسير " لأبي عبد الرحمن السلمي يتضمن ثلاثة أنواع
" أحدها " نقول ضعيفة عمن نقلت عنه مثل أكثر ما نقله عن جعفر الصادق فإن أكثره باطل عنه وعامتها فيه من موقوف أبي عبد الرحمن وقد تكلم أهل المعرفة في نفس رواية أبي عبد الرحمن حتى كان البيهقي إذا حدث عنه يقول حدثنا من أصل سماعه .
" الثاني " أن يكون المنقول صحيحا لكن الناقل أخطأ فيما قال .
" الثالث " نقول صحيحة عن قائل مصيب . فكل معنى يخالف الكتاب والسنة فهو باطل وحجته داحضة وكل ما وافق الكتاب والسنة والمراد بالخطاب غيره إذا فسر به الخطاب فهو خطأ وإن ذكر على سبيل الإشارة والاعتبار والقياس فقد يكون حقا وقد يكون باطلا . وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام . وأما ما يروى عن بعضهم من الكلام المجمل مثل قول بعضهم : لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب إلخ . فهذا إذا صح عمن نقل عنه كعلي وغيره لم يكن فيه دلالة على الباطن المخالف للظاهر ؛ بل يكون هذا من الباطن الصحيح الموافق للظاهر الصحيح . وقد تقدم أن الباطن إذا أريد به ما لا يخالف الظاهر المعلوم فقد يكون حقا وقد يكون باطلا ؛ ولكن ينبغي أن يعرف أنه قد كذب على علي وأهل بيته ؛ لا سيما على جعفر الصادق ما لم يكذب على غيره من الصحابة حتى إن الإسماعيلية والنصيرية يضيفون مذهبهم إليه وكذلك المعتزلة .
هل حسن البصري صحب عليا رضي الله عنه

وكذلك فرقة التصوف يقولون : إن الحسن البصري صحبه وإنه دخل المسجد فرأى الحسن يقص مع القصاص فقال : ما صلاح الدين ؟ قال الورع . قال : فما فساده ؟ قال الطمع فأقره وأخرج غيره ؛ وقد اتفق أهل المعرفة بالمنقولات أن الحسن لم يصحب عليا ولم يأخذ عنه شيئا وإنما أخذ عن أصحابه كالأحنف بن قيس وقيس بن سعد بن عباد وأمثالهما ولم يقص الحسن في زمن علي ؛ بل ولا في زمن معاوية ؛ وإنما قص بعد ذلك وقد كانوا في زمن علي يكذبون عليه حتى كان الناس يسألونه كما ثبت في الصحيحين { أنه قيل له : هل عندكم من رسول الله ﷺ كتاب تقرءونه ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا هذه الصحيفة . وفيها أسنان الإبل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ : هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس ؟ فقال : لا وفي لفظ : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه } .
العلم اللدني

وأما " العلم اللدني " فلا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين وعباده الصالحين بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه واتباعهم ما يحبه ما لا يفتح به على غيرهم . وهذا كما قال علي : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وفي الأثر : " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " وقد دل القرآن على ذلك في غير موضع كقوله : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما } { ولهديناهم صراطا مستقيما } فقد أخبر أنه من فعل ما يؤمر به يهديه الله صراطا مستقيما وقال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وقال تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال : { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } وقال تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } وقال تعالى : { هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون } وقال تعالى : { هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } . وأخبر أن اتباع ما يكرهه يصرف عن العلم والهدى كقوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أي : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ونقلب أفئدتهم أي يتركون الإيمان ونحن نقلب أفئدتهم لكونهم لم يؤمنوا أول مرة أي ما يدريكم أنه لا يكون هذا وهذا حينئذ . ومن فهم معنى الآية عرف خطأ من قال ( أن بمعنى لعل واستشكل قراءة الفتح ؛ بل يعلم حينئذ أنها أحسن من قراءة الكسر وهذا باب واسع .
الناس في حصول العلم اللدني

والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام طرفان ووسط
فقوم يزعمون أن مجرد الزهد وتصفية القلب ورياضة النفس توجب حصول العلم بلا سبب آخر .
قوم يقولون : لا أثر لذلك بل الموجب للعلم العلم بالأدلة الشرعية أو العقلية .
وأما الوسط : فهو أن ذلك من أعظم الأسباب معاونة على نيل العلم ؛ بل هو شرط في حصول كثير من العلم وليس هو وحده كافيا ؛ بل لا بد من أمر آخر إما العلم بالدليل فيما لا يعلم إلا به وإما التصور الصحيح لطرفي القضية في العلوم الضرورية . وأما العلم النافع الذي تحصل به النجاة من النار ويسعد به العباد فلا يحصل إلا باتباع الكتب التي جاءت بها الرسل قال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } { وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن } إلخ وقال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين }
ضل من زعم الهدى و الايمان يحصل بمجرد العلم و بمجرد العمل بدون العلم

فمن ظن أن الهدى والإيمان يحصل بمجرد طريق العلم مع عدم العمل به أو بمجرد العمل والزهد بدون العلم فقد ضل . وأضل منهما من سلك في العلم والمعرفة طريق أهل الفلسفة والكلام بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة ولا العمل بموجب العلم أو سلك في العمل والزهد طريق أهل الفلسفة والتصوف بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة ولا اعتبار العمل بالعلم ؛ فأعرض هؤلاء عن العلم والشرع وأعرض أولئك عن العمل والشرع فضل كل منهما من هذين الوجهين وتباينوا تباينا عظيما حتى أشبه هؤلاء اليهود المغضوب عليهم وأشبه هؤلاء النصارى الضالين ؛ بل صار منهما من هو شر من اليهود والنصارى كالقرامطة والاتحادية وأمثالهم من الملاحدة الفلاسفة .
هل النبي خص كل قوم بما يصلح لهم

فصل وأما قول القائل : إن النبي ﷺ خص كل قوم بما يصلح لهم إلخ فهذا الكلام له وجهان
إن أراد به أن الأعمال المشروعة يختلف الناس فيها بحسب اختلاف أحوالهم فهذا لا ريب فيه فإنه ليس ما يؤمر به الفقير كما يؤمر به الغني ولا ما يؤمر به المريض كما يؤمر به الصحيح ولا ما يؤمر به عند المصائب هو ما يؤمر به عند النعم ولا ما تؤمر به الحائض كما تؤمر به الطاهرة ولا ما تؤمر به الأئمة كالذي تؤمر به الرعية فأمر الله لعباده قد يتنوع بتنوع أحوالهم كما قد يشتركون في أصل الإيمان بالله وتوحيده والإيمان بكتبه ورسله
وإن أراد به أن الشريعة في نفسها تختلف وأن النبي ﷺ خاطب زيدا بخطاب يناقض ما خاطب به عمرا أو أظهر لهذا شيئا يناقض ما أظهره لهذا كما يرويه الكذابون { أن عائشة سألته هل رأيت ربك ؟ فقال : لا . وسأله أبو بكر فقال : نعم } . " وأنه أجاب عن مسألة واحدة بجوابين متناقضين لاختلاف حال السائلين " فهذا من كلام الكذابين المفترين ؛ بل هو من كلام الملاحدة المنافقين ؛ فإن النبي ﷺ قال { ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين } والحديث في سنن أبي داود وغيره { وكان عام الفتح قد أهدر دم جماعة منهم ابن أبي سرح فجاء به عثمان ليبايع النبي ﷺ فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم بايعه ثم قال : أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أعرضت عن هذا فيقتله ؟ فقال بعضهم : هلا أومضت إلي يا رسول الله ؟ فقال : ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين } وهذا مبالغة في استواء ظاهره وباطنه وسره وعلانيته وأنه لا يبطن خلاف ما يظهر على عادة المكارين المنافقين .
قول القرامطة و الفلاسفة

ولا ريب أن القرامطة وأمثالهم من الفلاسفة يقولون : إنه أظهر خلاف ما أبطن وأنه خاطب العامة بأمور أراد بها خلاف ما أفهمهم لأجل مصلحتهم ؛ إذ كان لا يمكنه صلاحهم إلا بهذا الطريق وقد زعم ذلك ابن سينا وأصحاب " رسائل إخوان الصفا " وأمثالهم من الفلاسفة والقرامطة الباطنية ؛ فإن ابن سينا كان هو وأهل بيته من أتباع الحاكم القرمطي العبيدي الذي كان بمصر . وقول هؤلاء كما أنه من أكفر الأقوال فجهلهم من أعظم الجهل وذلك أنه إذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يعلمه أهل العقل والذكاء من الناس وإذا علموه امتنع في العادة تواطؤهم على كتمانه كما يمتنع تواطؤهم على الكذب فإنه كما يمتنع في العادة تواطؤ الجميع على الكذب يمتنع تواطؤهم على كتمان ما تتوفر الهمم والدواعي على بيانه وذكره لا سيما مثل معرفة هذه الأمور العظيمة التي معرفتها والتكلم بها من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي عليه ألا ترى أن الباطنية ونحوهم أبطنوا خلاف ما أظهروه للناس وسعوا في ذلك بكل طريق وتواطئوا عليه ما شاء الله . حتى التبس أمرهم على كثير من أتباعهم . ثم إنهم مع ذلك اطلع على حقيقة أمرهم جميع أذكياء الناس من موافقيهم ومخالفيهم وصنفوا الكتب في كشف أسرارهم ورفع أستارهم ولم يكن لهم في الباطن حرمة عند من عرف باطنهم ولا ثقة بما يخبرون به ولا التزام طاعة لما يأمرون وكذلك من فيه نوع من هذا الجنس . فمن سلك هذه السبيل لم يبق لمن علم أمره ثقة بما يخبر به وبما يأمر به وحينئذ فينتقض عليه جميع ما خاطب به الناس فإنه ما من خطاب يخاطبهم به إلا ويجوزون عليه أن يكون أراد به غير ما أظهره لهم فلا يثقون بأخباره وأوامره فيختل عليه الأمر كله فيكون مقصوده صلاحهم فيعود ذلك بالفساد العظيم ؛ بل كل من وافقه فلا بد أن يظهر خلاف ما أبطن كاتباع من سلك هذه السبيل من القرامطة الباطنية وغيرهم لا تجد أحدا من موافقيهم إلا ولا بد أن يبين أن ظاهره خلاف باطنه ويحصل لهم بذلك من كشف الأسرار وهتك الأستار ما يصيرون به من شرار الكفار . وإذا كانت الرسل تبطن خلاف ما تظهر فإما أن يكون العلم بهذا الاختلاف ممكنا لغيرهم وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا كان مدعي ذلك كذابا مفتريا ؛ فبطل قول هؤلاء الملاحدة الفلاسفة والقرامطة وأمثالهم وإن كان العلم بذلك ممكنا علم بعض الناس مخالفة الباطن للظاهر وليس لمن يعلم ذلك حد محدود ؛ بل إذا علمه هذا علمه هذا وعلمه هذا فيشيع هذا ويظهر ؛ ولهذا كان من اعتقد هذا في الأنبياء كهؤلاء الباطنية من الفلاسفة والقرامطة ونحوهم معرضين عن حقيقة خبره وأمره لا يعتقدون باطن ما أخبر به ولا ما أمر ؛ بل يظهر عليه من مخالفة أمره والإعراض عن خبره ما يظهر لكل أحد ولا تجد في أهل الإيمان من يحسن بهم الظن ؛ بل يظهر فسقهم ونفاقهم لعوام المؤمنين فضلا عن خواصهم . وأيضا فمن كانت هذه حاله كان خواصه أعلم الناس بباطنه والعلم بذلك يوجب الانحلال في الباطن ومن علم حال خاصة النبي ﷺ - كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين الأولين - علم أنهم كانوا أعظم الناس تصديقا لباطن أمر خبره وظاهره وطاعتهم له في سرهم وعلانيتهم ولم يكن أحد منهم يعتقد في خبره وأمره ما يناقض ظاهر ما بينه لهم ودلهم عليه وأرشدهم إليه ولهذا لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه على خلاف ما دل عليه لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته ولا فيما أخبر به عما بعد الموت وأن ما ظهر من هذا ما ظهر إلا ممن هو عند الأئمة من أهل النفاق والاتحاد كالقرامطة والفلاسفة والجهمية نفاة حقائق الأسماء والصفات .
علم النبي اصحابه علم الدين بغير كتمانه من بعضهم

ومن تمام هذا أن تعلم أن النبي ﷺ لم يخص أحدا من أصحابه بخطاب في علم الدين قصد كتمانه عن غيره ولكن كان قد يسأل الرجل عن المسألة التي لا يمكن جوابها ؛ فيجيبه بما ينفعه { كالأعرابي الذي سأله عن الساعة والساعة لا يعلم متى هي ؟ فقال : ما أعددت لها ؟ فقال ما أعددت لها من كثير عمل ؛ ولكني أحب الله ورسوله فقال : المرء مع من أحب } فأجابه بالمقصود من علمه بالساعة ولم يكن يخاطب أصحابه بخطاب لا يفهمونه ؛ بل كان بعضهم أكمل فهما لكلامه من بعض كما في الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال : { إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله ؛ فبكى أبو بكر وقال : بل نفديك بأنفسنا وأموالنا يا رسول الله فجعل الناس يعجبون أن ذكر رسول الله ﷺ عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة قال : وكان رسول الله ﷺ هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به } فالنبي ﷺ ذكر عبدا مطلقا لم يعينه ولا في لفظه ما يدل عليه ؛ لكن أبو بكر لكمال معرفته بمقاصد الرسول ﷺ علم أنه هو ذلك العبد فلم يخص عنهم بباطن يخالف الظاهر ؛ بل يوافقه ولا يخالف مفهوم لفظه ومعناه .
حديث موضوع

وأما ما يرويه بعض الكذابين { عن عمر أنه قال : كان النبي ﷺ وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما } فهذا من أظهر الأكاذيب المختلقة لم يروه أحد من علماء المسلمين في شيء من كتب أهل العلم وهو من أظهر الكذب فإن عمر أفضل الأمة بعد أبي بكر وهو المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وهو أفضل المخاطبين المحدثين من هذه الأمة فإذا كان هو حاضرا يسمع الألفاظ ولم يفهم الكلام كالزنجي فهل يتصور أن يكون غيره أفهم منه لذلك ؟ فكيف من لم يسمع ألفاظ الرسول ؟ بل يزعم أن ما يدعيه من المعاني هي تلك المعاني بمجرد الدعوى التي لو كانت مجردة لم تقبل فكيف إذا قامت البينة على كذب مدعيها ؟ .
حديث حذيفة

وأما حديث حذيفة : فقد ثبت في الصحيح : { أن حذيفة كان يعلم السر الذي لا يعلمه غيره } وكان ذلك ما أسره إليه النبي ﷺ عام تبوك من أعيان المنافقين فإنه روى أن جماعة من المنافقين أرادوا أن يحلوا حزام ناقة رسول الله ﷺ بالليل ليسقط عن بعيره فيموت وأنه أوحي إليه بذلك وكان حذيفة قريبا منه فأسر إليه أسماءهم . ويقال إن عمر لم يكن يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة وهذا ليس فيه شيء من حقائق الدين ولا من الباطن الذي يخالف الظاهر
صفة المنافقين في كتاب الله

فإن الله قد ذكر في كتابه من صفات المنافقين وأخبارهم ما ذكره حتى أن سورة براءة سميت الفاضحة لكونها فضحت المنافقين وسميت المبعثرة وغير ذلك من الأسماء لكن القرآن لم يذكر فلانا وفلانا فإذا عرف بعض الناس أن فلانا وفلانا من هؤلاء المنافقين الموصوفين كان ذلك بمنزلة تعريفه أن فلانا وفلانا من المؤمنين الموعودين بالجنة فإخباره ﷺ أن أبا بكر وعمر وغيرهما في الجنة كإخباره أن أولئك منافقون وهذا إذا كان من العلم الباطن فهو من الباطن الموافق للظاهر المحقق له المطابق له . ونظيره في " الأمر " ما يسمى " تحقيق المناط " وهو أن يكون الشارع قد علق الحكم بوصف فنعلم ثبوته في حق المعين كأمره باستشهاد ذوي عدل ولم يعين فلانا وفلانا فإذا علمنا أن هذا ذو عدل كنا قد علمنا أن هذا المعين موصوف بالعدل المذكور في القرآن وكذلك لما حرم الله الخمر والميسر ؛ فإذا علمنا أن هذا الشراب المصنوع من الذرة والعسل خمرا علمنا أنه داخل في هذا النص فعلمنا بأعيان المؤمنين وأعيان المنافقين هو من هذا الباب وهذا هو من تأويل القرآن . وهذا على الإطلاق لا يعلمه إلا الله فإن الله يعلم كل مؤمن وكل منافق ومقادير إيمانهم ونفاقهم وما يختم لهم . وأما الرسول فقد قال تعالى : { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } فالله يطلع رسوله ومن شاء من عباده على ما يشاء من ذلك .
حديث أبى هريرة

وأما حديث أبي هريرة فهو حديث صحيح قال : " حفظت من رسول الله ﷺ جرابين فأما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم " . ولكن ليس في هذا من الباطن الذي يخالف الظاهر شيء ؛ بل ولا فيه من حقائق الدين وإنما كان في ذلك الجراب الخبر عما سيكون من الملاحم والفتن فالملاحم الحروب التي بين المسلمين والكفار والفتن ما يكون بين المسلمين ولهذا قال عبد الله بن عمر : لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتفعلون كذا وكذا لقلتم كذب أبو هريرة وإظهار مثل هذا مما تكرهه الملوك وأعوانهم لما فيه من الإخبار بتغير دولهم .
ابو هريرة و علم الحديث

ومما يبين هذا أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر فليس هو من السابقين الأولين ولا من أهل بيعة الرضوان وغيره من الصحابة أعلم بحقائق الدين منه وكان النبي ﷺ يحدثه وغيره بالحديث فيسمعونه كلهم ولكن كان أبو هريرة أحفظهم للحديث ببركة حصلت له من جهة النبي ﷺ لأن { النبي ﷺ حدثهم ذات يوم حديثا فقال : أيكم يبسط ثوبه فلا ينسى شيئا سمعه ففعل ذلك أبو هريرة } وقد روي " أنه كان يجزئ الليل ثلاثة أجزاء : ثلثا يصلي وثلثا ينام وثلثا يدرس الحديث " ولم ينقل أحد قط عن أبي هريرة حديثا يوافق الباطنية ولا حديثا يخالف الظاهر المعلوم من الدين . ومن المعلوم أنه لو كان عنده شيء من هذا لم يكن بد أن ينقل عنه أحد شيئا منه بل النقول المتواترة عنه كلها تصدق ما ظهر من الدين وقد روى من أحاديث صفات الله وصفات اليوم الآخر وتحقيق العبادات ما يوافق أصول أهل الإيمان ويخالف قول أهل البهتان .
هل النبى يقول بباطن يخالف الظاهر

وأما ما يروى عن أبي سعيد الخراز وأمثاله في هذا الباب وما يذكره أبو طالب في كتابه وغيره وكلام بعض المشايخ الذي يظن أنه يقول بباطن يخالف الظاهر وما يوجد من ذلك في كلام أبي حامد الغزالي أو غيره . فالجواب عن هذا كله أن يقال : ما علم من جهة الرسول فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وما عارض ذلك فإما أن يكون نقلا عن غير مصدق أو قولا لغير معصوم فإن كثيرا مما ينقل عن هؤلاء كذب عليهم والصدق من ذلك فيه ما أصابوا فيه تارة وأخطئوا فيه أخرى وأكثر عباراتهم الثابتة ألفاظ مجملة متشابهة لو كانت من ألفاظ المعصوم لم تعارض الحكم المعلوم فكيف إذا كانت من قول غير المعصوم .
هل كذب على ابي يزيد البسطامي رحمه الله

وقد جمع أبو الفضل الفلكي كتابا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه " النور من كلام طيفور " فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي وفيه أشياء من غلط أبي يزيد - رحمة الله عليه - وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ . ومن قيل له عن أبي يزيد أو غيره من المشايخ : أنه قال لمريديه إن تركتم أحدا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم بريء فعارضه الآخر وقال : قلت لمريدي إن تركتم أحدا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم بريء ؛ فصدق هذا النقل عنه ثم جعل هذا المصدق لهذا عن أبي يزيد أو غيره يستحسنه ويستعظم حاله فقد دل على عظيم جهله أو نفاقه فإنه إن كان قد علم ما أخبر به الرسول من دخول من يدخل النار من أهل الكبائر وأن النبي ﷺ هو أول من يشفع فيهم بعد أن تطلب الشفاعة من الرسل الكبار : كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى فيمتنعون ويعتذرون . ثم صدق أن مريدي أبي يزيد أو غيره يمنعون أحدا من الأمة من دخول النار أو يخرجون هم كل من دخلها كان ذلك كفرا منه بما أخبر به الصادق المصدوق بحكاية منقولة كذب ناقلها أو أخطأ قائلها إن لم يكن تعمد الكذب وإن كان لا يعلم ما أخبر به الرسول كان من أجهل الناس بأصول الإيمان . فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علما يقينيا ؛ وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول فإن مثال ذلك مثل من كان سائرا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها ولا يعرف منتهاها وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك .
مثال من عارض الكتاب والسنة

وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنا من كان فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور ما لا يحصيه إلا العليم بذات الصدور . وأما الحديث المأثور : { إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله } فهذا قد رواه أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام في كتابه الذي سماه " الفاروق بين المثبتة والمعطلة " وذكر فيه أحاديث الصفات صحيحها وغريبها ومسندها ومرسلها وموقوفها . وذكره أيضا أبو حامد الغزالي في كتبه . ثم هذا يفسره بما يناسب أقواله التي يميل فيها إلى ما يشبه أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم . وذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أنه كان يقول : المراد بذلك أحاديث الصفات ؛ فكان يفسر ذلك بما يناقض قول أبي حامد من أقوال أهل الإثبات . والحديث ليس إسناده ثابتا باتفاق أهل المعرفة ولم يرو في أمهات كتب الحديث المعتمدة فلا يحتاج إلى الكلام في تفسيره وإذا قدر أن النبي ﷺ قاله فهو كلام مجمل ليس فيه تعيين لقول معين فحينئذ فما من مدع يدعي أن المراد قوله إلا كان لخصمه أن يقول نظير ذلك . ولا ريب أن قول يحيى بن عمار وأبي إسماعيل الأنصاري ونحوهما من أهل الإثبات أقرب من قول النفاة إن هذا العلم هو من علم النبي ﷺ بالاتفاق وعلم الصحابة . ومن المعلوم أن قول النفاة لا ينقله أحد عن النبي ﷺ ولا أصحابه لا بإسناد صحيح ولا ضعيف بخلاف مذهب المثبتة فإن القرآن والحديث والآثار عن الصحابة مملوءة به فكيف يحمل كلام النبي ﷺ على علم لم ينقله عنه أحد ويترك حمله على العلم المنقول عنه وعن أصحابه . وكذلك ما ذكره البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال : { حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله } قد حملهأبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف وأمثاله على علوم الباطنية الفلاسفة نفاة الصفات وهذا تحريف ظاهر فإن قول علي : أتحبون أن يكذب الله ورسوله . دليل على أن ذلك مما أخبر به النبي ﷺ وأقوال النفاة من الفلاسفة والجهمية والقرامطة والمعتزلة لم ينقل فيها مسلم عن النبي ﷺ شيئا لا صحيحا ولا ضعيفا فكيف يكذب الله ورسوله في شيء لم ينقله أحد عن الله ورسوله ؟ بخلاف ما رواه أهل الإثبات من أحاديث صفات الرب وملائكته وجنته وناره فإن هذا كثير مشهور قد لا تحتمله عقول بعض الناس فإذا حدث به خيف أن يكذب الله ورسوله . ومن هذا الباب قول عبد الله بن مسعود : " ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم " وابن مسعود فيما يقول ذاكرا أو آمرا من أعظم الناس إثباتا للصفات وأرواهم لأحاديثها وأصحابه من أجل التابعين وأبلغهم في هذا الباب وكذلك أصحاب ابن عباس فكل من كان من الصحابة أعلم كان إثباته وإثبات أصحابه أبلغ
طريقة الصحابة في علم الباطن

فعلم أن الصحابة لم يكونوا يبطنون خلاف ما يظهرون ولا يظهرون الإثبات ويبطنون النفي ولا يظهرون الأمر ويبطنون امتناعه ؛ بل هم أقوم الناس بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر . وهذا باب واسع دخل فيه من الأمور ما لا يتسع هذا الموضع لتفصيله ولكن نعلم جماع الأمر أن كل قول وعمل فلا بد له من ظاهر وباطن فظاهر القول لفظ اللسان وباطنه ما يقوم من حقائقه ومعانيه بالجنان وظاهر العمل حركات الأبدان وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان . فالمنافق لما أتى بظاهر الإسلام دون حقائق الإيمان لم ينفعه ذلك وكان من أهل الخسران ؛ بل كان في الدرك الأسفل من النار قال تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } الآيات فإن الله أنزل في أول سورة البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين وقال تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } السورة وقال تعالى : { لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } الآية .
الملاحدة و المنافقين

والملاحدة يظهرون موافقة المسلمين ويبطنون خلاف ذلك وهم شر من المنافقين فإن المنافقين نوعان : نوع يظهر الإيمان ويبطن الكفر ولا يدعي أن الباطن الذي يبطنه من الكفر هو حقيقة الإيمان والملاحدة تدعي أن ما تبطنه من الكفر هو حقيقة الإيمان وأن الأنبياء والأولياء هم من جنسهم يبطنون ما يبطنونه مما هو كفر وتعطيل فهم يجمعون بين إبطان الكفر وبين دعواهم أن ذلك الباطن هو الإيمان عند أهل العرفان فلا يظهرون للمستجيب لهم أن باطنه طعن في الرسول والمؤمنين وتكذيب له ؛ بل يجعلون ذلك من كمال الرسول وتمام حاله وأن الذي فعله هو الغاية في الكمال وأنه لا يفعله إلا أكمل الرجال من سياسة الناس على السيرة العادلة وعمارة العالم على الطريقة الفاضلة وهذا قد يظنه طوائف حقا باطنا وظاهرا فيئول أمرهم إلى أن يكون النفاق عندهم هو حقيقة الإيمان وقد علم بالاضطرار أن النفاق ضد الإيمان .
الرافضة

ولهذا كان أعظم الأبواب التي يدخلون منها باب التشيع والرفض ؛ لأن الرافضة هم أجهل الطوائف وأكذبها وأبعدها عن معرفة المنقول والمعقول وهم يجعلون التقية من أصول دينهم ويكذبون على أهل البيت كذبا لا يحصيه إلا الله حتى يرووا عن جعفر الصادق أنه قال التقية ديني ودين آبائي . و " التقية " هي شعار النفاق ؛ فإن حقيقتها عندهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وهذا حقيقة النفاق . ثم إذا كان هذا من أصول دينهم صار كل ما ينقله الناقلون عن علي أو غيره من أهل البيت مما فيه موافقة أهل السنة والجماعة يقولون : هذا قالوه على سبيل التقية ثم فتحوا باب النفاق للقرامطة الباطنية الفلاسفة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ؛ فجعلوا ما يقوله الرسول هو من هذا الباب أظهر به خلاف ما أبطن وأسر به خلاف ما أعلن فكان حقيقة قولهم أن الرسول هو إمام المنافقين وهو ﷺ الصادق المصدوق المبين للناس ما نزل إليهم المبلغ لرسالة ربه المخاطب لهم بلسان عربي مبين . قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } وقال تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } وقال تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } وقال تعالى : { فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا } وقال تعالى : { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } وقال تعالى : { إن علينا جمعه وقرآنه } { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } { ثم إن علينا بيانه } وقال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } وقال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } وقال تعالى : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } وقالت الرسل { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } { وما علينا إلا البلاغ المبين } وقال : { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وقال تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين } وقال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } . فهذا ونحوه مما يبين أن الرسل عليهم أن يبلغوا البلاغ المبين يقال : بان الشيء وأبان واستبان وتبين وبين كلها أفعال لازمة . وقد يقال : أبان غيره وبينه وتبينه واستبانه . ومعلوم أن الرسل فعلوا ما عليهم ؛ بل قد أخذ الله على أهل العلم الميثاق بأن يبينوا العلم ولا يكتموه وذم كاتميه فقال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } وقال تعالى : { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } فقد لعن كاتمه وأخبر أنه بينه للناس في الكتاب فكيف يكون قد بينه للناس وهو قد كتم الحق وأخفاه وأظهر خلاف ما أبطن ؟ فلو سكت عن بيان الحق كان كاتما ومن نسب الأنبياء إلى الكذب والكتمان مع كونه يقول إنهم أنبياء فهو من أشر المنافقين وأخبثهم وأبينهم تناقضا . وكثير من أهل النسك والعبادة والعلم والنظر ممن سلك طريق بعض الصوفية والفقراء وبعض أهل الكلام والفلسفة يسلك مسلك الباطنية في بعض الأمور لا في جميعها حتى يرى بعضهم سقوط الصلاة عن بعض الخواص أو حل الخمر وغيرها من المحرمات لهم أو أن لبعضهم طريقا إلى الله عز وجل غير متابعة الرسول .
احتجاج بقصة موسى و الخضر عليهم السلام

وقد يحتج بعضهم بقصة موسى والخضر ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة ؛ فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروج عن الشريعة وهم في هذا ضالون من وجهين :
أحدهما أن الخضر لم يخرج عن الشريعة ؛ بل الذي فعله كان جائزا في شريعة موسى ؛ ولهذا لما بين له الأسباب أقره على ذلك ولو لم يكن جائزا لما أقره ولكن لم يكن موسى يعلم الأسباب التي بها أبيحت تلك [ فظن أن الخضر ] كالملك الظالم فذكر ذلك له الخضر .
و الثاني أن الخضر لم يكن من أمة موسى ولا كان يجب عليه متابعته ؛ بل قال له : إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه . وذلك أن دعوة موسى لم تكن عامة فإن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة ومحمد ﷺ بعث إلى الناس كافة ؛ بل بعث إلى الإنس والجن باطنا وظاهرا ؛ فليس لأحد أن يخرج عن طاعته ومتابعته لا في الباطن ولا في الظاهر ؛ لا من الخواص ولا من العوام .



فضل الولي على النبي حقيقة القول

ومن هؤلاء من يفضل بعض الأولياء على الأنبياء وقد يجعلون الخضر من هؤلاء وهذا خلاف ما أجمع عليه مشايخ الطريق المقتدى بهم دع عنك سائر أئمة الدين وعلماء المسلمين ؛ بل لما تكلم الحكيم الترمذي في كتاب " ختم الأولياء " بكلام ذكر أنه يكون في آخر الأولياء من هو أفضل من الصحابة وربما لوح بشيء من ذكر الأنبياء - قام عليه المسلمون وأنكروا ذلك عليه ونفوه من البلد بسبب ذلك ولا ريب أنه تكلم في ذلك بكلام فاسد باطل لا ريب فيه . ومن هناك ضل من اتبعه في ذلك حتى صار جماعات يدعي كل واحد أنه خاتم الأولياء ابن عربي صاحب " الفصوص " وسعد الدين بن حمويه وغيرهما وصار بعض الناس يدعي أن في المتأخرين من يكون أفضل في العلم بالله من أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار إلى أمثال هذه المقالات التي يطول وصفها مما هو باطل بالكتاب والسنة والإجماع ؛ بل طوائف كثيرون آل الأمر بهم إلى مشاهدة الحقيقة الكونية القدرية وظنوا أن من شهدها سقط عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد وهذا هو دين المشركين الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } . وهؤلاء شر من القدرية المعتزلة الذين يقرون بالأمر والنهي والوعد والوعيد ويكذبون بالقدر ؛ فإن أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين بالأنبياء والشرائع فهم من شر الناس وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع .
حقيقة القول الظاهر و الباطن


و " المقصود هنا " أن الظاهر لا بد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق ومن ادعى باطنا يخالف ظاهرا فهو كافر منافق بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه فكما أن الإنسان لا بد له من روح وبدن وهما متفقان فلا بد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان فالباطن للباطن من الإنسان والظاهر للظاهر منه . والقرآن مملوء من ذكر أحكام الباطن والظاهر والباطن أصل الظاهر كما قال أبو هريرة : القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وقد قال النبي ﷺ { ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال : { الإسلام علانية والإيمان في القلب } وقد قال تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } وقال تعالى : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } وقال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } وقال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وأمثال هذا كثير في القرآن . وقال في حق الكفار : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وقال : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } وأمثال ذلك . فنسأل الله العظيم أن يصلح بواطننا وظواهرنا ويوفقنا لما يحبه ويرضاه من جميع أمورنا بمنه وكرمه . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
تصنيفابن تيمية

رسالة في فضل الخلفاء الراشدين لابن تيمية .


رسالة في  فضل الخلفاء الراشدين  لابن تيمية ويكي


سئل الشيخ الإمام العالم العلامة البحر الفهامة وحيد عصره وفريد دهره أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى:

عن رجل شريف متمسك بالسنة، لكن يحصل له أحيانا ريبة في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فيغلب على ظنه أن عليا أفضل منهم، ويستدل بقوله ﷺ: «أنت مني وأنا منك»، وبقوله ﷺ: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، وهارون كان من موسى بمنزلة رفيعة ولم يكن عنده أعز منه، وبقوله ﷺ يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه» فأعطاها لعلي، وبقوله ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه» "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأدر الحق معه كيف ما دار"، وبقوله يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي»، وبقوله تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} الآية، وبقوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} وبقوله سبحانه وتعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} ويزعم أن هذه السورة نزلت في علي . أفتونا مأجورين.

الجواب:

الحمد لله رب العالمين. يجب أن تعلم أولا أن التفضيل يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لا يوجد للمفضول، فإذا استويا في أسباب الفضل وانفرد أحدهما بخصائص لم يشركه فيها الآخر كان أفضل منه. وأما ما كان مشتركا بين الرجل وغيره من المحاسن، فتلك مناقب وفضائل ومآثر، لكن لا توجب تفضيله على غيره. وإذا كانت مشتركة فليست من خصائصه.

وإذا كان كذلك، ففضائل الصديق رضي الله عنه التي ميز بها خصائص لم يشركه فيها أحد، وأما فضائل علي فمشتركة بينه وبين غيره. وذلك أن قوله: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر، إن أمنّ الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر» وهذا الحديث فيه ثلاث خصائص لم يشرك أبا بكر فيها غيره:

[الأولى]: قوله ﷺ: «إن أمنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» بيّن فيه أنه ليس لأحد من الصحابة عليه من حق في صحبته وماله مثل ما لأبي بكر .

الثانية: قوله: «لا تبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر»، وهذا تخصيص له دون سائر الصحابة. وقد أراد بعض الكذابين أن يروي لعلي مثل ذلك، لكن الصحيح والثابت لا يعارض بالضعيف الموضوع.

الثالثة: قوله: «لو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا» فإنه نص في أنه لا أحد من البشر يستحق الخلة لو كانت ممكنة إلا أبا بكر، ولو كان غيره أفضل منه لكان أحق بها لو كانت واقعة.

وكذلك أمره لأبي بكر أن يصلي بالناس مدة مرضه من خصائصه التي لم يشركه فيها أحد. ولم يأمر النبي ﷺ أمته أن تصلي خلف أحد في حياته بحضرته إلا خلف أبي بكر.

وكذلك تأميره له من المدينة على الحج ليقيم السنة ويمحو أثر الجاهلية، فإن هذا من خصائصه.

وكذلك قوله في الحديث الصحيح: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي» ثم قال عليه الصلاة والسلام: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»

وأمثال هذه الأحاديث كثيرة تبين أنه لم يكن في الصحابة من يساويه.

وأما قوله ﷺ: «أنت مني وأنا منك»، فهذه العبارة قد قالها لغيره من المؤمنين، كما قالها عليه السلام لجُلَبيب الذي قتل عدة من الكفار: «هذا مني وأنا منه». وفي الصحيحين: «إن الأشعريين إذا كانوا في السفر أو نقصت نفقة عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بينهم بالسوية، هم مني وأنا منهم». فقد جعل الأشعريين أبا موسى وأبا عامر وغيرهما منه وهو منهم، كما قال لعلي: «أنت مني وأنا منك».

وقال تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم} وقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم}.

وقال ﷺ: «من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا» ونحو ذلك. وهذه العبارة تستعمل في النوع الواحد فيقال: "هذا من هذا" إذا كان من نوعه، فكل من كان من المؤمنين الكاملي الإيمان فهو من النبي ﷺ والنبي منه.

وقوله ﷺ في قصة بنت حمزة: «أنت مني وأنا منك» وكقوله لزيد بن حارثة: «أنت أخونا ومولانا» ومعلوم أن هذا ليس مختصا بزيد، بل كل من كان من مواليه يطلق عليه هذا الكلام لقوله تعالى: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم}. فكذلك قوله لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وليس ذلك من خصائصه، بل من كان موافقا للنبي ﷺ في كمال الإيمان كان من النبي ﷺ والنبي منه.

وكذلك قوله: «لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله» هو من أصح الأحاديث وهو أصح حديث روي في فضائل علي ، أخرجاه في الصحيحين. وقد زاد فيه بعض الكذابين أن الراية أخذها أبو بكر وعمر فهربا. وفي الصحيح أنه لما قال ﷺ: «لأعطين الراية رجلا» قال عمر: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" واستشرف لها عمر وغيره. ولو جاء منهزما لما استشرف لها، فهذا الحديث رد على الناصبة الواقعين في علي ، تبًّا لهم فإنه مؤمن تقي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. ولكن ليس هذا من خصائصه، بل كل مؤمن كامل الإيمان يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. وقد قال تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}، وهؤلاء الذين قاتلوا أهل الردة، وإمامهم أبو بكر.

وفي الصحيح أنه قال ﷺ للأنصار: «والله إني لأحبكم».

وفي الصحيح أن عمرو بن العاص سأله: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». قال: فمن الرجال؟ قال: «أبوها». وهذا فيه أن أبا بكر أحب الرجال إليه؛ وهذا من خصائصه .

وكان أسامة بن زيد يسمى الحِب بن الحب، لحب النبي ﷺ له ولأبيه. وأمثال هذه النصوص التي تبين أنه ليس كل شخص عرف أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يجب أن يكون أفضل الخلق، فإن هذا الوصف ثابت لخلائق كثيرين، فليس هذا من خصائص الشخص المعين.

وأما قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» فحديث صحيح، وهذا قاله في غزوة تبوك لما استخلفه على المدينة، فطعن بعض الناس فيه وقالوا: إنما استخلفه لأنه يبغضه، وكان النبي ﷺ إذا خرج من المدينة استخلف رجلا من أمته، وكان يكون بها رجال من المؤمنين القادرين يستخلفه عليهم. فلما كان عام تبوك لم يأذن لأحد من المؤمنين القادرين في التخلف، فلم يتخلف أحد بلا عذر إلا عاص لله ورسوله. فكان ذلك استخلافا ضعيفا، فطعن فيه المنافقون بهذا السبب. فبين له النبي ﷺ أني لم أستخلفك لنقص قدرك عندي، فإن موسى استخلف هارون وهو شريكه في الرسالة، أفما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى فتخلفني في أهلي كما خلف هارون أخاه موسى؟ ومعلوم أنه استخلف غيره قبله، وكان أولئك منه بهذه المنزلة، فلم يكن هذا من خصائصه. ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره لم يخف ذلك على علي ولم يخرج إليه وهو يبكي ويقول: "أتخلفني في النساء والصبيان؟"

ومما بين ذلك أنه بعد هذا الاستخلاف أمّر عليه أبا بكر عام تسع. فإن هذا الاستخلاف كان في غزوة تبوك - في أوائلها - فلما رجع من الغزو أمر أبا بكر على الحج ثم أردفه بعلي، فلما لحقه قال: "أمير أو مأمور؟" قال: "بل مأمور"، فكان أبو بكر يصلي بعلي وغيره ويأمر على علي، وعلي وغيره من الصحابة يطيعون أبا بكر. وعلي على نبذ العهود التي كانت بين النبي ﷺ وبين المشركين. لأن العادة كانت جارية أنه لا يعقد العهود ولا يحلها إلا رجل من أهل بيته، ولهذا قال ﷺ: "لا يبلغ عني العهد إلا رجل من أهل بيتي"، للعادة الجارية. ولم يكن هذا من خصائص علي ، بل أي رجل من عترته نبذ العهد حصل به المقصود، لكن علي أفضل بني هاشم بعد رسول الله ﷺ، فكان أحق الناس بالتقدم من سائر الأقارب. فلما أمر أبا بكر بعد قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» علمنا أنه لا دلالة فيه على أنه بمنزلة هارون من كل وجه، إذ لو كان كذلك لم يقدم عليه أبو بكر لا في الحج ولا في الصلاة، كما أن هارون لم يكن موسى يقدم عليه غيره. وإنما شبهه به في الاستخلاف خاصة، وهذا أمر مشترك بينه وبين غيره.

وقد شبه النبي ﷺ في الصحيح أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبه عمر بنوح وموسى لما أشارا عليه في أسرى بدر هذا بالفدى وهذا بالقتل، وهذا أعظم من تشبيه علي بهارون، ولم يوجب ذلك أن يكونا بمنزلة أولئك الرسل مطلقا، ولكن تشابها بالرسل هذا في شدته في الله وهذا في لينه في الله، وتشبيه الشيء بالشيء لمشابهته به من بعض الوجوه كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب.

وأما قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار" فهذا الحديث ليس في شيء من الأمهات؛ إلا في الترمذي وليس فيه إلا: «من كنت مولاه فعلي مولاه». وأما الزيادة فليست في الحديث. وقد سئل عنها الإمام أحمد فقال: الزيادة كوفية. ولا ريب أنها كذب لوجوه. أحدها أن الحق لا يدور مع شخص معين بعد النبي ﷺ، لا مع أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم، لأنه لو كان كذلك لكان بمنزلة النبي ﷺ يجب اتباعه في كل ما يقوله، ومعلوم أن عليا كان ينازعه أصحابه وأتباعه في مسائل كثيرة ولا يرجعون فيها إلى قوله، بل فيها مسائل وجد فيها نصوص عن النبي ﷺ توافق قول من نازعه، كالمتوفى عنها زوجها وهي حامل. فإن عليا أفتى بأنها تعتد أبعد الأجلين، وعمر وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما أفتوا بأنها تعتد بوضع الحمل، وبهذا جاءت سنة النبي ﷺ. وكان أبو السنابل يفتي بمثل قول علي فقال رسول الله ﷺ: «كذب أبو السنابل، قد حللت فانحكي» قاله لسبيعة الأسلمية لما سألته عن ذلك.

وقوله: " اللهم انصر من نصره واخذل من خذله" خلاف الواقع، فإن الواقع ليس كذلك. بل قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا، وأقوام لم يقاتلوا فما خُذلوا، كسعد بن أبي وقاص الذي فتح العراق، لم يقاتل معه، وكذلك أصحاب معاوية وبني أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيرا من بلاد الكفار ونصرهم الله تعالى.

وكذلك قوله: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" مخالف لأصول الإسلام ؛ فإن القرآن قد بيّن أن المؤمنين إخوة مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض، هم إخوة مؤمنون كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}. فكيف يجوز أن يقول النبي ﷺ للواحد من أمته: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" والله تعالى قد أخبر أنه ولي المؤمنين والمؤمنون أولياؤه وأن بعضهم أولياء بعض وأنهم إخوة وإن اقتتلوا أو بغى بعضهم على بعض.

وأما قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فمن علماء الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره، ومنهم من حسنه كأحمد بن حنبل والترمذي وغيرهما، فإن كان النبي ﷺ قال ذلك [فما] أراد به ولاية يختص بها، [بل] لم يرد به إلا الولاية المشتركة، وهي ولاية الإيمان التي جعلها الله بين المؤمنين. وتبين بهذا أن عليا من المؤمنين المتقين الذين يجب موالاتهم، ليس كما تقول النواصب أنه لا يستحق الموالاة. والموالاة ضد المعاداة. ولا ريب أنه يجب موالاة جميع المؤمنين، وعلي من سادات المؤمنين، كما يجب موالاة أبي بكر وعمر وعثمان وسائر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ونقص إيمانه بقدر ما ترك من موالاتهم الواجبة، وقد قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} وهذه موجبة لموالاة جميع المؤمنين.

وحديث التصدق بالخاتم في الصلاة كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة. وذلك مبين بوجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع.

وأما قوله: يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي» وهذا حديث رواه مسلم، وليس هذا من خصائص علي، بل هو مساو لجميع أهل البيت، آل علي وجعفر وعقيل وآل العباس. وأبعد الناس عن هذه الوصية الرافضة، فإنهم من شؤمهم يعادون العباس وذريته، بل يعادون جمهور أهل بيت النبي ﷺ ويعينون الكفار عليهم، كما أعانوا التتار على الخلفاء من بني العباس، فهم يعاونون الكفار ويعادون أهل البيت. وأما أهل السنة فيعرفون حقوق أهل البيت ويحبونهم ويوالونهم ويلعنون من ينصب لهم العداوة.

وأما آية المباهلة فليست أيضا من خصائصه ، بل قد دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين كما رواه مسلم، ودعوتهم لم تكن لأنهم أفضل الأمة، بل لأنهم أخص أهل بيته، كما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ أدى زكاة علي وفاطمة والحسن والحسين وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا». فدعا لهم دعوة خصهم بها. ولما كانت المباهلة بالنساء والأبناء والأنفس دعا هؤلاء.

ولفظ "الأنفس" يعبر بها عن النوع الواحد، كما قال تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا}، وقال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} أي: يقتل بعضكم بعضا، وقوله: «أنت مني وأنا منك» ليس المراد أنه من ذاته، ولا ريب أن أعظم الناس قدرا من الأقارب هو علي ، فله من مزية القرابة والإيمان ما لا يوجد لبقية القرابة والصحابة، فدخل بذلك في المباهلة. وذلك لا يمنع أن يكون في غير الأقارب من هو أفضل منه؛ لأن المباهلة وقعت بالأقارب، فلهذا لم يباهل بأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ونحوهم.

وأما قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم}، ففي الصحيح عن أبي ذر أنها نزلت في المختصمين يوم بدر، وأول من برز من المؤمنين علي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، برزوا لعتبة وشيبة والوليد بن عتبة. وهذه فضيلة مشتركة بين علي وحمزة وعبيدة، بل سائر البدريين يشاركونهم في هذه الخصومة. ولو قدر أنها نزلت في الستة المبارزين فلا يدل على أنهم أفضل من غيرهم، بدليل أن النبي ﷺ والحسن والحسين وأبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن هو أفضل من عبيدة بن الحارث باتفاق أهل السنة منقبة لهم وفضيلة، وليست من الخصائص التي توجب كون صاحبها أفضل من غيره.

وأما سورة: {هل أتى} وقول من يقول إنها نزلت لما تصدقوا على مسكين ويتيم وأسير، ويذكرون أن ذلك كان لما تصدقت فاطمة رضي الله عنها بقوت الحسن والحسين، وهذا كذب لأن سورة {هل أتى} مكية بالإجماع، والحسنين إنما ولدا في المدينة بعد غزوة بدر باتفاق أهل العلم. وبتقدير صحتها فليس في هذا ما يدل على أن من أطعم مسكينا ويتيما وأسيرا كان أفضل الأمة وأفضل الصحابة، بل الآية عامة مشتركة بين كل من فعل هذا الفعل، وتدل على استحقاقه لثواب الله تعالى على هذا العمل، [مع أن] غيره من الأعمال كالإيمان بالله والصلوات في مواقيتها والجهاد في سبيل الله تعالى أفضل من هذا العمل بالإجماع.

وهذا جواب هذه المسائل والله أعلم.

واعلم أن كل ما يظن أن فيه دلالة على فضيلة غير أبي بكر إما أن يكون كذبا على رسول الله ﷺ وإما أن يكون لفظا محتملا لا دلالة فيه. وأما النصوص المفضلة لأبي بكر فصحيحة صريحة، مع دلائل أخرى من القرآن والإجماع والاعتبار والاستدلال. والله أعلم.

كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من 1 الي 2001 -

      مكتبة العلوم الشاملة https://sluntt.blogspot.com/ الاثنين، 21 فبراير 2022 كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من...