مكتبة العلوم الشاملة

false EN-GB X-NONE AR-SA ath"/>

مكتبة العلوم الشاملة

https://sluntt.blogspot.com/

 

السبت، 12 فبراير 2022

الرسالة العرشية {الرسالة العرشية ابن تيمية}

مجموع الفتاوى/المجلد السادس/الرسالة العرشية  ابن تيميةالرسالة العرشية
[[::تصنيف:الرسالة العرشية:مطبوع| ]]

نزل نسخة مطبوعة
الرسالة العرشية
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام العالم الرباني والعابد النوراني ابن تيمية الحراني أيده الله تعالى:
ما تقول في العرش هل هو كرى أم لا؟ وإذا كان كريًا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله تعالى حين دعائه وعبادته، فيقصد العلو دون غيره، ولا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو، وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ ومع هذا نجد في قلوبنا قصدًا يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، وقد فطرنا عليها.
وابسط لنا الجواب في ذلك بسطًا شافيًا، يزيل الشبهة ويحقق الحق إن شاء الله أدام الله النفع بكم وبعلومكم آمين.
فأجاب رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذا السؤال بثلاث مقامات:
أحدها:
إنه لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل، لا بدليل شرعي، ولا بدليل عقلي.
وإنما ذكر هذا طائفة من المتأخرين، الذين نظروا في علم الهيئة وغيرها من أجزاء الفلسفة، فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع وهو الأطلس محيط بها، مستدير كاستدارتها، وهو الذي يحركها الحركة المشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر عرش الله، وذكر كرسيه، وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن: إن العرش هو: الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء، إما مطلقًا وإما أنه ليس وراءه مخلوق.
ثم إن منهم من رأى أن التاسع هو الذي يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث فيه ما يقدره في الأرض، أو يحدثه في النفس التي زعموا أنها متعلقة به، أو في العقل الذي زعموا أنه الذي صدر عنه هذا الفلك، وربما سماه بعضهم الروح، وربما جعل بعضهم النفس هي: الروح، وربما جعل بعضهم النفس هي: اللوح المحفوظ، كما جعل العقل هو: القلم.
وتارة يجعلون الروح هو العقل الفعال العاشر الذي لفلك القمر، والنفس المتعلقة به، وربما جعلوا ذلك بالنسبة إلى الحق سبحانه كالدماغ بالنسبة إلى الإنسان، يقدر فيه ما يفعله قبل أن يكون، إلى غير ذلك من المقالات التي قد شرحناها، وبينا فسادها في غير هذا الموضع.
ومنهم من يدعي أنه علم ذلك بطريق الكشف والمشاهدة، ويكون كاذبًا فيما يدعيه وإنما أخذ ذلك عن هؤلاء المتفلسفة تقليدًا لهم، أو موافقة لهم على طريقتهم الفاسدة، كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم.
وقد يتمثل في نفسه ما تقلده عن غيره فيظنه كشفًا، كما يتخيل النصراني التثليث الذي يعتقده، وقد يرى ذلك في منامه فيظنه كشفًا، وإنما هو تخيل لما اعتقده، وكثير من أرباب الاعتقادات الفاسدة إذا ارتاضوا صقلت الرياضة نفسوهم، فتتمثل لهم اعتقاداتهم، فيظنونها كشفًا، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن ما ذكروه من أن العرش هو الفلك التاسع قد يقال: إنه ليس لهم عليه دليل لا عقلي، ولا شرعي.
أما العقلي: فإن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أنه ليس وراء الفلك التاسع شيء آخر، بل ولا قام عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة، والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه، وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون لا ثبوته ولا انتفاءه.
مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا، بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه في فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة، على أن الأفلاك مختلفة، حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك، كفلك التدوير وغيره.
فأما ما كان موجودًا فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته: فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم.
وكذلك قول القائل: إن حركة التاسع مبدأ الحوادث خطأ، وضلال على أصولهم، فإنهم يقولون: إن الثامن له حركة تخصه بما فيه من الثوابت، ولتلك الحركة قطبان غير قطبي التاسع، وكذلك السابع، والسادس.
وإذا كان لكل فلك حركة تخصه والحركات المختلفة هي سبب الأشكال الحادثة المختلفة الفلكية، وتلك الأشكال سبب الحوادث السفلية كانت حركة التاسع جزء السبب، كحركة غيره. فالأشكال الحادثة في الفلك لمقارنة الكوكب الكوكب، في درجة واحدة. ومقابلته له إذا كان بينهما نصف الفلك، وهو مائة وثمانون درجة. وتثليثه له إذا كان بينهما ثلث الفلك وهو مائة وعشرون درجة، وتربيعه له إذا كان بينهما ربعه تسعون درجة، وتسديسه له إذا كان بينهما سدس الفلك ستون درجة، وأمثال ذلك من الأشكال إنما حدثت بحركات مختلفة، وكل حركة ليست عين الأخرى، إذ حركة الثامن التي تخصه ليست عين حركة التاسع، وإن كان تابعًا له في الحركة الكلية، كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها.
وكذلك حركة السابع التي تخصه، ليست عن التاسع ولا عن الثامن، وكذلك سائر الأفلاك. فإن حركة كل واحد التي تخصه ليست عما فوقه من الأفلاك، فكيف يجوز أن يجعل مبدأ الحوادث كلها مجرد حركة التاسع ! كما زعمه من ظن أن العرش كثيف والفلك التاسع عندهم بسيط متشابه الأجزاء، لا اختلاف فيه أصلا، فكيف يكون سببًا لأمور مختلفة، لا باعتبار القوابل وأسباب أخر؟
ولكن هم قوم ضالون، يجعلونه مع هذا ثلاثمائة وستين درجة، ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى، لا باختلاف القوابل، كمن يجىء إلى ماء واحد فيجعل لبعض جزئيه من الأثر ما يخالف الآخر، لا بحسب القوابل؛ بل يجعل أحد أجزائه مسخنًا، والآخر مبردًا، والآخر مسعدًا، والآخر مشقيًا، وهذا مما يعلمون هم وكل عاقل أنه باطل وضلال.
وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل هو أن العرش هو الفلك التاسع رجمًا بالغيب، وقولا بلا علم.
هذا كله بتقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة، إذ في ذلك من النزاع والاضطراب، وفي أدلة ذلك ما ليس هذا موضعه، وإنما نتكلم على هذا التقدير، وأيضا: فالأفلاك في أشكالها، وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد؛ فنسبة السابع إلى السادس، كنسبة السادس إلى الخامس، وإذا كان هناك فلك تاسع فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع.
وأما العرش فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات، وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}الآية [1]، وقال سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[2]، فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسبحون ويستغفرون للمؤمنين.
ومعلوم أن قيام فلك من الأفلاك بقدرة الله تعالى كقيام سائر الأفلاك، لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها ملائكة في نفس الأمر تحملها، فحكمه حكم نظيره، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}الآية [3].
فذكر هنا أن الملائكة تحف من حول العرش، وذكر في موضع آخر أن له حملة، وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله، فقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}
وأيضا، فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}[4].
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن عمران بن حُصَيْن عن النبي ﷺ أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض»، وفي رواية له: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء»، وفي رواية لغيره صحيحة: «كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء» وثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
وهو سبحانه وتعالى متمدح بأنه ذو العرش، كقوله سبحانه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا}[5]، وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[6]، وقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[7]، وقد قرئ {الْمَجِيدُ} بالرفع صفة لله، وقرئ بالخفض صفة للعرش. وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ّ} [8]، فوصف العرش بأنه مجيد وأنه عظيم، وقال تعالى: {فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[9]، فوصفه بأنه كريم أيضا.
وكذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم»، فوصفه في الحديث بأنه عظيم، وكريم أيضا.
فقول القائل المنازع: إن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، لو كان العرش من جنس الأفلاك، لكانت نسبته إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر، كما لم يوجب ذلك تخصيص سماء دون سماء، وإن كانت العليا بالنسبة إلى السفلى كالفلك على قول هؤلاء، وإنما امتاز عما دونه بكونه أكبر، كما تمتاز السماء العليا عن الدنيا، بل نسبة السماء إلى الهواء، ونسبة الهواء إلى الماء والأرض. كنسبة فلك إلى فلك، ومع هذا فلم يخص واحدًا من هذه الأجناس عما يليه بالذكر، ولا بوصفه بالكرم والمجد والعظمة.
وقد علم أنه ليس سببًا لذواتها ولا لحركاتها، بل لها حركات تخصها، فلا يجوز أن يقال: حركته هي سبب الحوادث، بل إن كانت حركة الأفلاك سببًا للحوادث، فحركات غيره التي تخصه أكثر، ولا يلزم من كونه محيطًا بها أن يكون أعظم من مجموعها، إلا إذا كان له من الغلظ ما يقاوم ذلك، وإلا فمن المعلوم أن الغليظ إذا كان متقاربًا، فمجموع الداخل أعظم من المحيط، بل قد يكون بقدره أضعافًا، بل الحركات المختلفة التي ليست عن حركته أكثر، لكن حركته تشملها كلها.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن جويرية بنت الحارث، أن النبي ﷺ دخل عليها، وكانت تسبح بالحصى من صلاة الصبح إلى وقت الضحى، فقال: «لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضي نفسه، سبحان الله مداد كلماته»، فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان، وهم يقولون: إن الفلك التاسع لا خفيف ولا ثقيل، بل يدل على أنه وحده أثقل ما يمثل به، كما أن عدد المخلوقات أكثر ما يمثل به.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي ﷺ قد لُطِمَ وجهه، فقال: يا محمد، رجل من أصحابك لطم وجهي، فقال النبي ﷺ: «ادعوه» فدعوه، فقال: «لم لطمت وجهه؟» فقال: يا رسول الله، إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر ! فقلت: يا خبيث ! وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة فلطمته، فقال النبي ﷺ: «لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذًا بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته» فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم، وجاء ذكر القائمة بلفظ الساق، والأقوال متشابهة في هذا الباب.
وقد أخرجا في الصحيحين عن جابر قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» قال: فقال رجل لجابر: إن البراء يقول: اهتز السرير، قال: إنه كان بين هذين الحيين الأوس والخزرج ضغائن، سمعت نبي الله ﷺ يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» ورواه مسلم في صحيحه من حديث أنس أن النبي ﷺ قال وجنازة سعد موضوعة: «اهتز لها عرش الرحمن».
وعندهم أن حركة الفلك التاسع دائمة متشابهة، ومن تأول ذلك على أن المراد به استبشار حملة العرش وفرحهم، فلابد له من دليل على ما قال، كما ذكره أبو الحسن الطبري وغيره، مع أن سياق الحديث ولفظه ينفي هذا الاحتمال.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها». قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس بذلك؟ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة».
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله ﷺ قال: «يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنة» فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل، قال: «وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
وفي صحيح البخاري: أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سُرَاقة أتت النبي ﷺ فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر أصابه سَهْمُ غَرْبٍ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال: «يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» [10].
فهذا قد بين في الحديث الأول: أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، وأن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها. والحديث الثاني: يوافقه في وصف الدرج المائة. والحديث الثالث: يوافقه في أن الفردوس أعلاها.
وإذا كان العرش فوق الفردوس، فلقائل أن يقول: إذا كان كذلك كان في هذا من العلو والارتفاع ما لا يعلم بالهيئة، إذ لا يعلم بالحساب أن بين التاسع والأول كما بين السماء والأرض مائة مرة، وعندهم أن التاسع ملاصق للثامن، فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس، الذي هو أوسط الجنة وأعلاها.
وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت: يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسي»ثم قال: «يا أبا ذر، ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحَلَقَة ملقاة بأرض فَلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة »، والحديث له طرق، وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وأحمد في المسند وغيرهما.
وقد استدل من استدل على أن العرش مقبب بالحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله ﷺ أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: «ويحك ! أتدري ما تقول؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة » وفي لفظ: «وإن عرشه فوق سمواته، وسمواته فوق أرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة».
وهذا الحديث وإن دل على التقبيب، وكذلك قوله عن الفردوس أنها أوسط الجنة وأعلاها، مع قوله: إن سقفها عرش الرحمن، وأن فوقها عرش الرحمن، والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير، فهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، بل إذا قدر أنه فوق الأفلاك كلها أمكن هذا فيه سواء قال القائل: إنه محيط بالأفلاك، أو قال: إنه فوقها وليس محيطًا بها، كما أن وجه الأرض فوق النصف الأعلى من الأرض، وإن لم يكن محيطًا بذلك.
وقد قال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، ومعلوم أن الفلك مستدير مثل ذلك، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلو، ولا يستلزم استدارة من جميع الجوانب إلا بدليل منفصل.
ولفظ الفلك يدل على الاستدارة مطلقًا، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[11]، وقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [12]، يقتضى أنها في فلك مستدير مطلقًا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: في فلكة مثل فلكة المغزل.
وأما لفظ القبة، فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا بنفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلو، كالقبة الموضوعة على الأرض.
وقد قال بعضهم: إن الأفلاك غير السموات، لكن رد عليه غيره هذا القول، بأن الله تعالى قال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [13]، فأخبر أنه جعل القمر فيهن، وقد أخبر أنه في الفلك، وليس هذا موضع بسط الكلام في هذا.
وتحقيق الأمر فيه، وبيان أن ما علم بالحساب علما صحيحًا لا ينافى ما جاء به السمع، وإن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافى معقولا صحيحًا، إذ قد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع، فإن ذلك يحتاج إليه في هذا ونظائره مما قد أشكل على كثير من الناس، حيث يرون ما يقال: إنه معلوم بالعقل، مخالفًا لما يقال: إنه معلوم بالسمع، فأوجب ذلك إن كذبت كل طائفة بما لم تحط بعلمه، حتى آل الأمر بقوم من أهل الكلام إلى أن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم به حجة، لا من شرع ولا من عقل، وظنوا أن ذلك الكلام من نصر الشريعة، وكان ما جحدوه معلومًا بالأدلة الشرعية أيضا.
وأما المتفلسفة وأتباعهم، فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات، ولا يعلمون ما وراء ذلك، مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحابًا، وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت، ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم، لكن ما الموجب لأن يكون المني المتشابه الأجزاء تخلق منه هذه الأعضاء المختلفة، والمنافع المختلفة، على هذا الترتيب المحكم المتقن الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب.
وكذلك ما الموجب لأن يكون هذا الهواء، أو البخار منعقدًا سحابًا مقدرًا بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان مختص به؟ وينزل على قوم عند حاجتهم إليه فيسقيهم بقدر الحاجة لا يزيد فيهلكوا ولا ينقص فيعوزوا؟ وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر، أو تمطر مطرًا لا يغنيها كأرض مصر إذ كان المطر القليل لا يكفيها، والكثير يهدم أبنيتها قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}[14].
وكذلك السحاب المتحرك، وقد علم أن كل حركة فإما أن تكون قسرية وهي تابعة للقاسر، أو طبيعية. وإنما تكون إذا خرج المطبوع عن مركزه فيطلب عوده إليه، أو إرادية، وهي الأصل، فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية التي تصدر عن ملائكة الله تعالى، التي هي {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}[15]، و{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[16]، وغير ذلك مما أخبر الله به عن الملائكة، وفي المعقول ما يصدق ذلك.
فالكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا.
والمقصود هنا أن نبين أن ما ذكر في السؤال زائل على كل تقدير، فيكون الكلام في الجواب مبنيًا على حجج علمية لا تقليدية، ولا مسلمة، وإذا بينا حصول الجواب على كل تقدير كما سنوضحه لم يضرنا بعد ذلك أن يكون بعض التقديرات هو الواقع وإن كنا نعلم ذلك لكن تحرير الجواب على تقدير دون تقدير، وإثبات ذلك فيه طول لا يحتاج إليه هنا؛ فإن الجواب إذا كان حاصلا على كل تقدير كان أحسن وأوجز.
المقام الثاني:
أن يقال: العرش سواء كان هو الفلك التاسع، أو جسمًا محيطًا بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض غير محيط به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[17].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ».
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟» [18].
وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مِقْسَم: أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي أن النبي ﷺ قال: «يأخذ الله سمواته وأرضه بيده، ويقول: أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها: أنا الملك»، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله ﷺ؟.
وفي لفظ قال: رأيت رسول الله ﷺ على المنبر وهو يقول: «يأخذ الجبار سمواته وأرضه، وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئًا، أنا الذي أعدتها، أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟» وفي لفظ: «أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» ويميل رسول الله ﷺ على يمينه، وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله ﷺ؟.
والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضًا، وفي بعض ألفاظه قال: قرأ على المنبر: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}الآية [19]. قال: «مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة » وفي لفظ: «يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة: أنا الله الواحد!».
وقال ابن عباس: يقبض الله عليهما فما ترى طرفاهما بيده، وفي لفظ عنه: «ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم»، وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي ﷺ رجل من اليهود فقال: يا محمد، إن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: «{وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}» الآية [20].
ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى، أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا، حتى يدحوها كما تدحى الكرة.
قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجَشُون الإمام نظير مالك في كلامه المشهور الذي رد فيه على الجهمية ومن خالفها ومن أول كلامه قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقًا وتكلفًا، فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه، بأن قال: لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه، بصمت الرب عما لم يسم منها، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[21]، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة، من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[22]، وقد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينضرون.
إلى أن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة، رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحدًا. وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله ﷺ: «هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟»قالوا: لا. قال: «فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنكم ترون ربكم كذلك».
وقال رسول الله ﷺ: «لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط، قط، وينزوي بعضها إلى بعض »، وقال لثابت بن قيس: «قد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة»، وقال فيما بلغنا عنه: «إن الله يضحك من أزْلِكُم وقنوطكم وسرعة إجابتكم»، وقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: «نعم» قال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا. في أشباه لهذا مما لم نحصه.
وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[23]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[24]، وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[25]، وقال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[26]، وقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [27].
فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقى في روعهم، وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه علم ماسواه، لا هذا، ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف انتهى. وإذا كان كذلك، فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة، وهذا قبضه لها ورميه بها، وإنما بين لنا من عظمته وصف المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا.
ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر كما يفعل ذلك في يوم القيامة، وإن شاء لم يفعل ذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة، وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل ذلك، وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها.
ومن المعلوم أن الواحد منا ولله المثل الأعلى إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته، فهو في الحالتين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها أو قيل: إنه فوقها وليس محيطًا بها، كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك.
فعلى التقديرين، يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه وتعالى فوقه، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت، وتمام هذا ببيان:
المقام الثالث:
وهو أن نقول: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك، ويكون محيطًا بها، وإما أن يكون فوقها وليس هو كريا، فإن كان الأول، فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهي المحدب، وأن الجهة السفلى هو المركز، وليس للأفلاك إلاجهتان: العلو والسفل فقط.
وأما الجهات الست فهي الحيوان، فإن له ست جوانب، يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذى يمينه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه، وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا.
لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات، والجبال والأنهار الجارية.
فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم، ولو قدر أن هناك أحدًا لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبى، ولا بالعكس.
وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستديرة ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال لا يقال: إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيه.
وكذلك من علق منكوسا فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء، وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض، أو الفلك أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان، ممن يقول: إن الأفلاك مستديرة.
واستدارة الأفلاك كما أنه قول أهل الهيئة والحساب فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسن بن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين، وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[28]، قال ابن عباس: فلكة مثل فلكة المغزل.
والفلك في اللغة: هو المستدير، ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار، وكل من يعلم أن الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز من كل جانب، ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم.
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها، وسقفها وهو فوقها مطلقا، فلا يتوجه إليه، وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو، لا من جهاته الباقية أصلا.
ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو، كان جاهلا باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه وغاية ما يقدر أن يكون كرى الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا.
وأما قول القائل: إذا كان كريًا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته؟ فيقصد العلو دون التحت، فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصدًا يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولايسرة، فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، وقد فطرنا عليها.
فيقال له: هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض، وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم، وهذا غلط عظيم، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقًا، وهذا قلب للحقائق، إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقًا.
وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقى من تلك الناحية حجر آخر لالتقيا جميعًا في المركز، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه، بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك، كالمشرق والمغرب، فإنه لو قدر أن رجلا بالمشرق في السماء أو الأرض ورجلا بالمغرب في السماء أو الأرض، لم يكن أحدهما تحت الآخر، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جانبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض، وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين:
أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء، أو إلى ما فوق، كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك، ولا يقول عاقل: إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ولا إنه يذهب يمينًا أو شمالا، أو أمامًا أو خلفًا، إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد؛ لأنه أي مكان ذهب إليه كان بمنزلة مكانه أو هو دونه، وكان الفلك فوقه، فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلا وتعبًا من غير فائدة.
ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب، فتنحرف عن سمت الرأس، فكيف بمن هو فوق كل شيء دائمًا لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى؟
وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب، إلى طريق منحرف طويل، والله تعالى فطر عباده على الصحة والاستقامة، إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها.
الوجه الثاني: أنه إذا قصد السفل بلا علو كان ينتهي قصده إلى المركز وأن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره، من غير قصد العلو، كان منتهى قصده أجزاء الهواء، فلا بد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها.
ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو، كان هذا بمنزلة من يقول: أريد أن أحج من المغرب، فأذهب إلى خراسان، ثم أذهب إلى مكة، بل بمنزلة من يقول: أصعد إلى الأفلاك، فأنزل في الأرض، ثم أصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى، فهذا وإن كان ممكنًا في المقدور، لكنه مستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له، وهو مخالف للفطرة، فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق، لا سيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه، وإذا توجه إليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوسًا معكوسًا.
وأيضا، فإن هذا يجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات، بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه، ويريده وينفر عنه، فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى، كان جامعًا بين قصدين متناقضين، فلا يكون قصده له تامًا، إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده، وهذا معلوم بالفطرة.
فإن الشخص إذا كان يحب النبي ﷺ محبة تامة ويقصده أو يحب غيره ممن يحب سواء كانت محبته محمودة أو مذمومة متى كانت المحبة تامة، وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل إليه، بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة مثل: أن يحب ما تكره محبته في الدين، فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده، وعقله ينهاه عن ذلك، فتراه يقصده من طريق بعيد، كما تقول العامة: رجل إلى قدام، ورجل إلى خلف.
وكذلك إذا كان في دينه نقص، وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من القصودات التي تحب في الدين وتكرهها النفس، فإنه يبقى قاصدًا لذلك من طريق بعيد متباطئًا في السير، وهذا كله معلوم بالفطرة.
وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه، بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك، فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها، وينال به مقصوده إذا كان القصد تامًا.
ولو كان رجل في مكان عال، وآخر يناديه؛ لتوجه إليه وناداه، ولو حط رأسه في بئر وناداه بحيث يسمع صوته لكان هذا ممكنًا، لكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة، ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد ونحوه.
وحديث الإدلاء الذي روى من حديث أبي هريرة وأبى ذر رضي الله عنهما قد رواه الترمذي وغيره، من حديث الحسن البصري عن أبي هريرة وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبى ذر المرفوع، فإن كان ثابتًا فمعناه موافق لهذا، فإن قوله: «لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله » إنما هو تقدير مفروض، أي لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئًا؛ لأنه عال بالذات وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى الجهة الأخري، لكن بتقدير فرض الإدلاء، يكون ما ذكر من الجزاء.
فهكذا ما ذكره السائل: إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة. كان هو سبحانه يسمع كلامه، وكان متوجهًا إليه بقلبه، لكن هذا مما تمنع منه الفطرة؛ لأن قصد الشيء القصد التام ينافى قصد ضده، فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافى قصده من أسفل، وكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه، يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز، فإن قدر أن الدافع أقوى كان صاعدًا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله، وإنما يسمى هبوطًا باعتبار مافي أذهان المخاطبين أن ما يحاذى أرجلهم يكون هابطا، ويسمى هبوطًا مع تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقيًا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل، والدلو، لا إدلاء له، لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان.
فإنه قال: لو أدلى لهبط؛ أي لو فرض أن هناك إدلاء لفرض أن هناك هبوطًا، وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض وهذا التقدير منتف، ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب، وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن يدلي ولا يتصور أن يهبط على الله شيء لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل، ولكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوطًا عليه.
كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض، فإن الله قادر على ذلك كله، ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير من أن يخرق من جانب اليمين منا إلي جانب اليسار، أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا، أو من جهة رؤوسنا إلى جهة أرجلنا إذا مر الحبل بالأرض، فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر، مع خرق المركز، وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه إدلاء ولا هبوطًا.
وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا، وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط، فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل كان هابطًا على ما هناك، لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا، والمقصود به بيان إحاطة الخالق سبحانه وتعالى، كما بين أنه يقبض السموات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات.
ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [29]. وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل الحديث بأنه هبط على علم الله، وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل، وهو أنه حال بذاته في كل مكان، وأن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.
والتحقيق: أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتًا، فإن قوله: «لو أدلى بحبل لهبط» يدل على أنه ليس في المدلى ولا في الحبل، ولا في الدلو ولا في غير ذلك، وإنها تقتضي أنه من تلك الناحية، وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، من جنس تأويلات الجهمية، بل بتقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة.
والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة، وليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، ومالا نعلمه أمسكنا عنه، وما كان مقدمة دليله مشكوكَا فيها عند بعض الناس، كان حقه أن يشك فيه، حتى يتبين له الحق، وإلا فليسكت عما لم يعلم.
وإذا تبين هذا، فكذلك قاصده يقصده إلى تلك الناحية، ولو فرض أنا فعلناه لكنا قاصدين له على هذا التقدير، لكن قصدنا له بالقصد إلى تلك الجهة ممتنع في حقنا؛ لأن القصد التام الجازم يوجب طلب المقصود بحسب الإمكان.
ولهذا قد بينا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على تنازع الناس في النية المجردة عن الفعل هل يعاقب عليها أم لا يعاقب؟ بينا أن الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد، ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة، بل يكون هما، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه، فإن تركها لله كتبت له حسنة.
ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز، كما قال الإمام أحمد: الهم همان: هم خطرات وهم إصرار. فيوسف عليه السلام هم هما تركه لله فأثيب عليه، وتلك همت هم إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها، وإن لم يحصل لها المطلوب.
والذين قالوا: يعاقب بالإرادة، احتجوا بقوله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه»، وفي رواية: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه». فهذا أراد إرادة جازمة، وفعل ما يقدر عليه، وإن لم يدرك مطلوبه، فهو بمنزلة امرأة العزيز، فمتى كان القصد جازمًا، لزم أن يفعل القاصد ما يقدر عليه من حصول المقصود، فإذا كان قادرًا على حصول مقصوده بطريق مستقيم امتنع مع القصد التام أن يحصله بطريق معكوس من بعيد.
فلهذا امتنع في فعل العباد عند ضرورتهم، ودعائهم لله تعالى وتمام قصدهم له ألا يتوجهوا إليه إلا توجهًا مستقيمًا، فيتوجهوا إلى العلو دون سائر الجهات؛ لأنه الصراط المستقيم، القريب. وما سواه فيه من البعد والانحراف والطول ما فيه، فمع القصد التام الذي هو حال الداعي العابد، والسائل المضطر يمتنع أن يتوجه إليه إلا إلى العلو، ويمتنع أن يتوجه إليه إلى جهة أخرى، كما يمتنع أن يدلي بحبل يهبط عليه، فهذا هذا، والله أعلم.
وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديل الفطرة وتغييرها، قال ﷺ في الحديث المتفق عليه: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمْعَاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟».
وقال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [30]، فجاءت الشريعة في العبادة والدعاء بما يوافق الفطرة، بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم، فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعًا وخالفوا العقل والنقل، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع.
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن النبي ﷺ قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكًا، ولكن عن يساره أو تحت قدمه»، وفي رواية: «إنه أذن أن يبصق في ثوبه».
وفي حديث أبي رزين المشهور، الذي رواه عن النبي ﷺ: لما أخبر النبي ﷺ أنه ما من أحد إلا سيخلوا به ربه. فقال له أبو رزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد، ونحن جميع؟ فقال: «سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله! هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخليًا به، فالله أكبر».
ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه إذا قدر أن يخاطبه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه، فهو مستقبل له بوجهه مع كونه فوقه، ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له، وإن كان ذلك ممكنًا، وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته، كما يفعل من ليس مقصوده التوجه إلى شخص بخطاب، فيعرض عنه بوجهه ويخاطب غيره، ليسمع هو الخطاب، فأما مع زوال المانع فإنما يتوجه إليه، فكذلك العبد إذا قام إلى الصلاة، فإنه يستقبل ربه وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه لا من يمينه ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل، كما إذا قدر أنه يخطاب القمر.
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال: «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم»، واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى أحمد عن محمد بن سيرين: أن النبي ﷺ كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [31] فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده، فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة؛ لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع وهو الذل والسكوت لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله بل يناسب حاله الإطراق، وغض بصره أمامه.
وليس نهى المصلي عن رفع بصره في الصلاة ردًا على أهل الإثبات الذين يقولون: إنه على العرش، كما يظنه بعض جهال الجهمية، فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر، فالجميع سواء، ولو كان كذلك لم ينه عن رفع البصر إلى جهة ويؤمر برده إلى أخرى، لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء.
وأيضا، فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملا لجميع أحوال العبد، وقد قال تعالى: {نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [32]، فليس العبد ينهى عن رفع بصره مطلقًا، وإنما نهى في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [33]، وقال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [34].
وأيضا، فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله، لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات، ولو كان مقصوده أن ينهي الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء، أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو، لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام، فكيف وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايث له ولا مباين له، أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات؟ بل جميع ما يقوله الجهمية من النفي ويزعمون أنه الحق ليس معهم به حرف من كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة مملوءة بما يدل على نقيض قولهم، وهم يقولون:
إن ظاهر ذلك كفر، فنؤول، أو نفوض، فعلى قولهم ليس في الكتاب والسنة، وأقوال السلف والأئمة في هذا الباب إلا ما ظاهره الكفر، وليس فيها من الإيمان في هذا الباب شيء، والسلب الذي يزعمون أنه الحق الذي يجب على المؤمن أو خواص المؤمنين اعتقاده عندهم لم ينطق به رسول، ولا نبي، ولا أحد من ورثة الأنبياء والمرسلين، والذي نطقت به الأنبياء وورثتهم ليس عندهم هو الحق، بل هو مخالف للحق في الظاهر، بل وحذاقهم يعلمون أنه مخالف للحق في الظاهر والباطن.
لكن هؤلاء منهم من يزعم أن الأنبياء لم يمكنهم أن يخاطبوا الناس إلا بخلاف الحق الباطن، فلبسوا وكذبوا لمصلحة العامة، فيقال لهم: فهلا نطقوا بالباطن لخواصهم الأذكياء الفضلاء إن كان ما يزعمونه حقًا؟
وقد علم أن خواص الرسل هم على الإثبات أيضا وأنه لم ينطق بالنفي أحد منهم إلا أن يكذب على أحدهم، كما يقال عن عمر: أن النبي ﷺ وأبا بكر كانا يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما، وهذا مختلق باتفاق أهل العلم، وكذلك ما نقل عن علي وأهل بيته: أن عندهم علمًا باطنًا يخالف الظاهر الذي عند جمهور الأمة، وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن علي رضي الله عنه أنه لم يكن عندهم من النبي ﷺ سر ليس عند الناس، ولا كتاب مكتوب إلا ما كان في الصحيفة، وفيها: الديات، وفِكَاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر.
ثم إنه من المعلوم أن من جعله الله هاديًا مبلغًا بلسان عربي مبين، إذا كان لا يتكلم قط إلا بما يخالف الحق الباطن الحقيقي، فهو إلى الضلال والتدليس أقرب منه إلى الهدى والبيان، وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا. والمقصود أن ماجاء عن النبي ﷺ في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضًا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله ﷺ
وإنما يظن تعارضها: من صدق بباطل من النقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئًا ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات إن كان ذلك معارضا لمنقول صحيح وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولا عن النبي ﷺ، ويكون كذبًا عليه، أو ما يظنه لفظا دالا على شيء ولا يكون دالا عليه، كما ذكروه في قوله ﷺ: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه»؛ حيث ظنوا أن هذا وأمثاله يحتاج إلى التأويل، وهذا غلط منهم لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي ﷺ فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر ليس هو من صفات الله، إذ قال: «هو يمين الله في الأرض»، فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا يكون اليد الحقيقية، وقوله: «فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحًا لله ولا مقبلا ليمينه؛ لأن المشبه ليس هو المشبه به، وقد أتى بقوله: «فكأنما»، وهي صريحة في التشبيه، وإذا كان اللفظ صريحًا في أنه جعل بمنزلة اليمين، لا أنه نفس اليمين كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين قائلا للكذب المبين.
فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كرى الشكل، سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع، قد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات، وهو العالي عليها من جميع الجوانب، وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش بهذا التقدير إنما يقصد إلى العلو، لا يجوز في الفطرة ولا في الشرعة مع تمام قصده أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست، بل هو أيضا يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه، كما ضربه النبي ﷺ مثلا من المثل بالقمر ولله المثل الأعلى وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر وهو آية من آيات الله تعالى فالخالق أعلى وأعظم.
وأما إذا قدر أن العرش ليس كرى الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه وليس كري الشكل، فعلى كل تقدير لا نتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات.
فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مباينا لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها، فهو على التقديرين يكون فوقها مباينًا لها، فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وعلى هذا التقدير في العرش، لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة، وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين.
أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كريًا والله فوقه، وجب أن يكون الله كريًا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال، فإن الله مع كونه فوق العرش، ومع القول بأن العرش كري سواء كان هو التاسع أو غيره لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها، ولا في صفاتها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرا بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وإنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة. بل الدرهم والدينار، أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك، في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك؟ والله ولله المثل الأعلى أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [35].
وكذلك اعتقادهم الثاني: وهو أن ما كان فلكًا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست خطأ باتفاق أهل العقل، الذين يعلمون الهيئة، وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان.
لقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو، لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، سواء كان محيطًا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريًا، سواء كان الخالق سبحانه محيطًا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رؤوسنا، دون الجهة الأخرى.
فعلى أي تقدير فرض، كان كل من مقدمتي السؤال باطلة، وكان الله تعالى إذا دعوناه، إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك.
وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله أعلم.
هامش
[الزمر: 67]
مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار

تصنيف:
مجموع الفتاوى
==================

[غافر: 7]
[الحاقة: 17]
[الزمر: 75]
[هود: 7]
[الإسراء: 24]
[غافر: 15، 16]
[البروج: 14 16]
[المؤمنون: 86، 87]
[المؤمنون 116]
[وقوله: سَهم غَرْب أي لا يعرف راميه]
[الأنبياء: 33]
[يس: 40]
[نوح: 15، 16]
[السجدة: 27]
[النازعات: 5]
[ الذاريات: 4]
[ الزمر: 67]
[في المطبوعة تكرر لفظ الحديث عن عبد الله بن عمر، وهو خطأ، لأنه لم يرو في الصحيحين بهذا الإسناد، ولعله ناتج عن اضطراب في الطباعة ولذلك حذفناه]
[ الزمر: 67]
[الزمر: 67]
[ القيامة: 22، 23]
[القمر: 55]
[الشورى: 11]
[الطور: 48]
[طه: 39]
[ص: 75]
[الزمر: 67]
[ الأنبياء: 33]
[الحديد: 3]
[الروم: 30]
[المؤمنون: 1، 2]
[البقرة: 144]
[القمر: 7]
[الشورى: 45]

الرسالة القبرصية ابن تيمية {رسالة من ابن تيمية إلى ملك قبرص}

الرسالة القبرصية ابن تيمية {رسالة من ابن تيمية إلى ملك قبرص}
بسم الله الرحمن الرحيم
من: أحمد ابن تيمية
إلى: سرجوان عظيم أهل ملته، ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين، وعظماء القسيسين والرهبان والأمراء والكتاب وأتباعهم.
سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد:
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، إله إبراهيم وآل عمران. ونسأله أن يصلي على عباده المصطفين وأنبيائه المرسلين. ويخص بصلاته وسلامه أولي العزم الذين هم سادة الخلق وقادة الأمم، الذين خصوا بأخذ الميثاق، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، كما سماهم الله تعالى في كتابه فقال عز وجل « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب »
وقال تعالى « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما ».
ونسأله أن يخص بشرائف صلاته وسلامه خاتم المرسلين وخطيبهم إذا وفدوا على ربهم، وإمامهم إذا اجتمعوا، شفيع الخلائق يوم القيامة نبي الرحمة ونبي الملحمة.الجامع محاسن الأنبياء، الذي بشر به عبد الله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى الصديقة الطاهرة البتول التي لم يمسها بشر قط: مريم ابنة عمران ذلك مسيح الهدى عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المقرب عند الله، المنعوت بنعت الجمال والرحمة لما انجر بنو إسرائيل فيما بعث به موسى من نعت الجلال والشدة، وبعث الخاتم الجامع بنعت الكمال المشتمل على الشدة على الكفار، والرحمة بالمؤمنين، والمحتوي على محاسن الشرائع والمناهج التي كانت قبله صلى الله عليهم وسلم أجمعين إلى يوم القيامة.
أما بعد:
فإن الله خلق الخلائق بقدرته، وأظهر فيهم آثار مشيئته وحكمته ورحمته، وجعل المقصود الذي خلقوا له فيما أمرهم به هو عبادته.
وأصل ذلك هو معرفته ومحبته. فمن هداه الله صراطه المستقيم، آتاه رحمة وعلما ومعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ورزقه الإنابة إليه، والوجل لذكره والخشوع له، والتأله له فحن إليه حنين النسور إلى أوكارها، وكلف بحبه كلف الصبي بأمه، لا يعبد إلا إياه رغبة ورهبة ومحبة، وأخلص دينه لمن الدنيا والآخرة له، رب الأولين، ملك يوم الدين، خلق ما تبصرون، وما لا تبصرون، عالم الغيب والشهادة، الذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. لم يتخذ من دونه أندادا كالذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله. ولم يشرك بربه أحدا، ولم يتخذ من دونه وليا ولا شفيعا، لا ملكا ولا نبيا ولا صديقا، [ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا] فهنالك اجتباه ربه، واصطفه وآتاه رشده ن وهداه لم اختلف فيه من الحق بإذنه ن فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. 
 
 
و ذلك: أن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام، على التوحيد والإخلاص، كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة، والفلسفة الحائدة. 
 
 
 
قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسيم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية. 
 
 
 
وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين.
وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين.
وقوم على مذاهب أخرى. 
 
 
 
وأكثرهم لرؤسائهم مقلدون، وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليتقربوا بهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلما أعلمه الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، دعا عليهم فأغرق الله أهل الأرض بدعوته. 
 
 
 
وجاءت الرسل بعده تترى إلى أن عم الأرض دين الصابئة والمشركين لما كان النماردة والفراعنة ملوك الأرض شرقا وغربا
فبعث الله إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة، والكلمة الباقية: إبراهيم خليل الرحمن. 
 
 
 
فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص، ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام، وقال « وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين » 
 
 
 
وقوله « أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقي فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين » 
 
 
 
وقال إبراهيم عليه السلام ومن معه لقومه «إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده »
فجعل الله الأنبياء والمرسلين من أهل بيته وجعل لكل منهم خصائص، ورفع بعضهم فوق بعض درجات وآتى كلا منهم من الآيات، ما آمن على مثله البشر.
فجعل لموسى العصا حية حتى ابتلعت ما صنعت السحرة الفلاسفة من الحبال والعصي، وكانت شيئا كثيرا. وفلق له البحر حتى صار يابسا، والماء واقفا حاجزا بين اثني عشر طريقا على عدد الأسباط، وأرسل معه القمل والضفادع والدم، وظلل عليه وعلى قومه الغمام الأبيض يسير معهم. وأنزل عليهم صبيحة كليوم المن والسلوى، وإذا عطشوا ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم.
وبعث بعده أنبياء من بني إسرائيل، منهم من أحيا الله على يديه الموتى. ومنهم من شفى الله على يديه المرضى. ومنهم من اطلعه على ما شاء من غيبه. ومنهم من سخر له المخلوقات. ومنهم من بعثه بأنواع المعجزات. 
 
 
 
و هذا مما اتفق عليه جميع أهل الملل، وفي الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى، والنبوات التي عندهم وأخبار الأنبياء عليهم السلام، مثل أشعياء وأرمياء ودنيال وحبقوق وداود وسليمان وغيرهم، وكتاب سفر الملوك وغيره من الكتب ما فيه معتبر.
وكانت بنو إسرائيل أمة قاسية عاصية، تارة يعبدون الأصنام والأوثان، وتارة يعبدون الله، وتارة يقتلون النبيين بغير الحق وتارة يستحلون محارم الله بأدنى الحيل.
فلعنوا أولا على لسان داود وكان من خراب بيت المقدس ما هو معروف عند أهل الملل كلهم. 
 
 
 
ثم بعث الله المسيح بن مريم رسولا، قد خلت من قبله الرسل، وجعله وأمه آية للناس، حيث خلقه من غير أب إظهارا لكمال قدرته، وشمول كلمته، حيث قسم النوع الإنساني الأقسام الربعة:
فجعل آدم من غير ذكر ولا أنثى.
وخلق زوجه حواء من ذكر بلا أنثى.
وخلق المسيح بن مريم من أنثى بلا ذكر.
وخلق سائرهم من الزوجين الذكر والأنثى.
وآتى عبده المسيح من الآيات والبينات ما جرت به سنته، فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنبأ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ودعا إلى الله وإلى عبادته، متبعا سنة إخوانه المرسلين، مصدقا لمن قبله، ومبشرا بمن يأتي بعده.
وكان بنو إسرائيل قد عتوا وتمردوا، وكان غالب أمره اللين والرحمة والعفو والصفح، وجعل في قلوب الذين اتبعوه رافة ورحمة وجعل منهم قسيسين ورهبانا. 
 
 
=
فتفرق الناس في المسيح عليه السلام ومن اتبعه من الحواريين ثلاثة أحزاب: 
 
 1.قوم كذبوه وكفروا به، وزعموا أنه ابن بغي، ورموا أمه بالفرية، ونسبوه إلى يوسف النجار، وزعموا أن شريعة التوراة لم ينسخ منها شئ، وأن الله لم ينسخ ما شرعه، بعد ما فعلوه بالأنبياء، وما كان عليهم من الآصال في النجاسات والمطاعم. 
 
 
 
2-وقوم: غلوا فيه وزعموا أنه الله وابن الله، وأن اللاهوت تدرع الناسوت، وأن رب العالمين نزل، وأنزل ابنه ليصلب ويقتل فداء لخطيئة آدم عليه السلام.
وجعلوا الإله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد: قد ولد واتخذ ولدا وأنه إله حي عليم قدير جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن الواحد منها أقنوم الكلمة وهي العلم، هي تدرعت الناسوت البشري. 
 
 
مع العلم بأن أحدهما لا يمكن انفصاله عن الآخرين، إلا إذا جعلوه ثلاثة إلاهات متباينة، وذلك ما لا يقولونه. 
 
 
وتفرقوا في التثليث والاتحاد تفرقا وتشتتوا تشتتا لا يقر به عاقل، ولم يجئ به نقل، إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده، ودعائه وتضرعه.
و لما كان أصل الدين: هو الإيمان بالله ورسوله، كما قال خاتم النبيين والمرسلين: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله » وقال: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله »، كان أمر الدين توحيد الله، والإقرار برسوله. ولهذا كان الصابئون والمشركون كالبراهمة ونحوهم من منكري النبوات مشركين بالله في إقرارهم وعبادتهم، وفاسدي الاعتقاد في رسله. 
 
 
فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بين بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها. ولهذا كان عامة رؤسائهم من القسيسين والرهبان، وما يدخل فيهم من البطارقة والمطارنة والأساقفة، وإذا صار الرجل منهم فاضلا مميزا فإنه ينحل عن دينه ويصير منافقا لملوك أهل دينه،وعامتهم، رضي بالرياسة عليهم وبما يناله من الحظوظ، كالذي كان ببيت المقدس، الذي يقال له: ابن البوري والذي كان بدمشق الذي يقال له: ابن القف والذي بقسطنطينية وهو: البابا عندهم وخلق كثير من كبار الباباوات والمطارنة، والأساقفة لما خاطبهم قوم من الفضلاء أقروا لهم بأنهم ليسوا على عقيدة النصارى، وإنما بقاؤهم على ما هم عليه لأجل العادة والرياسة كبقاء الملوك والأغنياء على ملكهم وغناهم. ولهذا تجد غالب فضلائهم إنما همة أحدهم نوع من العلم الرياضي كالمنطق والهيئة والحساب والنجوم، أو الطبيعي الطب، ومعرفة الأركان. أو التكلم في الإلهي على طريقة الصابئة الفلاسفة الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام، قد نبذوا دين المسيح والرسل الذين قبله وبعده وراء ظهورهم وحفظوا رسوم الدين لأجل الملوك والعامة. 
 
  3-وأما الرهبان فأحدثوا أنواع من المكر والحيل بالعامة. ما يظهر لكل عاقل حتى صنف الفضلاء في حيل الرهبان كتبا مثل: النار التي كانت تصنع بقمامة يدهنون خيطا دقيقا بسندروس ويلقون النار عليه بسرعة فتنزل فيعتقد الجهال أنها نزلت من السماء ويأخذونها إلى البحر، وهي صنعت ذلك الراهب، يراه الناس عيانا، وقد اعترف هو وغيره بأنهم يصنعونها.
 
 
 
وقد اتفق أهل الحق من جميع الطوائف على أنه لا تجوز عبادة الله تعالى بشيء ليس له حقيقة، وقد يظن المنافقون أن ما ينقل عن المسيح وغيره من المعجزات، من جنس النار المصنوعة، وكذلك حيلهم في تعليق الصليب وفي بكاء التماثيل التي يصورونها على صورة المسيح وأمه وغيرهما ونحو ذلك كل ذلك، يعلم كل عاقل أنه إفك مفترى، وأن جميع أنبياء الله، وصالحي عباده برآء من كل زور باطل، وإفك كبرائهم من سحر سحرة فرعون. 
 
 
ثم إن هؤلاء عمدوا إلى الشريعة التي يعبدون الله بها فناقضوا الأولين من اليهود فيها، مع أنهم يأمرون بالتمسك بالتوراة، إلا ما نسخه المسيح. 
 
 
قصر هؤلاء في الأنبياء حتى قتلوهم، وغلا هؤلاء فيهم حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم. 
 
 
وقال أولئك: إن الله لا يصلح له أن يغير ما أمر فينسخه لا في وقت آخر، ولا على لسان نبي آخر، وقال هؤلاء بل الأحبار والقسيسين يغيرون ماشاءوا، ويحرمون ما رأوا ومن أذنب ذنبا وظفوا مارأوا عليه ما رأوا من العبادات وغفروا له. ومنهم من يزعم أنه ينفخ في المرأة من روح القدس فيجعل البخور قربانا.
وقال أولئك: حرم علينا أشياء كثيرة وقال [هؤلاء]: ما بين البقة و الفيل حلال كل ما شئت، ودع ما شئت.
وقال أولئك: النجاسات مغلظة حتى إن الحائض لا يقعد معها، ولا يأكل معها. وهؤلاء يقولون: ما عليك شيء نجس، ولا يأمرون بختان ولا غسل من جنابة ولا إزالة نجاسة، مع أن المسيح والحواريون كانوا على شريعة التوراة.
ثم إن الصلاة إلى المشرق، لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون، ابتدعها قسطنطين أو غيره. وكذلك الصليب إنما ابتدعه قسطنطين برأيه وبمنام زعم أنه رآه.
وأما المسيح والحواريون فلم يأمر بشيء من ذلك.
والدين الذي يتقرب العباد به إلى الله، لا بد أن يكون الله أمر به وشرعه على ألسنة رسله وأنبيائه، وإلا فالبدع كلها ضلالة، وما عبدت الأوثان إلا بالبدع. وكذلك إدخال الألحان في الصلوات لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون.
وبالجملة: فعامة أنواع العبادات والأعياد التي هم عليها لم ينزل بها الله كتابا ولا بعث بها رسولا.
لكن فيهم رأفة ورحمة، وهذا من دين الله. بخلاف الأولين، فإن فيهم قسوة ومقتا، وهذا مما حرمه تعالى، لكن: الأولون لهم تمييز وعقل مع العناد والكبر. والآخرون فيهم ضلال عن الحق وجهل بطريق الله.
ثم إن هاتين الأمتين تفرقتا أحزابا كثيرة في أصل دينهم واعتقادهم في معبودهم ورسولهم. هذا يقول إن جوهر اللاهوت والناسوت صار جوهرا واحدا وطبيعة واحدة وأقنوما واحدا وهم اليعقوبية. وهذا يقول: بل هما جوهران وطبيعتان أقنومان، وهم النسطورية. وهذا يقول بالاتحاد من وجه دون وجه، وهم الملكانية.
وقد آمن جماعة من علماء أهل الكتاب قديما وحديثا، وهاجروا إلى الله ورسوله، وصنفوا في كتب الله من دلالات نبوة النبي خاتم المرسلين، وما في التوراة والزبور والإنجيل من مواضع لم يدبروها، وكذلك الحواريون. فلما اختلف الأحزاب من بينهم هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه، فبعث النبي الذي بشر به المسيح ومن قبله من الأنبياء داعيا إلى ملة إبراهيم، ودين المرسلين من قبله ومن بعده، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين كله لله، وطهر الأرض من عبادة الأوثان، ونزه الدين عن الشرك دقه وجله بعدما كانت الأصنام تعبد في أرض الشام وغيرها في دولة بني إسرائيل، ودولة الذين قالوا إنا نصارى، وأمر بالإيمان بجميع كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وبجميع أنبياء الله من آدم إلى محمد.
قال الله تعالى: «و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونخن له عابدون ».
وأمر الله ذلك الرسول بدعوة الخلق إلى توحيده بالعدل، فقال تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ونشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ».
وقال تعالى: « وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب.»
قال تعالى « ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.»
وأمره أن تكون صلاته وحجه إلى بيت الله الحرام الذي بناه خليله إبراهيم، أبوا الأنبياء وإمام الحنفاء، وجعل أمته وسطا، فلم يغلوا في الأنبياء كغلو من عدلهم بالله وجعل فيهم شيئا من الآلهة وعبدهم وجعلهم شفعاء، ولم يجفا جفاء من آذاهم واستخف بحرماتهم وأعرض عن طاعتهم، بل عزروا الأنبياء: أي عظموهم ونصروهم وآمنوا بما جاءوا به وأطاعوهم واتبعوهم، ائتموا بهم وأحبوهم، أجلوهم ولم يعبدوا إلا الله، فلم يتكلوا إلا عليه ولم يستعينوا إلا به، مخلصين له الدين حنفاء. وكذلك في الشرائع، قالوا: ما أمرنا الله به أطعناه وما نهانا عنه انتهينا. وإذا نهانا عما كان أحله، كما نهى بني إسرائيل عما كان أباحه ليعقوب، أو أباح لنا ما كان حراما كما أباح المسيح بعض الذي حرم الله على بني إسرائيل، سمعنا وأطعنا.
وأما غير رسل الله أنبيائه فليس لهم أن يبدلوا دين الله، ولا يبتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله. والرسل إنما قالوا تبليغا عن الله، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ».
وتوسطت هذه الأمة في الطهارة والنجاسة، وفي الحلال والحرام، وفي الأخلاق، ولم يجردوا الشدة كما فعله الأولون، ولم يجردوا الرأفة كما فعله الآخرون، بل عاملوا أعداء الله بشدة، وعاملوا أولياء الله بالرأفة والرحمة.
وقالوا في المسيح ما قاله سبحانه وتعالى، وما قاله المسيح والحواريون، لا ما ابتدعه الغالون والجافون.
وقد أخبر الحواريون عن خاتم المرسلين: أنه يبعث من أرض اليمن، وأنه يبعث بقضيب الأدب، وهو السيف. وأخبر المسيح: أنه يجيء بالبينات والتأويل، وأن المسيح جاء بالأمثال وهذا باب يطول شرحه.
وإنما نبه الداعي لعظيم ملته وأهله، لما بلغني ما عنده من الديانة والفضل ومحبة العلم وطلب المذاكرة. ورأيت الشيخ أبا العباس المقدسي: شاكرا من الملوك، من رفقه ولطفه، وإقباله عليه، وشاكرا من القسسين ونحوهم.
ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، وبذلك بعث الله الأنبياء المرسلين. ولا نصيحة أعظم من النصيحة فيما بين العبد وبين ربه، فإنه لابد للعبد من لقاء الله، ولا بد أن الله يحاسب عبده، كما قال تعالى «فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين». وأما الدنيا فأمرها حقير، وكبيرها صغير وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال. وغاية ذي الرياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاما منه. وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة لما آذى نبي الله موسى.
وهذه وصايا المسيح ومن قبله ومن بعده من المرسلين، كلها تأمر بعبادة الله والتجرد للدار الآخرة والإعراض عن زهرة الحياة الدنيا. ولما كان أمر الدنيا خسيسا، رأيت، رأيت أن أعظم ما يهدى لعظيم قومه: المفاتيح في العلم والدين بالمذاكرة فيما يقرب إلى الله، والكلام في الفروع مبني على [ما] في الأصول. وأنتم تعلمون أن دين الله لا يكون بهوى النفس، ولا بعادات الآباء وأهل المدينة، وإنما ينظر العاقل فيما جاءت به الرسل، وفي ما اتفق الناس عليه وما اختلفوا فيه، ويعامل الله تعالى بينه وبين الله تعالى، وبالاعتقاد الصحيح، والعمل الصالح، وإن كان لا يمكن الإنسان أن يظهر على ما في نفسه لكل أحد، فينتفع هو بذلك القدر. وإن رأيت من الملك رغبة في العلم والخير كاتبته وجاوبته عن مسائل يسألها، وقد كان خطر لي أن أجيء إلى قبرص لمصالح في الدين والدنيا، لكن إذا رأيت من الملك ما فيه رضى الله ورسوله عاملته بما يقتضيه عمله، فإن الملك وقومه يعلمون أن الله قد أظهر من معجزات رسله عامة ومحمد ﷺ خاصة وأيد به دينه، وأذل الكفار والمنافقين.
ولما قدم مقدم الماغول غازان وأتباعه إلى دمشق وكان قد انتسب إلى الإسلام، ولكن لم يرض الله ورسوله والمؤمنون بما فعلوه، حيث لم يلتزموا دين الله.
وقد اجتمع به وبأمرائه، وجرى لي معهم فصول يطول شرحها، لا بد أن تكون قد بلغت الملك فأذله الله وجنوده لنا، حتى بقينا نضربهم بأيدينا، ونصرخ فيهم بأصواتنا، وكان معهم صاحب سيس مثل أصغر غلام يكون، حتى كان بعض المؤذنين الذين معنا يصرخ عليه ويشتمه، وهو لا يجترئ أن يجاوبه، حتى أن وزراء غازان ذكروا ما ينم عليه من فساد النية له. وكنت حاضرا لما جاءت رسلكم إلى ناحية الساحل، وأخبرني التاتار بالأمر الذي أراد صاحب سيس أن يدخل بينكم وبينه فيه، حيث مناكم بالغرور، وكان التاتار من أعظم الناس شتيمة لصاحب سيس وإهانة له، ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملتكم بالإحسان إليهم والذب عنهم.
وقد عرف النصارى كلهم إني لما خاطبت التاتار في إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطلوشاه، وخاطبت مولاي فيهم، فسمح بإطلاق المسلمين قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون، فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا فإنا نفتكّهم، ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة، وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله.
وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى، يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم، كما أوصانا خاتم المرسلين، حيث قال في آخر حياته: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم » قال الله تعالى في كتابه: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ».
ومع خضوع التاتار لهذه الملة وانتسابهم لهذه الملة، فلم نخادعهم ولم ننافقهم، بل بينا لهم ما هم عليه من الفساد والخروج على الإسلام الموجب لجهادهم، وأن جنود الله المؤيدة وعساكره المنصورة المستقرة بالديار الشامية والمصرية، مازالت منصورة إلى من ناوأها مظفرة إلى من عاداها. وفي هذه المدة لما شاع عند العامة أن التاتار مسلمون أمسك العسكر عن قتالهم، فقتل منهم بضعة عشر ألفا. فلمل انصرف العسكر إلى مصر وبلغه ما عليه هذه الطائفة الملعونة: من الفساد وعدم الدين، خرجت جنود الله وللأرض منها وئيد، قد ملأت السهل والجبل، في كثرة وقوة وعدة وإيمان وصدق، قد بهرت العقول والألباب، محفوفة بملائكة الله، التي ما زال يمد بها الأمة الحنيفية المخلصة لبارئها، فانهزم العدو بين أيديها ولم يقف لمقابلتها. ثم أقبل العدو ثانيا، فأرسل عليه من العذاب ما أهلك النفوس والخيل، وانصرف خاسئا وحسيرا، وصدق الله وعده، ونصر عبده، وهو الآن في البلاء الشديد، والتعكيس العظيم، والبلاء الذي أحاط به. والإسلام في عزة متزايدة، وخير مترافد، فإن النبي ﷺ قد قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ».
وهذا الدين في إقبال وتجديد، وأنا ناصح للملك وأصحابه، والله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة والإنجيل والفرقان.
ويعلم الملك أن وفد نجران، وكانوا نصارى كلهم فيهم الأسقف وغيره، لما قدموا على النبي ﷺ، ودعاهم إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، خاطبوه في أمر المسيح وناظروه، فلما قامت عليهم الحجة جعلوا يراوغون، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى المباهلة، كما قال «فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ».
فلما ذكر النبي ﷺ ذلك استشاروا بينهم، فقالوا: تعلمون أنه نبي، وأنه ما باهل أحد نبيا فأفلح، فأدوا إليه الجزية ودخلوا في الذمة واستعفوا من المباهلة.
وكذلك بعث النبي ﷺ كتابه إلى قيصر، الذي كان ملك النصارى بالشام والبحرين إلى قسطنطينية وغيرها، وكان ملكا فاضلا، فلما قرأ كتابه وسأل عن علامته عرف أنه النبي الذي بشر به المسيح، وهو الذي كان وعد الله به إبراهيم في ابنه إسماعيل، وجعل يدعو قومه النصارى إلى متابعته، وأكرم كتابه وقبله، ووضعه على عينيه وقال: وددت أني أخلص إليه حتى أغسل عن قدميه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه.
وأما النجاشي ملك الحبشة النصراني، فإنه لما بلغه خبر النبي ﷺ من أصحابه الذين هاجروا إليه، آمن به وصدقه، وبعث إليه ابنه وأصحابه مهاجرين، وصلى النبي ﷺ [عليه] لما مات، ولما سمع سورة كهيعص بكى، ولما أخبروه عما يقولون في المسيح، قال: والله ما يزيد عيسى على هذا مثل هذا العود، وقال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وكانت سيرة النبي ﷺ: أن من آمن بالله وكتبه ورسله من النصارى، صار من أمته، له ما لهم وعليه ما عليهم، وكان له أجران: أجر على إيمانه بالمسيح، وأجر على إيمانه بمحمد. ومن لم يؤمن به من الأمم فإن الله أمر بقتاله، كما قال في كتابه « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ».
فمن كان لا يؤمن بالله بل يسب الله ويقول إنه ثالث ثلاثة، وإنه صلب، ولا يؤمن برسوله، بل يزعم [من] حمل وولد، وكان يأكل، ويشرب، ويتغوط، وينام، هو الله، وابن الله، وأن الله أو ابنه، حل فيه وتدرعه، ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين، ويحرف نصوص التوراة والإنجيل - فإن من الأناجيل الأربعة من التناقض، والاختلاف بين ما أمر الله به وأوجبه فيها - ولا يدين الحق، ودين الحق هو الإقرار ما أمر الله به أوجبه من عبادته وطاعته، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، من الدم والميتة ولحم الخنزير، الذي ما زال حراما، من لدن آدم إلى محمد ﷺ، ما أباحه نبي قط. بل علماء النصارى يعلمون أنه محرم، وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة. وبعضهم يمنعه العناد والعادة ونحو ذلك. ولا يؤمنون باليوم الأخر، لأن عامتهم وإن كانوا يقرون بقيامة الأبدان لكنهم لايقرون بما أخبر الله به من الأكل والشراب واللباس والنكاح، والنعيم والعذاب في الجنة والنار، بل غاية ما يقرون به من النعيم والشم. ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الأجساد، وأكثر علمائهم زنادقة، وهم يضمرون ذلك، ويسخرون بعوامهم، لا سيما بالنساء والمترهبين منهم، لضعف العقول، فمن هذا حاله فقد أمر الله رسوله بجهاده حتى يدخل في دين الله أو يؤدي الجزية، وهذا دين محمد ﷺ.
ثم المسيح صلوات الله عليه لم يأمر بجهاد، لا سيما بجهاد الأمة الحنيفية ولا الحواريين بعده. فيأيها الملك كيف تستحل سفك الدماء وسبي الحريم، وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسوله؟
ثم أما يعلم الملك: أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان ما لا يحصى عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين.
لست أقول عن الملك وأهل بيته ولا اخوته، فإن أبا العباس: شاكرا للملك ولأهل بيته كثيرا، معترف بما فعلوه معه من الخير، وإنما أقول عن عموم الرعية. أليس الأسرى في رعية الملك. أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبر والإحسان.
فأين ذلك؟
ثم إن كثيرا منهم إنما أخذوا غدرا، والغدر حرام في جميع الملل والشرائع والسياسات. فكيف تستحلون أن تستولوا على من أخذ غدرا؟ أفتؤمنون مع هذا أن يقابلكم المسلمون ببعض هذا ؟ وتكونون مغدورين؛ والله ناصرهم ومعينهم، لاسيما في هذه الأوقات، والأمة قد امتدت للجهاد، واستعدت للجلاد ورغب الصالحون وأولياء الرحمن في طاعته، وقد تولى الثغور الساحلية أمراء ذوو بأس شديد، وقد ظهر بعض أثرهم، وهم في ازدياد.
ثم عند المسلمون من الرجال الفداوية، الذين يغتالون الملوك في فرشها، وعلى أفراشها: من قد بلغ الملك خبرهم قديما وحديثا، وفيهم الصالحون، الذين لا يرد الله دعواتهم، ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب الرب لغضبهم، ويرضى لرضاهم.
وهؤلاء التتار مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين: لما غضب المسلمون عليهم، أحاط بهم البلاء ما يعظم عن الوصف، فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمون من أكثر الجهات أن يعاملوهم هذه المعاملة، التي لا يرضاها عاقل ولا مسلم ولا معاهد.
هذا، وأنت تعلم أن المسلمين لا ذنب لهم أصلا؛ بل هم المحمودون على ما فعلوه. فإن الذي أطبقت العقلاء على الإقرار بفضله، هو دينهم حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين. فقد قامت البراهين على وجوب متابعته.
ثم هذه البلاد مازالت بأيديهم: الساحل، بل وقبرص أيضا؛ ما أخذت منهم إلا من أقل من ثلاثمائة سنة، وقد وعدهم النبي ﷺ أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة؛ فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم رب العباد والبلاد، كما ينتقم لغيرهم. وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حمية إسلامهم فينالوا فيها ما نالوا من غيرها، ونحن إذا رأينا من الملك وأصحابه ما يصلح عاملناهم بالحسنى وإلا فمن بغي عليه لينصرنه الله.
وأنت تعلم أن ذلك من أيسر الأمور على المسلمين، أنا ما غرضي الساعة إلا مخاطبتكم بالتي هي أحسن، والمعاونة على النظر في العالم واتباع الحق وفعل ما يجب. فإن كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فليبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان، ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلدين الذين لا يسمعون ولا يعقلون؛ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية، وتقول: اللهم أرني الحق حقا، وأعني على اتباعه، وأرني الباطل باطلا وأعني على اجتنابه، ولا تجعله مشتبها علي فأتبع الهوى. وقل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلقون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والكتاب لا يحتمل البسط أكثر من هذا، لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وهما شيآن: أحدهما له خاصة، وهو معرفته بالعلم والدين، وانكشاف الحق وزوال الشبهة، وعبادة الله كما أمر؛ فهذا خير له من ملك الدنيا بحذافرها، وهو الذي بعث به المسيح وعلمه الحواريين.
الثاني له وللمسلمين، وهو مساعدته للأسرى الذين في بلاده، وإحسانه إليهم، وأمر رعيته بالإحسان إليهم، والمعاونة لنا على خلاصهم؛ فإن في الإساءة إليهم دركا على الملك في دينه ودين الله تعالى، ودركا من جهة المسلمين. وفي المعاونة على خلاصهم حسنة له في دينه ودين الله تعالى وعند المسلمون، وكان المسيح أعظم الناس توصية بذلك.
ومن العجب كل العجب: أن يأسر النصارى قوما غَدرا أو غير غدر، ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول: « من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ رداءك أعطه قميصك » وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين. فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص. سيما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء، ليس لهم من يسعى فيهم، وهذا أبو العباس مع أنه من عباد المسلمين، وله عبادة وفقر وفيه مشيخة، ومع هذا فما كاد يحصل له فداؤه إلا بالشدة. ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف ؛ فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة، لاسيما والمسيح يوصي بذلك في الإنجيل ويأمر بالرحمة العامة، والخير الشامل كالشمس والمطر. والملك وأصحابه إذا عاونونا على تخليص الأسرى، والإحسان إليهم، وكان الحظ الأوفر لهم في ذلك في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة: فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه، وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين الذين لا يتبعون الهوى؛ بل كل من اتقى الله وأنصف علم أنهم أسروا بغير حق، لاسيما من أخذ غدرا، والله تعالى لم يأمر، ولا المسيح أمر، ولا أحد من الحواريين، ولا من اتبع المسيح على دينه، لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم. وكيف وعامة النصارى يقرون بأن محمد رسول الأميين، فكيف يجوز أن يقاتل أهل دين اتبعوا رسولهم؟
فإن قال قائل: هم قاتلونا أول مرة؟ قيل: هذا باطل فيمن غدرتم به ومن بدأتموه بالقتال. وأما من بدأكم منهم فهو معذور؛ لأن الله تعالى أمره بذلك ورسوله، بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك. ولا يستوي من عمل بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى عيادته ودينه، وأقر بجميع الكتب والرسل، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، ومن قاتل في هوى نفسه وطاعة شيطانه، على خلاف الله ورسوله.
ومازال في النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة، من له مزية على غيره في المعرفة والدين: فيعرف بعض الحق، وينقاد لكثير منه، ويعرف من قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره، فيعاملهم معاملة تكون نافعة له في الدنيا والآخرة ؛ ثم في فكاك الأسير. وثواب العتق من كلام الأنبياء والصديقين ما هو معروف لمن طلبه، فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته.
وأما في الدنيا: فإن المسلمين أقدر على المكافأة في الخير والشر من كل أحد. ومن حاربوه، فالويل كل الويل له.
والملك لا بد أن يكون سمع السير، وبلغه أنه ما زال في المسلمين النفر القليل، منهم من يغلب أضعافا مضاعفة من النصارى وغيرهم، فكيف إذا كانوا أضعافهم؟ وقد بلغه الملاحم المشهورة في قديم الدهر وحديثه، مثل: أربعين ألفا يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس. وما زال المرابطون بالثغور مع قلتهم واشتغال ملوك الإسلام عنهم يدخلون بلاد النصارى؛ فكيف وقد منّ الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم، وكثرة جيوشهم وبأس مقدميهم وعلو هممهم ورغبتهم فيما يقربهم إلى الله تعالى واعتقادهم أن الجهاد أفضل الأعمال المطوعة وتصديقهم بما وعدهم نبيهم ؛ حيث قال: « يعطى الشهيد ست خصال: يغفر له بأول قطرة من دمه، ويرى مقعده في الجنة، ويكسى حلة الإيمان، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويقي فتنة القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.»
ثم إن في بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين، فإن فيهم من رءوس النصارى من ليس في البحر مثلهم إلا قليل، وأما أسراء المسلمين، فليس فيهم من يحتاج إليه المسلمين، ولا من ينتفعون به، وإنما نسعى في تخليصهم لأجل الله تعالى؛ رحمة لهم وتقربا إليه يوم يجزي الله المصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين.
وأبو العباس حامل هذا الكتاب، قد بث محاسن الملك وإخوته عندنا، واستعطف قلوبنا إليه؛ فلذلك كاتبت الملك لما بلغني رغبته في الخير، وميله إلى العلم والدين، وأنا من نواب المسيح وسائر الأنبياء في مناصحة الملك وأصحابه وطلب الخير لهم. فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، يريدون الخلق خير الدنيا والآخرة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعونهم إلى الله، ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم. وإن كان الملك قد بلغه بعض الأخبار التي فيها طعن على بعضهم أو طعن على دينهم ؛ فإما أن يكون الخبر كاذبا أو ما فهم التأويل وكيف صورة الحال؛ وإن كان صادرا عن بعضهم بنوع من المعاصي والفواحش والظلم، فهذا لا بد منه في كل أمة، بل الذي يوجد في المسلمين من الشر أقل مما في غيرهم بكثير، والذي فيهم من الخير لا يوجد مثله في غيرهم.
والملك وكل عاقل يعرف أن أكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القدسين، وإن كان أكثر ما معهم من النصرانية شرب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب ونواميس مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وأن بعضهم يستحل بعض ما حرمته الشريعة النصرانية؛ هذا فيما يقرون به. وأما مخافتهم لما لا يقرون به، فكلهم داخل في ذلك، بل قد ثبت عندنا عن الصادق المصدوق رسول الله ﷺ أن المسيح عيسى ابن مريم، ينزل عند المنارة البيضاء في دمشق واضعا يده على منكبي ملكين؛ فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، ويقتل مسيح الضلالة الأعور الدجال، الذي يتبعه اليهود، ويسلط المسلمون على اليهود، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، وينتقم الله للمسيح ابن مريم، مسيح الهدى، من اليهود ما آذوه وكذبوه لما بعث إليهم.
وأما ما عندنا في أر النصارى، وما يفعله الله بهم من إدالة المسلمين عليهم، وتسليطه عليهم؛ فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره، ولكن الذي أنصحه به: أن كل من أسلف إلى المسلمين خيرا ومال إليهم، كانت عاقبته معهم حسنة، بحسب ما فعله من الخير؛ فإن الله يقول: « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره»
والذي أختم به الكتاب الوصية بالشيخ أبي العباس وبغيره من الأسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن والامتناع من تغيير دين واحد منهم، وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله، ونحن نجزي الملك على ذلك بأضعاف ما في نفسه. والله يعلم أني قاصد للملك الخير؛ لأن الله تعالى أمرنا بذلك، وشرع لنا أن نريد الخير لكل أحد، ونعطف على خلق الله، وندعوهم إلى الله وإلى دينه وندفع عنهم شياطين الإنس والجن.
والله المسئول أن يعين الملك على مصلحته، التي هي عند الله المصلحة، وأن يخير له من الأقوال ما هو خيرا له عند الله، ويختم له بخاتمة خير. 
 
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على أنبيائه المرسلين؛ ولا سيما محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، والسلام عليهم أجمعين.
تصنيف:
الرسالة القبرصية

كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من 1 الي 2001 -

      مكتبة العلوم الشاملة https://sluntt.blogspot.com/ الاثنين، 21 فبراير 2022 كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي رحمه الله تعالى من...