الرد على البكري
تلخيص كتاب الاستغاثة
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني المتوفى 728 هـ
تلخيص كتاب الاستغاثة
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني المتوفى 728 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مما وجد في مجموع مخطوط فيه مسائل شتى لشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ومنه فصل في ذكر البكري الذي رد على شيخ الإسلام في مسألة الاستغاثة أثبتنا هنا ما عثرنا عليه بحروفه وبالله التوفيق وهذا نصه
محتويات
1 فصل في ذكر البكري
2 فصل
3 فصل
4 فصل
5 فصل
6 فصل
7 فصل
8 فصل
9 فصل
10 فصل
11 فصل
12 فصل
13 فصل
14 فصل
15 فصل
16 فصل
17 فصل
فصل في ذكر البكري
قال الشيخ عماد الدين بن كثير في تاريخه اسمه علي بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعي المصري توفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر ودفن بالقرافة وقد هم السلطان بقتله مرارا فتشفع فيه الأمراء وكان يقال له نور الدين أبا الحسن له رد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الاستغاثة بالمخلوقين أضحك فيها على نفسه العقلاء وشمت به فيها الأعداء لأن مثله مثل ساقية صغيرة كدرة الماء لاطمت بحرا عظيما صافي الماء قد ملئ درا وجوهرا وحكمة وعلما أو كرملة صغيرة أرادت زوال جبل شامخ عن محله حطما فكان كما قال عنه شيخ الإسلام إبن تيمية إن كلامه لا يتكلم به أحد من أهل العلم والإيمان وإنما يتكلم به أعور بين عميان يروج عليهم بسبب ضلالهم وإضلالهم ما يقوله من الهذيان
وكان شيخه شمس الدين الجزري قد رد عليه فيما دخل فيه في هذا المسألة من التكفير وأعظم عليه في ذلك النكير وبين أن هذا الكلام الذي صدر منه لا يقوله أحد ممن يعرف بالعلم والإيمان وإنما يقوله جاهل في غاية الجهل أو صبي مع الصبيان وأخذ شيخه يندب على مصر وينوح إذ كان مثل هذا الكلام يظهر به فيها شخص ويبوح
قال ابن تيمية رأيت أن مثل هذا لا يخاطب خطاب العلماء وإنما يستحق التأديب البليغ والنكال الوجيع الذي يليق بمثله من السفهاء إذا سلم من التكفير فإنه لجهله ليس له خبرة بالأدلة الشرعية التي تتلقى منها الأحكام ولا خبرة بأقوال أهل العلم الذين هم أئمة أهل الإسلام بل يريد أن يتكلم بنوع مشاركة في فقه وأصول وتصوف ومسائل كبار بلا معرفة ولا تعرف والله أعلم بسريرته هل هو طالب رياسة بالباطل أو ضال يشبه الحالي بالعاطل أو اجتمع فيه الأمران وما هو من الظالمين ببعيد
قال وكلامه في الاستغاثة بغير الله أتى فيه من الجهالات بالعجب العجاب
قال فمجموع ما قاله ما علمت أنه سبقه إليه أحد من المسلمين ومع هذا إنه لم يجترئ على أن يكتب فيها شيئا حتى نظر جوابي في الاستفتاء الذي كتبته وأرسل به إلي فاستعان به على ما قاله وأعاره بعض الأمراء كما أخبرني كتابي الذي كنت صنفته من مدة وسميته الصارم المسلول على شاتم الرسول فإني ذكرت فيه ما يجب على من سب الرسول ﷺ من العقوبات الشرعية وذكرت فيه من أصول هذه المسألة وفروعها والدلائل الشرعية عليها وكلام أئمة الإسلام فيه ما يعرفه من وقف عليه فأخذ هذا الكلام مما ذكرته في ذلك وجعلته صيانة لعرض الرسول ﷺ من أهل النفاق والاعتداء ما استعمله هذا الجاهل الظالم في حق أهل العلم والاهتداء
إلى أن قال شيخ الإسلام: ثم إن الأصحاب تقاضوني تعليقا على كلام هذا الظالم الجاهل لئلا يضل بكلامه بعض الطغام حتى قال لي بعضهم إن الكلام على هذه المسألة من أفضل الكلام إذ فيها بيان التوحيد ونفي الشرك عن الصمد المجيد فإن أول ما نشأ الشرك وعبادة غير الله من القبور
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الهياج الأسدي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته.
فأمره بمحو الشرك وأصله الذي ينشأ منه
والمقصود أن الشيخ رد على البكري ونقض قوله نقضا أجاد فيه وأفاد وبين ما فيه من حق وباطل في مجلدة كبيرة أبطل فيها أنواع الشرك الاعتقادي والعملي وما يتفرع منهما بالأدلة والبراهين القاطعة المقبولة التي تسر قلوب أهل السنة وتقر أعينهم عند سماعها وتسود وجوه أهل الأهواء والبدع ويرهقها قتر وذلة فرحم الله من قبل الحق ونصره ورد الباطل وخذله وأهله
ومما استدل به البكري الحديث الذي يروي أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وجرى ما جرى استشفع بالنبي ﷺ إلى الله يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد قال له لما نفخت في الروح رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق عليك فقال صدقت يا آدم إنه لأحب خلقي إلي وإذ سألتني به فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك وهو آخر الأنبياء من ذريتك
ذكره في رده مع نظائره من هذا الجنس الذي لا يستجيز الصبيان ذكره فضلا عن الجهال فضلا عمن شم للعلم شمة أو نشق له رائحة
قال وقد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين والمحدثين من لا أحصيهم كثرة ولم يروه من المرويات المنكرة
قال وقد جاء أن نوحا وإدريس وأيوب وموسى وجماعة من الأنبياء توسلوا به
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في نقضه كلامه وحله إبرامه:
فيقال أولا هذا الحديث وأمثاله لا يحتج به في إثبات حكم شرعي لم يسبقه أحد من الأئمة إليه وإثبات عبادة لم يقلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم إلا من هو أجهل الناس بطرق الأحكام الشرعية وأضلهم في المسالك الدينية
فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي ﷺ لا بإسناد حسن ولا صحيح بل ولا ضعيف يستأنس به ويعتضد به وإنما نقل هذا وأمثاله كما تنقل الإسرائيليات التي كانت في أهل الكتاب وتنقل عن مثل كعب ووهب وابن إسحاق ونحوهم ممن أخذ ذلك عن مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم أو عن كتبهم كما روى أن عبد الله بن عمرو وقعت له صحف يوم اليرموك من الإسرائيليات فكان يحدث منها بأشياء
ويكفيك أن هذا الحديث ليس في شئ من دواوين الحديث التي يعتمد عليها لا في الصحاح كالبخاري ومسلم وصحيح أبن خزيمة وأبي حاتم بن حبان وابن منده والحاكم ولا في المستخرجة على الصحيح لأبي عوانة وأبي نعيم ومستخرج البرقاني والإسماعيلي ولا في السنن ك سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه ولا في الجوامع ك جامع الترمذي وغيره ولا في المسانيد ك مسند أحمد ونحوه ولا في المصنفات ك موطأ مالك ومصنف عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شية ووكيع ومسلمة ولا في كتب التفسير المروية بالأسانيد التي يميز فيها بين المقبول والمردود ك تفسير عبد الرزاق وعبد بن حميد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم وابن أبي شيبة وبقي بن مخلد ونحوهم وتفسير ابن أبي حاتم وابن داود ومحمد بن جرير وأبي بكر بن المنذر وابن مردويه
وقد جمع غير واحد من الحفاظ قصة آدم ومن أجمعهم أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه الكبير فإنه روى عامة ما رواه الناس ولم يذكر هذا وإنما ذكر هذا وأمثاله من يجمع الموضوعات الكثيرة والأكاذيب العظيمة مثل مصنف كتاب وسيلة المتعبدين الذي صنفه الشيخ عمر الموصلي ومثل تنقلات الأنوار للبكري الذي فيه من الكذب والأكاذيب مما لا يخفى على فطن لبيب ومثل القاضي عياض بن موسى البستي مع علمه وفضله ودينه أنكر العلماء عليه كثيرا مما ذكره في شفائه من الأحاديث والتفاسير التي يعلمون أنها من الموضوعات والمناكير مع أنه قد أحسن فيه وأجاد بما فيه من تعريف حقوق خير العباد وفيه من الأحاديث الصحيحة والحسان ما يفرح به كل من عنده إيمان
وإذا كان تفسير الثعلبي وصاحبه الواحدي ونحوهما فيها من الغريب الموضوع في الفضائل والتفسير ما لم يجز معه الاعتماد على مجرد عزوه إليها فكيف بغيره ك تفسير أبي القاسم القشيري وأبي الليث السمرقندي وحقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي الذي ذكر فيه عن جعفر ونحوه ما يعلم أنه من أعظم الكذب
مع أن هؤلاء المصنفين أهل صلاح ودين وفضل وزهد وعبادة ولكنهم كما قال مالك أدركت في هذا المسجد سبعين شيخا كل له فضل وصلاح ودين ولو ائتمن أحدهم على بيت مال لأدى فيه الأمانة يقول أحدهم حدثني أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ ما نأخذ عن أحد منهم شيئا وكان ابن شهاب يأتينا وهو شاب فنزدحم على بابه لأنه كان يعرف هذا الشأن
وقال أيوب السختياني إن من جيراني لمن أرجو بركة دعائه في السحر ولو شهد عندي على حزمة بقل لم أقبله
وسئل عن بعضهم فقال رجل صالح وللحديث رجال يعرفون به وللدواوين حساب وكتاب
وقد روى أبو بكر الآجري وابن الجوزي آثارا في أن اسم النبي ﷺ كان مكتوبا على ساق العرش وعلى أبواب الجنة
وهذا ممكن فإنه قد ثبت عن ميسرة قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا وفي رواية متى كتبت نبيا قال وآدم بين الروح والجسد
وفي مسند أحمد وغيره بإسناد حسن عن العرباض بن سارية عن النبي ﷺ قال إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته سأنبئكم بأول أمري دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نور أضاءت له قصور الشام
وفي حديث أبي هريرة سئل النبي ﷺ متى وجبت لك النبوة قال بين خلق آدم ونفخ الروح فيه رواه الترمذي وحسنه
ففي هذه الأحاديث أن الله كتب اسمه بعد خلق آدم وقبل نفخ الروح فيه
وأما ما يرويه كثير من الجهال والاتحادية وغيرهم من أنه قال كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وآدم لا ماء ولا طين فهذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل فإن أحدا من المحدثين لم يذكره ومعناه باطل فإن آدم عليه السلام لم يكن بين الماء والطين قط فإن الطين ماء وتراب وإنما كان بين الروح والجسد
ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي ﷺ كان حينئذ موجودا وأن ذاته خلقت قبل الذوات ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراه مثل حديث فيه أنه كان نورا حول العرش فقال يا جبريل أنا كنت ذلك النور ويدعي أحدهم أن النبي ﷺ كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل
والمقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى كتبه نبيا بعد خلق آدم قبل نفخ الروح فيه
وهو موافق لما أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك
ثم يكون مضغة مثل ذلك إلى آخره بين فيه خلق الجنين وتنقله من حال إلى حال فناسب هذا أنه بين خلق آدم ونفخ الروح فيه تكتب أحواله ومن أعظمها كتابة سيد ولده
وإذا كان هذا ثابتا أمكن أن يكتب اسمه كما رواه بالإسناد لكن الجزم بثبوته يحتاج إلى دليل يثبت بمثله فما علمناه قلناه وما لم نعلمه أمسكنا عنه
والرب تعالى قد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء قد علمهم وما هم عاملون ثم أبرزهم في أحايين قدرها فكل يوم هو في شؤون يبديها لا شؤون يبتديها وقد بسط الكلام على هذا في مواضع
فما ذكره البكري في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي ﷺ ولا يصلح للاعتماد ولا للاعتضاد ولا للاستشهاد فإن من الأحاديث الضعيفة ما يستشهد به ويعتبر كأحاديث ابن لهيعة وإبراهيم الهجري بل ولا له إسناد معروف عن أحد من الصحابة ولا التابعين الذين يأثرون ما يذكرونه من مثل هذا عن الصحابة ليقال مثل هذا لا يقولونه إلا توقيفا
ومما يبين كذب هذا أن الله سبحانه وتعالى قال فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا فأخبر أنه تاب عليه بالكلمات التي تلقاها منه
وقد قال تعالى قالا ربنا ظلمنا أنفسنا الآية فأخبر أنه أمرهم بالهبوط عقب هذه الكلمات
وأخبر أنه تاب عليه عقب الكلمات وأمره بالهبوط فكان أمره بالهبوط عقب الكلمات التي تلقاها منه وهي قولهما ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين أو كلمات تشبه هذه الكلمات ذكر ذلك طائفة كثيرة من المفسرين
ومن ذكر أن الكلمات التي تلقاها من ربه غير هذه لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة في هذه الكلمات أشياء كثيرة كلها تدور على ما ذكره الله في كتابه من قول آدم وحواء ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
وأيضا فإن قولهما ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا يتضمن الإقرار والاستغفار
ومن هو دون آدم إذا أقر بذنبه واستغفر منه غفر له كما في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لعائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه
وقال تعالى من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
وكذلك الآية التي في آل عمران وهو الذي إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهو يعلمون
وإذا حصلت مغفرة بالتوبة حصل المقصود بها لا بغيرها
وقد ثبت في الصحيح عن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال له يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن التوبة تهدم ما كان قبلها
وأيضا فلو كان آدم قد قال هذا لكانت أمة محمد أحق به منه بل كان الأنبياء من ذريته أحق به
وقد علم كل عالم بالآثار أن النبي ﷺ لم يأمر أمته به ولا نقل عن أحد من الصحابة الأخيار ولا نقله أحد من العلماء الأبرار فعلم أنه من أكاذيب أهل الوضع والاختلاق الذين وضعوا من الكذب أكثر مما بأيدي المسلمين من الصحيح لكن الله فرق بين الحق والباطل بأهل النقد العارفين بالنقل علماء التعديل والتجريح
وهذا من جنس ما يرويه بعض العامة إذا سألتم الله فسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم وهو كذب موضوع من الأحاديث المشينات التي ليس لها زمام ولا خطام
قال الإمام أحمد للناس أحاديث يتحدثون بها على أبواب دورهم ما سمعنا بشيء منها وقد حرم الله علينا أن نقول عليه ما لم نعلم والقول على رسوله صلى الله عليه قول عليه لأن ما قاله الرسول ﷺ من أمر فالله أمرنا به فلو كان قد قاله لكنا مأمورين به ولا يجوز أن نقول إن الله أمرنا ما لم نعلم أن الله أمرنا به فكيف إذا لم يذكره عالم ولا عارف فكيف إذا كان أهل المعرفة بالحديث يقطعون بأنه كذب موضوع والعلم بذلك علم مسلم لأهله لهم فيه طرق ومعارف يختصون بها كما يختص علماء الأحكام بالعلم بطرقها
ولهذا كان أحمد بن حنبل يعطي كل ذي حق حقه كان يعرف ليحيى بن معين معرفته بالفن الأول ويقدمه في معرفة الرجال ويكرمه ويعظمه وكان يحيى يتكلم في الشافعي بكلام ليس بمستقيم حتى أنه أخذ كلامه في قتال البغاة فجاء به إلى أحمد منكرا على الشافعي بعض ما فيه من ذكر قتال البغاة وإدخال ذكر قتال علي وطلحة والزبير فيه فقال له وهل يمكنه أن يقول في هذا المقام إلا هذا وأظنه قال له لا تتكلم فيما لا تحسن أو نحوه من الكلام الذي فيه إنكار على يحيى لأجل إنكاره على الشافعي في طرق الأحكام التي كان الشافعي أعلم بها منه وإن كان يحيى أعلم بالرجال من الشافعي
وكلام يحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة والنسائي وأبي أحمد بن عدي والدارقطني وأمثالهم في الرجال وصحيح الحديث وضعيفه هو مثل كلام مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأمثالهم في الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام وفي الأئمة من هو إمام مع هؤلاء وهؤلاء مشارك للطائفتين وإن كان بأحد الصنفين
وأكثر أئمة الحديث والفقه كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وكذلك الأوزاعي والثوري والليث هؤلاء وكذلك لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة ولأبي حنيفة أيضا ما له من ذلك ولكن لبعضهم في الإمامة في الصنفين ما ليس للآخر وفي بعضهم من ضعف المعرفة بأحد الصنفين ما ليس في الآخر فرضي الله عنها جميع أهل العلم والإيمان
ونقول ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
وأما قوله إن هذا قد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين والمحدثين إلى آخره فما أدري من أيهما أعجب من تكثيره لمن رواه كأنهم من الحفاظ الكبار أو من سكوته عن مقابلتهم بالرد والإنكار إذ مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن هو عارف بطرق الحديث مميز بين الصحيح والضعيف
ومثل هذا لا يرويه إلا أحد الرجلين رجل لا يميز بين الصحيح والضعيف والغث والسمين وهم جمهور مصنفي السير والأخبار وقصص الأنبياء كالثعالبي والواحدي والمهدوي والزمخشري وعبدالجبار بن أحمد وعلي بي عيسى الرماني وأبي عبدالله ابن الخطيب الرازي وأبي نصر ابن القشيري وأبي الليث السمرقندي وأبي عبد الرحمن السلمي والكواشي الموصلي وأمثالهم من المصنفين في التفسير فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم ولا لهم خبرة بالمروي المنقول ولا لهم خبرة بالرواة النقله بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف ولا يميزون بينهما لكن منهم من يروي الجميع ويجعل العهدة على الناقل كالثعلبي ونحوه ومنهم من ينصر قولا أو جملة إما في الأصول أو التصوف والفقه بما يوافقها من صحيح أو ضعيف ويرد ما يخالفها من صحيح وضعيف
وأما باب فضائل الأعمال والأشخاص والأماكن والزمان والقبور فباب اتسع فيه الكذب والبهتان
وأما رجال التفسير القدماء فمنهم الإمام المتفق عليه كمجاهد الذي قال عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها
وقال الثوري إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به
وعلى تفسيره يعتمد البخاري والشافعي
وكذلك تفسير طاووس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ونحوهم من التابعين فإنهم بهذا الشأن من أعلم الناس
وكذلك أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود وعبيدة السلماني وغيرهم
ومنهم من إسناده في التفسير عن ابن عباس منقطع وهو في نفسه ثقة كالسدي الكبير والضحاك فإن الضحاك لم يصح سماعه من ابن عباس والسدي جمع ما ذكره من التفسير الذي ذكره عن التابعين كما جمع ابن إسحاق السيرة وعلي بن أبي طلحة الوالبي لم يسمع من ابن عباس وقتادة ثقة حافظ في نفسه ورواية معمر عنه صحيحة وإن كان مالك أنكر ذلك لأجل القدر
وأما الكلبي والسدي الصغير فمتروكان
وكذلك مقاتل بن سليمان بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة وأصحاب ابن عباس الأخصاء الذين رووا عنه ما فسره من القرآن وما رواه من الحديث وما نقلوه عنه في سائر العلوم الحديث والفقه والتفسير
وشرح الغريب وغير ذلك سعيد بن جبير وطاووس بن كيسان ومجاهد ابن جبر وعكرمة مولاه وعمرو بن دينار وجابر بن زيد أبو الشعثاء وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة فهؤلاء هم المخصوصون به وبطريقهم انتشر علمه
وأما التفاسير المضافة إليه كالتفسير الذي يرويه جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس فجويبر ضعفه علي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وقال أحمد لا يشتغل بحديثه وقال يحيى بن سعيد الخرساني البلخي لا يلتفت إليه وقال علي بن الجنيد والدارقطني متروك والضحاك لم يسمع من ابن عباس حرفا واحدا
وتفسير آخر يرويه عبيدالله بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس ويقال إن عبيدالله هذا في الوهن والضعف أنزل من جويبر
وتفسير آخر يرويه محمد بن سعد العوفي عن آبائه عن عطية العوفي عن ابن عباس وعطية بن سعد ضعيف تكلم الناس فيه
وتفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال أحمد علي بن أبي طلحة ضعيف ولم يسمع من ابن عباس شيئا
وتفسير يرويه محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذام عن ابن عباس والكلبي كذاب وباذام ضعيف ولم يسمع من ابن عباس شيئا
قال عبد الصمد بن الفضل سئل أحمد عن تفسير الكلبي فقال كذب فقيل له أفيحل النظر فيه قال لا
وقال عبدالله بن أحمد سمعت أبي يقول ترك عبدالرحمن بن مهدي أبا صالح باذام وكذلك ضعفه سفيان وغيره وكان الشعبي يمسك بأذنه ويقول ويلك أنت لا تحفظ القرآن وتفسر القرآن وكان مجاهد ينهى عن تفسيره قاله البخاري
وقال حبيب بن أبي ثابت كنا نسمي أبا صالح دروع زن أي كذابا يكذب
وقال الإمام أحمد ثلاث علوم ليس لها أصول المغازي والملاحم والتفسير وفي لفظ ليس لها أسانيد
ومعنى ذلك أن الغالب عليها أنها مرسلة ومنقطعة فإذا كان الشيء مشهورا عند أهل الفن قد تعددت طرقه فهذا مما يرجع إليه أهل العلم بخلاف غيره
وأما تفاسير تابع التابعين كقتادة ومعمر وسفيان الثوري وابن أبي عروبة وابن جريج وغيرهم ممن صنف التفاسير فإنما يذكرون من أصولهم ما سمعوه من شيوخهم عن الصحابة والتابعين
وقد صنف في تفاسير الصحابة والتابعين وتابعيهم كتب كثيرة يذكرون فيها ألفاظهم بأسانيدها مثل تفسير وكيع وعبدالرزاق وعبد ابن حميد وآدم ابن أبي إياس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن أبي شيبة وبقي بن مخلد وسنيد ودحيم وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن جرير وأبي بكر بن داود ومن هؤلاء من لا يذكر شيئا عن مقاتل والكلبي
وعامة الكتب تحتاج إلى نقد وتمييز كالمصنفات في سائر العلوم من الأصول والفروع وغير ذلك فإن الفقهاء قد وضعوا في الفقه أشياء كثيرة من الموضوعات والضعاف
أما جمهور المصنفين في الأخبار والتواريخ والسير والفتن من رجال الجرح والتعديل منهم من هو في نفسه متهم أو غير حافظ كأبي مخنف لوط بن يحيى وهشام بن محمد السائب الكلبي وإسحاق بن بشر وأمثالهم من الكذابين بل الواقدي خير من ملء الأرض مثل هؤلاء وقد علم ما قيل فيه ومحمد بن سعد كاتبة ثقة لكن ينظر عمن نقل وكذلك أبو الحسن المدائني وأمثاله وإن سلموا من الطعن فيهم فليسوا من علماء الجرح والتعديل حتى يكون ما رووه ولم ينكروا مقبولا
وإنما العالمون بالجرح والتعديل هم علماء الحديث وهم نوعان منهم من لم يرو إلا عن ثقة عنده كمالك وشعبة ويحيى ين سعيد وعبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وكذلك البخاري وأمثاله ومنهم من يروي عن الثقة وغيره للمعرفة ولما عنده من التمييز كالثوري وغيره
والذين جمعوا المنقولات فيهم من يمكنه التمييز بين الصحيح والضعيف في الغالب كالدارقطني وأبي نعيم والخطيب والبيهقي وابن ناصر وابن عساكر وأبي موسى المديني وابن الجوزي وأمثالهم لكن قد يروون في كتبهم الغرائب المنكرات والأحاديث الموضوعات للمعرفة بها
وكما يروى عن أحمد أنه قال إذا سمعت أهل الحديث يقولون هذا الحديث فائدة فاعلم أنه غريب منكر يعني أنهم يستفيدون غرائب الحديث كما يستفيد الفقهاء ونحوهم غرائب الأقوال والطرق والوجوه وإن كانت وجوها سودا
وأبو نعيم يروي في الحلية في فضائل الصحابة وفي الزهد أحاديث غرائب يعلم أنها موضوعة وكذلك الخطيب وابن الجوزي وابن عساكر وابن ناصر وأمثالهم والدارقطني صنف سننه ليذكر فيها غرائب السنن وهو في الغالب يبين حال ما رواه وهو من أعلم الناس بذلك والبيهقي يعزو ما رواه إلى الصحيح في الغالب وهو من أقلهم استدلالا بالموضوع لكن يروي في الجهة التي ينصرها من المراسيل والآثار ما يصلح للاعتضاد ولا يصلح للاعتماد ويترك في الجهة التي يضعفها ما هو أقوى من ذلك الإسناد
وهم فيما يقولونه من أصدق الناس وأثبتهم لكن الشأن في من قبلهم من الإسناد فإنهم كثيرا ما يتركون التمييز فيه بخلاف الأئمة الكبار الذين يعتمدون على الحديث ويحتجون به فيما بينهم وبين الله تعالى كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق وعبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد والبخاري وأبي داود فإنهم يحررون الكلام في المتن والإسناد والله الهادي إلى سبيل الرشاد
فإذا عرفت ذلك فلا يخلو ما رواه إما أن يكون من جنس ما رواه صاحب الفردوس شهردار الديلمي أو الشيخ عمر الملا صاحب وسيلة المتعبدين أو البكري صاحب تنقلات الأنوار وابن سبع الذي له مصنف كبير في فضائل النبي ﷺ ومصنف صغير في كرامات الأولياء وأمثال هؤلاء ممن في كتابه من الكذب ما لا يحصيه إلا الله فهل يجوز الاعتماد على ما يرويه هؤلاء
أو يكون أرفع من هذا وإن كان فيها من الصدق ما لا يحصيه إلا الله ك تفسير الثعلبي والواحدي والشفا للقاضي عياض وتفسير أبي الليث والقشيري مما فيه ضعف كثير وإن كان الغالب عليه الصحيح
أو يكون من الحفاظ كأبي نعيم والخطيب وابن ناصر وأبي موسى وابن الجوزي وعبد الغني وابن عساكر ونحوهم فهؤلاء سكوتهم عن الإنكار في كثير مما يروونه لا يدل على الصحة عندهم باتفاق أهل الحديث
وأما الأولون فهم لا يعرفون الصحيح من السقيم فسكوتهم عن الإنكار سكوت عموم المؤمنين الذين لا يعرفون حقائق الدين لا يميزون بين السنة والبدعة غير الإنكار على ما يرونه ويسمعونه من الأقوال والإعمال وإذا كان الراوي لهذا وأمثاله لا يخرج عن أن يكون غير عالم بهذا بما ينكره أو يكون عادته رواية هذا وأمثاله من غير بيان لعادة معروفة بينهم لم يكن لهذا فيما ذكره حجة
وأيضا فعلماء الدين أكثر ما يحررون النقل فيما ينقل عن النبي ﷺ لأنه واجب القبول أو فيما ينقل عن الصحابة وأما ما ينقل من الإسرائيليات ونحوها فهم لا يكترثون بضبطها ولا بأحوال نقلها لأن أصلها غير معلوم وغايتها أن تكون عن واحد من علماء أهل الكتاب أو من أخذه عن أهل الكتاب لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم
فإذا كنا قد نهينا عن تصديق هذا الخبر وأمثاله مما يؤخذ عن أهل الكتاب لم يجز لنا أن نصدقه إلا أن يكون مما يجب علينا تصديقه مثل ما أخبرنا به نبينا عن الأنبياء وعن أممهم فإن ذلك يجب تصديقه مع الاحتراز في نقله فهذا هذا
وأعجب من هذا قوله إن نوحا وإدريس وأيوب وجماعة من الأنبياء توسلوا به فمثل هذا لا يجوز لمسلم أن يبني دينه الذي يكفر به من خالفه على مثل هذا النقل الذي لا يعتمد عليه من يدري ما يقول
ومعلوم أن ما جاء به نبينا ﷺ أضبط وأتم وأكمل وهو علينا أوجب وأمتنا به أعرف ولو قال قائل في زماننا قد جاء أن النبي ﷺ قال كذا وفعل كذا محتجا به من غير أن يعرف ما يستند إليه من العزو والإسناد لكان قائل ذلك من أجهل الناس وأبعدهم عن طريق الرشاد دع من يستدل على تكفير غيره مما يرويه عن أولئك الأنبياء الذين قد أمرنا نبينا ﷺ إذا حدثنا أهل الكتاب عنهم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم بل مثل هذا إذا وجدناه في كتب أهل الكتاب أو في كتب المسلمين منقولا لم يجز لنا أن نصدقه ومن صدقه فقد عصى الله ورسوله ولو صح فغايته أن يكون شرع من قبلنا
والناس لهم في هذه المسألة قولان مشهوران أحدهما أنه ليس شرعا لنا ما لم يرد به شرعنا فقد كان مشروعا لهم ما ليس مشروعا لنا من سجود بعضهم لبعض فإن ما جاء به نبينا من كمال التوحيد لم يجئ به نبي غيره وكذلك تحريم الإنسان على نفسه أشياء كما حرم إسرائيل على نفسه ما حرمه فإن الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا التوحيد وغيروا الدين بعث الله لهم نبيا يبين ما بدلوه وكتموه ونحن أخر الأمم فليس بعد نبينا نبي ينتظر
وفي المأثور عن الأنبياء المتقدمين ما يدل على أن ذلك لم يكن مشروعا لهم مثل ما ذكره الحافظ أبو نعيم في كتاب الحلية في ترجمة أحمد بن أبي الحواري قال حدثنا أبي حدثنا أحمد يعني محمد ابن عمر اللبناني حدثنا الحسين يعني أبا علي الحسين بن عبدالله بن شاكر السمرقندي سمعت عبدالله بن الجلا يقول قال يوسف عليه السلام اللهم إني أتوجه إليك بصلاح آبائي إبراهيم خليلك وإسحاق ذبيحك ويعقوب إسرائيلك فأوحى الله إليه يا يوسف تتوجه إلي بنعمة أنا أنعمت بها عليهم
قال أحمد فقلت لأبي سليمان الداراني كنت لبعض الأولياء قبل اليوم أشد حبا فقال إنما يتقرب إليه بحب أوليائه أولى ثم بعد منزلة تسعد القلب
وقد ذكر بعض الناس في هذا الأثر أن الله قال له وأي حق لآبائك علي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والنبوة كما قال تعالى بعد ذكره لهم وثنائه عليهم أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل الآية
وكذلك الآية التي في النساء ومن يطع الله والرسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين 2 الآية
وقال في الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم 3
وأما ما استحقوه عليه فكقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين 4 كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين 5
فهو سبحانه أحقه على نفسه بحكم إحسانه وفضله ووعده لا هم أحقوه عليه كالحق الذي لإنسان على من له عنده يد
ولهذا ليس لأحد أن يدل على الله بصلاح سلفه فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء كأهل الغار الثلاثة فإنهم لم يتوسلوا إلى الله بصلاح سلفهم وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم لما علموا أن الله سبحانه وتعالى يثيب العاملين على أعمالهم كما قال لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
وسعى غيره ليس له كما لا تزر وازرة وزر أخرى كما قال تعالى
أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى إلا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
وإن كان المرء قد ينتفع بسعي غيره لكنه ليس له فلا يمت ويدل بما ليس له
قال الشيخ قال المعترض وقد روى أن أبا جعفر لما ناظر مالكا في مسجد النبي ﷺ قال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوما قال لا ترفعوا أصواتكم الآية وذم الآخرين فقال إن الذين ينادونك من وراء الحجرات الآية إن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله ﷺ فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به
قال الشيخ فيجاب الجواب عن هذا من وجهين
أحدهما المطالبة بصحة هذه الحكاية وليس معه ولا مع من ينقلها بها إسناد صحيح ولا ضعيف وإنما غايته أن يعزوها إلى الشفا أو إلى من نقلها منه وكل عالم بالحديث يعلم أن في هذا الكتاب من الأحاديث والآثار ما ليس له أصل ولا يجوز الاعتماد عليه فإذا قال القاضي عياض ذكره فلان في كتابه فهو الصادق في خطابه وإذا لم يذكره من أين نقله لم نتهمه ولكن نتهم من فوقه وقد رأيناه ينقل من كتب فيها كذب كثير وهو صادق في نقله منها لكن ما فوقه لا يجوز الاعتماد عليهم
الوجه الثاني أن يقال هذه الحكاية كذب بلا ريب من وجوه منها أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة فإنهم متفقون على أن من سلم على النبي ﷺ ثم أراد الدعاء فإنه يستقبل القبلة كما روى ذلك عن الصحابة
وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو القبر على قولين فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة أيضا وقال غيره يستقبل القبر وقت السلام عليه
وأما وقت الدعاء فما أعلم إماما خالف في أنه يستقبل القبلة بل الأئمة متفقون على أن قبلة المسلمين التي يستقبلونها في جميع أدعيتهم وأمكنتهم هي الكعبة ويستحب لكل من دعا الله أن يستقبل الكعبة حيث كان وأين كان كما كان النبي ﷺ يستقبلها فيستقبل وقت الذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرات وعلى الصفا والمروة وعقب الصلاة في مسجد النبي ﷺ وغيره
وما جعل أحد من الأئمة قبر أحد من الأنبياء قبلة للدعاء وإنما يستقبل قبورهم أهل الجهل عند عباداتهم
ومن هؤلاء الغلاة من يستقبل قبورهم ويصلي إليها وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها
ومنهم من يستقبل قبر شيخه وقت الصلاة ويستدبر الكعبة ويقول هذا قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة وهذا كفر صريح يوجب استتابة قائله مع أنه يفعله طائفة من الزهاد والعباد وبعضهم يسجد لقبورهم
وكذلك قصد قبورهم للصلاة والدعاء بدعة وقد ثبت عن مالك وغيره من الأئمة أنهم جعلوا ذلك من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين
فعلم أن هذا كذب على مالك مخالف لمذهبه كما كذبوا عليه أنه كان يأخذ طنبورا يضرب به ويغني لما كان في المدينة من يغني حتى إن أكثر المصنفين في إباحة السماع كأبي عبدالرحمن السلمي والقشيري وأبي حامد ومحمد بن طاهر المقدسي وغيرهم يذكرون إباحته عن مالك وأهل المدينة وهو كذب فإنه قد علم بالتواتر من مذهبه النهي عن ذلك حتى قال إسحاق بن الطباع سألت مالكا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق
ومنها أن مالكا من قوة متابعته للسنة كره أن يقال زرت قبر النبي ﷺ وهذا مما لا يستريب أحد في ثبوته عنه مع أن لفظ زيارة القبور في الجملة مما جاءت به السنة في غير قبره كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال زار النبي ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن فزوروا القبور فإنها تذكر الموت
والأحاديث في ذلك كثيرة ثم بسط الشيخ الكلام على ذلك
وأما ما ذكره من أن أهل المدينة شكوا إلى عائشة فأمرتهم أن يعملوا من قبره كوة إلى السقف حتى لا يكون بينه وبين السماء حائل ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل وتفتقت شحما فسمي عام الفتيق فقد ذكر هذا فيما أظن محمد بن الحسن بن زبالة فيما صنفه في أخبار المدينة
وجوابه من وجهين
أحدهما أن هذا محمد بن زبالة ضعيف لا يحتج به والثابت عن الصحابة باتفاق أهل العلم أنهم كانوا إذا استسقوا دعوا الله إما في المسجد وإما في الصحراء وهذا الاستسقاء المشروع باتفاق أهل العلم فإنهم اتفقوا على دعاء الله واستغفاره
واختلفوا هل يصلى للاستسقاء على قولين وجمهورهم على أنه يصلى له وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأما أبو حنيفة فلم يعرف الصلاة في الاستسقاء والجمهور عرفوا ذلك بما ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد أن رسول الله ﷺ صلى في الاستسقاء ركعتين والصحابة في زمن عمر وغيره صلوا واستشفعوا بالعباس وغيره ولم يكشفوا عن قبره ولو كان مشروعا لما عدلوا عنه
وهذا العلم العام المتفق عليه لا يعارض بما يرويه ابن زبالة وأمثاله ممن لا يجوز الاحتجاج به
ولو قال عالم يستحب عند الاستسقاء أو غيره أن يكشف عن قبر النبي ﷺ أو غيره من الأنبياء والصالحين لكان مبتدعا بدعة مخالفة للسنة المشروعة عن رسول الله ﷺ وعن خلفائه
ونحو هذا ما روى أن أهل القسطنطينية كانوا إذا أجدبوا يستسقون بقبر أبي أيوب الأنصاري وقد روي أن أهل تستر كانوا يفعلون ذلك بقبر دانيال وأن أبا موسى كتب عمر في ذلك فكتب إليه عمر إذا كان النهار فاحفر ثلاثة عشر قبرا ثم اجعله في أحدها ليخفى على الناس
وهذا قد رويناه في كتاب المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير إلى أبي العالية وذكره البيهقي في كتاب شعب الإيمان وذكره غيره وهذا من فعل أهل الكتاب لا من فعل المسلمين فليس فيه حجة فلا يحتج به محتج
وأيضا فحجرة عائشة كان منها ما هو مكشوف لا سقف له كما روي عنها أن النبي ﷺ كان يصلى العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد ولم تزل كذلك مدة حياة عائشة فكيف يحتاج أن يفتح في سقفها كوة إلى السماء
فإن قيل فتحت الكوة في قبل الحجرة محاذية للقبر فهذا كذب ظاهر فإن الحجرة لم يكن لها هناك كوة ينزل منها من ينزل لكنس الحجرة وإنما كان هذا بعد موت عائشة في أيام عمرت الحجرة
الثاني أن هذا الفعل ليس حجة على محل النزاع سواء أكان مشروعا أو لم يكن فإن هذا استنزال للغيث على قبره والله تعالى ينزل رحمته على قبور أنبيائه وعباده الصالحين وليس في ذلك سؤال لهم بعد موتهم ولا طلب ولا استغاثة بهم والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبيا أو وليا ليس مشروعا ولا هو من صالح الأعمال إذ لو كان مشروعا أو حسنا من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك فكلام هؤلاء يقتضي جواز سؤال الميت والغائب
وقد وقع دعاء الأموات والغائبين لكثير من جهال الفقهاء والمفتين حتى لأقوام فيهم زهد وعبادة ودين ترى أحدهم يستغيث بمن يحسن به الظن حيا كان أو ميتا وكثير منهم تتمثل له صورة المستغاث به وتخاطبه وتقضي بعض حوائجه وتخبره ببعض الأمور الغائبة ويظن الغر أنه المستغاث به أو أن ملكا جاء على صورته وإنما هي شياطين تمثلت له به وخيالات باطلة فتراه يأتي قبر من يحسن به الظن إن كان ميتا فيقول يا سيدي فلان أنا في حسبك أنا في جوارك أنا في جاهك قد أصابني كذا وجرى على كذا ومقصوده قضاء حاجته إما من الميت أو به ومنهم من يقول للميت اقض ديني واغفر ذنبي وتب على ومنهم من يقول سل لي ربك ومنهم من يذكر ذلك في نظمه ونثره ومنهم من يقول يا سيدي الشيخ فلان أو يا سيدي رسول الله نشكو إليك ما أصابنا من العدو وما نزل بنا من المرض وما حل بنا من البلاء ومنهم من يظن أن الرسول أو الشيخ يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله
وهؤلاء قد رأيتهم وسمعت هذا منهم ومن شيوخ يقتدي بهم ومفتين وقضاة ومدرسين
ومعلوم أن هذا لم يفعله أحد من السلف ولا شرع الله ذلك ولا رسوله ولا أحد من الأئمة ولا مع من يفعل ذلك حجة شرعية أصلا بل من فعل ذلك كان شارعا من الدين ما لم يأذن به الله فإن هذا الفعل منه ما هو كفر صريح ومنه ما هو منكر ظاهر سواء قدر أن الميت يسمع الخطاب كما إذا خوطب من قريب أو قدر أنه لا يسمعه كما إذا خوطب من بعيد فإن مجرد سماع الميت للخطاب لا يستلزم أنه قادر على ما يطلب الحي منه وكونه قادرا عليه لا يستلزم أنه شرع لنا أن نسأله ونطلب منه كل ما يقدر عليه فليس لنا في حياة الرسل أن نسألهم كل ما يمكنهم فعله بل ولا نسأل الله تعالى كل ما يمكنه فعله بل الدعاء عبادة شرعية فكيف يجوز أن نسألهم ذلك بعد مماتهم وليس لنا أن نسألهم كل ما يقدر الله عليه من المفعولات ليسألوا ربهم إياه كما سأل قوم موسى موسى أن يريهم الله جهرة وسألوا المسيح إنزال المائدة وسألوا صالحا الناقة وسألوا الأنبياء الآيات
فلو قال قائل سؤال الغائب حيا وميتا كسؤال الشاهد فإن الأنبياء والأولياء يسمعون خطاب الغائب البعيد ويسمع أحدهم خطاب الناس البعيدين له
قلنا هذا محال في العادة المعروفة وإذا وقع ذلك في بعض الصور كان من باب خرق العادة والعادة قد تخرق بأن يسمع الأدنى خطاب الأعلى كما سمع سارية خطاب عمر يا سارية الجبل يا سارية الجبل
ويجوز خرق العادة بالعكس لكن إثبات هذا في حق معين لا يكون إلا بحجة تدل على وقوع ذلك في حقه
فإن قال إن النبي ﷺ يسمع الخطاب البعيد والقريب
قيل ليس في هذا الحديث المعروف ما يدل على التسوية بين القريب والبعيد في سمع خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك
ففي السنن حديث أوس بن أوس الذي رواه أبو داود وغيره ورواه ابن حبان في صحيحه والدارقطني في سننه قال قال رسول الله ﷺ إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت
قال يقولون بليت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
والحديث الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
والحديث الذي رواه النسائي وابن حبان عن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حبان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبيدالله بن نافع حدثنا العلاء بن عبدالرحمن قال سمعت الحسين بن علي يقول قال رسول الله ﷺ صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ولا تتخذوا بيتي عيدا صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم
وروى الروياني في مسنده والبزار وغيرهما عن نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري قال قال لي عمار بن ياسر قال نبي الله ﷺ يا عمار إن لله ملكا أعطاه الله إسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فلا يصلي علي أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه فقال صلى عليك فلان كذا وكذا فيصلي الرب على ذلك المصلي بكل واحدة عشرا
وقال أبو أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال ليس أحد من أمة محمد ﷺ يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك فلا يصلي عليك كذا وكذا صلاة
وقال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحراث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ. قال قلت وبعد الموت. قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه وأن ذلك يصل حيثما كنا
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال ما من أحد يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وهذا الحديث هو الذي اعتمد عليه العلماء كأحمد وأبي داود وغيرهما في السلام عليه عند قبره وزيارة قبره إذ لم يكن معهم سنة يستندون إليها في زيارة قبره إلا هذا الحديث
والأحاديث التي رويت في زيارة قبره ضعيفة بل موضوعة وأكثرها وضعت بعد الإمام أحمد وأمثاله
فهذه النصوص التي ذكرناها تدل على أنه يسمع سلام القريب ويبلغ سلام البعيد وصلاته لا انه يسمع ذلك من المصلي والمسلم وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته بطريق الأولى والأحرى والنص إنما يدل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام ولم يدل على أنه يبلغه غير ذلك والحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فهم العلماء منه السلام عند قبره خاصة فلا يدل على البعيد فإن السنة إذا زار الرجل القبور مطلقا أن يسلم عليهم ويدعو لهم وكان النبي ﷺ يخرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم
وقد بسط الشيخ الكلام في هذا الموضوع بسطا طويلا ومقصوده توحيد الله سبحانه وطلب الحوائج منه والذب عن حومة الإخلاص وأن لا يسأل إلا الله
ثم قال والمقصود هنا أن المعترض المحتج لم يحرر أدلته تحريرا ينفي عنها الإجمال والالتباس حتى يتبين ما فيها من الضلال والإضلال لجميع الناس بل قال لم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص قديما وحديثا وأنه يصح إسنادها إلى المخلوقين وهذا كلام صحيح لكن يقال له لم يزل الناس يفهمون أنها طلب من المستغاث به أو طلب من غيره به والثاني لا سبيل إليه والأول لم ينازع فيه أحد إذا طلب من المستغاث ما شرع طلبه منه مما يقدر عليه إذ لا يقدر أحد على الأشياء كلها إلا الله وحده والمخلوق له حال يخصه ويليق به
ثم قال الشيخ فإن هنا أربعة معاني
أحدها أن يسأل الله تفريج الكربة بالمتوسل به ولا يسأل المتوسل به شيئا كما يفعله كثير ممن يتوسل بالأموات
أو أن يسأل الله ويسأل المتوسل به أن يدعو كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي ﷺ في الاستسقاء ثم من بعده بعمه العباس وبيزيد بن الأسود الجرشي وغيرهما
والثالث أن يسأل المتوسل به أن يسأل الله له تفريج الكربة ولا يسأل الله
والرابع أن يسأل المستغاث به أن يفرج الكربة ولا يسأل الله
فأما الأول فهو سائل لله وحده ومستغيث به وليس مستغيثا بالمتوسل به إلا أن يريد بالاستغاثة السؤال به
وأما الثاني فهو استغاثة بالله في تفريج الكربة واستغاثة بالشفيع أن يسأل الله هو توسل به أي بدعائه وشفاعته وهذا هو المشروع في الدنيا والآخرة في حياة الشفيع وسؤاله أو في حال مشاركة الشفيع له في السؤال لا في حال انفراده هو بالسؤال
وكذلك الثالث إذا سأل المتوسل به أن يسأل الله كما يسأله الناس يوم القيامة فهذا لا ريب في جوازه وإن سمي استغاثة به
وأما الرابع وهو أن يسأل المستغاث به تفريج الكربة فهذا استغاثة به ليس توسلا به بل المستغاث به مطلوب منه الفعل فإن لم يكن قادرا
عليه لم يجز أن يطلب منه ما لا يقدر عليه
فالأول سؤال به وليس استغاثة أصلا وبعض الناس يسميه توسلا به
والثاني فيه استغاثة به وتوسل به
والثالث فيه استغاثة في سؤال الله وليس فيه سؤال به
والرابع استغاثة في تفريج الكربة لكن لا يجوز ذلك من ميت ولا غائب ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة وليس هذا هو التوسل به
والتوجه المشروع الذي كانت الصحابة تفعله إنما كان بدعائه وشفاعته ولا ريب أن من سأل الله تفريج الكربة بواسطة سؤال النبي ﷺ وشفاعته فقد استغاث به وهذا جائز كما كان الناس يفعلونه في حياته وكما يفعلونه في الآخرة في حياته أيضا ولكن هذا ليس مشروعا بعد موته ولم يفعله أحد من الصحابة بعد موته بل عدلوا عن التوسل بدعائه وشفاعته إلى التوسل بدعاء غيره من الأخيار كالعباس ويزيد بن الأسود وغيرهما فلا دين إلا ما شرعه الله ورسوله كما أنه لا حرام إلا ما حرمه
ومن ذهب إلى الاستغاثة بالموتى فقد شرع له دينا لم يؤذن له به وليس معه في الاستغاثة بهم سوى فعل بعض المتأخرين وكلامهم ممن ليس هو معدود من أهل الإجماع والاختلاف فليس معه تقليد المقلدين ولا اجتهاد المجتهدين ومن ابتدع بدعة في الدين بدون اجتهاد أهل الاجتهاد أو التقليد لأهل الاجتهاد كان من أهل الضلال والغي لا من أهل الهدى والرشاد
وأما السؤال بهم فغاية ما معه فيه قول بعض العلماء مع منازعة غيره له فيه وقد قال تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يجوز السؤال لله بالأنبياء والصالحين فكيف بالاستغاثة بهم مع أن الاستغاثة بالميت والغائب مما لا نعلم بين أئمة المسلمين نزاع في أن ذلك من أعظم المنكرات ومن كان عالما بآثار السلف علم أن أحدا منهم لم يفعل هذا وإنما كانوا يستشفعون ويتوسلون بهم بمعنى أنهم يسألون الله لهم مع سؤالهم هم لله فيدعو الشافع والمشفوع له كما قال عمر بن الخطاب اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون
وكما في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله ﷺ يستسقي فيما ينزل حتى يجيش له ميزاب
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكذلك قال معاوية بن أبي سفيان لما استسقى بيزيد بن الأسود فقال اللهم إنا نستشفع أو نتوسل إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا ودعا الناس حتى سقوا
ومنه قول الأعرابي إنا نستشفع بك على الله
ومنه قول الأعمى اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي
ومنه أن النبي ﷺ كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بهم فقد تبين أن الاسترزاق والاستنصار يكون بالمؤمنين بدعائهم وقد قال النبي ﷺ وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم
ومن استنصر بشخص أو استفتح به أو استسقى به لا يجب أن يكون خيرا من غيره ولا افضل منه فإن النبي ﷺ أفضل من صعاليك المهاجرين وكذلك عمر ومن معه من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أفضل من العباس لكن ينبغي أن يكون المستنصر به والمسترزق به له مزية على غيره من الناس بصلاح أو قرابة من رسول الله ﷺ وهذا كقوله سبقك بها عكاشة وإن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك
وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة لدعوة رسول الله ﷺ له قال اللهم اجب دعوته وسدد رميته وأبو بكر وعمر أفضل منه ولم يجيء فيهما نص خاص بذلك
ومثل هذه الفضائل التي للمفضول تارة تكون ثابتة للفاضل وتارة يكون له ما هو أفضل منها مثل حديث أويس القرني وقوله لعمر إن استطعت أن يستغفر لك فافعل وقد يكون الذي يستغفر له أويس أفضل من أويس وقد قال النبي ﷺ لعمر لما ودعه لا تنسنا من دعائك أو أشركنا في دعائك ومعلوم أن النبي ﷺ أفضل من عمر
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لا بأس بالرقى ما لم يكن شركا فنهى عن الرقى التي فيها شرك كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا
ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك بل نهوا عن كل مالا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك بخلاف ما كان من الرقى
وسؤال الله بمجرد ذوات الأنبياء والصالحين غير مشروع بخلاف الطلب من الله بدعاء الصالحين وبالأعمال الصالحة فإنه جائز لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا فإذا توسلنا إلى الله بالأعمال الصالحة وبدعائهم كنا متوسلين إليه بوسيلة كما قال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة فالوسيلة هي الأعمال الصالحة
وأما إذا توسلنا إليهم بنفس ذواتهم لم يكن في نفس ذواتهم سبب يقتضي إجابة دعائنا ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي ﷺ نقلا صحيحا ولا متواترا ولا مشهورا عن السلف ونحن إنما ننتفع باتباعنا لهم ومحبتنا لهم وهم لهم عند الله من الدرجات والمنازل أمر يعود نفعه إليهم فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبينا ومحبته وموالاته واتباع سنته فهو من أعظم الوسائل فالتوسل به من غير متابعة له في الأعمال لا يجوز أن يكون وسيلة فإن المتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به ولا بما منه فبأي شيء يتوسل ولا يجوز أن يقسم على الله بغيره من المخلوقات أصلا
وقوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام فعلى قراء الخفض فقط قال طائفة من السلف هو قولهم أسألك بالله وبالرحم وهذا إخبار عن سؤالهم بالرحم أي بسبب الرحم أي الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض فيكون سؤالهم بالرحم كسؤال الثلاثة بأعمالهم الصالحة وكسؤالنا بدعاء النبي ﷺ وشفاعته
ومن هذا الباب ما روى أن عبدالله بن جعفر كان إذا سأل عليا سأله بحق جعفر أعطاه وليس هذا من باب الإقسام فإن الإقسام بغير جعفر أعظم بل الباء هنا باء السبب فحقه من باب حق الرحم لأن حق ابنه عبدالله إنما وجب بسبب جعفر وحقه على علي رضي الله عنهما
ومن هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي ﷺ في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
هذا والحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف فإن كان هذا كلام النبي ﷺ فهو من هذا الباب لوجهين
أحدهما لأن فيه السؤال لله بحق السائلين وبحق الماشين في طاعته وحق السائلين أن يجيبهم وحق الماشين أن يثيبهم وهذا حق أوجبه هو سبحانه على نفسه لا هم أوجبوه عليه فليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا
ومنه قوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة
وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين
وكذلك حقا علينا ننجي المؤمنين
وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن
وفي حديث معاذ أتدري ما حق العباد على الله
وفي حديث أبي ذر إني حرمت الظلم على نفسي
وكل ذلك تفضلا منه ورحمة وإذا كان حق السائلين له هو الإجابة وحق العابدين له هو الإثابة فذلك سؤال له بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله ﷺ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك إلى آخره فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بإثابته التي هي فعله كما قال تعالى الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار
وقوله فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار
وقال إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين
وقال تعالى عن الحواريين ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
ونحو ذلك توسلوا إلى الله في دعائهم بالإيمان به
وكان ابن مسعود يقول في السحر اللهم أمرتني فأطعتك ودعوتني فأجبتك وهذا تسحر فاغفر لي
ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذي أصابهم المطر فأووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج الله عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى إذا أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذا الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم
فقال رجل منهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فنأى بي طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج
قال النبي ﷺ وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومئة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها
قال النبي ﷺ وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبدالله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبدالله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فاخذ ذلك كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون
فهؤلاء الثلاثة سألوا الله وتوسلوا إليه بأعمال البر فالأول أخبر عن بره بوالديه برا عاليا تاما أكمل البر وأحسنه والآخر أخبر عن عفته التامة الكاملة وعن همته العالية والآخر أخبر عن أداء الأمانة على الوجه الأكمل الأتم
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا خالد بن خداش بن العجلان وإسماعيل بن إبراهيم قالا حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس قال دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل فلم نبرح حتى قبض فبسطنا عليه ثوبه وله أم عجوز كبيرة عند رأسه فالتفت إليها بعضنا وقال يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله قالت وما ذاك مات ابني قلنا نعم قالت أحق ما تقولون قلنا نعم فمدت يدها إلى الله فقالت اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تغيثني عند كل شدة ورخاء فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم قال فكشف الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه
وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب سائر ما يقدر عليه وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء
يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند الله
وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله بذلك ويقسم عليه بذلك والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك ولا بكعبتك ولا بأنبيائك ولا بعبادك الصالحين كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء
وما يذكره بعض العامة من قوله ويروونه عن النبي ﷺ إذا كانت لكم إلى الله حاجة فسلوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء ومن دعا غيره كفر
وقد روي في المسند والترمذي وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ربع الليل قام فقال يا أيها الناس اذكر والله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه قال قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي قال ما شئت قلت الربع قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت الثلثين قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال إذا يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك
وفي لفظ إذا تكفى همك ويغفر ذنبك
وقوله أجعل لك من صلاتي يعني من دعائي فإن الصلاة في اللغة هي الدعاء قال تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم
وقال النبي ﷺ اللهم صل على آل أبي أوفى
وقالت امرأة: صل علي يا رسول الله وعلى زوجي فقال صلى الله عليك وعلى زوجك
فيكون مقصوده يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به وأستجلب به الخير وأستدفع به الشر فكم أجعل لك منه قال ما شئت فلما انتهى
إلى قوله أجعل لك صلاتي كلها قال إذا تكفي همك ويغفر ذنبك
وفي الرواية الأخرى إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك
وهذا غاية ما يدعو به الإنسان لنفسه من جلب الخيرات ودفع المضرات فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب واندفاع المرهوب كما قد بسط ذلك في مواضعه
وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية المشروعة وأعرضوا عن الأدعية البدعية
وفي المسند عن جابر بن عبدالله أن رسول الله ﷺ قال من قال حين ينادي المنادي اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضى لا سخط بعده استجاب الله له دعوته
فالذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم وهو من أنفع الأمور لهم إلى ما ليس كذلك فإن الصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وقد أمر الله بها في كتابه
وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله ﷺ قال سمع رسول الله ﷺ رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه والثناء عليه ثم يصلى على النبي ﷺ ثم يدعو بعد بما شاء
رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه والنسائي والترمذي وقال حديث صحيح
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة
رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن
وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله ﷺ ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما يرد على داع دعوته عند حضور النداء والصف في سبيل الله تعالى رواه أبو داود
وقد قال مالك لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها
ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك فكثير من هؤلاء الذين يعظمون القبور والمشايخ ويستغيثون بهم ويطلبون حوائجهم منهم يطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور وذلك من جنس السحر والشرك فمنهم من تطير به الشياطين في الهواء حملا له من مكان إلى مكان فتارة تذهب به إلى مكة وتارة إلى بيت المقدس وغيره من البلاد ويكون زنديقا فاجرا إباحيا تاركا للصلاة وغيرها مما أوجبه الله ورسوله ﷺ وفرضه ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله ﷺ ويحلها لغيره وإنما تقترن به الشياطين وتخدمه لما فيه من الكفر والزندقة ومن الفسوق والعصيان فإذا آمن بالله ورسوله ﷺ وتاب والتزم الطاعة لله ولرسوله فارقته تلك الشياطين وتلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات
وأنا أعرف من هؤلاء عددا كثيرا بالشام ومصر والحجاز واليمن وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها وذلك لأن ظهور هذه الأشياء من الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان في تلك البلاد أقوى وأظهر وظهور الإسلام والسنة وإحلاص الدين لله في أرض الشام أقوى من سائر البلاد فلهذا ضعفت هذه الأحوال الشيطانية وأنكرت إذا ظهرت فيها وإذا ظهرت ولم تنكر ولم تغير قويت واشتدت شوكتها فحيث قويت الأحوال الرحمانية الإيمانية المحمدية والتوحيد ونور القرآن وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية فإن سلطانها إنما يقوى وتعظم جنوده في بلاد أهل الكفر والفسوق والعصيان كبلاد جنكر خان والهند والروم وغيرها من أهل الكفر والفسوق والعصيان فبلادهم فيها مادتان مادة كفر ونفاق وفسوق وعصيان ومادة علم وإحسان وإيمان فإذا غلبت إحدى المادتين على الأخرى أهلكتها
والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل الحبشة والنجشية والطوينية والتوى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر ويصعد أحدهم في الهواء ويخبرهم بأمور غائبة ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم ولا يرون أحدا يضرب به ويطوف الإناء عليهم ولا يرون من يحمله وإذا نزل بأحدهم مئة ضيف أتاهم بطعام يكفيهم ويأتيهم بألوان مختلفة مع كفرهم وذلك كله من الشياطين تأتيه به من تلك المدينة أو من غير تسوقه
وهذه الأمور تكون كثيرة عند من يكون مشركا أو ناقص الإيمان وعند التتار من هذا أنواع كثيرة ولا سيما دولة تمرخان وأتباعه فإنهم سحروا الناس سحرا لم ير مثله وأظهروا أحوالا لا حقيقة لها فوافقت قدر الله فعملت أعمالها
وذلك لما ضعف الإيمان بالشام وقل نور النبوة فظهر تأثير ذلك الأحوال في الناس لضعف الدين وامتلاء القلوب من حب الدنيا وظهور مناكير معروفة وكثرة الخبث وقلة الطيب
ولما كان الطيب غالبا قويا والإسلام فاشيا ظاهرا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائما به أهله منصورون معانون وأهل الفساد والفسوق مقهورون ذليلون كان أولئك المذكورين بينهم وبين بلاد الشام خنادق وأسوار من قدر العزيز الجبار فلا يصلون إليها وكم قد حاولوا دخولها من سنين وشهور وأيام وقد ضرب الله بينهم وبينها بسد فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا فالأحوال الشيطانية عندهم كثيرة جدا ولهذا الدجال إنما يخرج من قبلهم وبلادهم وهم أتباعه ويظهر على يديه من الأحوال الشيطانية والأمور الزنديقية ما يحار له الناظرون وهو كافر بالله العظيم
وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا الإيمان والتوحيد واتباع الرسول فتجد غالبهم ممن يعتقد الشيوخ والبله وأصحاب الأحوال الشيطانية ويأتي أحدهم إلى قبر الشيخ ويدعوه ويكشف رأسه عند قبره ويطلب حاجته منه ويستغيث به ويستنصر به وكل ذلك من ضعف الإيمان واختلاط الشرك بالقلوب
ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين وزهد مع نوع جهل يحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت ولا يبيت بمزدلفة ولا يطوف طواف الإفاضة ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان فإن مثل هذا الحج ليس مشروعا ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين ومن ظن أن مثل هذا عبادة وكرامة فهو ضال جاهل
ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء ولا من الصحابة ولا من أولياء الله المعروفين ذوي الكرامات يفعل بهم مثل هذا فإنهم أجل قدرا من ذلك وقد جرت هذه القضية لبعض من حمل هو وطار معه من الإسكندرية إلى عرفة فرأى الملائكة تنزل فتكتب أسماء الحجاج ولم يكتبوه فقال هل كتبتموني فأعرضوا عنه فقال لهم ثانية فأعرضوا عنه فقال لهم ثالثا فقالوا له أنت لم تحج أنت لم تحج كما حج المسلمون ولم تتعب ولم تحرم فلا ثواب لك فماذا نكتب
وكان بعض الشيوخ من أهل العلم قد طلب منه بعض هؤلاء الذين تحملهم الشياطين أن يحج معهم في الهواء فقال لهم هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله
فدين الإسلام مبني على أصلين من خرج عن واحد منهما فلا عمل له ولا دين أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وعلى أن نعبده بما شرع لا بالحوادث والبدع وهو حقيقة قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن الإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا وإكراما وهو سبحانه له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله والرسول هو المبلغ عن الله طاعته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه فهو واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده
وأما إجابة الدعاء وكشف البلاء والهداية والإغناء ونحو ذلك فالله تعالى هو المتفرد بذلك الذي يسمع ويرى ويعلم السر والنجوى وهو القادر على إنزال النعم وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها فهو مسبب الأسباب التي بها يحصل ذلك ولهذا فرض سبحانه على المصلي أن يقول في صلاته إياك نعبد وإياك نستعين
وقال النبي ﷺ إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا ولكن عن يساره أو تحت قدمه
وهذا الحديث في الصحيحين من غير وجه وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل الحامل بقدرته للعرش وحملته وقد جعل سبحانه العالم طبقات ولم يجعل أعلاه مفتقرا إلى أسفله فالسماء لا تفتقر إلى الهواء والهواء لا يفتقر إلى الأرض فالعلي الأعلى رب السماوات والأرض وما بينهما أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بل هو الأحد الصمد وكل ما سواه مفتقر إليه وهو مستغن عن كل ما سواه وهذه الأشياء مبسوطة في غير هذا الموضع قد بين فيها التوحيد الذي بعث الله به رسله قولا وعملا
وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء أو رقاع تخفق فيقول يا محمد أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك
فهؤلاء الذين بلغهم أخبر أنهم إذا استغاثوا به يوم القيامة وسألوه الشفاعة يقول لهم لا أملك لكم من الله شيئا قد أبلغتكم والله سبحانه قد وعد أهل التقوى بالتخليص من الكربات وبإحسانه إليهم برفع الدرجات قال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب
وقال تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم
فصل
الأحاديث التي رويت في زيارة قبر النبي ﷺ كلها ضعيفة بل موضوعة وليس في السنن الأربعة منها حديث واحد فضلا عن الصحيحين ولا احتج الأئمة بشيء منها ولا رووا شيئا منها ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ولا الثوري ولا الأوزاعي ولا الليث ولا أبو حنيفة ولا إسحاق بن راهويه ولا أحد من أئمة المسلمين
وذلك مثل قوله من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي
ومثل ما يروون عنه أنه قال من زارني بعد مماتي كنت له شفيعا يوم القيامة
ومثل ما يروون من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة
فهذا الأحاديث وما أشبهها كلها كذب موضوع على النبي ﷺ لم يثبت عنه لفظ واحد في زيارة قبره ولكن روي الأولان من قد يروي الموضوعات كالبزار والدارقطني كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع كيف يكون زائر قبره كالمهاجر إليه في حياته فإن زيارته في حياته إنما شرعت لمن يأتي ويبايعه على الإسلام والجهاد أو يهاجر إليه لطلب الآخرة أو يطلب منه العلم أو نحو ذلك من المقاصد المأمور بها في حياته التي لا يحصل شيء منها بزيارة قبره
وهذه الأمور المبتدعة من الأقوال هي مراتب أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجة أو يستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس بكثير من الأموات وهو من جنس عبادة الأصنام ولهذا تتمثل لهم الشياطين على صورة الميت أو الغائب كما كانت تتمثل لعبادة الأصنام بل أصل عبادة الأصنام إنما كانت من القبور كما قال ابن عباس وغيره وقد يرى أحدهم القبر قد انشق وخرج منه الميت فعانقه أو صافحه أو كلمه ويكون ذلك شيطانا تمثل على صورتة ليضله وهذا يوجد كثيرا عند قبور الصالحين وأما السجود للميت أو للقبر فهو أعظم وكذلك تقبيله
المرتبة الثانية أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت فيقصد زيارتة لذلك أو للصلاة عنده أو لأجل طلب حوائجه منه فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق أئمة المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين
المرتبة الثالثة أن يسأل صاحب القبر أن يسأل الله له وهذا بدعة باتفاق أئمة المسلمين وقد أخبر الله عن إخوة يوسف أنهم خروا له سجدا وكذلك سجد له أبواه وهذا السجود ليس مشروعا لنا فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد حتى قال النبي ﷺ لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها وكذلك الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف وهذه الأمة قد نهيت عن بناء المساجد على القبور
وقد كان اليهود يستفتحون على الذين كفروا بالنبي ﷺ لما رأوا صفته في التوراة يقولون اللهم انصرنا على أعدائنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وهذا كقوله إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح. والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر ومنه الحديث المأثور إن النبي ﷺ كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بهم أي بدعائهم كما قال وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم فالذي ذكره المفسرون في تفسير الآية أن اليهود كانوا يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم
وقيل إ نهم كانوا يقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة
وقيل إنهم كانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم
قال ابن إسحاق في السيرة حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه زعموا أن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا أنا كنا نسمع من يهود وكنا أصحاب أوثان وهم أهل كتاب وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم قالوا إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وكنا كثيرا ما نسع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله ﷺ أجبناه حين دعانا وعرفنا ما كانوا يتواعدون به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا هم به ففي ذلك نزل قوله فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
فإن اليهود لهم يعرف أنهم غلبوا العرب بل كانوا مغلوبين معهم أو كانوا يحالفون العرب فيحالف كل فريق فريقا كما كانت قريظة حلفاء الأوس وكانت النضير حلفاؤهم عبدالله بن أبي حتى أجلاهم النبي ﷺ من حين ضربت عليهم الذلة والمسكنة لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا على غيرهم وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم كما حالفت النضير الخزرج وحالفت قريظة الأوس قبل الإسلام والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليهم فكذبوه كما قال تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
وقال تعالى قال الحواريون نحن أنصار الله فأمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى
وكان اليهود قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
وما يروونه من أن آدم دعا به أو تشفع به فهو من الأحاديث الموضوعة التي لا يبني عليه حكما شرعيا إلا جاهل بأدلة الأحكام
وأصل ضلال المشركين أنهم ظنوا أن الشفاعة عند الله كالشفاعة عند غيره وهذا أصل ضلال النصارى أيضا قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون
وأمثال هذا في القرآن كثير
فمن ظن أن الشفاعة المعهودة من الخلق للخلق تنفع عند الله مثل أن يشفع الإنسان عند من يرجوه المشفوع إليه أو يخافه كما يشفع عند الملك ابنه أو أخوه أو أعوانه أو نظراؤه الذين يخافهم أو يرجوهم فيجب سؤالهم لأجل رجائه وخوفه منهم فيمن يشفعون به عنده وإن كان الملك أو الأمير أو غيرهما يكره الشفاعة فيمن شفعوا فيه فيشفعهم فيه على كراهة منه ويشفعون عنده أيضا بغير إذنه فالله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يشفع أحد في أحد إلا لمن أذن الله للشفيع أن يشفع فيه فإذا أذن للشفيع شفع وإن لم يسأله الشفيع ولو سأل الشفيع الشفاعة ولهم يأذن الله له لم تنفع شفاعته كما لم تنفع شفاعة نوح في ابنه ولا إبراهيم في أبيه ولا مراجعة لوط في قومه ولا صلاة النبي ﷺ على المنافقين واستغفاره لهم بل قيل له استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها
وفيه أنه قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد
فمن قال من المغالين والجاهلين إن لله عبادا لو سألوه أن لا يقيم القيامة لما أقامها فهو مفتر كذاب فإن أفضل الخلق عنده أجاب أكثر مسائلهم مما يوافق قدره وأمره ورد بعضها فما حال من هو دونهم وما أخبر أنه سيفعله فلا بد من وقوعه فلا يقبل دعاء أحد في أن يدعه كقيام الساعة فإن أفضل أهل السماوات وأفضل أهل الأرض لو سألوه أن لا يقيم القيامة لما أجاب سؤالهم إذ قد قضى ذلك وقدره قبل أن يخلق الخلائق بخمسين ألف سنة
وإنما تقع الشفاعة وتنفع ويظهر جاه الشفيع ووجاهته عند المشفوع إليه إذا شفع فيمن أذن له أن يشفع فيه وفي إجابته سؤاله وقبول شفاعته لا أنه يقسم على الله بأحد من خلقه ولا يتوسل إليه بمجرد ذات أحد من خلقه من غير دعاء من المتوسل به ولا طاعة من المتوسل
والداعي إنما ينتفع من وجهين إما بدعاء الرسول وإما بإيمان الداعي به وطاعته ومحبته
فأما إذا كان الرسول ﷺ لم يدع له وهو لم يؤمن به لم ينتفع بالرسول ﷺ فأبو طالب مع كفره لما كان يحوط الرسول ويمنعه شفع فيه حتى خفف عنه العذاب وقد كان في غمرة من النار فلما شفع فيه صار في ضحضاح من النار وفي رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه ولولاه لكان في الدرك الأسفل من النار هكذا رواه مسلم في صحيحه فانتفع به مع كفره في تخفيفه عذابه بأن شفع فيه والإيمان به نافع لمن آمن وإن لم تحصل معه شفاعة
فهذان السببان هما اللذان ينفعان العبد من سيد الخلق ﷺ وأما مجرد توسل العبد بذاته أو إقسامه به بدون هذين السببين فلا ينفعه أصلا كما تجد أفسق الناس وأفجرهم يغالي في قبور الصالحين ويقول قبورهم هو الترياق المجرب ولم يعمل ببعض عملهم ولا حام حول حماهم وكما ينتسب بعض الناس إلى الأئمة وهم براء منه لم يتبعهم يوما من الدهر وأكثر هؤلاء قد غلب عليهم نفاق القلوب وإيمانهم ليا بألسنتهم وطعنا في الدين
وقد ظن بعض من تكلم في الشفاعة على طريق الفلاسفة كابن سينا وأشباهه أن الشفاعة تنفع لتعلق الشفيع بالمشفوع وإن لم يكن هناك دعاء من الشفيع وشبه ذلك بشعاع الشمس الذي يظهر في المرآة والمرآة تطرح شعاعها على الماء والشعاع الذي على الماء يظهر فيه الحائط وأن العبد إذا تعلق بالملائكة والأنبياء كان ما ينزل عليهم من الرحمة ينزل عليه من ذلك بتوسطهم كما ينتفع أتباع المتبوع بما يحصل له من الجاه والمنزلة وهذا الذي قاله هو شر من قول المشركين وهذه هي الشفاعة التي أبطلها الله ورسوله ﷺ
وابن سينا ذكر هذه الشفاعة جريا على منهاج سلفه المشركين الصابئين أهل مقدونية كالإسكندر فيلبس المقدوني ووزيره أرسطو ونحوهم من المشركين الذين كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت وكانوا أهل شرك وسحر كما هو متواتر عنهم معروف من أخبارهم
والجهال يظنون أن هذا الإسكندر هو ذو القرنين المذكور في القرآن ويعظمون أرسطو ويظنون أنه كان وزير ذي القرنين وهذا من جهلهم فإن الإسكندر الذي كان وزيره أرسطو هو الإسكندر بن فيلبس المقدوني الذي يؤرخ له اليهود والنصارى وهذا كان قبل المسيح بنحو ثلاث مئة عام وهو الذي قهر الفرس ولم يصل إلى سد يأجوج ومأجوج
وأما ذو القرنين المذكور في القرآن فهو من أهل الإيمان والتوحيد
وقد اختلف في نبوته والصحيح أنه لم يكن نبيا وقد كان قبل هذا بمئين من السنين وهو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج وكان الله تعالى قد مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سببا فقهر الجبابرة وأذلهم وسار بالعدل فيما آتاه الله
وفي كلام أبي حامد في المضنون به على غير أهله ونحوه ما مشى فيه على منهاج ابن سينا ولهذا اشتد نكير العلماء على أبي حامد لما في كلامه من أصول الفلاسفة الملحدين وهم بنوا الشفاعة على أصلهم الفاسد وهو أن الله عندهم لا يحدث شيئا بمشيئته واختياره بل لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك فلهذا لم يثبتوا لله تعالى إجابة سائل ولا إحداث أمر وقد بسط الكلام على مذاهب هؤلاء في غير هذا الموضع وأصولهم لا أفسد منها فإن الله أمر العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا وأن يدعوه فهو سبحانه وحده يثيبهم إذا أطاعوه ويجيبهم إذا دعوه
وقد بينا في غير هذا الموضع أنه لو كان شيء من العالم قديما للزم أن تكون له علة تامة فإن العلة التامة القديمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها فلا يصدر عن العلة التامة حادث والعالم لا ينفك عن حادث فيمتنع صدور ما يستلزم الحوادث عن علة تامة أزلية فيمتنع أن يكون قديما
وأيضا فكل ما سوى الله ممكن يقبل الوجود والعدم وكل ما يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا فأما ما كان قديما أزليا واجب الوجود ممتنع العدم دائما فيمتنع أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم سواء قيل هو واجب الوجوب بنفسه أو بغيره
وأما كون النبي ﷺ يشعر بالسلام عليه فهذا حق وهو يقتضي أن حاله بعد موته أكمل من حاله قبل مولده وهذا لا ريب فيه وأما قول القائل قد توسل به الأنبياء قبلنا فيقال: مثل هذا ليس بحجة ولا يصح الاحتجاج به بإجماع المسلمين فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان
أحدهما أنه ليس بحجة
والثاني أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم كأخبار النبي ﷺ
فأما الاعتماد على نقل أهل الكتاب أو نقل من نقل عنهم فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين لأن في الصحيح عنه أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه
وفي المسند وسنن النسائي أن النبي ﷺ رأى بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم
وهذه القصص التي يذكر فيها التوسل عن الأنبياء بنبينا ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة وإنما تذكر مرسلة كما تذكر الإسرائيليات التي تروي عمن لا يعرف
وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على ما نقل في ذلك عن النبي ﷺ وتكلمنا عليه وبينا بطلان ذلك جميعه وإن كان ذلك قد نقل عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممن ينقل عن أهل الكتاب لم يجز أن يحتج به لأن الواحد من هؤلاء وإن كان ثقة فغاية ما عنده أن ينقل عن كتاب من كتب أهل الكتاب أو يسمعه من بعضهم فإن بينه وبين الأنبياء الذين يروي ذلك عنهم دهرا طويلا
والحديث المرسل عن المجهول من الكتاب الذي لا يعرف علمه وصدقة لا يقبل باتفاق المسلمين ومراسيل أهل ديننا عن نبينا ﷺ لا تقبل عند أئمة العلماء مع كون نبينا قريبا وديننا محفوظا محروسا فكيف بما يرسل عن آدم وإدريس ونوح وغيرهم
والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم وليس فيه شيء من هذا الذي ذكروه
وقد نقل أبو نعيم في الحلية أن داود عليه السلام قال يا رب أسألك بحق آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال الله له يا داود وأي حق لآبائك علي فإن كانت الإسرائيليات حجة فهذا فيه دليل على أنه لا يسأل الله بحق الأنبياء وإن لم تكن حجة لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات ثم إن توسل النبي المتقدم بالنبي الذي بعده يقتضي أن يكون أفضل منه فيقتضي أن يتوسل نوح بإبراهيم وداود بعيسى وإسرائيل بموسى ومثل هذا لو كان حقا لكان أصلا في العلم الصحيح ولكن المتقدم من الأنبياء يبشر بمن يأتي بعده منهم وليس هو مأمورا بإتباع شريعة من يأتي بعده بل إما أن يكون مأمورا بإتباع شريعة توحي إليه أو شريعة رسول قبله فهو مستغن عمن بعده متبع لمن قبله فكيف يتوسل بالمتأخر ولا يتوسل بالمتقدم الذي يجب عليه إتباعه
وقد ثبت في الصحيحين حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبقت عليهم الصخرة فتوسل أحدهم ببره بوالديه وتوسل الآخر بعفته عن الفاحشة مع التمكن منها والمحبة وتوسل الآخر بأدائه الأمانة مع تثمير المال وطول المدة ففرج الله عنهم فلو كان ما ذكر صحيحا لتوسلوا بالأنبياء وبصالح أعمال الأنبياء فكيف يدعون التوسل بذلك ويتوسلون بما لم يذكر في كتاب ولا سنة
ولو كان هذا صحيحا لكان مشهورا بل مشروعا لنا وكنا نحن أحق بذلك لأن هذه الأمة أفضل الأمم وأولى بكل خير كان ويكون ولأنه رسولها ونبيها فلما كان لم يكن لهذا أصل عند أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان علم أن هذا من أكاذيب المفترين
واستغاثة الصحابة به في القحط إنما استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم والاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منه وإنما الممنوع أن يستغاث به فيما لا يقدر عليه وأن يقسم على الله به ولا سيما إذا كان المخلوق ميتا أو غائبا فلا يجوز أن يستغاث به فيما يقدر عليه حيا ولا فيما لا يقدر عليه وأما استغاثة الجمل به ليجيره من ظلم أهله فهو أيضا طلب منه أن يشكيه فأشكاه بمنع أهله من أذاه وهذا جائز
وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقيا كما كان على عهد النبي ﷺ بعضه مسقوف وبعضه مكشوف وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي ﷺ كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول ﷺ وكان نائبه على المدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز وكانت حجر أزواج النبي ﷺ شرقي المسجد وقبليه فأمره أن يشتريها من ملاكها ورثة أزواج النبي ﷺ فاشتراها وأدخلها في المسجد فزاد في قبلي المسجد وشرقيه ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد وإلا فهي قبل ذلك كانت خارجة عن المسجد في حياة النبي ﷺ وبعد موته ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف
وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين ولو صح ذلك لكان حجة ودليلا على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه فأين هذا من هذا
والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله فإن الله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه ﷺ ومحبته وطاعته وموالاته فهذه الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه وإن أريد أن نتوسل إليه بما تحب ذاته وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح فهذا باطل عقلا وشرعا
أما عقلا فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوبا له ما يوجب كون حاجتي تقضي بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضي به حاجتي فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي فيها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها ولهذا لو توسل به من كفر به مع محبته له لم ينفعه والمؤمن به ينفعه الإيمان به وهو أعظم الوسائل
فتبين أن الوسيلة بين العباد وبين ربهم عز وجل الإيمان بالرسل وطاعتهم ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا
وأما الشرع فيقال العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع فلبس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله فليس لأحد أن يصلى إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة إليه من الكعبة
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم بل يستدبرون القبلة ويصلون إلى إلى قبر الشيخ ويقولون هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة وطائفة أخرى يرون أن الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام والأقصى وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد
ولأهل البدع عبادات كثيرة قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع وبينا بطلانها وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بدين الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام وأنه لم ينقله أحد من علماء الأمة بل هم متفقون على أنه لا فضيلة للصلاة عند القبور ولا في المساجد المبنية عليها التي تسمى المشاهد مع أن طائفة من الغلاة من أهل الشيعة ومن المنتسبين إلى السنة يرون السفر إليها حجا وقد صنف ابن النعمان المفيد شيخ الرافضة كتابا سماه مناسك حج المشاهدة وذكر فيه من فضل العبادات فيها ما هو أعظم من العبادات المشروعة في المسجد الحرام
وقال بعض المتفلسفة إن الأرواح المفارقة قد حصل لها قوة وكمال فإذا اتصل بها روح الزائر مع خشوعه فاض عليها من آثار تلك الروح ما تقوى به وتستنير هذا من قول أهل الزور ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة إلا ضل وأضل ووقع في مهواة من التلف
فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة ويعلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها ومفسدتها راجحة على مصلحتها إذ الشارع الحكيم لا يهمل المصالح
وقد كتبت في هذه المسألة نحو مجلد وذكرتها في مواضع أخر وبينت أسباب الشرك وما فيه من الفوائد والمقاصد التي ضل بها المشركون وأنها معمورة بالمفاسد ومعمورة بالمضار التي من أجلها حرمها الله
فإن قال القائل أنا إذا توسلت بذاته إنما توسلت بعملي المتعلق به وذلك أنه لحبي له وتعظيمي إياه توسلت به وهذا مما يحبه الله تعالى مني
قيل حبك له وتعظيمك له الذي هو من الإيمان به هو يدعوك إلى زيادة الإيمان به وطاعته وهو الذي يحبه الله منك وأما حبك له وهو الذي لا تقصد به إلا قضاء حاجتك الدنيوية فهذا لا يحبه الله منك كما أن حب أبي طالب إنما كان قصده به تعظيم نسبه وإقامة حرمته لم يقبله الله منه وقد روي عن النبي ﷺ قال سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور
وكثير من الناس دعا بدعاء فأجيب وحصل له به ضرر أعظم من نفع ذلك الدعاء وأعرف من يستغيث برجال أحياء فيتصورون له ويدفعون عنه ما كان يحذر ويحصل له ما كان يطلب والأحياء الذين استغاث بهم لا يشعرون بشيء من ذلك وإنما هي شياطين تمثلت على صورهم لتضل ذلك الداعي المشرك كما كانت الإنس تستعيذ بالجن فكانت رؤساء الجن تعبدهم
والذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويدعونها تتنزل عليهم أرواح من الجن وتقضي لهم كثيرا من حوائجهم ويسمونها روحانية ذلك الكوكب وهو شيطان ومن الشياطين من يطير بصاحبه من الإنس في الهواء ويضعه على رأس السنان ويدخل به النار فيمنعه حرها فالسعادة والنجاة في الاعتصام بالكتاب والسنة واتباع ما شرع كما شرع
والدعاء من أجل العبادات فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عباداته الصورة المشروعة فإن هذا هو الصراط المستقيم والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين
وليحذر العبد مسالك أهل الظلم والجهل الذين يرون أنهم يسلكون مسالك العلماء تسمع من أحدهم جعجعة ولا ترى طحنا فترى أحدهم أنه في أعلى درجات العلم وهو إنما يعلم ظاهرا من الحياة الدنيا
ولم يحم حول العلم الموروث عن سيد ولد آدم ﷺ وقد تعدى على الأعراض والأموال بكثرة القيل والقال فأحدهم ظالم جاهل لم يسلك مسلك في كلامه مسلك أصاغر العلماء بل يتكلم بما هو من جنس كلام العامة الضلال والقصاص والجهال ليس في كلام أحدهم تصوير للصواب ولا تحرير للجواب كأهل العلم أولي الألباب ولا عنده خوض العلماء أهل الاستدلال والاجتهاد ولا يحسن التقليد الذي يعرفه متوسطة الفقهاء لعدم معرفته بأقوال الأئمة ومآخذهم
والكلام في الأحكام الشرعية لا يقبل من الباطل والتدليس ما ينفق على أهل الضلال والبدع الذي لم يأخذوا علومهم عن أنوار النبوة وإنما يتكلمون بحسب آرائهم وأهوائهم فيتكلمون بالكذب والتحريف فيدخلون في دين الإسلام ما ليس منه وإن كانوا لضلالهم يظنون أنه منه وهيهات هيهات فإن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له
ولما كانت ألفاظ القرآن محفوظة منقولة بالتواتر لم يطمع أحد في إبطال شيء منه ولا في زيادة شيء فيه بخلاف الكتب قبله قال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون بخلاف كثير من الحديث طمع الشيطان في تحريف كثير منه وتغيير ألفاظه بالزيادة والنقصان والكذب في متونه وإسناده فأقام الله له من يحفظه ويحميه وينفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين فبينوا ما أدخل أهل الكذب فيه وأهل التحريف في معانيه كما قال ﷺ لا يزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة
وقال ﷺ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين
وقد وقع في هذا الباب كثير من الفقهاء والفقراء والعامة ونحوهم ممن فيه زهد ودين وصلاح ولكن كل من لم يكن علمه وعمله يرجع إلى العلم الموروث عن الرسول مقيدا بالشريعة النبوية لم يخلص من الأهواء والبدع بل كله أهواء وبدع وقد ذكره الخطيب البغدادي
وقد قال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة فانظروا أعمالكم إن كانت اقتصادا أو اجتهادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم وقد قال رسول الله ﷺ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد أخرجاه
وفي رواية من عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد
وقد اتفق المسلمون على أنه ليس لأحد أن يعبد الله بما سنح له وأحبه ورآه بل لا يعبده إلا بالعبادة الشرعية وقد قال فضيل بن عياض
في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه قيل ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
وقال أبو بكر بن عياش لما قيل له إن بالمسجد أقواما يجلسون ويجلس إليهم الناس فقال من جلس للناس جلس إليه ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم لأنهم أحيوا بعض ما جاء به الرسول فكان لهم نصيب من قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم لأنهم شانوا بعض ما جاء به الرسول فبترهم الله فكان لهم نصيب من قوله تعالى إن شانئك هو الأبتر
ولهذا كانت أصول الإسلام كما قال الإمام أحمد وغيره تدور على ثلاثة أحاديث
قوله الحلال بين والحرام بين
وقوله إنما الأعمال بالنيات
وقوله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
وذلك أن الدين فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه والنهي عن ذكره في حديث الحرام بين وذكر حكم ما يشتبه به وما لا يشتبه به
والمأمور به أمران عمل باطن وهو إخلاص الدين لله وعمل ظاهر وهو ما شرعه الله لنا من واجب ومستحب
وخلق كثير يعبدون غير الله وخلق يبتدعون عبادة لم يأذن بها الله كما ذكر تعالى ذلك في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما من السور المكية وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى قال فمن؟
وفي الصحيح أيضا أنه قال لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء؟
وقد أمرنا الله أن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخرها
وكثير من الناس عملهم ليس خالصا لله ولا موافقا لشريعة الله مبتدعة ضلال يشرعون دينا لم يأذن به الله وقد قال الله تعالى وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون
وقال تعالى ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها
وقال ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع
فأخبر تعالى أنه ليس للمخلوق من دونه ولي يلي أمورهم ولا شفيع يعينهم من دون الله
ويقال إن طائفة تسمى السوفسطائية أنكرت الحقائق ولم تقر بشيء مما تحسه أو تعقله وهذا لا يمكن أن تعيش عليه أمة من الأمم مدة من الزمان فإن الناس إن لم يعرف بعضهم بعضا ويميز الشخص منهم بين غيره وبين نفسه وبين يومه وأمسه ومأكوله ومشروبه وبين زوجته وولده وغير زوجته وولده وبين ثوبه وثوب غيره وكلامه وكلام غيره ونحو ذلك وإلا كان مجنونا بل أكثر المجانين لا بد لهم من نوع تمييز كما للبهائم تمييز فكيف يتصور أن يكون في الوجود طائفة تنكر كل شيء ولا تقر بثبوت شيء وإنما السفسطة حال تعرض لبعض الناس فيجد فيها بعض الحقائق ويلبس الحق بالباطل
وقيل إن السفسطة كلمة معربة من اليونانية وإن أصلها سوفسطا أي حكمة مموهة وغيرت بالتعريب كسائر ما عربته العرب من ألفاظ العجم ولا ريب أن في الناس من يسفسط في بعض الأمور فيجحد الحق بعدما تبين أو يجحد علمه به أو يقر ببعضه دون بعض أو يجعل الحقائق تبعا للعقائد أي ما يعتقده هو
فيقال السوفسطائية أربعة أقسام
قسم يجحد الحقائق
وقسم يجحد العلم بها
وقسم متجاهل لا أدرية واقفة
وقسم جاعل الحقائق تبعا للعقائد
فهذه الأقسام الأربعة لا توجد في غالب في كثير من الأمور إما أن ينفي الحق الثابت أو ينكر علمه به ويقول ما أعرفه أو يقف في وجوده وفي علمه به أو يجعل الحقائق تبعا لما يعتقده
وفي الناس من هذا وغيره عجائب وإنما يخلص العبد من ذلك علمه ما الناس عليه وما بعث الله به رسوله فيعلم الوجود العيني والثبوت العلمي كما قال تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم
وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
فمن عرف أخبار الأمم المتبعين للرسل والمخالفين لهم وعاقبة هؤلاء وهؤلاء كان في ذلك له عبرة وحجة توافق القرآن
ومعلوم أن معرفة مذاهب الناس ومقالاتهم ودياناتهم ومللهم ونحلهم وآرائهم لا يخلو صاحبها من معرفة أن يكون فيها تابعا للرسل ومللهم أو لا يكون وقد جعل بعض الناس معرفة التاريخ من المقالات ولعمري إنها لداخلة فيما يقص من أحوال الناس وأفعالهم ولكن الشأن في تمييز الصدق منها من الكذب والاعتبار بالصدق منها كما قال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى فدل على أن فيما يقصه الناس في تواريخهم ومقالاتهم ومذاهبهم ما هو مفترى لا حقيقة له فكتب المؤرخين الذين لا يقصدون الكلام على الآراء والديانات فيها ما يشتمل على الصدق والكذب وهي أكثر التواريخ التي لم توزن بتمييز أهل المعرفة بالمنقولات وكذلك الكتب التي يذكر فيها مقالات الناس وآراؤهم ودياناتهم فيها ما يشتمل على الصدق والكذب وهي ما لم توزن بنقد من يخبر المقالات وكذلك تعمد الكذب قليل في أهل العقول والديانات المصنفين لتواريخ السير
وفي الرد على البكري أن مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول مسلم يا كلام الله اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني أو يا علم الله أو يا قدرة الله أو يا عزة الله أو يا عظمة الله ونحو ذلك أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا لذلك من صفات الله وصفات غيره أو يطلب من الصفة جلب منفعة أو دفع مضرة أو إعانة أو نصرا أو إغاثة أو غير ذلك
والنصارى وإن كانوا يقولون المسيح هو كلمة الله ويدعونه ويتخذونه إلها فهو عندهم عين قائمة بنفسها حاملة للصفات ليس المسيح عندهم صفة قائمة بموصوف ولكن مذهبهم متناقض حيث يجعلون الإله واحدا والأقانيم ثلاثة ويدعون أن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة فإن فسروا الأقنوم بما يجري مجرى الصفة لزم أن تكون الصفة خالقة وهم لا يقولون ذلك وإن فسروه بما يجري مجرى الموصوف لزم أن تكون الذات الموصوفة وهي الأب هي المسيح وهم لا يقولون ذلك فقولهم متناقض في نفسه باتفاق عقلاء بني آدم ولم يقولوا إن مجرى الصفة القائمة بغيرها تدعى وتسأل
قال وقوله من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة أو استغاث به سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما هو في معناهما فهذا القول لم يقله أحد من الأمم بل هو مما اختلقه هذا المفتري وإلا فلينقل ذلك عن أحد من الناس
وما زلت أتعجب من هذا القول وكيف يقوله عاقل والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاستغاثة به وأريد أن أعرف من أين دخل اللبس على هؤلاء الجهال فإن معرفة المرض وسببه يعين على مداواته وعلاجه ومن لم يعرف أسباب المقالات وإن كانت باطلة لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم فوقع لي أن سبب هذا الضلال الاشتباه عليهم أنهم عرفوا أن يقال سألت الله بكذا كما في الحديث اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت المنان
ورأيي أن الاستغاثة تتعدى بنفسها كما يتعدى السؤال كقوله إذ تستغيثون ربكم
وقوله فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه
فظنوا أن قول القائل استغثت بفلان كقوله سألت بفلان والمتوسل إلى الله بغائب أو ميت تارة يقول أتوسل إليك بفلان وتارة يقول أسألك بفلان فإذا قيل ذلك بلفظ الاستغاثة فإما أن يقول أستغيثك بفلان أو أستغيث إليك بفلان ومعلوم أن كلا هذين القولين ليس من كلام العرب
وأصل الشبهة على هذا التقدير أنهم لم يفرقوا بين الباء في استغثت به التي يكون المضاف بها مستغاثا مدعوا مسؤولا مطلوبا منه وبالاستغاثة المحضة من الإغاثة التي يكون المضاف بها مطلوبا به لا مطلوبا منه فإذا قيل توسلت به أو سألت به أو توجهت به فهي الاستغاثة كما تقول كتبت بالقلم وهم يقولون أستغيثه واستغثت به من الإغاثة كما يقولون استغثت الله واستغثت به من الغوث
فالله في كلا الموضعين مسؤول مطلوب منه وإذا قالوا لمخلوق استغثته واستغثت به من الغوث كان المخلوق مسؤولا مطلوبا منه وأما إذا قالوا استغث به من الإغاثة فقد يكون مسؤولا وقد لا يكون مسؤولا
وكذلك استنصرته واستنصرت به فإن المستنصر يكون مسؤولا مطلوبا وأما المستنصر به فقد يكون مسؤولا وقد لا يكون مسؤولا
فلفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به
وقول القائل استغثت فلانا واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله
قال في الوجه الرابع إن التضمين المعروف في اللغة إنما هو ضم معنى لفظ معروف إلى آخر مع بقاء معنى اللفظ الأول كما في قوله واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإنه ضمن معنى الإذاعة فعدى بحرف الغاية عن مع أنه فتنة
وكذلك قوله لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فإنه ضمن معنى الضم والجمع فعدي بحرف الغاية مع أن معنى السؤال موجود
وكذلك قوله ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ضمنه معنى نجيناه مع بقاء معنى النصر
وقوله يشرب بها عباد الله ضمن معنى يروي فعدي بحرف الباء مع بقاء معنى الشرب
وهكذا إذا قيل استغثت بالله من الغوث فإنه ضمن معنى الاستغاثة التي هي من العون فعدي بالباء مع بقاء معنى الاستغاثة وهي طلب من المستغاث به
فأما إذا قيل استغثت بفلان من الغوث بمعنى سألت غيره به وتوسلت به فهذا لا يجوز لأنه أحال معنى الاستغاثة فإن معناها طلب الإغاثة من المستغاث به ومعلوم أن المسؤول به والمقسم به والمتوسل به ليس مسؤولا ولا مطلوبا منه ففيه تبديل معنى اللفظ فلا يجوز ذلك
وقال في الوجه الخامس إنه لو قدر أن معنى ذلك معنى التوسل بالأنبياء فالتوسل بهم الذي جاءت به الشريعة هو التوسل إلى الله بالإيمان بهم وبطاعتهم أو بدعائهم وشفاعتهم كما كان الصحابة يتوسلون بدعاء رسول الله ﷺ في الاستسقاء وغيره كما في حديث الأعمى وكما يتوسل الخلائق يوم القيامة بشفاعته وأعظم وسائل الخلائق إلى الله تعالى الإيمان بهم وإتباعهم وطاعتهم فأما التوسل بذواتهم والسؤال بهم بدون دعائهم وشفاعتهم وطاعتهم التي يثيب الله عليها فهذا باطل لا أصل له في شرع ولا عقل
وقال أيضا فالمخلوق لا يفعل شفاعة ولا غيرها إلا لرجاء منفعة ما تأتيه من خارج أو خوف مضرة تأتيه من خارج وإلا فلو قدر أن نفسه مستغنية بنفسه عن كل ما سواه لم يفعل الأفعال التي جرت بها عادة المخلوق
والخالق سبحانه غني عن الخلق كلهم وكلهم مفتقر إليه وكل ما يكون فيهم مما يحبه ويرضاه كالإيمان والعمل الصالح فذلك منه فهو الخالق لذلك تفضلا وكرما فهو الخالق لكل مخلوق وما عمل وهو المتصف بكل صفة كمال فليس في الوجود ما هو غيره إلا داخلا في مسمى أسمائه بحيث لا يكون ذلك الداخل في مسمى أسمائه إلا وهو من مخلوقاته ومفعولاته ومصنوعاته
ومعاملات بعضهم لبعض لا تخرج عن معاوضة كالمبايعة والمؤاجرة ولهذا قال الفقهاء إن كلا من الشريكين يتصرف في حقه بحكم الملك وفي حق شريكه بحكم الوكالة فأكثر معاملات الناس مشاركة والمشاركة فيها نوع من المعاوضة والمعاوضة الظاهرة كالمبايعة والمؤاجرة فيها أيضا معنى المشاركة فإن التجار والصناع هم مشاركون للناس في مصالح دنياهم متعاونون عليها إذ كان الإنسان مدنيا بالطبع لا تتم مصلحته إلا ببني جنسه يعاونونه على جلب المنفعة ودفع المضرة والمعاوضة بينهم هي التي تبعث على المعاونة أو كل منهم لا يفعل إلا ما يجلب إلى نفسه به منفعة أو يدفع به مضرة
وإذا كان عامة ما بين الخلق من الأسباب الكسبية التي بها يتساءلون ويشفع بعضهم إلى بعض هي من جنس المشاركة فالسبب الآخر هو الولادة
فالأسباب والصلات التي بين الناس لا تخرج عن سبب خلقي وهو الولادة أو سبب كسبي من جنس المشاركة والمعاوضة ولهذا افتتح الله سورة النساء بقوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها الآية فإن هذه السورة ذكر فيها حكم الأسباب التي بين الناس من هذا وهذا فذكر ما يتعلق بالولادة من القرابة والرحم وما يتعلق من المواريث والمناكح وكذلك ما يحصل بينهم بالعقود من المناكح والمواريث والوصايا على اليتامى فالنسب من الأول والصهر من الثاني كما قال وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا فافتتح السورة بقوله الذي خلقكم من نفس واحدة ثم قال واتقوا الله الذي تساءلون به أي تتعاهدون به وتتعاقدون والأرحام فدخل في الأول ما بينهم من التساؤل والتعاهد والتعاقد الذي يجمع المعاوضة والمشاركة ودخل في الثاني الولادة وفروعها فالخلق إنما يتصل بعضهم ببعض من هذين الوجهين المشاركة والولادة وقد نزه الله سبحانه نفسه المقدسة عنهما فقال وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل
وقال ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا
وقال قل هو الله أحد إلى آخر السورة
ومن هنا ضل من ضل من المشركين وأشباههم من الصابئين والنصارى ومن ضاهاهم فإنهم جعلوا المخلوق للخالق بمنزلة الشريك والولد وهذا أصل مادة كلام هؤلاء الجهلة الضلال ونحوهم والقرآن قد حسم هذه المادة الفاسدة وجرد التوحيد وبين أنه لا نسبة بين المخلوق والخالق إلا نسبة العبودية المحضة قال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون
وقال لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون
وقال إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا
فصل
قال وإثبات الأسباب مما نطق به الكتاب واتفق عليه أولو الألباب لكن الشأن في تحقيق المناط وإدراج محل النزاع تحت هذه القاعدة وإلا فما قاله من أن الأسباب والحكمة ليس له حاصل كلمة حق أريد بها باطل
فإن قوله وليس رجوع الأشياء إلى الباري من جهة القدرة بمبطل لما أثبته الباري من الأسباب لم ينازع فيه لكن يقال لم قلت إن ما ادعيته هو من الأسباب التي أثبتها الله تعالى فإنك لم تأت على هذا بحجة أصلا وأنت محتاج إلى شيئين إلى أن تثبت أنه سبب في الواقع وأنه سبب غير مشروع غير محظور فإن الأقسام ثلاثة لأن الشيء إما أن يكون سببا مباحا أو محرما أو لا يكون سببا مع ظن كثير من الناس أنه سبب
فكثير من الأمور فيها ما يظن أنه سبب وليس بسبب كما يظن اليهود والنصارى أن اتباع دينهم سبب لنيل الجنة والثواب في الآخرة وهو ضالون في اعتقادهم أن هذا سبب لذلك وكذلك ما يعتقده الجهال أن النذر سبب لحصول الحاجات المطلوبة ودفع المكاره المرهوبة
وقد ثبت في الصحيحين عن عبدالله بن عمر عن النبي ﷺ أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل
رواه البخاري ومسلم
وكما يظهر المشركون أنهم إذا دعوا الأصنام أو من يعبدونه من دون الله أن عبادتهم تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى وأنها سبب لنجاتهم وقضاء حوائجهم وكما يظن من يدعو عند القبور أنه سبب لنيل طلبته وقضاء حاجته وكذلك المستغيثون بالموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم كل ذلك باطل وليس بسبب
وأما السبب المحظور فكالقتل والزنا والسرقة فإنه سبب لنيل كثير من الأغراض الفاسدة وكذلك الشرك والسحر قد يكون سببا لنيل بعض المطالب والمقاصد
وأما السبب المباح المشروع فكالعبادات الشرعية في حصول الأجر والثواب وكالدعاء لله والاستغاثة به والتوكل عليه في حصول ما يقدره الله بذلك من المطالب وكالأكل والشرب والنكاح والازدراع وغير ذلك في حصول ما علقه الله بذلك من شبع وري وولد ونبات وغير ذلك وهذا التقسيم بين
وأما قوله إذا علمت أن الاستغاثة به صحيحة وأن كل متوسل به إلى الله مستغيث به عرفت ان الأستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته فكلام لا يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله كتابي فضلا عن أن يقوله مسلم وهو كلام باطل قطعا وذلك أنه ﷺ في حياته يجوز أن يستغاث به فيطلب منه أن ينصر المظلوم ويطعم الجائع ويسقي الظمآن ويخلص الأسرى ويقضي دين المدين ويبين الدين ويزيح شبهات المعارضين ويجيب السائلين ونحو ذلك
ومعلوم أن نبينا ﷺ أفضل الناس عملا وأعظمهم عل البر والتقوى بل كل خير في الوجود فهو معين عليه بل له مثل أجر كل عامل خير من أمته فإنه هو الذي دعا إلى ذلك ومن دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا
والاستغاثة طلب الإغاثة والتخليص من الكربة والشدة وأنواع الكرب في الشدائد كثيرة لكثرة أسبابها كالأمراض والحاجات والأعداء فإن الأمراض فيها من الشدة التي تلحق المريض وأهله وأصدقاءه ما الله به عليم والحاجة إلى الرزق لنفسه وعياله وما ينال الإنسان بسبب الديون عليه كذلك وما يناله إذا قل رزقه من أنواع الشدائد وكذلك حال العدو الظالم من الكفار والفجار في عدوانهم على الناس من الكرب والشدائد ما لا يقدر قدره إلا الله
ومن هو دون الرسول من عموم المؤمنين يستغاث به ويطلب منه في حياته الإغاثة على دفع هذه الشدائد كلها بحسب قدرته وذلك إما واجب وإما مستحب ومعلوم أن طلب المؤمنين ذلك من رسول الله في حال حياته أعظم من طلبهم له من كل خليفة وعالم وشيخ وملك وهو أقوم بذلك من هؤلاء وأقدر على إزالة ذلك منهم فكانوا عند الجدب يفزعون إليه حتى يستسقي الله لهم وعند الحرب يفزعون إليه طلبا لأمره ودعائه بل قد روى البراء عن علي أنه قال كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله ﷺ فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه
وفي الصحيح أن أهل المدينة فزعوا فركب رسول الله ﷺ فرسا لأبي طلحة عري فكشف لهم ثم رجع فقال لن تراعوا وإن وجدناه لبحرا.
وعند قلة الطعام والماء فإليه يفزعون فيدعو لهم فيكثر الطعام كما فعل ذلك غير مرة في عام الخندق وفي السفر وغير ذلك
وعند قلة الماء فيكثره الله ببركته إما بنبغيه من بين أصابعه كما نبع غير مرة بالمدينة وغيرها كيوم الحديبية وإما بدون النبع كما فعل بمزادتي المرأة اللتين شرب منهما الجيش ولم ينقص منهما شيء وعند المخاوف يفزعون إليه فيرمي الحصى في وجوه الكفار ونحو ذلك
فقول القائل إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته لزم من ذلك أن نطلب منه هذه الأشياء المذكورة وغيرها بعد موته ووجب أن يفعلها بعد موته فيخرج في الغزوات ويقيم الحدود ويعود المريض فاعلا ذلك ببدنه بعد مماته كما كان يفعل ذلك في حياته فهل يقول هذا إنسان أو يحتاج رد هذا إلى برهان
ولكن علينا بعد موته من الإيمان به وطاعته ما علينا في حياته أن نصدق خبره ونطيع أمره ونشهد له أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبدالله حتى أتاه اليقين
فليس عليه بعد موته أن يأمرنا ولا ينهانا ولا يعلمنا ولا يهدينا وليس عليه بعد الموت فعل من الأفعال لا واجب ولا مستحب كما ليس ذلك على غيره من الناس بل الموت ينتهي به التكليف الثابت في الحياة بإجماع الخلق فليس على نبي ولا غيره بعد موته أن يفعل ما كان يؤمر به في حال الحياة من واجب ومستحب وإغاثة الأمة من جملة ما كان يفعله من الواجبات والمستحبات باقيا لهم قد أدى وأبان ونصح
ولا يستطيع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا من السلف أنهم بعد موته طلبوا منه إغاثة ولا نصرا ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يفعلون ذلك في حياته ولا فعل ذلك أحد من أهل العلم والإيمان
وإنما يحكى مثل ذلك عن أقوام جهال أتوا قبره فسألوه بعض الأطعمة أو استنصروه على بعض الظلمة فحصل بعض ذلك وذلك لكرامته على ربه ولحفظ إيمان أولئك الجهال فإنهم إذا لم تقض حاجتهم وقع في قلوبهم الشك وضعف إيمانهم أو وقع منهم إساءة أدب ونفس طلبهم الحاجات من الأموات هو إساءة أدب فقضى الله حاجتهم لئلا يضعف إيمانهم به وبما جاء به لئلا يرتدوا عن الإيمان فإنهم كانوا قريبي عهد بإيمان
وعلى كل لا يقتضي أن يكون ما فعله أولئك الجهال حسنا مشروعا مأمورا به فقد كان النبي ﷺ في حياته يعطي المؤلفة قلوبهم الأموال ولا يعطي خواص المهاجرين والأنصار الذين هم احب إليه من الذين يعطي ويقول إني لأعطي رجالا وأدع رجالا والذين أدع أحب إلي من الذين أعطي أعطي رجالا لما جعل الله في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير وقال إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل وإعطاؤه لصناديد نجد وقريش عام حنين مع أنه لم يعط الأنصار مشهور وقد بين للأنصار لما جمعهم في القبة ما في ذلك لهم من السعادة وما فيه من التأليف لأولئك ليتقوى إيمانهم ويضعف نفاقهم فهل هذا العطاء منه لأجل هذه المصلحة مع قوله يتأبطها نارا موجب لمدح من سأله واستحسان حاله
فإذا كان هو في حال حياته يعطيهم مع أن الذي سأله مذموم على سؤاله إياه مذموم على ما أعطاه إياه معاقب على ذلك والرسول مأجور على ذلك الإعطاء امتنع أن يحتج أحد بإعطائه على جواز سؤاله هذا وهو في الحياة فكيف بعد الموت وإنما عليه ما حمل من التبليغ وعلينا ما حملنا من طاعته ومن طاعته أنا نرغب إلى الله تعالى في جميع حوائجنا كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وقال لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
فأعالي الصحابة كالصديق وغيره لم يكونوا يسألونه شيئا من المال بل قد روي امتناع بعضهم من الأخذ كعمر وغيره حتى قال له ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك
وقد قال تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
وقال تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
وإن كان هذا السؤال نوعا آخر لكن المقصود أن سؤال الأنبياء حتى سؤال العلم منهم فيه أنواع كثيرة محرمة وإن كانوا قد يعطون السائل فلا يدل ذلك على أن السؤال مشروع هذا في حياتهم فكيف بعد مماتهم
ولم ينقل أحد من أهل العلم أن أحدا من السلف سأل النبي ﷺ شيئا بعد موته لا عند قبره ولا عند غير قبره وكذلك قو عيسى لما سألوا المائدة قبل رفع عيسى إلى السماء لم يكونوا محمودين في مسألهم بل كان نزولها ضررا عليهم وكذلك قوم موسى سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وقوم صالح سألوا صالحا آية فكانت سبب هلاكهم فالسؤال فتنة وشر للسائل وهو للمسؤول أجر وخير ومعجزة للنبي ﷺ
والاعتداء في الدعاء تارة يكون بأن يسأل ما لا يصلح له مثل منازل الأنبياء أو يسأل أن يكون ملكا لا يحتاج إلى طعام وشراب أو أن يعلم الغيب أو أن يكون عنده خزائن الله يعطي منها ما يشاء ويمنع ما يشاء فإذا سأل ما هو من خصائص الربوبية أو خصائص النبوة كان هذا اعتداء وكذلك إذا سأل الله جبلا من ذهب أو أن يجعل السماوات أرضا والأرض سماوات أو أن لا يقيم الساعة كل هذا من الاعتداء
ومنه أن يسأل ما فيه ظلم لغيره ولهذا كان النبي ﷺ يقول في دعائه المشهور الذي رواه أحمد وغيره والترمذي وصححه عن ابن عباس رب أعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري
فقوله وانصرني على من بغى علي دعاء عادل لا دعاء معتد يقول انصرني على عدوي مطلقا ومن الاعتداء قول الأعرابي اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال له النبي ﷺ لقد تحجرت واسعا يريد رحمة الله
وقد جعل الصحابة من الاعتداء ما هو دون هذا من تكثير الكلام الذي لا حاجة إليه كما في سنن أبي داود وغيره عن ابن سعد قال: سمعني أبي وأنا أقول اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا فقال يا بني إني سمعت رسول الله ﷺ يقول سيكون قوم يعتدون في الدعاء فإياك أن تكون منهم إنك إن اعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر وسعد هذا هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة وأهل الشورى
وعن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنا له يقول في دعائه اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت النبي ﷺ يقول يكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور
ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يدعى غير الله فإن ذلك من الشرك والله لا يغفر أن يشرك به وإن الشرك لظلم عظيم فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
وسؤال المخلوق محرم لغير حاجة كما ثبت عن النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة في تحريم المسألة له ولغيره كحديث حكيم وقبيصة وغيرهما ففي حديث حكيم بن حزام قال سألت رسول الله ﷺ فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى أخرجاه
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال كنا عند رسول الله ﷺ سبعة أو ثمانية فقال ألا تبايعون فقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نيايعك يا رسول الله قال على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا قال فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناولها أياه رواه مسلم
وعن ثوبان مولى النبي ﷺ قال قال رسول الله ﷺ من يكفل أن لا يسأل الناس شيئا وأنا أتكفل له الجنة فقال ثوبان أنا فكان لا يسأل أحدا شيئا
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ لأبي داود
وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله ﷺ إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه
رواه الترمذي وصححه
وعن عائذ بن عمرو أن رجلا أتى النبي ﷺ فسأله فأعطاه فلما وضع رجل على أسكفة الباب قال رسول الله ﷺ لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا رواه النسائي
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا يسأله أعطاه أو منعه
أخرجاه واللفظ للبخاري
ولمسلم لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه
وعن الزبير بن العوام عن النبي ﷺ قال لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره يبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه رواه البخاري
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي أنه قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله ﷺ أسأله فيها فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة حلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا
رواه مسلم وأبو داود والنسائي
وترك السؤال للمخلوق اعتياضا بسؤال الخالق أفضل مطلقا كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب
وقال يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله
وقال الخليل عليه الصلاة والسلام فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له
وقال النبي ﷺ لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
وفي المسند أن أبا بكر الصديق كان السوط يسقط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه ويقول إن خليلي أمرني أ ن لا أسأل الناس شيئا
وفي الصحيحين حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال أصابتني فاقة فأتيت النبي ﷺ فوجدته يخطب الناس وهو يقول أيها الناس والله مهما يكون عندنا من خير فلن ندخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر فقلت في نفسي والذي بعثك بالحق لا أسألك شيئا فرجعت فأغنى الله وجاء بخير
فأبو سعيد فهم من كلام النبي ﷺ أن ترك سؤاله تعففا واستغناء خير له من سؤاله
فإذا كان ترك سؤال الأنبياء في حياتهم أفضل مع الحاجة والفاقة ومع عدم الحاجة يكون حراما فكيف سؤال الغائب والميت منهم ومن غيرهم هل يكون عملا صالحا مشروعا مستحبا للناس
والله تعالى لم يأمر بسؤال الخلق قط لا أحياء ولا أمواتا ومن زعم أن سؤال المخلوق حيا أو ميتا قد أمر الله به أو هو واجب أو مستحب فهو غالط وقد أمر النبي ﷺ أمته إذا سمعوا المؤذن أن يقولوا مثل ما يقول ثم يسألوا له الوسيلة ثم قال فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة فأمرهم أن يسألوا له الوسيلة
والوسيلة تتضمن شفاعته لهم فقد أمرهم أن يطلبوا له من الله ما يتضمن قبول شفاعته كما أمر الأعمى أن يقول في جملة دعائه اللهم شفعه في فإنه لم يأمرهم بذلك سائلا لهم بل آمرا لهم بما ينفعهم فإنهم إذا سألوا له حصل لهم من الثواب ما ذكر وإن كان هو ينتفع بإجابة الله سؤالهم فهو كما ينتفع بسائر ما نعمله مما أمرنا الله به ورسوله إذ كان له مثل أجورنا ولله تعالى المنة عليه بما أنعم عليه من أعماله وأعمال غيره التي ترتفع درجته بها ولله المنة على الذين أنعم عليهم بطاعته حتى نالوا ما نالوا من ثواب الله بذلك
والمؤمن المحسن المتبع لسنة رسوله ﷺ لا يأمر أحدا بأمر لمجرد غرضه كما يأمر الملك والصديق والمالك ولا يسال أحدا شيئا بل إذا أمر أحد بأمر كان مقصوده بذلك انتفاع المأمور وحصول مصلحته وله أجر الناصح الدال على الخير الداعي إلى الهدى فيكون له مثل أجر العامل المأمور من غير أن ينقص من أجر العامل شيء
وكذلك إذا قال لغيره ادع لي فإنه يقصد بذلك أن الداعي يحصل له مثل دعائه كما ثبت في الصحيح ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك آمين ولك بمثل فهو يقصد أن يحصل للداعي ذلك ويقصد أيضا انتفاعه باستجابة الله دعاء ذلك الداعي له كما يقصد إذا أمره بالمعروف أن ينتفع المأمور بعمله ويكون للآمر مثل أجره
فالمؤمن المتبع للسنة يحسن إلى الخلق ويطلب الأجر من الخالق فيكون قائما بحق الله وحق عباده قد أتى بحقيقة الصلاة وهي أن يعبد الله وحده وحقيقة الزكاة وهي الإحسان إلى الخلق فيجتمع له التعظيم لأمر الله والرحمة لعباد الله فيصلي على جنازة المسلم بقصد انتفاع الميت بالدعاء له وما يحصل له من الله من الأجر بإحسانه إلى الميت ويزور قبر أخيه المسلم من الصحابة والتابعين وأهل البيت وغيرهم بل ومن الأنبياء والمرسلين كما يصلي على جنازته فيسلم عليه
ويدعو له فيرحم الله الميت باستجابة الدعاء ويثيب الله الساعي في وصول النفع والرحمة إليه على هذا الإحسان
فهذا هو المشروع للمسلمين مع المسلمين فاستنزل الشيطان أهل البدعة والضلال فصاروا يزورون قبر الأنبياء والصالحين ولا يقصدون بتلك الزيارة الله والدار الآخرة ولا يخلصون لله الدين ولا ينال الميت رحمة وخيرا بدعاء الحي له ولا يرجون من الله ثواب ذلك فلا توحيد لله ولا إحسان إلى خلق الله بل يقصدون تكليف ذلك الميت حوائجهم يستعملونه ولا ينفعونه وهو أيضا لا ينفعهم ويشركون بالله ولا يوحدونه قد تركوا القيام بحق الله من العبادة له والتوكل عليه ورجاء رحمته وتركوا القيام بحقوق الأموات من الأنبياء والصالحين وغيرهم لما في ذلك من زيادة رحمة الله لهم وإحسانه إليهم ورفع درجاتهم مع ترك مسألة الحي القيوم العليم القدير وترك التوكل عليه كما قال وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا
وإنزال حاجة الإنسان بمخلوق ميت أو حي إما عاجز عنها وإما متكلف بها فإنه لا يستريب عاقل أن المخلوق في حياته ومماته لا يستوي عنده من يحسن إليه ويجلب له الخير والعافية ومن يكلفه ويؤذيه
بالسؤال بطلب الحوائج منه مع علم المسؤول أنه ليس أهلا لما طلب منه بخلاف الخالق تعالى فإنه سبحانه وتعالى عما يشركون يحب من يسأله ويفتقر إليه كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج
وفي حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ من لم يسأل الله يغضب عليه رواه الترمذى وابن ماجه
الله يغضب إن تركت سؤاله... وبني آدم حين يسأل يغضب
ورأى الفضيل رجلا يشتكي إلى آخر فقال يا هذا تشتكي من يرحمك إلى من لا يرحمك كما قيل
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وشكى إليه رجل مرة حاله فقال له يا أخي أمدبرا غير الله تريد
ومما يروى عن عمر بن الخطاب أو غيره ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله
وكما كتبت عائشة إلى معاوية أما بعد فإنه من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وجعل حامده من الناس له ذاما ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وجعل ذامه من الناس له حامدا وقال خالد بن معدان من اجترأ على الملاوم في مراد الحق رد الله تلك الملاوم له محامد ومن ترك قول الحق في مراد الخلق خوف ملاوم الخلق ورجاء محامدهم قلب الله تلك المحامد عليه ملاوما وذما
هذا تحقيق قوله تعالى أليس الله بكاف عبده
وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه
وإنما يؤتى الإنسان من نقص متابعته للرسول والله تعالى أمره باتباعه لا بالإشراك به فقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
وسؤال الخلق هو في الأصل محرم لأنه فيه أنواع الظلم الثلاثة الظلم في حق الله بالشرك والظلم للمسؤول فإن فيه إيذاء له وظلم الإنسان نفسه لما فيه من تعبيدها لغير الله
وقد أبيح من ذلك من سؤال الحي ما دل الشرع على إباحته وأما سؤال الميت والغائب فلم يأذن الله به قط ومن عدل عما أمر به الرسول من عبادة الله وحده والتوكل عليه والرغبة إليه وطاعته فيما أمر به من الإحسان والخير الذي ينتفع به هو وهم وغيره من المخلوقين فإن العبد كلما عمل بما أمرت به الرسل كان لهم مثل أجره وحصل له هو من الخير من إجابة دعائه ونفعه وغير ذلك فمن عدل عن هذه الرحمة والخير وسعادة الدنيا والآخرة إلى أن يفعل ما أمرته به الرسل بل اتخذهم أربابا يسألهم ويستغيث بهم في مماتهم ومغيبهم وغير ذلك كان مثله مثل النصارى فإن المسيح قال لهم اعبدوا الله ربي وربكم
وقال إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة
فلو امتثلوا أمره كانوا مطيعين لرسل الله موحدين لله ونالوا بذلك السعادة من الله تعالى في الدنيا والآخرة فغلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله يستغيثون به وبغيره من الأنبياء والصالحين ويطلبون منهم ويشركون بهم وكذبوا بالرسول الذي بشر به وحرفوا التوراة التي صدق بها وظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح وكان هذا من جهلهم وضلالهم فإنهم كلما أطاعوه فيما دعاهم إليه كان له مثل أجورهم وكانت طاعتهم له والإقرار بعبوديته وبما بشر به فيه وله ولهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله ففوتوا هذا الأجر والثواب عليهم وعليه وله ولهم فيه الخير المستطاب واعتاضوا عن ذلك بما ضرهم في الدنيا والآخرة
وإذا بين لهم قدر المسيح فقيل لهم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام قالوا إن هذا تنقص بالمسيح وسب له واستخفاف بدرجته وسوء أدب معه بل قالوا هذا كفر وجحد لحقه وسلب لصفات الكمال الثابتة له ولعمري إن هذا إنما هو نقص لما في نفوسهم من الغلو فيه لا نقص لنفس المسيح الموجود في نفس الأمر
وفي ذلك من الحمد له والمدح وإعظامه والإيمان به وإعطائه الدرجة العلية ما ليس في الغلو فيه لأن في هذا تقرير كمال عبوديته التي هي كمال المخلوق وهذا هو الكمال فأما الغلو فيه إلى حد الربوبية فذاك خيال باطل لا كمال حاصل وفي إثبات العبودية له إيمان به وموافقة لخبره وأمره فيحصل له بذلك من الخير والرحمة ما لا يحصل له بالغلو فيه الذي هو كذب فيه مكذوب عليه ومعصية له وإشراك بالله وليس في ذلك ما ينفعه ولا ما يرفعه بل في ذلك ضرر على المشركين المفترين
وكذلك الغالية في علي رضي الله عنه ونحوه إذا بين لهم قدره وما ثبت عنه من أنه كان يقول خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر
وقوله لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى قالوا هذا شتم لعلى وتنقص له وهذا عين الكذب بل هذا فيه من إثبات درجته وفضله ومعرفته بالحق وأهله وأمره للناس بالمعروف ونهيه لهم عن المنكر ما ليس في الكذب والغلو الذي ليس فيه منفعة له بل فيه ضرر على أهل الإفك والعدوان
وهكذا الغالية في الشيوخ بهذه المنزلة ولا سيما القادرية والأحمدية وكذلك كل غال كالذين يستغيثون بالموتى أو الغائبين والذين يطلبون حوائجهم من المقبورين ويجعلونهم وسائط ووسائل وشفعاء في قضاء تلك الحوائج بلا علم يدل على ذلك ويشرعون دينا لم يأذن به الله إذا ذكر لهم المشروع في حقهم من الدعاء لهم عند زيارة قبورهم وغيرها والصلاة والسلام من أنواع الدعاء وأن ذلك تضاعف لهم به الرحمة والبركة وتضاعف أيضا للداعي الرحمة والبركة وأن سؤالهم شرك وغلو زعموا أن هذا تنقض بهم وسب لهم وإنما هو نقص لما في نفوس من غلا فيهم وأنزلهم عن منازلهم وفيه من الحمد لهم والرحمة والبركة ما لا يحصل لهم بما يفعلونه من الكذب والإشراك والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
وأما كون موسى وعيسى وجيهين عند الله كما قال تعالى وكان عند الله وجيها وقال عن عيسى إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين فذلك لا يوجب الغلو فيهما ولا في غيرهما من الرسل والأنبياء والصالحين ولا يبيح أن تبتدع لهم عبادة ودعاء لم يأذن الله فيه ولا أن ينقص من حقوقهم ومنازلهم التي أنزلهم بها والله تعالى لم يأذن لنا أن نسأل ميتا حاجة لا نبيا ولا غيره ولا يطلب منه جلب منفعة ولا دفع مضرة ولا أن نقصد بزيارة قبره إجابة دعائنا بل شرع لنا الإيمان بهم وبما جاؤوا به والسلام عليهم
فالذي شرع لنا قي حق الرسل فيه تحقيق توحيد الله وحده وتحقيق طاعتهم وفيه مزيد الرحمة لهم ورفعة الدرجة والرضوان لنا ولهم
والأنبياء لا ينقص عند الله جاههم بموتهم بل هم في مزيد من كرامة الله وإحسانه إليهم ورفع الدرجات لهم عند الله وليس في هذا ما يوجب أن نطلب منهم الحاجات بعد الموت كما كانت تطلب منهم في الحياة ولا أن يؤمروا وينهوا ذلك إذ قد علم بالاضطرار انقطاع هذا الحكم عن جميع الأموات فيظن هؤلاء الجهال الضلال أن مسألتهم والطلب منهم هو من باب رفع قدرهم وكذبوا ليس الأمر كذلك وإنما ذلك من باب التكليف لهم وهم يثابون على ذلك والمكلف لهم المؤذي يتضرر بذلك ويعذب به وإذا طلب سائلهم منهم حاجته لم يكن ذلك سبب جاههم فإن ذلك يطلب ممن لا جاه له عند الله بل قد يطلب بعض المطالب من الكفار والفجار وكل من يرجون منه أن يقضي حاجتهم سألوه واستغاثوا به سواء كان ذلك السؤال جائزا في الشرع أو لم يكن
وخواص أصحابه لم يكونوا يسألونه شيئا من ذلك والمؤمنون منهم يسألونه عند الحاجة والضرورة
وأما من فيه جهل ونفاق فكانوا يسألونه ويلحون عليه ويؤذونه بالسؤال وهو يصبر على أذاهم ويعطيهم لله تعالى إحسانا إليهم وتألفا لقلوبهم واستجلابا لهم ليدخلوا في الإسلام أو يردهم بميسور من القول كما في حديث ابن أبي هالة أنه كان إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول وذلك لأن الله أمره بذلك فقال وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إ ن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا وقد عرف ما ورد في سبب نزول الآية من إعطائه السائل ما سأل حتى لحقه الضرر وكل ذلك كان وهو حي
وبكل حال فالذي كان يسألهم ويطلب منهم سواء كان عاصيا لله أو غير عاص إنما كان يسألهم لاعتقاده أنهم قادرون عليه وعلى إعطائه سؤله وكم ممن كان يسأل الرسول ما ليس عنده ويؤذيه بذلك
فالسؤال إنما كان لأجل اعتقاده القدرة على المسؤول لا لأجل الجاه وهكذا كل مسؤول من الخلق ومطلوب منه في دفع الضرر إنما يسأل ويطلب منه لاعتقاد قدرته على فعل المسؤول وإلا فعاقل من العقلاء لا يسأل أحدا ما يعتقد أنه لا يقدر عليه ولا يستعينه في أمر يعرف أنه لا يقدر على الإثابة فيه ولكن تارة الاعتقاد يصيب ويخطىء
والأمور نوعان نوع يطلب له منا ويجب له علينا ونوع يطلب لنا منه سواء أوجب عليه أو لم يجب
فالواجب له علينا من الحقوق بعد الموت الإيمان به ومحبته ونصره وتعزيزه وتوقيره وطاعة أمره واتباع سنته وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه
وتحقيق ذلك أن الله أمره بأشياء منها ما هو حق لله ومنها ما هو حق للناس والأمر يكون تارة أمر إيجاب وتارة أمر استحباب وكل ما أمر به مما فيه نفع للخلق ففيه حق لهم عليه كتبليغهم وتعليمهم والبيان لهم وأمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر وحضهم على كل ما يقربهم إلى الجنة ونهيهم عن كل ما يبعدهم عنها وتبيين كل ما يحتاجون إليه وأمثال ذلك
وقد فعل ذلك وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لهم منه علما بأخباره وأوامره ونواهيه وكذلك كان يقوم بأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم وإنصاف مظلومهم من ظالمهم وإطعام جائعهم وعيادة مريضهم والصلاة على ميتهم وأمثال ذلك من أنواع إحسانه إليهم في جميع مصالح الدنيا والآخرة
فاجتمعت له صفات الكمال المتفرقة في غيره من الرسل والأنبياء وولاة الأمر وغيرهم وكان له من خصائص النبوة والرسالة ما لم يشركه فيه أحد بعده وكان يقوم بالإمامة في الصلاة والإمارة في الغزو وإرسال البعوث وعقد الألوية والشعائر في الحرب وإقامة الحدود وإيصال الحقوق وقسم المواريث والمغانم والفيء والصدقات وتعليمهم ما يؤمرون به مما في القلوب من المعارف والأحوال أو ما يقوم بالأبدان من الأقوال والأعمال وإفتاؤهم فيما ينوبهم من المسائل والحكم بينهم فيما يتنازعون فيه من القضايا وتعبير الرؤيا وما كان وما يكون من أمر الدنيا والآخرة وصفات الرب وملائكته وأمر الآخرة والجنة والنار إلى غير ذلك
فهذه الأمور التي كان مأمورا بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكانت حقا عليه للخلق انتهت بموته فلم يبق عليه منها شيء كما انتهى حق الله الذي أمره به فلم يبق عليه شيء فجاهد في الله ونصح الأمة وعبد ربه حتى أتاه اليقين
وأما ما كان حقا له على الأمة ومنفعته في الحقيقة تعود عليهم والله تعالى يثيبه بما يعملون به من طاعته مثل ثوابهم ويستجيب فيه صالح دعواهم فهو في الحقيقة حق الله وإن كان فيه حق للرسول فإن الله هو الذي أمرهم بما أمرهم به الرسول ومن يطع الرسول فقد أطاع الله فكل ما أمرهم به الرسول من واجب ومستحب فالله أمرهم به وإذا أطاعوا الله ورسوله فأجرهم على الله وإذا عصوا الله ورسوله فحسابهم على الله قال تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب
وقال فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم
وقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإن على رسولنا البلاغ المبين
ثم قال الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون
فأمر بطاعته وطاعة رسوله لأن طاعته طاعة لله وأمرهم بالتوكل عليه وحده وطاعة الرسول هي عبادة الله وحده
والأمر والمعنى المتقدم من أن الرسول ليس عليه إلا ما أمر به من البلاغ المبين والجهاد وليس عليه جزاء العباد ولا حسابهم ولا هدايتهم قد كرر في القرآن في مواضع والحق الذي لله وللرسول باق بعد موت الرسول وكذلك ما كان من حقوقه التي يمكن بقاؤها كالصلاة عليه والتسليم والتعزير والتوقير فهي لم تنقص بعد موته بل توكدت وقويت بل حقوقه علينا بعد موته أكمل منها في حياته لم ينقص بموته كما قررناه في كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول وبينا أن تنقصه في حياته أو سبه فإنه كان له أن يعفو عن حقه فأما بعد موته فليس لأحد أن يعفو عن حقه ولا يسقط وكذلك في مغيبه
فعلينا أن نقوم بحقوقه الواجبة علينا في حال مماته ومغيبه أكثر مما علينا أن نقوم بها في محياه وحضوره وتلك حقوق علينا له وإذا فعلناها كانت عبادة منا لله أجرنا فيها على الله وهي مما يزيده الله بها من فضله من جهة امتثاله لما أمرنا به وهو داعينا وكلما أطعنا كان له مثل أجورنا ومن جهة ما يصل إليه من الرحمة باستجابة الله دعاء الأمة مع ما يزيد الله إياه من فضله
وهذه الحقوق الثابتة بعد موته هي تبع لرسالته فإنه هو السفير والواسطة بيننا وبين الله تعالى في تعليمنا وانتفاعنا بما علمنا من علم الله وخبره وفي أمرنا وإرشادنا إلى ما أمر الله به وأحبه ورضيه وبذلك حصل لمن آمن به واتبعه سعادة الدنيا والآخرة بل أعظم نعمة أنعم الله بها على المؤمنين أن أرسله إليهم وأنزل عليه الكتاب ومن عليهم باتباعه فليس في الدنيا خير أعظم من هذا
وقد سمى الله الشمس سراجا وهاجا وسماه سراجا منيرا ونعمة الله بالسراج المنير أنعم من نعمته بالسراج الوهاج من وجوه منها أن السراح الوهاج لصلاح بعض الأمور الدنيوية وهي فانية منقضية والسراج المنير لصلاح الدين والآخرة مع صلاح الدنيا فإن وجود الشمس لا ينتفع به الآدميون في الدنيا إلا أن يكون لهم اجتماع وتعاون في المصالح وذلك لا يتم إلا بشريعة تقيم بينهم قانون العدل ولم يطرق الوجود شريعة أعظم من شريعته ﷺ فما يحصل بها من صلاح الناس في المعاد بعض نعمة منها خير من الدنيا وما فيها وأما ما يحصل بها من صلاح القلوب والأرواح والأبدان بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة والهدى ودين الحق فهذا لا يحصل لا بشمس ولا بنحوها وكذلك ما يحصل بها بعد الموت من السعادة الأبدية التي لا نسبة لخير الدنيا إليها كما قال ﷺ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع.
وهذا باب يطول وصفه
فبالرسول عرفت أسماء الله وصفاته وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى تارة بما بينه من الأمثال التي هي مقاييس عقلية وتارة بما يخبر به من الأنباء الصادقة النبوية وتارة بما يقصه عن الأنبياء الذين هم خير البرية
وبه عرفت الملائكة والنبيون والجنة والنار وقصص الأنبياء وأخبار الدنيا وملاحمها وفتنها وأشراط الساعة وعلاماتها وأخبار القيامة وتفاصيلها وغير ذلك
وإذا قيس ما عند أمة محمد ﷺ من العلم والدين إلى ما عند أهل الكتاب مع أنه في الأصل دون ما عند المسلمين في الصفة والمقدار وبينهما تفاوت عظيم فقد دخله من التحريف والنسخ ما جعله كالريح العقيم والضلال فيه راجح على الهدى والشر فيه أكثر من الخير فالمتمسك بما عليه اليوم أهل الكتاب خاسر مستحق للخلود في النار كما قال ﷺ والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بي وبما جئت به إلا دخل النار
وأما من عدا أهل الكتاب فعندهم من الجهل البسيط والمركب في المقال والفعال ما لا يكاد يخطر ببال وما عندهم من علم صحيح كالذي عند الفلاسفة من الحساب وأكثر الطبيعة وكثير من الهيئة وقليل من الإلهي هو وبعض المنطق فإنه لما صار إلى المسلمين هذبوه ونقحوه وتمموه وأوضحوه
ومن تأمل كلام المتفلسفة الأوائل وكلام متفلسفة الإسلام وجد متفلسفة الإسلام أخبر وأدق وقلوبهم أعرف وألسنتهم أنطق وذلك لما عندهم من نور الإسلام زادوا في فلسفة أولئك زيادات إلهية وتقريرات نبوية ومقامات للعارفين وأمور من أحوال أولياء الله المتقين ليس لها في كتب أولئك الأوائل ذكر بحال ولا خطرت منهم على بال
هذا مع أن هؤلاء المتفلسفة المتأخرون في الإسلام من أجهل الخلق عند أهل العلم والإيمان وفيهم من الضلال والتناقض ما لا يخفى على أذكياء الصبيان لأنهم لما التزموا أن لا يسلكوا إلا سبيل سلفهم الضالين وأن لا يقروا إلا بما يبنونه على تلك القوانين وقد جاءهم من النور والهدى والبيان ما ملأ القلوب والألسنة والآذان صاروا بمنزلة من يريد أن يطفئ نور الشمس بالنفخ في الهباء أو يغطي ضوءها بالعباء وقد قال ﷺ إنما أنا رحمة مهداة
ومنهم من يقول مهداة كالقاضي البرتي فليس لأحد أن يتكلم بما لا يعلم وإن كان قد جاء في الآثار عن السلف أن الموتى يدعون للأحياء وأن أعمالهم إذا عرضت دعوا لهم وأن النبي ﷺ يدعو للأمة فهذا كله هو فاعل له بأمر الله وأمره له في غير دار التكليف أمر تكوين لا يتصور مخالفة المأمور كما أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وليسوا مكلفين بذلك وكذلك استغفار الملائكة لبني آدم كما أخبر به القرآن وقد قال النبي ﷺ والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه
ومع هذا فلا يجوز لأحد أن يدعو الملائكة ولا يستغيث بهم ولا يطلب منهم ما أخبر الله به أنهم يفعلونه فإنها ذريعة إلى دعائهم من دون الله والإشراك بهم
وكذلك دعاء الموتى من الأنبياء والصالحين ذريعة إلى ذلك بخلاف سؤال أحدهم في حياته وحضوره فإن ذلك لا يفضي إلى عبادته من دون الله لأنه لو رأى أحدا يفعل ذلك نهاه إذ الأنبياء والصالحون لا يقرون أحدا على الشرك مع قدرتهم على نهيه وإنما يعبد أحدهم بعد موته وكذلك الصلاة خلف أحدهم من أفضل العبادات في حال حياتهم وبعد موتهم لا يجوز أن يصلى خلف قبورهم ولا أن تتخذ قبورهم مساجد ولا تستقبل في الصلاة كما في حديث أبي مرثد الغنوي لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها رواه مسلم لأن ذلك ذريعة إلى الشرك. وأصل الشرك إنما نشأ من القبور كما في الصحيح عن ابن عباس والملائكة لا يراهم الناس فلهذا لا يطلب منهم الحوائج
وأيضا فما تفعله الملائكة والأنبياء بعد الموت هو أمر محدود يفعلون منه ما أمر الله به لا يزداد بسؤال السائلين فليس في سؤالهم إياه منفعة بل مضرة فنهى عنه لأنه شر لا خير فيه فصار بمنزلة أن يطلب الرجل من الشمس أن تصحبه ومن الريح أن تهب ونحو ذلك
وكذلك كل ما يؤمر بأمر تكوين لا يحتاج أن يطلب فإنه فاعله طلب أو لم يطلب وما لم يأذن به الله فهو لا يفعله طلب منه أو لم يطلب بخلاف الشفاعة يوم القيامة فإن الناس يسألونه وسؤال الحي الحاضر يجوز في الدنيا والقيامة وإن كان الميت يسمع الكلام كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في أهل القليب ما أنتم بأسمع لما أقول منهم
وثبت عنه ﷺ أنه قال إن الميت ليسمع قرع نعالهم حين يتولون عنه مدبرين
وقال ﷺ ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام رواه أبو عمر ابن عبد البر وصححه
والشيء الذي لم يشرع تارة لا يشرع لعدم المنفعة فيه وتارة لوجود المضرة فيه وتارة لرجحان المضرة على المنفعة إذا اجتمعا
وأما ما ترجحت مصلحته على مفسدته ومنفعته على مضرته فإن الشارع لا يهمله إذ الشارع مبعوث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها كما قد بسط في غير هذا الموضع
وقد كان السابقون الأولون لا يكفلونه هذه الأثقال ولا يلحفون عليه في السؤال وهم أعظم قدرا وأعلى منزلة أفتراهم ما كانوا يعرفون ما له من الجاه والمنزلة أم لم يعلموا أنه سيد ولد آدم ﷺ وخير البرية حتى نبغ نابغة من أهل الجهل والضلال المبتدعين فعكسوا الأمر كما عكسه من أشبهوه من النصارى فجعلوا معصيته طاعته ومخالفته اتباعا وتكريما وجعلوا كل ما يعلو به درجته خفضا ونقصا وجعلوا الشرك بالله دينا وقربة وجعلوا إخلاص الدين لله وابتغاء الأجر والثواب منه والرغبة إليه دون غيره من فعل أهل الكفر الملحدين والله تعالى هو الذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
فليتدبر العاقل فعل من بدل دين الله وسلك سبيل المرتدين المنافقين الذين يجعلون الإيمان كفرا والسنة بدعة والكذب صدقا والباطل حقا وأولياء الله أعداءه وجند الله جند الشيطان كل ذلك مضاهاة لأهل الشرك والبهتان
فإن قيل إن النبي ﷺ يسمع خطاب البعيد والقريب
قيل ليس في هذا الحديث المعروف ما يدل على التسوية بين القريب والبعيد في سمع خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك المعروف في هذا الباب من الأحاديث يبين ذلك ففي السنن حديث أوس بن أوس رضي الله عنه الذي رواه أبو داود وغيره ورواه ابن حيان في صحيحه والدارقطني في سننه قال قال رسول الله ﷺ إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال يقولون بليت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
والحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
والحديث الذي رواه النسائي وابن حيان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام وروى أبو يعلى في مسنده عن موسى بن محمد بن حيان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبيد الله بن نافع حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسين بن علي يقول قال رسول الله ﷺ صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ولا تتخذوا بيتي عيدا صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم
وروى الروياني في مسنده والبزار وغيرهما عن نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري قال قال لي عمار بن ياسر قال نبي الله ﷺ يا عمار إن لله ملكا أعطاه أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فلا يصلي علي أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه فقال صلى عليك فلان كذا وكذا فيصلي الرب على ذلك المصلي بكل واحد عشرا
وقال أبو أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال ليس أحد من أمة محمد ﷺ يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة
وقال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحراث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله ﷺ أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ قال قلت وبعد الموت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه وإن ذلك يصل حيثما كنا
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام
وهذا الحديث هو الذي اعتمد عليه العلماء كأحمد وأبي داود وغيرهما في السلام عليه عند قبره وهو الذي اعتمد في زيارة قبره إذ لم يكن معهم سنة يستندون إليها في زيارة قبره إلا هذا الحديث وبقية الأحاديث التي رويت في زيارة قبره ضعيفة بل موضوعة أكثرها وضعت بعد أحمد وأمثاله
فهذه النصوص تدل على أنه يسمع سلام القريب ويبلغ سلام البعيد وصلاته لا أنه يسمع ذلك من المصلي المسلم وإذا لم يسمع سلام البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته بطريق الأولى
والأحرى والنص إنما دل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام
والحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فهموا من هذا الحديث السلام عليه عند قبره خاصة فلا يدل على البعيد
ثم نقول لا يخلو إما أن يكون الحديث عاما في سلام البعيد والقريب وإما أن يكون خاصا بالقريب فإن كان الثاني فلا حجة فيه على سماع خطاب البعيد بغير واسطة تبليغ الملائكة وإن كان الأول فالحجة فيه أضعف من وجهين
أحدهما أنه حينئذ لا يبقى السلام عند قبره بخصوصه حديث ولا سنة أصلا بل لا يبقى فرق بين السلام عليه من القريب والبعيد كما لم يفرق بين الصلاة من القريب والبعيد
لكن هذا خلاف ما عرف من السنة وخلاف ما عليه الأئمة من استحباب السلام عليه عند قبره فإنه قد سن إذا زار القبور زائر مطلقا أن يسلم عليهم وكان ﷺ يخرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم ويدعو لهم
فكيف لا يسلم على الميت عند قبره
وقد كان الصحابة يسلمون عليه عند قبره وقد كان ابن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت
رواه مالك عن نافع عنه ورواه أحمد وغيره
الثاني إن الذي في الحديث أن الله يرد عليه روحه ليرد السلام وهذا قد يكون بتوسط تبليغ الملائكة وقد يكون بمباشرته هو سماع المسلم وإذا احتمل الأمرين فتعيين أحدهما مما يفتقر إلى دليل والأحاديث المتقدمة تدل على أن صلاة البعيد وسلامه معروض عليه مبلغ إليه بواسطة الملائكة وذلك ينفي السماع مباشرة من غير تبليغ فإن كان يسمع كلام المخاطب بنفسه لم يحتج إلى واسطة
والمقصود هنا أن هذا المحتج لم يحرر أدلته تحريرا ينفي عنها الإجمال والالتباس حتى يتبين ما فيها من الضلال والإضلال لجميع الناس فإن قوله كل من سأل كلام مجمل أيريد به على كل من سأل الله بالمتوسل به تفريج كربة أو على من سأل الله وسأل المتوسل به أن يسأل الله أو على كل من سأل المستغاث به تفريج الكربة وإن لم يسأل الله فإن هنا أربعة معاني
أحدها أن يسأل الله بالمتوسل به تفريج الكربة ولا يسأل المتوسل به شيئا كما يفعله من يتوسل بالأموات والغائبين
أو أن يسأل الله ويسأل المتوسل به أن يدعو له كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي ﷺ في الاستسقاء ثم من بعده بعمه العباس وبيزيد ابن الأسود الجرشي وغيرهما
والثالث أن يسأل المتوسل به أن يسأل الله له تفريج الكربة ولا يسأل الله هو
والرابع أن يسأل المستغاث به أن يفرج الكربة ولا يسأل الله
فأما الأول فهو سائل لله وحده ومستغيث به وليس مستغيثا بالمتوسل به إلا أن يريد بالاستغاثة السؤال به وحينئذ فيكون هذا المعنى مطابقا لمعنى السؤال به لكن تسميته استغاثة ليس من اللغة المعروفة
وأما الثاني فهو استغاثة بالله واستغاثته بالشفيع أن يسأل الله هو توسل به أي بدعائه وشفاعته وهذا هو المشروع في الدنيا والآخرة في حياة الشفيع وسؤاله أو في مشاركة الشفيع له في السؤال لا في حال انفراده هو بالسؤال
وكذلك الثالث إذا سأل المتوسل به المستشفع به أن يسأل الله كما يسأله الناس يوم القيامة فهذا لا ريب في جوازه وإن سمي استغاثة به
وأما الرابع وهو أن يسأل المستغاث به تفريج الكربة فهذا استغاثة به ليس توسلا به بال المستغاث به مطلوب منه الفعل فإن لم ين قادرا على تفريج الكربة لم يجز أن يطلب منه ما لا يقدر عليه
فالمعنى الأول سؤال به وليس استغاثة أصلا وبعض الناس يسميه توسلا به
والمعنى الثاني فيه استغاثة به وتوسل به
والمعنى الثالث فيه استغاثة في سؤال الله وليس فيه سؤال به
والمعنى الرابع استغاثة في تفريج الكربة لكن لا يجوز ذلك من ميت ولا غائب ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة وليس هذا هو التوسل به والتوجه المشروع الذي كان الصحابة يفعلونه فإن ذلك إنما كان بدعائه وشفاعته حيا
وقد نص غير واحد من أهل العلم على أنه لا يجوز سؤال الله بالأنبياء والصالحين فكيف بالاستغاثة بهم
مع أن الاستغاثة بالميت والغائب مما لا يعلم بين أئمة المسلمين نزاع في أن ذلك من أعظم المنكرات ومن كان عالما بآثار السلف علم أن أحدا منهم لم يفعل هذا وإنما كانوا يتوسلون بدعائهم أحياء فيسألونهم أن يسألوا الله لهم مع سؤالهم هم الله كما قال عمر بن الخطاب اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون
وكما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال ربما قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله ﷺ يستسقي فما ينزل حتى يجيش له ميزاب
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكذلك قال معاوية بن أبي سفيان لما استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي فقال اللهم إنا نستشفع أونتوسل إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا الناس حتى سقوا فكانوا يسألون الله ويسألون الصالحين الأحياء منهم الحاضرين عندهم أن يسألوا الله لهم ولهم
ومنه قول الأعرابي لرسول الله ﷺ إنا نستشفع بك على الله
ومنه قول الأعمى اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي
ومنه قول النبي ﷺ وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم
ومن ذلك أن النبي ﷺ كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أى يستنصر بهم. فالاستنصار والاسترزاق يكون بالمؤمنين بدعائهم مع أن النبي ﷺ أفضل منهم لكن دعاؤهم وصلاتهم من جملة الأسباب
وبذلك يتبين أنه من استسقى بشخص واستفتح به لا يجب أن يكون أفضل فإن النبي ﷺ أفضل من صعاليك المهاجرين وكذلك عمر ومن معه من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أفضل من العباس لكن يقتضي أن يكون للمستنصر به والمسترزق مزية على غيره من الناس كقرابته بالرسول أو فضل ديانته على غيره من الناس في الجملة وهذا كقوله سبقك بها عكاشة وقوله إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وأهل الشورى وأمثالهم وإن لم يكن فيهم نص خاص بذلك
بل سعد بن أبي وقاص كان مجاب الدعوة كما دعا له بذلك رسول الله ﷺ فقال اللهم أجب دعوته وسدد رميته وأبو بكر وعمر أفضل منه وإن لم يجئ فيهما نص خاص بذلك
ومثل هذه الفضائل التي للمفضول تارة تكون ثابتة للأفضل وتارة يكون له ما هو أفضل منها
مثل ما في حديث أويس فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل والمستغفر له أويس أفضل من أويس وكذلك في التابعين للصحابة بإحسان إلى يوم الدين من هو أفضل من أويس
وكذلك قصة موسى والخضر وموسى أفضل من الخضر وقد قال النبي ﷺ لعمر بن الخطاب لما ودعه للعمرة لا تنسنا من دعائك
فمن ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفا فيها لجميع أهل العلم ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه عليها فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول مغياق
وما زال أهل العلم إذا انتهى النزاع بينهم إلى الألفاظ مع اتفاقهم على المعاني يقولون هذا نزاع لفظي والنزاع اللفظي لا اعتبار به يستهينون بالنزاع في الألفاظ إذا وقع الاتفاق على المعاني التي يعلقها الأيقاظ ولكن من كان نزاعه لفظيا وأوهم الناس أن النزاع فيما يتعلق بالأصول ويجعل ذلك من مسائل سب الرسول علم أنه ظلوم جهول وإن كان مصيبا في الإطلاق فكيف إذا كان ضالا مفتريا في اللفظ والمعنى جميعا
والخوارج الذين كفروا عليا وعثمان رضي الله عنهما وجمهور أهل الإيمان متمسكون بظواهر من القرآن مع أنهم من أعظم الناس جهلا وابتداعا وهم مع هذا أظهر حجة وأبين محجة من مثل هذا الضال وأمثاله الذين ليس لهم فيما يبتدعونه من الشرك سوى محض البهتان والافتراء والاعتداء فلو كان توسلهم به في مماته كتوسلهم به في حياته لكان توسلهم به أولى به من توسلهم بعمه العباس ويزيد وغيرهم فهل كان فيهم في حياته من يعدل عن التوسل به والاستشفاع إلى التوسل بالعباس وغيره وهل كانوا وقت النوازل والجدب يدعونه ويأتون العباس أم هل يفعل هذا مؤمن
فلو كان التوسل به في مماته كما كان في حياته لزم أن يكون المهاجرون والأنصار إما جاهلين بهذه التسوية وهذا الطريق أو أنهم سلكوا في مطلوبهم أبعد طريق وكلاهما لا يصفهم به إلا من كان من جنس الرافضة الأراذل القادحين في أولئك الأفاضل
ثم سلف الأمة وأئمتها وعلماؤها إلى هذا التاريخ سلكوا سبيل الصحابة في التوسل في الاستسقاء بالأحياء الصالحين الحاضرين ولم يذكر أحد منهم في ذلك التوسل بالأموات لا من الرسل ولا من الأنبياء ولا من الصالحين فمن ادعى أنه علم هذه التسوية التي جهلها علماء الإسلام وسلف الأمة وخيار الأمم وكفر من أنكرها وضلله فالله تعالى هو الذي يجازيه على ما قاله وفعله
وألفاظ حديث الأعمى تدل على أن ذلك المشروع إذا كان الرسول حيا مسؤولا سائلا لله فإن في أول الحديث أن الأعمى طلب من النبي ﷺ أن يدعو الله له ليرد عليه بصره ولم يطلب منه غير ذلك ثم إن النبي مع دعائه له أمره أن يتوضأ ويصلي ويقول اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد وفي رواية بنبيي محمد نبي الرحمة وهذا سؤال محض لله
وحديث الأعمى رواه الترمذي والنسائي والإمام أحمد وصححه الترمذي ولفظه أن النبي ﷺ علم رجلا فيقول اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي اللهم فشفعه فيّ
وروى النسائي نحوه
وفي الترمذي وابن ماجة عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى إلى النبي ﷺ فقال ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك فقال فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء فذكر نحوه
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه أن رجلا أعمى قال يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري قال فانطلق فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري اللهم فشفعه في قال فرجع وقد كشف الله بصره
وقال أحمد في مسنده حدثنا روح حدثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي ﷺ فقال يا نبي الله ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك وإن شئت دعوت لك قال بل ادع الله لي فأمره أن يتوضأ وأن يدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضي لي الله فشفعني فيه وشفعه في قال ففعل الرجل فبرأ
فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقا حيا وميتا وهذا يستدل به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه ويظنون أن توسل الأعمى والصحابة به في حياته كان بمعنى الإقسام به على ربه أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته ولا يحتاج هو أن يدعو لهم ولا إلى أن يطيعوه ويظنون أن كل من توسل بالرسول كما توسل به ذلك الأعمى مشروع له وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله
ومنهم من يقول هذه قضية عين فيثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها والفرق ثابت شرعا وقدرا بين من دعا له النبي ﷺ وبين من لم يدع له فلا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر وهذا الأعمى شفع له النبي ﷺ ولهذا قال في دعائه الله فشفعه في فعلم أنه شفع فيه وكذلك قوله إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك قال ادع لي فدعا له وقد أمره أن يصلي ويدعو هو لنفسه أيضا فحصل الدعاء من الجهتين
وكذلك قول عمر في استسقائه بالعباس فالنبي ﷺ علم رجلا أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم وسيلة إليه
وكذلك لو كان كل أعمى يتوسل به وإن لم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى ولو أن كل أعمى دعا بدعاء ذلك الأعمى وفعل كما فعل من الوضوء والصلاة بعد موت النبي ﷺ وإلى زماننا هذا لم يوجد على وجه الأرض أعمى
فعدول عمر والصحابة عن هذا إلى هذا وما يشرع من الدعاء وينفع عما لا يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير الخير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه
وحديث الأعمى إنما ظهر للناس بسبب كلامنا ومن جهة أصحابنا اتصل علمه إلى هؤلاء المبتدعة فإن الفقيه أبا محمد بن عبد السلام لم يقف على هذا الحديث ولم يعرف صحته فإنه علق الجواب بجواز التوسل به ﷺ على صحته فكأنه لم يصح عنده إما لعدم علمه بتصحيح الترمذي له أو أنه أطلع فيه على قادح معارض
ولولا الإطالة لتكلمنا على ذلك فنحن لا حاجة بنا إلى شيء من ذلك فإنا بالحديث عاملون وله موافقون وبه عالمون والحديث ليس فيه إلا أنه طلب حاجته من الله عز وجل ولم يطلبها من مخلوق ونحن إلى الله تعالى نرغب وإياه نسأل فهو المدعو المسؤول كما أنه المعبود المستعان لا نشرك به شيئا فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين
ولو قال العبد أنا أقول في دعائي يا رب يا رب كما قالت الأنبياء ولا أقول يا سيدي وإن كان الله هو السيد إذ قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول العبد هذا وأمروا أن يقول كما قالت الأنبياء
فصل
من شك في شفاعة النبي ﷺ يوم القيامة فهو مبتدع ضال بعد البيان والبرهان وهذا وأمثاله قد ظهر عنهم من الكذب والافتراء ما قد تواتر عند المشايخ والعلماء والملوك والأمراء فلم يبق الكذب والبهتان منهم أمرا غريبا ولا فعلا عجيبا وهم في الكذب تارة يتعمدونه وتارة لجهلهم يخطئون لأنهم لا يحققون ما ينقلونه كنقلهم الأحاديث والآثار واللغة والأحكام فتراهم يكذبون فيها ضلالا وجهلا لقلة العلم والتثبت وعدم التحقيق واتباع الأهواء والخروج عن الطريق والخبر الذي لا يطابق مخبره إذا كان صاحبه غير مجتهد يسمى كذبا ويذم على ذلك وإن اعتقد صدق نفسه كما في الصحيح أن سبيعة الأسلمية لما ذكرت للنبي ﷺ أن أبا السنابل بن بعكك قال لها لما مات زوجها وهي حامل فولدت ما أنت بناكحة حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر فقال النبي ﷺ كذب أبو السنابل
ومنه ما جاء في الصحيح أن سعد بن عبادة قال يوم فتح مكة اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال ذلك أبو سفيان للنبي ﷺ فقال كذب سعد بل اليوم يوم يعظم فيه الكعبة
ومنه قول عبادة بن الصامت لما قيل له إن أبا محمد زعم أن الوتر واجب فقال كذب أبو محمد
وكذلك قول ابن عباس لما قيل له إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر فقال كذب نوف
فما زعمه هذا وأمثاله من أنا شككنا الناس في شفاعة النبي ﷺ كذب منه فإنا لم نشكك أحدا في شفاعته في الدنيا ولا في الآخرة ولا شككوا في شيء من دين المسلمين ولا في مسألة واحدة مما دلت عليها الأدلة الشرعية وإنما شككوا بل توبوا مما عليه أهل الشرك والكذب والافتراء والبدع والضلال من العبادات والأدعية المبتدعة التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وهي ليست مما شرع الله لعباده بل فيها من الإشراك بالله واتخاذ الأنداد والشركاء من دونه والغلو في الدين وإيذاء أنبيائه وأوليائه وتضييع حقوقهم ومخالفة طريقهم وعصيان أمرهم ومفارقة هديهم والابتداع في دينهم ما ليس من دين المسلمين دع ما يستلزم ذلك من فعل الفواحش المنكرات والعدوان على الخلق وأكل أموالهم بالباطل وعمى القلوب بالضلال والغي فإن البدع في الدين سبب الفواحش وغيرها من المنكرات كما أن إخلاص الدين سبب التقوى وفعل الحسنات قال تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
وقوله لعلكم تتقون متعلق بقوله اعبدوا ربكم لعل التقوى تحصل لكم بعبادته كما قال تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
ومن قال إن هذا مثل قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وأن المعنى خلقكم لعلكم تتقون فقوله ضعيف لأن الله أمرهم بالعبادة التي خلقوا لها كما ذكره في تلك الآية ولو أراد هذا المعنى لقال ليتقوا كما قال هنا ليعبدون وقد قال لعلكم تتقون
لا تفعل الشيء مترجيا لعاقبته فإنه عالم بالعواقب ولكن يأمر العباد بفعل الشيء لما يرجون من عاقبته كما قال تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى فهما قالا ذلك راجيين منه التذكرة والخشية لا أن الله يرجو ذلك مع علمه تعالى بأنه لا يتذكر ولا يخشى
وقال الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ولا يجوز أن تكون تقواهم هي الغاية المطلوبة من خلق الأولين والآخرين بل كل إنسان مطلوب منه أن يعبده وإن لم يعبده غيره وكان تعليله أن يقال لعلكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
وقوله اعبدوا ربكم أي أخلصوا له العبادة فإن ذلك سبب التقوى كما قال عن يوسف عليه السلام كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين
وقال تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
وقال تعالى إلا عبادك منهم المخلصين
فتبين بذلك أن عباد الله المخلصين لا يغويهم الشيطان وإنما يغوي من أشرك بالله كما قال تعالى إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
وقال تعالى إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة الآية
فالتوحيد أصل كل خير وجماعة والشرك أصل كل شر وجماعة والموجبتان من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ولهذا لما جمع سبحانه وتعالى بين ما أمر به وبين ما حرمه في قوله تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين
ثم قال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
فصل
وأما ما ذكره بأنه استباح نفي صفة من صفات الكمال عن النبي ﷺ فكذب باطل لم ينف شيئا من صفات الكمال عن رسول الله ﷺ إذ صفات الكمال قائمة به من العلم والإيمان والنبوة والرسالة وختمها ولوازم ذلك بل وسائر ما خصه الله به من الخصائص التي فضله بط على إخوانه من المرسلين قد علم أن أهل العلم والإيمان والتوحيد أعلم بها وأعظم إثباتا لها من أهل الشرك والجهل والضلال بل وهم يعجزون في كثير من المواضع أن يردوا على النصارى ما هم فيه من الشرك والجهل لمشاركتهم لهم في ذلك بل قد يزيدون أشياء لا تستجيزها النصارى
ومن أظهر الإسلام وكان منافقا فهو شر من النصارى كما كان المنافقون من الملاحدة والقرامطة الباطنية ونحوهم ممن هو في الباطن لا يقر بما يقر به اليهود والنصارى من أصل التوحيد والرسالة والمعاد والأعمال الصالحة وإن كان أهل الكتاب قد كفروا من ذلك بما صاروا به كافرين كما قال تعالى إن الذين كفروا بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله الآية
فالمنافقون الذين لم يقروا في الباطن بأصل ذلك شر من أهل الكتاب كما قال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار
ومن كان مشاركا لهم فيما ذمهم الله عليه فهو شر منهم أو في بعضه ففيه من الشبه بهم الذي يستحق به الذم بقدر ذلك ومن قال ما يعلم من دين الإسلام خلافة فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل باتفاق الأئمة رضي الله عنهم
وأصل الكفر والشرك مخالفة الرسول ﷺ وهؤلاء الجهال فيهم من الشرك ومخالفة الرسول ما لا خفاء به على المؤمن العليم وهم فيه على درجات
منهم من يأتي بالشرك البين والإنكار البين لما جاء به الرسول ﷺ فهذا يستتاب باتفاق الأئمة
ومنهم من هو مخطئ في دقيق ذلك
ومنهم من هو بين هذا وهذا إما فاسق وإما عاص
فكيف يقاس هؤلاء بخلفاء الرسل وورثة الأنبياء المتبعين ملة إبراهيم المحضة
قال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا وقال تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذي اتبعوه وهذا النبي والذين أمنوا والله ولي المؤمنين
وإذا قال هذا الرجل عنهم إنهم نفوا الاستغاثة به مطلقا فهو كذب عليهم وإنما نفوا الاستغاثة به وبسائر الموتى في حال موتهم أو حال مغيبهم وإذا قدر أن سائلا سأل عالما هل يستغاث بالرسول ﷺ في حال موته فقال لا يستغاث به كان جوابه المطلق مقيدا بسؤال السائل له وإذا ذكر كلام من استغاث به بعد موته أو نظم شعرا في الاستغاثة به في حال موته فأنكره أهل الإيمان على هذا المستغيث به بعد موته كانوا منكرين لهذه الاستغاثة المقيدة لا المطلقة
وقال في الرد إذا كنت قد جعلت الاستغاثة هي طلب الغوث كالاستعانة والاستنصار وأنه يجوز إسنادها إلى المخلوق مطلقا فيستغاث بالمسلم والكافر والبر والفاجر كما يستغاث بالنبي ﷺ ويستنصر به كما قال النبي ﷺ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر لم تكن الإغاثة من خصائص المؤمنين فضلا عن أن تكون من خصائص النبيين أو المرسلين وحينئذ فإذا قدر أن أحدا نفاها كما افتريته فإنما نفى وصفا مشتركا بين جميع الآدميين ونافيها عنه لا يتصور أن يخصه بالنفي والحالة هذه فإن هذا لا يقوله مؤمن ولا كافر فإن الكافر به لا ينازع أنه من الآدميين فإذا كان المنفي عنه لا يختص به كان نفيه عنه نفيا له عن سائر الآدميين وصار ذلك بمنزلة أن يقال لا يستغاث أحد من الآدميين ولا يستنصر به ولا يستعان
وقائل هذه العبارة إما أن يريد بها ما يريده الناس من هذه العبارة عند الإطلاق من تحقيق التوكل والتوحيد بأن العبد لا يسأل إلا الله ولا يطلب النصر المطلق والغوث المطلق والإعانة إلا من الله تعالى فهذا معنى صحيح
وأما الأول فهو صحيح إذ المقصود أن المخلوق لا يسأل فإن الله لم يأمر أحدا بسؤال المخلوق شيئا وإن كان المخلوق يجب عليه أن ينصر أخاه ويعينه ويغيثه فذلك يطلب منه من حيث أمره الله به كما يؤمر بسائر ما أمر الله به ورسوله ﷺ لا يجب أن يطلب منه على جهة السؤال له والذل والخضوع والتضرع له كما يسأل الله تبارك وتعالى بل مسألة المخلوق هي في الأصل محرمة وتباح عند الحاجة والأفضل الاستعفاف عنها مطلقا
وأما السؤال عن العلم فلا ريب أن السائل قد وجب عليه أن يطيع العالم فيما يخبره به من أمر الله ورسوله ﷺ كما وجب على العالم أن يخبره بأمر الله ورسوله والسؤال هنا من باب التعاون على البر والتقوى كصلاة الجمعة والجماعة والجهاد والتعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالسائل للعالم في الحقيقة يذكر له ما يوجب عليه بيان العلم كما يذكر له العالم ما يوجب عليه قبول ما يقوله العالم بخلاف سؤال ما يختص به السائل من مال ونفع
فكلامه يقتضي أن الاستغاثة بالمخلوق ليست واجبة ولا مستحبة ولا مباحة فإن قوله تعالى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه لا يقتضي أنه شرع لنا وجوبا ولا استحبابا مثل هذه الاستغاثة بل ولا يقتضي الإباحة فإن هذا الإسرائيلى ليس ممن يحتج بأفعاله بل ولا في الآية ما يقتضي أن هذا المستغيث بموسى كان مظلوما بل لعله كان ظالما وموسى لما أغاثه فقتل عدوه ندم على ذلك وقال هذا من عمل الشيطان
ثم قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له
ثم قال فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فشهد فيه موسى بأنه غوي
وكذلك قول الشيطان لإتباعه ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أي بمغيثكم وما أنتم بمغيثي فهذا ينفي وجود الإغاثة ولو كانت واقعة لم يكن فعل الشيطان وأتباعه دليلا على جواز ذلك في الشرع وإن سمي ذلك في اللغة استغاثة
وقول هاجر أغث إن كان عندك خير أو غواث إن جعل قولها حجة في الشرع فإنما يدل على الجواز وإن لم يجعل حجة في الشرع وهو الصواب فإنها ليست نبية فلا يدل على جوازه
وأما قوله اسقنا غيثا مغيثا فإنه إنما يدل على تسمية المطر غيثا وهذا أمر لغوي فإن النبي ﷺ لم يستغث بالمطر وإنما استغاث بالله فقال اللهم أغثنا حتى نزل المطر الذي يسمى مغيثا لما فيه من إزالة الشدة والأفعال تضاف إلى المخلوق بجهة وتضاف إلى الخالق بجهة أتم منها
وأما فعل البهيمة فهو كرامة لرسول الله ﷺ ومعجزة أكرمه الله بها وإلا فأفعال البهائم لا تصلح بمجردها شريعة لبني آدم لكن يقع الاستدلال بها من باب التنبيه كما في قوله ﷺ العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه وليس لنا مثل السوء
فإذا كان فعل الآدمي مما يذم من فعل البهائم نهي عنه وكذلك إذا صدر من البهيمة ما تحمد عليه يقال فالآدمي أحق بذلك وإذا كانت البهائم والجمادات تعظم رسول الله ﷺ فنحن أحق بتعظيمه كما قال الحسن البصري في حنين الجذع إذا كان الجذع يحن إليه فأنتم أولى بالحنين إليه
وهذا حسن لكن تعظيمه إنما يكون بطاعته ومتابعته ومعاونته وما فيه زيادة لثوابه ورفع لمنزلته وهو مراد الحسن وغيره لا بأمور مبتدعة لا سيما إذا كانت من باب الشرك وفيها تكليف له فإن سؤاله في حياته وإن كان جائزا في الجملة فليس من باب التعظيم له والا التوقير ولا من فعل خيار أصحابه وإنما كان ذلك أهل الجفاء كالأعراب ومن هو حديث عهد بالإسلام دون أكابر المؤمنين وإن وقع ذلك منهم وقع قليلا
ولو قدر أن الاستغاثة بالمخلوق وسؤاله والطلب منه واجب أو مستحب أو مباح فالكمال ليس في استغاثة المستغيث وطلب الطالب بل هو في فعل المستغاث به فإذا فعل المطلوب وأغاث المكروب كان ذلك من كماله فمن نفى عن شيء من المخلوقين خصائص الخالق لا يقال إنه نفى عن المخلوق صفة من صفات كماله فإذا قال ليس أحد من المخلوقين لا ملك ولا نبي ولا غيرهما لا ربا ولا خالقا للخلق ولا مالكا للملك ولا هو بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير ونحو ذلك لم يكن نفى عن المخلوق شيئا من صفات كماله بل نفى عنه ما ليس إلا لله وحده وهذا من تحقيق التوحيد لله وهو أن ينفي عن خلقه كلهم ما لا يكون إلا له فيقول لا إله إلا الله فلا تصلح الإلهية إلا له بل الخلق كلهم عباده
فصل
وقوله لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول ﷺ بإهلاكه وإهلاك أمثاله خصوصا أهل الدولة وأصحاب الحكم إلى آخره
فيقال: كنت قد أجبت عن كلامه إلى هذا الموضع واتفقت أمور شغلت عن تمام ذلك حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم وحزبه الجاهلين الظالمين وكانوا في ذلك نظير المستفتحين من المشركين
وهذا الوعيد الذي ذكره في كلامه به وبأحزابه أليق وهم به أحق وهكذا فعل الله تعالى بهم حيث عاقبه وحزبه عقوبة المعتدين الظالمين عقوبة لم يعاقب بها أحدا من أشكالهم وهؤلاء مضاهون للمشركين الذين ناظروا إمام الحنفاء إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه كما قال تعالى فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إلى قوله إن ربك حكيم عليم فإنهم خوفوا إبراهيم بمن عبدوه من دون الله فقال لهم ولا أخاف ما تشركون به فإنه ليس للمؤمن أن يخاف إلا الله فلا يستحق ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يخشى ويتقى كما لا يستحق أن يصلي له ويصام بل هذا كله لا يصلح إلا لله وحده لا إله إلا هو
ثم قال الخليل إلا أن يشاء ربي شيئا وهذا استثناء مقطع أي لكن إن شاء ربي شيئا كان فأنا أخاف ربي
ثم قال وكيف أخاف ما أشركتم من المخلوقات وأنتم لا تخافون إشراككم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا يقول فكيف لا تخافون أنكم عبدتم غير الله بغير سلطان من الله وهكذا يقول أتباع إبراهيم الخليل الذين هم على ملته لمن خرج عنها من أشباه النصارى وغيرهم كيف نخاف ما أشركتموه ودعوتموه من دون الله كائنا من كان سواء كان ملكا أو نبيا أو شيخا أو غيره وأنتم لا تخافون الله حيث دعوتم غيره بغير سلطان من الله فإن هذا الذي تفعلونه بدعة لم يأمركم الله بها ولا رسوله وفيها من الشرك ما فيها ولو لم يكن فيها شرك فكيف يسوغ لكم أن تشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله
ومعلوم أن من شرع عبادة يتقرب بها إلى الله ويجعلها وسيلة له إلى الله يرجو عليها ثواب الله إما واجبة أو مستحبة فلا بد أن يكون من الدين الذي شرعه الله وأمر به وإلا كان حظ صاحبها الإبعاد والطرد ولهذا قال الفقهاء العبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع وقد قال الله لنبيه إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه فهو داع إلى الله بإذن الله لا من تلقاء نفسه بل أمر الله له وهؤلاء داعون إلى غير الله بغير إذن الله فيقال لهم ائتماما بإمام الحنفاء إبراهيم الذي يجب على كل مسلم أن يأتم به وكيف نخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
قال الله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون والظلم هنا هو الشرك كما في الصحيح من حديث ابن مسعود فتبين أن أهل الإخلاص أحق بالأمن من أهل الإشراك به قال تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
فغاية الأمر ما قد أقر به هذا الرجل على نفسه وعلى أصحابه لما خاطبه بعض أصحابنا فقال أنتم نسبتمونا إلى الشرك ونحن ننسبكم إلى التنقص بالرسول
فغاية الأمر أن ما يدعيه على منازعيه تنقص بالرسل وهم يقولون عنه وعن أمثاله إنهم مشركون ومعلوم أن الشرك أعظم الذنوب كما أن التوحيد أعظم الحسنات كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين قال قلت يا رسول الله إي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك إلى آخره وقد قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية والأية الأخرى فأخبر أنه لا يغفر الشرك وما دونه موقوف على المشيئة
وأعظم ما دعا الله الخلق إليه في كتابه ودعت الرسل هو التوحيد
وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو أصل دعوة الرسل وأساسها ورأسها وأكمل ما فيها وبه بعث الله جميع الرسل كما قد صرح به القرآن في أكثره فهو مملوء به
وقد تواتر عن النبي ﷺ أنه أول ما دعا المشركين إلى كلمة التوحيد وأن بالإقرار بها يصير الرجل مسلما وبالامتناع عنها يصير كافرا وأنه قال ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فلا يصير الرجل مسلما حتى يشهد هذه الشهادة فإنها رأس الإسلام فهي واجبة في كل خطابة فكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذمى ولهذا وجبت في التحيات وسميت التحيات تشهدا باسم التشهد الذي فيها وبها ختمت التحيات
وروى الترمذي وأبو حاتم والحاكم في المستدرك عن النبي ﷺ أنه قال أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله
وفي الموطأ عنه ﷺ أنه قال أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
وعليها شرع الجهاد الذي هو سنام العمل كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
وفي الآية الأخرى ويكون الدين كله لله
وأهل هذه الكلمة هم السعداء فمن مات عليها دخل الجنة كما ثبت في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان عن النبي ﷺ أنه قال من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة
وفي السنن عن معاذ عن النبي ﷺ أنه قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة
وفي المسند عنه ﷺ أنه قال إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجدت روحه لها روحا وهي الكلمة التي عرضها على عمه أبي طالب قال يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله قال عمر وأي كلمة أفضل من كلمة ألاص بها النبي ﷺ عمه أبا طالب
وهذا باب واسع فلا يعرف في دين الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من الأولين والآخرين ولا كتب رب العالمين أمرا أعظم من التوحيد وهو أول الكلمات العشر التي في التوراة ونظيرها الوصايا العشر التي في آخر الأنعام
وأهل التوحيد هم المستحقون للشفاعة يوم القيامة كما ثبت في الصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال ﷺ يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه
وقد ثبت أن الشرك جنس تحته أنواع وكله مذموم وإن كان بعضه أكبر من بعض كما قال النبي ﷺ من حلف بغير الله فقد أشرك
وقد روى ابن حبان في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر الصديق فما المخرج منه يا رسول الله فقال قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم
والشرك له شعب تكبره وتنميه كما أن الإيمان له شعب تكبره وتنميه وإذا كان كذلك فإذا تقابلت الدعوتان فمن قيل إنه مشرك أولى بالوعيد ممن قيل فيه إنه ينتقص الرسول فإن هذا إن كان مشركا الشرك الأكبر كان مخلدا في النار وكان شرا من اليهود والنصارى وإن كان مشركا الشرك الأصغر فهو أيضا مذموم ممقوت مستحق للذم والعقاب
وقد يقال الشرك لا يغفر منه شيء لا أكبر ولا أصغر على مقتضى عموم القرآن وإن كان صاحب الشرك الأصغر يموت مسلما لكن شركه لا يغفر له بل يعاقب عليه وإن دخل بعد ذلك الجنة
وبالجملة فالشرك أعظم من التكذيب بالرسالة ولهذا كان المشركون أكفر من اليهود والنصارى المكذبين برسالته فكيف بما يقال إنه تنقص والنبي ﷺ كان يقتل المشركين ولا يقتل المتنقصين وقد قال له ذو الخويصرة اعدل فإنك لم تعدل وقال له بعض الناس إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ونحو ذلك فلم يقتل أحدا ممن تنقصه وآذاه ممن دخل في الإسلام وإن كان يجب قتل من يقول هذا اليوم لكون الحق في حياته كان له فأسقطه كما قد بسطناه في كتاب الصارم المسلول
والمقصود أن ما يجب قتل صاحبه بكل حال أعظم ممن ليس كذلك وسيئته أعظم من سيئة المنتقص لرسول الله ﷺ
ويقال أيضا منازعوه يقولون قول هذا القائل قول يتضمن تكذيب الرسول ﷺ والطعن في دينه وأمره وأذى الله ورسوله وذلك أعظم من التنقص باتفاق المسلمين ولهذا يقال كل مشرك مكذب برسول الله متنقص به وليس كل من كذب الرسول ﷺ أو تنقصه يكون مشركا فصار قوله متضمنا لتنقص الرسول مع الشرك عند منازعيه وقولهم لم يتضمن عنده إلا مجرد التنقص فكان ما يذكرونه من الوعيد لحزبه أعظم مما يذكر هو من الوعيد
والناس متنازعون في أهل الكتاب هل يدخلون في المشركين أم لا كما في قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وهل هم مشركون أم لا والتحقيق أن أصل دينهم ليس فيه شرك لكن ابتدعوا نوعا من الشرك ولهذا قال تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فجعل المشركين غير أهل الكتاب
وقد قال تعالى اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون فأخبرهم أنهم أشركوا
فإن قيل هؤلاء لم يتعمدوا الكذب والطعن في دينه بل هم متأولون ظانون أن ذلك تعظيم له فلا يكونون كفارا
قيل وكذلك قاله من قصد الإيمان به وما جاء به من التوحيد وقصدوا متابعته وطاعته لم يقصدوا التنقص به لو كان لازم ما قالوه تنقصا في نفس الأمر لهم أولى بالعذر منهم فقوله مع الشرك يتضمن أذى الله ورسوله والمؤمنين وقولهم فيه تعظيم لله ورسوله
أما أذى الله فإنه قد ثبت في الصحيح لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم
وقوله يتضمن من إثبات الأنداد لله ما يوجب ذلك
وأما أذى الرسول فإن سؤاله ما لا يقدر عليه أذى له وعدوان عليه
وأيضا ترك العمل بسنته وشرعته ينقص الثواب الواصل إليه فإن الأمة إذا عملت بسنته كان له مثل أجورهم فمن عمل بما قرره من التوحيد والسنة أثابه الله على ذلك ثوابا عظيما وكان للرسول مثل ذلك الثواب ومن صد الناس عن هذا منع هذا الأجر أن يصل إلى الرسول فهؤلاء المشركون مؤذون للرسول من جهة جلب ما يضره إليه ومنع ما ينفعه عنه
وأما أذاهم للمؤمنين فنهيهم لهم عن توحيد الله وطاعة رسوله وذمهم على ذلك وشتمهم فهم ممن قال الله تعالى فيهم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
وأما أهل التوحيد فإذا فعلوا ما جاءت به السنة وحدوا الله بإيمانهم وطاعتهم وسؤالهم له وحده لا شريك له حصل للرسول مثل ثوابهم وكانوا متبعين لأمره مريحين له من أذاه بسؤاله وفي هذا من جلب ما يسره إليه ودفع ما يضره عنه ما هو من تمام تعزيزه وتوقيره الواجب على أمته له ومن المعلوم أن تصديق الرسل وطاعتهم خير من الغلو فيهم بلا تصديق ولا طاعة
وقد وقف هذا الرجل على الكتاب الذي صنفه المجيب في ساب الرسول واعترف أنه ما رأى في هذا الباب مثله فكيف يسوغ له مع هذا أن ينسبه إلى نقيض ذلك
ولو قدر أن هذا في نفس الأمر تنقص فهو مما تكلم فيه صاحبه بالاجتهاد وقد أجمع المسلمون على أن مسائل الاجتهاد لا تدخل في السب الذي يستحق صاحبه الوعيد والقاضي عياض من أعظم الناس قولا بالعصمة وأشدهم على الساب وقد ذكر أن نفاة العصمة ونحوهم لا يدخلون في السب الموجب للحد وإن قدر أن قولهم يتضمن تنقصا
ونظائر هذا كثيرة مثل تنازع الناس هل يصلى عليه عند الذبيحة فأكثرهم لا يستحبون ذلك بل مذهب مالك واحمد المنصوص عنه كراهته ومنهم من يستحبه كقول الشافعي وبعض أصحاب أحمد
وكذلك تنازعهم في وجوب الصلاة عليه في التشهد الأخير هل هو ركن أو واجب أو مستحب فيه نزاع مشهور وأكثر العلماء لا يوجبونه ولا يقال إن من كره الصلاة عليه في مواطن أو لم يوجبها إن هذا تنقص به
وكذلك تنازع العلماء هل كان يستحق الصفي في حياته وهل كانت أربعة أخماس الغنيمة ملكا له وهل كان الفيء ملكا له ولا يقال إن من نفى ملكه لذلك فقد تنقصه
وتنازعوا في بوله وغائطه فجمهور المسلمين من الأولين والآخرين على أن ذلك نجس ولهذا صح عنه أنه كان يستنجي ويستجمر ولا يقال هذا تنقص له
والجمهور يفرقون بين شعره وبوله فشعره طاهر وبوله نجس وطائفة نجست شعره وبوله ومن الناس من قال بطهارتهما ولا يقال لمن سوى في هذا الحكم بين شعره وبوله إنه ساب له
وجمهور العلماء على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء وإن كانوا لا يقرون عليها ولم يقل أحد إن هذا سبب لهم يوجب الكفر والقتل والأنبياء يجوز عليهم المرض والجوع والنسيان ونحو ذلك بالإجماع ولا يقال هذا تنقص لهم وكذلك يجوز عليهم عند عامة أهل السنة أن يصابوا بالسحر وأنكر ذلك طائفة من أهل الكلام وتنازع الناس هل في سنته ما يقوله باجتهاد وإذا اجتهد هل يجوز عليه الخطأ لكن لا يقر عليه
وأكثر الفقهاء يقولون بالأمرين ولم يقل أحد إن هؤلاء سابون له وإلا فيكون أكثر أصحاب مالك والشافعي وأحمد يسبون الرسول ﷺ
وتنازع الناس إذا أراد أن يسلم عليه بعد وفاته هل يستقبل القبر ويستدبر القبلة أو لا يستقبل القبلة على قولين
ثم تنازعوا هل يستدبر القبر أو يجعله عن يساره على وجهين
والأول هو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثاني مذهب أبي حنيفة ولم يقل أحد إن هذا تنقص ومثل هذا كثير في الأحكام المتعلقة به ﷺ مما يجب له ويباح ويحرم ويكره ويستحب
قال البكري وأورد هذا الرجل حديثا أن منافقا كان يؤذي المؤمنين قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ فقال النبي ﷺ إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله
قال والكلام على استدلال هذا الكافر الضال من وجوه
الأول عدم تسليم صحة الحديث له إلى آخر كلامه
قال الشيخ والجواب عن هذا الكلام مع ما فيه من الجهل والإلحاد والحلول والشرك في الدين والافتراء على الله والرسول وعباده المؤمنين أن يقال:
هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الإعتضاد والمعاونة لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الإعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك وبآثار الصحابة والتابعين بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للإعتضاد فما يصلح للإعتضاد نوع وما يصلح للإعتماد نوع
وهذا الخبر من النوع الأول فإنه رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن لهيعة وقد قال أحمد قد كتبت حديث الرجل لأعتبر وأستشهد به مثل حديث ابن لهيعة فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء ولم يكن ممن يكذب باتفاقهم ولكن قيل إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثة غلط ولهذا فرقوا بين من حدث عنه قديما وبين من حدث عنه حديثا وأهل السنن يروون له
والسياق الذي ذكر فيه هذا الحديث في جواب الفتيا لفظه فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم إلى أن ذكر الحديث لأن فيه لفظ الاستغاثة التي كان فيها النزاع وهو في كتاب مشهور وقد روى الناس هذا الحديث من أكثر من خمس مئة سنة إن كان ضعيفا وإلا فهو مروي من زمان النبي ﷺ وما زال العلماء يقرؤون ذلك ويسمعونه في المجالس الكبار والصغار ولم يقل أحد من المسلمين إن إطلاق القول إنه لا يستغاث بالنبي ﷺ كفر ولا حرام
وكان في إيراده بيان تقدم تكلم العلماء والسلف بهذا اللفظ ولو كان عبد الله بن لهيعة ذاكرا لا آثرا ولم ينكره المسلمون عليه لكان في ذلك مستند لهذا الإطلاق فإن الرجل قاضي مصر في ذلك الزمان وهو من أكبر العلماء المفتين ونظير لليث بن سعد والغلط الذي وقع في حديثه لا يمنعه أن يكون من أهل الاجتهاد والفتيا مثل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة وكان زمانهما متقاربا فإنه من أعيان الفقهاء المفتين وإن كان في حديثه ضعف وكذلك شريك بن عبد الله وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهم من المشهورين بالفتيا إذا تكلم في حديثهم لم يمنع هذا أن يكونوا من المجتهدين المفتين إذا كان النزاع في إطلاق لفظ وقد أطلقه أحد هؤلاء العلماء إما آثرا وإما ذاكرا وسمعه الناس منه ونقلوه عنه ولم يعرف أن أحدا أنكره علم أن علماء المسلمين كانوا يتكلمون بمثل هذا اللفظ وأن المتكلم به ليس خارقا للإجماع ولا مبتدعا لفظه لم يسبق عليه
(بآخر الأصل المخطوط المطبوع عليه هذا الجزء ما خلاصته
بلغ معارضته على أصل مخطوط جيد في مكتبة الأفاضل بني شطي في دمشق الشام وتمت المعارضة في 25 جماد الثانية سنة 1330 وكتبه جمال الدين القاسمي عفي عنه يليه تتمته وأوله وأما ما ذكره من تأويل الحديث إلخ)
وأما ما ذكره من تأويل الحديث فهو من جنس دين النصاري لا من جنس دين المسلمين وبيان ذلك من وجوه
الأول قوله إن الله تعالى لتشريف رسوله والمقربين عنده خاطبهم تارة بتنزيلهم منزلة نفسه في الأفعال وتارة نزل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف وكلاهما تشريف عظيم
فيقال هذا كذب على الله وشرك به وهو من جنس أقوال أهل الحلول والاتحاد فليس في خطاب الله المطلق تنزيل أحد منزلة نفسه في الأفعال ولا تنزيل نفسه في الأفعال والأوصاف منزلتهم بل هو إله واحد لا شريك له وكل من في السماوات والأرض آتية عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتية يوم القيامة فردا
ومن قال إن الرب عز وجل ينزل المخلوق منزلة نفسه في الأفعال أو ينزل هو منزلة المخلوق في الأفعال والأوصاف فقد زعم أن الله سبحانه يجعل له ندا وأنه يقيم المخلوق مقامه في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإجابة الدعاء وكونه معبودا وأنه يقوم مقام العبد في الصلاة والصيام والطواف وغير ذلك من أفعال العباد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون
ومن أخص أوصاف الرب القدرة على الخلق والاختراع فليس ذلك لغيره أصلا حتى إن كثيرا من النظار المثبتين للقدر كالأشعري وغيره جعلوا هذا أخص وصف للرب تعالى كما جعل الجبائي وغيره من المعتزلة أخص وصفه القدم
ومقصود المعتزلة أن لا يثبتوا له صفة قديمة لامتناع المشاركة في أخص وصفه ومقصود أولئك المثبتين أن لا يشركه غيره في الخلق وقد يقولون لا يشركه غيره في الفعل وهو قول من يقول العبد فاعل مجازا لا حقيقة وهو كاسب حقيقة كما هو قول الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهو في الأصل قول جهم بن صفوان وهو أول من عرف في الإسلام أنه قال إن العبد ليس بفاعل لكن جمهور أهل السنة من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون إنه فاعل حقيقة وجمهور هؤلاء يقولون إن فعله مفعول للرب بناء على أن الخلق غير المخلوق كما هو قول الأكثرين وهو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء
وأما من قال إن الفعل هو المفعول وإن فعل العبد فعل الرب ولم يفرق بين الفعل والمفعول فيلزمه لوازم تبطل قوله كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن القدرة على الاختراع من خصائص الرب وأخص وصف الرب ليس هو صفة واحدة بل علمه بكل شيء من خصائصه وقدرته على كل شيء من خصائصه وخلقه لكل شيء من خصائصه
والمقصود هنا الكلام على قول هذا الرجل الذي ضاهى المشركين الحلولية من النصارى وغالية الشيعة وجهال الصوفية حيث قال إن الله تعالى ينزل المقربين منزلة نفسه تارة وينزل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف تارة فإن هذا كلام مخالف لدين المسلمين وسنبين جهله وخطأه فيما تأوله على ذلك من القرآن والحديث فنقول:
أما قوله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما فليس فيها أن نفس الفعل القائم بالرسول ومخاطبته لهم ومد يده لمبايعتهم هو نفس فعل الله ومخاطبته ومبايعته بل فيها أن من بايع الرسول فقد بايع الله كما قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وكما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني
فطاعة أميره طاعته ومعصية أميره معصيته لأنه أمر بطاعته فمن أطاعه أطاع الله لأن الله أمر بامتثال ما أمر به لأن أمره من أمر الله لا أن نفس الفعل القائم بأميره نفس فعله ولا نفس فعله هو نفس فعل الرب تعالى
واعلم أن من قال من النظار إن أفعال العباد كلها فعل الله فلا فرق عندهم بين أفعال المؤمنين والكفار والبهائم وحركات الجمادات فإن مرادهم أن كل ما سوى الله فهو فعله أي مفعوله وعلى قول هؤلاء
فلا فرق بين فعل الرسول وغيره وليس في كون الله خالقا لشيء تفضيل لذلك المخلوق على غيره فإن الله خالق كل شيء
كذلك على قول الجهور الذين يقولون إن أفعال العباد مفعولة له مخلوقه له ليست فعله بل هي فعل الفاعلين والله تعالى خالق الفاعل وفعله فعلى القولين لا فضيلة في ذلك لمخلوق على مخلوق فلا تظن أن في هذا تشريفا لمقرب ولا رسول ولا غيره
وهذا ما يبين به خطأ هؤلاء الجهال الذين لا يفرقون بين ما خلقه وقدره وما أمر به وفرضه فجعل الله تعالى مبايعة الرسول مبايعة الله وطاعة الرسول طاعة الله ليس من جهة خلق الله أفعال العباد والقيومية الشاملة للمخلوقات فإن كونه خالقا لكل شيء وكونها بمشيئته وقدرته ليس فيها تفضيل مخلوق على مخلوق إذ التفضيل إنما يكون بما به الاختصاص لا بما يشترك الجميع فيه
ومن جعل مبايعة الرسول مبايعة لله لأجل أن الله خالق كل شيء نظرا منه إلى القيومية الشاملة لكل مخلوق لزمه أن يكون من بايع الكفار والفساق مبايعا لله لأن الله خالق كل شيء فيكون هؤلاء قد جعلوا مبايعة خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه كمبايعة فرعون وأمثاله من المشركين وهذا يقع فيه كثير ممن يلحظ القيومية الشاملة العامة المتناولة لكل مخلوق وهؤلاء من أكفر الخلق ويجعلون هذا منافيا للأمر والنهي وهم من جنس الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا إلى قوله قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إ ن تتبعون إلا الظن
وكذلك هؤلاء إنما يتبعون أهواءهم ولا يتكلمون بعلم فإن قولهم في غاية المناقضة فإن الواحد من هؤلاء إذا آذاه غيره أو ظلمه قابله وعاقبة ولا يمكنه أن يعذره بالقدر ومشاهدة القيومية كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع
وجهة تفضيل الرسول ﷺ من جهة كون الله تعالى أرسله مبلغا لأمره ونهيه مبينا لما يحبه ويرضاه وما يبغضه ويسخطه فما أمر به الرسول ﷺ فالله أمر به وما نهى عنه فالله نهى عنه ومن بايعه وعاهده وعاقده على أن يطيعه في الجهاد إذا أمره به وأن لا يفر أو على أن يقابل حتى يموت كما بايعه المسلمون تحت الشجرة فهم معاهدون الله تعالى معاقدون له على طاعته فيا أطاعوا فيه الرسول ﷺ وكذلك الذين بايعوه قبل ذلك ليلة العقبة لما بايعه الأنصار ولهذا قال تعالى واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا
فسمعهم وطاعتهم لا أمرهم ومعاهدتهم على ذلك هو سمع وطاعة لله تعالى ومعاهدة له وعهد الله إلى خلقه وهو أمره ونهيه الذي بلغته رسله والتخصيص والتفضيل يظهر في الوفاء به ومتابعة الرسل ولهذا قال تعالى وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم أي أوفوا بأمري أوف بوعدكم الذي وعدتكم على الوفاء به فإن المبايعة والمعاهدة تتضمن المعاوضة من الجانبين فهم إذا أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الطاعة وفي الله تعالى بما عاهد عليه من الأجر والثواب كما قالت الأنصار للنبي ﷺ اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أبناءكم ونساءكم ولأصحابي أن تواسوهم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال لكم الجنة قالوا امدد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك
فهم لما عاهدوه على هذا ليطيعوه فيه قد عاهدوا ربه عز وجل الذي أمرهم بذلك والله تعالى هو الذي يوفي بعهدهم فيدخلهم الجنة
وفي الحديث الصحيح عن شداد بن أوس عن النبي أنه قال سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها حين يصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها حين يمسي موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة
فقوله وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أي على ما عهدته إلينا من طاعتك ووعدك ما وعدتنا به من ثوابك أمتثل أمرك وأرجو وعدك
ومن المعلوم أن الإنسان لو استناب نائبا ووكل وكيلا في عقود كبيع وإجارة ومزارعة ونحو ذلك لكان المعاقد للوكيل معاقدا لموكله بحيث إن وفى الموكل فقد وفى للوكيل وإن غدر بالوكيل فقد غدر بالموكل والموكل عليه أن يوفي بما عاقد عليه الوكيل والوكيل إذا استمر موكله في العقد تعلقت حقوق العقد بالموكل وهل يكون الوكيل ضامنا على قولين معروفين هما روايتان عن أحمد
ومن قال إن حقوق العقد تتعلق بالوكيل كما يحكى عن أبي حنيفة يقول إنها بعد ذلك تنتقل إلى الموكل
ولهذا تنازعوا في المسلم إذا وكل ذميا في شراء الخمر فقال الجمهور لا يصح لأن الملك يحصل للموكل والمسلم ليس له أن يملك الخمر وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ملكها الذمي ابتداء ثم دخلت في ملك المسلم ضرورة كالميراث
وعلى كل تقدير فمآل الأمر إلى الموكل ومع هذا ففعل الوكيل متميز عن فعل موكله وكلامه متميز عن كلامه ليس أحدهما هو الآخر ففعل المخلوق أشد مباينة لفعل الخالق من مباينة فعل مخلوق لمخلوق
وإذا كان مبايعة الوكيل مبايعة للموكل مع تمييز الفعلين فالتمايز في الخالق أولى ولو أرسل مرسل رسولا إلى شخص ليعاقده عقدا من العقود هدنة أو نكاحا أو غير ذلك لكانت معاهدة الرسول معاهدة لمرسله مع تمييز أحد الفعلين عن الآخر
ومع كون المرسل والرسول من جنس واحد ومع أنه يمكن أن يقيم الموكل وكيله مقامه في عامة أفعاله لأن الوكيل يفعل مثل ما يفعله موكله وأما الرب سبحانه وتعالى فيمتنع أن يفعل أحد مثل فعله ويمتنع أن يستخلف أحدا يقوم مقامه في فعله فإنه سبحانه وتعالى خالق فعل ذلك الشخص وهو سبحانه وتعالى شاهد لا يغيب وهذا موضع غلط فيه طائفة من الناس فظنوا أن الله سبحانه وتعالى يستخلف أحدا عن نفسه وادعى بعضهم أن آدم خليفة عن الله في الأرض يقوم مقامه وأنه جمع له أسماءه الحسنى قالوا وهو معنى تعليمه الأسماء كلها
وهذا قول أهل الحلول والاتحاد كابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله من أهل الإلحاد وهذا جهل وكفر فإن الله تعالى هو الذي يخلق كل شيء ويدبر أمر السماء والأرض وهو خالق آدم كما هو خالق سائر المخلوقات وهو شاهد لا يغيب
والمخلوق يستخلف مخلوقا عن نفسه لعجزه أو جهله أو مغيبه وأفعال الخليفة عن غيره يفعلها بنفسه لا يحدثها الذي استخلفه والله تعالى على كل شيء قدير وهو بكل شيء عليم وهو شاهد لا يغيب وهو الذي يخلق كل شيء فالعبد يستخلف ربه كما كان النبي ﷺ يقول إذا سافر اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا فإن المقيم عند أهله هو يدبر أمر بيته فإذا سافر سأل الله أن يخلفه فيهم وكما روي أنه سمع يوم مات النبي ﷺ قائلا يقول إن في الله عزاء من كل هالك وعوضا من كل مصيبة وخلفا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب
وكذلك العبد يخلف العبد في أهله كما قال النبي ﷺ من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا
وقال ﷺ في قصة ماعز وكلما نفرنا في الغزو خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة من اللبن إن الله أمكنني من أحد منهم لأجعلنه نكالا
ومنه قوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض أي يخلف بعضهم بعضا
وكما قال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم
وقوله تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون
وداود عليه السلام جعله الله خليفة عن من كان قبله كما جاءت بذلك الآثار
ومنه قوله تعالى ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وقد قيل إن من هنا للبدل أي بدلا منكم
كما قالوا في قوله تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن أي بدلا من الرحمن وأنشدوا
فليت لنا من ماء زمزم شربة... مبردة باتت على طهيات
وقالوا معناه بدلا من ماء زمزم
وفي حديث أبي سعيد الذي رواه مسلم في صحيحه إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
والمقصود هنا أن المخلوق يمكن أن يقيم مقامه من يفعل مثل فعله وأما الرب فهذا ممتنع في حقه ممتنع لذاته أن يكون غير الله مماثلا له في ذاته أو صفاته أو أفعاله فإن المثلين يجوز على أحدهما ما جاز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه
والرب حي قيوم غني صمد واجب بنفسه مستحق لصفات الكمال بنفسه ممتنع اتصافه بنقائضها فإن كماله من لوازم ذاته الواجبة الوجود بنفسها التي يمتنع عدمها أو عدم شيء من لوازمها والمخلوق يجب أن يكون معدوما محدثا فقيرا فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب الوجود واجب العدم قديما محدثا غنيا بنفسه فقيرا بنفسه وذلك جمع بين النقيضين
وإذا كان المخلوق الذي يرسل من يماثله لا يكون فعله هو فعله
فالخالق الذي يرسل بعض عباده أبعد أن يكون فعله هو فعله حتى تكون نفس بيعة الرسول نفس بيعة المرسل فإذا كان خالقا لذلك الفعل وغيره من المخلوقات فهو بهذا الاعتبار الاختصاص له والله تعالى قال إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله فإن محمدا ﷺ رسول الله وبيعته عن مرسله ليست بيعة لنفسه والجزاء على مرسله ولهذا قال ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما
وأما استشهاده بقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فمن هذا الجنس وهو قد سبقه إلى هذا المعنى الذي توهمه طائفة من الجهال وذلك أن الله تعالى لم يضف الرمي هنا إلى نفسه لمجرد كونه خالقا لأفعال العباد فإن هذا قدر مشترك بين رمي النبي ﷺ وسائر أفعاله غير الرمي وبين رمي غيره من الناس وبين أفعالهم فإن فعال العسكرين يوم بدر خلقها الله تعالى كما خلق سائر أفعال الحيوان لو جاز أن يقال إن الله رمى لكونه خلق حركة العبد لقيل إنه يكر ويفر ويركب ويعدو ويصوم ويطوف ونحو ذلك لكونه يخلق ذلك
وقد روي أن المحاصرين لعثمان رضي الله تعالى عنه كانوا يرمونه بالحجارة فقال لم ترموني فقالوا لم نرمك ولكن الله رماك قال كذبتم لو رماني الله لأصابني وأنتم ترمونني ولا تصيبونني وهو صادق في ذلك فإن الله تعالى لما رمى قوم لوط وأصحاب الفيل أصابهم ولكنهم هم رموا عثمان
والله تعالى يقول وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى لأن النبي ﷺ أخذ حفنة من تراب أو غيره فرمى بها المشركين فأصابت عيونهم وهزمهم الله تعالى بها ولم يكن في قدرة النبي ﷺ ذلك بل الله تعالى أوصل ذلك إليهم
والرمي له طرفان خذف بالمرمي ووصول إلى العدو ونكاية فيهم والنبي ﷺ فعل الأول والله فعل الثاني
والمعنى ما أوصلت الرمي إذ خذفته ولكن الله أوصله وهزمهم به فالذي أثبته الله لنبيه غير الذي نفاه عنه وقد أثبت له رميا بقوله إذ رميت ونفى عنه رميا بقوله وما رميت وكان هذا غير هذا لئلا يتناقض الكلام
ولو كان المراد كما ظنه هذا وأمثاله ممن يحتج بهذه الآية على أن الله خالق أفعال العباد ويضحك المعتزلة وغيرهم من القدرية عليه إذا احتج بهذه الآية ولو كان المراد لساغ أن يقال مثل هذا في جميع أفعال العباد فيقال ما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب وما ظننت إذ ظننت
ولكن الله ظن وما أكلت إذ أكلت ولكن الله أكل لكان يقال لكل من رمى بالقوس وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ويقال للكفار إذا رموا المسلمين ما رميتم إذ رميتم ولكن الله رمى وأشباه هذا مما لا يقوله مسلم ولا عاقل
ثم إن الله تعالى ذكر هذه الآية لبيان نعمته على نبيه وعلى المؤمنين يوم بدر وما أيدهم به من النصر فلو أريد كونه خالقا لفعله لكان هذا قدرا مشتركا بين جميع الناس بل لا بد أن يكون لرميه خاصة يعجز عنها الخلق فعلها الله تأييدا لنبيه ونصرا له وإنعاما عليه وعلى المؤمنين فتبين أن هذه الآية حجة عليه لا له كالأولى وأن الله تعالى فرق بين فعل الخلق وفعل نفسه ولم ينزل أحدا منزلة نفسه في الأفعال
ومما يبين ذلك أن أفعال العباد لا يجوز أن تنفى عنهم باتفاق المسلمين من قال إن الله تعالى خالقها ومن قال إنه لم يخلقها لا يجوز أن يقال هذا ما أكل ولا شرب ولا قعد ولا ركب ولا طاف ولا ركع ولا سجد ولا صام ولا سعى ولكن الله هو الذي أكل وشرب وقعد وركب وطاف وركع وسجد وصام وسعى
وسواء كانت الأفعال محمودة أو مذمومة وسواء كانت سببا لخرق العادة أم لا فلا يقال إن موسى ما ضرب بعصاه البحر ولا الحجر ولكن الله ضرب ولا يقال إن نوحا ما ركب في السفينة ولكن الله ركب ولا يقال إن المسيح ما ارتفع إلى السماء بل الله ارتفع ولا يقال إن محمدا ﷺ ما ركب البراق بل الله ركب وأمثال هذا
فالفعل المختص بالمخلوق لا يضاف إلى الله تعالى إلا على بيان أن الله تعالى خلقه وجعل صاحبه فاعلا كقول الخليل عليه السلام رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي
وكما قال ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك
وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
وقال وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار
ولا يقال إن الله يقيم الصلاة ويدعو إلى النار ولا إنه قد أسلم
وقال تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ولا يوصف الله تعالى بالهلع والجزع
وجماع الأمر أن الله عز وجل لا يوصف بمخلوقاته وهذه هي أدلة السلف وأهل السنة على أن كلام الله تعالى غير مخلوق قالوا:
لأنه سبحانه لا يوصف بما خلقه في غيره فإذا خلق في غيره حركة أو طعما أو ريحا أو لونا كالسواد والبياض لم يوصف بأنه هو المتحرك بها ولا بأنه متروح أو أبيض أو أسود وإذا خلق في غيره كلاما لم يوصف بأنه هو المتكلم به
ويعبرون عن ذلك بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره واشتق لذلك المحل منه اسم ولم يشتق لغيره فإذا خلق في محل حركة أو علما أو قدرة كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر لا الخالق لتلك الصفة فيه
وأورد المعتزلة نقضا على هذا صفات الأفعال فقالوا هو عادل بعدل خلقه في غيره
فأجاب أئمة السلف رحمهم الله وجمهورهم بطرد الدليل بناء على أن الفعل غير المفعول واستدل الإمام أحمد وغيره بقول النبي ﷺ أعوذ بكلمات الله التامات قالوا وهو لا يستعيذ بمخلوق وطرد هذا قوله اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك فالنبي ﷺ استعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه وبكلماته
وهذا مذهب جمهور المسلمين أن الخلق غير المخلوق وهو المنقول عن السلف والأئمة كما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال وهو الذي ذكره البغوي صاحب شرح السنة وهو الذي ذكره الكلاباذي أنه اعتقاد الصوفية وهو قول الكرامية وكثير من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة وجهور أصحاب مالك والشافعي وأحمد لا من وافق منهم الأشعري وغيره الذين يقولون الخلق هو المخلوق كما اختار ابن عقيل وغيره وهو أول قول القاضي أبي يعلى ثم رجع عنه وهو اختيار أبي المعالي الجويني وغيره وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالمخلوقات فلا يوصف بما خلقه في غيره من الصفات وإن كانت صفات كمال فكيف يوصف بما خلقه في غيره من أفعال العباد وتجعل الأفعال القائمة بالمخلوقات صفات له يشتق له منه أسماء فهذا مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول مناقض للقواعد والأصول ولكن بعض من ناظر القدرية في هذا المقام انحرف كما انحرف وقابل باطلا بباطل ورد بدعة ببدعة
والذين يصفون الله تعالى ببعض المخلوقات صنفان صنف غلطوا في الصفات وصنف غلطوا في القدر
فالأول الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون إن كلام الله مخلوق فوصفوه بما خلقه في غيره
وكذلك يقولون رضاه وغضبه هو ما يخلقه من الثواب والعقاب وإرادته خلقها لا في محل كما تقوله المعتزلة من البصريين فيصفونه بمخلوقات بائنة عنه
والصنف الثاني الجهمية الجبرية الذين قالوا إن أفعال العباد نفس فعله وفعله هو مفعوله كما يقوله الجهم بن صفوان وأتباعه كالأشعري ومن وافقه وهؤلاء لم يثبتوا له فعلا قائما بنفسه غير المخلوقات المباينة له فإذا كان خالق أفعال العباد لزم أ ن تكون هي فعله ولا تكون فعلا لغيره وحينئذ فالصفات الفعلية التي يصفون بها الرب مثل كونه خالقا ورازقا وعادلا إنما تتصف عندهم فيها بمخلوقاته وتتصف أيضا عندهم بأفعال العباد كلها
فالجهم بن صفوان أعظم الناس وصفا له بمخلوقاته في كلامه وأفعال العباد وغير ذلك والمعتزلة وافقوه في الكلام ونحوه من الصفات دون أفعال العباد ووافقوه في فعله لغير أفعال العباد لكون أفعال العباد عندهم ليست فعلا له
فالجهية والمعتزلة متفقون على أنه يوصف بمخلوقاته لكن المعتزلة عندهم هو خلق كلامه ورضاه وغضبه وإرادته فيوصف بها ولم يخلق أفعال العباد فلا يوصف بها وأما جهم فعنده أنه خلق الجميع فلزمه أن يوصف بالجميع
والأشعري وافق جهما في المخلوقات من أفعال العباد وغيرها دون الكلام والإرادة فإنهما عنده صفات تقوم بالله لكنه وافقه على أن المخلوق هو الخلق وهو يصفه بالصفات الفعلية فوافقه على اتصافه
بالمخلوق من هذا الوجه وصار هو والمعتزلة متقابلين هو ينكر عليهم قولهم في الكلام والإرادة وأصاب في إنكاره عليهم وهم ينكرون عليه قوله في أن أفعال العباد فعله وهم وإن أصابوا في هذا الإنكار لكنهم ينكرون أن يكون مخلوقا وهذا منكر
والأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة وكسبا ولكن يقول قدرته لا تأثير لها في المقدور وما أثبته من الكسب لا يتحقق الفرق بينه وبين الفعل فكان حقيقة قوله في أفعال العباد هو معنى قول جهم
وأما السلف وأئمة الفقهاء وأهل الحديث وجمهور المنتسبين إلى السنة وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والكرامية وغيرهم فسلموا من هذه الأقوال الفاسدة ولم يصفوا الله بمخلوقاته وإنما وصفوه بما يقوم به من صفاته وأفعاله
وأما الحلولية الذين يصفونه ببعض أفعال المخلوقات كما تقوله النصارى في المسيح والغالية في الأئمة والشيوخ والقائلون بالحلول العام كقول ابن عربي
وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه
فهؤلاء فساد قولهم أظهر من هذا كله وقوله هذا المتخلف يرجع إلى قول هؤلاء وإن كان قد لا يلتزمه لو عرف أنه يلزمه
وأما الخبر الذي استشهد به من قوله استطعمتك فلفظه في الصحيح يقول الله تعالى عبدي جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
وهذا الخبر ليس فيه فعل للعبد وإنما فيه جوعه ومرضه ولكن ظن أن لفظة استطعمتك وأنه جعل استطعام العبد استطعام الرب
وأيضا فالخبر مقيد لم يطلق الخطاب إطلاقا وإنما بين أن عبده هو الذي مرض وهو الذي جاع وقال لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ولم يقل لوجدتني أكلته وقال لو عدته لوجدتني عنده ولم يقل لوجدتني إياه
والحديث خطاب مفسر مبين أن الرب عز وجل ليس هو العبد ولا صفته صفته ولا فعله فعله أكثر ما فيه استعمال لفظ الجوع والمرض مقيدا مبينا للمراد فلم يطلق الخطاب إطلاقا
وأيضا فقد علم المخاطب أن الرب تعالى لا يجوع ولا يمرض فلم يكن فيه تلبيس لا من جهة السمع ولا من جهة العقل بل المتكلم بين فيه مراده والمستمع له لم يشتبه عليه بخلاف ما إذا أضيف لفعل العبد الذي يمكن منه الفعل والفعل قد قام به فإنه إذا جعل فعله فعل الرب لم يعقل هذا إلا إذا أريد أنه خالقه وإذا أريد ذلك فالصواب أن يقال فعل العبد مخلوق للرب تعالى ومفعول له لا يطلق أنه فعله لما فيه من التلبيس ولما فيه من نفي فعل الرب ولما فيه من نفي كون العبد فاعلا
ثم إنه لا فرق في ذلك بين المقربين وغير المقربين بهذا الاعتبار بل قال الله تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا كما قال تعالى إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ونوح عليه السلام محمود مقرب والشياطين أعداء الله
وقال تعالى بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد
كما قال تعالى بعث في الأميين رسولا منهم
وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله
وكما أنه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فيخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن وقد خلق المؤمن والكافر والبر والفاجر وخلق الدواب والنبات كلها طيبها وخبيثها فجهة الخلق عامة شاملة فلو كان قوله يبايعونك وقوله ولكن الله رمى من الخلق الشامل والقيومية العامة للزم أن يقال مثل ذلك في كل مبايع ورام وإن كان من الكافرين ولم يكن في ذلك خاصة لمحمد ﷺ ولا فضل له على أحد المخلوقين
وأما حديث الأولياء فليس من هذا الباب بالكلية وإنما فيه فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي لم يقل أنا أسمع وأنا أبصر ولا أنا أبطش ولا أنا أمشي
وقد صرح بالفرق فيه بين الرب والعبد من وجوه متعددة كقوله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ففرق بين نفسه ووليه وعدوه ووليه ثم قال ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ففرق بين المتقرب والمتقرب إليه ثم قال فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به إلى آخره فلم يقل كنت إياه ولا فيه أن فعل أحدهما هو فعل الآخر ولكن أخبر أن إحسان العبد وفعله يقع به لأن العبد إذا صار موافقا لله فيما يحبه ويرضاه يحب ما يحب ويبغض ما يبغض ويرضى بما يرضى ويأمر ما يأمر وينهى عما ينهى صار الإيمان به ومعرفته وتوحيده في قلبه فإحساسه وأفعاله تقع به
وهذا ما في القلب نظير قوله في ما في اللسان أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه فقال تحركت بي وإنما تتحرك باسمه
كذلك قوله فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي أي بما في قلبه من الإيمان بي وقد يسمى هذا المثال العلمي وهذا كثير في الكلام كقول القائل
ساكن في القلب يعمره... لست أنساه فأذكره
وقال الآخر
ومن عجبي أني أحن إليهم... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقد يسمى هذا حلولا لحلول معرفته ومحبته في العارف المحب وقد غلط بعض الناس فظن أن ذات المعلوم المحبوب محل وهذا غلط كما غلط من قال بحلول ذات الرب سبحانه وتعالى في بعض عبيده كالنصارى ومن ضاهاهم من غلاة الشيعة وجهال الصوفية
الوجه الثاني قوله فإذا غلب على المقرب شهود القيومية ورؤية التوحيد كما جاء في مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه نطق برد الأشياء إلى خالقها وغلب ذلك على نطقه
فيقال مشهد القيومية يشهد فيه أن الله خالق كل شيء وهذا الشهود العام يتناول ما دخل من إيمان وكفر
وأما الإحسان الذي فيه أن تعبد الله كأنك تراه فهذا مقام من يميز بين المحظور والمأمور فإن العبد إذا صار كأنه يشاهد ربه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ووالى أولياءه وعادى أعداءه وهذا مشهد الإلهية الذي دعت إليه الرسل حيث أمروا بعبادة الله وحده وطاعته وليس هذا هو مشهد القيومية ولكن من هو أكبر من هذا الرجل غلطوا في هذا فغلط مثل هذا لا ينكر لا سيما كثير من الشيوخ المعظمين عند هذا وأمثاله فإنهم لا يفرقون بين هذا وهذا بل يعدون نهاية العارفين الفناء في توحيد الربوبية والاصطلام في شهود القدر الجاري
ويقول أحدهم إن مشاهدة العارف المنتهي في القربة لحكم الله الذي هو مشهد مشيئته العامة لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة
وقد يقول أحدهم هذا العارف يكون الجمع في قلبه مشهودا والفرق على لسانه موجودا
ومرادهم بالجمع شهود القدر وهؤلاء غاية تحقيقهم شهود التوحيد الذي أقر به عباد الأصنام فإن عباد الأصنام من العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه كما أخبر الله عنهم في القرآن في غير موضع كقوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون
وقال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم احتجوا في ذلك بقوله تعالى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية وقد ظن طائفة من المثبتين للقدر أنهم قالوا هذا على سبيل التكذيب بالقدر والاستهزاء به لقوله كذلك كذب الذين من قبلهم وبهذا أجاب القدرية لما احتججت عليهم بهذا الآية
وهذا غلط فإن العرب كلهم كانوا يثبتون القدر ويقرون أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فلم يكونوا مكذبين بذلك ولا ذمهم الله سبحانه على التكذيب بالقدر بل على الاحتجاج به على إبطال الأمر والنهي
وقوله كذلك كذب الذين من قبلهم أي كذبوا بالأمر والنهي الذي جاءت به الرسل فإن هذا هو تكذيب الذين من قبلهم الذي ذكر الله في القرآن ولهذا قال قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي فإن المحتج بالقدر لا يحتج به إلا إذا لم يكن عنده علم بل يتبع هواه فإنها حجة متناقضة إذ لو احتج عليه بالقدر لما قبل هو ذلك منه وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
فمن كان غاية توحيده شهود القيومية والربوبية العامة كان قد شهد ما أقر به المشركون ولم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإنما يشهد ذلك من شهد الفرق بين المأمور والمحظور وبين أولياء الله وأعدائه وبين توحيده والإشراك به وعبد الله كأنه يراه وهذا شهد الفرق في الجمع فهو مع شهوده القيومية يشهد أنه الإله المستحق للعبادة دون ما سواه ووجوب طاعة رسوله ﷺ وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ويستعينه على فعل ما أمر وترك ما حظر وشهوده أنه خلق الملائكة والشياطين لا يحجبه عن أن يشهد أن الملائكة والأولياء والشياطين أعداد وكذلك شهوده أنه خالق أفعال العباد لا يحجبه عن أن يشهد أنه يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضاه ويكرم أهله ويقربهم إليه وينهى عن الكفر والفسوق والعصيان ويمقت أهله ويعاقبهم فمن غلط هذا ظن أن مجرد شهود القيومية هو شهود المقربين وظن أن هذا هو عبادة الرب كأنه يراه
ومن هؤلاء من يظن أن من شهد القيومية سقط عنه الملام ومنهم من يقول إن الخضر سقط عنه الملام لشهوده القيومية
وهذا كله باطل وطرد هذا القول يجر إلى شر من أقوال اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى يميزون في الجملة بين أمور منكرة كما يميزون بين الصدق والعدل وبين الكذب والظلم وهؤلاء إذا شهدوا القيومية العامة لم يميزوا بين المعروف والمنكر ولا بين الصدق والكذب والعدل والظلم فهم في هذا النفي لا يثبتون بل يميزون تمييزا طبيعيا لا شرعيا فيفرق أحدهم بين ما هواه وبين ما لا يهواه فيطلب هذا
وينفر عن هذا ويمدح من وافق غرضه ويذم من خالف غرضه ولهذا كان هؤلاء نهاية سلوكهم هو الفناء والجمع والاصطلام لا يحبون ما أحب الله ولا يبغضون ما أبغض الله فإن الإرادة والمحبة والرضى سواء عندهم كما تقوله القدرية من المعتزلة وغيرهم لكن أولئك قالوا لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فلا يريده فيكون ما يقع من ذلك بدون مشيئته وقدرته فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون
وقال هؤلاء هو أراد الكفر والفسوق والعصيان فهو يحب ذلك ويرضاه وإن كان لا يريده دينا بل يريد تنعيم من أطاعه وتعذيب من عصاه
ثم قال هؤلاء هذا الفرق يعود إلى حظوظ أنفسهم فالعارف الفاني عن حظوظه في شهود قيوميته لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ثم قالوا والأنبياء والصديقون يقومون بالفرق لأجل العامة رحمة بهم
وهذا عندهم من التلبيس الذي أمرت به الخاصة وهم يبطنون خلاف ما يظهرون فإنه يكون الجمع في قلوبهم مشهودا والفرق في ألسنتهم موجودا فالقائم بالفرق عندهم لا يكون إلا واقفا مع حظه ملبسا بإيمانه لأجل غيره إذا لا فرق بالنسبة إلى الله تعالى عندهم
ومن عرف ما جاءت به الرسل من إثبات محبة الله تعالى ورضاه وفرحه بتوبة التائبين وسخطه وغضبه ومقته لمن عصاه وعرف أن الفرق ثابت بالنسبة إلى مع شمول المشيئة لكل واقع صار على ملة إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا فأحب الله وأحب ما يحبه الله كان متابعا لما أمر الله تعالى به وأحبه ورضيه ولم يكن مع مجرد الإرادة فإن هؤلاء دخلوا بإرادة أنفسهم فانتهوا إلى الإرادة الخلقية
ومن دخل بالإرادة التي هي أمر الله ونهيه مصدقا لما أخبر به الرسول ﷺ من الفرق الثابت في كتاب الله وأفعاله كان على دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل كتبه على ملة إبراهيم عليه السلام ودين محمد ﷺ
ومن لم يقل بالفرق في نفس الأمر فإنه خارج عن حقيقة الإيمان كما أنه خارج عن شريعة الإسلام فليس معه حقيقة إيمانية ولا شريعة إسلامية وإنما معه حقيقة خلقية قدرية أقر بها عباد الأصنام الذين هم مشركون وذلك أن شهود القيومية بلا جمع ممتنع طبعا وشرعا فمن لم يشهد الفرق الشرعي الإلهي وإلا كان مع الفرق الطبيعي النفساني أو مع فرق آخر شيطاني فمن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين وذكر الرحمن يراد به الذكر الذي أنزله الله تعالى كما قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
فمن أعرض عن هدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه فلم يفرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه كان معرضا عن ذكره المنزل فيقيض له شيطانا يصده عن سبيل الله فيفرق بمجرد هواه ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله
ولو كان مثل هذا ذاكرا لله ولم يشهد إلا القيومية العامة لم يشهد ما جاء به الكتاب المنزل من الفرق فإنه يكون من أعظم أتباع الشياطين ولهذا يوجد الشيوخ والعباد والزهاد من هؤلاء يتبعون شياطين الإنس والجن فيكون أحدهم من خفراء الكفار وأعوانهم ومنهم من يحسن الظن بالكفار وأعوانهم ونظرائهم فيحسبهم من أولياء الله المتقين لا سيما إن رأى من الأحوال الشيطانية ما يقويه مثل أن يخبره ببعض الغائبات أو يحصل له نوع من التصرفات فيطير به الشيطان في الهواء ويحضر له طعاما وغير ذلك كما كان يحصل لعباد الأصنام مع الشياطين
وهذا التوحيد توحيد الربوبية العامة كان المشركون يقرون به فهو وحده لا ينجي من النار ولا يدخل الجنة بل التوحيد المنجي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بحيث يقر بأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة دون ما سواه وأن محمدا رسوله فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن عصى الرسول فقد عصى الله فيحل ما حلله الله ورسوله ويحرم ما حرمه الله ورسوله ويأمر بما أمر الله به ورسوله وينهى عما نهى الله عنه ورسوله
وهذا المقام غلط فيه كثير من السالكين لم يميزوا بين الأول والثاني من توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية ولو طردوا قولهم لخرجوا عن الدين كما تخرج الشعرة من العجين وإنما طرده حذاق الملحدين منهم الذين يقولون السالك يشهد أولا طاعة ومعصية ثم ثانيا يشهد طاعة بلا معصية وهو شهود القيومية ثم لا تبقى طاعة ولا معصية وهو مشهد الوحدة عندهم ولهذا يقول بعض شيوخ هؤلاء أنا كافر برب يعصى ويقول لو قتلت سبعين نبيا ما كنت مخطئا
ويقول الآخر وهو ابن عربي
الرب حق والعبد حق... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت... أو قلت رب أنى يكلف
والكلام مبسوط في غير هذا الموضع وإنما الغرض التنبيه على موضع الغلط والاشتباه
الوجه الثالث قوله إن المقرب إذا غلب عليه هذا نطق برد الأشياء إلى خالقها وغلب ذلك على نطقه
فيقال سيد المقربين محمد ﷺ وهو الذي قاتل الكفار وكان يأمر بقطع يد السارق ورجم الزاني وجلد الشارب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث فلو غلب عليه مشهد القيومية وأن الأشياء جميعها مخلوقة لله ولم يشهد ما فيها من الفرق لما كان ينبغي أن يأمر أحدا ولا ينهى أحد اولا يقتل أحدا ولكان ينبغي أن يرد كفر الكافرين وفسق الفاسقين إلى الخالق كما قال في قوله ﷺ ولكن الله حملكم وبين أن يقال والعياذ بالله تعالى ولكن الله كفر وزنى وسرق وشرب الخمر فهل يقول هذا مؤمن أو عاقل
وقوله ﷺ ولكن الله حملكم سنذكره إن شاء الله تعالى وإلا فمشهد القيومية شامل لجميع الفعل وإن فرق بين خلق الله لحملهم ولكلامهم ولفعلهم ولتكذيب المكذبين أفترى الرسول ﷺ ما كان يشهد القيومية في بعض الأشياء وهو أعلم الخلق بالله ومشركو العرب كانوا مقرين بأن الله رب كل شيء وهم يقرون بمشهد القيومية
الوجه الرابع أن يقال له من من المقربين كان يقف عند مشهد القيومية فيرد جميع الأفعال إلى الخالق من غير أن يشهد أنها أفعال لفاعليها يستحقون عليها المدح والذم والثواب والعقاب
وهذا القرآن ينطق عن جميع الأنبياء والمرسلين وهم سادات المقربين بأنهم كانوا يفرقون بين المعروف والمنكر والإيمان والكفر والتوحيد والشرك ويأمرون بعبادة الله وحده وينهون عن عبادة ما سواه ولو لم يشهدوا إلا القيومية التي ترد فيها الأفعال إلى خالقها لم يأمروا ولم ينهوا ولم يمدحوا يذموا فإن العبد لا يأمر الله ولا ينهاه ولا يذمه ولا يعاقبه والأنبياء كلهم على شهود الفرق ومدح المحسن وذم المسيء وإن كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فشهود القيومية العامة لا يناقض أن يفعلوا ما أمروا به وأن يأمروا الخلق بعبادة الله وحده وينهوهم عن عبادة ما سواه بل عامة بني آدم من المسلمين والكفار يقرون بالقدر وبهذه القيومية وهم مع هذا يثبتون الفرق بين المطلوب والمرغوب ويمدحون من فعل ما يوافق مرادهم ويذمون من خالف ذلك ولا يرون الإقرار بالقيومية مناقضا لذلك
الوجه الخامس قوله فيكون المعنى حينئذ كما وردت به الآية أن البيعة وإن كانت له في الصورة فهي مع ربه في المعنى وكذا ما كان من الرمي فكأنه يقول الاستغاثة وإن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى إنما المستغاث به الله عز وجل
فيقال قد تقدم بيان فساد أصل هذا الكلام
ثم نقول قوله هي مع ربه في المعنى أتريد به أن الله سبحانه وتعالى هو المرسل له الذي أمره أن يبايعهم على الجهاد وأمرهم بالجهاد وهو الذي ثبتهم على الوفاء أم تريد أن الله هو الذي خلق البيعة فإنه خالق كل شيء والقيومية شاملة كل شيء أم تريد به معنى ثالثا
فإن أردت الأول فهو صحيح ولكن يناقض قولك فإن هذا مختص بمن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه لم ينزل الله أحدا منزلة نفسه في الأفعال ولا جعل الله أفعال محمد ﷺ كصومه وصلاته وحجه واعتماره وجهاده ونكاحه وأكله وشربه ودعائه وتضرعه فعلا له ولا جعل نفس مبايعته للمؤمنين فعلا له بل جعل المبايع له إنما يبايع مرسله والجزاء عيله كما جعل من أطاعه فقد أطاع الله فهذا خاص ليس عاما في كل أفعاله
وأيضا فلم يجعل هذا الفعل فعل الله بل أخبر أن محمدا رسول الله يبايع عنه والمبايعة لمرسله في الأصل كما أن الطاعة طاعة لمرسله في الأصل وكما أن معاملة الوكيل معاملة مع موكله وليس في هذا إسقاط فعل الوكيل عنه عن أن يكون وكيلا وإنما فيه إثبات النيابة له عن غيره
وإن أردت أن الله خالق بيعته فهذا المعنى صحيح عند أهل السنة المثبتة للقدر الذي هو خلق الله خلافا لنفاته ولكن إذا فسرت الآية بهذا سويت بين الأنبياء والشياطين وبين آدم وإبليس وبين موسى وفرعون وبين أولياء الله وأعدائه ولزمك أن تقول كفر الكافرين في الصورة ولربهم في المعنى أو لعنته للكفار هي للكفار في الصورة ولربهم في المعنى
وأيضا فيقال لك المبايعة فيها فعل من الرسول وفعل من الصحابة فعلى هذا التقدير يلزمك أن يكون الله بايع في المعنى لأنه خالق للأفعال وإلا فإذا جاز أن يقول البيعة له في الصورة ولربه في المعنى لكون الله خالقه وخالق فعله لزمك أن تقول بيعته لهم بيعة لله في المعنى لأن الله تعالى خلقهم وخلق أفعالهم ويلزمك على هذا التقدير أن تقول إن الذين بايعتهم إنما بايعت الله وطرده أن من قاتل شخصا فإنما قاتل الله ومن بايعه فإنما بايع الله بل يلزمهم أقبح من هذا وهو أن من لامسه أو جامعه أو ضاجعه فإنما يفعل ذلك مع الله فإن أصل هذا القول أن الله لما كان خالقا لأفعال العباد كان الفعل لهم في الصورة وله في المعنى وهذا عام في كل الأفعال الخير والشر وإن أردت معنى ثالثا فبينه
الوجه السادس قوله البيعة وإن كانت في الصورة له فهي مع ربه في المعنى إذا لم يرد معنى الإرسال والتبليغ المختص بالأمر والنهي كان مقتضاه أن الرسول لم يفعل شيئا ولا بايع ولكن الرب سبحانه هو الذي فعل ذلك في المعنى وهذا وإن أريد به خلق الأفعال فقد تقدم بيان بطلان إرادة ذلك هنا وإن أريد به خلق الحلول بأن يكون الرب سبحانه هو المتكلم على لسان الرسول كما أن الجني يتكلم على لسان المصروع وفي الباطن للجني فهذا هو الكفر الصريح وهذا مذهب النصارى
وهؤلاء يشبهون بالنصارى في كثير من أمورهم ولهذا سلط الله عليهم النصارى يهينونهم كما أهانوا أهل هذا الشخص وأمثاله وكنت أقول لهم إن الله وعد بنصره المؤمنين على الكافرين وأنتم مشابهون للنصارى وفيهم من هو أكفر من النصارى وأعظم إلحادا ونفاقا من النصارى وكثير من بغضهم للنصارى إنما هو لهوى وحظ كونهم لهم في الدنيا رياسة ومال كثير أكثر منهم لا يبغضونهم لأجل كفرهم ودينهم إذ كانوا مشاركين لهم في كثير مهم منه وبعضهم أشد كفرا ونفاقا من النصارى وبعض النصارى أكفر منهم وطائفة من شيوخهم يميلون إلى النصارى أكثر من المسلمين ويأمرونهم بالبقاء على دينهم ويقولون إذا صرتم محققين على طريقتنا فلا حاجة لكم إلى الإسلام بل دوموا على النصرانية
ثم إن الآية يمتنع أن يراد بها الحلول فإنه قال يد الله فوق أيديهم ويد النبي ﷺ كانت مع أيديهم لا فوقها فلم تكن يده يد الله ولأنه قال ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ولم يقل فإنك تؤتيه وقال لقد رضي الله عنها المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ولم يقل إنك أنت علمت ما في قلوبهم ولا أنزلت السكينة عليهم
الوجه السابع قوله فكأنه يقول الاستغاثة وإن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى وإنما المستغاث به الله فيقال إنه لم يقل لم تستغيثوا بي وإنما استغثتم الله ولكن قال إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله وهذا نفي للمستقبل لا للحاضر
الوجه الثامن إن يقال هذا الرجل فسر الاستغاثة بالتوسل كما تقدم قوله إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به سواء كانت بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيره
وقال قول القائل أتوسل إليك برسولك وأستغيث برسولك
عندك أن تغفر لي استغاث بالرسول حقيقة في لغة جميع الأمة وهذا الكلام وإن كان باطلا كما تقدم فالمقصود هنا أنه جعل الذي يسأل الله به مستغيثا به وهنا قد جعل الاستغاثة بسؤاله فقد جعل المستغيث به مستغيثا بالله
فالمعنى لا يصح إذا أريد به السؤال به فإن الله تعالى هو مسؤول لا مسؤول به وحينئذ فما قال في الاستغاثة به هنا يناقض ما تقدم إلا أن يجعل الاستغاثة تعم النوعين فيلزمه أن يجعل كل من سأل النبي ﷺ شيئا فإنما سأل الله ويلزمه ذلك في غيره وحينئذ فيسأل المخلوق كما يسأل الخالق وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن مسلم
الوجه التاسع أنه لو صح هذا النفي والإثبات باعتبار القيومية لقيل هذا لكل من كان كذلك
فيقال لمن بايع الناس كلهم وواجرهم وشاركهم إنك إنما بايعت الله وواجرت الله وشاركت الله
ويقال للذي استغاث بموسى الذي قال الله تعالى فيه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه إنه لم يستغث بموسى وإنما استغاث الله تعالى
ويقال لمن استنصر المؤمنين الذين قال الله تعالى فيهم وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إنما استنصروا الله والنصر على الله
ويقال في قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى واتقوا الله يعين
وقد خاطبني مرة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال لما قدم التتار آخر قدماتهم وكنت أحرض الناس على جهادهم فقال لي هذا الشيخ أقاتل الله فقلت له هؤلاء التتار هم الله وهم من شر الخلق هؤلاء إنما هم عباد الله خارجون عن دين الله وإن قدر أنهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله ويكون الله يقاتل الله وقول هذا الشيخ لازم لهذا وأمثاله
الوجه العاشر أن يقال إذا كان الأمر كما ذكرته من شهود القيومية فأي مدح في هذا لرسول الله ﷺ وأي فائدة في هذا القول أو ترى الصديق والصحابة ما كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء ومليكه وأن العبد لا يمكنه أن يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته
الوجه الحادي عشر أن ما كان من هذا الباب لا يجوز فيه نفي الفعل عن العبد فلأنه مكابرة للحس ولو على مذهب الجبرية بل إذا أريد نفي الواقع فلا بد من قرينة تبين المراد والحديث مطلق ليس فيه قرينة
الوجه الثاني عشر وأما حديث أبي موسى الأشعري وقوله ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم لم يرد به النبي ﷺ كون الله خالق أفعال العباد فإن هذا يتناول هذا الفعل وغيره من الأفعال ومعلوم أنه لم يقل لم أركب ولكن الله ركب ولم يقل ما جاهدت في سبيل الله ولكن الله جاهد ولا سافرت ولكن الله سافر ونحو ذلك بل النبي ﷺ لما سألوه أن يحملهم قال والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه فلما ذهب أبو موسى بعث إلى رسول الله ﷺ بنهب إبل فأمر فبعث منها إلينا بخمس ذود غر الذرى فقلنا تغفلنا رسول الله ﷺ يمينه لا نفلح أبدا فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته فقال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم فلما لم يكن منه قصد ولا قدرة صح أن يقول ما حملتكم لأني لم يكن عندي ما أحملكم عليه ولكن الله حملكم بما يسره من الحمولة التي أتى بها بغير فعل مني فنفى الحمل عن نفسه وأضافه إلى الله تعالى لأنه أراد به تيسير الحمولة ولم يكن له في هذا فعل
ثم قال وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها وقال لهم هذا لما قالوا إنك حلفت أن لا تحملنا وكان قد قال ما عندي ما أحملكم عليه فبين لهم أني حلفت للعسرة والعجز وأن الله يسر بالحمولة فهو الذي حملكم ومع هذا فإني أحنث في يميني للمصلحة الراجحة وأكفر
وهذا الكلام يتضمن إما جوابين من النبي ﷺ كل منهما مستقل وإما الجواب بأحدهما كأنه يقول أنا ما حملتكم وإن كنت حملتكم فأنا أكفر وعلى الأول يقول الحمل الذي طلبتموه ما حصل مني بل من الله والحمل الذي حلفت عليه أكفر عنه
الوجه الثالث عشر قوله فإن صح هذا الحديث لا يكون كما قال من جعل الصديق بتأويله مخطئا من غير ضرورة بل يكون الحديث حثا على الاستغاثة به ﷺ فيقال أنت الذي جعلته مخطئا حيث قال إنه يستغيث بالنبي ﷺ فنفى النبي ﷺ ما أثبته وقال ليس ه هذا استغاثة بي بل بالله بل قولكم يستلزم تخطئة الرسول ﷺ حيث جعلتم من طلب من مخلوق حاجة لم يطلبها منه وإنما يطلبها من الله وهذا مكابرة للحس والشرع والعقل
وعلى ما قاله يجوز أن يقال لمن سأل كافرا حاجة واستغاث به ما سألته ولا استغثت به ويكون من قال إنه سأل كافرا مخطئا وهذا كما أنه تخطئة منهم للصديق فهي تخطئة لجميع عقلاء بني آدم من المسلمين والكفار
وأيضا فإنه لا يلزم على ما ذكر المجيب تخطئة أبي بكر الصديق فإن الصديق قد يعتقد عن النبي ﷺ في دفع ذلك المنافق بعض الأمور التي يقدر عليها البشر فبين له النبي ﷺ أنه ليس عندي في دفعه حيلة بل يستغاث الله في أمره
ومن المعلوم أن المطلوب من النبي ﷺ تارة يقدر عليه وتارة لا يقدر عليه وقد يظن السائل أنه يقدر عليه ولا يكون قادرا وكان نساؤه يسألنه النفقة أحيانا وليس عنده ما ينفق عليهن وسألته الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فقال ردوا علي ردائي فوالذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا
وحقيقة قوله لا يستغاث بي وإن كان مراده الاستغاثة الكلية كما يقال لا يستغاث بي ولا يتوكل علي ولا أدعى ولا أسأل ونحو ذلك فمراده النهي عن الطلب الذي لا يفعله إلا الله تعالى كما نهى عن السجود له وكما نهى أن يقال: ما شاء الله وشاء محمد
وقال لمن قال ما شاء الله وشاء محمد ما روي عن ابن عباس قال قال رجل للنبي ﷺ ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده
رواه النسائي وابن ماجة ورواه الإمام أحمد ولفظه أجعلتني لله عدلا بل ما شاء الله وحده
الوجه الرابع عشر أنه إذا كان هذا حثا على الاستغاثة به بناء على ماذكرت من شهود القيومية وتوحيد الربوبية وهذا عام لكل المخلوقات فينبغي أن يحث على سؤال المخلوقين والرغبة إليهم لأن السائل لهم عنده لا يسألهم إنما يسأل الله تعالى كما أن المستغيث بمخلوق لا يستغيث به إنما يستغيث بالله تعالى على زعمكم وهذا كثيرا ما يقع فيه هؤلاء الإسماعيلية الاتحادية وأعرف منهم شخصا كان معظما وكان له حاجة إلى نصراني فذهب إليه وخضع له وقبل يده ورجله وربما قبل نعله حتى قضى حاجته ثم جعل يقول ما رأيت إلا الله وما كان ذلك الخضوع والتقبيل إلا لله عز وجل
وهؤلاء يصرحون في كتبهم بأن عباد العجل ما عبدوا إلا الله وعباد الأصنام ما عبدوا إلا الله وعباد المسيح ما عبدوا إلا الله تعالى وعندهم من عبد كل معبود كان محققا موحدا وإنما المقصر عندهم من عبد بعض المظاهر دون بعض كالنصارى وعباد العجل واللات والعزى
وفي كلام ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله من هذا ألوان لكن هذا الرجل وأمثاله لم يصلوا إلى الاتحاد بل وقفوا عند القدر وهو شهود القيومية ولكن إذا جعلوا من استغاث بمخلوق فإنما استغاث بالله لأجل توحيد الربوبية وشهود القيومية لزمهم أن من سجد لمخلوق لم يسجد إلا لله ومن عبد مخلوقا إنما عبد الله ومن سأل مخلوقا إنما سأل الله
فإن قالوا الأعمال بالنيات
قيل لهم والذين قالوا نستغيث بالنبي ﷺ لم يذكروا أنهم قصدوا غيره وأنتم جعلتم ذلك بمجرده استغاثة بالله لشهود القيومية وجعلتم النبي أمر بالاستغاثة بالمخلوق لشهود القيومية فيلزمكم أن يكون الله ورسوله أمر بسؤال المخلوق والاستغاثة بالمخلوق وعبادة المخلوق بالسجود لمخلوق والخوف من المخلوق لأجل القيومية فيلزم أن يكون كل شرك حرمه الله تعالى ورسوله ﷺ قد أمر الله به ورسوله باعتبار القيومية لأن كل ما عبد من دون الله فالقيومية تتناوله فإذا كان اعتبارا مسوغا لأن يعامل المخلوق معاملة الخالق لزم أن يعامل المخلوقات كلها معاملة الخالق من دعاء وسؤال يصلي لها ويسجد لها ويعبد
الوجه الخامس عشر أن النبي ﷺ قد نهى عن سؤال المخلوقين لغير ضرورة ومدح من لا يسأل الناس شيئا فقال من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته كدوشا أو خموشا في وجهه يوم القيامة
وقال لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي ليس في وجهه مزعة لحم
وقال لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع
وقال أيضا في حديث قبيصة بن مخارق إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة الغارم والذي أصابته جائحة اجتاحت ماله والذي أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة
وقال في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون وحديثهم في الصحيحين فمدحهم على ترك الاسترقاء
وقد روي في بعض ألفاظه لا يرقون ولم يذكره البخاري فإنه لا يثبت وإن رواه مسلم ومعلوم أن المسترقي يقول لغيره ارقني فيطلب من غيره الرقية
وإن كان شهود القيومية معتبرا في سؤال الخلق وجب أن يكون المسترقي إنما سأل الله وكان يكون مأمورا بالاستغاثة بالخلق باعتبار مشهد القيومية وقد قال الله تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب
فإن كان مشهد القيومية معتبرا في هذا الباب كان كل من سأل مخلوقا فإنما رغب إلى الله فلا ينهى عن ذلك بل يؤمر بالرغبة إلى الخالق والله تعالى قد وصف الفقراء الممدوحين بأنهم لا يسألون الناس إلحافا وسواء كان المعنى أنهم لا يسألون الناس أو يسألون الناس ولا يلحفون فإن كان مشهد القيومية معتبرا هنا وجب أن يؤمر بسؤال الخلق والإلحاح في مسألتهم فإنهم إنما يلحفون في مسألة الله تعالى والله يحب الملحين في الدعاء وهذا باب واسع
الوجه السادس عشر أن النبي ﷺ قد مدح من لا يسأله وفضله على من يسأله بل ذم كثيرا من سأله فقال من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا
وقال يسألني أحدهم المسألة ويخرج بها يتأبطها نارا قالوا: يا رسول الله فلم تعطهم فقال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل
وقال والذي نفسي بيده ما من أحد يسألني شيئا فتخرج له المسألة ما لم أكن أعطيه فيبارك له فيه
أو كما قال لحكيم بن حزام في الحديث الصحيح الذي أخرجاه في الصحيحين قال سألت رسول الله ﷺ فأعطاني ثم سألته فأعطاني
ثم سألته فأعطاني ثم قال يا حكيم ما أنكر مسألتك إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع قال حكيم فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا هذا لفظ رواية البخاري
وفي رواية ولا تكون يد أحد من العرب فوق يدي أبدا
فكان أبو بكر وعمر يعطيانه حقه من بيت المال فلا يأخذه
فإن كان النبي ﷺ على زعم هذا قد جعل من استغاث به فإنما استغاث بالله وقد حضه على ذلك كمن سأل الله فيلزم أن يحض الناس على سؤاله والأمر بالعكس بل مدح من لم يسأله وذم كثيرا ممن سأله
وأما الوجه الثاني وهو قوله إنه يصح أن يراد أنه لا يستغاث بي على وجه التأثير والاقتدار إنما ذلك لله وفائدة التنبيه على ذلك أن لا يتعلق به ﷺ أحد في الانتصار به من جهة السببية الظاهرة كما يتعلق الناس بالأسباب على الغفلة بل يكون تعلقهم بالنظر إلى جانب الربوبية فيه ومكانته عند ربه فيكون ذلك كما قال من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس الخبر
فالجواب عنه من وجوه
أحدها أن هذا الذي ذكره موافق في المعني لما ذكره المجيب فإنه لا ريب أنه يجوز أن يسأل النبي ﷺ أمورا ويستغاث به في أشياء بل يجوز هذا في حق غير النبي ﷺ وقد قال في أول الجواب أجمع المسلمون على أن النبي ﷺ يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة واستفاضت به السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع أيضا لعموم الخلق وأجمعوا على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته كما في حديث عمر رضي الله تعالى عنه اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا فتسقينا
والذي ذكره عمر قد جاء مفسرا في سائر أحاديث الاستسقاء وهو من جنس الاستشفاع به وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة ويطلب من الله أن يقبل دعائه وشفاعته فينا وأن يقدم بين أيدينا شافعا وسائلا بأبي هو وأمي ﷺ فقد بين أنه يجوز سؤاله والطلب منه وهو الاستغاثة ومعلوم أن هذا من جملة الأسباب التي تفعل على جهة التسبب مع التوكل على الله تعالى عز وجل لا يطلب من مخلوق شيء على جهة أنه مستقل بالقدرة والتأثير فإن الاستقلال من خصائص الرب جل وعلا
وإذا كان هذا الوجه متفقا عليه فحمل الحديث عليه لا يضر وحينئذ فالمطلوب منه إما أن يكون قادرا عليه وإما أن لا يكون قادرا فإن كان قادرا طلب على هذا الوجه وإن لم يكن قادرا عليه طلب من الله
ولا منافاة بين المعنيين لكن ظاهر لفظ الحديث إن صح يقتضي أنه لم يكن قادرا على دفع ضرر ذلك المنافق وأنه أمرهم أن يستغيثوا فيه بالله تعالى
الوجه الثاني أن يقال الأسباب المخلوقة ولمشروعة لا تنكر والأسباب المشروعة تفعل مع التوكل على الله تعالى لكن لم قلتم إن الاستغاثة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق هو من الأسباب المشروعة والكلام إنما هو في هذا وهذا هو الذي نهى عنه
فالجواب حيث قيل فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من غيرهم فلا يجوز أن يقال لغير الله اغفر لنا واسقنا الغيث وانصرنا على القوم الكافرين أو اهد قلوبنا ونحو ذلك ثم ذكر الحديث المذكور فبين أن المنهي عنه أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق
والطالب من النبي ﷺ قد يظن أنه يقدر على قضاء حاجته ولا يكون كذلك كما كان سأله الناس إما نساؤه وإما غيرهن ما ليس عنده وكما كان الناس يأتونه في غزوة تبوك ليحملهم فلا يجد ما يحملهم عليه
قال تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون وكما سأله أبو موسى الأشعري وأصحابه الأشعريون أن يحملهم فقال والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه وكان هؤلاء الأشعريون من خيار الصحابة ظنوه قادرا على حاجتهم ولم يكن كذلك
وفي الصحيحين أن فاطمة ابنته جاءت تسأله خادما فأتاها بعد أن نامت هي وعلي رضي ا لله عنهما فعلمها أن تسبح وتحمد وتكبر وقال ذلك خير لك من خادم ولم يعطها
وقد قال الله تعالى وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا فأمر الله تعالى إذا لم يجد ما يعطي السائل أن يقول له قولا ميسورا
وفي صفته أنه ﷺ كان إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول
وقد قال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وقال تعالى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر
ولما قدم عليه وفد هوازن مسلمين سألوه أن يرد عليهم السبي والمال فقال أحب الحديث إلي أصدقه ومعي من ترون فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وأما المال
فهو تارة يسأل ما يقدر عليه وتارة يسأل ما لا يقدر عليه
فهذا الحديث إن كان صحيحا فقد سأله بعض أصحابه أن يدفع عنهم ضرر ذلك المنافق فأخرهم أنه لا يقدر عليه بل يطلب ذلك من الله تعالى
كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح عام اليرموك يستنصره على الكفار ويخبره أنه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها فلما وصل كتابه بكى الناس وكان من أشدهم عبد الرحمن بن عوف وأشار علي عمر أن يخرج بالناس فرأى عمر أن ذلك لا يمكن وكتب إلى أبي عبيدة مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة فينزلها بالله يجعل الله له فرجا ومخرجا فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم فأخبره أنه لا يمكنه أن يعاونه في هذه القضية وأمره أن يستعين بالله وإن كان قد يمكنه أن يعينه
الوجه الثالث أنه لو أريد هذا المعنى لقيل ما يدل على هذا المعنى مثل أن يقال توكلوا علي وأنا أغيثكم ولم يقل إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله فإنه قد نفى وأثبت بكلام مطلق وليس في الباب ما يدل على ما ذكر
ويظهر هذا بالوجه الرابع وهو أن أبا بكر وغيره من الصحابة أعلم بالله من أن يظنوا أنه يستقل بالإبداع والاختراع فمن حمل الحديث على هذا فقد نسب الصديق رضي الله عنه إلى غاية الضلال أين من ينزه الصديق من الخطأ ومن ينسبه إلى هذا
والنبي ﷺ نفى وأثبت وإن كان ما نفاه لم يخطر بقلوبهم فأي حاجة إلى نفيه
وإن قيل إنهم ظنوه فذلك بهتان عظيم بخلاف ظنهم أنه يقدر على دفع المكروه فإن هذا الظن قد كان يقع منهم كثيرا
وقد يكون الأمر كما يظنه الظان فليس فيه قدح لا في الصحابة رضي الله عنهم ولا في الرسول بخلاف من يقول لا تعتقدوا في أني مثل الله أقدر وأستقل بالتأثير كما يفعله الله فإن هذا المعنى لا يظنه به من هو دون الصحابة فكيف يظنونه هم
ومن أراد أن يأمر غيره بالتوكل مع السبب المأمور به لا ينهاه عن السبب بل يقول له كما قال اعقلها وتوكل وكما قال النبي ﷺ في
الحديث الصحيح احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وكما قال تعالى فإذا عزمت فتوكل على الله وكما كان النبي ﷺ يقول لمن يبعثه في السرايا ادعهم إلى الإسلام ثم الهجرة وإلا فالجزية فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم لا يقال في مثل هذا ولا يقاتل ولا تحرص على ما ينفعك
الوجه الخامس أن الحديث الذي ذكره حجة عليه وهو حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى عاجل
رواه أبو داود والترمذي وصححه
فإنزال الفاقة بالناس أن يشكو إليهم يترك الشكوى إلى الله فلو كانت الاستغاثة بالمخلوق جائزة لجاز إنزالها بالناس وقد قال يعقوب عليه السلام إنما أشكو بثي وحزني إلى الله
وقال تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب
وقال النبي ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
ورأى الفضيل بن عياض رجلا يشكو إلى رجل فقال يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك
وقال بعضهم ذكر الله الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل فالصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى إلى المخلوق والهجر الجميل الذي ليس فيه أذى والصفح الجميل الذي ليس فيه عتاب
وأما قوله المراد بالخبر التنبيه على الرجوع إلى الله تعالى بالقلب لا ترك السبب بل أن يذكر الله تعالى في ذلك السبب
فيقال الأسباب نوعان
سبب مأمور به فهذا طاعة وعبادة لله كطلب الرزق بالصناعة والتجارة 2و كدفع العدو بالقتال والأكل عن الجوع واللباس عند البرد فهذا ليس فيه إنزال الفاقة بهم ولا شكوى إليهم
وأما نفس سؤال الناس فسؤالهم في الأصل محرم بالنصوص المحرمة له وإنما يباح عند الضرورة
وتنازع العلماء هل يجب سؤالهم عند الضرورة
فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجب سؤال الخلق مع إيجابه مع غيره من الأئمة الأربعة وغيرهم الأكل من الميتة عن الضرورة فإن الله سبحانه وتعالى لم يوجب سؤال الخلق بل قد وصى النبي ﷺ طائفة من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا وكان أحدهم إذا سقط سوطه لا يقول لأحد ناولني إياه منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وصاحب الفاقة إذا أنزلها بالله تعالى أنزلها بالغني الملي العليم القدير إذا سأل الله تعالى
وقيل يجب السؤال وهذا منقول عن الثوري وهو اختيار أبي الفرج ابن الجوزي وعلى هذا قال قائل يسأل الناس ما يجب عليهم أن يعطوه إياه إما من الزكاة وإما من غيرها فإن إطعام الجائع فرض على الكفاية من الناس كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني
وقد جاء في الحديث لو صدق السائل ما أفلح من رده
ونقل المروزي عن أحمد أنه إذا علم صدق السائل وجب أن يعطيه قال تعالى والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
وإذا كان يسألهم ما أوجب الله تعالى عليهم كان بمنزلة أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه الذي جعل الله له في المال وسؤال ذي السلطان جائز كمن سأل المودع أن يرد عليه وديعته وأن يعطيه حقه من الميراث والمغنم أو نحو ذلك
وعلى هذا فليس للسائل أن يسال من لا فضل عنده وليس له أن يعتدي في السؤال على الناس وليس له أن يجزع ويعدل عن الصبر الجميل وعليه أن يرغب إلى الله تعالى ويتوكل عليه وحينئذ فلا يكون قد أنزلها بالناس مع أن القول الأول وهو عدم وجوب السؤال أظهر فإن النصوص تقتضي أن ترك سؤال الخلق أفضل مطلقا ولهذا قال النبي ﷺ في صفة السبعين ألفا هم الذين لا يسترقون
والمسترقي يطلب الرقية والدعاء من الراقي وقد قال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه فقد بين أنه كافي من توكل عليه وأنه لا بد أن يرزق المتقي من حيث لا يحتسب والميتة رزق ساقه الله إليه عند الضرورة فليس له أن يمتنع من أكله فيعين على قتل نفسه ولو أتاه مال من غير مسألة ولا إشراف نفس أخذه
وهذا كله يدل على أن سؤال الخلق والاستغاثة بهم حرام في الأصل لا يباح إلا لضرورة وهو في الأظهر أشد تحريما من الميتة فكيف يقال إنه مأمور به فيما لا يقدر عليه الخلق وهو قال أحد إن سؤال المخلوق والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى مأمور به أو مباح
ومن هنا يظهر الوجه السادس قوله والمراد به التنبيه على الرجوع إلى الله تعالى بالقلب لا بترك السبب بل أن يذكر الله تعالى في ذلك السبب
فيقال له هذا إنما يصح إذا كان السبب مشروعا فإن السبب المشروع 2لا ينافي التوكل والكلام هنا فيمن يستغيث بالخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله كما قيل في الجواب فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم
ومعلوم أن سؤال الخلق مثل هذا باطل شرعا وعقلا
فمن الذي جعل هذا من الأسباب الشرعية
ومن قال أن النبي ﷺ إذا لم يكن عنده شيء يعطيه فينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به وإذا لم يمكنه دفع العدو ينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به في ذلك
وقد تقدمت النصوص عن النبي ﷺ بأنه كان يمدح من لا يسأله مطلقا ويذم من يسأله ما لا يحب أن يعطيه ويذم من يسأله ما لا يقدر عليه فسؤاله والاستغاثة في ذلك أذى وعدوان عليه يحرم فعله معه ﷺ أعظم مما يحرم أذى غيره والعدوان عليه مع ما فيه من الشرك والجزع
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم نهوا أن يسألوه كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
هذا وإن كان في سؤال العلم أحيانا فسؤال الدنيا أولى
وقد ذم من كان يسأل الرسل الآيات قال تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل وقال تعالى يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة
ولو كان يجوز السؤال والاستغاثة به في كل ما يسأل الله ويستغاث به فيه كما قال هؤلاء المفترون إنه تجوز الاستغاثة به وبغيره من الصالحين في كل ما يستغاث الله فيه لم يحرم من مسألته إلا ما يحرم من مسألة الله تعالى
والعبد يجوز أن يسأل الله الرزق والعافية والنصر على الأعداء والهداية والنبي ﷺ لا يجوز أن يسأله احد كل ما يقدر عليه فضلا عن أن يسأله ما لا يقدر عليه لما في ذلك من الأذى والعدوان عليه وهو أحق بالتعزيز والتوقير من غيره فإذا كان يحرم أذى غيره بذلك فأذاه أولى بالتحريم بل أذاه كفر وأذى المؤمنين ذنب قال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
فصل
قال وكثيرا ما تنفى الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التوحيد ويثبته الباري سبحانه وتعالى في مواضع أخر اعتبارا بالأسباب وإثباتا لبساط الحكمة فيأتي هذا المبتدع فيخلط في الحقائق ويلحد في الآيات كما قال في الإغاثة والنصرة وغيرهما إنها لا تصح في الخلق ولا يسألونها ولا تضاف إليه
وأخطأ في ذلك فإن هذه الحقائق تثبت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلماء ونصوص الكتاب والسنة اعتبارا بالسبب والحكمة وتنفي عن الخلق إشارة للتوحيد وانفرادا للباري بخلقها كما انفرد بخلق غيرها
كما قال سبحانه وتعالى من بساط التوحيد وما النصر إلا من عند الله
وقال عز وجل إنك لا تهدي من أحببت
وقال إياك نعبد وإياك نستعين
ثم قال لنبيه ﷺ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
وقال وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر
وفي الصحيح انصر أخاك ظالما أو مظلوما
وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة
وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى
وفي الصحيح والله عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
وأعني على نفسك بكثرة السجود
وجمع الوجهين في قوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
فيقال في هذا الكلام من الكذب والافتراء والظلم والاعتداء والجهل والضلال ما يظهر عند التأمل
وجوابه من وجوه
الأول إن لفظ المذكور جواب المسألة التي سألها واعترض بعد جوابها قد ثبت بالسنة المستفيضة المتواترة باتفاق الأمة أن النبي ﷺ الشافع المشفع وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم
ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد
وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين إلا ما يحكى عن طائفة قليلة منهم وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفضيل
ومن أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه وكذلك من أقر بشفاعته في الآخرة وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به
كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقوا بالعباس رضي الله عنه وقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وفي سنن أبي داود وغيره أن أعرابيا قال للنبي ﷺ جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله تعالى لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال ويحك إن الله تعالى لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك وذكر تمام الحديث فأنكر
قوله نستشفع بالله عليك ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله بل أقره عليه فعلم جوازه
فمن أنكر هذا فهو مخطئ ضال مبتدع وفي كفره نزاع وتفصيل
وأما من أقر بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال إنه لا يدعى إلا الله تعالى وإن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى فلا تطلب إلا منه مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك فهذا مصيب في ذلك هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضا
كما قال تعالى ومن يغفر الذنوب إلا الله
وقال تعالى إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
وكما قال تعالى يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض
وكما قال تعالى وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله
وقال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا
فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها والعبارة الدالة على المعاني نفيا وإثباتا إن وجدت في كتاب الله تعالى وكلام رسوله وجب إقرارها وإن وجدت في كلام احد فظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه وإلا رجع إليه فيه
وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح لكن بعض الناس يفهم من تلك العبارة غير مراد الله ورسوله فهذا يرد عليه فهمه كما روى الطبراني في معجمه الكبير أنه كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر الصديق قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق فقال رسول الله ﷺ إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل
فهذا إنما أراد به النبي ﷺ المعنى الثاني وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي ﷺ يستسقي فما ينزل حتى يجيش له الميزاب
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب
ولهذا قال المصنفون في أسماء الله تعالى يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله تعالى وأن كل غوث فمن عنده وإن كان جعل ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجازا
قالوا ومن أسمائه المغيث والغياث وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قالوا جميعا وأجمعت الأمة على ذلك وقال أبو عبيد الله الحليمي الغياث هو الغيث وأكثر ما يقال غياث المستغيثين ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومريحهم ومخلصهم
وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين اللهم أغثنا اللهم أغثنا يقال أغاثه إغاثة وغوثا وهذا الاسم في هذا المعنى مجيب والمجيب المستجيب قال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال والاستجابة أحق بالأقوال وقد يقع كل منهما موقع الآخر
قالوا والفرق بين المستغيث والداعي أن المستغيث ينادي بالغوث والداعي ينادي بالمدعو وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه وفيه والاستغاثة بالرسول بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم كما أنه يستغاث بغيره بمعنى أنه يطلب منه ما يليق به ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به وإما مخطئ ضال وأما المعنى الذي نفاه الرسول ﷺ فهي أيضا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها
ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي رحمه الله استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق
وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي الشيخ المشهور بالديار المصرية وغيرها استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون
وفي دعاء موسى عليه السلام اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله
ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق صح إطلاق نفيها عما سوى الله عز وجل ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله تعالى ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله تعالى
وكذلك الاستعانة أيضا منها ما لا يصح إلا لله وهي المشار إليها بقوله إياك نعبد وإياك نستعين فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى
وكذلك الاستنصار وقال تعالى وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والنصر المطلق وهو خلق ما به يغلب العدو لا يقدر عليه إلا الله تعالى
فهذه ألفاظ جواب السؤال الذي طلب جوابه كما تقدم ذكر سؤاله وجوابه وقد ذهب إليه الجواب ووقف عليه وزعم أنه يرد عليه فافترى على المجيب بقوله إنه يخلط في الحقائق ويلحد في الآيات كما قال في الإغاثة والنصر وغيرهما إنها لا تصح من الخلق ولا يسألونها ولا تضاف إليهم وأخطأ في ذلك فإن هذه الحقائق تثبت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلماء ونصوص الكتاب والسنة اعتبارا بالسبب والحكمة وتنفي عن الخلق إشارة إلى التوحيد وانفراد الباري عز وجل بخلقها كما انفرد بخلق غيرها
كما قال تعالى من بساط التوحيد وما النصر إلا من عند الله
وقال إنك لا تهدي من أحببت
وقال إياك نعبد وإياك نستعين
وقال لنبيه ﷺ إنك لتهدي إلى صراط مستقيم
وقال وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر
وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى
فيقال المجيب لم ينفها عن الخلق مطلقا كما ذكرت بل قال وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وكذلك الاستنصار قال تعالى وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر
فقد ذكر هاتين الآيتين قبلك وفرق بين ما يضاف إلى المخلوق وما يضاف إلى الخالق من النصر والإغاثة كما فرق بين هذا وهذا في الإغاثة
فنقلك عنه النفي العام كذب بين ولكن هو فصل فجعل ما يخص به الله الذي لا يضاف إلى غيره وهو المطلق وإنما يضاف إلى المخلوق ما يليق به وأنت تريد أن تجعل المخلوق عدل الخالق يضاف إليه جميع ما يضاف إلى الرب عز وجل مضاهاة للحلولية والنصارى والمشركين الذين أنت وأمثالك من طلائع جيوشهم وأبواب مدائنهم وهم دعاة إلى مذهبهم في الحقيقة وإن كانوا لا يعلمون لوازم قولهم وهذا بين يكشف ضلال هؤلاء
ونقول في الوجه الثاني قوله وكثيرا ما تنفى الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التوحيد ويثبته الباري سبحانه وتعالى في مواضع أخر اعتبارا بالأسباب وإثباتا لبساط الحكمة هو كلام باطل فإن الله سبحانه وتعالى لا ينفي شيئا ويثبته إذ الجمع بين نفيه وإثباته تناقض وكلام الله منزه عن التناقض قال الله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ولكن المنفي غير المثبت فالذي ينفيه في موضع ليس هو الذي يثبته في موضع أخر ولكن هؤلاء الضلال يجعلون المنفي عين المثبت فيكون ما يضاف إلى الرب سبحانه وتعالى بطريق التوحيد يضاف إلى غيره بطريق السبب والحكمة ولهذا قالوا إن كل ما يطلب من الله يطلب من غيره بهذا الطريق فأشركوا في ربوبية الله تعالى وفي دعاء الله تعالى وعبادته حيث جعلوا ما يضاف إلى المخلوق يضاف إليه تعالى فصار حقيقة قولهم أن المخلوق تضاف إليه مفعولات الله تعالى كلها ويطلب منه مقدورات الرب كلها لما في الخلق من السبب والحكمة
ولم يعلم هؤلاء الجهال أن السبب لا يستقل بالتأثير بل تأثيره متوقف على سبب آخر وله موانع وحينئذ فلا يجوز تخصيصه بالإضافة إليه وإن كان سببا
وأيضا فالأسباب التي نعرفها مضبوطة وأكثر ما فعله الله ويفعله لا نعرف نحن أسبابه
وأيضا أثبتوا أسبابا في خلقه وأمره ما أنزل الله بها من سلطان بل إثباتها مخالف للشرع والعقل فضلوا في إثبات أسباب لا حقيقة لها وفي الإضافة إليها وفي تعليق الحوادث كلها بسبب واحد
وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشخص أنه كان يقول إن النبي ﷺ علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي ﷺ تكذيبا لقوله وردا عليهم خمس لا يعلمها إلا الله تعالى إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت وأظنه ذكر عنه أنه قال علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله تعالى
وآخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا كان يقول إن النبي ﷺ يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه الله وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع
وكان شيخ آخر معظم عند أتباعه يدعي هذه المنزلة ويقول إنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ وإنه يزوج عيسى بابنته وإن نواصي الملوك والأولياء بيده يولي من يشاء ويعزل من يشاء وإن الرب تعالى يناجيه دائما وإن هو الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر وقد عزرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود بحضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة فعرفه الناس وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة
ومن هؤلاء من يقول في قوله تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا يقول إن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا ومنهم من يقول أسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت
دع ما ادعته النصارى في نبيهم... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
فإن فضل رسول الله ليس له... حد فيعرب عنه ناطق بفم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
لو ناسبت قدره آياته عظما... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
ومنهم من يقول نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودا
ومنهم من يأتي قبر الميت الرجل أو المرأة الذي يحسن به الظن لنفسه فيقول اغفر لي وارحمني ولا توقعني على زلة ولا توقفني على خطيئة
ونحو هذا الكلام يرد إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ المخلوق فيها إلها
ولما استقر هذا في نفوس عامتهم تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم عن هذا ما يقول هذا فيقول فلان عنده ما ثم إلا الله تعالى لما استقر في نفوسهم وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر وآخر يقول معظما لمن يدعو إلى التوحيد قد جعل الإله إلها واحدا
والمقصود هنا أن نبين خطأه فيما ذكره عن الله من أنه ينفي الأشياء إشارة إلى التوحيد ويثبتها اعتبارا بالأسباب ونبين أنه سبحانه لا ينفي ما أثبته ولا يثبت ما نفاه
أما قوله تعالى وما النصر إلى من عند الله فهذا النصر المنفي في هذه الآية عن غير الله لم يثبته الله لغيره قط والذي ذكره في قوله وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ليس هذا هو ذاك
يبين هذا أنه قال إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا إلى أن قال وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم وقال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم
فهو سبحانه وتعالى قد أمدهم بالملائكة ومعلوم أن نصر الملائكة لهم أعظم من النصر الذي أمروا به في قوله وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر فإن هؤلاء غاية ما يفعلونه دون ما تفعله الملائكة ثم بين أنه وإن نزلت الملائكة وقاتلت فالنصر لا يحصل بمجرد هذا إن لم يحدث الله ما به ينتصر المؤمنون وذلك لأن المقاتل من الملائكة والبشر غاية قدرته حركة نفسه وأما ما يتولد عن ذلك فهو لا يستقل به
والناس متنازعون في هذا
فكثير من النظار المثبتين للقدر يقولون إن جميع المتولدات فعل الله ليس فعلا للعباد مثل الشبع والري وانقطاع العضو وخروج السهم من القوس
وأما القدرية فيقول أكثرهم إنها مفعول فاعل السبب ويقسمون الأفعال إلى مباشر ومتولد لكنهم مع هذا يعلمون أن الفعل لا يتم بمجرد قدرة العبد بل بأمور خارجة عن قدرته
وقالت الطائفة الثالثة إن هذه المتولدات حادثة بفعل العبد وبالأسباب الأخرى فالعبد مشارك فيها لم ينفوا أثره كما نفاه الأولون ولا جعلوه فاعلا كالآخرين بل جعلوه مشاركا فيها
وهذا أعدل الأقوال ولهذا فرق الله تعالى بين الأعمال المباشرة وبين الأعمال المتولدة في قوله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح الآية ثم قال ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم
فلما كان الإنفاق والسير عملا مباشرا قال فيه كتب لهم وتلك الأمور من النصب والجوع وغيظ الكفار والنيل من العدو ليس مباشرا بل هو مما يسمى متولدا فلهذا قال فيه إلا كتب لهم به عمل صالح لأنهم مشاركون في حصول هذا الآثار وحصول هذه الآثار لا بد فيه من الأسباب التي يخلقها الله ومن رفع الموانع فلا تجوز أن تجعل مفعولة لسبب معين بل هي مفعولة لله تعالى وانتصار المؤمنين على الكفار هو أعظم من النيل الذي ينال من العدو فإذا لم يكن هذا مفعولا لمخلوق فكيف يكون النصر
وهب أن الملائكة نزلت بقذف الرعب في قلوب الكفار كما قال تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وأيضا فهب أن الملائكة حضروا فمن الذي يخلق القدرة فيهم وفي المؤمنين والقدرة التي بها يكون الفعل أكثر لا يكون إلا مع الفعل وهب أن القدرة حصلت فمن يخلق الأسباب الخارجة كقبول الجلود للجرح وحصول الزهوق بعد الجرح والهزيمة المستمرة إذ يمكن أن الكفار يقرون ويكرون ويمكن أنهم يقاتلون حتى يقتلوا فلا يقتل منهم واحد حتى يقتل غيره
فالنصر الذي قال الله تعالى فيه وما النصر إلا من عند الله لا يقدر عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا يقدر عليه إلا الله تعالى ليس في الموجودات سبب يحصل به هذا النصر ولا موجب له إلا مشيئة الله تعالى فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإن كل ما يكون لسبب فلا بد من حصول سبب آخر ومن رفع موانع
ثم خلق الأسباب ورفع الموانع لا بد أن يحدث هو سبحانه ذلك الأثر بفعل منه على أصح قولي الجمهور الذين يقولون إن الخلق غير المخلوق فإن هؤلاء لهم قولان هل يخلق بفعل واحد قديم يوجد جميع الموجودات أم هو يوجد به المفعولات بأفعال متعاقبة كما قال تعالى خلقا من بعد خلق على قولين
ومن قال بالثاني قال إن المؤثر التام يستلزم الأثر التام وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فإن الفاعل إذا كان قبل حدوث المفعول وحين حدوثه على حال واحدة كان تخصيص أحد الحالين بحدوث المفعول ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا ممتنع في صريح العقل فالأثر لا يوجد إلا إذا حصل مؤثره التام فإنه بدون تمامه لا يكون مؤثرا فلا يحصل الأثر وإذا تم وجب حصول الأثر إذ لو لم يجب لأمكن وجوده وأمكن عدمه فكان يتوقف على حدوث شيء آخر فلا يكون المؤثر تاما
وهؤلاء يقولون إن القدرة مع الفعل وكذلك الإرادة وسائر ما يتوقف عليه الفعل وإن كان بعض ذلك قد يتقدم عليه ويبقى إلى حين حصوله لكن لا بد من وجوده معه وهذا الفعل الذي هو تكوين الرب سبحانه وتعالى خارج عن جميع الأسباب المخلوقة
وأما قوله إنك لا تهدي من أحببت مع قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فقد اتفق المسلمون على أن تلك الهداية المنفية ليست هي الهداية المثبتة له لا نزاع في هذا بين أهل السنة والقدرية
وأما الهداية المثبتة فهي الدعوة والبيان وهذه يشترك فيها من يحبه ومن لا يحبه فإن عليه البلاغ وقد بلغ ﷺ البلاغ المبين وقال في آخر عمره في حجة الوداع اللهم هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد
ونظير هذا قوله تعالى وأما ثمود فهديناهم وقوله فقالوا أبشر يهدوننا وقال تعالى ولكل قوم هاد
فإن الهداية هداية الدلالة والإرشاد بكلامه وبعلمه وأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه
وأما حصول الهدى في القلب فهذا لا يقدر عليه أحد باتفاق المسلمين سنيهم وقدريهم لأن أحدا لا يستطيع أن يهدي القلوب ويخلق الهدى فيها غير الله
أما أهل السنة فيقولون إن الإهتداء الذي في القلب لا يقدر عليه إلا الله ولكن العبد يقدر على أسبابه وهو المطلوب منه بقوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم وهو المنفي عن الرسول ﷺ بقوله إنك لا تهدي من أحببت وقوله إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وقوله ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء
وأما القدرية فيقولون إن ذلك مقدور للعبد
ولهذا تنازعوا في العلم الحاصل في القلب عقب الاستدلال
فقالت القدرية هو فعل العبد
وقالت المثبتة هو مفعول الله كسب للعبد ونظيره
وتنازعوا في النظر هل هو متضمن له مستلزم له أو مقترن اقترانا عاديا على قولين مشهورين
والتحقيق أنه من جملة الأمور التي تسمى المتولدات كالشبع والري والرؤية في العين والسمع في الأذن فهي حاصلة بفعل العبد المقدور وبأسباب خارجة عن قدرته ولهذا يثاب عليه لما له في حصوله من السبب والاكتساب
وكذلك قوله إياك نعبد وإياك نستعين فإن هذه الاستعانة التي يختص بها الله تبارك وتعالى لم يثبتها لغيره أبدا كما أن العبادة له لم يثبتها لغيره أبدا
وقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ليس ذلك التعاون هو هذه الإعانة المطلوبة من الله تعالى
فإن إعانة الله لعبده على عبادته تكونه بأمور لا يقدر عليها غيره مثل جعل العلم والهدى في القلب وجعل الإرادة والطلب في القلب وخلق القوى الباطنة والظاهرة وخلق الأسباب المنفصلة التي بها تحصل العبادة ومعونة الإنسان لغيره إنما هي بفعله القائم في محل قدرته وهي شيء لا يخرج عنه وما خرج عن محل قدرته فقد تقدم الكلام فيه وغايته أن يكون له فيه شرك
والمقصود أن ما أمر الخلق به وجعله فعلا هو الذي نفاه عن غيره وبين أنه يختص به
وأما قوله وما رميت إذ رميت فتقدم الكلام عليها وبينا غلط من ظن أن الرمي المنفي عن الرسول هو عين المثبت له وبينا أن المنفي هو وصول الرمي إلى الكفار وتأثيره فيهم والمثبت هو الحذف الذي فعله الرسول ﷺ
وقوله انصر أخاك ظالما أو مظلوما هو من جنس قوله وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر
وأما قوله واستعينوا بالصبر والصلاة فالمستعان به فعل يفعله العبد والمعنى اصبروا وصلوا فإن ذلك يعينكم على المطلوب
والأعمال الصالحة بينها تصادق وتلازم كما قال النبي ﷺ عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا
وكذلك الأعمال السيئة بينها تصادق وتلازم كما قال في نفس هذا الحديث وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
وهداية الصدق مثل إعانة الصبر والصلاة وليس ذلك هو ما أثبته الله لنفسه ونفاه عن غيره سبحانه وتعالى أن يكون تأثيره مثل تأثير الإعراض
وقول النبي ﷺ والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه هو من جنس قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى
فقد تبين أن جميع ما ذكره من النصوص ليس فيه ان ما نفاه عن غيره أثبته لغيره في موضع آخر بل الذي أثبته لغيره غير الذي نفاه عن غيره
الوجه الثالث قوله إن هذه الحقائق تثبت للمخلوقين حقيقة لغوية بإجماع العلماء غايته أن قول العرب مات زيد وتحركت الشجرة وهبت الريح ونحو ذلك يسمى في لغتهم حقيقة وهذا لا ينفعه لأن المضاف إلى المخلوق ليس هو الذي نفاه الرب عن غيره
فإنه يقال أماته الله والإماتة التي اختص الله بها لا تثبت لغيره وإن قيل إن فلانا أماته فالمراد أنه فعل فعلا خلق الله الموت فيه مع أسباب أخر هو من جملتها وهو المضاف إلى العبد ليس هو الذي نفاه الرب عن غيره فما يضاف إلى السبب لم ينفه الله عن غيره وما نفاه لا يضاف إلى السبب
وأيضا فهب أن هذا حقيقة لغوية أي قاعدة في هذا الكلام هنا في الحقائق العقلية والأحكام الشرعية لا في استعمال الألفاظ وليس كل من أضيف إليه الفعل لغة يترتب على ذلك الأحكام الشرعية التي للفاعلين
الوجه الرابع قوله اعتبارا بالأسباب وإثباتا لبساط الحكمة ماذا تعنى به
فإن الناس يتنازعون في ذلك
فمنهم من يقول ليس في الوجود سبب له تأثير وحكمة يفعل لأجلها بلا محض مشيئة الرب قرنت بين الشيئين قرانا عاديا فإن تقدم سمي سببا وإن تأخر سمي حكمة من غير أن يكون للمتقدم تأثير في اقتضاء الفعل ولا للفعل تأثير في اقتضاء الحكمة
وليس عند هؤلاء في القرآن لام التعليل في فعل الله وهذا قول جهم بن صفوان وكثير من النظار المنتسبين إلى القدر كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم بل ولا يقولون إن هذا الشخص ينسب إليهم فعلى قولهم لا سبب ولا حكمة
ومن الناس من أثبت حكمة منفصلة عن الرب يفعل لأجلها وهو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية
ثم القدرية من هؤلاء يثبتون التأثير لأفعال الحيوان ولا يثبتون تأثيرا لغير ذلك
وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم فإنهم يثبتون السبب والحكمة لكن كثير من هؤلاء يتناقض فيتكلم في الفقه بلون وفي أصول الفقه بلون وفي أصول الدين بألوان ففي الفقه يثبت الأسباب والحكم وفي أصول الفقه يسمي العلل الشرعية أمارات خلاف ما يقوله في الفقه وفي أصول الدين ينفي الحكمة والتعليل بالكلية لظنه أن قول القدرية لا يمكن إبطاله إلا بذلك والقليل من هؤلاء هو الذي يحقق الحكمة ويبين رجوعها إلى الفاعل الحكيم مع حصول موجبها في مخلوقاته
وهذه المسائل من اشرف العلم وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن ما ذكره هذا الشخص من النصوص ليس فيه إثبات الأسباب والحكم لأفعال الرب سبحانه وتعالى التي نفاها عن غيره
وبيان ذلك أن الأسباب عند من يقول بإثباتها هي من جملة الحوادث التي يكون الرب عز وجل فاعلا لها فالقول في إحداثه للسبب
والحكمة كالقول في إحداثه ما بينهما يمتنع أن يكون بشيء من ذلك محدثا لغيره بل هو محدث لجميع المحدثات وليس في ذلك ما يوجب كون الأسباب محدثة
وأيضا فهذه الآيات التي ذكر ليس فيها إثبات حكم شيء من المحدثات كقوله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فعليكم النصر بل ولا فيها إثبات نسب لفعل الرب سبحانه وتعالى بل فيها إثبات بعض أفعال العباد كهدايته وإعانته وأفعال العباد لا تختص بكونها أسباب دون غيرها من الحوادث فكلام هذا الرجل كلام من لم يتصور صحيحا ولا عبر فصيحا
الوجه الخامس أن يقال نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى
ومن الذي قال إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيا كان أو غير نبي كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى
ومن الذي شرع ذلك وأمر به
ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين
إحداهما إن هذه الأسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى
والثانية أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه فإن قتل المسافر قد يكون سببا لأخذ ماله
وكلاهما محرم والدخول في دين النصارى قد يكون سببا لمال يعطونه ومحرم وشهادة الزور قد تكون سببا لمال يؤخذ من المشهود له وهو حرام وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببا لنيل مطالب وهو محرم والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب وهو محرم وكذلك الشرك في مثل دعوة الكواكب والشياطين وعبادة البشر قد يكون سببا لبعض المطالب وهو محرم فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانا
وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله عز وجل شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا وأن يستغيثوا به سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره والله تعالى حي عالم قادر لا يغيب كفى به شهيدا وكفى به عليما وهم لا يقدرون على ذلك بل نقول في
الوجه السادس سؤال الميت والغائب نبيا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين
وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين
ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي ﷺ بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين
ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلا
ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها
وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي ﷺ يدعو لنفسه وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف
وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال قبر معروف الترياق المجوب وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره وقول بعض الشيوخ لمريده إذا كانت لك إلى الله حاجة فاستغث بي أو قال استغث عند قبري ونحو ذلك فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه أو أنه ملك تصور على صورته وأن هذا من كراماته فيزداد به شركا وفيه مغالاة ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان حيث تتراءى أحيانا لمن تعبدها وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي لهم بعض الطلبات ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة
وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد المحدثة في الإسلام والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن من ذلك شيء في القرون الثلاثة المفضلة
بل ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا
وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
وقد تقدم في الجواب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أجدبوا استسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا
فلم يذهبوا إلى القبور ولا توسلوا بميت ولا غائب بل توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي ﷺ وكان توسلهم به توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم وهذا تعذر بموته
فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان فهذا لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز ونقل عن بعضهم جوازه
فكيف يقول القائل للميت أنا أستغيث بك وأستجير بك وأنا في حسبك أو سل لي الله ونحو ذلك
فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة ولو قدر أن له تأثيرا
فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله تعالى
وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب ميت من تتمثل له الشياطين وربما كانت على صورة ذلك الغائب وربما كلمته وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه كما تفعل شياطين الأصنام بعبادها وهذا مما قد جرى لغير واحد فينبغي أن يعرف هذا
ومن هؤلاء من يؤذي الميت بسؤاله إياه أعظم مما يؤذيه لو كان حيا وربما قضيت حاجته مع ذم يلحقه كما كان الرجل يسأل النبي ﷺ فيعطيه ويقول إن أحدهم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارا
ومن هذه الحكاية المذكورة في الذي جاء إلى قبر النبي وطلب منه سكباجا فأتاه بعض أهل المدينة فأطعمه سكباجا وأمره بالخروج من المدينة وقال إنه رأى النبي ﷺ فأمره أن يطعمه وأن يخرجه وقال من يقيم بالمدينة لا يتمنى ذلك أو كما قال
ولا ريب أن النبي ﷺ بل ومن هو دونه حي يسمع كلام الناس كما قال ﷺ ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه رواه ابن عبد البر وصححه
لكن في مسألتهم أنواع من المفاسد منها إيذاؤهم له بالسؤال ومنها إفضاء ذلك إلى الشرك وهذه المفسدة توجد معه بعد الموت دون الحياة فإن أحدا من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته إذ هو ينهى عن ذلك وأما بعد الموت فهو لا ينهى فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا يعبد ولهذا قال النبي ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد
وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ولا يعوق ونسرا إن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم
ولهذا المعنى لعن النبي ﷺ الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد
وأما النبي أو الصالح إذا بنى له مسجدا في حياته يصلى فيه معه فهذا من أفضل الأعمال
فحكم الحياة يفارق حكم الممات وذلك كما جاءت السنة بذلك
فصل
قال ثم اعلم أنه من نفى الحقائق نفيا عاما يفهم به الإشارة للتوحيد وإفراد الباري بالقدرة عددناه من المنزهين ولم نجعل ذلك إبطالا للحكمة إذ الألفاظ يعتبر حكمها بما تفهم العقول منها بمقتضى الأوضاع والقرائن ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب فقد نقصهم بعبارته وإن نوى معاني التوحيد ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسل وأجمع الخلف والسلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال
والجواب من وجوه
أحدها أن الجواب المذكور ليس فيه تخصيص النبي ﷺ بالذكر بل قد صرح فيه بالعموم وقيل فيه من قال لا يدعى إلا الله تعالى وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى فلا تطلب إلا منه مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك فهو مصيب ولذلك حيث ذكر هذا فلم يذكره إلا على وجه التعميم فدعوى المدعي أن النبي ﷺ والملائكة خصوا بالذكر كذب لا يحتاج إلى جواب
الوجه الثاني أن يقال التحقيق في هذا الباب أنه إذا كان النفي لا يصلح لمخلوق فذكرت الأنبياء والملائكة على سبيل تحقيق النفي العام كان هذا من أحسن الكلام وكان هذا من باب التنبيه كما يقال لا تجوز العبادة إلا لله تعالى لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فينبه بنفيها عن الأعلى على انتفائها عمن هو دونهم بطريق الأولى
وكذلك إذا كان المخصوص بالذكر ممن قد حصل فيه غلو كما يقال ليس في الصحابة معصوم لا علي ولا غيره وليس في النبيين إله لا المسيح ولا غيره فهذا أحسن
فالمخصص إذا كان فيه فائدة مطلوبة كان حسنا
ومنه قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
فنفى سبحانه أن تغني شفاعة الملائكة الذين في السماء إلا من بعد إذنه تنبيها بذلك على أن من دونهم أولى أن لا تغني شفاعتهم فإن المشركين كانوا يقولون عن الأصنام إنها تشفع لهم قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون
ولا يجوز أن يكون الكلام تنقيصا بالملائكة ولذلك قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا
فإنه لما كان الكلام في إثبات توحيد الله تعالى والنهى عن الغلو في الدين الذي فيه تشبيه المخلوق بالخالق قال لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون بعد أن قال إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
وقال في الآية الأخرى ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلق من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام الآية فنسبه إلى أمه وهذا قد جرى في القرآن في غير موضع فنسبه إلى أمه لينفي نسبته إلى غيرها فلا ينسب إلى الله تعالى أنه ابنه ولا إلى أب من البشر كما زعمت النصارى الغالية فيه ولا كما زعمت اليهود الكافرة به
وأبلغ من هذا قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فذكر أهل الأرض جميعا وخص المسيح وأمه بالذكر من أنه إن أراد إهلاكهم لن يملك أحد لهم منه شيئا لأن المسيح وأمه اتخذوا إلهين كما قال تعالى وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
فكان التخصيص بالذكر لينفي هذا الشرك والغلو الذي وقع في المسيح وأمه ولم يكن من ذلك باب التنقيص بالمسيح وأمه بل كان التخصيص لأجل أن الكلام وقع في ذلك المعين فالتخصيص للحاجة إلى ذكر المخصوص والعلم به أو لأجل التنبيه به على ما سواه
ولهذا لا يكون التخصيص في هذا مفهومه مخالفة بنفي نقيض الحكم عن ما سواه وحتى الذي يسمى دليل الخطاب للتخصيص لم يكن للاختصاص بالحكم
وقال تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون فتخصيص الملائكة والنبيين بالذكر تنبيه على من دونهم فإنه أن لا يأمر باتخاذ الصالحين أربابا بطريق الأولى
ومن هذا الباب قوله ﷺ في الحديث الصحيح لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فكان تخصيصه بالذكر لتحقيق العموم وإن هذا النفي يتناول أفضل الخلق فلا يظن أحد غيره أن يدخل الجنة بعمله
وكذلك قوله في الحديث الصحيح ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة وقرينة منه الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم
ومنه قوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين فذكر هذا الوعيد في الملائكة وخصهم بالذكر تنبيها على أن دعوى الإلهية لا تجوز لأحد من المخلوقين لا ملك ولا غيره وأنه لو قدر وقوع ذلك من ملك من الملائكة لكان جزاؤه جهنم فكيف من دونهم وهذا التخصيص أفرد الله تعالى بالإلهية
ومنه قوله تعالى في الأنبياء ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون والأنبياء معصومون من الشرك ولكن المقصود بيان أن الشرك لو صدر من أفضل الخلق لأحبط عمله فكيف بغيره
وكذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين مع أن الشرك منه ممتنع لكن بين بذلك أنه إذا قدر وجوده كان مستلزما لحبوط عمل المشرك وخسرانه كائنا من كان وخوطب بذلك أفضل الخلق لبيان عظ هذا الذنب لا لغض قدر المخاطب كما قال تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين ليبين سبحانه أنه ينتقم ممن يكذب في الرسالة كائنا من كان وأنه لو قدر أنه غير الرسالة لانتقم منه والمقصود نفي هذا التقدير لانتفاء لازمه
وكذلك قوله تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته وفي الحديث المعروف إن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم
فهذا من بيان عدل الرب سبحانه وتعالى وإحسانه وتقصير الخلق عن واجب حقه حتى الملائكة والأنبياء وغيرهم وأنه لو عذبهم لم يكن ظالما لهم فكيف بمن دونهم
وهذا باب واسع فمن غلا في طائفة من الناس فإنه يذكر له من هو أعلى منه ويبين انه لا يجوز هذا الغلو فيه فكيف يجوز الغلو في الأدنى كمال قال بعض الشيعة لبعض شيوخ السنة تقول مولانا أمير المؤمنين عليا ما كان معصوما فقال أبو بكر وعمر عندنا أفضل منه وما كانا معصومين
وكما يقال لمن يعظم شيخه أو أميره بأنه يطاع في كل شيء وأنه لا تنبغي مخالفته فيقال له أبو بكر الصديق أفضل منه وقد قال أطيعوني ما أطعت الله تعالى فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني
وكما إذا ظن الغالي أن الصالحين لا يؤذيهم عدوهم ولا يجرحون لاعتقاد أن ذلك نقص فيهم وأنهم قادرون على دفع كل أذى فيقال له أفضل الخلق محمد ﷺ قد أوذي وقد جرح يوم أحد وكسرت رباعيته وذلك كرامة من الله تعالى له ليعظم أجره ويزيده الله بذلك رفعة بالصبر على الأذى في الله
وكذلك لو حلف بشيخه فقيل لا تحلف بغير الله فمن حلف بغير الله فقد أشرك
وكذلك إذا اعتقد معتقد في شيخه أنه يشفع لمريديه يوم القيامة أو أن له راية في الآخرة يدخل تحتها مريديه الجنة فيقال له المرسلون أفضل منه وسيد ولد آدم ﷺ إذا جاء يشفع يسجد بين يدي الله عز وجل ويحمد ربه بمحامد فيقال ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة
فهو ﷺ لا يشفع إلا بعد أن يؤذن له بل يبدأ أولا بالسجود لله تعالى والثناء عليه ثم إذا أذن له في الشفاعة وشفع حد له حدا يدخلهم الجنة فليست الشفاعة له مطلقا في حقه ولا يشفع إلا بإذن الله تعالى فكيف يكون الشيخ إن كانت له شفاعة
وكذلك إذا قيل عن بعض الشيوخ إن قبره ترياق مجرب قيل له: إذا كانت قبور الأنبياء عليهم السلام ليست ترياقا مجربا فكيف تكون قبور الشيوخ ترياقا مجربا
وكذلك إذا قيل إن الشيخ الميت يستسقى عند قبره ويقسم به على الله ويعرف عنده عشية عرفة ونحو ذلك قيل له إذا كان النبي ﷺ سيد الخلق لم تستسق الصحابة رضوان الله عليهم عند قبره ولا أقسموا به على الله ولا عرفوا عند قبره فكيف غيره
وكذلك إذا قيل إنه يسجد لقبر الشيخ أو يستلم أو يقبل قيل إذا كان قبر النبي ﷺ لا يسجد له ولا يستلم ولا يقبل باتفاق الأئمة فكيف بقبر غيره
وكذلك إذا قيل الموضع الذي كان الشيخ يصلي فيه لا يصلي فيه غيره احتراما له قيل إذا كان الصحابة صلوا في الموضع الذي كان النبي ﷺ يصلي فيه فكيف لا يصلى في موضع مصلى غيره وهو أحق بالاحترام من كل أحد
وكذلك إذا قيل إن الشيخ الميت يدعى ويسأل ويستغاث به قيل إذا كان الأنبياء بعد موتهم لا يدعون ولا يسألون ولا يستغاث بهم فكيف بمن دونهم
وإذا قيل يطلب من الشيخ كل شيء قيل ما لا يقدر عليه إلا الله لا يطلب من الأنبياء فكيف يطلب ممن دونهم
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني فأقول قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك أخرجاه فقد أخبر أنه يستغيث به أهل الغلول يوم القيامة فلا يغيثهم بل يقول قد أبلغتكم لا أملك لكم من الله شيئا كما قال يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا
وهذا النوع من الكلام يقال على وجوه تارة يقال السجود لا يصلح للأنبياء فكيف بمن دونهم
وتارة يقول السائل هل أسجد للشيخ فيقال له الرسول لا يسجد له فكيف يسجد للشيخ
فتارة يذكر الاسم العام ويخص الأفضل بالذكر تحقيقا للعموم وأنه لا يستثني من هذا العموم أحدا وإن كان أفضل الخلق كما قال مات الناس حتى الأنبياء وتارة يذكر الأفضل ويعطف عليه غيره تحقيقا للعموم وتارة يختص الأفضل بالذكر تنبيها به على من سواه
فهذا النمط من الكلام حيث ذكر الأفضل فيه فإنه لا يراد اختصاصه بالحكم بل يراد به العموم وتحقيق العموم وأن هذا الحكم ثابت في حق الأفضل فكيف بمن دونه
وحينئذ فإذا قدر أن سائلا سأل هل يستغاث بميت من الأنبياء والصالحين فقيل له لا تستغث بأحد منهم لا نبي ولا غيره وقيل لا يستغاث بنبي فكيف بمن دونه أو قيل أفضل الخلق لا يستغاث به أو نحو ذلك من العبارات التي يفهم منها عموم النفي وأنه ذكر الأفضل تحقيقا للعموم كان هذا من أحسن الكلام كما تقدم كما إذا قيل لا يسجد لقبره ولا يتمسح به ولا يقبل ولا يتخذ وثنا يعبد ونحو ذلك وكذلك لو كان الخطاب ابتداء في سياق التوحيد ونفي خصائص الرب سبحانه وتعالى عن العبد فقيل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يطلب إلا منه لا من نبي ولا غيره أو قيل لا يستغاث فيه إلا بالله لا يستغاث فيه بالنبي فكيف من دونه أو نحو هذا الكلام كان حسنا
فالاستغاثة المنفية نوعان
أحدهما الاستغاثة بالميت مطلقا في كل شيء
والثاني الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق
فليس لأحد أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله لا نبيا ولا غيره ولا يستغيث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق وليس لأحد أن يسأل ميتا ولا يستغيث به في شيء من الأشياء سواء كان نبيا أو غيره وإذ كان كذلك فجميع ما وقع هو من هذا الباب ولم يفهم أحد من الخلق شيئا إلا هذا
الوجه الثالث قوله من نفى الحقائق نفيا عاما يفهم به الإشارة للتوحيد وإفراد الباري سبحانه وتعالى بالقدرة عددناه من المنزهين فلم يجعل ذلك إبطالا للحكمة ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب فقد نقصهم بعبارته وإن نوى معاني التوحيد
يقال له أولا قولك عددناه من المنزهين عبارة في غير موضعها بل حقه أن يقال من الموحدين فإن التنزيه نفي النقائص عن الله عز وجل وأما الإشارة إلى التوحيد وإفراده بالقدرة فيسمى توحيدا
ويقال له قولك خصهم بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب كلام مجمل فماذا تريد به أتريد به عدم صلاحيتهم للأسباب التي أثبتها الله لهم مثل عدم صلاحية الملائكة للنزول بالوحي والعذاب وتدبير العالم وعدم صلاحية الرسول لتبليغ رسالات الله تعالى ونحو ذلك مما أثبته الله لهم أو عدم صلاحيتهم لما اختص الرب تبارك وتعالى به مثل أن يطلب منه الأمور التي لا يقدر عليها غيره وعدم صلاحيتهم لكونهم يسألون ويدعون بعد موتهم أو يطلب منهم كل ما يطلب من الله تعالى
فإن عنيت الأول فقائله أعظم جرما من أن يقال نقصهم بعبارته إذ قد يكون كافرا مثل أن يتضمن نفيه جحد رسالة الرسول أو جحد نزول الملائكة عليه بالوحي أو جحد ما يدخل في الإيمان من الإيمان بالملائكة ولكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب
وإن أردت الثاني فليس في نفي خصائص الربوبية عن المخلوق نقص له يجب تنزيهه عنه فضلا عن أن يجب نفيه عنه فمن قال لا إله إلا الله لم يكن قد نقص الملائكة والأنبياء بنفي الإلهية عنهم
ومن قال إن الملائكة والأنبياء تنفي الإلهية عنهم ليسوا أربابا ولا آلهة ولا يعبدون ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى كان قد نفى عنهم ما يختص به الرب تبارك وتعالى ولم ينف عنهم ما هم أسباب فيه
وإنما يكون نافيا للأسباب إذا قال لا شفاعة لهم ولا يشفعون لأحد ولا يدعون لأحد أو دعاؤهم لا ينفع لأحد فهذا باطل بل كفر
أو قال إنه لا يتوسل إلى الله تعالى بالإيمان بهم ومحبتهم وطاعتهم أو لا يتوسل إليه بدعائهم وشفاعتهم فهذا باطل بل كفر
وهذا المفتري لما قال إنه يجوز أن يستغاث بالنبي ﷺ في كل ما يستغاث الله فيه وأن ذلك صحيح في حق النبي والصالحين وقال إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به سواء كان حيا أو ميتا وإن من سأله وطلب منه فقد استغاث به فاقتضى ذلك أنه يطلب منه حيا وميتا كل شيء كما يطلب من الله ويطلب بالتوسل به حيا وميتا كل ما يطلب من الله تعالى وأن ذلك ثابت للصالحين أيضا فاقتضى كلامه أنه يطلب من المخلوق حيا وميتا كل ما يطلب من الخالق سبحانه وتعالى
ومعلوم أن هذا الذي قاله لو كان حقا لم يجز نفي الاستغاثة بوجه من الوجوه كما لا يجوز نفي شفاعته التي أثبتها الله تعالى ونفي استشفاع الناس به يوم القيامة كما نطقت به النصوص ونفي توسل الصحابة بشفاعته ودعائه في الدنيا
فمن قال إن النبي ﷺ لا يشفع لأحد ولا يستشفع به وإنه لم تكن الصحابة يستشفعون به فهو مفتر كذاب بل هو كافر بعد قيام الحجة عليه
وأما من قال إنه لا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى أو قال إنه لا يسأل بعد موته كما كان يسأل في حياته فهذا قد أصاب فأين هذا من هذا
وأما من قال إنه لا يقسم على الله تعالى بمخلوق ولا يتوسل بميت ولا يسأل بذات مخلوق فإن الصحابة إنما توسلوا بدعائه وشفاعته ولما مات توسلوا بعمه العباس بدعائه وشفاعته ولم يتوسلوا بذاته ولم ينقل عن أحد من السلف أنه توسل إلى الله تعالى بميت في دعائه ولا أقسم به عليه
وهكذا قد قال أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما إنه لا يجوز أن يقال أسألك بحق الأنبياء وكذلك قال أبو محمد بن عبد السلام إنه لا يقسم عليه بحق الأنبياء وتوقف في نبينا ﷺ لظنه أن في ذلك خبرا يخصه وليس كذلك فهذا وإن كان مصيبا ففيه نزاع فقد نقل عن بعض العلماء أنه لا يجوز أن يتوسل إلى الله به بعد موته ونقل في منسك الحج الذي نقله المروزي عن الإمام أحمد
وقد تنازع العلماء في القسم به هل ينعقد به اليمين على قولين
أشهرهما أنه لا ينعقد اليمين به وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد
والثاني تنعقد به اليمين وهو الرواية الأخرى عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه
وعلى هذه الرواية فهل الحلف يختص به أو يحلف بسائر الأنبياء على وجهين
أشهرهما الأول
والثاني ذكره ابن عقيل وغيره
فقد يقال إن التوسل به والإقسام على الله به هو من جنس الحلف به فيكون النزاع في هذا كالنزاع في هذا
والصواب ما عليه الجمهور من أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا النبي ولا غيره
ولكن لم يسم أحد من الأمم هذا استغاثة فإن الاستغاثة به طلب منه لا طلب به وهذا اعتقد جواز هذا بالإجماع وسماه استغاثة فلزم جواز الاستغاثة به بعد موته بالإجماع وإذا جاز أن يتوسل به في كل شيء جاز أن يستغاث به في كل شيء
ثم إنه لم يجعل هذا وحده معنى الاستغاثة بل جعل الاستغاثة به الطلب منه أيضا وكان لا يميز بين هذا المعنى وهذا المعنى بل يجوز عنه أن يستغيث به في كل ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث وهذا عنده ثابت للصالحين والاستغاثة طلب الغوث كالاستغاثة والانتصار وذلك ثابت في حياته وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته بثبوتها في حياته لأنه عند الله في مزيد دائم لا ينقص جاهه فدخل عليه الخطأ من وجوه
منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في الدعاء مستغيثا به وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازا مع دعواه الإجماع على ذلك وأن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به
والثاني ظنه أن توسل الصحابة به في حياته كان توسلا بذاته لا بدعائه وشفاعته فيكون التوسل به بعد موته كذلك وهذا غلط لكنه يوافقه عليه طائفة من الناس بخلاف الأول فإني ما علمت أحدا وافقه عليه
الثالث أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به وهذا صحيح جائز في حياته وقد سوى في ذلك بين محياه ومماته وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة منه والشيخ محمد بن النعمان كان له كتاب المستغيثين بالنبي ﷺ في اليقظة والمنام وهذا الرجل قد نقل منه فيما يغلب على ظني
وهؤلاء لهم صلاح ودين لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام وليس معهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه
وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطأ إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به وهذا يفعله كثير من الناس وأكبر منه ومنهم من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه ويدعو به ويدعو عنده
وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة أو قول عن الصحابة والأئمة
وهؤلاء ليس عندهم إلا قول طائفة من الشيوخ إذا كانت لكم
حاجة فاستغيثوا بي وتعالوا إلى قبري ونحو ذلك مما فيه تصويبه لأصحابه بالاستغاثة به حيا وميتا
ومنه قول طائفة أخرى قبر معروف ترياق مجرب والدعاء عند قبر الشيخ فلان مجاب ونحو ذلك وحجتهم أن طائفة من الناس استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج وأخبر ببعض ما سئل عنه وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين والكواكب والأوثان فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها قد تخاطب أحدهم ولا يراها ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال هذا المقام وكلما كان القوم أعظم جهلا وضلالا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك وهو لا يرى أحدا أتاه به فيحسب ذلك كرامة وإنما هي من الشيطان وسببه شركه بالله تعالى وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة الشياطين فأضلتهم الشياطين بذلك كما كانت تضل عباد الأصنام ومثل هذه الأحوال لا تكون من كرامات أولياء الله تعالى المتقين
ثم انقسموا حزبين حزبا رأوا فيمن يفعلها من الكفر والفسوق والعصيان ما يخرجه عن كونه من أولياء الله تعالى المتقين وكذبوا بما ينقل عنه من ذلك وحزبا رأوا ذلك منه أو ثبت بالنقل المتواتر عن واحد أو عدد من ذلك ما يوجب حصول مثل ذلك لهؤلاء فيظنون أنهم من أولياء الله المتقين
ثم من هؤلاء من يقول من أولياء الله تعالى من له طريق إلى الله تعالى غير مبايعة الرسل
ومن هؤلاء من يفضل كثيرا من الأولياء على الأنبياء
ومنهم من يقول هؤلاء يتصرفون بالقدرة والمشيئة تصرفا خرجوا به عن حكم وجوب طاعة الأنبياء عليهم وصاروا غير مكلفين بأمر الأنبياء ونهيهم ويذكرون حكايات يظنونها صدقا
منها أن أهل الصفة قاتلوا النبي ﷺ مع الكفار لما انهزم بعض أصحابه يوم أحد وحنين فقال لهم يا أصحابي أين تذهبون وتدعوني
فقالوا نحن مع الله من كان الله معه كنا معه ومرادهم أن كل من معه القدر معه وإن كان كافرا أو فاسقا من غير نظر في العاقبة ولا في وعد الله ووعيده
ويذكرون ما هو أعظم كفرا من هذه الحكاية وهو أن الله تعالى أطلع رسوله على سر الأسرار ليلة المعراج وأمره أن لا يخبر به أحد وأنه رأى أهل الصفة يتكلمون به فقال لهم من أين لكم هذا فقالوا أخبرنا الله به فقال يا رب ألم تأمرني أن أكتم هذا السر فقال أنا أمرتك أن تكتمه وأنا أخبرتهم به
وقد ذكر لي هذه الأمور غير واحد من كبار شيوخ هؤلاء عن غير واحد من شيوخهم الكبار فبينت لهم كذب هذا حتى قلت لبعضهم الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة فلم يكن ليلة المعراج أحد يذكر أنه من أهل الصفة
وأعظم من هذا كفرا ما يذكره بعضهم من أن الله أمر نبيه بزيارة أهل الصفة وأنه ذهب ليزورهم فلم يفتحوا له الباب وقالوا له اذهب إلى من أرسلت إليه فإنه لا حاجة لنا بك وأنه عاد إلى ربه فأمره أن يذهب إليهم ويتأدب معهم ويقول خادمكم محمد جاء ليزوركم
وكل هذا كفر من قائله ومعتقده ونحو هذه الكفريات لا يقولها إلا من هو أبعد الناس عن الإيمان بالله ورسوله ومع هذا فهي عند أصحابها من حقائق العارفين وأسرار أولياء الله المصطفين خواص الرب الذين هم أفضل من الأنبياء والمرسلين عند أصحابهم هؤلاء الكفار الذين هم أكفر من اليهود والنصارى
فهذه حكايات في آثار حصلت لبعض من استغاث ببعض المخلوقين الميتين والغائبين وعندهم عادات وجدوا عليها سلفهم ممن كان له نوع من العلم والعبادة والزهد فليس معهم بذلك حديث يروى ولا نقل عن صحابي ولا تابعي ولا قول إمام مرضي
ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم على ذلك تنبهوا وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل هو مشابهة لعباد الأصنام لكن هؤلاء كلهم ما فيهم من يعد نفي هذا والنهي عنه كفرا إلا مثل هذا الأحمق الضال الذي حاق به وبيل النكال فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول ويكفرون من خالفهم فيه كالخوارج والروافض والجهمية فإن هذا القول الذي قالوه لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين الأولين والآخرين وقد طاف بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه وقد كان بعض الناس يوافقه على جواز التوسل بالنبي الميت لكنهم يوافقوه على تسميته استغاثة ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به ولا جعلوا هذا من السبب بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به بمعنى أنه يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله
وما علمت عالما نازع في أن الاستغاثة بالنبي وغيره من المخلوقين بهذا المعنى لا تجوز مع أن قوما كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما واستعانوا بمن كان له غرض وهوى من ذوي السلطان وجمعوا الناس وعقدوا مجلسا عظيما ضل فيه سعيهم وظهر فيه جهلهم وخاب قصدهم وظهر فيه الحق لمن كان يعاونهم من الأعيان وتمنوا أن ما فعلوه ما كان لأنه كان سببا لظهور الحق مع الذي عادوه وقاموا عليه وسببا لانقلاب الخلق إليه وكانوا كالحافر حتفه بظلفه والجادع ما رن أنفه بكفه مع فرط عصبهم وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم
وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي طريقة أهل البدع الذين يجمعون بين الجهل والظلم فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم
كالخوارج المارقين الذين ابتدعوا ترك العمل بالسنة المخالفة في زعمهم للقرآن وابتدعوا التكفير بالذنوب وكفروا من خالفهم حتى كفروا عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومن والاهما من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين نقل الأشعري في كتاب المقالات أن الخوارج مجمعة على تكفير علي رضي الله عنه
وكذلك الرافضة ابتدعوا تفضيل علي على الثلاثة وتقديمه في الإمامة والنص عليه ودعوى العصمة له وكفروا من خالفهم وهم جمهور الصحابة وجمهور المؤمنين حتى كفروا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم هذا هو الذي عليه أئمتهم
وكذلك الجهمية ابتدعت نفي الصفات المتضمن في الحقيقة لنفي الخالق ولنفي صفاته وأفعاله وأسمائه وأظهرت القول بأنه لا يرى وأن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يتكلم هو بنفسه وغير ذلك ثم إنهم امتحنوا الناس فدعوهم إلى هذا وجعلوا يكفرون من لم يوافقهم على ذلك
وكذلك القدرية ابتدعت التكذيب بالقدر وأنكرت مشيئة الله النافذة وقدرته التامة وخلقه لكل شيء وكفروا أو منهم من كفر من خالفه
وكذلك الحلولية والمعطلة للذات والصفات يكفر كثير منهم من خالفهم
فالذين يقولون إنه بذاته في كل مكان منهم من يكفر من خالفه والذين يقولون إنه لا مباين للمخلوقات ولا عال عليها
فمنهم من يكفر من خالفه
والذين يقولون ليس كلامه إلا معنى واحدا قائما بذاته ومعنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد والقرآن العزيز ليس هو كلامه بل كلام جبريل أو غيره فمنهم من يكفر من خالفه
والذين يقولون بقدم بعض أحوال العبد كالذين يقولون بقدم صوته بالقرآن أو قدم بعض أفعاله أو صفاته وقدم أشكال المداد فمنهم من يكفر من خالفه
والذين يقولون بقدم روح العبد أو بقدم كلامه مطلقا أو قدم أفعاله الصالحة أو أفعاله مطلقا فمنهم من يكفر من خالفه
والذين يقولون إن الله يرى بلا عين في الدنيا منهم من يكفر من خالفه
والذين يهينون المصحف وربما كتبوه بالنجاسة فمنهم من يكفر من خالفه
ونظائر هذا متعددة
وأئمة السنة وا4لجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم لا يقصدون الشر لهم ابتداء بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا
فالمؤمنون أهل السنة هم يقاتلون في سبيل الله ومن قاتلهم يقاتل في سبيل الطاغوت كالصديق رضي الله عنه مع أهل الردة وكعلي ابن أبي طالب مع الخوارج المارقين ومع الغلاة والسبائية فأعمالهم خالصة لله تعالى موافقة للسنة وأعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صواب بل بدعة واتباع الهوى ولهذا يسمون أهل البدع وأهل الأهواء
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله
وأيضا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر
ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا وإن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق فإذا أصروا على الجحود كفروا
وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله إذا أنا مت فأسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين فأمر الله البر فرد ما أخذ منه وأمر البحر فرد ما أخذ منه وقال ما حملك على ما فعلت قال خشيتك يا رب فغفر له فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته وأنه لا يعيده أو جوز ذلك وكلاهما كفر لكن كان جاهلا لم يتبين له الحق بيانا يكفر بمخالفته فغفر الله له
ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له وكان هذا خطابنا
فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله كما لو شهد شخص بالزور على شخص أو قذفه بالفاحشة كذبا عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة وقد كفانا ذلك شيخه وغيره من الناس فبينوا من ضلاله وجهله ما ذكروه وذموه وعابوه وتنقصوه به كما هو معروف عن شيخه الجزري وغيره من أهل العلم
والمقصود هنا أن قوله ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم فقد نقصهم بعبارته فهي كلمة حق أريد بها باطل
ونحن نقول بموجب هذا الكلام وهو معناه الصحيح فإن من نفى ما يستحقونه من الرتبة وما يصلحون له من الأسباب فهو مفتر كذاب لكن الشأن ليس هو المنفي من هذا الباب ولو لم تقابل دعواه إلا بالمنع لكفانا فإنه يقال له لا نسلم أن الاستغاثة بهم مشروعة في كل ما يستغاث فيه بالله ولا أنها وسيلة من وسائل الله في ذلك كله بل سلمنا أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه قد تكون سببا وقد لا تكون فإن الناس يستغيثون بالنبي ﷺ يوم القيامة في الشفاعة فيشفع لهمم ويستغيث به من أنذره في دفع العذاب فيقول لا أملك لك من الله شيئا كما في الحديث الصحيح لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك
وليس كل من طلب من النبي ﷺ ما يقدر عليه أعطاه إياه إذ قد يكون ذلك غير جائز كما في الصحيح أنه سأله الفضل بن عباس وربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب أنه يوليهما على الصدقات فلم يجبهما وقال إنها أوساخ الناس وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد وكذلك سأله وفد هوازن السبي والمال فبذل لهم إحدى الطائفتين وسألته أم حبيبة أن يتزوج أختها فقال إنها لا تحل لي
بل يقال لا نسلم أن التوسل بذاتهم مشروع بحال في الحياة والممات وليس في شيء مما ذكره دليل على موارد النزاع فإن مضمون ما ذكره جمل
أحدها أن الاستغاثة طلب الإغاثة والتخلص من الكرب والشدة وأن الإغاثة تضاف إلى المخلوق كما يضاف إليه الإطعام والاستعانة والإعانة والهداية والتعليم وهذا صحيح وليس فيه أن الميت يستغاث به كما أنه ليس فيه أنه يستطعم ويستسقى ويستهدى ويستنصر ويستغاث به ولا فيه أن ما كان من هذا الباب لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإنه يطلب من غيره
الجملة الثانية التي من كلامه أن من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به سواء كان بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما في معناهما وقول القائل أتوسل إليك يا إلهي برسولك وأستغيث برسولك عندك أن تغفر لي استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم
وهذا الكلام كذب باطل لم يسبقه إليه أحد ولا ريب أنه لجهله وهواه وقع في هذا وإلا فما تعمد أن يقول ما يعلم أنه كذب ولم يقل أحد قط استغثت برسولك عندك ولا هذا عند أحد لا العرب ولا غيرهم وهو ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة وليس كذلك فإنه يقال استغاثه واستغاث به كما يقال إنه استعانه واستعان به فالمستغاث به هو المسؤول وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسؤول
الجملة الثالثة قوله إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته لأنه عند الله في مزيد دائم ثم لا ينقص جاهه وهذا لفظ صحيح لو كان معنى الاستغاثة الإقسام به والتوسل بذاته فإن ذاته بعد الموت لم تنقص بل هي في مزيد دائم من ربه عز وجل بأبي هو وأمي لكن هذه المقدمة باطلة كما قد عرف
فأما إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه فما الدليل على أن الطلب منه ميتا كالطلب منه حيا وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يسأل كما لا يقتضي أن يستفتى ولا يمكن أحد أن يذكر دليلا شرعيا على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة حتى إنه إذا قدر أن الله تعالى يكلفهم بأعمال يعملونها بعد الموت لم يلزم من ذلك جواز دعائهم كما لا يجوز دعاء الملائكة وإن كان الله وكلهم بأعمال يعملونها لما في ذلك من الشرك والذريعة إلى الشرك
وهو قد احتج بحديث الأعمى الذي قال اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد ﷺ نبي الرحمة وهذا الحديث لا حجة فيه لوجهين
أحدهما أنه ليس هو استغاثة به بل توجه به
والثاني أنه إنما توجه بدعائه وشفاعته فإنه طلب من النبي ﷺ الدعاء وقال في آخره اللهم فشفعه في فعلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته ﷺ
وهذا المحتج به بنى حجته على مقدمتين فاسدتين على أنهم توجهوا بذاته وأن ذلك يسمى استغاثة به فلزم من ذلك جواز ذلك بعد موته وفساد إحدى المقدمتين يبطل كلامه فكيف إذا بطلتا
وما ذكره من توسل آدم وحكاية المنصور فجوابها من وجهين
أحدهما أن هذا لا أصل له ولا تقوم به حجة ولا إسناد لذلك
والثاني أنه لو دل لدل على التوسل بذاته لا على الاستغاثة به
وأما فتح الكوة لينزل المطر فهو أيضا باطل كما تقدم التنبيه عليه ومع هذا فليس من هذا
وكذلك استسقاؤهم بدعائه ليس من هذا الباب
وأما اشتكاء البعير إليه فهذا كاشتكاء الآدمي إليه وما زال الناس يستغيثون به في حياته كما يستغيثون به يوم القيامة
وقد قلنا إنه إذا طلب منه ما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه والطلب منه منه في حياته والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لم ينازع فيه أحد
فما ذكره لا يدل على مورد النزاع ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة
ومعناها العام فجعل يتشبث بهما وهذا إنما يليق بمن قال لا يستغيث به أحدا حيا ولا ميتا في شيء من الأشياء ومعلوم أن عاقلا لا يقول هذا في آحاد العامة فضلا عن الصالحين فضلا عن الأنبياء والمرسلين فضلا عن سيد الأوليين والآخرين فإنه ما من أحد إلا ويمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء فكيف بأفضل الخلق وأكرمهم على الله تعالى ولكن النفي عاد إلى الشيئين إلى الاستغاثة به بعد الموت وإلى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فكيف إذا اجتمعا جميعا فإن من الناس من يستغيث بالموتى من الأنبياء والصالحين ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى
فهذه الجمل الثلاث ملخص كلامه وليس فيما ذكره ما يدل على مورد النزاع ولا ما يناقض جواب المجيب والحمد لله رب العالمين
فعلم أن منازعيه لم يخصوا الملائكة والرسول بنفي يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب
وأما قوله ولم يجعل الله تعالى لأحد تنقيص الرسل وأجمع السلف والخلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال
فيقال هذا حق لكنه كما قال علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه كلمة حق أريد بها باطل وهو أن من سألهم ما لا يقدرون عليه أحياء وأمواتا فقد آذاهم واعتدى عليهم وهو مستحق للعقوبة التي يستحقها مثله
بل من سألهم ما لا يريدون فعله حتى فعلوا ما يكرهونه فهو مستحق للذم والمقت
ومن ابتدع في دينهم مالم يأذن به الله وما يخالف ما جاؤوا به لزم أن يكون دينهم ناقصا وأنهم أتوا بالباطل وهذا مناقص بلا ريب لما يجب من الإيمان بهم وتعزيزهم وتوقيرهم ومن خالف ما جاؤوا به من توحيد الله تعالى وإفراده بالدعاء فهو من أعظم المخالفين لهم اعتقادا وقولا وعملا فإن أعظم ما دعوا إليه التوحيد فالمخالف له من أعظم الناس مخالفة لهم وقد بين في الصارم المسلول أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان وكل أمة لا تصدق الرسل فلا تكون إلا مشركة وكل مشرك فإنه مكذب بالرسل فمن دخل في نوع من الشرك الذي نهت عنه الرسل فإنه مناقض لهم مخالف لموجب رسالتهم
وإذا كان كذلك فما قال هذا المفتري وأمثاله هو بدعة لم تشرعها الرسل لو لم يرد ما يتضمن النهي عنها فكيف إذا علم أنه نهي عنها
أما المقام الأول فإنه لا يمكن أحدا أن يقول إن النبي ﷺ شرع لأمته أن يستغيثوا بميت لا نبي ولا غيره لا في جلب منفعة ولا دفع مضرة لا بهذا اللفظ ولا معناه
فلا يشرع لهم أن يدعوا ميتا ولا يسألوه ولا يدعوا إليه ولا أن يستجيروا به ولا يدعوه لا رهبة ولا رغبة
ولا يقول أحد لميت أنا في حسبك وأنا في جوارك وأنا أريد أن تفعل كذا وكذا
ولا أن يخطو إلى قبر ميت خطوات وأن يتوجه إلى جهة قبره ويسأل كما يفعل هذا كثير من النصارى وأشباه النصارى من ضلال هذه الأمة بكثير من شيوخهم وغير شيوخهم
ولا يشرع لأحد أن يقول لميت سل الله تعالى لي أو ادع لي
ولا يشرع لهم أن يشكو إلى ميت فيقول أحدهم مشتكيا إليه علي دين أو آذاني فلان أو قد نزل بنا العدو أو أنا مريض أو أنا خائف ونحو ذلك من الشكاوى سواء كان هذا السائل عند قبر الميت أو كان بعيدا منه وسواء كان الميت نبيا أو غيره
بل ولا يشرع لأمته إذا كان لأحدهم حاجة أن يقصد قبر نبي أو صالح فيدعوا لنفسه ظانا أن الدعاء عند قبره يجاب
بل ولا يشرع لأمته أن يقسموا عليه بمخلوق من المخلوقات لا نبي ولا غيره سواء أقسموا عليه لحاجة أو غير حاجة
ولا يشرع لأمته أن يتوسلوا إلى الله تعالى بذات ميت أصلا بل ولا بذات حي إلا أن يكون التوسل بما أمر الله به من الإيمان به وطاعته أو بدعاء المتوسل به وشفاعته
فأما إذا لم يكن المتوسل يتوسل بما أمر الله به ولا بدعاء الداعي له فليس هناك وسيلة شرعها الله تعالى ورسوله
فإذا كان النبي والرجل الصالح له عند الله من الجاه والقدر والحرمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهذا لا ينتفع المتوسل به إلا بأحد أمرين
إما أن يتوسل المتوسل بما أمر الله به من الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته والصلاة عليه والسلام ونحو ذلك فهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة
فالوسيلة تجمعها طاعة الرسول ﷺ فكل وسيلة طاعة للرسول ﷺ وكل طاعة للرسول وسيلة ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
والوجه الثاني أن يدعو له الرسول فهذا أيضا مما يتوسل به إلى الله تعالى فإن دعاءه وشفاعته عند الله تعالى من أعظم الوسائل
فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب ولا مستحب ولا الرسول دعا له فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه
ولكن بعض الذين دخلوا في دين الصابئين والمشركين ظنوا أن شفاعة الرسول لأمته لا يحتاج إلى دعاء منه بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المستشفع به من غير شعور من الرسول ولا دعاء منه ومثلوا ذلك بإنعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره فإن الشمس إذا وقعت على ماء أو مرآة وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة قالوا فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لا بد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة وجعل هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه وقالوا إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها
وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم كإبن سينا وأبي حامد وغيرهم
وهذه الأحوال هي من أصول الشرك وعبادة الأصنام وهي من المقاييس الفاسدة التي قال عنها بعض السلف ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس وهي من أقوال من يقول إن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم لا بكون الله يجيب الداعي وهي مبنية على أن الله تعالى ليس بفاعل مختار يحدث الحوادث بمشيئته واختياره
بل هؤلاء يقولون إن الرب سبحانه وتعالى يوجب العالم بذاته ويسمونه علة العلل ويقولون علة العلل ويقولون إنه علة تامة وإذا كان كذلك فلا بد للحوادث من سبب فجعلوا حدوثها سبب حركة الفلك وما يحدث عنها من الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية
ثم الإلهيون منهم يقولون إن الحركة بسبب الاستعدادات من العالم السفلي لأن يفيض عليها من العقل الفعال الصور النوعية وأن يفيض على النفوس العلوم والأخلاق وغير ذلك
وهؤلاء يجوزون أن يعبد الإنسان الكواكب لأنه بتوجهه إليها يفيض إليه منها أمور وكذلك الأصنام لأنه بتوجهه إلى الصنم يكون متوجها إلى صاحبه فيفيض عليه أمور والنفوس المفارقة هي سعيدة فإذا توجه المتوجه إلى تلك النفوس والقبور التي دفن فيها بدنها فاض عليها منها ما يفيض
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء وبينا فساد قولهم بالعقل الصريح المطابق للنقل الصحيح بما ليس هذا موضعه
والكلام إذا كان في أحكام أفعال العباد لم يكن لأحد أن يتكلم إلا بدليل شرعي لا أن يدعو إلى دين غير دين الإسلام ولا ريب أن هذه الأقوال ونحوها تدعو إلى غير دين الإسلام
وقول هذا المفتري وأمثاله يجر إلى مثل هذا لكنهم لا يعرفون أصل قولهم ولوازمه بل هم على عادة تعودوها واتباع لشيوخ لهم فيهم نوع من علم ودين ليس لهم خبرة بحقيقة ما جاء به الرسول وعندهم تعظيم الأنبياء والصالحين من جنس تعظيم النصارى والمشركين يعظمونهم تعظيم ربوبية من جهة ما يرجونه في حصول مطالبهم من جهتهم لا يعظمونهم لكونهم رسل الله الذين أمروا بطاعتهم فيجب أن يطاعوا فيما أمروا به وأن يقتدي بهم فيما يشرع التأسي بهم فيه ويعرضون عن بعض طاعتهم والتأسي بهم ويقبلون على نوع من دعائهم وسؤالهم والإشراك بهم وهؤلاء بالنصارى أشبه منهم بالصابئة الفلاسفة لكن الجميع فيهم شرك
ونحن في هذا الموضع ليس بنا حاجة إلى نفي تأثير هذه الأسباب فإنه ليس كل سبب أثر يكون مشروعا بل الشارع ينهى عن أمور لها تأثير في طلب بعض المطالب إذا كان ضررها راجحا على نفعها كما ينهى عن السحر ونحو ذلك وإن كان قد يمكن أن يقتل به كافرا ويطلع بذلك على بعض أخبار أعداء الإسلام وكذلك عباد الكواكب والأصنام قد تخاطبهم الشياطين وتحصل لهم بعض مطالبهم
ودعاء الغائبين والأموات من هذا الباب فقد يحصل أحيانا أن شيطانا يتمثل للداعي وقد يحصل بعض مطالبه لكن هذا كله منهي عنه لما ترتب عليه من الفساد ما يغمر ما يظن فيه من المنفعة
وهذه التأثيرات قد تحصل عند بعض القائلين بقدم العالم والقائلين بحدوثه بخلاف من يقول إن الأثر الحاصل لا يكون إلا فيضا فهذا لا يكون إلا على قول القائلين بالقدم
وقد بينا في غير هذا الموضع أن هؤلاء الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن موجب بذاته هو علة تامة حقيقة قولهم أن الحوادث تحدث بلا محدث أصلا وأن حركة الفلك الحادثة شيئا بعد شيء ليس لها محدث أصلا وهم يقولون إنه متحرك حركة شوقية بقولهم في حركته من جنس قول القدرية في حركة الحيوان والقدرية أخرجوا فعل الحيوان أن يكون مخلوقا لله عز وجل وأثبتوا حادثا لا محدث له وهؤلاء الصابئة والفلاسفة أخرجوا حركة الفلك وجميع الحادثات من أفعال الحيوان وغيرها عن أن تكون مخلوقة لله تعالى وأثبتوا هذه الحوادث بلا محدث
والناس ردوا على القدرية وقالوا إرادة العبد حادثة بعد أن لم تكن فلا بد لها من محدث وإذا قيل إن العبد أحدثها بلا إرادة لزم وقوع الحوادث من المختار بلا إرادة وإن قيل بإرادة فالقول فيها كالقول في الأولى وهؤلاء القدرية قالوا إرادة الرب يحدثها لا في محل بلا إرادة منه كما قال ذلك البصريون من المعتزلة وقالوا إرادة العبد يحدثها في نفسه بلا إرادة منه وكلاهما ممتنع
ثم يقال لهم حدوثها بعد أن لم تكن حادثة أمر حادث فلا بد له من محدث وقد يقال الإرادة أمر ممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام والمحدث والمرجح إن كان من العبد فالقول في حدوثه كالقول في الأول وذلك يستلزم التسلسل في أفعال العباد وأفعال العباد لها أول فيمتنع التسلسل فيها فلزم أن يكون المحدث المرجح لها خارجا عن العبد وكل ما يذكر سوى الرب تعالى منته إليه والمحدث المرجح هو الله تعالى
وقول الصابئة والفلاسفة أفسد من قول القدرية فإنه يقال إذا كان الرب عندكم علة تامة موجبا بذاته في الأزل لم يزل ولا يزال هكذا ومعلولة لازم لذاته لا يمكن تأخره عنه امتنع أيضا أن تصدر عنه حركة الفلك وغيرها من الحوادث وامتنع أن يصدر عنه ما يستلزم الحوادث والعالم مستلزم للحوادث فيمتنع صدوره عن العلة التامة لأن الحوادث تحدث شيئا بعد شيء كما أن حركة الفلك تحدث شيئا بعد شيء والعلة التامة لا يحدث معلولها ولا شيء من معلولها شيئا بعد شيء بل جميع معلولها مقارن لها أزلا وأبدا لا يتأخر منه شيء عن الأول وإذا كان كذلك فالحوادث كأجزاء الحركة الفلكية يمتنع صدورها عن الموجب بذاته
وإذا قيل إن الحركة سببها الشوق الذي هو في الفلك للتشبيه بالأول قيل فتلك الإرادة والتصور الذي هو سر ما في الإرادة الذي هو سبب الحركة بتجدده هو أيضا من الحوادث المتعاقبة وهو نوع حركة نفسانية فلا بد لها من محدث فإذا كانت العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها امتنع صدورها عنه وإذا كان الفلك لا يخلوا عن الحوادث امتنع صدورها عنه لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ولو قدر مقدر أن العالم لم يكن فيه حادث ثم تجددت الحوادث لكان القول فيما ليس بمتجدد كالقول في غيره فإن التقدير أنه هناك فاعل لا علة تامة والعلة التامة لا يتجدد عنها شيء بل معلولها مقارن لها وهذا إذا تصوره العاقل علم بالضرورة بطلان قول هؤلاء الذين هم من أبعد الناس عن المعقول الصريح كبعدهم عن المنقول الصحيح ثم هل تقوم بالرب الأمور الاختيارية التي يسمونها الحوادث لهم في ذلك قولان كما للمتكلمين قولان
وطائفة من الأساطين القدماء يجوزون ذلك وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر وغيره من متأخريهم ومنهم من لا يجوزه كابن سينا وأمثاله فمن لم يجوز ذلك ظهر فساد قوله بقدم العالم ظهورا بينا ومن جوزه أيضا فيمتنع عليه أن يقول بقدم شيء من العالم فإنه حينئذ إذا كان الرب تعالى يفعل شيئا بعد شيء بأفعال تقوم بذاته لم يكن قط علة تامة لمفعولاته بل كل ما يفعله ويحدثه هو فاعل له حين أحدثه وفعله والمؤثر التام يستلزم أثره كما أن الأثر يستلزم مؤثره التام
ولهذا كان مذهب أهل السنة أن القدرة لا بد أن تكون مع مقدورها لا يجوز أن تكون معدومة عن وجود المقدور لكن تنازعوا هل يكون وجودها قبل مع بقائها والصواب هو التفريق بين القدرة المصححة التي يشترط في الفعل معها وجود الإرادة وبين القدرة الموجبة وهي مجموع ما يستلزم المقدور
وأما القدرية فقالوا إن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل وإذا كان الحوادث يحدثها شيئا بعد شيء بحسب حدوثها لزم أن تقوم به الأفعال الاختيارية
وإذا كان كذلك بطل أصل قولهم الذي بنوا عليه قدم العالم حيث قالوا هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وإذا كان كذلك قارنت موجبه فإذا كان نفس الحوادث يستلزم أن يكون فاعلا أفعالا متعاقبة بطل كونه وموجبا بذاته بمقارنة موجبه فبطل التلازم الذي ذكروه وجاز أن يكون محدثا للأفلاك وإن كان قد احدث قبلها شيئا آخر كما أخبر الله تعالى أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
وكذلك في التوراة أنه ابتدأ خلق السماوات والأرض وكان الماء مستبحرا غامرا للأرض والرياح تهب فوقه وملخص ذلك أنه لو كان شيء من العالم قديما لكان موجبا بذاته يقارنه موجبه لا يتأخر عنه
والثاني باطل لأنه لو كان كذلك لم يحدث في العالم شيء لأن العالم بجميع ما فيه موجب له فلو كان موجبه يقارنه في الأزل لزم أن لا يحدث في العالم شيء ولو وجد العالم دون الحوادث لوجد الملزوم دون اللازم ولحدثت الحوادث بعد ذلك عن الموجد المستلزم لموجبه في الأزل وكلاهما ممتنع
وكل خبر في العالم فهو مستلزم لمقارنة الحوادث إذ يمكن أن تقوم به الحوادث فلو كان صادرا عن موجب بالذات لامتنع حدوث الحوادث مقارنة له أو حادثة بعده لأن صدورهما عن موجب بالذات ممتنع لا سيما والذات التي من شأنها أن تقوم بها الأفعال المتعاقبة فيفعل شيئا بعد شيء لا يكون فعل معين لازما لذاتها فلو كان في العالم شيء قديم تبين أنه إنما يلزم نوع الأفعال لا فعل مع معين
وأيضا فلزوم الفعل المعين لمفعول معين لذات تقوم بها الأفعال المتعاقبة وتنفعل شيئا بعد شيء غير معقول فإنها متى كانت كذلك امتنع أن يلازمها أزلا وأبدا فعل معين فإن ملازمة المعين ينافي كون فعلها شيئا بعد شيء
وإذا قيل يلزمها فعل معين ولا يلزمها شيء من الأفعال كانت أفعالها منقسمة إلى معين لازم لها وإلى نوع يحدث شيئا بعد شيء فهي للأول موجبة بذاتها والثاني فاعلة باختيارها فيكون موجبه بالذات المفعول وفاعل بالاختيار لمفعولات واجتماع هذين في الذات الواحدة تناقض لأن كونها فاعلة بعد اختيارها شيئا بعد شيء يناقض اتصالها بالإيجاب بالذات مع أن الفعل المعين الملازم للذات لا يعقل ولا يقبل الفعل إلا الإحداث وإنما يقبل فيما كان لازما لها أن تكون صفة لها كالحياة لا أن يكون مفعولا لها فكونه مفعولا يناقض كونه معه لازما لا سيما إذا كان الفاعل فاعلا بالاختيار
والمقصود هنا أنه إذا لم يحصل من العبد فعل أمره الله تعالى به في حق الرسول ولم يحصل من الرسول شفاعة له فلا يتصور أن ينتفع بجاه الرسول منفعة أمر الله تعالى بها ودينه في دين الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم لكن على قول غير أهل التوحيد من المشركين القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه فإن المشرك قد يدعو إلها من دون الله فتخاطبه الشياطين وربما قضت له بعض الحاجات وهذا معروف في عباد الكواكب والأصنام وعباد الموتى من الصالحين وغير الصالحين
وأما على قول الصنف والثاني من المشركين الذين جمعوا في الحقيقة بين التعطيل والإشراك فأنكروا أن يكون خالقا للعالم بقدرته ومشيئته وهم مشركون فمن هؤلاء من يقول إنه قد يفيض عليه من الشفيع شيء بغير دعاء الرسول لكن لا بد عند هؤلاء من توجه من العبد ولا يشترطون التقرب بما شرعته الرسل بل يمكن عندهم إذا سجد لتمثاله أو لقبره ودعاه من الله تعالى أن يحصل له ذلك كما يحصل له إذا توجه للشمس من سخونة شعاعها ما يحصل
والفرق بين الموحدين والمشركين أن الموحدين يقولون إن ما أمرت به الرسل من العبادات إنما يتقرب به إلى الله تعالى والأجر فيه على الله تعالى وإنما على الرسول البلاغ ليس عليه حصول الثواب ولا يشترط أن يكون واسطة في وجوده بل يخلق الله الثواب بغير واسطة الرسول وأما شفاعة الرسول فهي دعاء لله تبارك وتعالى وهؤلاء يقولون لا يحصل إلا بتوسطهم وإن فاض عنهم بغير قصد فهذا أصل ينبغي معرفته
فإن هذا الضال وأمثاله يجعلون الأنبياء والصالحين من جنس الذين يظنون أن النفع والضر يحصل لهمم بتوسطهم كما يحصل الشعاع والحرارة بتوسط الشمس
ونحن نقول إن كل ما شرعه الله تعالى ورسوله فهو من أعظم الوسائل إلى الله لكن دعاؤهم بعد الموت لم يشرعه الله ورسوله فليس من الوسائل وكذلك سؤال أحدهم مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ليس مشروعا وأصل الدين أن لا يعبد إلا الله بما شرع وما ذكره هؤلاء يتضمن عبادة غير الله بغير أمر الله
المقام الثاني أن يقال هذا مما نهت عنه الرسل فقد ثبت في الصحاح أن النبي ﷺ نهى عن اتخاذ القبور مساجد وقال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وقال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها
فلو كان الدعاء عند القبور أجوب منه في غير تلك البقعة لكان قصدها للدعاء عندها مشروعا لم ينه أن يتخذ مسجدا فإن اتخاذ القبور مساجد يدخل فيه الصلاة وغيرها ويدخل فيه بناء المساجد عليها وكلاهما منه عنه بل محرم كما صرح به غير واحد من العلماء فإن النبي ﷺ لعن من فعل ذلك تحذيرا لأمته وهذا يقتضي توكيد التحريم
فإن الدعاء في الصلاة أجوب منه في غيرها كالدعاء في دبرها كما جاءت به السنة في الأدعية الشرعية فإنها مشروعة في آخر الصلاة كذلك الدعاء عقب الصلاة وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وإنما يكون بعد صلاة الظهر والعصر والوقوف بمزدلفة ودعاؤها بعد صلاة الفجر
والطواف يجري مجرى الصلاة ولهذا يستحب الدعاء في آخره كما كان النبي ﷺ يقول بين الركنين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار والطواف تحية المسجد الحرام
وأما منى فعبادتها رمي الجمار ولهذا يرمونها يوم النحر ثم ينحرون كما يصلون في الأمصار ثم ينحرون فليس بمنى صلاة عيد بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لغيرهم وسائر الجمرات ترمى عقب الزوال قبل صلاة الظهر
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى
فلما كان هذا من شعائر الصلاة والطواف كان الدعاء عندها مشروعا كما ثبت في الصحيح أنه ﷺ كان يدعو بين الجمرتين بقدر سورة البقرة
وأما جمرة العقبة فليس عندها وقوف ولا دعاء فإنها آخر منى والداعي يريد أن يتأخر عن الجمرة وما بعدها ليس من مني وكان الداعي في نفس عرفة ومزدلفة ومنة لا خارجا عنها ولهذا قال النبي ﷺ عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرفة ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر ومنى كلها منحر فلم يجعل الحدود الفاصلة بين المشاعر منها
وقد قال طائفة من السلف في قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قالوا مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة ومني ومصلى أي مدعى وهذا لا ينافي عند كثير من العلماء ما ثبت في الصحيح من أن النبي ﷺ لما طاف صلى عند المقام وقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى لأن الآية قد تتناول هذا وهذا عند كثير من أهل العلم
ففي الجملة أحق البقاع بدعاء الله تعالى فيها المساجد التي يصلى فيها والمشاعر التي شرع الله تعالى فيها الدعاء والذكر وأمر أن يكون الدين خالصا له كما قال تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين
فإذا كانت الصلاة والذكر لله وحده لم يكن ذلك مشروعا عند القبر وكما لا يذبح للميت ولا عند قبره بل نهى النبي ﷺ عن العقر عند القبر وكره العلماء الأكل من تلك الذبيحة فإنها شبه ما ذبح لغير الله فلو كانت مقابر الأنبياء والصالحين مما يستحب الدعاء عندها لكانت إما من المساجد وإما من المشاعر التي يحج إليها وقد نهى النبي ﷺ عن هذا وهذا بل لعن الذين يتخذون القبور مساجد
وقال أيضا في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني فنهى أن يتخذ قبره عيدا وهذا معنى المشاعر فإن المشاعر تتخذ أعيادا أي يجتمع الناس عندها في أوقات معتادة والعيد اسم للوقت وللمكان الذي يعتاد الاجتماع فيه وقد يعبر به عن نفس الاجتماع المعتاد ولهذا سمى النبي ﷺ يوم الجمعة عيدا وقال إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين
وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى قوما يتناوبون مكانا يصلون فيه قال ما هذا قالوا مكان صلى فيه رسول الله ﷺ قال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض
فقد نهاهم عن اتخاذ آثار الأنبياء مساجد وهذا لا ينافي قول عتبان بن مالك للنبي ﷺ إن السيول تحول بيني وبين قومي فلو صليت في بيتي في مكان أتخذه مصلى فجاء النبي ﷺ فصلى عنده ركعتين لأن عتبان رضي الله عنه كان مقصوده بناء مسجد لحاجته إليه وتبرك بكون النبي ﷺ يصلي فيه أولا كما أنه ﷺ بنى مسجد قباء وبنى مسجده والمسجد الذي يتخذه بناء أفضل من غيره كما فضل المسجد الحرام ومسجد سليمان عليه السلام بخلاف من لم يكن مقصوده إلا بناء مسجد لأجل ذلك الأثر
وأما ما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى في سفره النزول في مكان النبي ﷺ والصلاة في مصلاه فمن الناس من رخص في مثل ذلك بخلاف ما إذا اجتمع على ذلك الناس ومن الناس من قال هذا أمر انفرد به ابن عمر والخلفاء الراشدون والأكابر من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم من ابن عمر وأعظم إتباعا للنبي ﷺ فلو كان هذا مستحبا لفعله هؤلاء
وأيضا فلما فتح المسلمون تستر وجدوا فيها قبر دانيال عليه السلام وكان أهل البلد يستسقون به فكتب في ذلك أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وادفنه في الليل في واحد منها لئلا يفتتن به الناس فيستسقون به
فهذه كانت سنة الصحابة رضوان الله عليهم ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان على وجه الأرض في ديار الإسلام مسجد مبني على قبر ولا مشهد يزار لا بالحجاز ولا باليمن ولا الشام ولا مصر ولا العراق ولا خراسان
وقد ذكر مالك رحمة الله تعالى عليه أن وقوف الناس للدعاء عند قبر النبي ﷺ بدعة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون وقال لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها
فأما ما أمر به النبي ﷺ في زيارة القبور فإنما هو دعاء للميت كالدعاء في الصلاة على جنازته
والسنة في الدعاء التعميم كما في السنن أن النبي ﷺ مر بعلي وهو يدعو فقال يا علي عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض ولهذا يقال في دعاء الجنازة اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا لم يخص الميت بالدعاء له
وكذلك يقال في السلام على الموتى السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية
كما يقال في الصلاة السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
وكما روي عن النبي ﷺ أنه كان إذا ذكر نبيا قال يرحمنا الله وفلانا
وكما يقول الخطيب وأستغفر الله لي ولكم
والمقصود بالصلاة على الجنازة الدعاء للميت وغيره يدخل تبعا
وكذلك في زيارة القبور المقصود الدعاء للميت وغيره يدخل تبعا بخلاف من يكون قصده أن يدعو لنفسه بالميت أو عند الميت وهذا كله من الدعاء عند القبور
وأما دعاء الميت وسؤاله بلفظ الاستغاثة وغيرها كقول الداعي أطلب منك المغفرة والرحمة أو قضاء الدين أو النصر على العدو فهذا مما نهى عنه القرآن قال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا
وفي التفسير الصحيح عن مجاهد يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال عيسى بن مريم وعزير والملائكة
وكذلك عن إبراهيم النخعي قال كان ابن عباس يقول في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة هو عزير والمسيح والشمس والقمر
وكذلك روي عن شعبة عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال عيسى وأمه والعزير في هذه أولئك الذي يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
وروى قتادة عن عبد الله بن معبد الزماني عن ابن مسعود قال كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله فأنزل الله تبارك وتعالى أولئك الذين يدعون معشر العرب يبتغون إلى ربهم الوسيلة
وفي رواية عن الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فنزلت أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب
وكذلك قال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا قال وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من المشركين
وكذلك ذكر العوفي في تفسيره عن ابن عباس قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا
وثبت أيضا في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال كان ناس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وبقي الإنس على كفرهم فأنزل الله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب يعني الجن وهذا معروف عن ابن مسعود من غير وجه
وهذه الأقوال كلها حق فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز فيريه رغيفا فيقول هذا فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين
فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس وقد اختار الطبري قول من فسرها بالملائكة أو بالجن لأنهم كانوا في زمن النبي ﷺ يبتغون إلى ربهم الوسيلة بخلاف المسيح والعزير فإنهما لم يكونا موجودين على عهده فلم يكونا حينئذ ممن يبتغي الوسيلة إذ ابتغاء الوسيلة العمل بطاعة الله تعالى والتقرب إليه بالصالح من الأعمال فأما من كان لا سبيل له إلى العمل فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة
وهذا الذي قاله إن كان صوابا فهو أبلغ في النهي عن دعاء المسيح وعزير وغيرهما من الأموات من الأنبياء والصالحين فإنه إذا كان الحي الذي يتقرب إلى ربه بالعمل لا يجوز دعاؤه فدعاء الميت الذي لا يتقرب بالعمل أولى أن لا يجوز وإن كانت الآية تعم هذا وهذا فهي دالة على ذلك فدلالتها ثابتة على كل تقدير والصحيح أنها تعم هؤلاء وهؤلاء وذلك أن هؤلاء كانوا في حياتهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة وهو لم يقيد ذلك بزمن النزول بل أطلق
وإذا قال القائل آدم ونوح وإبراهيم وموسى يعبدون الله ولا يشركون به علم أن المراد هذا دينهم قال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار كان حكم النبيين بها قبل نزول الآية بدهر
والعرب تقول مضى حتى لا يرجونه وشربت الإبل حتى يجيء البعير فيقول برأسه كذا ومنه قراءة من قرأ وزلزلوا حتى يقول الرسول وهذا ماض
وقد قال تعالى أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا وهذا قد مضى قبل نزول القرآن والفعل مضارع لأنه حكى حالهم الماضي ولهذا تقول النحاة هذا حكاية حال كقوله وكلبهم باسط ذراعيه
فإن قيل المعروف في مثل هذا أن يقال كانوا يفعلونه كما قال تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا
قيل لكن إذا كان في الكلام ما يبين المراد لم يحتج إلى ذلك لا سيما إذا ذكر ماض وحاضر وعمهم الخطاب فهنا يتعين حذف كان لأن المقصود الإخبار عن حال هؤلاء الحاضرين والحاضرون لا يخبر عنهم بكان كما تقول المؤمنون من الأولين والآخرين يعبدون الله لا يشركون به
والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعى من دون الله وكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن ومعلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يقدره الله تعالى بأفعالهم ومع هذا فقد نهى الله عز وجل عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع أيضا فلا يرفعونه ولا يحولونه من حال إلى حال كتغير صفته أو قدره ولهذا قال تعالى ولا تحويلا فذكر نكرة تعم أنواع التحويل
يقال كشف البلاء أي أزاله ورفعه ويقال كشف عنه أي أظهره وبينه
فمن الأول قوله تعالى ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون
وقوله تعالى ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون
وقوله تعالى فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون
ومن الثاني قوله تعالى يوم يكشف عن ساق لم يقل يوم يكشف الساق وهذا يبين خطأ من قال المراد بهذه كشف الشدة وأن الشدة تسمى ساقا وأنه لو أريد ذلك لقيل يوم يكشف عن الشدة أو يكشف الشدة
وأيضا فيوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار والرواية في ذلك عن ابن عباس ساقطة الإسناد
والاستغاثة هي طلب كشف الشدة فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الجن فقد دعا من لا يغيثه فلا يملك كشف الضر ولا تحويله وقد قال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا كان أحدهم إذا نزل بواد يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فقالت الجن الإنس يستعيذوننا فزادوهم رهقا
وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله عز وجل غير مخلوق قالوا لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك
كقوله ﷺ أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق
وأعوذ بكلمات الله التامات كلها من غضبه وعذابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضروا
وأعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن
قالوا والاستعاذة لا تجوز بالمخلوق وقول القائل أعوذ بالله معناه أستجير بالله فإذا لم يجز أن يستغاث بمخلوق لا نبي ولا غيره فإنه لا يجوز أن يقال له أنت خير معاذ يستغاث به بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال بعض الشعراء لبعض الرؤساء الممدوحين
يا من ألوذ به فيما أؤمله... ومن أعوذ به فيما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره... ولا يهيضون عظما أنت جابره
فقول القائل لمن مات من الأنبياء أو غيرهم بك أستجير من كذا وكذا كقوله بك أستعيذ وقوله بك أستغيث في معنى ذلك إذ كان مطلوبه منع الشدة أو رفعها والمستعيذ يطلب منع المستعاذ منه أو رفعه فإذا كان لخوف طلب منعه كقوله أعوذ بالله من عذاب جهنم أو عذاب القبر وإن كان حاضرا طلب رفعه كقوله في الحديث الصحيح أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر فتعوذ بالله من شر الموجود وشر المحاذر
والداعي يطلب أحد شيئين إما حصول منفعة وإما دفع مضرة فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب وقول القائل لا يستعاذ به ولا يستجار به ولا يستغاث به ألفاظ متقاربة
ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعى ويذكر عنده فإنه سبحانه يستجار به ويستغاث به هناك وقد يتمسك المتمسك بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به ومنه قول عمرو بن سعيد لأبي شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة
وفي الحديث الصحيح يعوذ عائذ بهذا البيت
ومنه قول القائل
ستور بيتك ذيل الأمن منك وقد... علقتها مستجيرا أيها الباري
وما أظنك لما أن علقت بها... خوفا من النار تدنيني من النار
ويسمى ذلك المكان المستجارة وقد كان من السلف من يدخل بين الكعبة وأستارها فيستعيذ ويستجير بالله ويدعوه ويتضرع إليه هناك
ويجوز مدح الله والثناء عليه بالنظم وكذلك دعاؤه كما قال الأسود ابن سريع للنبي ﷺ لما نظم شعرا في مدح الله تعالى فقال إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد فلم ينكر عليه ذلك
لكن روي أنه قال ولم يستنشده وروي أنه استنشده كما روى الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع قال قلت يا رسول الله إني مدحت الله بمدحة ومدحتك بأخرى فقال النبي ﷺ هات وأبدأ بمدحة الله تعالى
ولكن ثبت عنه أنه كان يستنشد الشريد بن السويد الثقفي شعر أمية ابن أبي الصلت وهو يقول هيه هيه وذلك مثل قوله
مجدوا الله فهو للمجد أهل... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا... س وسوى فوق السماء سريرا
شرحبا ما يناله بصر العين... ترى دونه الملائك صورا
وقوله
رجل وثور تحت رجل يمينه... والنسر للأخرى وليث مرصدا
وغير ذلك
ومنه قول النبي ﷺ إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني ابن رواحة
وذلك كقوله الذي أنشده للنبي ﷺ
شهدت بأن وعد الله حق... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد... ملائكة الإله مسومينا
وقوله
وفينا رسول الله يتلو كتابه... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا... به موقنات أن ما قال واقع
ومن ذلك ما كان النبي ﷺ والصحابة رضي الله عنهم يتمثلون
اللهم لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبت الأقدام إن لا قينا
إن الأولى قد بغوا علينا... إذا أرادوا فتنة أبينا
وهذا النظم فيه دعاء الله تعالى بقوله
فأنزلن سكينة علينا... وثبت الأقدام إن لاقينا
ومثل هذا البيت قوله اللهم ويقال فيه لا هم إن العيش كما في قول عبد المطلب
لا هم إن المرء يمنع رحله... وحلاله فامنع حلالك
ومنه قول النبي ﷺ
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك ما ألما
ومنه قول الصحابة رضي الله عنهم
اللهم إن العيش عيش الآخرة... فاغفر للأنصار والمهاجره
وكان النبي ﷺ يتمثل به لكن روي أنه قال فاغفر للمهاجرين والأنصار
وهذا دعاء في الشعر وقد أقر الصحابة على قولهم فدل على جوازه وإن كان هو ﷺ لا يقول الشعر فذلك من خصائصه كما قال تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له فهو ﷺ لم يكن ينظم الشعر ولكن هل تمثل به أو لم يتمثل بشعر فيه نزاع ليس هذا موضعه
وليس كل الشعر مذموما بل منه ما هو مباح ممدوح
كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إن من الشعر لحكمة
وقد قال تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون فقد استثنى الله تعالى ممن ذمه من الشعراء من ذكره فدل ذلك على أنه ليس كل الشعراء مذمومين
وقد ثبت في الصحيح أنه كان ينصب لحسان بن ثابت منبرا ويأمره بهجاء المشركين ويقول اللهم أيده بروح القدس وفي رواية إن روح القدس معك ما نافحت عن رسوله
وقد سمع شعر خزاعة لما قدموا عليه حين عدت بنو بكر على خزاعة وأنشدوه القصيدة المعروفة التي فيها
إن قريشا اخلفوك الموعدا... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
إلى آخرها
وكذلك سمع قصيدة كعب بن زهير المشهورة التي أولها بانت سعاد
إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية التي تدل على أن من الشعر ما يجوز إنشاؤه واستماعه
ومما يبين حكمة الشريعة وعظم قدرها وأنها كما قيل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق أن الذين خرجوا عن المشروع زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك
فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت ويدعو أحدهم الميت فيقول اغفر لي وارحمني ونحو ذلك ويسجد لقبره
ومنهم من يستقبل القبر ويصلي إليه مستدبرا الكعبة ويقول القبر قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا وهو شيخ متبوع ولعله أمثل أتباع شيخه يقوله في شيخه
وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد يأمر المريد أو ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل
وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجده أحدهم في مساجد الله تعالى التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه
وآخرون يحجون إلى القبور وطائفة صنفوا كتبا وسموها مناسك حج المشاهد كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان الملقب بالمفيد أحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبة على من له معرفة بالنقل
وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموا ذلك منسكا وحجا فالمعنى واحد ومن هؤلاء من يقول وحق النبي الذي تحج إليه المطايا فجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله عز وجل
وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي ﷺ لا حج البيت وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح صنف كتابا سماه الاستغاثة بالنبي ﷺ في اليقظة والمنام وهذا الضال استعان بهذا الكتاب
وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي ﷺ منتهى قصده ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة وجعل هذا من مناقبه فإن كان هذا مستحبا فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده ولا يذهب إلى مكة فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل وهذا لا يفعله عاقل
وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة على طريقة ابن سبعين قيل عنه إنه كان يقول البيوت المحجوجة ثلاثة مكة وبيت المقدس والبندر الذي للمشركين بالهند وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق ودين النصارى حق وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال له أريد أن أسلك على يديك فقال على دين اليهود والنصارى أو المسلمين فقال له واليهود والنصارى ليسوا كفارا قال لا تشدد عليهم لكن الإسلام أفضل
ومن هؤلاء من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت ومنهم من يرجح الحج إلى البيت لكن قد يقول أحدهم إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثا كان كحجة
ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات يسافرون إليها وقت الموسم يعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات كما يفعل هذا في المغرب والمشرق
ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه أفضل من الحج ويقول أحد المريدين لآخر وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع فشاور الشيخ فقال لو بعت لكنت مغلوبا
ومنهم من يقول من طاف بقبر الشيخ سبعا كان كحجة
ومنهم من يقول زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة
ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال كل خطوة إلى قبره كحجة ويوم القيامة لا تبع بحجة وأنكر بعض الناس ذلك فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه وزبره على إنكاره ذلك
وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين فليسوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء وليسوا من عمار مساجد الله الذين قال الله فيهم إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتي الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين
فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله وعمار مساجد المقابر يخشون غير الله ويرجون غير الله حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح كان إذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة خشي من فعل الفواحش ويقول أحدهم لصاحبه ويحك هذا هلال القبة فيخشون المدفون تحت الهلال ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج
وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم كما صنع المشركون بإبراهيم عليه السلام قال تعالى وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون قال الله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله والشيخ الحي المتعلق به كالنبي فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه وكانوا في أنفسهم قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها وعزلوا محمدا ﷺ عن أن يتخذوه رسولا وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام أو التابع لهم لحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه أو غير ذلك فيدخل ذلك السادن فيقول قد قلت للشيخ والشيخ يقول للنبي والنبي يقول لله والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني ولا يروج عليه
ويأكلون من النذور وما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله تعالى إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله فإنهم يأكلون أموال الناس بغير حق ويصدون عن سبيل الله ويعوضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه فيمتنع بسبب ذلك عن الدين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه
والله تعالى لم يذكر في كتابه المشاهد بل ذكر المساجد فإنها خالصة له
قال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين
وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين
وقال تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا
ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت الأصنام والمشاهد ولا ذكر بيوت النار لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين الذين كانوا قبل النسخ والتبديل يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا بخلاف بيوت الأصنام وبيوت النار وبيوت الصابئة المشركين كالذي يسمونه هيكل العلة الأولى هيكل العقل هيكل النفس وهيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس هيكل عطارد هيكل الزهرة هيكل القمر فإن هذه البيوت ليس في أهلها مؤمن ولم يكن في أهلها عبادة أمر الله بها
فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيت الكواكب وبيت المقابر لم يمدح الله شيئا منها ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي ﷺ قال الله تعالى قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا
فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى الذين لعنهم النبي ﷺ حيث قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي رواية والصالحين
وفي الصحيحين عنه أنه لما ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر حسنها وتصاويرها فقال أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة فجمع بين التصاوير والمقابر
وفي الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا طمسته
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ لم يدخل الكعبة حتى أخرج ما فيها من التماثيل
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها
وقد تنازع الفقهاء في الصلاة في الكنيسة وقال البخاري قال ابن عباس لا بأس بالصلاة في الكنيسة وقيل يكره مطلقا وقيل يرخص فيها والصحيح أنه إن كان فيها تماثيل كانت بمنزلة المساجد المبنية على القبور وبمنزلة دار الأصنام فالمصلي فيها مشابه لمن يعبد غير الله وإن كانت نيته الصلاة لله كما أن المصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها لما شابه من يعبد غير الله نهي عن ذلك سدا للذريعة
وأيضا فالملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة فكيف يصلى فيه ولهذا لم يدخل النبي ﷺ الكعبة حتى أزيلت الصور بخلاف الكنيسة التي لا صور فيها
فإن قيل تكره لكونها محل الكفر
قيل الصلاة في محل الكفر بمنزلة فتح دار الكفر وجعلها دار إسلام وبمنزلة صلاة المسلمين في دار الحرب وقد أمر النبي ﷺ ثقيفا أن يتخذوا مسجدهم موضع بيت اللات بعد هدم اللات وكانوا يسمونها الدبة ولهذا فضل ذاكر الله في الغافلين
وقيل إنه كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس فالعابد بين أهل الكفر والغفلة أعظم أجرا من غيره
وإن قيل الصلاة فيها غضب لهم
قيل له الكنائس ليست ملكا لأحد وليس لهم أن يمنعوا من يعبد الله لأنا صالحناهم على هذا بل قد شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يوسعوا أبوابها للمارة
ومن ذلك أن هؤلاء المشركين من الصابئة ونحوهم لما كانوا يعبدون الكواكب والملائكة وربما سموها العقول والنفوس وجعلوها وسائط بين الله وبين خلقه وأهل التوحيد لا يعبدون إلا الله تعالى ويطيعون رسله الذين أمروا بعبادته وحده لا شريك له فقالت الصابئة المشركون للحنفاء نحن نتخذ الروحانيين وسائط وأنتم تتخذون البشر وسائط فديننا أفضل من دينكم فأخذ يعارضهم طائفة من النظار كالشهرستاني في كتابه المعروف بالملل والنحل وغيره ويذكرون أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيات العلوية وناظروهم مناظرة يعرف تقصيرهم فيها لأنهم بنوها على أصل فاسد وهو مقايسة وسائط المشركين بوسائط الموحدين الحنفاء
وهذا جهل بدين الحنفاء فإن الحنفاء ليس بينهم وبين الله تعالى واسطة في العبادة والدعاء والاستعانة بل يناجون ربهم ويدعونه ويعبدونه بلا واسطة وإنما الرسل بلغتهمم عن الله تعالى ما أمر به وأحبه من العبادات وغيرها وما نهى عنه فهم وسائط في التبليغ والدلالة وهم مع المؤمنين كدليل الحاج مع الحجاج وكإمام الصلاة مع المصلين
فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه يعرفون الناس طريق الله تبارك وتعالى كما يعرف الدليل الحاج طريق مكة شرفها الله تعالى ثم الناس يعبدون الله تعالى كما أن الحجاج يقيمون مناسك الحج
والرسل أيضا يقتدى بهم في الأفعال التي يتأسى بهم فيها كما يقتدي المأمور بالإمام في الصلاة وكل مصل يعبد ربه منه إليه بلا واسطة وأولئك الصابئة من الفلاسفة غاية سعادة النفوس عندهم أن تصل إلى العقل الفعال وأصحاب رسائل إخوان الصفا صنفوا رسائلهم على أصول هؤلاء ممزوجة بما أخذوه من دين الحنفاء وأرادوا بزعمهم أن يجمعوا بين الحنفية والصابئة فضلوا وأضلوا
وأما الحنفاء فعندهم أنه ما من عبد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان وعندهم أن الملائكة عباد الله يفعلون ما أمرهم الله به
ومن أثبت أن دون الله تعالى روحا يكون مبدعا للعالم فهو أكفر عند الحنفاء من مشركي العرب فإن مشركي العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء لا يثبتون دونه شيئا أبدع العالم ولما قال من قال منهم إن الملائكة بنات الله تعالى لم يجعلوا الملائكة مبدعة للعالم وأما هؤلاء الفلاسفة فيقولون إن الصادر الأول عن العقل الأول وإن كل ما سواه صادر عنه
فالعقل الأول هو رب كل ما سوى الله تعالى عندهم وكذلك كل عقل هو مبدع ما سواه عندهم حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو عندهم مبدع ما تحت الفلك
ومعلوم أن المسلمين واليهود والنصارى ومشركي العرب وغيرهم لا يجعلون أحدا دون الله أبدع كل ما تحت السماء وهؤلاء يجعلون الملائكة التي أخبرت بها الرسل هي العقول والنفوس التي زعموها
ومنهم من يجعل العقل الأول هو القلم ويجعل النفس هي اللوح
ومنهم من يحتج بالحديث الموضوع أول ما خلق الله العقل مع أنهم حرفوا لفظه فرووه أول بالضم وإنما لفظه أول ما خلق العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر وفي لفظ لما خلق الله العقل قال له ذلك فالحديث حجة على نقيض مذهبهم فكيف هو موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث
وقد بسطت الكلام على هذه الأمور في موضع آخر وهذا قد يوجد في كلام أبي حامد وكثير من متأخري المتصوفة والمتكلمين أدخلوه في دين الحنفاء من دين المشركين حتى صنف بعضهم تصنيفا في ذلك مثل مصنف الرازي السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وآخرون صنفوا في الحروف وطبائعها والدعاء بأسماء ذكروها في أوقات كما صنف
ودعاء المقبور من أعظم الوسائل إلى ذلك وقد قدم بعض الشيوخ المشرق وتكلم معي في هذا فبينت له فساد هذا فقال أليس قد قال النبي ﷺ إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور فقلت هذا مكذوب باتفاق أهل العلم لم يروه عن النبي ﷺ أحد من علماء الحديث
وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وفي الحديث الآخر الصحيح لتسلكن أمتي مسالك الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء
فاتخاذ القبور مساجد هو من فعل اليهود والنصارى
وأما الخروج عن الملة بالكلية إلى دعوى الكواكب واتخاذ العلويات وسائط في العبادة كمقالات الفلاسفة فهذا ليس من دين اليهود والنصارى ولا فارس والروم المتنصرة بل هو من فعل الروم الصابئة والمشركين كالفلاسفة الذين كانوا بمقدونية وغيرها وهؤلاء كانوا مشركين إلى أن دخل إليهم دين النصارى وآخر ملوكهم هو بطليموس صاحب المجسطي كان بعد المسيح عليه السلام بمدة قليلة
وأما أرسطو فإنه كان قبل المسيح بأكثر من ثلاث مئة سنة فإنه كان في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي تؤرخ به النصارى اليوم وكان بين المسيح وبين نبينا ﷺ ست مئة سنة شمسية وست مئة وعشرين قمرية وكان هذا الإسكندر قبل المسيح بنحو من أربع مئة سنة
وكانت الصابئة من النبط الذي بالعراق والجزيرة كالبطائح وحران وغيرهما من الصابئة المشركين من أئمة الفلاسفة إبراهيم الخليل بعث إليهم وفي مولده قولان قيل بالعراق وقيل بحران وهذا قول أهل الكتاب وكذلك هو في التوراة التي عندهم يقال إن قبر أبيه بسور حران وبها آثار الصابئة كالهياكل التي للعلة الأولى والعقل والنفس والكواكب وما زال بها أكابرهم كثابت بن قرة وأمثاله
وقد ذكر عبد اللطيف بن يوسف أن الفارابي كان قد تعلق بالفلسفة في بلاده فلما دخل حران وجد بها من الصابئة من أحكمها عليه وابن سينا إنما حذق فيها بما وجده من كتب الفارابي
فهؤلاء وأتباعهم حقيقة قولهم هو قول الصابئة المشركين الذين هم شر من مشركي العرب
وهؤلاء عند من لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب لا تؤخذ منهم الجزية إلا أن يدخلوا في دين أهل الكتاب
والناس لهم في تفسير الصابئة وأحكامهم اضطراب كثير ليس هذا موضعه وسبب ذلك أنهم أنواع مختلفة فكل طائفة تصف النوع الذي عرفته
والفلاسفة لا يجمعهم مذهب ولا يجتمعون على شيء بل هم أجناس يختلفون كثيرا
ولكن هذه الفلسفة التي يسلكها الفارابي وابن سينا وابن رشد والسهروردي المقتول ونحوه فلسفة المشائين وهي المنقولة عن أرسطو الذي يسمونه المعلم الأول فإن له كتبا متعددة في المنطق وأجزائه وفي الطبيعيات مثل كتاب سمع الكيان الذي يتكلم فيه على الأجسام كلاما كليا وكتاب السماء والعلم وكتاب الآثار العلوية وغير ذلك وأما كلامه في الإلهيات فقليل جدا وفيه خطأ كثير
وكانوا يسمون ذلك علم ما بعد الطبيعة أو علم ما قبل الطبيعة
ويسمونه الفلسفة الأولى والحكمة العليا لكونهم يتكلمون فيه على الأمور الكلية العامة كالوجود وانقسامه إلى جوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث وواجب وممكن وأما نفس معرفتهم بالله وملائكته وأنبيائه فبعيدة جدا وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن ما دخل في هؤلاء من دين الحنفاء الذي بعث الله به رسله فهو أقل مما دخل في الإسلام من دين اليهود والنصارى ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين من أدخل شيئا من دين هؤلاء بل كان يوجد من ينقل عن أهل الكتاب وعلمائهم مثل كعب ووهب ومالك بن دينار ومحمد بن إسحاق ومثل ما ينقله عبد الله بن عمرو عن الكتب التي أصابها يوم اليرموك وإنما استجاز لهذا لما رواه البخاري في الصحيح عنه أن النبي ﷺ قال بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار
فلما رخص في الحديث عن بني إسرائيل استجاز ذلك عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وغيرهما لكن لا تأخذون من ذلك دينا لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة ثم يفسرونها بالعربية فقال النبي ﷺ إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بالحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وإنما أمر النبي ﷺ بهذا لأنا قد أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم
وقد أخبر الله تعالى أنهم يكذبون ويحرفون فما حدثوا به إذا لم نعلم صدقهم فيه ولا كذبهم لم نكذبه لجواز أن يكون مما أنزل ولم نصدقه لجواز أن يكون مما كذبوه
ولما كانت تلك الأحاديث الإسرائيليات قد كثرت صار بعض الناس يدخل في بعض خصائصهم ولم يكن قد ظهر في المسلمين شيء من آثار اليونان والهند إلى أن عربت بعض كتب هؤلاء وهؤلاء حدث في الناس من التشبه بأولئك ما كان أعظم من التشبه بأهل الكتاب حتى آل الأمر إلى دولة العبيديين وهم ملاحدة في الباطن أخذوا من مذاهب الفلاسفة والمجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة وأما في الباطن فملاحدة شر من اليهود والنصارى وإلا من لم يصل منهم إلى منتهى دعوتهم فإنه قد يبقى رافضيا داخلا في الإسلام ولهذا قال فيهم العلماء: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وهم من أشد الناس تعظيما للمشاهد ودعوة الكواكب ونحو ذلك من دين المشركين وأبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك
ولقد كنت لما رأيت آثارهم أبين للناس أصل ذلك وحقيقة دينهم وأنهم من أبرأ الناس من رسول الله ﷺ دينا ونسبا
وقد صنف العلماء فيهم وفي أصولهم كتبا نظرية وخبرية
ومنهم الإسماعيلية من أصحاب دور الدعوة
وأما النصيرية فهم من الغلاة الذين يعتقدون إلهية علي والغلاة مع أنهم أكفر من اليهود والنصارى فأولئك الإسماعيلية في الباطن أعظم كفرا وإلحادا منهم وهذا باب واسع ليس هذا موضعه وإنما المقصود التنبيه على أن سبب الخروج عن الشريعة في كثير من البدع الشركية أفضى الأمر بأقوام إلى أن خرجوا إلى دين المشركين بل المشركين المعطلين وكثير من الناس لا يعرف هذا يحسب أن هذا هو دين الله لأجل لبس الحق بالباطل وهذا مما نهى الله عنه وذم به أهل الكتاب حيث قال ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون
الوجه الرابع أن يقال الغلاة المشركون هم في الحقيقة بخسوا الرسل ما يستحقونه من التعظيم دون الأمة الوسط أهل التوحيد المتبعين لشريعة الرسول
وبيان ذلك بأمور منها أن النصارى يقولون أنهم يعظمون المسيح وكذلك الغالية في علي أو الأئمة أو الشيوخ أو غيرهم وهم في الحقيقة منقصون لهم فإن المسيح عليه السلام أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له وأخبرهم أنه عبد الله
فهم إذا اتبعوه كان له من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم ويكونون سعداء أولياء الله تبارك وتعالى من أهل الجنة
وإذا غلوا فيه واتخذوه ربا انقطع ثواب العمل الصالح الذي كان يحصل بتوحيدهم وطاعتهم وحصل لهم مع ذلك عذاب أليم وإن كان هو سليما من العذاب لكن فوتوه الأجر الذي كان يحصل له بتوحيدهم وطاعتهم
وأما أهل الاستقامة فهم إذا وحدوا الله تعالى وعبدوه كما شرعته لهم الرسل وأطاعوهم صاروا أولياء الله تعالى مستيقنين لثوابه وحصل للرسول بالذي دعاهم مثل أجورهم وكان في هذا من التعظيم للرسل ما ليس في طريق الغلاة
الأمر الثاني أن أهل التوحيد والسنة يدعون لهم دائما فينتفعون بذلك الدعاء وأهل الشرك والبدعة يكلفونهم حوائجهم وأين من يحصل بسعيه منفعة لهم إلى من يكلفهم ويؤذيهم بسؤاله واعتبر هذا بحال الصديق الذي كان يعاون الرسول بماله ونفسه ولا يسأله شيئا أين منزلته من منزلة من يسأله ويكلفه ولا يعاونه
الأمر الثالث أن أهل التوحيد والسنة يصدقونهم فيما أخبروا ويطيعونهم فيما أمروا ويحفظون ما قالوا ويفهمونه ويعملون به وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ويجاهدون من خالفهم ويفعلون ذلك تقربا إلى الله تعالى طلبا للجزاء منه لا منهم وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه ولا بين ما صح عنهم وما كذب عليهم ولا يفهمون حقيقة مرادهم ولا يتحرون طاعتهم ومتابعتهم بل هم جهال بما أتوا به معظمون لأغراضهم إما لينالوا منهم منفعة أو ليدفعوا بهم عن أنفسهم مضرة
فالسدنة الذين عند القبور ونحوهم غرضهم يأكلون أموال الناس بهم وأتباعهم غرضهم تعظيم أنفسهم عند الناس وأخذ أموالهم لهم والصادق المحض المتدين منهم غرضه أنه إذا سألهم واستغاث بهم في دفع شدة أو طلب حاجة قضوها له فأي الفريقين أشد تعظيما أولئك أو هؤلاء
الأمر الرابع إن أولئك الغلاة المشركين إذا حصل لأحدهم مطلوبه ولو من كافر لم يقبل على الرسول بل يطلب حاجته من حيث يظن أنها تقضى فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح أو يكون فيه قبر كافر أو منافق وتارة يعلم أنه كافر ومنافق ويذهب إليه كما يذهب قوم إلى الكنيسة وإلى مواضع يقال لهم إنها تقبل النذر فهذا يقع فيه عامتهم
وأما الأول فيقع فيه خاصتهم حتى إن بعض أصحابنا المباشرين لقضاء القضاة لما بلغه أني أنهى عن ذلك صار عنده من ذلك شبهة ووسواس لما يعتقده من الحق فيما أذكره ولما عنده من المعارضة لذلك قال لبعض أصحابنا سرا
أنا جربت إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة
فقال له ذلك الرجل فأنا أذهب معك إليه ليعرفه منه
فذهبا إليه فوجدا مكتوبا عليه عبد علي فعلموا أنه إما رافضي وإما إسماعيلي
وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون في العبيديين أنهم أولياء الله تعالى صالحون فلما ذكرت لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة وخيار من فيهم الرافضة جعلوا يتعجبون ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم فتشفى عند قبورهم
فقلت لهم هذا من أعظم الأدلة على كفرهم
وطلبت من طائفة من سياس الخيل فقلت أنتم بالشام ومصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بهم
فقالوا في الشام يذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى وإذا كنا في أرض الشمال يذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية كالعليقة والمنقية ونحوهما وأما في مصر فيذهب بها إلى دير هناك للنصارى ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف
وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت فقلت هل يذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين مثل قبر الليث بن سعد والشافعي وابن القاسم وغير هؤلاء
فقالوا لا
فقلت لأولئك اسمعوا إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين وبينت لهم سبب ذلك قلت لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم والبهائم تسمع أصواتهم كما ثبت في الحديث الصحيح
فإذا سمعت ذلك فزعت فبسبب الرعب الذي يحصل لها تنحل بطونها فتروث فإن الفزع يقتضي الإسهال
فيعجبون من ذلك وهذا المعنى كثيرا ما كنت أذكره للناس ولم أعلم أحدا قاله ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء
والمقصود أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا أو منافقا ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا وكلا هذين عنده من جنس من يستغيث به
وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب بل يقال إنه قبر كافر كالمشهد الذي بسفع جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح فإن أهل المعرفة يقولون إنه قبر بعض العمالقة وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة وقبر أبي الذي في دمشق انفق العلماء على أنه كذب ومنهم من قال هما قبران لنصرانيين
وكثير من المشاهد متنازع فيها وعندها شياطين تضل بسببها من تضل ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن انه المقبور ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته أو بغير صورته كالشياطين الذين يكونون بالأصنام وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين وهذا كثير في زماننا وغيره مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراني بديار مصر بإخميم وغيرها يرصدون التماثيل مدة لا يتطهرون طهر المسلمين ولا يصلون صلاة المسلمين ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان بتلك الصورة فيراها تتحرك فيضع فيها سمعه وغيرها فيرى شيطانا قد خرج له فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه وقد يمكنه من فعل الفاحشة به حتى يقضي بعض حوائجه
ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار يسمونه البودي وهو المخنث إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور أرسلوا له من ينكحه وينصبوا له حركات عالية في ليلة ظلماء وقربوا له ميتة وغنوا غناء يناسبه بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله تعالى ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله تعالى ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء ويرون الدف يطير في الهواء ويضرب من مد يده إلى الخبز ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون ويغني لهم الأغاني التي كانت تغني آباؤهم الكفار ثم قد يغيب ذلك الطعام فيرونه قد نقل إلى البيت البودي وقد لا يغيب
ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار ويقضي بعض حوائجهم ومثل هذا كثير جدا للمشركين
فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام وكثير من المشاهد كذب وكثير منها مشكوك فيه وسبب ذلك أن معرفة المشاهد ليست من الدين الذي تكفل الله بحفظه للأمة لعدم حاجتهم إلى معرفة ذلك
والمقصود أن هؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يسووا بين الأنبياء وغير والأنبياء بل بين الأنبياء والكفار ويطلبون من هذا ما يطلبون من هذا فأي الفريقين أشد تعظيما للأنبياء هؤلاء أو من يوجب تعظيمهم واتباع شريعتهم ويفرق بين الحق الذي جاؤوا به وبين غيره ولا ينزل أحدا منزلتهم ولا يشبه بهم من ليس منهم
فصل
قال وهذا الرجل المبتدع يأتي بألفاظ هي عين التنقيص بسوء فهمه ويحتج لها جهلا أو عنادا بألفاظ التنزيه تمويها منه أو جهلا
فقول أبي يزيد استغاثة المخلوق بالمخلوق كإستغاثة الغريق بالغريق إن صح عنه تنزيه للباري على أن غير هذه العبارة خير منها وإن كنا نعلم أن المراد بها هو المراد بقول القائل لا يستغاث إلا بالله ولا يفرج الكربة إلا الله
الجواب من وجوه
أحدها أن يقال المبتدع من شرع دينا لم يأذن به الله لا من أمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه ومن أعظم المبتدعين من جوز أن يستغاث بالمخلوق الحي والميت في كل ما يستغاث فيه بالله عز وجل بل من جوز أن يسأل الميت ويدعى على أي وجه كان بل من حمل ألفاظ الاستغاثة بالنبي ﷺ المراد بها التوسل به وجعل توسل الصحابة هو توسلهم بذاته والإقسام به على الله تعالى ولم يعلم أن المراد بها التوسل بشفاعته ومن أعظم المبتدعين من جعل التوحيد كفرا والشرك إيمانا وكفر من هو أحق بالإيمان من طائفته ونفى الكفر عن طائفته الذين هم أحق بالكفر ممن كفروه
الثاني أن يقال دعواه أن الألفاظ التي ذكرت هي عين التنقيص قد بين أنه من أعظم الكذب وأن التنقيص والشرك لما ذكره ألزم وأن المدعي أن هذا تنقيص كاذب بإتفاق المسلمين فإنه قد علم بالاضرار من دين المسلمين ان مثل هذا الكلام لا يحكم على صاحبه بالتنقيص ولا بما هذا الكلام أحسن منه
الثالث أن قول المجيب ليس هو قوله وحده بل هو قول جميع أئمة الدين وعلماء المسلمين فليس في علماء المسلمين من يقول إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث الله فيه ولا من يقول إن الميت يستغاث به في كل ما يستغاث بالله فيه بل قول القائل إن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا تطلب إلا منه متفق عليه بين علماء المسلمين وما علمت إلى ساعتي هذه أحدا من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا بل ثبت عندي عن عامة من بلغني كلامه من علماء المسلمين الموافقة على هذا وإنما عرف نزاع بعضهم في السؤال به
وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه وإنما فعلوا نظيره والفقيه قد يفعل شيئا على العادة وإذا قيل له هذا من الدين لم يمكنه أن يقول ذلك ولهذا قال بعض السلف لا ينظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك
فصل
قال وأما قول هذا المبتدع لا يستغاث بالرسول فإنه كفر لأنه لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابت له ﷺ
أرأيت رجلين قال أحدهما لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى يشير إلى التوحيد وقال الآخر إن الرسول لا يضر ولا ينفع وقال الأول إن الله هو السميع العليم إشارة للحقائق التي حصرها الرب سبحانه في نفسه بهذا الكلام وقال الآخر إن الرسول لا يسمع ولا يعلم أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر منقص ولا ينفعه تأويله
والجواب من وجوه
أحدها أن ما ذكرته افتراء فإن أحدا لم يخص الرسول ﷺ بهذا النفي لا خطابا ولا كتابا ولا نفى كل ما يسمى استغاثة فلا النفي عام ولا المنفي عنه مخصوص أنت ادعيت هذا وهذا على المجيب وكلاهما كذب وجواب السؤال ينطق بخلاف هذين وقد بين فيه أن يطلب من مخلوق لا الرسول ولا غيره وحينئذ فهذا التفصيل أبين من النفي المطلق الذي قاله أبو يزيد وغيره من المسلمين فإذا كان ذلك سائغا فهذا أولى
والثاني أن يقدم أن المخصص بالذكر إذا كان التحقيق العموم كان ذلك تعظيما للمخصوص بالذكر فإذا قيل لا يعبد إلا الله تعالى لا الأنبياء ولا غيرهم ونحو ذلك كان هذا تعظيما للرسول ﷺ وتبيينا أنه لا أحد أرفع منه من الخلق وخصائص الرب عز وجل منتفية عنه فعن غيره بطريق الأولى وهذا كقول النبي ﷺ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله وفي رواية إني أبرأ إلى كل خليل من خلته
فبين أن خلته للمخلوقين منتفية عن كل أحد حتى عن الصديق وهو أحقهم بها لو كانت ممكنة ولو خص بالذكر لفظا في سياق يفهم منه العموم كان حسنا كقوله تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا
وكذلك إذا كان سبب التخصيص حاجة المستمع إما لسؤاله عن ذلك وإما لحاجته إليه كقوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله وقوله ما المسيح ابن مريم إلا رسول فإن الحاجة داعية إلى ذكر المسيح لوقوع النزاع فيه فلو تنازع اثنان هل يخص النبي ﷺ بالحلف به دون سائر الأنبياء فقال أحدهما لا يحلف به لم يكن هذا تنقيصا بل هذا قول الجمهور وهو الصواب وكذلك إذا تنازع اثنان هل يخص بالاستغاثة به أو بالإقسام على الله به بعد موته فقال أحدهما لا يستغاث ولا يقسم به فإن هذا ليس من خصائصه لكان من هذا الباب
الثالث قوله عن أبي يزيد غير هذه العبارة خير منها قول باطل فإن ما قاله أبو يزيد رحمة الله تعالى عليه تلقاه الناس بالقبول وقال بعده أبو عبد الله القرشي قال استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون وهذا كقول النبي ﷺ لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فإستعن بالله تعالى
وقوله لطائفة من أصحابه لا تسألوا الناس شيئا
ومنه قوله تعالى وإلى ربك فارغب
ومنه قوله ﷺ في صفة السبعين ألفا هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون
فالاسترقاء طلب الرقية من المخلوق وكأنه يقول هذا فيه جعل المخلوقين كلهم مثل الغريق ويدخل في ذلك الأنبياء وغيرهم وفي الناس من يمكنه إغاثة غيره فيقال أبو يزيد أراد والله أعلم الاستغاثة المطلقة التي لا تصح إلا بالله وهو أن يطلب من المخلوق مالا يقدر عليه إلا الله تعالى كإزالة المرض والانتصار على العدو وهداية القلب وهذا القدر يمكن المسؤول أن يتسبب فيه بأن يدعو الله تعالى له ويجيب الله دعاءه كما أنه قد يمكن بعض الغرقاء أن يمسك غيره ويخلصه إذا كان فيه قوة على ذلك وإن كان أراد كل ما يسمى استغاثة بحيث لا يطلب من المخلوق شيئا فهذا كقوله ﷺ لا يسترقون
وقوله إذا سألت فاسأل الله
وحينئذ فالمسؤول كائنا من كان لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته فهو أحوج إلى معونة من الغريق إلى من يخلصه فإن الغريق غايته أن يموت وهذا إن لم يغثه الله تعالى لم يفعل شيئا قط بل هلك فافتقار الخلق إلى الخالق أعظم من افتقار الغريق إلى المنقذ والمسجون إلى من يرسله ولهذا قيل استغاثة المخلوق بالمخلوق أبلغ من هذا كالاستغاثة بالمعدوم
الرابع قوله وإن كنا نعلم أن المراد بها المراد بقول القائل لا يستغاث إلا بالله ولا يفرج الكربة إلا الله تعالى فيقال هذا يقتضي تصويب هذا النافي وعلى قولك لا يكون هذا النفي صوابا لأنك قلت إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالله وحينئذ فهذا الإثبات يناقض ذلك السلب العام
وقد تقدم أن دعواه أن المثبت هو عين المنفي في كلام الله ورسوله خطأ بل ما نفاه الرب سبحانه عن غيره لم يثبته له والمنفي عن المخلوق ما اختص الرب به وكذلك قول أبي يزيد وغيره
وأما على ما ادعاه فالاستغاثة بالمخلوق عامة في كل شيء فلا يكون شيء من الأشياء يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيه فلا تنفى الاستغاثة عن غير الله تعالى إذا كانت ثابتة للمخلوق في كل شيء إلا أن يقال المنفي هو الاستغاثة الكاملة أو التي يستقل بها المغيث كما يقال لا موجود إلا الله تعالى فيقال وهذه العبارة لا موجود إلا الله تعالى ليست عبارة منقولة عن السلف والأئمة والنافي إذا أراد بالنفي الكمال مع القرينة جاز ذلك كما يقال لا عالم إلا فلان ولا حاكم إلا فلان ومنه قوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون إلى قوله أولئك هم المؤمنون حقا
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الله تعالى ورسوله لم ينفيا اسما من مسمى شرعي إلا لانتفاء بعض ما يجب فيه لا ينتفي لانتفاء الكمال المستحب بل ولا بنفي الكمال الواجب
كقوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ونظائرها بالقرآن
وكقول النبي ﷺ لا صلاة إلا بأم القرآن
وأما قوله لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه
وقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد
وقوله من سمع النداء ولم يجب من غير عذر فلا صلاة له
فهذه الأحاديث قد اختلف في صحتها واختلف في نفي الكمال بها في مذهب أحمد وغيره فإن قيل إنها صحيحة وجب العمل بموجبها
وكذلك قوله لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل قد اختلف في صحته فليس في هذا الباب حديث صحيح اتفق العلماء على أن المراد به نفي الكمال المستحب
وقول القائل لا يستغاث إلا بالله ولا يسأل إلا بالله ونحو ذلك فليس هو نفيا لمسمى شرعي بل لغوي وهو نفي معناه النهي كقوله لا يستعان إلا بالله ولا يسأل إلا الله تعالى ونحو ذلك وهذا النهي عام في كل شيء لكن النهي في أكثره نهي تحريم وبعضه نهي تنزيه للإنسان أن لا يسأل أحدا إلا الله تعالى كما وصف النبي ﷺ طائفة من أصحابه بذلك وهو نهي تحريم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وغير ذلك وهو أيضا نهي تحريم إذا طلب من المخلوق تمام مطلوبه فإن مطلوبه لا يقدر عليه إلا الله وإنما يقدر المخلوق على بعض أسباب مخلوقه وبهذا وجب على العبد أن لا يتوكل إلى على الله تعالى
فإنه لا يقدر غير الله على حصول مطلوبه إذ مطلوبه وإن كان له أسباب فالمخلوق المعين إنما يقدر على بعض أسبابة ثم ذلك المخلوق لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته
الخامس قوله وأما قول هذا المبتدع لا يستغاث بالرسول فإنه كفر إلى آخره
فيقال له أولا ليس هذا قوله فإنه لا ينفي عنه أن يستغاث به فيما يليق بمنصبه بل قد صرح بجواز ذلك أيضا فإنه لا يخص الرسول بالذكر ولا بل إنما قيل هذا على سبيل العموم وهو أنه لا يستغاث بميت أصلا لا الرسول ولا غيره ولا يستغاث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق
ويقال ثانية دعواك أن هذا التخصيص كفر أحق بأن يكون كفرا بل يقال لك لا نسلم أنه باطل فضلا عن أن يكون كفرا وهذا عند التخصيص إذا قال لا يستغاث به بعد موته ونحو ذلك بمنزلة أن يقال لا يسأل ولا يدعى بعد موته أو لا يصلى على الرسول عند الذبح أولا تجب الصلاة على الرسول في الصلاة ونحو ذلك من العبارات النافية عن الرسول
وقد يكون اللفظ مطلقا لتقييده بسؤال السائل مثل أن يقال هل يصلى عليه عند الذبح فيقال لا يصلى عليه أو يقال هل يستغاث به بعد موته أو في مغيبه فيقال لا يستغاث به لكن إن كان المستمع يفهم من هذه العبارة أنه لا يسأل في حياته شيئا ولا يستشفع به بمعنى أنه ليس أهلا لذلك لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحا وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنى فاسدا لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس إلا حيث يجوز التعريف خاصة وليس هذا موضع تعريض
ولو قدر أن مطلقا أطلقها وكنى بها معنى صحيحا والمستمع فهم منها الكفر لم يكفر المتكلم بذلك لا سيما إذا لم يعلم أن المستمع يفهم المعنى الفاسد
وكلام الله ورسوله وكلام العلماء مملوء بما يفهم الناس منه معنى فاسدا فكان العيب في فهم الفاهم لا في كلام المتكلم الذي يخاطب جنس الناس كالمصنف لكتاب أو الخطب على المنبر ونحو هؤلاء فإن هؤلاء لا يكلفون أن يأتوا بعبارة لا يفهم منها مستمع ما معنى ناقصا فإن ذلك لا يكون إلا إذا علم مقدار فهم كل من يسمع كلامه ويقرأ كتابه وهذا ليس في طاقة بشر
والله تعالى ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم فما يمكن بيان الرسول إلا على طريقة اللغة المعروفة وإن وقع خطأ في فهم بعض الناس والله تعالى أنزل كتابه بلسان العرب وهو لابد أن ينزله بلسان من الألسنة وأكمل الألسنة لسان العرب وأكمل البلاغة بلاغة القرآن باتفاق أهل العلم بذلك
وقد غلط في كثير من فهم القرآن من لا يحصيه إلا الله تعالى حتى في زمن النبي ﷺ فهم طائفة من قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أن المراد به الخيوط التي هي من جنس الحبال
وفهم بعضهم من قوله تعالى وإن منكم إلا واردها أن المراد دخولها والتعذيب فيها
وفهم بعضهم من قوله فسوف يحاسب حسابا يسيرا أنه قد ناقش العبد الحساب وينجو
ومثل ذلك كثير
السادس قوله إنه لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال فيقال له نفي الاستغاثة به في شيء مخصوص ووقت مخصوص لا يفهم أحد منه نفي التوسل به ولا نفي كونه سببا وإنما يفهم منه نفي الطلب منه لذلك الشيء أو في ذلك الحال وما ذكرته فيما تقدم من أن المتوسل به مستغيث به قول لم يقله أحد قبلك لا من العرب ولا من العجم وليس لأحد أن يفسر اللفظ بمعنى لا يعرفه أحد
السابع إن قوله يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله تعالى قول باطل فإن قول القائل لا يستغاث به نفي لكون هذا مشروعا ولا سيما إذا كان في سياق الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية والصيغة خبر فإنه لم يرد نفي وقوع ذلك فإنه إنما أراد النهي عن ذلك وكون الفعل منهيا عنه ليس فيه ما ينافي إمكان الشرع فضلا عن أنه يقتضي نفي صلاحية
فإذا قيل الرسول ﷺ لا يسجد له لم يقتض أن ذلك غير ممكن أن يشرعه الله تعالى فقد أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام وقد سجد ليوسف أبواه وإخوته ومحمد ﷺ أفضل من آدم ويوسف فكيف يفهم من هذا اللفظ أنه لا يصلح لما يصلح له آدم ويوسف عليهما السلام
وكذلك إذا قيل النبي لا يورث لم يكن هذا نفيا لإمكان أن يبيح الله تعالى أن يورث أو نفيا لاستحقاق شيئا يمكن أن يورث عنه
وكذلك إذا قيل كان الصحابة قد نهوا أن يسألوا رسول الله ﷺ عن شيء لم يكن في هذا نفي لما يسأل عنه ولا نفي لإمكان أن يشرعه الله تعالى ورسوله كما قال تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم لا يقتضي نقصا بالمسؤول
وقوله أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل
وقوله يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة
فنهي الأمم أن تسأل الأنبياء هذه المسائل لا يقال إنه نفي لصلاحية الرسل أن يكونوا وسيلة في حصول المسؤول وذلك نفي لصفة الكمال إذ ليس فيه إلا النفي عن السؤال وليس فيه نفي لصلاحية المسؤول أن يسأل ولا نفي قدرته على حصول المسؤول ولا شيء من هذا بل قد يكون النهي عن السؤال لمصلحة المنهي ولما في سؤاله من المفسدة
وقوله لا يستغاث به هو مثل قوله لا يسأل وهو نهي عن سؤاله وعن الاستغاثة لما في ذلك من مصلحة المنهي ومن مصلحة الرسول ومن توحيد الرب عز وجل
وأيضا فقول القائل لا يصلح أن يستغاث به أو لا يصلح أن يكون وسيلة إلى الله تعالى في حصول الإغاثة قد يريد لا يصلح شرعا بمعنى أن هذا لم يشرع وقد يريد لا يصلح أي أن هذا غير ممكن في حقه فلو قدر أن نفي الاستغاثة نفي الصلاحية فالصلاحية لفظ مجمل
وبالجملة فكلام هذا الرجل كثير منه نزاع لفظي ومع كونه لفظيا فهو يعبر عن المعنى بلفظ لم يعبر به غيره وينكر على غيره أن يعبر عن المعنى بالعبارة المستعملة فيه ففيه جهل وظلم جهل بدلالة اللفظ في استعماله واستعمال اللفظ فيما لم يستعمل فيه قط وينكر على من استعمله في معناه ويريد أن يلزمهم بالقبيح الذي ارتكبه ويحمل كلامهم على المعنى الباطل لظنه أن اللفظ يحتمل مع أنهم قد صرحوا بنقيض ذلك المعنى بعبارة صريحة فبدع كلامهم وتمسك بمتشابهه الذي هو متشابه في ظنه مبتغيا للفتنة بذلك وليس مقصده معرفة مراد المتكلم وتأويله بل غرضه ما يقوله الناس عنه من إرادة العلو في الأرض والفساد بالظلم يبين هذا
الجواب الثامن وهو أنه قد ذكر المجيب في أول جوابه فقال قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة أن نبينا ﷺ هو الشافع المشفع وأنه سيد ولد آدم وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به فيطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم فيشفع لهم وفيه أيضا تقرير ما كان أصحابه يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به وفي الجواب والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم
فإذا كانت هذه الألفاظ الصريحة فيه فلو قدر أن فيه إطلاق نفي الاستغاثة هل كان يقال إن فيه ما يقتضي نفي صلاحيته أن يكون وسيلة إلى الله تعالى في حصول الاستغاثة وقد بين فيه تقرير ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به وقرر فيه أن الناس يستشفعون به ويتوسلون بشفاعته في الدنيا والآخرة وأنه يستغاث به بمعنى أنه يطلب منه كما هو اللائق بمنصبه فإذا كان قد بين ثبوت هذه الأمور هل يمكن أن ينفي معها صلاحيته لبعضها
ومعلوم أن حصول أبلغ من الصلاحية له فإذا كانت هذه الأمور قد أثبتت فكيف ينفي معها الصلاحية لذلك والألفاظ بإثباتها صريحة
واللفظ الذي توهم فيه نفي الصلاحية غايته أن يكون محتملا لذلك ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على مجمله وصريحه يقدم على كنايته ومتى صدر لفظ صريح في معنى ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى أو غير نقيضه لم يحمل على نقيضه جزما حتى يترتب عليه الكفر إلا من فرط الجهل والظلم
التاسع أنه لو فرض أن معنى اللفظ ما ذكرته فإذا كان اللفظ المطلق لا يعرف معناه إلا من أداه بنفسه لم يكن كافرا بإجماع المسلمين وإن اعتقد أن ما نفاه هو مدلول اللفظ وما نفاه منتف عنه إجماعا أو في قول سائغ لم يكن هذا كافرا عند أحد المسلمين
العاشر قوله يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة كلام مجمل فيقال لك ما تعني به أتريد به أن النبي ﷺ والرجل الصالح وغيرهما لا يكون بعد موته وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة منه أو أنه لا يكون حيا وميتا وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة منه
وقوله لا يكون وسيلة تريد به أن لا يتوسل به أي بذاته أو بدعائه وشفاعته أو غير ذلك فإن أردت أن الميت نبيا كان أو غير نبي لا يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة بمعنى أن يطلب منه لا يكون وسيلة في طلب الغوث منه قيل لك هذا صحيح ولم قلت إن الأمر بالعكس ومن أين لك في الشرع أن يطلب من الميت وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة منه
بل وكذلك إن أردت أن الاستغاثة بالحي والميت لا تكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الغوث منه ومن أين لك أن الطلب من المخلوق يكون طالبا من الله تعالى
ومن الذي قال إن السائل بمخلوق والداعي له والمستغيث به نبيا كان المدعو أو غير نبي يكون المخلوق المستغاث به وسيلة إلى الله تعالى في ما طلب منه
وهذا أمر مخالف للعقل واللغة والشرع فمن الذي جعل الطلب من هذا وسيلة في الطلب من هذا في كل شيء وعلى كل حال
بل من طلب من الرسول أو غيره فإنما يطلب منه مقدوره فيطلب منه الدعاء والشفاعة ويكون دعاؤه وشفاعته وسيلة في حصول المطلوب
لأن ذلك يكون طلبا من الله تعالى وأنت قد جعلت كلما يطلب من غير الله وسيلة من وسائل الله تعالى فما هذه الوسائل التي يكون المتوسل بها طالبا من الله تعالى فإن الطلب من الله تعالى معروف معلوم
فيقال دعا الله وسأله واستعانه واستغاث به وطلب منه ورغب إليه واستجار به واستعاذ به ونحو ذلك وليس هذا مخلوق يكون الاستغاثة به وسيلة في هذا الطلب وكأن هذا يجعل نفس الطلب من الصالح طلبا من الله تعالى ويقول إن الصالح لمنزلة عند الله تعالى من طلب منه شيئا فإن الله يعطيه ذلك كما إذا طلب من الله تعالى وهذا حال كثير من الجاهلين الضالين يستغيث أحدهم بشيخه في كل ما يهمه فإذا خاف أحدا وطلب حاجة استغاث بالشيخ أو الغائب أو الميت فيقول يا شيخ فلان أنا في حسبك يا سيدي فلان ونحو ذلك من العبارات
ومنهم من يقول هذا وقتك يا شيخ فلان أو يقول إن لم تحضر يا شيخ فلان وإلا فعل بنا وصنع وقد يقول إن كنت رجلا صالحا صاحب حال فأرني حالك ويقول إن كان لك جاه عند الله تعالى فهذا وقت جاهك وقد يستغيث أحدهم بعدة مشايخ فيقول يا سيدي فلان وفلان وفلان
ثم من هؤلاء من يتصور له صورة إنسان يظنها الشيخ أو ملكا تصور على صورته وساره وكالمه ونحو ذلك ومنهم من يتصور له ذلك في صورة طائر ومنهم من يتصور له في صورة حيوان آخر وتكون تلك الشياطين تتصور بتلك الصور لأولئك المشركين الذين دعوا من دون الله آلهة أخرى وطلبوا منهم ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى كما كان المشركون يطلبون من الأوثان ما يطلب من الله تعالى وكما يطلب عباد الكواكب منها ما لا يطلب إلا من الله تعالى وكذلك عباد الأنبياء والملائكة قال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وقال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
وهؤلاء لا يتصور أن يقضي لهم جميع مطالبهم ولا أكثرها كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة لا يصدقون فيه كله ولا في أكثره بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها ويكون فيما أخبروا به وأعانوا عليه إفساد حال الرجال في الدين والدنيا وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود أن كثير من الضالين الجاهلين يستغيثون بمن يحسنون به الظن من الأموات والغائبين في كل ما يستغاث الله فيه ولا يتصور أن هؤلاء يسألونهم مطالبهم كلها ولا أكثرها بل غاية ما يطلبون منهم من جنس تحصيل المنافع ودفع المضار ولا يحصل بل قد يحصل بعض المطالب كما يحصل لعباد الأصنام والكواكب وغيرهم من المشركين ويكون ما يخبرون به ويفعلونه شبهة للمشركين كما أن ما يخبر به الكاهن ونحوه من الأخبار فإنه يصدق في واحدة ويكذب في شيء كثير كما قال النبي ﷺ لو أتوا بالأمر على وجهه لكان ولكن يخلطون بالكلمة الواحدة مئة عذبة
فهذا القول الذي يقوله هذا هو مطابق لأحوال هؤلاء المشركين الضالين لكن هذا ليس يقوله مسلم ولا عاقل يتصور ما يقول بل هو من جنس قول النصارى دعاء المسيح دعاء الله لكن أولئك يقولون باعتبار الحلول والاتحاد وأما بدون هذا فهو كلام غير معقول فإن الله تعالى أمر أن يدعى هو ويسأل هو ولم يجعل دعاء أحد من المخلوقين دعاء له بل قد نهى الله تعالى عن دعائه ولو كان هذا حقا لكان من دعا الملائكة والأنبياء دعاء لله فلا يكون مشركا والله تعالى قد جعلهم مشركين وقد قال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا
فإن هؤلاء الضالين جعلوا الصالحين مع الله تعالى كالوكيل مع موكله فإذا طلب من ا لوكيل الدعاء كانت المطالبة للموكل في المعنى لكن هذا ليس من أقوال الموحدين بل هو من أعظم شرك الملحدين والرسول ﷺ لم يضمن للخلق أن يرزقهم ويحاسبهم ولا يجيب دعاءهم بل هذا كله أخبر أنه لله وحده
قال تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب
وقال قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي
وقال قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون
وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون
فبين تعالى ان التحسب بالله وحده والرغبة إلى الله تعالى وحده
وأما الإيتاء فلله والرسول لأن الحلال ما حلله الرسول والحرام ما حرمه الرسول كما قال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فالله قد جعل الرسول مبلغا لكلامه الذي هو أمره ونهيه ووعده ووعيده
وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والزرق وقضاء الحاجات وكشف الكربات وهذا ليس من دين المسلمين بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده لشبهة الاتحاد والحلول ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل مع أنهم في غاية الجهل في ذلك فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم ولو كان الحلول ممكنا لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك بل موسى أحق بذلك ولهذا خاطبت من خاطبت من علماء النصارى وكنت أتنزل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية فلم يجدوا فرقا بل أبين لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق وأما ولادته من غير أب فهو يدل على قدرة الخالق لا أن المخلوق أفضل من غيره
وإن أراد بقوله يقتضي سلب صلاحية الرسول لأنه يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة أنه لا يتوسل بذاته فلا يقسم به على الله تعالى ولا يقال أسألك برسولك أو بجاه رسولك
فيقال أولا نفي الاستغاثة بهم لا يفهم أحد منها نفي السؤال به
ويقال ثانيا وهبوا أنه أراد هذا فما الدليل على جواز السؤال لله تعالى بذات المخلوقين أو مطلقا بعد موتهم ومن قال هذا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
والصحابة إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته ولهذا توسلوا بعده بالعباس ولو كان التوسل بذاته ممكنا بعد الموت لم يعدلوا إلى العباس والأعمى إ نما توجه بدعائه وشفاعته وكذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم في الاستغاثة وكذلك الناس يوم القيامة يستغيثون به ليشفع لهم إلى الله تعالى فهم يتوسلون بشفاعته أما مجرد الذات بعد الممات فلا دليل عليه ولا قاله أحد من السلف بل المنقول عنهم يناقض ذلك وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز وإن نقل عن بعضهم جوازه فقد قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
ويقال ثالثا وهب أن قائل ذلك أخطأ في هذا النفي لكن ليس كل مخطئ يكفر لا سيما إذا قاله متأولا باجتهاد أو تقليد
وإن أراد بقوله لا يكون وسيلة أي لا يكون الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته واتباع سنته والمجاهدة على دينه ونحو ذلك وسيلة إلى الله تعالى فهذا لم ينفه أحد ونفي الاستغاثة به لا ينفي هذه الوسائل وهذه وسائل في حصول الثواب والقرب من الله تعالى وسعادة الدنيا والآخرة لا في مجرد الاستغاثة ومحمد ﷺ هو الوسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة بهذا الاعتبار ومن نفى كونه وسيلة إلى الله تعالى بهذا الاعتبار فهو الكافر حقا فإنه نفى رسالته التي هي أصل الإيمان
الحادي عشر قوله وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابتة له ﷺ فيقال له لا نسلم أن هذا نفي لشيء من صفات الكمال بل ولا نفي لشيء موجود بل هو نفي لشيء منتف في نفس الأمر
ويقال له ثانيا هذا الوصف عندك ثابت لآحاد الناس بل قولك يقتضي أنه ثابت لكل مخلوق وما ثبت لآحاد الناس لم يكن من خصائص الرسل التي تعد من كمالاتهم فلا يقول عاقل إن ما شارك فيه عامة الناس يكون من كمالات الرسالة التي يكون نفيها قدحا في رسالته
ويقال ثالثا ولو قدر أنه وصف كمال فليس كل من نفى وصفا من أوصاف الكمال يكون كافرا إذا كان متأولا في ذلك دع من نفى وصفا من صفات كمال الرسول على سبيل التأويل وقد قال طوائف من السلف والخلف أنه يقعده معه على العرش وأنكر ذلك آخرون
وقال قوم إنه كان يجوع ويربط الحجر على بطنه مع قدرته على حصول ما يأكل ونفى ذلك آخرون
وقال قوم إنه كتب بيده عام الحديبية خرقا للعادة ونفى ذلك آخرون
وقال ابن مسعود والجمهور إنه خاطب الجن ورآهم ونفى ذلك ابن عباس وآخرون
وقال ابن عباس وطائفة إنه رأى ربه ونفى ذلك آخرون من الصحابة وغيرهم بل نفس المعراج قال الجمهور إنه كان ببدنه وآخرون من السلف والخلف قالوا إنه كان بروحه
وقال طائفة من العلماء إنه كان يملك الفيء ونفى ذلك آخرون
وقال أكثر المنتسبين إلى السنة إنه والأنبياء أفضل من الملائكة وآخرون قالوا الملائكة أو بعضهم أفضل من الأنبياء
وقال جمهور المسلمين إنه أفضل الأنبياء وتوقف في ذلك بعض الحنفية وغيرهم
وادعى بعض الناس أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل به جبريل عليه السلام عليه ﷺ ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم
وقال قوم من هذا النمط إن جميع الأنبياء تلقوا العلم بالله منه وأنه كان موجودا قبلهم ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم
وقال بعضهم إنه كان لا يسهو في الصلاة وإنما كان يتعمد ذلك ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم
وقال بعض الغلاة إنه كان يعلم علم الله ويقدر قدرته وكفر المسلمون من قال ذلك فضلا عن تكفير الثاني
وتنازع المسلمون في جواز الصغائر على الأنبياء وجمهورهم يجوزون ذلك
وهذا باب واسع فما زال المسلمون يتنازعون في شيء من إثبات صفات الكمال ولا يقول المثبت للنافي إنك كفرت فإن الكمال الثابت ليس محدودا يعلمه الناس كلهم وما من كمال إلا وفوقه كمال آخر والكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تعالى وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال كمل من الرجال إلى آخر الحديث فإن الكمال المطلق محال لغير ذي الجلال وهؤلاء الكاملون بعضهم أكمل من بعض فإذا نفي عن بعضهم نوع من الكمال لم يلزم أن ينفى عنه الكمال ولو كان كذلك لكان من قال إن محمدا ﷺ أفضل من يونس ابن متى تنقيصا بيونس فيكون كافرا لأنه سلبه هذا الكمال
وأما قوله أرأيت رجلين قال أحدهما لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى يشير إلى التوحيد وقال الآخر إن الرسول لا يضر ولا ينفع وقال الأول إن الله تعالى هو السميع العليم إشارة إلى الحقائق التي حصرها الرب سبحانه وتعالى في نفسه بهذا الكمال وقال الآخر إن الرسول لا يسمع ولا يعلم أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر متنقص ولا ينفعه تأويله فإن سوء العبارة في حق الرسول ﷺ كفر وإن صح المقصود كما دل عليه كلام الإمام وغيره ألا ترى إلزام الله عز وجل للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب إلى آخره
فيقال أما المثال الأول فهو وإن كان أقرب إلى المطابقة فجوابه من وجوه
أحدها أنه إذا كان الكلام في سياق العموم بيان أنه أفضل الخلق مثل أن يقول لا يضر ولا ينفع إلا الله تعالى لا الرسول ﷺ ولا من دونه أو يقال إذا كان الرسول ﷺ الذي هو أفضل الخلق لا يضر ولا ينفع فكيف من دونه ونحو ذلك فهذا مثل قوله لا يضر ولا ينفع إلا الله تعالى
وأما إذا كان المراد أن الرسول ﷺ لا يضر ولا ينفع وغيره يضر وينفع فهذا هو التنقيص وهو نظير أن يقال الرسول لا يستغاث به بل يستغاث بغيره فهذا تنقيص بلا ريب فإنه يتضمن تنقيصه عن من الرسول أفضل منه وهذا تنقيص عن درجته بلا ريب
ويقال ثانيا لو قال لا يضر ولا ينفع من الذي قال إنه يكفر بذلك إذا عنى بذلك معنى قوله لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا وقد أمره الله تعالى أن يقول ذلك فهو أحرى أن لا يملك لغيره
وقد قال إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا فأخبر أنه لا يملك من الله تعالى لا ضرهم ولا رشدهم
وقال الله تعالى له ليس لك من الأمر شيء
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا
فهذا تخصيص له ينفي ذلك وهو من أصدق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ومن صدق الرسول ﷺ فيما قاله فهو مؤمن ليس بكافر فإذا قال قائل الرسول ﷺ لا يغني عن بنته ولا عمه ولا عمته من الله تعالى شيئا فكيف من دونهم كان هذا من أحسن الكلام وأصدقه
ويقال ثالثا قول القائل عن مخلوق إنه لا يضر ولا ينفع تارة مريد به نفي الاستقلال بذلك على سبيل توحيد الربوبية بمعنى أن ما يجري على يديه من الضر والنفع فالله هو خالقه وهو الذي يجعله فاعلا بمشيئته أو يريد أنه لا ينفع ولا يضر إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته أو إرادته كما قال تعالى وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله فهذا صحيح فليس في المخلوقات بهذا الاعتبار شيء ينفع ويضر إذ ليس في المخلوقات شيء ما يستقل بإحداث ضرر غيره ونفعه ولا يفعل شيء إلا بإذن الله كما ليس فيها من يعطي ويمنع بهذا الاعتبار ولا ينبغي بهذا الاعتبار كما من أسمائه تعالى المعطي المانع الضار النافع
وكان النبي ﷺ يقول في دبر الصلاة وفي غير هذا الموطن اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وكان يقول في رقيته أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك
وفي رواية لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقما
وتارة يريد به أن الضر والنفع المعتاد مثل الصحة والمرض والغنى والفقر والأمن والخوف واليسر والعسر لا يفعله رسول ولا غيره لا في حياته ولا بعد موته فهذا صحيح بخلاف ما ظنه المشركون الغلاة من النصارى وأشباههم الذين يظنون أن الأنبياء والصالحين بعد موتهم أو في حياتهم ينزلون المطر ويدفعون العدو وينبتون النبات ويشفون المرضى ونحو ذلك من الحوادث
وتارة يرى أنه ليس له دعاء مستجاب ولا شفاعة مقبولة وأن طاعته لا تنفع ومعصيته لا تضر ونحو ذلك فهذا كفر صريح من أراده حكم بردته وكفره
لكن اللفظ المجمل إذا صدر ممن علم إيمانه لم يحمل على الكفر بلا قرينة ولا دلالة فكيف إذا كانت القرينة تصرفه إلى المنع الصحيح
وأما المثال الثاني فلا يشبه ما نحن فيه فإن قوله تعالى وهو السميع العليم إثبات لهذه الصفة ومن الناس من يقول ليس في الآية حصر ومن قال فيها حصر قال المحصور كمال هذه الصفة وليس ذلك إلا لله فإذا قال إن الرسول ﷺ لا يسمع ولا يعلم لم يفهم من هذا اللفظ نفي ما يختص به الرب سبحانه وتعالى ولا عموم النفي عن الرسول ﷺ وغيره ومعلوم أن الملائكة والإنس والجن والبهائم تسمع وتعلم فإن الله تعالى قال وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله الآية وذكر النبي ﷺ الكلب المعلم
ومن أطلق على النبي ﷺ أنه لا يسمع ولا يعلم فظاهر هذا اللفظ نفي ذلك عنه وهو كذب ظاهر
ثم قد يكون في سياق نفي علمه بالدين وسمعه لما أوحي إليه وهو كفر صريح
وقد يكون في سياق أنه لا يسمع ولا يعلم إلا ما أسمعه الله إياه وأعلمه إياه وأنه من تلقاء نفسه ليس له علم بشيء بل الله هو الذي أسمعه وأعلمه كما قال الله تعالى وعلمك ما لم تكن تعلم وكما قال تعالى ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وكما قال تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين وكما قال تعالى ووجدك ضالا فهدى فهذا المعنى ليس بكفر بل هو صحيح
وقد يكون في سياق أن الله سبحانه هو المختص بكمال السمع والعلم وأن غيره لا يبلغ مبلغه في ذلك فهذا أيضا صحيح
فأما إطلاق أنه لا يسمع ولا يعلم فهو كذب وكفر بخلاف إطلاق أنه لا ينفع ولا يضر ولهذا يقول المسلم لا ينفعني ولا يضرني إلا الله تعالى ولا يقول لا يسمع ولا يعلم إلا الله تعالى بل يقول لا يعلم ما في نفسي إلا الله تعالى أو لا يسمع كلام العباد كلهم إلا الله تعالى أو لا يسمع سر القول إلا الله تعالى ونحو ذلك
فصل
قال فإن سوء العبارة في حق الرسول ﷺ كفر وإن صح المقصود كما دل عليه كلام الإمام وغيره ألا ترى إلزام الله تعالى للصحابة رضوان الله تعالى عليهم بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب حيث قال لهم لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون
وقال عز وجل لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا
وقال إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون
وقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة وجعل الاستخفاف به كفرا كما قال عز وجل قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ولا أعلم خلافا بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم لم يكونوا تعرضوا لله سبحانه بعبارتهم وإنما تنقصوا رسوله فجعل استخفافهم برسوله ﷺ استهزاء به سبحانه وبآياته فكفى بذلك تكفيرا
والجواب من وجوه
أحدها أن يقال إنا لا نسلم أن ما فيه النزاع سوء عبارة بل هو من أحسن العبارات كما تقدم بيانه
الثاني أنه إن كان سوء العبارة في حق الرسول ﷺ كفرا ففي حق الله أعظم كفرا ومن قال إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالخالق كانت هذه العبارة أنه يطلب من المخلوق كما يطلب من الخالق وهذا يشعر أنه جعل المخلوق ندا للخالق وما أفهم الشرك كان من أسوأ العبارة فيجب أن يكون كفرا يلزم هذا القائل وقد قال رجل للنبي ﷺ ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده
وقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد
وقال من حلف بغير الله فقد أشرك
الثالث إن سوء العبارة ما حصل به سوء المعتبر ومن جعل الرسول ﷺ يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله تعالى فقد آذى الرسول ﷺ وأساء في حقه وسلط عليه العامة على اختلاف أغراضهم هذا يطلب منه إنزال المطر وهذا يطلب منه غفران الذنوب وهذا يطلب منه النصر على الأعداء وهذا يطلب منه أن يتزوج وهذا يطلب منه الولد وهذا يطلب منه المعيشة وهذا يطلب منه الملك وهذا يطلب منه الولاية وهذا يطلب منه جارية حسناء وهذا يطلب منه قضاء دينه وهذا يطلب منه سكباجا وهذا يشتكي إليه ظهور البدع وهذا يشتكي إليه ما يظن أنه من البدع فنزلوا المخلوق منزلة الإله وطلبوا منه من جلب المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وقد كان النبي ﷺ يقول من لا يسألنا أحب إلينا ممن سألنا وكانوا يسألونه ما يقدر عليه فكيف إذا طلبوا منه ما لا يقدر عليه مخلوق
وفي الجملة فمطالب الناس لا تنضبط في خيرها وشرها وقلتها وكثرتها فمن سلط الناس على الرسول ﷺ يطلبون هذا كله منه فهو من أعظم الناس إساءة إليه وإن كان لا يقصد ذلك لكن عبارته أفهمته فهي من أسوأ العبارات
الرابع أن الكلام إذا كان في سياق توحيد الرب سبحانه ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال هذا سوء عبارة في حق من دون الله تعالى من الأنبياء والملائكة فإن المقام أجل من ذلك وكل ما سوى الله تعالى يتلاشى عند تجريد توحيده ونبي الله ﷺ كان من أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه وإن كان نفس المسلوب
وهذا كما في الصحيحين من حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة رضي الله تعالى عنها من السماء وأخبرنا النبي ﷺ بذلك فقالت لها أمها قومي إلى رسول الله ﷺ فقالت والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما لقد سمعتم فلا أنكرتم ولا غيرتم ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي
وفي رواية قالت نحمد الله لا نحمد أحدا
وفي رواية نحمد الله لا نحمدك
فأقرها النبي ﷺ وأبوها على مثل هذا الكلام الذي نفت فيه أن تحمد رسول الله ﷺ وأن تحمد أحدا إلا الله تعالى لأن الله تعالى هو الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه وسوء الأدب عليه كفر
قال البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت علي بن الحمشاذ العدل يقول سمعت أحمد بن مسلمة يقول سمعت محمد ابن مسلم يقول سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول قلت لعبد الله بن المبارك قول عائشة للنبي ﷺ حين نزلت براءتها من السماء نحمد الله لا نحمدك إني لأستعظم هذا القول فقال عبد الله ولت الحمد أهله
وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا محمد بن مصعب حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي ﷺ أتى بأسير فقال اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي ﷺ عرف الحق لأهله
رواه أبو عبيد في الأموال عن عبد الرحمن بن مهدي عن سلام
وكان النبي ﷺ يعلم أصحابه بتجريد التوحيد فقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد
وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده
وما أحدثه عز وجل بغير فعل منه أضافه إلى الله تعالى وحده كما في الصحيحين لما تاب الله تعالى عن الثلاثة الذين خلفوا وآذن النبي ﷺ الناس بتوبتهم فجاء كعب إليه فقال يا كعب أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك فقال يا رسول الله أمن عند الله أم من عندك قال بل من عند الله
ومعلوم أنه لو كان من عند النبي ﷺ لكان من عند الله تعالى بمعنى أن الله تعالى خلقه وأحدثه بتوسط فعل النبي ﷺ فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار ولكن المقصود أن النبي ﷺ لم يصدر منه فعل في هذه التوبة إلا أنه بلغ رسالة الله تعالى بالتوبة كما قال تعالى في مثل ذلك وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي
وما يتكلم به الإنسان من تلقاء نفسه وإن كان الله خالقه هو من عند الله باعتبار خلقه وتقديره فليس هذا المعنى هو ذاك فإن هناك مبلغ لكلام مرسله والله تعالى يجعله مبلغا لا يجعله قائلا له من تلقاء نفسه ولهذا توعد الله تعالى من جعل القرآن قول البشر بقوله سأصليه صقر وقد قال تعالى إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون فجعله قول رسول من البشر كما جعله قول رسول من الملائكة في قوله إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين لأن لفظ الرسول يستلزم المرسل ويدل على أنه مبلغ له عن مرسله لا يتكلم به من تلقاء نفسه بخلاف من جعله قولا لمخلوق بشر أو ملك أو جني أو جعل شيئا منه قوله فإن هذا هو الذي توعده الله عز وجل
وأيما أبلغ قول عائشة رضي الله عنها لا أحمد الرسول ولا أحمد إلا الله تعالى وقول الأسير أتوب إلى الله تعالى لا إلى محمد وقول القائل لا يستغاث بالرسول بل بالله أو لا يدعى الرسول وإنما يدعى الله تعالى ونحو ذلك
وهو ﷺ قد بلغ براءتها وكان يحبها ويحب براءتها وقد خطب الناس قبل ذلك وقال من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا
لكن لما لم يجزم ببراءتها ولم يلطف بها اللطف الذي كان يلطف بها قبل ذلك لما حصل عنده من الريب بل كان إذا دخل يقول كيف تيكم ولما خطب قال يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فأستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه قالت أنتم ما برأتموني إنما برأني الله تعالى فهو الذي يستحق أن أحمده
وقد تنازع الناس في النبي ﷺ هل كان يعلم براءة عائشة قبل نزول الوحي مع اتفاقهم على أنه لم يجزم بالريبة
فمن الناس من قال يعلم براءتها وكذلك علي ولكن لخوض الناس فيها ورميها بالإفك توقف قالوا وذلك أن نساء الأنبياء ليس فيهن بغي كما قالت طائفة من السلف ما بغت امرأة نبي قط لأن في ذلك من العار بالأنبياء ما يجب نفيه
وقال آخرون بل كان النبي ﷺ حصل له نوع شك وترجحت عنده براءتها ولما نزل الوحي حصل اليقين
قالوا والدليل على ذلك أنه استشار في طلاقها عليا وأسامة
قال أسامة أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا وقال علي لا يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك فسأل النبي ﷺ بريرة ما علمت على عائشة أو ما رأيت فقالت ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله
فسؤاله لبريرة واستشارته لعلي وأسامة دليل على حصول الشك فيها وهو لما خطب ما جزم بالبراءة فقال فيما قال والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي
ولو كان جازما بالبراءة لقال إنهم كذبوا على أهلي وافتروا وإن أهلي لبريئة مما قيل ونحو ذلك
ونفي العلم ليس علما بالعدم لكن هذه العبارة تصلح لدفع المتكلم ونهيه وذمه على قبول القول كما قال تعالى إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
والعدل الذي عرفت عدالته إذا لم يعلم فيه من له به خبرة ما ظن به إلا الخير كان عدلا عنده فإذا جرحه جارح لم يعلم صدقه بل ترجح عنده كذبه لم يقدح في عدالته ولم يوجب الجزم ببراءته
قال صاحب هذا القول ولولا نزول براءتها من السماء لدام الشك في أمرها وإن كان لم يثبت شيء ففرق بين عدم الثبوت مع حد القاذف وبين البراءة المنزلة من السماء من الله عز وجل ولهذا ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فقد كفر لأنه مكذب للقرآن وأصحاب هذا القول يقولون إن النبي ﷺ تردد هل يطلقها أم لا لما حصل الشك لكون امرأة النبي ﷺ لا تكون بغيا وكان عزمه أن يطلقها والعياذ بالله لو كان ما ذكر صحيحا لكن تأنى وانتظر أمر الله تعالى حتى بين الله الحق
ومن قال هذا يقول المحفوظات هن اللواتي يبقين عند النبي ﷺ ولا يطلقهن وقد يقال بل كل من تزوجها النبي ﷺ محفوظة وإن طلقها وقد تنازع الناس فيمن تزوجها النبي ﷺ وطلقها أو مات عنها قبل الدخول هل تكون من أمهات المؤمنين على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
قيل إنها تكون أما فإن حرمة الأمومة ثبتت بالعقد كما تثبت في أمهات الناس وقيل لا تكون من أمهات المؤمنين والصحيح الفرق بين من طلقها وبين من مات عنها فمن مات عنها فهي من أمهات المؤمنين ومن أزواجه في الآخرة بخلاف من طلقها فإنها تباح لغيره أن يتزوجها ولولا هذا لم يحصل لهن بالتخيير إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل امرأة كان طلقها رسول الله ﷺ وأقره الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين على ذلك
الخامس أن يقال ما حد سوء العبارة التي تكون كفرا فإن هذا كلام مجمل لم يحصل قائله مراده به فإن أراد أن كل صفة هي ثابتة في نفس الرسول إذا نفاها عنه إنسان باجتهاده يكون مسيئا في العبارة لزم أن كل من أثبت له صفة يكفر من نفاها
فالقائلون بالعصمة يكفرون نفاتها وإن كانوا جمهور الأمة وكذلك من أوجب له حقا كالصلاة عليه في الصلاة يكفر من نفى هذا الحق وإن كان جمهور الأمة
السادس أن يقال لا نسلم أن المقصود إذا صح يكفر المعبر بعبارة يقال إنها سيئة وهذا قول لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل هم مجموعون على نقيضه وأن المسلم إذا عنى معنى صحيحا في حق الله تعالى أو الرسول ولم يكن خبيرا بدلالة الألفاظ فأطلق لفظا يظنه دالا على ذلك المعنى وكان دالا على غيره أنه لا يكفر ومن كفر مثل هذا كان أحق بالكفر فإنه مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين وقد قال تعالى لا تقولوا راعنا وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي ﷺ والمسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله تعالى عنها ولم يكفرهم بها والمطلق لمثل هذا على الله لا يكفر فكيف على الرسول ﷺ
وقوله إن كلام الإمام أو غيره دل على ذلك ممنوع فإن إمام الحرمين أجل من أن يقصد مثل هذا وإن سلم أنه قال ذلك ولا ينفع هذا المحتج تسليم ذلك له فالكلام مع من قال هذا لو كان مجتهدا دع إذا كان القائل ممن ليس له وجه في مذهبه ولا يجوز لأحد أن يقلده ولا يفتي بقوله فيما هو دون هذه المسألة فكيف في مثل هذه المسألة المتعلقة بالتكفير والدعاء
وجهل مثل هذا المفتي بالشرع وأدلته يوقعه فيما لم يقله أحد من علماء المسلمين ولهذا يقع في فتاويه من العجائب ما لا يقوله أحد فإنه يحب أن يفتي بمجرد رأيه ونظره مع قله علمه لمسالك الأحكام ومدارك الحلال والحرام وأقوال أئمة الإسلام
وأما قوله أترى إلزام الله تعالى للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده لكيفية الأدب حيث قال لهم لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون
وقال تعالى ولا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا
وقال إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون
فيقال له هذه كلها حجة عليك فإن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته نهوا عن ذلك وحرم ذلك عليهم فكان ذلك سوء أدب ولم يكفروا بإجماع المسلمين بل كانوا معذورين فيما فعلوا قبل النهي فمن أطلق عبارة لها معنى صحيح ولو أنها مكروهة كيف يكفر
وهذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر كما ثبت في الصحيح ومن كفرهما فهو أحق بالكفر
وقد ثبت في الصحيح أن ثابت بن قيس بن شماس وكان يرفع صوته خاف لما نزلت هذه الآية أن يكون من أهل النار فبشره النبي ﷺ بالجنة وهو أحد المشهود لهم بالجنة كما شهد بها للعشرة وغيرهم وكذلك دعاؤه بإسمه لم يقل أحد من المسلمين أنه كان كفر ممن دعاه وكذلك الذين نادوه من وراء الحجرات كانوا من جفاة الأعراب وقالوا يا محمد اخرج إلينا فسموه باسمه وإنما وصفهم الله تعالى بأن أكثرهم لا يعقلون ولم يقل إنهم مرتدون
وأما قوله وقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة
فيقال بل الآية دلت على نقيض هذا فإنه قال أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعروه فدلت على أن العمل لم يحبط لما تقدم من سوء الأدب ولكن يخاف إذا رفعوا أصواتهم أن يجرهم ذلك إلى كفر يحبط العمل وهم لا يشعرون فالمحبط ما يخاف حصوله لا ما وقع منهم وهذا كما يقال المعاصي بريد الكفر فإن رفع الصوت عليه والجهر له كجهر بعضكم لبعض قد يفضي بصاحبه إلى الاستعلاء عليه ونحو ذلك مما هو كفر
ثم يقال ما نحن فيه ليس من هذا الباب فإن الرافع قد فعل ما يعلم أنه مذموم في حق الرسول ﷺ فإن رفع الإنسان صوته على غيره يعلم كل أحد أنه قلة احترام له وليس أنه كمن تكلم بعبارة لا يعلم بها بأسا قصد بها معنى صحيحا ألا ترى أن الصحابة لما كانوا يقولون راعنا وهذه الكلمة قد يقصد بها معنى فاسد وهم لا يقصدون ذلك لكن كان ذريعة لغيرهم نهوا عنها ولم يقل إنكم كفرتم ولا قيل إن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بل فرق الله تعالى بين قولهم راعنا وبين رفع الصوت عليه وسوء العبارة مع صحة القصد من باب قولهم راعنا وهذه الآية حجة على بطلان ما فهمه من كلام الإمام وغيره
ومن الحكايات المعروفة عن الشافعي رحمة الله تعالى عليه أن الربيع قال له في مرضه يا أبا عبد الله قوى الله ضعفك فقال يا أبا محمد لو قوى ضعفي لهلكت فقال له الربيع لم أقصد إلا خيرا فقال لو شتمتني صريحا لعلمت أنك لم تقصد إلا الخير فقال الربيع كيف أقول قال قل برأ الله ضعفك
فإن الشافعي نظر إلى حقيقة اللفظ وهو نفس الضعف والربيع قصد أن يسمي الضعيف ضعفا كما يسمي العادل عدلا ثم لما علم الشافعي بحسن قصده أوجب أن يقول لو سببتني صريحا أي صريحا في اللغة لعلمت أنك لم تقصد إلا خيرا فقدم عليه علمه بحسن قصده ولم يجعل سوء العبارة منتقصا وقد يسبق اللسان بغير ما يقصد القلب كما يقول الداعي من الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك ولم يؤاخذه الله تعالى
فصل
وأما قوله وجعل الاستخفاف به كفرا كما قال الله تعالى قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ولا أعلم خلافا بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم لم يكونوا تعرضوا لله تعالى بعباراتهم وإنما تنقصوا رسوله فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه وبآياته وكفى بذلك كفرا ثم ذكر ما نقله من الكتاب الذي صنفه المسمى بالصارم المسلول على شاتم الرسول
فيقال لا ريب أن الاستخفاف بالنبي ﷺ كفر والاحتجاج بهذه الآية يدل على أن الاستهزاء بالله تعالى كفر وبآيات الله تعالى كفر وبرسوله ﷺ كفر من جهة أن الاستهزاء كفر وحده بالضرورة فلم يكن ذكر الاستهزاء بآياته وبرسوله شرطا في ذلك فعلم أن الاستهزاء بالرسول ﷺ أيضا كفر وإلا لم يكن في ذكره فائدة وكذلك الاستهزاء بالآيات
وأيضا فإن الاستهزاء بهذه الأمور متلازم فإن من استهزاء بآيات الله تعالى التي جاء بها الرسول ﷺ فهو مستهزئ بالرسول ﷺ ضرورة ومن استهزأ بالرسول ﷺ فهو مستهزئ برسالته حقيقة ومن استهزأ بآيات الله ورسوله فهو مستهزئ به ومن استهزأ بالله فإنه مستهزئ بآياته ورسوله بطريق الأولى
وأما الذين نزلت فيهم هذه الآية فقد لكن هؤلاء الضالين أولى بالدخول في الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من منازعيهم فإن كانت الآية تتناول المتأولين من أهل القبلة كانوا أحق بالدخول وإن لم تتناول المتأولين كان منازعوهم أحق بالخروج منها لو كانوا مخطئين وأما مع كونهم مصيبين فلا وجه لتناول الآية لهم وذلك أن هؤلاء الضالين مستخفون بتوحيد الله يعظمون دعاء غيره من الأمور وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقوله وإذا راؤك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا فاستهزئوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك
وقال تعالى عن المشركين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون قال الله تعالى بل جاء بالحق وصدق المرسلين
وقال تعالى عن المشركين وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق
وقالت عاد لهود عليه السلام يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم
ومازال المشركون يسوءون بالأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد لما في أنفسهم من تعظيم الشرك
قال تعالى لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون
ثم قال تعالى وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم إلى قوله تعالى ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين
فأعظم ما سفهوه لأجله وأنكروه هو التوحيد ولهذا تجد من فيه شبهة من هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله تعالى وإخلاص الدين له وأن لا يعبد الإنسان إلا الله تعالى ولا يتوكل إلا عليه استهزأ بذلك لما عنده من الشرك قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله فمن أحب مخلوقا مثل ما يحب الخالق فهو مشرك
ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله فالأول من تمام محبة الله تعالى وتوحيده والثاني شرك
فالأول يكون لله تعالى هو المحبوب له بذاته ويحب ما يحبه الرب تعالى تبعا لمحبته فيحب رسوله وكتابه وعباده المؤمنين كما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال ثل4اث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن يلقى في النار
وأما الحب مع الله تعالى فهو الذي يحب محبوبا في قلبه لا لأجل الله تعالى كحب المشركين أندادهم وهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله تعالى وعبادته ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء حتى إن طوائف منهم يستخفون بحج البيت وبمن يحج البيت ويرون أن زيارة أئمتهم وشيوخهم أفضل من حج البيت وهذا موجود في الشيعة المنتسبين إلى السنة وآخرون يستخفون بالمساجد وبالصلوات الخمس فيها ويرون أن دعاء شيخهم أفضل من هذا وهذا موجود في الشيعة المنتسبين إلى يونس القيسني حتى ينشدون
تعالوا نخرب الجامع... ونجعل فيه خماره
ونكسر المنبر... ونجعل منه طنباره
ونخرق المصحف... ونجعل منه زماره
وننتف لحية القاضي... ونجعل منه أوتاره
ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبا ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذبا
ومنهم من يقول كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده
ومنهم من يذبح الشاة ويقول باسم سيدي
ومنهم من يقول إن شيخه أفضل من الأنبياء والمرسلين
ومنهم من يعتقد فيه الإلهية كما يعتقده النصارى في المسيح فإذا ذكروا شيخهم عظموه وادعوا فيه الإلهية وأنشدوا له على لسانه
موسى على الطور لما خر لي ناجى... وصاحب الترب أنا جئته حتى جا
ولهم أيضا
وأنا صرخت في العرش حتى ضج
وأنا حملت على علي حتى هج
وإن البحار السبعة من هيبتي ترتج
ويقولون نحن غلمان الملك ويسمون المسجد اصطبل البطالين ويقرؤون القرآن وما أرسلناك إلا رحمة للمدمنين وألوان من هذا الجنس الذي فيه استهزاء بالله وآياته ورسوله مع تعظيمهم شيخهم وغلوهم فيه
وكذلك النصيرية والإسماعيلية ونحوهم وكثير من طوائف متعددة يرى أحدكم استغاثته بالشيخ الميت إما عند قبره وإما عند قبر غيره أنفع له من أن يدعو الله تعالى في المسجد عند السحر ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد
ومن هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي ﷺ أفضل من الحج إلى الكعبة وأن دعاء النبي ﷺ والاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله تعالى ودعائه
وكثير من هؤلاء يخربون المساجد ويعمرون المشاهد فتجد المسجد الذي بنى للصلوات الخمس معطلا مخربا ليس له كسوة إلا من الناس وكأنه خان من الخانات والمشهد الذي بني على الميت عليه الستور وزينة الذهب والفضة والرخام والنذور تغدو وتروح إليه فهل هذا إلا من استخفافهم بالله تعالى وآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك
فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بنى له المشهد والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله تعالى والاستغاثة به في البيت الذي بني لله عز وجل ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق على البيت الذي بني لدعاء الخالق وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عندهم مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله تعالى حالهم في قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فيما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون
كما يجعلون لله زرعا وماشية ولآلهتهم زرعا وماشية فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله تعالى فوضعوه فيه وقالوا الله غني وآلهتنا فقراء فيفضلون ما يجعل لغير الله تعالى على ما يجعل الله تعالى
وهكذا الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم عندهم مما تبذل للمساجد ولعمارة المساجد وللجهاد في سبيل الله تعالى
وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخضع ويتضرع ويدعو ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن فهل هذا الأمر إلا حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله تعالى ورسوله
ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم الأبيات يحصل له من الخضوع والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله تعالى فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين ولا يخشع عند سماع المخلصين المتقين بل إذا سمعوا آيات الله تعالى اشتغلوا عنها وكرهوها واستهزؤوا بها وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله تعالى أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسنة لا غية كأنهم صم وعمي وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم وسكتت ألسنتهم وسكنت حركاتهم حتى لا يشرب العطشان منهم ماء
ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذن المؤذن قالوا نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه
ومنهم من يقول هذا في شغله وهذا في شغله
ومنهم من يقول كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا على الباب
وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال
فقلت صدق كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله تعالى فإن البدع والضلالة فيها من حضور الشيطان ما قد حصل في غير هذا الموضع
والذين يجعلون دعاء الموتى والأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعائهم الله تعالى أنواع متعددة
منهم من يقدم دعاءهم
ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات مثل
حكاية أن بعض المريدين استغاث بالله تعالى فلم يغثه فاستغاث بشيخه فأغاثه
وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله تعالى فلم يخرجه فدعا بعض المشايخ الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام
وحكاية أن بعض الشيوخ قال لمريده إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري وآخر قال فتوسل بي وآخر قال قبر فلان الترياق المجرب
فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله مضاهاة لسائر المشركين وهؤلاء تتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه أو ملكا على صورته وإنما هو شيطان أغواه كما قد بسط في موضعه
ومنهم من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه فيتعسر أحدهم فيقول يا فلان وقد قال الله تعالى للموحدين فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباؤكم أو أشد ذكرا
ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق ولا يكذب فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله تعالى وقد قال شعيب عليه السلام يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله
وقال تعالى لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله
وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم
وقال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الاية
فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين عندهم يتضمن مثل هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به
وأيضا فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول ﷺ تصديقا له فيما أخبر وطاعة له فيما أمر واعتناء بمعرفة ما بعث به والتمييز بين ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب واتباع ذلك دون ما خالفه عملا بقوله تعالى واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء
وأما أولئك الضلال أشباه المشركين النصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة أو منقولات عمن لا يحتج بقوله إما أن يكون كذبا عليه وإما أن يكون غلطا منه إذا هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول ﷺ حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه كما يفعل النصارى وكما فعل هذا الضال أخذ لفظ الاستغاثة وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه فجعل حكم ذلك كله واحدا ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة أيضا ولم يكفه ذلك حتى جعل الطلب منه إنما طلبه من الله تعالى لا منه فالمستغيث به مستغيث بالله تعالى ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة
واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية التي أدخل فيها من الشرك والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال بقضية خاصة جزئية كسؤال الناس للنبي ﷺ في الدنيا والآخرة أن يدعو الله تعالى لهم وتوجههم إلى الله تعالى بدعائه وشفاعته
ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة حق لا ريب فيه لكن لا يلزم من ذلك ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة وإبطال نقيضها إذ الدعوى الكلية لا تثبت بمثال جزئي لا سيما مع الاختلاف والتباين وهذا كمن يريد أن يثبت حل جميع الملاهي لكل أحد والتقرب بها إلى الله تعالى بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها في بيت النبي ﷺ يوم عيد مع كون وجهه كان مصروفا إلى الحائط لا إليهما أو يحتج على استماع كل قول بقوله تعالى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
ولا يدري أن القول هنا هو القرآن كما في قوله تعالى أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين
ولا نسلم أن يسوغ استماع كل قول وقد نهى الله عز وجل عن الجلوس مع الخائضين في آياته وخوضهم نوع من القول فقال تعالى:
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره الاية
وقال تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم
وقال تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما
وقال تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
فصل
قال وقد أجمع العلماء كما حكاه من يرجع إليه على أن كل مسلم صدر منه سب الرسول أو تنقيصه وجب قتله ويحكم بكفره وردته عن دين الإسلام على ذلك دلت نصوص من السنة والكتاب وحكم جماعة من المتقدمين من أنه يقتل من غير استتابة كما نص العلماء أيضا أن التعريض بسبه أو تنقيصه كالصريح
فيقال هذا نقله من الكتاب الذي صنفه في شاتم الرسول استعاره من بعض من كان عنده ولهذا صار الناس يعدون هذا من قله الحياء فإن ذلك الكتاب ذكرت فيه في مسألة السب من دلائل الكتاب والسنة وأقوال العلماء من تعظيم الرسول وتعزيره وتوقيره واستنباط ما يتعلق بذلك من الكتاب والسنة ما يعرفه من تأمله
فصل
قال ومن نفى عنه أن يستغاث به فقد تنقصه عن رتبته ولا ينفعه تأويله لأن تأويله لا يخرجه عن كونه أساء الأدب على النبي ﷺ في التعبير على أن هذا الرجل لا يثبت التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف زندقة منه على ما علمته
فيقال له قد تقدم الجواب وتبين أن الذي تنقصه هو الذي يؤذيه ويعتدي عليه ويسلط السفهاء على أذاه ويكذب عليه ويبدل دينه الذي بعث به لا من يأمر بما أمر الله به من تعزيره وتوقيره وتصديقه وطاعته ومحبته ورضاه وموالاته وبما يزيده درجة ورفعة في الدنيا والآخرة من الصلاة والسلام عليه وفعل التوحيد والطاعات التي تحصل له مثل أجرها
وبين أيضا أنه لم ينف عنه كل ما يسمى استغاثة بل قد صرح بأنه يطلب منه كل ما يليق بمنصبه وأنه يستشفع به ويتوسل به كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون وكما يستشفع به يوم القيامة وأن المنفي هو دعاء الميت أو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق
وبين أيضا أن ما ذكره هذا الرجل في مسمى لفظ الاستغاثة وأن نفي ذلك يتضمن نفي كونه سببا في حصول غوث الله كلام باطل
وأما قوله فلا ينفعه تأويله إلى آخره فإنما يصح لو فسر لفظ بما يخالف ظاهره والمجيب قد بين مراده بألفاظ خاصة لا تحتمل معنيين فأي تأويل هنا يحتاج إليه فهذا من جملة افترائه فإن التأويل إنما يحتاج إليه إذا أطلق المطلق لفظا له ظاهر وأراد به غير ظاهره من غير بيان وهذا لم يقع فإن كان بعض الناس يظهر له من اللفظ ما لم يدل عليه فالتفريط منه
وكم من عائب قولا صحيحا... وآفته من الفهم السقيم
وقد بينا في غير هذا أن عامة من يورد على ألفاظ الكتاب والسنة ويدعي أن ظاهرها ممتنع إنما أتى من سوء فهمه لا من قصور في بيان الله ورسوله بل ممن تأول
مثل طائفة في قوله الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه أو صافحه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه وهذا معروف عن ابن عباس وقد روي مرفوعا ولم يثبت
فهذا اللفظ قالت طائفة إنه يحتاج إلى تأويل وليس كما قالوا فإنه قال فيه يمين الله في الأرض فقيل الخطاب في الأرض لم يطلق فيه وقال في إثباته فمن استلمه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه والمشبه غير المشبه به ففي الحديث بيان أنه ليس بصفة الله تعالى وإنما هو بمنزلة اليمين في الاستلام والتقبيل والحديث لا يدل ولا يفهم منه غير هذا
وكذلك قوله سبحانه مرضت عبدي فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده فهذا صريح في أن الله تعالى لم يمرض وإنما يمرض عبده ولا يحتاج إلى تأويل وأمثال ذلك
وأما قوله والمجيب لا يثبت على التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف زندقة على ما علمته
فيقال له لا ريب أن المجيب لم يذهب في كلامه إلى تأويل أحد بل لفظه ظاهر في معناه بل قد يكون نصا
وقول القائل إنه يذهب إلى التأويل زندقة منه فهو جهل بمسمى الزندقة وكذب ظاهر باتفاق الناس وهو بالقائل أعلق أما كونه جهلا فإن الزنديق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام فمن كان مظهرا لقوله قد كتب بأجوبة من النسخ ما لا يحصيه إلا الله وقد وافقه عليها علماء الإسلام ولم يذهب أحد إلى خلافها وقد بين قوله في أعظم الأوقات خوفا وتعصبا عليه وناظر عليه وتبين للحاضرين حتى الأعداء سلامته من هذه القوادح وظهور الجهل والكذب والظلم من منازعيه فكيف ينسب إليه إبطان خلاف ما يظهر
ولو قدر أن شخصا أبطن خلاف ما يظهر من الأقوال لم يكن زنديقا إلا إذا أبطن الكفر فمن أبطن قولا يعتقد أنه دين الإسلام ويناظر عليه لم يكن هذا زنديقا عند الفقهاء بل إن كان مخطئا فقد يكون مبتدعا وإن كان مصيبا وسكت خوف العدوان عليه لم يكن مبتدعا ولو دخل مسلم دار الرافضة والخوارج فكتم حبه للصحابة رضوان الله عليهم لم يكن زنديقا ولو عرض لم يأثم بذلك
وقد ثبت في الصحيح أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال عن سارة إنها أختي عند الحاجة إلى التعريض
وكان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول عن النبي ﷺ حين سئل عنه في الهجرة من هذا الرجل معك يا أبا بكر فيقول هذا رجل يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه يريد الطريق وإنما يريد سبيل الخير
وكذلك عين المشركين يوم بدر لما جيء به إلى النبي ﷺ وسأله فقال لا أخبركم حتى تخبروني من أنتم فقال النبي ﷺ إن أخبرتنا أخبرناك فأخبرهم فقال النبي ﷺ نحن من ماء
مع أن ما نحن فيه ليس من هذا الباب فإنه لم يحصل كتمان ولا تعريض بل صرح بالأمر على ما هو عليه وإنما المقصود بيان جهل هؤلاء الضالين المعتدين
وأيضا فيخاف من الناس من يجزع إذا أوذي ويطلب الإقالة ويستغيث بالحاضرين حتى يدفعوا عنه ما طلبه ولي الأمر من قطع لسانه ومن نفي عن البلد فلا يدخله إلا سرا ودخل في قوله تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
فإن هذا المفتري سعى في منع من يذكر ما أمر الله به في المسجد فمنع من سكنى البلد الذي فيه المسجد وأخرج منه فلم يكن يدخل المسجد إلا خائفا وحصل له من الخزي ما لا يعرف لأحد مثله في زمانه وكان له شبه من أبي عامر الراهب الذي بنى له مسجد الضرار
وكان قدح في الرسول ﷺ الداعي إلى الحنفية ومال إلى النصرانية وقال للنبي ﷺ إلى ما تدعو يا محمد قال إلى ملة إبراهيم فقال إنك شبيها بغيرها فقال ما شبيها بغيرها فقال شبيها بغيرها فقال الكاذب أماته الله طريدا وشريدا وحيدا فقال أبو عامر آمين فمات طريدا شريدا وحيدا
من يقابل ولاة الأمر وغيرهم من الأكابر في أخذهم بالحق وإن كرهوه ومن يطلب منهم أن يسكت عن حق متعلق بالدين فلا يسكت فيطلبون خروجه من الضيق فيأبى الخروج حتى يظهر الحق ومن يهن هذا الحزب الجاهل الظالم ويبين جهله ومن كتب جوابه في هذه المسألة في أكثر الأمصار من لا يحصي عددهم إلا الله تعالى من ولاة الأمور وغيرهم
وأهل السنة إذا تقابلوا هم وأهل البدعة فلهم نصيب من تقابل المؤمنين والكفار وقال تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون إلى قوله تعالى أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل
وهؤلاء الذين يدعون الموتى من أهل البدع فمنهم من مسخ خنزيرا من الرافضة وقد تواترت بذلك الحكايات وفيهم من يعبد الطاغوت فيصور تماثيل يتوجهون إليها ويدخلون في مداخل السحر وكما هو معروف عن غير واحد منهم وأما غضب الله ولعنته بسبب كثرة كذبهم وظلمهم وفسقهم فاعظم من أن يذكر
فصل
قال ولقد بالغ السلف في الاحتياط بجنابه ﷺ حتى أفتى بعضهم بأن من سب فاطمة وعائشة أن يقتل
وقال على هذا مضت سيرة أهل العلم وأفتى بعض الشافعية أن من سب أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا رضى الله عنهم فهو كافر وأفتى طائفة بكفر الرافضة ونقل عن أحمد أنه استفتى في من يشتم عثمان فقال هذا زندقة وروى عن أحمد رواية أخرى أنه قال من سب واحدا من الصحابة فقد كفر وذكرت ذلك لتعلم عظم الوقوع في الجناب النبوي عند العلماء
وقد صح وثبت أن النبي ﷺ أباح دم من نقصه وسبه ولم يختلف في ذلك الصحابة ولقد رووا أن ابن أبي سرح بعد وقيعته جاء به عثمان رضى الله عنه وكان أخاه من الرضاعة وقال بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه من الناحية الأخرى أيضا فقال بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم بايعه النبي ﷺ في المرة الثالثة وقال فيما روى ما صمت إلا ليقوم إليه أحدكم فيقتله فقال رجل من الأنصار يا رسول الله ألا ما أومأت إلي فأقتله فقال إن النبي لا يقتل بالإشارة وكان ذلك لتحريم خائنة الأعين عليه ﷺ
وأباح قتل ابن خطل لأنه كان ينتقصه ﷺ وجاءه رجل عام فتح مكة فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه فقتل
مع أن الروايات إذا استقريت علم أنهما جاءا مسلمين مناقدين ولم يكن ذلك موجبا للعفو عنهما ففيه دليل على أن الساب اليوم وإن أسلم يقتل حتما كما هو مذهب مالك وجماعة ولا يلزم من أن النبي ﷺ عفا عن بعضهم أن يجوز أن نعفوا لأن القتل كان لحقه فله ﷺ أن يترك حق نفسه
فيقال هذا كله منقول من كلام المجيب من كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لكنه أزال بهجته وحذف من محاسنه ما يبين حقيقته فالمجيب هو المنافح عن الله ورسوله وهذا كلام المتشبع بما لم يعط ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور
وأما تقريره واستدلاله الذي لم ينقله عن غيره فهو جنس كلامه في مسألة الاستغاثة وجوابه في قسم مال بيت المال ونحو ذلك مما يخرج به عن إجماع المسلمين ويضحك عليه العلماء الفاضلون ويوجب لذوي القضاء أن يحجروا عليه في الفتيا كما وقع هذا المسكين لما فيه من الجهل بمسالك الأحكام مع فرط الجراءة والإقدام على الكلام بالهوى والجهل في دين الإسلام بخلاف من منع خوفا منه إما لسياسة مملكة أو غير ذلك
فصل
قال ومن هذا يعلم أن النبي ﷺ لو نفى عن نفسه أن ينفع أو يستغاث به أو نحو ذلك يشير إلى التوحيد وإفراد الباري بالقدرة لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك لوجهين
أحدهما أن المقصد إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول ﷺ فله تركه إذا عبر عن نفسه وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف
والأمر الثاني أنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول ﷺ في العبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه ﷺ علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أفعاله وأقواله وغيره ليس كذلك
فيقال له هذا من الجهل في الاستدلال فإن ما ينفيه الرسول ﷺ عن نفسه هو صادق فيه وفي جميع ما يقول فإنه ﷺ هو الصادق المصدوق وهذا خبر أخبر به والخبر يكون إثباتا ونفيا وهو صادق فيما يثبته لنفسه وفيما ينفيه عن نفسه وعلينا أن نصدقه في ذلك وليس هذا من جنس عفوه عمن آذاه فإن ذلك ليس بخبر منه وإنما هو ترك استيفاء حق له وبعد موته لا يمكن عفوه فيجب استيفاء حقه لأن سبه فيه حق لله تعالى وبعد موته لا مسقط له فيتعين استيفاؤه وإذا انفرد بجواز العفو عن الساب دوننا لم يلزم أن ينفرد في إخباره بأن يخبر بالأمر على خلاف ما هو عليه وما قال أحد من المسلمين إن ما أخبر به الرسول ﷺ عن نفسه بنفي أو إثبات ليس لنا أن نخبر بمثل خبره
بل إذا قال سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
نقول ما كان إلا بشرا رسولا
وإذا قال إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد
وإذا قال لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
قلنا نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله
وإذا قال إنما أنا بشر أنسى كما تنسون
قلنا إنما هو بشر ينسى كما ينسى البشر
وإذا قال ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك
قلنا لم نقل إن عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا نقول إنه ملك
وإذا قال لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله
قلنا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله
وإذا قال لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل
قلنا لن يدخل الجنة أحد بعمله فإذا قيل لنا ولا رسول الله ﷺ قلنا ولا رسول الله ﷺ إلا أن يتغمده الله برحمة منه وفضل فنخبر بمثل ما أخبر تصديقا له فإنه الصادق المصدوق
ومثل هذا كثير
وقول هذا الجاهل مات ودين النصارى فإن المسيح عليه السلام لما أخبر عن نفسه أنه عبد الله تقول النصارى ليس لنا أن نقول في الأنبياء ما يقولونه في أنفسهم وقد قال الله تعالى يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك إلى قوله ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم
وقال المسيح عليه السلام إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا
فقول النصراني من جنس قول شبهته هو يقول ربي الله وهم يقولون هو الرب ليس رب ويقولون وليس لنا أن نقول فيه ما يقول في نفسه وهكذا الرافضي إذا احتججنا عليه بقول علي رضي الله عنه يقول ليس لنا أن نقول فيه قوله في نفسه
وفي الجملة فبعض الناس قد يقول على سبيل التواضع كلاما فيه مبالغة فيقال ليس لغيره أن يقول فيه هذا وأما الرسول ﷺ فلا ينطق إلا بالحق وكلامه معه إذا كان تواضعا لله تعالى فهو أحق الخلق بالتواضع لربه عز وجل وليس هذا كتواضع الرجل للرجل
ثم ما ذكره في عفوه عن السيئات لا يقتضي العلم بهذا ولا هو دليل عليه
وأما قوله في الوجه الأول إن القصد إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول ﷺ فله تركه إذا عبر عن نفسه وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف
فيقال له هذا من جهلك فإن التعبير عن المعاني بالألفاظ يتعلق باللغة ليس هذا من الحقوق ولا له مدخل في هذا بل الواجب أن يعبر عن المعنى باللفظ الذي يدل عليه فإن كان اللفظ نصا أو ظاهرا حصل المقصود وإن كان اللفظ يحتمل معنيين أحدهما صحيح والآخر فاسد تبين المراد وإن كان اللفظ يفهم منه معنى فاسد لم يطلق إلا مع بيان ما يزيل المحذور وإن كان اللفظ يوهم بعض المستمعين معنى فاسدا لم يخاطب بذلك اللفظ إذا علم أنه يوهم معنى فاسدا لأن المقصود بالكلام البيان والإفهام وأما إذا كان اللفظ دالا على المراد
وجهل بعض الناس معناه من غير تفريط من المتكلم فالدرك على المستمع لا على المتكلم
وقوله إذا خالف موجب الأدب كفرناه
فيقال له كلا المقدمتين باطلة دعواك مخالفة موجب الأدب ودعواك كفر
وأما إخبارك عن نفسك أنك تكفره بما تعتقده إنه مخالف للأدب فأنت صادق في خبرك عن اعتقاد الباطل وجهلك المعروف كما يصدق الروافض إذا أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لأبي بكر وعمر وعثمان وكما يصدق الخوارج إذا أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لعثمان وعلي وكما يصدق الكفار إذا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يقولون عن النبي ﷺ إنه كاهن ومجنون ومعلم ومفتري فهذا صدق يضر قائله لا يضر المقول له قال تعالى إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم
لكن اعتقادك كفر من هم أعظم الناس إيمانا بالله ورسوله لا يضرهم قال النبي ﷺ إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما كنت أحق بالكفر إلا أن تعذر بالتأويل وفي الصحيح أيضا عن النبي ﷺ قال لا يرمي رجل رجلا بالكفر والفسوق إلا ردت عليه إذا لم يكن لذلك أهلا
وقوله في الوجه الثاني إنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للنبي ﷺ فالعبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أقواله وأفعاله وغيره ليس كذلك
فيقال هذا مبني على صدور عبارة موهمة وقد تقدم أن الجواب عبارة ظاهرة في معناها بل نص لا يحتمل معنيين فضلا عن كونها توهم غير ما أريد بها
وأيضا فغير الرسول ﷺ إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام
وأيضا فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلمين لم يكن على المتكلم بذلك بأس ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق
ثم غاية هذا أن يكون بحثا لفظيا والبحوث اللفظية لا توجب خلافا معنويا فضلا عن التكفير اللهم إلا على قول هذا الجاهل إن المتكلم إذا عنى معنى صحيحا بعبارته وتوهم منها بعض الناس نقصا كان ذلك كفرا وهذا لا يقوله إلا من انسلخ من العقل والدين لا سيما إذا كان التقصير إنما هو من المستمع لا تقصير في عبارة المتكلم
ثم يقال هذا كله ليس مما نحن فيه فإن ما ذكره المجيب لا يحتاج إلى هذا ولا يتوقف على نقل عبارته بعينها بل تلك المعاني بائنة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة سواء كان اللفظ بعينه منقولا أو لم يكن والتعبير عن تلك المعاني شائع بما يدل عليها دلالة بينة كالدلالة على سائر المعاني
ومما يجب معرفته أن الأسماء والألفاظ التي تعلق بها الأحكام الشرعية من الأمر والنهي والتحليل والتحريم والاستحباب والكراهة والمدح والذم والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة هي الألفاظ الموجودة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ومعاني تلك الألفاظ وذلك مثل لفظ الإيمان والإخلاص والعبادة والكفر والشرك والهدى والضلال والرشاد والغي والعبادة والتوكل والشكر والصبر والنبوة والرسالة والتوكيل ونحو ذلك فأما الألفاظ التي لم توجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ولا تعلق لها بشيء من ذلك إلا إذا تبين أن معانيها موافقة لمعاني ألفاظ الكتاب والسنة
والله تعالى في كتابه وسنة رسوله قد أوجب لنفسه حقا لا يشركه فيه غيره وأوجب حقا له ولرسوله ﷺ وللمؤمنين فله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخشاه ونتقيه
فصل
قال وبالجملة فللأنبياء مع أنفسهم وفيما بينهم عبارات ومخاطبات ومعاملات لا يقاس بها معه من دونهم ألا ترى ما في الحديث الصحيح في محاجة موسى لآدم وذكر أشياء في روايات ساقها مسلم منها قوله أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة ومنها قوله أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة الحديث وليس لواحد منا أن يقول في آدم ﷺ ولا أحد من النبيين مثل ذلك القول ولا قريب منه وكيف لطم موسى عين ملك الموت عليه السلام وأثبت بعض العلماء أنه لطم حقيقة
وروى مسلم أن النبي ﷺ قال لم يكذب إبراهيم النبي ﷺ قط إلا ثلاث كذبات الحديث مع أن الثلاث وجه المجاز فيها ظاهر صحيح قوله إنه سقيم باعتبار الاستقبال ولا بد لكل بشر أن يسقم غالبا ولو بمقدمات الموت مع جواز إطلاعه على ذلك أو بتأويل القائلية
وقوله بل فعله كبيرهم هذا وجه المجاز أنه سبب للتكسير الذي وقع لما فيه من التصوير المنكر أو هو تهكم يؤيده قوله فاسألوهم
وأما الكلمة في سارة فقد صرح بالمعنى إذ قال لها أخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام
وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضا بما يرونه خلاف الأدب منهم وكل هذه الأمور لا ينقاس بها معهم من دونهم فربما كان الشيء من المثيل أو المساوي أدبا أو أمرا محتملا ولا يكون ممن دونه كذلك فليحفظ الناظر مواقع الحكمة في أحكام المراتب في الأشخاص والأفعال والأقوال وسائر الأحوال
والجواب من وجوه
أحدها أن يقال هذا الكلام لا يدل على مورد النزاع فإن أحدا لم يقل إن حكم النبي مع النبي أو مع الملك حكم من هو دونه ولا حكم بعض الأنبياء حكم بعض بل ولا الملائكة
قال تعالى ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقال تعالى عن الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم وقال تعالى كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا
ولكن ليس في ثبوت فضيلتهم على من دونهم وعدم مساواتهم لهم في كل شيء أنهم لا يشاركونهم في شيء من الأحكام بل الأصل عند جماهير السلف والخلف أن ما ثبت في حق النبي ﷺ من الأحكام ثبت في حق الأمة ما لم يقم دليل التخصيص فما وجب عليه وجب عليهم وما أبيح له أبيح لهم إلا أن يقوم دليل على التخصيص ولهذا قال تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج الآية فبين أن في تزويجه بامرأة دعيه من الحكمة رفع الحرج عن المؤمنين في تزويجهم بنساء أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا
ولولا أن الإحلال له يستلزم الاستحلال للأمة لم يرتفع الحرج بمجرد ذلك ولهذا لما خصه بإحلال شيء قال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم فجعل إباحة الواهبة نفسها له خالصة له من دون المؤمنين
ومن هذا ما ثبت في الصحيح أنه بلغه أن قوما تنزهوا عن أشياء فعلها فقال والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده
وفي حديث آخر أن رجلا قال ويلتنا مثل رسول الله ﷺ يحل الله له ما يشاء فغضب من ذلك وقال إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده
لأن هذا ونظائره متعددة وهذا الأصل متفق عليه بين أئمة الإسلام ولكن قد يقال نفس الخطاب له أو للواحد من الأمة خطاب عام للعادة الشرعية في ذلك أو يثبت الاشتراك بالاعتبار بأدلة أخرى أو ذلك معلوم بالاضطرار من الدين هذا مما تنازع فيه أهل النظر وإذا كان كذلك فما يثبت جوازه له من الأقوال يثبت جوازه لغيره ما لم يقم دليل المنع وما ذكره من مطلق التفصيل ليس دليلا على المنع باتفاق المسلمين
الوجه الثاني أن يقال خبره عن نفسه وغيره سواء كان نفيا أو إثباتا وما أخبر به فهو صدق يجب تصديقه ومن أخبر به كان صادقا داخلا فيمن جاء بالصدق وصدق به
ومن قسم أخباره إلى ما لنا أن نخبر به وما ليس لنا أن نخبر به فقد قال قولا مبتدعا لا دليل له عليه بل هو معلوم البطلان ثم إنه لا يمكنه أن يذكر حدا فاصلا بين ما يجوز موافقته فيه من الأخبار وما لا يجوز بل لا يشاء كل جاهل وضال أن يقول فيما أخبر به الرسول ﷺ هذا من الأخبار التي ليس لنا أن نخبر بها بحال يبديه إلا ادعى ذلك حتى سد على الناس أن يخبروا بالأخبار الصادقة التي أخبروا بها وقد يتعدى ذلك إلى الأمر فيقول ليس كل ما أمر به يؤمر به من غير تفصيل معلوم بدليل الشرع
وحينئذ فإذا لم يقم يخبر بخبره ويأمر بأمره كان ذلك ذريعة إلى إبطال كثير من رسالته ونبوته وهذا فيه من الكفر وإبطال دينه ما هو من اعظم الردة عن دين الإسلام وليس هذا بمنزلة سوء الأدب في الخطاب بل هذا كفر صريح وردة عن الإسلام وهذا لازم لهؤلاء الجهال فإن قولهم يستلزم الردة عن الدين والكفر برب العالمين
ولا ريب أن أصل قول هؤلاء هو من باب الإشراك بالله تعالى الذي هو الكفر الذي لا يغفره الله تعالى فإن الله تعالى قال في كتابه
وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سوعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد اضلوا كثيرا
وقال غير واحد من السلف هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم
وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة في كتب الحديث والتفسير وقصص الأنبياء كما ذكره البخاري في صحيحه وجماعة من أهل الحديث وكما ذكره مصنفو القصص مثل وثيمة وغيره
وقد أمره الله تعالى أن يقول إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فيقول الضال هذا يقوله هو عن نفسه وأما نحن فليس لنا أن نقول هو بشر بل نقول كما قال فلان وفلان من زعم أن محمدا بشر كله فقد كفر وهذا يقوله قوم منهم وهو تشبه بقول النصارى في المسيح يقولون ليس هو بشر كله بل المسيح عندهم يتناول اللاهوت والناسوت الإلهية والبشرية جميعا وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت في الأنبياء والصالحين كما تقوله النصارى في المسيح
الوجه الثالث أن يقال مسألتنا ليست محتاجة إلى هذا فإن ما نفي عنه وعن غيره من الأنبياء والمؤمنين وهو أنهم لا يطلب منهم بعد الموت شيئا ولا يطلب منهم في الغيبة شيئا لا بلفظ الاستغاثة ولا الاستعاذة ولا غير ذلك ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى حكم ثابت بالنص وإجماع علماء الأمة مع دلالة العقل على ذلك فلا يحتاج إلى ذكر حديث فيه نفي ذلك عن نفسه كقوله إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله تعالى فإن هذا اللفظ هو بمنزلة أن يقال لا يستعاذ به ولا غيره من المخلوقين وإنما يستعاذ بالله عز وجل وهذا كله معلوم
وكذلك لفظ الاستجارة وأما طلب ما يقدر عليه في حياته فهذا جائز سواء سمي استغاثة أو استعاذة أو غير ذلك
الوجه الرابع أنه ليس فيما ذكره حجة على أن ما يسوغ للأنبياء لا يسوغ لغيرهم فإنه إنما ذكر خطاب موسى لآدم ولطم عين ملك الموت
فيقال له
أولا هل هذا سائغ لغير موسى من الأنبياء كمحمد ﷺ والمسيح وغيرهما أم ليس سائغا
وإن ساغ لهؤلاء فهل يسوغ هذا لداود وسليمان ويونس وغيرهم
فإن قال نعم هذا سائغ لهؤلاء كلهم طولب بدليل ذلك ولا يمكنه على هذا التقرير منع جوازه لغيرهم إلا أن يذكر دليلا خاصا على أن هذا من خصائص الأنبياء وليس له على ذلك دليل
وإن قال لا يسوغ هذا لنبي آخر ولا يسوغ لنبي معين من الأنبياء
قيل فحينئذ فلا حجة لك فيه على أنه لا يقتدى بالأنبياء فيما يسوغ لهم فإن هذا حينئذ ليس مما يسوغ لكل الأنبياء وما خص به بعض الأنبياء لم يعتد به غير الأنبياء بطريق الأولى وحينئذ فلا يكون هذا من موارد الفرق بين الأنبياء وغير الأنبياء بل من موارد الفرق بين نبي ونبي
ومن الناس من يقول إن موسى عليه السلام كان يحتمل منه ما لا يحتمل من مثل يونس كجر رأس هارون ولحيته وإلقاء الألواح ولطم عين ملك الموت ومعاتبة ربه ليلة المعراج في رفع محمد ﷺ ونحو ذلك لما كان له من عظيم المجاهدة مع فرعون وقومه ولما كان له من عظيم المنزلة عند ربه عز وجل وحينئذ فإذا كان هذا سائغا لبعض الأنبياء ولا يسوغ لهم كلهم لم يكن مما نحن فيه
الوجه الخامس أن يقال الناس لهم في جواز وقوع الذنب من الأنبياء قولان
فالسلف والأكثرون يقولون بجواز ذلك وإن كانوا معصومين عن الإقرار عليه
وكثير من الناس منع ذلك بالكلية
وكل من الفريقين يقول إنه قد يخص بعض الأنبياء بأمر لا يشركه فيه جميع الأنبياء والمؤمنين وحينئذ فقول موسى لآدم ما قال إما يكون مما أقر عليه أو لا يكون مما أقر عليه
فإن قيل بالأول وقيل إنه مختص به أو بأمثاله من الرسل فلا كلام
وإن قيل إنه سائغ لجميع الأنبياء فلا بد من دليل على أنه من خصائصهم وإن قيل إنه لم يقر عليه وهو الأظهر فإن آدم أجابه عن ذلك وبين له أن هذا الذي جرى عليكم كان مقدورا عليكم ومكتوبا عليكم فحج آدم موسى
وإذا كان موسى محجوجا كان موسى قد عرف أنه لا حجة له على آدم وأن لم يكن له أن يعاتبه على ذلك فيكون موسى رجع عن هذا وما رجع عنه النبي وما لم يقر عليه لم يقتد به باتفاق المسلمين كالمنسوخ وأولى
وكذلك لطمه لملك الموت إن كان مأذونا له فيه أو معفو عنه وهو من خصائصه أو من خصائص الرسل فلا كلام فيه
وإن قيل إن هذا سائغ للأنبياء كلهم فلا بد من دليل الاختصاص بالأنبياء
وأما إن قيل إن موسى رجع عن تلك اللطمة لما اختار الموت وأجاب إلى ما طلب منه الملك من إجابة ربه كان هذا مما رجع عنه موسى ومثل ذلك ليس مما يقتدى فيه بالأنبياء وذلك أن موسى لطمه بغضا للموت فلما رجع إليه وخيره بين أن يضع يده على متن ثور فما وارت يده من شعره فإنه يعيش بعدده سنة وبين الموت اختار الموت
الوجه السادس أن قول موسى إن آدم أغوى الناس وأخرجهم من الجنة وإنه خيبهم وأخرجهم من الجنة إما أن يقول إنه صدق وإما أن يقول لم يكن كذلك وإنما قال باجتهاد وتأويل
فإنه صدق لا خطأ فيه قيل فمن الذي منع غير موسى أن يقول الصدق الذي لا خطأ فيه
وقول القائل ليس لواحد منا أن يقول الصدق الذي لا خطأ فيه الذي قاله الأنبياء دعوى مجردة لا يثبت بها حكم ولكن صاحب هذا الكلام يتكلم بحاله وما يخطر له من غير اعتصام بالأدلة الشرعية
وإن قيل إن موسى عليه السلام قاله مجتهدا متأولا ولم يكن الأمر كذلك أو قال بحسب اعتقاده ولم يكن الأمر كذلك كقول النبي ﷺ لم أنس ولم تقصر الصلاة فإنه قال معتقدا أنه أتم الصلاة فقال له ذو اليدين بل قد نسيت فقال أكما قال ذو اليدين قالوا نعم
وكذلك لما قال في النخل ما أظنه يعني التلقيح يغني شيئا ثم قال لهم إنما أخبرتكم عن ظني فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله تعالى
وفي لفظ أنتم أعلم بأمر دنياكم وأما ما كان من أمر دينكم فإلي
وأما لطم موسى عين ملك الموت فليس هو إخبار نبي وإنما هو فعل من الأفعال فليس مما نحن فيه
وأما قول النبي ﷺ لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات فيقال له أتقول إنه لا يجوز لنا أن نصدق النبي ﷺ فيما قال لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات بالمعنى الذي عناه النبي ﷺ أي شيء كان أم ليس لنا ذلك
فإن قلت لنا ذلك بطلت حجتك وإن قلت ليس لنا أن نقول ما قال النبي ﷺ لفظا ومعنى كان هذا ممنوعا وهو من جملة ما يرد عليك وإن لم يذكر عن ذلك حجة بل ولا نقله هذا عن إمام من أئمة المسلمين ونحن قد ذكرنا دلاله الكتاب والسنة والإجماع عن الأخبار الصادقة التي أخبرت بها الأنبياء نفيا وإثباتا لنا أن نخبر بها كما أخبروا بها
الوجه السابع أن يقال هذه الكلمات هي من باب المعاريض والمعرض يقصد معنى والمستمع يفهم غيره والكلام مبدأه عناية المتكلم ومنتهاه إفهام المستمع فالمعرض إذا عنى حقا والمستمع فهم باطلا كان الكلام صدقا باعتبار العناية كذبا بإعتبار الإفهام ولهذا لم يرخص في المعاريض فيما يجب بيانه لمثل البيع والشهادة والإفتاء ونحو ذلك باتفاق ويجوز للمظلوم التعريض في الأيمان وغيرها
وأما من ليس بظالم ولا مظلوم ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره قيل يجوز له التعريض وقيل لا يجوز مع اليمين ويجوز بدونها
فقول إبراهيم عليه السلام إني سقيم قيل أراد سقيم القلب من كفركم
وقوله أختي أراد أختي في الدين كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث الصحيح حيث قال فإنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك
وقوله بل فعله كبيرهم هذا قيل إنه قصد تعليقه بالشرط وهو قوله إن كانوا ينطقون
ومن هذا قول نائب يوسف إنكم لسارقون فإن يوسف أمره بالنداء لكن مراد يوسف سارقون ليوسف من أبيه وهو صادق فيما عناه
وما ذكره هذا الذي يلبس الحق بالباطل كحاطب ليل من التأويلات ليس مما ينبني عليه مسألتنا فإنه ليس في شيء من ذلك أنه لا يجوز أن يخبر بما أخبر به الرسول ﷺ لفظا ومعنى والناس قد ذكروا هذه التأويلات وغيرها فتأويل المتأول إني سقيم أي سأسقم إما لأن الظاهر مرضه أو لإطلاعه على ذلك هو تأويل وقول غيره أريد سقيم القلب تأويل ثان وهو أقرب من كون الصفة الحاضرة والأول أقرب من كون السقم أراد به البدن لكن يقال استعمال السقم والمرض في سقم القلب ومرضه هو حقيقة بخلاف قوله إني سقيم بمعنى وإني سأسقم فإن هذا لا يفهم إلا بقرينة فيكون ذلك التأويل أولى
وأما التأويل الآخر بمعنى القابلية فبعيد فإن الموجود لا يوصف بكل ما يقبله من المعدومات إذا لو كان كذلك لجاز أن يقال عن كل مخلوق إنه معدوم وعن كل مؤمن إنه كافر وعن كل كافر إنه مؤمن وعن كل غني إنه فقير وعن كل عفيف إنه فاجر وعن كل سليم إنه أشل وأقطع
والتأويلان المذكوران في قوله بل فعله كبيرهم هذا أن الأكبر سبب للتكسير تأويل فاسد فإن السبب في كل منكم قام به من التصوير لا سيما قوله بل فعله كبيرهم يقتضي أنه لم يفعله إلا كبيرهم فلا يكون السبب إلا التصوير الذي قام به وهذا باطل قطعا فإن التصوير القائم بكل صنم موجب لكسره لا يحتاج إلى تصوير صنم أكبر منه وأما التهكم فهو أحسن
وكذلك قوله من قال إنه نوى التعليق بقوله إن كانوا ينطقون وقوله وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضا بما يرونه خلافا للأدب منهم فهذا كلام متناقض وهو كلام من نظر في كلام شارحي الحديث ولم يميز بين حق ذلك وباطله وأخذ من ذلك ما ظنه موافقا لدعواه فلا له تمييز في أقوال الناس بين حقها وباطلها ولا له معرفة بطرق الاستدلال فلا ذاكر لكلام منقول ولا مبين لمعنى مقبول ولا نقل ولا توجيه لا ذكر ولا أثر
والعلم شيئان إما نقل مصدق وإما بحث محقق وما سوى ذلك فهذيان مسروق وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم من الهذيان وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده ومنه ما لا ينقله على وجهه ومنه ما يضعه في غير موضعه
وأما بحثه واستدلاله على مطلوبه فمن العجائب لا يحقق جنس الأدلة حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل ولا مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح إذا تعارض دليلان ولهذا كان أصول الفقه مقصوده معرفة الأدلة الشرعية جنس الدليل ومرتبة الدليل وهذا فيه كناية الخلاص من كناية تراد الحق أدنى إلى الخلاص كناية تراد وقد قيل إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبقه إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء فيختار أحد القولين بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول
فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة انه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا يغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا يغيرها كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول ﷺ مما يخالفه ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام
وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم وقال بعض الشعراء
يا خائفين من التتر... لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال
عوذوا بقبر أبي عمر... ينجيكم من الضرر
فقلت لهم هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة الله عز وجل في ذلك ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا وإن كثيرا من القائلين الذين اعتقدوا هذا قتالا شرعيا أجروا على نياتهم فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل والاستغاثة به وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال تعالى يوم بدر إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم
وروى أن رسول الله ﷺ كان يوم بدر يقول يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث
وفي لفظ أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك
فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك فإن الله تعالى ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ونحن نتكلم على ما ذكر وإن لم يختص بمسألتنا لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله
أما حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام فإن هذا الحديث فهم منه كثير من الناس المتقدمين والمتأخرين أن آدم احتج بالقدر على فعل الذنب فصاروا أحزابا
حزب من أهل الكلام كذبوا بالحديث كأبي علي الجبائي وغيره وقالوا نحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن سابق علم الله وكتابه لا يكون حجة لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور وهذا يناقض ذلك فيكون كذبا على النبي ﷺ
وحزب من الصوفية والعامة شر من هؤلاء جعلوا هذا الحديث حجة على دفع الذم والعتاب عن الكفار والفساق والعصاة وسموا هذا حقيقة وهو حقيقة القدر
وقال منهم طائفة من شهد القدر ارتفع عنه الملام وقالوا آدم كان شاهد القدر
ودخل في ذلك طائفة من أعيان الشيوخ والعلماء فظنوا أن الخواص يرتفع عنهم الذم والعتاب بشهود القدر دون العامة
ومنهم من قال هذا عين الجمع وهو أن لا يرى الفاعل إلا واحدا
ومنهم من جعل هذا من أفضل مقامات العارفين ومن لوازم سلوك السالكين
ومنهم من جعل هذا منتهى سير العارفين وسموا ملاحظة هذا فناء في توحيد الربوبية أو اصطلاما ونحو ذلك
فالذين جعلوا هذا منتهى للوصول رفعوا استحسان الحسنات واستقباح القبائح وقالوا استحسان الحسنات واستقباح السيئات يكون لأصحاب البقاء والفرق لا لأهل الجمع والاصطلام والفناء في التوحيد
والذين جعلوه مقاما أو لازما للسالك فقالوا بعد هذا مقام أعلى منه وهو مشهد الفرق الثاني وقد كان بين الجنيد وأبي حسين النوري وأصحابهما كلام في الفرق الثاني واضطربوا كما ذكر ذلك أبو سعيد بن الأعرابي في كتاب طبقات النساك وذكر أن كلامهم في الفناء والجمع لم يشتركوا فيه إلا في العبادة وأن هذا يشير إلى معنى غير المعنى الذي يشير إليه هذا وأنه لم يحصل ما يعبر عنه بالفرق الثاني
وذكر أن أبا الحسن النوري لما قدم بغداد بعده أن كان خرج عنها وكان قد خرج هو وغيره في محنة الصوفية التي جرت لما قام عليهم غلام خليل سنة بضع وستين ومئتين وكتب منه نحو سبعين نفسا واتهمهم بالزندقة فوضعوا منهم جماعة في الحبس وسافر بعضهم واختبأ بعضهم وكان فيهم من هو مظلوم ومنهم من هو متعبد وكان غلام خليل فيه عبادة وزهد وفيه نوع قلة معرفة أيضا ولهذا يقال إنه كان يضع الأحاديث في الفضائل وهذا قد بسطه أبو سعيد بن الأعرابي وغيره ذكر ذلك مختصرا
وذكر أبو سعيد أن النوري لما رجع سأله أصحاب الجنيد عن الفرق الذي بعد الجمع ما علامته وما الفرق بينه وبين الفرق الأول
قال فسألوه عن هذا المعنى لا أدري بهذا اللفظ أم بغيره إلا أني قد حفظت المعنى وأثبته
قال وكنت إذا مررت به بالرقة سنة سبعين قال من بقي من أصحابنا فأخبرته فسألني عن جماعة ثم سألني عن الجنيد وما يتكلم فيه ومن يجتمع إليه فأخبرته وقلت إنهم يشيرون إلى شيء يسمونه الفرق الثاني والصحو فقال لي اذكر لي شيئا منه فذكرت له بعض ما كنت أظنه فضحك ثم قال لي أي شيء تقول في هذا ابن الجلحي فقلت ما أجالسهم فقال فأبوا أحمد القلانسي فقلت مرة يوافقهم وربما خلافهم إلى معاني الجمع فقال أي شيء تقول أنت فقلت ما عسى أن أقول أنا ولكن ما تقول في هذا يا أبا الحسين فإني أحب أن أسمع منك في هذا خاصة شيئا فقال لا أو تقول أنت فتحملني حرصي على أن أسمع منه إن قلت أن قلب ما كان عندي في ذلك الوقت أنا أحسب يا أبا الحسين أن هذا الذي يسمونه فرقا ثانيا هو عين من عيون الجمع يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع وإنما هو أحد عيون الجمع فقال هو كذلك أنت إنما سمعت هذا من أبي أحمد القلانسي فأخبرته أني ما سمعته من أبي أحمد فلما قدمت بغداد حدثت أبا أحمد بذلك
وقد كان أبو أحمد يعارضه بذلك ولا يقطع به وربما وافقهم فأعجبه قول أبي الحسين وكذلك كان عند أبي الحسين
فأما أبو أحمد فربما قال هو صحو وخروج عن الجمع وربما قال هو شيء من الجمع
ثم قال أبو الحسين ببغداد لما شاهدهم ليس هو عين من عيون الجمع ولا صحوا من الجمع وفرقا ثانيا ولكنهم رجعوا إلى ما يعرفون وحملوا الشيء على عقولهم فهم يسددون بجهلهم ليس معهم مما يذكرون إلا هذا العلم وهذا الوصف وكأنهم قد اصطلحوا عليه وكان يومئ إلى أنهم يتكلمون من غير حقيقة وإنما هو شيء يأخذه بعضهم عن بعض فيزيد بعضهم من بعض بقدر فصاحتهم في العبارة دون الحقيقة ولهذا كان قوله أول ما قدم بغداد
قال أبو سعيد ثم باتوا معه ليلة لم أكن معهم كان ابن عطاء وريم فأقبل ابن عطاء يسأله فإذا أصابه بشيء عكسه عليه ابن عطاء ثم يسأله عما ينشئه فإذا أجابه قال هذا ضد الجواب الأول يا أبا الحسين قياسا وتشبيها فكان منه إليه كلام فيه جفاء وكذلك فعل أيضا فقالوا إنه يقول الشيء وضده ولا يعرف هذا القول سوفسطا ومن قال بقوله وكان بينهم وحشة بذلك وكان يكثر منهم التعجب وقالوا للجنيد ذلك فأنكر عليهم حينئذ وقال لا تقولوا مثل هذا لأبي الحسين ولكنه رجل به علة قد تغير دماغه ثم إنه انقبض عن جميعهم بعد تلك الليلة وأظهر لمن اتهمه منهم الجفاء وترك مجالستهم ثم غلبت العلة وذهب بصره ولزم الصحاري والجبانات والمقابر وكانت له في ذلك أحوال طويلة كثيرة يطول شرحها وذكرها
قال ولم أحضره عند موته وكان جماعة من أصحابنا يقولون من رأى أبا الحسين بعد قدومه الرقة ولم يكن رآه قبل ذلك فكأنه لم يره لتغيره بعد قدومه إلا أنه مات وهم عنده يتكلون في شيء سكوتهم عنه أولى بهم لأنه ليس شيئا عندهم يعرفونه وإنما يتوهمون فيتكهنون فيه ويتعسفون بطولهم وقد كانوا عند غير قبره ممن لا أسميه كذلك قال أبو سعيد فإذا كان أولئك كذلك فكيف بمن حدث بعدهم ممن أخذ عنهم
قال ومنعني من الطبقة التي كانت بعد هؤلاء أشياء كثيرة إلا أن جملة ذلك وإن كانوا قوما صالحين فاضلين فما يدرون ما كان يقول أولئك في هذه المعاني التي أشرنا إليها ولا ما كانوا يشيرون إليه إلا بالتوهم والبلاغات وذكر كلاما طويلا
قلت الصوفية بعد هؤلاء هم على هذا الاضطراب
منهم من قال بالفرق الثاني كالجنيد وأصحابه وهؤلاء هم المصيبون المسددون
ومنهم من نفاه
ومنهم من تردد فيه
ومنهم من قال إنه أكبر من المتكلم فيه وسبب ذلك أن الإنسان يشهد أولا الفرق حسه وعقله وهواه من غير نظر إلى أن الله خالق كل شيء وهذا هو الفرق الأول فإذا توجه إلى الله رأى أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه كل ما في الوجود بمشيئته وقدرته وهذا شهود صحيح بحيث يغيب عن نفسه وعن غيره ويفنى بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته فلا يبقى ناظرا إلا إلى توحيد الربوبية وهو أن الله خالق كل شيء
وهذا المشهد ليس فيه تفريق بين المأمور والمحظور ولا بين المعروف والمنكر ولا بين أوليائه وأعدائه ولا بين المؤمنين والكفار ولا بين ما يلائم الإنسان وما يخالفه وهذا لا يتصور أن يدوم بقاء العبد فيه فإن نفسه لا بد أن تفرق بين ما يلائمها وبين ما يضرها كما تفرق بين الخبز والتراب وبين الماء والبول لكن من قال بأن الفناء هو الغلبة منهم من جعل ذلك نزولا من العبد من عين الجمع إلى الفرق ومنهم من يقول بل القيام بالفرق هو لصلاح العامة لا لنفسه ومنهم من يسمي هذا تلبيسا ويقول هذا للأنبياء وربما قال الفرق لأجل المارستان يصلح به العامة الذين هم كالمجانين
قد يقول هؤلاء الكمال أن يكون الجمع في قلبك مشهودا
والفرق في لسانك موجودا وأن يكون باطنك حقيقة وظاهرك شريعة
ومنهم من يقول الفرق بين هذه الأشياء الضرورية التي لا بد منها للإنسان بخلاف غيرها
ومنهم من يقول هذا الفناء والاصطلام ليس هو الغاية بل هو مقام عال لا بد للسالك من سلوكه إياه ومن لم يقم فيه لم يصل إلى حقيقة المعرفة
وهذا غلط فإن هذا من عوارض الطريق لا من لوازمه فإن حاصله عدم شهود الحقائق على ما هي عليه وهذا نوع من نقص الشهود والعلم ورؤية الأمر على ما هو عليه
ولكن يعرض لبعض المتوجهين إذا رأى أن الله خالق كل شيء يجمع في رؤيته هذا ولم يشهد الفرق فإنه سبحانه وإن خلق الأشياء كلها بمشيئته وقدرته فقد أمر بطاعته ونهى عن معصيته وهو يحب ما أمر به ويبغض ما نهى عنه وهذا هو الفرق الشرعي ليس هو الفرق الطبعي وهذا الفرق فرض على كل مسلم لا يكون مؤمنا إلا به وصاحب هذا يشهد أن لا إله إلا الله فيعلم أن الله تعالى هو المعبود دون ما سواه وأنه أرسل الرسل يأمرون الناس بطاعته وينهونهم عن معصيته
ومن لم يشهد هاتين الشهادتين لم يكن مسلما وأما مجرد رؤية الله خالق كل شيء فهذا ما كان يقر به المشركون عباد الأصنام فمن وقف في الجمع لا يفرق بين مأمور ومحظور لم يكن مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله تبارك وتعالى لكن هؤلاء يقولون نحن نثبت الفرق العائد إلى حظ الإنسان بأن فعل المأمور سبب للثواب وفعل المحذور سبب للعقاب والثواب والعقاب حظ للعبد والكامل الخالي عن حظوظه الذي لا يريد إلا ما يريد ربه هو صاحب الفناء وهو الذي لا يستحسن حسنته ولا يستقبح سيئته فالفرق لا يعود إلى الله تعالى ولا إلى صاحب الفناء
وأصل غلط هؤلاء أنهم لم يثبتوا لله تعالى إلا الإرادة العامة المتناولة لكل مقدور
ومعلوم أنه لو كان الأمر كذلك لكان الفرق سببا بالنسبة إلى الله تعالى لكن هذا غلط من المثبت لملة إبراهيم ودين الرسل كما بسط في غير هذا الموضع
وكثير من هؤلاء التبس عليهم هذا الموضع وهم متناقضون فيه فإن الجمع العام لا يتصور أن يقوم فيه أحد دائما بل لا بد أن كان مسلما أن يوجب ما أوجبه الله ورسوله ويحرم ما حرمه الله ورسوله وإلا لم يكن مسلما فلا بد من فرق بحسب دينه وإن لم يكن له دين فرق بحسب هواه وطبعه فمن لم يفرق فرقا رحمانيا فرق فرقا نفسانيا وشيطانيا
ومن لم يفرق فرقا شرعيا فرق فرقا طبعيا
وقول أبي سعيد بن الأعرابي ومن وافقه إن هذا الفرق عين من عيون الجمع يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع وإنما هو أحد عيون الجمع يعني به والله أعلم أن شاهد الفرق ما أمر الله به ونهى عنه مع مشاهدته لذلك وتوحيد الإلهية بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومحبته لما أمر الله به وبغضه لما نهى الله عنه فهو يشهد أن الله رب ذلك كله وأنه الذي جعل المسلم مسلما وجعل آل إبراهيم أئمة يدعون إلى الخير وآل فرعون أئمة يدعون إلى النار فهو في هذا الفرق يشهد الجمع ويشهد مع ما قام بقلبه من الفرق بين المأمور والمحظور أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه هو الذي جعله يعبده ويطيعه وهو المان عليه بذلك لا يكون كمن يشهد الفرق بين الطاعة والمعصية ولم يشهد أن الله هو الذي من عليه بالطاعة ويسرها عليه فشهوده الجمع بلا فرق يورث تعطيل الأمر والنهي حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة وشهود الفرق بلا جمع يورث تعطيل التوكل والشكر ويورث العجب وتعظيم النفس وكلاهما نقص عما تحت الجمع من عبودية الله تعالى ومن تحقق قوله إياك نعبد وإياك نستعين فلا بد من الفرق في عين الجمع ومن الجمع في شهود الفرق
وأيضا فإن الله تعالى مع خلقه لكل شيء بمشيئته وقدرته فهو يحب ما أمر به ويرضاه ويبغض ما نهى عنه ويسخطه فلا بد مع شهود المشيئة العامة من شهود المحبة والرضى الخاص وكثير من الناس القدرية والجهمية الجبرية ومن دخل معهم في التصوف جعلوا الإرادة نوعا واحدا وجعلوها هي المحبة والرضى
قالت القدرية والله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فيكون في ملكه ما لا يشاء ولم يخلقه
وقالت الجهمية بل كل ما وقع فهو بمشيئة الله تعالى والمشيئة هي الإرادة وهي المحبة والرضى فكل ما وقع فإنه يحبه ويرضاه ولكن يريد ويحب ويرضى المأمور به مأمورا به دينا يثيب عليه ويريد ويحب ويرضى المنهي عنه منهيا عنه معاقبا عليه
فالفرق بينها يعود إلى أنه يريد ويحب ويرضى أن ينعم هؤلاء ويعذب هؤلاء من غير فرق يعود إليه ولا يحب بعض المخلوقات ويبغض بغضا كما لا يشاء بعضها دون بعض فعنده لا يحب بعض المخلوقات دون بعض
والجهمية الجبرية والقدرية المعتزلة ومن وافقهم مشتركون في أنه ليس بين المأمور والمحظور فرق يعود إلى الرب تعالى والقائلون بالجمع من غير فرق يشاركون هؤلاء ورأوا أنه لا فرق بالنسبة إلى الرب تعالى ولكن الفرق يعود إلى العبد من حيث إن أحد العملين يقتضي حصول لذة له والآخر يقتضي حصول ألم له وهذا من حظوظ العباد
ثم قال غلاة هؤلاء وهذا الفرق من العبد نقص لأنه فرق يعود إلى نفسه فالعبد له سعي في حظ النفس وأما الكمال فهو أن يفنى العبد بمراداته جملة ولا يبقى له حظ وأن لا يشهد إلا ربه وإرادة الرب عز وجل عندهم هي المشيئة المتناولة لكل شيء وهي المحبة والرضى عندهم ولهذا قالوا إنه حينئذ لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة
ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن هذا ليس بمجرد ولا حال الأنبياء والأولياء بل هم متفقون على استحسان ما أحبه الله تعالى واستقباح ما نهى الله عنه والحب في الله والبغض في الله وذلك أوثق عرى الإيمان
فصار العالم منهم بخلق الله تعالى وأمره وشرعه وقدره الذين يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ورضاه كالجنيد ونحوه يقولون بالفرق الثاني والذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني وآخرون يترددون فتارة يشهدون المشيئة العامة فقط ولا يقولون بالفرق وتارة يثبتون محبة الله تعالى ورضاه فيقولون بالفرق الثاني
والقول بهذا الفرق لا ينافي الجمع العام فإن مشيئة الله تعالى متناولة لكل شيء وما وجد شيء محبوب أو مكروه فالمشيئة متناولة له فلهذا صار منهم من يقول إن هذا الفرق عين من عيون الجمع وإن أحدا لا يخرج من الجمع الذي هو المشيئة العامة فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإنما يرى الخروج من هذا المعتزلة ونحوهم من المكذبين بالقدر القائلين أن يكون في ملكه ما لا يشاء وأنه لا يقدر على هدى ضال ولا ضلال مهتد ونحو ذلك
وهؤلاء ضلوا في مسألة القدر كما ضلت بها المعتزلة فالمعتزلة كذبوا بالقدر رعاية للأمر والنهي وهؤلاء أبطلوا الأمر والنهي رعاية للقدر
وهؤلاء يحتجون بقصة آدم وموسى واحتجاجهم عليه بالقدر
وهو حجة داحضة فإن الله قد عاتب إبليس وأهبط آدم من الجنة وأهلك قوم نوح وعادا وثمود وغيرهم ولو كان القدر عذرا لم يعاقب كافرا وآدم تاب من الذنب فلو كان محتجا بالقدر لم يتب
وصار آخرون يتكلمون على حديث موسى بتأويلات فاسدة كقول بعضهم إن هذا الاحتجاج كان في غير دار التكليف كما ذكره هذا الضال
فيقال لهؤلاء الإحتجاج بالقدر لا يسوغ في دار تكليف ولا غيره فإنه قول باطل وقول الباطل لا يسوغ بحال
وأيضا فموسى قد لام آدم فكيف يقع الملام في غير دار تكليف وتناظرا وتحاجا ودار السلام منزهة عن الحجاج والخصام
وقال بعضهم إنه كان أباه فما كان ينبغي له لوم أبيه
وقال بعضهم كان تائبا والتائب لا يلام
وقال بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى
وهذا كله باطل فإن الحديث فيه أن آدم احتج بالقدر وقال لم تلوموني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق فحج آدم موسى
وسبب هذا الغلط أنهم فهموا من الحديث أن آدم جعل القدر حجة للمذنب وهو غلط قبيح على هو دون آدم وموسى فكيف عليهما
وهذا آدم يقول ربنا ظلمنا أنفسنا الآية
وموسى يقول رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي
ويقول أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا الآية
وكيف يجوز لمثل هذين النبيين الكريمين أنهما يجوزان هذا وعوام الناس يعرفون أن هذا باطل إلا من كان مصطلما قد سلب حقيقة العقل
والذي يظن أن الله يسوي بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض وبين المتقين والفجار وبين المسلمين والمجرمين فإن الجمع في توحيد الربوبية يتناول هؤلاء كلهم فإن لم يحصل مع ذلك فرق فالجمع بين أهل البر والتقوى ويشهد القلب إلهية الرب التي يستحقها لأجلها أن يعبد دون ما سواه وأن تطاع رسله كان مسويا بين هؤلاء
ولكن نكتة الحديث أن موسى لام آدم لأجل المصيبة التي لحقت الذرية من أجله فإنه بسبب ذلك خرجوا من الجنة وصاروا في دار الشفاء ولهذا قال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة وكان لومه له لأجل المصيبة التي أصابتهم لا لمجرد الذنب من جهة حق الله تعالى كما يقول الولد لوالده الذي أذهب ماله حتى افتقر هو وأولاده أنت الذي أذهبت هذا المال حتى صرنا فقراء واحتجنا إلى الناس وأنت الذي نقلتنا إلى بلاد الغربة ونحو ذلك فقال له آدم هذه المصيبة كانت مكتوبة عليك مقدرة قبل أن أخلق هي وسببها وهو الذنب فإنه كان مكتوبا علي قبل أن أخلق بأربعين سنة
والعبد مأمور عند المصائب بالتسليم لله كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه
قال طائفة من السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان
وفي السنن عنه ﷺ أنه قال إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإن غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل
وقد قال الله تعالى لنبيه فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من الخطيئات
وكان الجنيد رحمه الله أفقه القوم وأعلمهم بالدين فلهذا بين الفرق الثاني وأمر باتباع الأمر ولزوم الشرع ورعاية العلم بخلاف من لم يحقق هذين الفرقين واختطفه قدر فإنه قد يتعدى فيه إما حالا وأما مآلا مثل كثير من الشيوخ الغالطين في هذا الباب
ثم انضم إلى ذلك أنه لم يفرق بين إرادة الله تعالى ومحبته ورضاه بل يرى أن جميع الحوادث خيرها وشرها بالنسبة إليه سواه صادرة عن تلك الإرادة وأنه لا يحب الحسنات ويرضاها إلا بمعنى أنه ينعم أهلها ولا يبغض السيئات ويسخطها إلا بمعنى تعذيب أهلها
ورأى أن هذا الفرق يعود إلى المخلوق لا إلى الخالق فهذا إذا رأى أن في كمال العبودية فناء عن إرادته وأنه لا يريد إلا ما يريده الحق وعنده ليس له إرادة إلا هذه لزم من هذا أنه لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ما دام هذا الفناء لكن دوامه فيه ممتنع لأن العبد مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافيه فإن لم يشهد ما يتصف به الرب سبحانه من الحب والبغض والرضا والسخط فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه ويرضى ما يرضاه ويسخط ما يسخطه الله وإلا فرق باعتبار نفسه فيحب ويبغض لمجرد ذوقه ووجده وحبه وبغضه لا بحب الله وبغضه وأمره ونهيه فإن هذه الحقيقة تخالف الشريعة ويجعلون القيام بها لأجل الظاهرة والعامة لا من حقيقة شهودها الخاصة ويسمون هذا تلبيسا وهو مقام الأنبياء وهذا من أغاليط كثير من الشيوخ وهو في الحقيقة خروج عن ملة إبراهيم وغيره من الرسل
وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
تصنيف:
الرد على البكري
========
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
التبيان في نزول القرآن
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ ويكي مصدر:إسلام التبيان في نزول القرآن
ابن تيمية
أما بعد
فهذا فصل في نزول القرآن. ولفظ "النزول" حيث ذكر في كتاب الله تعالى فإن كثيرا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف لاشتباه المعنى في تلك المواضع وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع. فمن الجهمية من يقول: أنزل بمعنى خلق كقوله تعالى: { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } أو يقول: خلقه في مكان عال ثم أنزله من ذلك المكان.
ومن الكلابية من يقول نزوله بمعنى الإعلام به وإفهامه للملك أو نزول الملك بما فهمه. وهذا الذي قالوه باطل في اللغة والشرع والعقل. والمقصود هنا ذكر النزول. فنقول وبالله التوفيق:
النزول في كتاب الله عز وجل ثلاثة أنواع:
نزول مقيد بأنه منه
ونزول مقيد بأنه من السماء
ونزول غير مقيد لا بهذا ولا بهذا.
فالأول لم يرد إلا في القرآن كما قال تعالى: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وقال تعالى { نزله روح القدس من ربك بالحق }
وقال تعالى: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وفيها قولان:
أحدهما لا حذف في الكلام بل قوله: { تنزيل الكتاب } مبتدأ وخبره { من الله العزيز الحكيم }
والثاني أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا { تنزيل الكتاب } وعلى كلا القولين فقد ثبت أنه منزل منه وكذلك قوله: { حم } { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وكذلك { حم } { تنزيل من الرحمن الرحيم } { حم } { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } والتنزيل بمعنى المنزل تسمية للمفعول باسم المصدر وهو كثير؛ ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله ليس بمخلوق منه بدأ.
قال أحمد وغيره: وإليه يعود أي: هو المتكلم به. وقال كلام الله من الله ليس ببائن منه أي لم يخلقه في غيره فيكون مبتدأ منزلا من ذلك المخلوق؛ بل هو منزل من الله كما أخبر به ومن الله بدأ لا من مخلوق فهو الذي تكلم به لخلقه.
وأما النزول المقيد بالسماء فقوله: { وأنزلنا من السماء } والسماء اسم جنس لكل ما علا فإذا قيد بشيء معين [ تقيد به ] فقوله في غير موضع من السماء مطلق أي في العلو؛ ثم قد بينه في موضع آخر بقوله { أأنتم أنزلتموه من المزن } وقوله { فترى الودق يخرج من خلاله } أي أنه منزل من السحاب ومما يشبه نزول القرآن قوله: { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } فنزول الملائكة هو نزولهم بالوحي من أمره الذي هو كلامه وكذلك قوله: { تنزل الملائكة والروح فيها } يناسب قوله: { فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين } فهذا شبيه بقوله: { قل نزله روح القدس }
وأما المطلق ففي مواضع. منها: ما ذكره من إنزال السكينة؛ بقوله: { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } وقوله: { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } إلى غير ذلك. ومن ذلك إنزال الميزان ذكره مع الكتاب في موضعين وجمهور المفسرين على أن المراد به العدل وعن مجاهد - رحمه الله - هو ما يوزن به ولا منافاة بين القولين.
وكذلك العدل وما يعرف به العدل منزل في القلوب والملائكة قد تنزل على قلوب المؤمنين؛ كقوله: { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } فذلك الثبات نزل في القلوب بواسطة الملائكة وهو السكينة. قال النبي ﷺ { من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } فالله ينزل عليه ملكا وذلك الملك يلهمه السداد وهو ينزل في قلبه.
ومنه حديث حذيفة رضي الله عنه الذي في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: { إن الله أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة } والأمانة هي الإيمان أنزلها في أصل قلوب الرجال وهو كإنزال الميزان والسكينة وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله } الحديث إلى آخره فذكر أربعة غشيان الرحمة وهي أن تغشاهم كما يغشى اللباس لابسه وكما يغشى الرجل المرأة والليل النهار. ثم قال: { ونزلت عليهم السكينة } وهو إنزالها في قلوبهم { وحفتهم الملائكة } أي جلست حولهم { وذكرهم الله فيمن عنده } من الملائكة. وذكر الله الغشيان في مواضع مثل قوله تعالى { يغشي الليل النهار } وقوله: { فلما تغشاها حملت حملا خفيفا } وقوله: { والمؤتفكة أهوى } { فغشاها ما غشى }
وقوله: { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } هذا كله فيه إحاطة من كل وجه. وذكر تعالى إنزال النعاس في قوله: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } هذا يوم أحد.
وقال في يوم بدر: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } والنعاس ينزل في الرأس بسبب نزول الأبخرة التي تدخل في الدماغ فتنعقد فيحصل منها النعاس.
وطائفة من أهل الكلام - منهم أبو الحسن الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد - جعلوا النزول والإتيان والمجيء حدثا يحدثه منفصلا عنه فذاك هو إتيانه واستواؤه على العرش فقالوا استواؤه فعل يفعله في العرش يصير به مستويا عليه من غير فعل يقوم بالرب لكن أكثر الناس خالفوهم.
وقالوا: المعروف أنه لا يجيء شيء من الصفات والأعراض إلا بمجيء شيء فإذا قالوا: جاء البرد أو جاء الحر فقد جاء الهواء الذي يحمل الحر والبرد وهو عين قائمة بنفسها. وإذا قالوا: جاءت الحمى فالحمى حر أو برد تقوم بعين قائمة بسبب أخلاط تتحرك وتتحول من حال إلى حال فيحدث الحر والبرد بذلك وهذا بخلاف العرض الذي يحدث بلا تحول من حامل مثل لون الفاكهة فإنه لا يقال في هذا: جاءت الحمرة والصفرة والخضرة بل يقال: أحمر وأصفر وأخضر.
وإذا كان كذلك فإنزاله تعالى العدل والسكينة والنعاس والأمانة - وهذه صفات تقوم بالعباد - إنما تكون إذا أفضى بها إليهم فالأعيان القائمة توصف بالنزول كما توصف الملائكة بالنزول بالوحي والقرآن فإذا نزل بها الملائكة قيل إنها نزلت. وكذلك لو نزل غير الملائكة كالهواء الذي نزل بالأسباب فيحدث الله منه البخار الذي يكون منه النعاس فكان قد أنزل النعاس سبحانه بإنزال ما يحمله.
وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد والحديد يخلق في المعادن. وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والمنقعة والمطرقة والإبرة فهو كذب لا يثبت مثله.
وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ { أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض فأنزل الحديد والماء والنار والملح } حديث موضوع مكذوب في إسناده سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري رحمه الله وهو من الكذابين المعروفين بالكذب.
قال ابن الجوزي: هو سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري يروي عن الثوري وعاصم الأحول والأعمش قال أحمد رحمه الله: هو كذاب يضع الحديث، وقال مرة ليس بشيء، وقال يحيى: كان كذابا خبيثا وقال مرة ليس بثقة، وقال أبو داود: كذاب وقال زكريا الساجي: يضع الحديث وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون، وقال الدارقطني ضعيف متروك.
والناس يشهدون أن هذه الآلات تصنع من حديد المعادن.
فإن قيل: إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات فهذه مكابرة للعيان.
وإن قيل بل نزل معه آلة واحدة وتلك لا تعرف فأي فائدة في هذا لسائر الناس ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثم حديد موجود يطرق بهذه الآلات وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات مع أن المأثور أن أول من خط وخاط إدريس عليه السلام. وآدم عليه السلام لم يخط ثوبا فما يصنع بالإبرة.
ثم أخبر أنه أنزل الحديد فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه كالسيف والسنان والنصل وما أشبه ذلك الذي به ينصر الله ورسوله ﷺ وهذه لم تنزل من السماء.
فإن قيل نزلت الآلة التي يطبع بها قيل فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة والآلة وحدها لا تكفي بل لا بد من مادة يصنع بها آلات الجهاد؛ لكن لفظ النزول أشكل على كثير من الناس حتى قال قطرب رحمه الله معناه جعله نزلا كما يقال أنزل الأمر على فلان نزلا حسنا أي جعله نزلا.
قال ومثله قوله تعالى { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وهذا ضعيف؛ فإن النزل إنما يطلق على ما يؤكل لا على ما يقاتل به قال الله تعالى { فنزل من حميم } والضيافة سميت نزلا لأن العادة أن الضيف يكون راكبا فينزل في مكان يؤتى إليه بضيافته فيه فسميت نزلا لأجل نزوله ونزل ببني فلان ضيف؛
ولهذا قال نوح عليه السلام { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } لأنه كان راكبا في السفينة وسميت المواضع التي ينزل بها المسافرون منازل لأنهم يكونون ركبانا فينزلون والمشاة تبع للركبان وتسمى المساكن منازل.
وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق لأنه أخرجه من المعادن وعلمهم صنعته فإن الحديد إنما يخلق في المعادن والمعادن إنما تكون في الجبال فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال لينتفع به بنو آدم وقال تعالى: { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }. وهذا مما أشكل أيضا.
فمنهم من قال: جعل ومنهم من قال: خلق لكونها تخلق من الماء فإن به يكون النبات الذي ينزل أصله من السماء وهو الماء وقال قطرب: جعلناه نزلا. ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة؛ فإن الأنعام تنزل من بطون أمهاتها ومن أصلاب آبائها تأتي بطون أمهاتها ويقال للرجل: قد أنزل الماء وإذا أنزل وجب عليه الغسل مع أن الرجل غالب إنزاله وهو على جنب إما وقت الجماع وإما بالاحتلام فكيف بالأنعام التي غالب إنزالها مع قيامها على رجليها وارتفاعها على ظهور الإناث ومما يبين هذا أنه لم يستعمل النزول فيما خلق من السفليات فلم يقل أنزل النبات ولا أنزل المرعى وإنما استعمل فيما يخلق في محل عال وأنزله الله من ذلك المحل كالحديد والأنعام.
وقال تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا } الآية وفيها قراءتان إحداهما بالنصب فيكون لباس التقوى أيضا منزلا.
وإما على قراءة الرفع فلا وكلاهما حق وقد قيل فيه خلقناه وقيل أنزلنا أسبابه وقيل ألهمناهم كيفية صنعته وهذه الأقوال ضعيفة؛ فإن النبات الذي ذكروا لم يجئ فيه لفظ أنزلنا ولم يستعمل في كل ما يصنع أنزلنا فلم يقل: أنزلنا الدور وأنزلنا الطبخ ونحو ذلك وهو لم يقل إنا أنزلنا كل لباس ورياش وقد قيل: إن الريش والرياش المراد به اللباس الفاخر كلاهما بمعنى واحد مثل اللبس واللباس وقد قيل: هما المال والخصب والمعاش وارتاش فلان حسنت حالته.
والصحيح أن الريش هو الأثاث والمتاع قال أبو عمر والعرب تقول: أعطاني فلان ريشه أي كسوته وجهازه. وقال غيره: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب والفرش ونحوها وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال والمراد به مال مخصوص قال ابن زيد: جمالا؛ وهذا لأنه مأخوذ من ريش الطائر وهو ما يروش به ويدفع عنه الحر والبرد وجمال الطائر ريشه وكذلك ما يبيت فيه الإنسان من الفرش وما يبسطه تحته ونحو ذلك والقرآن مقصوده جنس اللباس الذي يلبس على البدن وفي البيوت كما قال تعالى { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } الآية
فامتن سبحانه عليهم بما ينتفعون به من الأنعام في اللباس والأثاث وهذا - والله أعلم - معنى إنزاله؛ فإنه ينزله من ظهور الأنعام وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار وينتفع به بنو آدم من اللباس والرياش. فقد أنزلها عليهم وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب فهي لدفع الحر والبرد وأعظم مما يصنع من القطن والكتان والله تعالى ذكر في سورة النحل إنعامه على عباده فذكر في أول السورة أصول النعم التي لا يعيش بنو آدم إلا بها وذكر في أثنائها تمام النعم التي لا يطيب عيشهم إلا بها فذكر في أولها الرزق الذي لا بد لهم منه وذكر ما يدفع البرد من الكسوة بقوله: { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون }
ثم في أثناء السورة ذكر لهم المساكن والمنافع التي يسكنونها: مساكن الحاضرة والبادية ومساكن المسافرين فقال تعالى: { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } الآية ثم ذكر إنعامه بالظلال التي تقيهم الحر والبأس فقال: { والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا } إلى قوله: { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون }. ولم يذكر هنا ما يقي من البرد لأنه قد ذكره في أول السورة وذلك في أصول النعم؛ لأن البرد يقتل فلا يقدر أحد أن يعيش في البلاد الباردة بلا دفء بخلاف الحر فإنه أذى لكنه لا يقتل كما يقتل البرد فإن الحر قد يتقى بالظلال واللباس وغيرهما وأهله أيضا لا يحتاجون إلى وقاية كما يحتاج إليه البرد؛ بل أدنى وقاية تكفيهم وهم في الليل وطرفي النهار لا يتأذون به تأذيا كثيرا؛ بل لا يحتاجون إليه أحيانا حاجة قوية فجمع بينهما في قوله { سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم }.
ولا حذف في اللفظ ولا قصور في المعنى كما يظنه من لم يحسن حقائق معاني القرآن؛ بل لفظه أتم لفظ ومعناه أكمل المعاني؛ فإذا كان اللباس والرياش ينزل من ظهور الأنعام وكسوة الأنعام منزلة من الأصلاب والبطون كما تقدم فهو منزل من الجهتين فإنه على ظهور الأنعام لا ينتفع به بنو آدم حتى ينزل. فقد تبين أنه ليس في القرآن ولا في السنة لفظ نزول إلا وفيه معنى النزول المعروف وهذا هو اللائق بالقرآن فإنه نزل بلغة العرب ولا تعرف العرب نزولا إلا بهذا المعنى ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابا بغير لغتها ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان وهذا لا يجوز بما ذكرنا؛ وبهذا يحصل مقصود القرآن واللغة الذي أخبر الله تعالى أنه بينه وجعله هدى للناس. وليكن هذا آخره.
تصنيف:
التبيان في نزول القرآن
========
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | فهرس
========
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
الرد على اليهود والنصارى
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
الرد على اليهود والنصارى
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية عن رجل قال:
إذا كان المسلمون مقلدين، والنصارى مقلدين، واليهود مقلدين، فكيف وجه الرد على النصارى واليهود، وإبطال مذهبهم والحالة هذه؟ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين، وإبطال باطل الكافرين؟
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله، هذا القائل كاذب ضال في هذا القول، وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة، كالذين ذكر الله عنهم أنهم: ﴿إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا﴾ وقال تعالى: ﴿أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون﴾[1] وقال: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾[2]، ونظائر هذا في القرآن كثير.
فمن اتبع دين آبائه وأسلافه لأجل العادة التي تعودها وترك اتباع الحق الذي يجب اتباعه، فهذا هو المقلد المذموم، وهذه حال اليهود والنصارى، بل أهل البدع والأهواء في هذه الأمة، الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق، كما قال تعالى ﴿ يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا. وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا﴾ [3]، وقال تعالى ﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا. يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا﴾ إلى قوله ﴿خذولا﴾[4]. وقال تعالى: ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب﴾ إلى قوله ﴿وما هم بخارجين من النار﴾ [5] وقال تعالى: ﴿وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار﴾ إلى قوله: ﴿إن الله قد حكم بين العباد﴾[6] وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوقا في معصية الله، كان له نصيب من هذا الذم والعقاب.
والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله، إما أن يتبع الظن، وإما أن يتبع ما يهواه، وكثير يتبعهما. وهذه حال كل من عصى رسول الله من المشركين وأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ومن أهل البدع والفجور من هذه الأمة، كما قال تعالى ﴿إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل لله بها من سلطان﴾ إلى قوله ﴿ولقد جاءهم من ربهم الهدى﴾[7] والسلطان هو الكتاب المنزل من عند الله وهو الهدى الذي جاءهم من عند الله كما قال تعالى ﴿أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون﴾[8] وقال: ﴿إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم﴾ إلى قوله تعالى ﴿ببالغيه﴾ [9]. وقال لبني آدم ﴿ فإما يأتينكم مني هدى﴾ إلى قوله تعالى ﴿ولعذاب الآخرة أشد وأبقى﴾ [10].
وبيان ذلك أن الشخص إما أن يبين له أن أن ما بعث الله به رسوله حق، ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه، أو يحسب أن ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق، فهذا متبع فهذا متبع للظن، والأول متبع لهواه....
اجتماع الأمرين: قال تعالى في صفة الأولين ﴿فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾ [11] وقال تعالى ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين﴾ [12] وقال تعالى ﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم﴾ إلى قوله ﴿ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ [13]. وقال تعالى في صفة الأخسرين: ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا﴾ الآية [14] وقال تعالى ﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ [15]. فالأول: حال المغضوب عليهم، الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه، كما هو موجود في اليهود. والثاني حال الذين يعملون بغير علم، قال تعالى ﴿وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم﴾[16] وقال تعالى ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله﴾[17]. وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن لا يجوز له اتباعه، وكذلك من اتبع الرسل بغير بصيرة ولا تبين، وهو الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل الإيمان إلى قلبه كالذي يقال له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟. فيقول: هاه، هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته – هو مقلد فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلاّ الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق، أي لمات. وقد قال تعالى: ﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ [18] فمن لم يدخل الإيمان في قلبه وكان مسلما في الظاهر، فهو من المقلدين المذمومين.
فإذا تبين أن المقلد مذموم – وهو من اتبع هوى من لا يجوز اتباعه – كالذي يترك طاعات رسل الله، ويتبع ساداته وكبراءه، أو يتبع الرسول ظاهرا من غير إيمان في قلبه، تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليدا مذموما، وكذلك المنافقون من هذه الأمة.
وأما أهل البدع، ففيهم بر وفجور وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، إنما يتبعونهم لأجل أنهم رسل الله، وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى عليهما السلام إلاّ ومحمد ﷺ أولى وأحرى.
مثال ذلك: إذا قال اليهود والنصارى: قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى – مع دعواه النبوة - ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه، وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجيء به مفتر كذاب – ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه – وإنما يجيء به مع دعوى النبوة نبي صادق. قيل له: كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة محمد ﷺ بطريق الأولى.
فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد ﷺ من الدين والشريعة ونقلوا ما جاء به من الآيات المعجزات، أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى، بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع، والعمل الصالح وما عند اليهود والنصارى، علم أن بينهما من الفرق أعظم مما بين العرم والعِرق.
فإن الذي عند المسلمين، من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، وملائكته وأنبيائه ورسله ومعرفة اليوم الآخر، وصفة الجنة والنار، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى، وهذا بين لكل من يبحث عن ذلك.
وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل الصلوات الخمس، غيرها من الصلوات، والأذكار والدعوات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب، وما عندهم من الشريعة في المعاملات، واالمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب.
فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع، وعمل صالح، وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعي.
والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم، فإنما حصل بنبيهم ﷺ، فكيف يمكن مع هذا أن يكون موسى وعيسى نبيين، ومحمد ﷺ ليس بنبي، وأن اليهود والنصارى على الحق؟
فما هم عليه من الهدى ودين الحق، أعظم مما عند اليهود والنصارى، وذلك إنما تلقوه من نبيهم.
وهذا القدر يعترف به كل عاقل – من اليهود والنصارى – يعترفون بأن دين المسلمين حق، وأن محمدا رسول الله ﷺ، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة، بل يعترفون بأن دين الإسلام خير من دينهم، كما أطبقت على ذلك الفلاسفة، كما قال ابن سينا وغيره: أجمع فلاسفة العالم على أنه لا يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس، لكن من لم بتبعه يعلل نفسه بأنه لا يجب عليه اتباعه، لأنه رسول إلى العرب الأميين دون أهل الكتاب، لأنه إن كان دينه حقا فديننا أيضا حق، والطريق إلى الله تعالى متنوعة، ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة، فإنه وإن كان أحد المذاهب يرجع على الآخر، فأهل المذاهب الأخرى ليسوا كفارا ولا من أهل الكتاب.
هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون من أهل الكتاب، والمتفلسفة ونحوهم، وبطلانها ظاهر، فإنه كما علم علما ضروريا متواترا أنه دعا المشركين إلى الإيمان فقد علم بمثل ذلك أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين، فجاهد بني قينقاع، وبني النضير، وقريظة، وأهل خيبر، وهؤلاء كلهم يهود، وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم، وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قُتل في محاربتهم زيد بن محمد مولاه الذي كان تبناه، وجعفر وغيرهما من أهله وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران.
وكذالك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون.
وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به، مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه، يكفر من لم يتبعه منهم، ويذمه ويلعنه، والوعيد له كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه، والوعيد كما قال تعالى ﴿يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم﴾ الآية [19] وفي القرآن من قوله: يا أهل الكتاب، يابني إسرائيل، ما لا يحصى إلا بكلفة. وقال تعالى ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين﴾ الآية إلى قوله ﴿خير البرية﴾ [20] ومثل هذا في القرآن كثير جدا وقد قال تعالى ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض﴾ [21] وقال تعالى ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس﴾ [22]. واستفاض عنه ﷺ (فضِّلت على الأنبياء بخمس ) ذكر فيها أنه قال (كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) بل تواتر عنه ﷺ أنه بعث إلى الجن والأنس فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر – الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته – أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم، فحاصر بني قينقاع، ثم أجلاهم أذرعات، وحاصر بني النضير، ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر.
ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد، وقتل رجالهم، وسبى حريمهم، وأخذ أموالهم وقد ذكره الله – تعالى – في سورة الأحزاب وقاتل أهل خيبر حتى فتحها، وقتل من قتل من رجالهم وسبى من سبى من حريمهم وقسم أرضهم بين المؤمنين وقد ذكرها الله – تعالى – في سورة الفتح وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وفي عامة السور المدنية، مثل البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغير ذلك من السور المدنية، من دعوة أهل الكتاب، وخطابهم، ما لا تتسع هذه الفتوى لعُشرِه.
ثم خلفاؤه بعد أبو بكر وعمر، ومن معهما من المهاجرين والأنصار، الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له، وأطوعهم لأمره، وأحفظهم لعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس، فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون. ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله ﷺ: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلاّ دخل النار). قال سعيد بن جبير تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: ﴿ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده﴾[23] ومعنى الحديث متواتر عنه، معلوم بالاضطرار. فإذا كان الأمر كذلك لزم بأنه رسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم، وأموالهم، وديارهم بغير إذن الله. فمن قال: إن الله أمره بذلك وفعله، ولم يكن الله أمره بذلك، كان كاذبا مفتريا ظالما ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء﴾ [24] وكان مع كونه ظالما مفتريا، من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادا، وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم، لايقولون إنا رسل الله اليكم، ومن أطاعنا دخل الجنة، ومن عصانا دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلاّ نبي صادق، أو متنبئ كذاب، كمسيلمة والأسود وغيرهما. فإذا علم أنه نبي كيف ما كان، لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقا، وإذا كان رسول الله وجبت طاعته في كل ما يأمر به، كما قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله ﴾ [25] وإذا أخبر أنه رسول الله الى أهل الكتاب، وانهم تجب عليهم طاعته، كان ذلك حقا، ومن أقر بأنه رسول الله وأنكر أن يكون مرسلا الى أهل الكتاب بمنزلة إسرائيل من مصر وأن الله لم يأمره بذلك وأن الله لم يأمره بالسبت ولا أنزل عليه التوراة ولا كلمه على الطور ومن يقول إن عيسى كان رسول الله لم يبعث الى بني اسرائيل ولا كان يجب على بني اسرائيل طاعته وأنه ظلم اليهود وأمثال ذلك المقالات التي هي أكفر المقالات. ولهذا قال تعالى ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض﴾ الى قوله ﴿والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم﴾ الآية [26] وقال لبني اسرائيل ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾ الى قوله: ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ [27]. فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطقة يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق دون اليهود والنصارى فإنها مبنية على مقدمتين.
إحداهما: أن نبوة محمد ﷺ ورسالته وهدي أمته أبين وأوضح تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وزيادة فلا يمكن القول بأنهما نبيان دونه لأجل ذلك وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة وما جاء به وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء بما عليه أمته وإن شاء بما بعث به من المعجزات فكل طريق من هذه الطرق اذا تبين بها نبوة موسى وعيسى كانت نبوة محمد ﷺ بها أبين وأكمل.
والمقدمة الثانية: أنه أخبر أن رسالته عامة الى أهل الأرض من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرسلا الى بعض الناس دون بعض وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر والدلائل القطعية. وأما اليهود والنصارى فأصل دينهم حق كما قال تعالى ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [28] لكن كل من الدينين مبدل منسوخ فإن اليهود بدلوا وحرفوا ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح ﷺ. ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى مثل نبوة الانبياء وهي اكثر من عشرين نبوة وغيرها تبين انهم بدلوا وأن شريعتهم تنسخ وتبين صحة رسالة محمد ﷺ فإن فيها من الاعلام والدلائل على نبوة خاتم المرسلين ما قد صنف فيه العلماء مصنفات وفيها أيضا من التناقض وااختلاف مايبين أيضا وقوع التبديل وفيها من الأخبار من نحو بعدها ما بين أنها منسوخة فعندهم مايدل على هذه المطالب وقد ناظرنا غير واحد من أهل الكتاب وبينا لهم ذلك وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف وصاروا يناظرون أهل دينهم ويبينون ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد ﷺ ولكن هذه الفتيا لا تحتمل غير ذلك. وهذا من الحكمة في ابقاء أهل الكتاب بالجزية إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد ﷺ وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الايمان بالله واليوم الآخر ما يمثل ما أخبرت به الانبياء قبله قال تعالى ﴿قل أرئيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله﴾[29] وقوله ﴿قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾[30] وقال تعالى ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك﴾[31]. والنبي ﷺ لم يشك ولم يسأل ولكن هذا حكم معلق بشرط والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه وفي ذلك سعة لمن شك أو أراد أن يحتج أو يزداد يقينا.
(فصل)
فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب وأما إن كان المخاطب لا يقر بنبوة نبي من الأنبياء لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما فللمخاطبة طرق.
منها: أن نسلك في الكلام بين أهل الملل وغيرهم من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم نظير الكلام بين المسلمين وأهل الكتاب.
فنقول: من المعلوم لكل عاقل له أدنى نظر وتأمل أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة والاعمال الصالحة ممن ليس من أهل الملل فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه وعند أهل الملل ما لايوجد عند غيرهم وذلك أن العلوم والأعمال نوعان.
نوع يحصل بالعقل: كعلم الحساب والطب وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونو ذلك فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل فإن علوم المتفلسفة من علوم المنطق والطبيعة والهيئة وغير ذلك من متفلسفة الهند واليونان وعلوم فارس والروم لما صارت الى المسلمين هذبوها ونقحوها لكمال عقولهم وحسن ألسنتهم وكان كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين وهذا يعرفة كل عاقل وفاضل وأما ما لا يعلم بمجرد العقل كالعلوم الإلهية وعلوم الديانات فهذه مختصة بأهل الملل وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية فالآيات الكتابية مستنبطة من الرسالة فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم الى دلالة العقول عليها فهي عقلية شرعية فليس لمخالف الرسول أن يقول: هذه لم تعلم إلاّ بخبرهم فإثبات خبرهم بها دور بل يقال بعدالتهم وإرشادهم وتبينهم للمعقول صارت معلومة بالعقل والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية.
وبهذه العلوم يعلم صحة ماجاء به الرسول ﷺ وبطلان قول من خالفهم.
النوع الثاني: ما لا يعلم إلا بخبر الرسل فهذا يعلم بوجوه:
منها: اتفاق الرسل علي الاخبار به من غير تواطؤ ولا اتفاق بينهم فإن المخبر إما أن يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا فإذا قدر عدم الخطأ والتعمد كان خبره صدقا لا محالة.
ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة لا يمكن في العادة خطؤهم وأخبر غيره قبل ذلك مع الجزم بأنهما لم يتواطآ ولا يمكن أن يقال أنه الكذب في مثل ذلك أفاد خبرهما العلم وإن لم يعلم حالهما فلو ناجى رجلا بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك الامور الاسرار ثم جاء آخر قد علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الاول فاخبر عن تلك المناجاة والاسرار مثلما اخبر به الاول جزمنا قطعا بصدقهما. ومعلوم أن موسى أخبر بما أخبر به قبل أن يبعث محمد ﷺ وقبل أن يبعث المسيح. ومعلوم أيضا لكل من كان عالما بحال محمد ﷺ انه نشأ بين قوم أميين لا يقرؤون كتابا ولا يعلمون علوم الانبياء وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والانجيل ونبوة الانبياء. وقد أخبر محمد ﷺ من توحيد الله وصفاته واسمائة وملائكته وعرشه وكرسيه وانبيائه ورسله واخبرهم واخبار مكذبيهم بنظير ما يوجد في كتب الانبياء من التوراة وغيرها. فمن تدبر التوراة والقرآن علم أنهما جميعا يخرجان من مشكاة واحدة كما ذكر ذلك النجاشي وكما قال ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى. ولهذا قرن الله – تعالى – بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله ﴿لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل﴾ الى قوله ﴿إن كنتم صادقين﴾ [32] وقالت الجن ﴿إنا سمعنا كتابا أنزل من بد موسى مصدقا لما بين يديه﴾ الاية [33] وقال ﴿أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة﴾[34] وقال ﴿وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس﴾ الى قوله: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾ [35].
ومن الطرق: الطرق الواضحة القاطعة المعلومة الى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع الانبياء وأحوال من كذبهم وكفر بهم حال نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه وحال ابراهيم وقومه وحال موسى وفرعون وحال محمد ﷺ وقومه. وهذا الطريق قد بينها الله في غير موضع من كتابه كقوله ﴿كذبت (قبلهم) قوم نوح والاحزاب من بعدهم﴾ الى قوله ﴿فكيف كان عقاب﴾[36] وقال ﴿وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط. وأصحاب مدين وكُذب موسى﴾ الى قوله ﴿فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة﴾ الى قوله ﴿أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها﴾ [37] وقوله: ﴿وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون﴾ [38] وقال: ﴿إن في ذلك لآيات للمتوسمين﴾ [39]. فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة ويستدل بذلك على عقوبة الله لهم، وقال تعالى: ﴿وكم أهلكنا من القرون﴾ الآيتان [40] فذكر طريقين يعلم بهما ذلك.
أحدهما: ما يعاين ويعقل بالقلوب.
والثاني: مايسمع، فإنه قد تواتر عند كل أحد حال الانبياء ومصدقهم ومكذبهم وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه سبحانه عاقب مكذبهم وانتقم منهم وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه وأن من كذبهم كان على الباطل الذي يغضب الله على أهله، وأن طاعة الرسل طاعة لله ومعصيتهم معصية لله.
ومن الطرق أيضا: أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة وآياتهم القاهرة وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد دعي النبوة وهو كذاب من غير تناقض ولا تعارض كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
ومن الطرق: أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة والاعمال الصالحة بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب ولا ينكره إلا جاهل غاو.
وهذه الفتيا لا تسع البسط الكثير فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به ووجب الحكم بكفر من آمن ببعض وكفر ببعض والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين.
هامش
(الإسراء: 17-18)
تصنيفان:
ابن تيمية
الملل والفرق ==========
(البقرة: 170)
(الصافات: 69،70)
(الأحزاب:66-68)
(الفرقان: 27-29)
(البقرة: 166-167)
(غافر: 47-48)
(النجم: 23)
(الروم: 35)
(1) (غافر: 56)
(طه: 123-127)
(الأنعام: 33)
(النمل: 14)
(البقرة: 146)
(الكهف: 103)
(فاطر: 8)
(الانعام: 119)
(القصص: 50)
(الحجرات: 14)
(النساء 47)
(البينة: 1-7)
(الأعراف::158)
(سبأ: 28)
(هود: 17)
(الأنعام: 93)
( النساء: 64)
(النساء: 150-152)
(البقرة:85)
(البقرة: 62)
(الأحقاف: 10)
( الرعد: 43)
( يونس: 94)
(القصص: 48-49)
(الاحقاف: 30)
(هود: 17)
(الأنعام: 91-92)
(غافر: 5)
(الحج: 42-46)
(الصافات: 137-138)
(الحجر: 75)
========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق